ﰡ
مدنية بناء على المشهور من أن المدنيّ ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة.
وآياتها مائة وعشرون آية، أو مائة وثنتان وعشرون آية، أو مائة وثلاث وعشرون آية.
[سورة المائدة (٥) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)اللغة:
(وفى) بالوعد وفاء، وأوفى به إيفاء: أي أتى به تاما لا نقص فيه. وقد جمع بينهما الشاعر:
أما ابن طوف فقد أوفى بذمته | كما وفى بقلاص النجم حاديها |
غدر ونقض. ونقض العهد والوعد، وهما شىء واحد.
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم | شدّوا العناج وشدّوا فوقها الكربا |
(البهيمة) كل ذات أربع في البر والبحر، وقيل: ما لا نطق له، وذلك لما في صوته من الإبهام، ولكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير، قاله الراغب. وروي عن الزجّاج أن البهيمة من الحيوان ما لا عقل له مطلقا. وفي القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حيّ لا يميز، جمعه بهائم.
(الْأَنْعامِ) : هي الإبل والبقر والغنم والجواميس. وإضافة بهيمة الى الأنعام للبيان. كشجر الأراك. أي: أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. وذهب بعضهم الى أن الاضافة على معنى التشبيه، أي:
أحلت لكم البهيمة المشابهة للأنعام، قيل: في الاجترار وعدم الأنياب، والأولى أن يقال: إن وجه الشبه المقتضي للحل هو كونها من الطيبات التي هي الأصل في الحلّ. وقال الحريري في درة الغواص: «ومن ذلك أنهم يظنون الأنعام بمعنى النّعم، وقد فرقت العرب بينهما فجعلت النعم اسما للإبل خاصة، أو للماشية التي هي فيها، وجعلت الأنعام اسما لأنواع المواشي. حتى إن بعضهم أدخل فيها الظباء وحمر
النعم يختص بالإبل، وجمعه أنعام. سميت بذلك لأنها من أعظم النعم عندهم. لكن الأنعام تقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها أنعام حتى يكون في جملتها الإبل». وقال ابن برّي: هو من التغليب، إذ غلبوا النعم على غيرها، ولا فرق بينهما في الحقيقة وكونها شاملة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كلام مستأنف مسوق للقيام بموجب العقد. وقد تقدم اعراب النداء. وأوفوا فعل أمر وفاعل، وبالعقود جار ومجرور متعلقان بأوفوا (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الجملة مفسرة لأنها تفصيل بعد الإجمال، بناء على أن العقود شاملة لجميع الاحكام التي شرعها الله تعالى، وأمر المكلفين بالإيفاء بها وأحلت فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحلت، وبهيمة نائب فاعل، والانعام مضاف اليه (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلا أداة استثناء، وما مستثنى، قيل: هو منقطع، لأن اللفظ ليس من جنس البهيمة، والتحريم لما طرأ من الموت ونحوه، وجملة يتلى عليكم صلة الموصول، وغير حال من ضمير «لكم»، ومحلي مضاف الى «غير» والصيد مضاف الى «محلي»، وجملة وأنتم حرم من المبتدأ والخبر حال من «محلي الصيد» كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يكون عليكم حرج (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الجملة تعليل للحكم، وإن واسمها، وجملة يحكم خبرها، وما يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة، وهي على كل حال منصوبة بنزع الخافض، أي: يحكم بإرادته، أو بالذي يريده، ولا عبث في أحكامه ولا خلل ولا ظلم.
أفاض العلماء والمفسرون في ذكر المقصود من العقود، وعندنا أنها عامة شاملة لكل عهود الله التي عهد بها الى عباده من عبادات ومعاملات، بها انتظام أمر الدنيا والآخرة معا، وجميل قول الراغب:
«العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بين العبد وغيره من البشر».
وقد توسّع الفقهاء وعلماء التشريع فيها، ووضعوا المصنفات الطويلة بصددها، وتناولوا الاحكام الشرعية فيها، مما يسهل إليه الرجوع في مظانه.
جملة بليغة:
والأساس الذي تنهض عليه العقود في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة، وهي «أوفوا بالعقود» وهي تفيد بقوة ورشاقة أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيّد ما أطلقه الشارع إلا بنص منه، فكل قول أو فعل يعدّه الناس عقدا فهو عقد يجب أن يوفوا به، كما أمر الله تعالى، ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام، مما ثبت في الشرع، كالعقد بالإكراه، أو على إحراق دار أحد أو شجرة بستان، أو على الفاحشة، أو على أكل شيء من أموال الناس بالباطل، كالربا والمسير والرشوة.
العرف والتراضي:
وينتظم في ذلك جميع الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات
رواية عن الفيلسوف الكنديّ:
ذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه. فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فاذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
أي مجلدات كثيرة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)اللغة:
(الشعائر) : جمع شعيرة، وهي العلامة. ثم جعلت علامة لشعائر الحجّ ومناسكه.
(الهدي) ما يهدى الى الكعبة ليذبح هناك ويتقرب به الى الله، قال:
يقولون:
من هذا الغريب بأرضنا | أما والهدايا إنني لغريب |
ولأصحاب القلائد.
(آمِّينَ) بتشديد الميم المكسورة، أي: قاصدين.
(يَجْرِمَنَّكُمْ) : مضارع جرمه الشيء إذا حمله عليه وجعله يجرمه أي يكسبه ويفعله، وهو يجري مجرى «كسب» في تعديه الى مفعول واحد واثنين.
(الشنآن) : شدة البغض. يقال: شنئت الرجل أشنؤه، أي:
أبغضه. وهذا المصدر سماعي مخالف للقياس من وجهين: تعدي فعله
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) يا أيها الذين آمنوا تقدم اعرابها كثيرا، ولا ناهية وتحلوا مضارع مجزوم بها والواو فاعل وشعائر الله مفعول به (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ)
ولا الشهر الحرام عطف على شعائر، والحرام صفة للشهر، وهو شهر الحج، وهو ذو القعدة، وأكد الطبري أنه رجب. وما بعده عطف عليه أيضا. ولا آمّين أي: ولا تحلوا قوما آمّين، فهو صفة لموصوف محذوف، والمعنى: لا تحلّوا قتالهم ما داموا قاصدين البيت الحرام. وهذا رمز للسلام الذي نادى به القرآن. والبيت مفعول لآمّين لأنه اسم فاعل (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) الجملة حال من الضمير في «آمّين» أي: حال كون الآمّين مبتغين فضلا. وفضلا مفعول به، ومن ربهم متعلقان بيبتغون، أو بمحذوف صفة ل «فضلا» ورضوانا معطوف عليه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) الواو عاطفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة حللتم في محل جر بالإضافة، والفاء رابطة لجواب إذا، واصطادوا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) الواو حرف عطف، ولا ناهية، ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا، والكاف مفعوله الأول،
ولا يكسبنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء ولا يحملنكم عليه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الواو عاطفة، وتعاونوا فعل أمر والواو فاعل، وعلى البر متعلقان بتعاونوا، والتقوى عطف على البر (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتعاونوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين مجزوم بلا، أي:
لا تتعاونوا، وعلى الإثم متعلقان به، والعدوان عطف عليه (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عطف أيضا، وجملة إن واسمها وخبرها لا محل لها لأنها تعليلية.
الفوائد:
كانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة، ومختلفة في رجب، فشدّد تعالى أمره. وهذا هو وجه التخصيص بذكره.
وقيل الشهر مفرد محلى بأل الجنسية، فالمراد عموم الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.
[سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)اللغة:
(أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ) : الإهلال رفع الصوت به لغير الله، وهو قولهم عند ذبحه: «باسم اللّات والعزّى» ويقال: «أهلّ فلان بالحج» إذا رفع صوته بالتلبية. ومنه: «استهلّ الصبيّ» إذا رفع صوته بالبكاء عند الولادة.
(الْمُنْخَنِقَةُ) قال صاحب القاموس: خنقه خنقا ككتف فهو خنق، وانخنقت الشاة بنفسها، ولا يسري على هذا الفعل حكم المطاوعة، وإنما المطاوع هو اختنق، وعلى هذا تشمل المنخنقة التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بسبب، ولهذا تفصيل في كتب الفقه.
(الْمَوْقُوذَةُ) : هي التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر غير محدّد حتى ماتت. قال في القاموس: الوقذ: شدة الضرب. وقال في شرحه تاج العروس: الموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حدّ لها حتى انحلّت قواها وماتت. ولا يخفى ما في الوقذ من تعذيب للحيوان.
(النَّطِيحَةُ) هي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح.
وسيأتي بحث ممتع عن هذه الصيغة في باب الفوائد.
(ذَكَّيْتُمْ) أي أدركتم ذكاته، وهو يضطرب وتشخب أوداجه.
والذكاة والتذكية في أصل اللغة إتمام فعل خاص، يقال: ذكت النار تذكو ذكوّا وذكا وذكاء إذا تم اشتعالها، وذكت الشمس إذا اشتدت حرارتها، وذكى وذكي كرمى ورضي تمت فطنته، قال في اللسان: «والذّكاء شدة وهج النار، يقال: ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ورفعتها، والذّكا: تمام إيقاد النار، مقصور يكتب بالألف» والذّكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول.
(النُّصُبِ) : قال الراغب في مفرداته: نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنّصيب: الحجارة تنصب على الشيء، وجمعه نصائب ونصب بضمتين، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها، قال: «كأنّهم إلى نصب يوفضون» وقد يقال في جمعه أنصاب. وقال في اللسان: «والنّصب بالفتح والنّصب بالضم والنّصب بضمتين الداء والبلاء والشرّ وفي التنزيل: «مسّني الشيطان بنصب وعذاب» والنّصيبة والنّصب بضمتين كلّ ما نصب فجعل علما، فالنصب مفرد وجمع، قال الأعشى:
وذا النّصب المنصوب لا تعبدنّه | لعاقبة والله ربّك فاعبدا |
(المخمصة) : المجاعة.
(مُتَجانِفٍ) : منحرف مائل، من الجنف وهو الميل والجور.
الإعراب:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أجمله في السابق وهو قوله تعالى: «إلا ما يتلى عليكم».
وحرمت فعل ماض مبني للمجهول وعليكم متعلقان بحرمت، والميتة نائب فاعل، والدم ولحم الخنزير معطوفان على الميتة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) عطف أيضا، وما اسم موصول، وأهل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو، والجملة صلة الموصول، ولغير الله متعلقان بأهل، وبه متعلقان بأهلّ أيضا (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) كلها معطوفة داخلة في حكم المحرمات (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إلا أداة استثناء وما اسم موصول مستثنى متصل منصوب، وجملة ذكيتم صلة الموصول، وجملة الاستثناء حالية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)
الآن لما ابيضّ مسربتي | وعضضت من نابي على جذم |
حلبت هذا الدهر أشطره | وأتيت ما آتي على علم |
الفوائد:
صيغة «فعيل» إذا كانت بمعنى مفعول يستوي فيها المذكر والمؤنث، فلا تلحقها علامة التأنيث، إذ تقول العرب: عين كحيل لا كحيلة، وكف خضيب لا خضيبة، فكيف لحقت التاء «نطيحة» وهي بمعنى منطوحة؟ وقد قيل في الجواب: إن التاء هنا للنقل من الوصفية الى الاسمية، أو إن فعيلا هنا بمعنى فاعل، كأنه قال:
والناطحة التي تموت بالنطاح، أي تنطح غيرها، وغيرها ينطحها، فتموت. وقال الكوفيون: إنما يمتنع إلحاق التاء بفعيل بمعنى مفعول إذا كان وصفا لموصوف مذكور، كعين كحيل، فأما إذا لم يسبق للموصوف ذكر فلا يمتنع إلحاق التاء. وهذا تعليل جميل، فإن «ذبيحة» و «نطيحة» ونحوهما إذا لم يسبقهما موصوف لم يعلم: أهي مذكر أم مؤنث؟
مثل: رأيت جريحة، أما إذا علم فلا، نحو: رأيت امرأة جريحا، أو رأيت جريحا ملقاة في الطريق.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)اللغة:
(الْجَوارِحِ) : الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والعقاب.
(مُكَلِّبِينَ) : المكلّب اسم مفعول من كلّب، أي: المضرى بالصيد من هذه الجوارح، والمروّض منها على الافتراس، لأن الترويض أكثر ما يكون للكلب، فاشتقّ من لفظه لشيوع الغلبة عليه.
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ) جملة مستأنفة مسوقة للاجابة عن سؤالهم: ماذا أحل لهم؟ ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وماذا: تقدم أن لنا في اعرابها وجهين: إما أن نجعل ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ، وجملة أحل لهم خبره، وإما أن نجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر، وجملة أحل لهم صلة الموصول. والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك، وقد نصوا على أن فعل السؤال يعلّق عن العمل وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب العلم، فكما يعلق العلم فكذلك يعلق سببه (قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ
جملة قل استئنافية، وجملة أحل لكم الطيبات في محل نصب مقول القول، ولكم متعلقان بأحل والطيبات نائب فاعل (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) الواو عاطفة، وما اسم موصول معطوف على الطيبات، وجملة علمتم صلة الموصول، ومن الجوارح متعلقان بمحذوف حال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما اسم الموصول وهو «ما»، والثاني أنه العائد المحذوف على اسم الموصول، أي: علمتموه.
ومكلبين حال من علمتم، أفادت أن التعليم يحتاج الى الخبرة التامة والمقدرة المتناهية، وأن على المتعلم أن يأخذ العلم عن أربابه الأكفياء.
وأجاز بعضهم أن تكون الواو استئنافية وما شرطية في محل رفع على الابتداء، وجواب الشرط هو فكلوا، وهو اعراب سائغ (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) جملة تعلمونهن حال ثانية أو استئنافية، ومما متعلقان بتعلمونهن، وجملة علمكم الله صلة الموصول. ومفعولا علمتم وتعلمونهن الثانيين محذوفان، والتقدير: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن، تعلمونهن ذلك (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الفاء الفصيحة أو رابطة لجواب الشرط على الإعراب الثاني، ومما متعلقان بكلوا، وجملة أمسكن صلة «ما» وعليكم متعلقان بأمسكن (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) الواو عاطفة، والجملة عطف على جملة فكلوا، وجملة فكلوا لا محل لها، أو في محل جزم جواب الشرط (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) عطف على ما تقدم، وإن واسمها وخبرها.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)اللغة:
(حِلٌّ) : مصدر بمعنى حلال، فلا يثنى ولا يجمع.
(مُحْصِنِينَ) : أعفاء، أحصنوا أنفسهم بالزواج، ولم يتطلعوا الى الزنا فعلا ولا قصدا.
(أَخْدانٍ) : جمع خدن بكسر الخاء، وهو يقع على المذكّر والمؤنّث.
الإعراب:
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) كلام مستأنف مسوق لتكرير ذكر الطيبات التي أحلت لكم يوم السؤال عنها، أو اليوم الذي أكملت لكم دينكم. وقيل: ليس يوما معينا. واليوم ظرف زمان متعلق بأحل، وأحل فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحل، والطيبات نائب فاعل (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) الواو استئنافية، وطعام مبتدأ، والذين مضاف اليه، وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، والكتاب مفعول به ثان، والجملة صلة
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)اللغة:
(الْمَرافِقِ) : جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء، وهو الموصل بين الساعد والعضد. وجمعه وثنّى الكعبين لأن للانسان مرفقا واحدا في كل يد، فناسب أن يذكر بالنسبة للجميع بالجمع، بعكس الكعبين فان الكعبين هما العظمان الناشزان من جانبي القدم، فناسب أن يذكر الاثنان من كل رجل. وسبب آخر وهو أن جمع المرفق لفظ مأنوس في الكلام، أما جمع الكعب فهو لفظ لا يخلو ذكره في الكلام، إذ يجمع على كعاب وكعوب وأكعب، وهذا أمر مرّده الى الذوق وحده.
(الْغائِطِ) : المطمئن من الأرض والمنخفض منها، ويقصد به هنا قضاء الحاجة كما سيأتي في باب البلاغة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام الوضوء لأداء فريضة الصلاة، وهي أعظم الطاعات بعد الايمان. وإذا ظرف مستقبل
«إلى المرافق» و «إلى الكعبين» لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالأحوط، فحكموا بدخولها في الغسل. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) عطف على ما تقدم.
وقد كثر الاختلاف حول هذه الباء، فقال بعضهم هي زائدة، وقال بعضهم: هي للتبعيض، كقول عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذا بقرونها | شرب النزيف ببرد ماء الحشرج |
وأرجلكم، بالفتح، أي: واغسلوا أرجلكم الى الكعبين، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين. وقرأها الباقون: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو بالجر، والظاهر أنه عطف على الرأس، أي:
وامسحوا بأرجلكم الى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فجماهير أهل السنة على أن الواجب هو الغسل وحده، والشيعة والإمامية أنه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما. وقد رأى ابن جرير الجمع بين القولين للاحتياط. وقد عللوا تأخيره في قراءة النصب بأن صب الماء مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث المسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقد أطالوا في التخريج والتأويل إطالة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب، وهي ناشئة عن الولع بالتحقيق والوصول الى ما هو أجدى وأسلم، ولهذا جنح ابن جرير الى الجمع، وفيه من حسن النية، وسلامة الطوية
الكناية في قوله تعالى: «أو جاء أحد منكم من الغائط» فالمجيء من الغائط- وهو المطمئن أو المنخفض من الأرض- كناية عن الحدث، جريا على عادة العرب، وهي أن الإنسان منهم إذا أراد قضاء حاجة قصد مكانا منخفضا من الأرض وقضى حاجته فيه.
الفوائد:
اشتملت آية الوضوء على فوائد هامة لا يجوز إغفالها، ونشير إليها فيما يلي:
١- استغنى ببناء القلة في قوله: «وأرجلكم» عن بناء الكثرة لأنها لم يستعمل لها بناء كثرة، وقد يستغني ببعض أبنية القلة عن بناء الكثرة وضعا واستعمالا اتكالا على القرينة. وقد وضع الشاطبيّ قاعدة جميلة نلخصها فيما يلي: «وحقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البناءين استغناء عنه بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معا، ولكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر، فالأول:
كأرجل جمع رجل، وأعناق جمع عنق، وأفئدة جمع فؤاد، قال تعالى:
«وأرجلكم الى الكعبين»، «فاضربوا فوق الأعناق»، «وأفئدتهم هواء»، فاستغنى فيها ببناء القلة عن بناء الكثرة، لأنها لم يوضع لها بناء كثرة. والثاني: كأقلام.
٢- لا شك في أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلا فعل ما يصدق عليه مسح، وليس في اللغة ما يقتضي أنه لا بد في مثل
٣- قال تعالى: «إذا قمتم الى الصلاة»، وفي الجنابة «وإن كنتم مرضى» لأن «إذا» تدخل على كائن أو منتظر لا محالة، «وإن» تدخل على أمر ربما كان وربما لا يكون. والقيام الى الصلاة ملازم والجنابة ليست بملازمة، فإنها قد توجد وقد لا توجد. ولهذا درج المفسرون على تفسير «إذا قمتم» أي: إذا أردتم القيام، من إقامة المسبب مقام السبب، والقيام متسبب عن الإرادة، والارادة سببه.
٤- من طريف الأبحاث اختلاف العلماء في دخول المرفق في الغسل، فقال قوم: إن المرفق داخل في مسمى اليد، لأن اليد من رأس الأنامل الى الإبط. وهذا ينتقض بقولك: نمت البارحة الى نصفها، ولا يجوز أن يقال: إنه نام البارحة كلها. وقال الجمهور بغسل المرفقين مع اليدين، وقال مالك وزفر لا يجب غسل المرفقين. وهذا الخلاف أيضا في الكعبين، حجة زفر أن «إلى» لانتهاء الغاية، والمنتهى غير النهاية، فلا يتعين غسل النهاية. والجواب من وجهين:
آ- الأول مذهب الزجاج: قال: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به، أي يتكأ عليه. ولا نزاع في أن ما وراء أطراف العظم لا يجب غسله.
ب- الثاني: أن حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود،
وقال بعضهم: النهاية غير المتناهي، وغسل المرافق لم يفهم من الآية الكريمة، وإنما فهم من فعله صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا لو قلت:
بعتك من هذه الشجرة الى هذه الشجرة، لم تدخل الغاية هاهنا.
وإذا قلت: بعتك من هذا الحائط الى هذا الحائط، دخل الحائطان في المبيع. والفرق بينهما أن الغاية في الأولى من جنس ما دخلت فيه فهي خارجة عنه، وكذلك المرفق من جنس اليد فهو خارج عن الغسل.
وفي الثانية أن الغاية خارجة، لأن الحائط ليس من جنس البستان، فلهذا دخل الحائطان في المبيع. ألا ترى أن قوله تعالى: «ثم أتموا الصيام الى الليل» لما كان الليل من غير جنس النهار اعتبر دخول أول الليل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم» فاعتبر دخول الليل لأنه خارج عن النهار.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧ الى ٨]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) الواو الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتذكير المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم به. واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وعليكم جار ومجرور متعلقان بنعمة وميثاقه عطف على نعمة الله، والذي صفة لميثاق وجملة واثقكم به صلة الموصول (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بواثقكم، وجملة قلتم في محل جر بالاضافة، وجملة سمعنا مقول القول، وجملة وأطعنا عطف عليها (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كلام مستأنف، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وجملة إن وما في حيزها تعليلية، وذات الصدور الأمور المكنونة في الصدور (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان الأمور المتعلقة بما يجري بينهم وبين غيرهم. وكونوا فعل أمر ناقص، والواو اسمها، وقوامين خبرها، ولله متعلقان بقوامين، وشهداء خبر ثان لكونوا، وبالقسط متعلقان بشهداء (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا، والكاف مفعول به، وشنآن قوم فاعل، وعلى حرف جر، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بيجرمنكم، لأنه تضمن معنى لا يحملنكم (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) جملة اعدلوا مفسرة، وهو ضمير منفصل
البلاغة:
التكرير في طلب المعدلة، والسر فيه التأكيد على العدل والتشويق اليه. وخلاصة المعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على ترك المعدلة فتعتدوا عليهم. وهذا منتهى ما تصل اليه المثل العليا، والقيم الانسانية السامية.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩ الى ١١]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
الإعراب:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان وعده سبحانه، فإن النفس الانسانية مفطورة على التوجه
ولك أن تجعلها مقولا لقول محذوف تتضمن زيادة التقرير الموعود به والتأكيد لوقوعه. وقيل: هي جملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله «وعد» على معنى: وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة. فوقعت الجملة موقع المفرد، فأغنت عنه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو استئنافية، والذين مبتدأ، وجملة كفروا صلة، وجملة كذبوا بآياتنا عطف على الصلة، وأولئك مبتدأ ثان، وأصحاب الجحيم خبر أولئك، والجملة الاسمية خبر الذين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) تقدم اعرابها قريبا والجملة مستأنفة (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) إذ ظرف للنعمة متعلق بها، ويجوز أن يتعلق باذكروا، وجملة همّ قوم في محل جر بالاضافة، وأن يبسطوا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان ب «همّ»، وإليكم متعلقان بيبسطوا، وأيديهم مفعول به (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو استئنافية واتقوا الله فعل وفاعل ومفعول، وعلى الله متعلقان بتوكل، والفاء استئنافية واللام لام الأمر، ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والمؤمنون فاعل.
بسط اليد: عبارة مجازية مرسلة بعلاقة السببية، لأن اليد سبب الإيذاء، كما أن بسط اللسان عبارة مجازية، علاقتها السببية.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
اللغة:
(نَقِيباً) : النقيب في القوم من ينقب عن أحوالهم، ويبحث عن شئونهم، وهو «فعيل» بمعنى فاعل مشتق من التنقيب، وهو التفتيش.
ومنه قوله تعالى: «فنقّبوا في البلاد»، وسمي بذلك لأنه يفتش عن أحوال القوم وأسرارهم وقيل: هو بمعنى «مفعول» كأن القوم اختاروه على علم منهم. وقيل: هو للمبالغة كعليم وخبير.
(عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم. وفي المختار: التعزير: التوقير والتعظيم.
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل، وفيه تحريص للمؤمنين على ذكر نعمة الله، ومراعاة حق الميثاق، وتحذير من نقضه. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأخذ الله فعل وفاعل، وميثاق مفعول به، وبني إسرائيل مضاف اليه (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وبعثنا عطف على أخذ، ومنهم متعلقان ب «نقيبا» أو حال من «اثني عشر»، واثني عشر مفعول به لبعثنا، ونقيبا تمييز (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) الواو عاطفة، على طريق الالتفات، وقال الله فعل وفاعل، وإني إن واسمها، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبرها، وإن وما في حيزها مقول القول (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) اللام موطئة للقسم المحذوف، وإن شرطية، وأقمتم فعل وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والصلاة مفعول به، وآتيتم الزكاة عطف على أقمتم الصلاة والجملة القسمية مستأنفة (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) عطف على ما تقدم، وبرسلي متعلقان بآمنتم، وعزرتموهم عطف أيضا، وهو فعل وفاعل والواو لإشباع الضمة، والهاء مفعول به، وأقرضتم الله فعل وفاعل ومفعول به، وقرضا مفعول مطلق، وحسنا صفة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) اللام واقعة في جواب القسم، والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم المتقدم عليه، وعنكم متعلقان بأكفرنّ، وسيئاتكم مفعول به، ولأدخلنكم عطف على «لأكفرن»، وجنات مفعول به ثان على السعة أو منصوب بنزع الخافض، وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ
الفاء استئنافية. ومن شرطية مبتدأ، وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبعد ذلك ظرف متعلق بكفر، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من»، وسواء السبيل مفعول ضل.
البلاغة:
في قوله تعالى: «وأقرضتم الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية.
فقد شبه الإنفاق في سبيل الله لوجهه بالقرض، على سبيل المجاز، لأنه بإعطاء المستحق ما له لوجه الله، فكأنه أقرضه إياه.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
اللغة:
(لَعَنَّاهُمْ) : طردناهم وأبعدناهم عن رحمتنا.
(خائِنَةٍ) : الخائنة هنا: الخيانة. والعرب تعبر بصيغة اسم الفاعل عن المصدر أحيانا وبالعكس، فاستعملت القائلة بمعنى القيلولة،
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن | للغدر خائنة مغلّ الإصبع |
أو فرقة.
الإعراب:
(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما أصابهم من طرد وإبعاد عن الرحمة ناشىء عن نقضهم الميثاق. والباء حرف جر، وما زائدة لتوكيد الكلام، ونقضهم مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بلعناهم، وميثاقهم مفعول به للمصدر وهو النقض، ولعناهم، فعل وفاعل ومفعول به، (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) وجعلنا عطف عل ى لعناهم، وقلوبهم مفعول به أول، وقاسية مفعول ثان (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان مدى قسوة قلوبهم، والكلم مفعول يحرفون، وعن مواضعه جار ومجرور متعلقان بيحرفون (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) عطف على ما تقدم، ونسوا حظا فعل وفاعل ومفعول به، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «حظا» وجملة ذكروا به لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) الواو عاطفة، ولا تزال فعل مضارع ناقص، والاسم مستتر تقديره أنت، وجملة تطلع خبر لا تزال، وعلى خائنة متعلقان بتطلع، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة لخائنة، وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من الضمير المجرور في «منهم»، ومنهم
[سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
اللغة:
(نَصارى) : في مختار الصحاح: النصير: الناصر وجمعه أنصار، كشريف وأشراف، وجمع الناصر نصر كصاحب وصحب. والنصارى جمع نصران ونصرانة، كالندامى جمع ندمان وندمانة. ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. وفي المصباح: ورجل نصراني بفتح النون، وامرأة نصرانية. ويقال: إنه نسبة الى قرية اسمها نصرى، ولهذا يقال في الواحد: نصري، على القياس، ثم أطلق النصراني على كل من تعبد بهذا الدين. وقال في المنجد: النصراني نسبة الى مدينة الناصرة على غير القياس: من يتبع دين السيد المسيح، والجمع نصارى، والمؤنث نصرانية. وقال في اللسان: ونصرى بفتحتين، ونصرى بفتح فسكون،
(أغرينا) : ألصقنا وألزمنا، وهي من غري بالشيء إذا لزمه ولصق به، ومعنى الغراء الذي يلصق به، والغراء مثل كتاب، وفي المصباح: غري بالشيء غريا من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل، وأغريته به إغراء فأغري به بالبناء للمفعول، والاسم الغراء بالفتح والمد والغراء مثل كتاب: ما يلصق به، معمول من الجلود، وقد يعمل من السمك.
والغرا مثل العصا: لغة فيه، وغروت الجلد أغروه من باب عدا:
ألصقته بالغراء، وأغريت بين القوم: مثل أفسدت وزنا ومعنى، وغروت غروا من باب قتل: عجبت، ولا غرو: ولا عجب.
الإعراب:
(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن النصارى. والجار والمجرور متعلقان بأخذنا، وجملة قالوا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإن واسمها، ونصارى خبرها، وجملة أخذنا مستأنفة كما تقدم، وميثاقهم مفعول به، وجملة إنا نصارى مقول القول. وهناك أوجه أخرى تراها في باب الفوائد.
(فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) الفاء عاطفة، ونسوا عطف على أخذنا، والواو فاعل، وحظا مفعول به، ومما متعلقان بمحذوف صفة ل «حظا»،
ممتدة الى يوم القيامة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) الواو عاطفة، وسوف حرف استقبال، وينبئهم فعل وفاعل ومفعول به، وبما متعلقان بينبئهم، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يصنعون خبر كانوا.
الفوائد:
أنهى بعض المعربين الأوجه التي أجازوها في هذه الآية الى وجوه منها ما اخترناه، وهو ما ذهب اليه الزمخشري، ولكنه جعل الضمير في ميثاقهم عائدا على بني إسرائيل، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقا مثل ميثاق بني إسرائيل، وهناك وجه جدير بالذكر وهو أن يتعلق قوله: «ومن الذين» بمحذوف على أنه خبر لمبتدأ محذوف قامت صفته مقامه، والتقدير: ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل الكتاب عامة على طريق الالتفات. ويا حرف نداء للمتوسط، وأهل الكتاب منادى مضاف منصوب، وقد حرف تحقيق، وجاءكم فعل ماض ومفعول به مقدم، ورسولنا فاعل مؤخر (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) الجملة حالية من «رسولنا» ولكم متعلقان بيبيّن، وكثير مفعول به، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» وما اسم موصول وكنتم كان واسمها، والجملة صلة، وجملة تخفون في محل نصب خبر كنتم، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من العائد المحذوف (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الجملة معطوفة على جملة «يبين» الحالية داخلة في حكمها (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان الفائدة من مجيء الرسول. ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لنور، وتقدم عليه. ونور فاعل «جاءكم»، وكتاب عطف على «نور»، ومبين صفة (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) الجملة صفة لكتاب، وبه متعلقان بيهدي، والله فاعل، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة اتبع رضوانه صلة الموصول، وسبل السلام مفعول به ثان على السعة ليهدي، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بيهدي (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) الواو عاطفة، ويخرجهم معطوف على
البلاغة:
في قوله تعالى: «من الظلمات الى النور» استعارتان تصريحيتان أصليتان، يقصد بالأولى الضلال وبالثانية الهدى والايمان، والعلاقة المشابهة، وقد لفظ المشبه واستعير بدله لفظ المشبه به، ليقوم مقامه، بادعاء أن المشبه به هو عين المشبه، وهذا أبعد مدى في البلاغة، وأدخل في بابها، ولما كان المشبه به مصرحا به في هذا المجاز سميت الاستعارة تصريحية، وسميت أصلية لأنها جارية في الاسم. ومن الاستعارة التصريحية قول أبي الطيب:
وأقبل يمشي في البساط فما درى | إلى البحر يسعى أم الى البدر يرتقي |
[سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)اللغة:
(يَمْلِكُ) : تقول العرب: ملك فلان على فلان أمره إذا استولى عليه فضار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به وبإذنه.
قال ابن دريد في وصف الخمر التي لم يكسر المزاج حدتها ولم تبطل النار تأثيرها:
لم يملك الماء عليها أمرها | ولم يدنّسها الضّرم المحتضى |
الإعراب:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وكفر فعل ماض والذين فاعله، وجملة قالوا صلة الموصول، وجملة القسم مستأنفة، وجملة
قل تبكيتا وإظهارا لبطلان قولهم. ومن اسم استفهام انكاري مبتدأ، وجملة يملك خبر، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بيملك، وشيئا مفعول به (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) الجملة الشرطية مفسرة لا محل لها، وإن شرطية، وأراد فعل الشرط، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول أراد، والمسيح مفعول به، وابن مريم بدل أو نعت، وأمه عطف على المسيح، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فمن يملك من الله شيئا (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الواو عاطفة، ومن اسم موصول معطوف على المسيح وأمه، وفي الأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجميعا حال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو حالية، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر، وما بينهما: الواو عاطفة على ملك وما اسم موصول، والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق حسب مشيئته (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الكلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى على كل شيء، فكل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعد بعض خلقه غريبا بالنسبة الى علم البشر الناقص، لا بالنسبة اليه تعالى. وقد تقدم اعرابها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)اللغة:
(فترة) من فتر الشيء إذا سكن أو زالت حدته، وقال الراغب:
الفتور: سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة. وذكر الآية. والمراد بها هنا انقطاع الوحي وظهور الرسل عدّة قرون.
الإعراب:
(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) الواو استئنافية، وقالت اليهود فعل وفاعل، والنصارى عطف على اليهود (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الجملة مقول قولهم، ونحن مبتدأ وأبناء الله خبر، وأحباؤه عطف على أبناء الله (قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟) الكلام مستأنف مسوق للرد على هذه الأقوال. وقل فعل أمر، والفاعل أنت والفاء هي الفصيحة، أي:
أي: يبين لكم ما ذكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوج ما كنتم الى البيان. ومن الرسل جار ومجرور متعلقان بمحذوف وقع صفة لفترة، أي: كائنة من الرسل (أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أن تقولوا المصدر المنسبك من أن والفعل بعدها مفعول لأجله على حذف مضاف، أي: كراهة قولكم، أو منصوب بنزع الخافض، مع تقدير النفي، أي: لئلا تقولوا، وجملة ما جاءنا في محل نصب مقول القول، ومن حرف جر زائد، وبشير فاعل محلا لجاءنا، ولا نذير عطف على من بشير (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) الفاء هي الفصيحة، أي: إذا اعتذرتم بذلك فقد جاءكم بشير ونذير.
وجاءكم بشير فعل ومفعول به وفاعل، ونذير عطف على بشير، والجملة لا محلّ لها من الإعراب لأنها واقعة في جواب شرط غير جازم (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وقدير خبره، والجار والمجرور متعلقان بقدير.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) : كلام مستأنف مسوق لبيان ما فعلوه، وما صدر عن بعضهم بعد أخذ الميثاق. وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر محذوفا، والخطاب للنبي ليعدّد عليه ما صدر عنهم، وجملة قال موسى من الفعل والفاعل في محل جر بالإضافة، ولقومه متعلقان بقال (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الجملة في محل نصب مقول القول، ويا حرف نداء، وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وعليكم متعلقان بنعمة (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) إذ ظرف لما مضى متعلق بالنعمة، وجملة جعل في محل جر بالاضافة، وفيكم متعلقان بجعل على أنه مفعول به أول لجعل، وأنبياء مفعوله الثاني، وجعلكم ملوكا عطف على ما تقدم، وملوكا مفعول به ثان (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة، وآتاكم فعل ومفعول به أول، والفاعل هو، وما اسم موصول مفعول به ثان، وجملة لم يؤت أحدا صلة الموصول «ما»، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والمراد بالعالمين الأمم الخالية الى زمانهم وعالم زمانهم، من خلق البحر، وتظليل الغمام، والمن والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظيمة (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) الجملة استئنافية وادخلوا فعل أمر وفاعل، والأرض مفعول به على السعة، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بادخلوا، والمقدسة صفة للأرض (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) التي صفة ثانية للأرض، وجملة كتب الله صلة، ولكم جار ومجرور متعلقان بكتب (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) الواو عاطفة، ولا ناهية وترتدوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وعلى أدباركم متعلقان بمحذوف
الفوائد:
المنادى المضاف الى ياء المتكلم أربعة أقسام:
١- ما فيه لغة واحدة، وهو المعتل بالياء أو بالألف، فإن ياءه المضاف إليها واجبة الثبوت والفتح نحو: يا قاضيّ ويا فتاي.
٢- ما فيه لغتان: وهو الوصف المشبه للفعل المضارع، ونعني به اسمي الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل، فان ياءه ثابتة دائما، وهي إما مفتوحة وإما مكسورة، نحو: يا مكرمي ويا ضاربي.
٣- ما فيه ست لغات: وهو ما عدا ذلك، وليس أبا ولا أمّا، نحو: يا غلامي، فالأكثر فيه حذف الياء والاكتفاء بالكسرة، نحو:
يا غلام، ثم ثبوتها ساكنة على الأصل، نحو يا غلامي، أو مفتوحة، نحو: يا غلامي. ثم قلب الكسرة فتحة والياء ألفا، نحو: يا حسرتا.
ثم حذف الألف المنقلبة والاجتزاء بالفتح، فتقول: يا حسرة، ثم حذف الياء والاكتفاء بنيتها وضم الاسم المضاف للياء، مثل: يا غلام.
٤- ما فيه عشر لغات: وهو الأب والأم، ففيهما مع اللغات الست المتقدمة أربع لغات أخر، وهي أن تعوض تاء التأنيث من ياء
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
اللغة:
(جَبَّارِينَ) : الجبار: العاتي المتمرد، فعّال، من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد. والمراد هنا أنهم ذوو قوّة.
الإعراب:
(قالُوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) الجملة مستأنفة، وقالوا فعل وفاعل، وجملة النداء وما بعدها مقول قولهم، وفيها متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم، وقوما اسمها المؤخر، وجبارين:
صفة ل «قوما» (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) الواو عاطفة على ما تقدم، وإن واسمها، وجملة لن ندخلها خبرها، وحتى حرف
فعل وفاعل، ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وجملة يخافون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة أنعم الله صفة ثانية أو معترضة فتكون لا محل لها، ولابن هشام قول فيها نورده في باب الفوائد، وعليهما متعلقان بأنعم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) الجملة في محل نصب مقول قول الرجلين (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) الفاء استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق ب «غالبون» وجملة دخلتموه في محل جر بالاضافة، والفاء رابطة لجواب إذا، وإن واسمها، وغالبون: خبرها (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتوصيتهم بالاتكال على الله أولا، والأخذ بأسباب الحيطة والحذر ثانيا، والفاء في قوله: «فتوكلوا» جواب أمر محذوف لا بد من تقديره: تنبّهوا فتوكلوا على الله، وعلى الله متعلقان بتوكلوا، كما قالت العرب: زيدا فاضرب، تقديره: تنبه فاضرب زيدا، وكثيرا ما يأتي معمول ما بعد الفاء متقدما عليها. وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها ومؤمنين خبرها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فتوكلوا.
١- قال ابن هشام في صدر حديثه عن هذه الآية: قوله تعالى:
«قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما» فإن جملة: «أنعم الله عليهما» تحتمل الدعاء فتكون معترضة والإخبار فتكون صفة ثانية، ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا، ولا يضعف في الصناعة لوصفها». هذا ما قاله ابن هشام، ولم يبين ابن هشام رحمه لله وجه الضعف من حيث المعنى، فإن جعلها حالا يقتضي أن قولهم في وقت إنعامه فقط، مع أن قولهم لا يتقيد بذلك. والحاصل أن الحالية تقتضي تقييد العامل مع أن المعنى ليس على التقييد.
٢- عبارة السمين: وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين:
في هذه الجملة خمسة أوجه، أظهرها أنها صفة ثانية فمحلها الرفع، وجيء هنا بأفصح الاستعمالين من كونه قدّم الوصف بالجار على الوصف بالجملة لقربه من المفرد. الثاني أنها متعرضة، وهو أيضا ظاهر. الثالث: أنها حال من الضمير في «يخافون»، قاله مكيّ.
الرابع: أنها حال من «رجلان»، وجاءت الحال من النكرة لتخصصها بالوصف. الخامس: أنها حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وهو «من الذين» لوقوعه صفة لموصوف، وإذا جعلتها حالا فلا بد من إضمار «قد» مع الماضي، على خلاف في المسألة.
٣- الرجلان اللذان أنعم الله عليهما هما يوشع بن نون، وهو الذي نبئ بعد موسى. وكالب بن يوقنا، وكالب بفتح اللام وكسرها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)اللغة:
(أَبَداً) : ظرف زمان، وهو هنا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول.
(يَتِيهُونَ) : يسيرون في الأرض متحيرين لا يهتدون طريقا.
والتيه: المفازة التي يتاه فيها.
(تَأْسَ) : تندم وتحزن والأسى: الحزن. ولامه يحتمل أن تكون من واو لقولهم: رجل أسواة، أي: كثير الحزن، ويحتمل أن تكون من ياء، فقد حكي: رجل أسيان، وفي مختار الصحاح:
«وأسي على مصيبته من باب «صدي» أي: حزن، وقد أسي له أي حزن له.
الإعراب:
(قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) كلام مستأنف
مصدرية ظرفية، وداموا هي دام الناقصة، والواو اسمها، وفيها متعلقان بمحذوف خبرها، وهذا الظرف بدل من «أبدا» لأنه بمثابة البيان له، فهو بدل مطابق أو كل من كل، وقيل: هو بدل بعض من كل، لأن الأبد يعم الزمن المستقبل كله، وديمومة الجبارين فيها بعضه (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الفاء الفصيحة، كأنهم قد أضمروا كلاما ينطوي على الاستهانة والسخرية بالله ورسوله. واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت، وأنت تأكيد للفاعل المستتر، وربك عطف على الفاعل المستتر في «اذهب»، وجاز للتأكيد بالضمير، كما نصّ على ذلك ابن مالك في الخلاصة:
وإن على ضمير رفع متصل | عطفت فافصل بالضمير المنفصل |
أوجه الرفع:
فالرفع من ثلاثة أوجه هي:
١- أن يكون عطفا على الضمير المستتر في «أملك».
٢- أن يكون عطفا على محل إن واسمها.
٣- أن يكون مبتدأ حذف خبره، والتقدير: وأخي لا يملك إلا نفسه.
وجها النصب:
والنصب من وجهين:
١- أن يكون معطوفا على اسم إنّ.
٢- أن يكون معطوفا على نفسي.
وجه الجر:
والجر من وجه واحد:
أن يكون معطوفا على الياء المجرور باضافة نفس إليها.
(فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء استئنافية، وافرق فعل
وبيننا ظرف متعلق ب «افرق»، وبين القوم الفاسقين عطف على «بيننا» (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة، وفاعل «قال» مستتر تقديره: الله تعالى، والفاء زائدة في الإعراب لتمكين التأكيد، وإن واسمها، ومحرمة خبرها، وعليهم متعلقان بمحرمة، وأربعين ظرف زمان متعلق بيتيهون، فيكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، أو متعلقان بمحرمة، فيكون التحريم مقيدا بهذه المدة، وسنة تمييز، وجملة فانها محرمة مقول القول، وجملة يتيهون في الأرض حالية، أي: حالة كونهم تائهين ضاربين في متاهات الأرض ومناكب الصحاري تتخبطهم الحسرة، وتتعاورهم الحيرة. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفت هذا فلا تحزن، ولا ناهية، وتأس فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وعلى القوم متعلقان ب «تأس»، والفاسقين صفة لقوم.
الفوائد:
قد يتساءل متسائل فيقول: كيف قال موسى: إني لا أملك إلا نفسي وأخي، مع أنه كان معهما الرجلان المذكوران، وهما يوشع وكالب؟ فالجواب أنه لم يطمئن الى ثباتهما بعد أن رأى الأكثرية الساحقة مصرة على التعنت، ولم تكن النبوة قد هبطت على يوشع بن نون، فلم يذكر معه إلا النبي المعصوم، وهو أخوه هارون. وهنا أقاصيص مطوّلة، يرجع إليها القارئ في المطولات من التفاسير.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)اللغة:
(قُرْباناً) : القربان: بضم القاف، وفيه وجهان:
١- إنه اسم لما يتقرب به الى الله عز وجل، من صدقة أو نسك أو غير ذلك، كالحلوان بضم الحاء أيضا: اسم ما يحلى، أي: يعطى.
يقال: قرب صدقة، وتقرب بها، لأن «تقرّب» مطاوع «قرّب».
٢- أن يكون مصدرا في الأصل، ثم أطلق على الشيء المتقرّب به كقولهم: نسج اليمن، ويدلّ على ذلك أنه لم يثن، والموضع موضع تثنية، لأن كلّا من قابيل وهابيل له قربان يخصّه، والأصل أن يقول: قربانين. وقال أصحاب الرأي الأول: لا حجة في هذا، لأن المعنى: إذ قرّب كل واحد منهما قربانا، كقوله تعالى: «فاجلدوهم ثمانين جلدة»، أي كل واحد منهم ثمانين جلدة.
الإعراب:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الجملة معطوفة على الفعل المقدر في قوله: «وإذ قال موسى لقومه»، يعني: اذكر يا محمد لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم، وهما: هابيل وقابيل، وقصة القربان وسببه. وقصة قتل قابيل لهابيل طفحت بها المطوّلات من التفاسير.
واتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وعليهم متعلقان ب «اتل»، ونبأ مفعول به، وابني مضاف الى «نبأ» وحذفت النون للاضافة، وآدم مضاف الى «ابني»، وبالحق متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي: تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من الفاعل، فيكون التقدير: حال كونك ملتبسا بالحق، أي: بالصدق، أو من المفعول به، أي: اتل نبأهما ملتبسا بالحق والصدق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بنبإ، أي: اتل قصتهما وخبرهما الواقع في ذلك الوقت، أو هو بدل منه، أي: واتل عليهم النبأ، نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف وجملة قربا في محل جر بالاضافة، وقربا فعل وفاعل، وقربانا مفعول به، فتقبل: الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على «قربانا»، ومن أحدهما جار ومجرور متعلقان بتقبل، ولم يتقبل من الآخر عطف على تقبل (قالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جملة لأقتلنك في محل نصب مقول القول، واللام موطئة للقسم، وأقتلنك فعل مضارع مبني على الفتح لوجوب توكيده بالنون الثقيلة، والكاف مفعول به، وإنما كافة ومكفوفة، وجملة إنما يتقبل
١- في قوله: «إنما يتقبل الله من المتقين» الكلام الجامع المانع، فقد جمعت هذه الجملة الكثير من المعاني بكلام مختصر، فقد اشتملت على فحوى القصة من أولها الى آخرها، والقصة مطولة يجدها القارئ في المطوّلات. وخلاصة المعنى أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متّق، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له:
ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت. قال: إني أسمع الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين.
٢- في قوله: «إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك» فن الاتساع.
وهو أن يأتي المتكلم بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه، فيتّسع التأويل فيه على قدر عقول الناس وتفاوت أفهامهم. وهو في الآية في إرادته إثم أخيه، لأن معناه: إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب.
ولما لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين: وهما إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول فاضطر الى الثاني، فلم يرد إذن إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية الى القتل، ولم تكن حينئذ مشروعة، فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة.
ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتل الكافر ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي كان به الشهيد
أقوال للعلماء:
هذا وقد أقاض علماء التفسير والنحو والبلاغة في هذه الآية، ويتلخص مما أوردوه أن هناك ثلاثة تأويلات:
أ- إنه على حذف همزة الاستفهام أي: إني أريد أأن تبوء؟
وهو استفهام استنكاري لأن إرادة المعصية معصية.
ب- أن «لا» محذوفة، تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي، كقوله تعالى: «يبين الله لكم أن تضلوا» أي: أن لا تضلوا.
ج- إن الإرادة على حالها، وهي إما ارادة مجازية أو حقيقية، وجازت إرادة ذلك به لمعان ذكرها المفسرون، ومن جملتها أنه ظهرت له قرائن تدل على قرب أجله، وأن أخاه كافر، وأن ارادة العقوبة بالكافر حسنة.
٣- جاء الشرط بلفظ الفعل، وهو قوله: بسطت، والجواب بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: «ما أنا بباسط» لإفادة أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا العمل المنكر، ولذلك أكده بالباء الزائدة المؤكدة للنفي.
وعلى كل حال تبدو هذه الآية والاتساع فيها مما يدق على الأفهام، ولكنها دقة لازمة تنطوي على الكثير من المعاني المتصيّدة من الكلام. وقد رمق المتنبي سماءها فكثيرا ما كان يجنح الى هذا الضرب من البلاغة فيدق كلامه. فمن اتساعه قوله:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت | لها المنايا الى أرواحنا سبلا |
ومن ذلك قوله في الغزل.
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها | في ليلة فأرت ليالي أربعا |
واستقبلت قمر السماء بوجهها | فأرتني القمرين في وقت معا |
وقد أخطا التبريزي حين شرح البيت وقد قال: يجوز أنه أراد قمرا وقمرا، لأنه لا يجتمع قمران حقيقيان في ليلة، كما لا تجتمع الشمس والقمر. وقد تشبث أحد الشعراء بأهداب المتنبي فنظم بيتين أشبه ما يكونان بالشعوذة والألاعيب وهما:
رأت قمر السماء فذكرتني | ليالي وصلها بالرقمتين |
كلانا ناظر قمرا ولكن | رأيت بعينها ورأت بعيني |
يتسير هذا الشاعر الى أن قمر السماء من عشاق محبوبته، وأن محبوبته رأته ذات ليلة فكسته برؤيتها له نور جمالها ومحاسن صفاتها، وألقت عليه شبهها، وأعارته اسمها. فأذكرت هذا العاشق بتلك الليالي التي وصلت بالرقمتين وأنها بوصالها له أفنته وغلبت عليه بصفاتها، حتى صارت معه كالقمر الواحد، وكلاهما ينظره. ولهذا قال كلانا ناظر قمرا أي: قمر واحد تعدّد مظهره، ولكنها تنظره بعينه، وهي عين المحبة، لأن المحب صار محبوبا وهو ينظر بعينها، لأنها أعارته عينا رآها بها، فكأن المبصر لها نفسها. والكلام في الاتساع طويل نجتزىء منه هنا بما تقدم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)اللغة:
(طوّعت) : وسّعت وزيّنت، من طاع المرعى له: إذا اتسع.
(سَوْأَةَ) : السّوءة: بفتح السين: العورة، وما لا يجوز أن ينكشف من الجسد. والسوءة: الفضيحة. وخص السوءة بالذكر لأن الاهتمام بسترها آكد.
الإعراب:
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الفاء عاطفة، وطوعت فعل ماض، وله متعلقان بطوعت، ونفسه فاعل، وقتل أخيه مفعول به، فقتله عطف أيضا، فأصبح عطف أيضا، واسمها ضمير مستتر تقديره هو، ومن الخاسرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) الفاء عاطفة، وبعث فعل ماض والله فاعل وغرابا مفعول به، وجملة يبحث في الأرض في محل نصب صفة
«رب أرني كيف تحيي الموتى» (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) الجملة مستأنفة، كأنها قيلت لتكون جوابا على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال عند ما شاهد الغراب يفعل ذلك؟ ويا حرف نداء، وويلتا كلمة جزع وتحسر، وقد ناداها كأن الويل غير حاضر عنده، فناداه ليحضر، أي: أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك.
ويجوز أن تجعل المنادى محذوفا وتنصب الويل على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أماته العرب، والألف بدل من ياء المتكلم، والجملة مقول القول، والهمزة للاستفهام والتعجب كأنه يتعجب من نفسه:
كيف لم يهتد الى ما اهتدى اليه الغراب؟ وعجزت فعل وفاعل، والجملة مندرجة في مقول القول، وأن حرف مصدري ونصب، وأكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن، والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بعجزت، أي: أعجزت، واسم أكون ضمير مستتر تقديره أنا، ومثل خبر أكون، وهذا اسم اشارة مضاف اليه، والغراب بدل من اسم الاشارة (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) الفاء عاطفة، وأواري فعل مضارع معطوف على أن أكون،
البلاغة:
المجاز في قوله: «يا ويلتا»، لأنه نادى ما لا يعقل. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل.
الفوائد:
هذه القصة التي أوردها القرآن تصلح نواة لقصة عظيمة، وهي بحاجة الى القلم المبدع، ليعد منها قصة فنية رائعة. روي أن آدم مكث بعد مقتل هابيل مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر، وهو كذب منحول، فقد صح أن الأنبياء لا يقولون الشعر. وروى ميمون ابن مهران عن ابن عباس أنه قال: من قال إن آدم قال شعرا فهو كذب، ولكنه كان ينوح عليه، ويصف حزنه نثرا من الكلام، شبه المرثية، فتناسخته القرون، فلما وصل الى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية نظمه شعرا فقال:
تغيّرت البلاد ومن عليها | فوجه الأرض مغير قبيح |
تغيّر كل ذي لون وطعم | وقل بشاشة الوجه المليح |
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
(أَجْلِ) : الأجل بسكون الجيم مصدر. يقال: أجل عليهم شرا أي جناه وهيجه، ثم استعمل في الجنايات، كما في قولهم: «من جراك فعلته» أي: من أن جررته، أي: جنيته، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تعليل.
الإعراب:
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الجملة مستأنفة، والجار والمجرور متعلقان بكتبنا، وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بكتبنا أيضا، أي: شرّعنا القصاص على القاتل لتكون شرعية القصاص حكما ثابتا في جميع الأمم. وإنما خص بني إسرائيل كما ذكرنا آنفا لأن بني إسرائيل كان دأبهم وديدنهم القتل، حتى أقدموا على قتل الأنبياء والرسل. لأن الغرض هو تسلية النبي ﷺ والتسرية عنه لمحاولتهم الفتك به وبأصحابه. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به لكتبنا، والهاء اسم أنّ، وهي ضمير الشأن، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، قتل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ونفسا مفعول به، وبغير نفس جار ومجرور متعلقان بقتل، أو بمحذوف حال من ضمير الفاعل في «قتل»، أي: قتلها ظالما، وأو حرف عطف، وفساد معطوف على نفس المجرورة بإضافة غير إليها، وفي الأرض متعلقان بمحذوف صفة لفساد (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) الفاء رابطة لجواب الشرط، وكأنما كافة ومكفوفة وقتل الناس فعل ماض وفاعل
لا محل لها لأنها جواب القسم، ورسلنا فاعل، وبالبينات متعلقان بجاءتهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وإن واسمها، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» والظرف متعلق بمحذوف حال، وذلك اسم اشارة في محل جر بالإضافة، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان ب «مسرفون» واللام المزحلقة، ومسرفون خبر «إن».
البلاغة:
التشبيه التمثيلي: ومناط التشبيه اشتراك فعلي القتل في هتك حرمة الدماء والتجرؤ على الله وتشجيع الناس على القتل. ووجه التشبيه هو تهويل أمر القتل، وتفخيم شأن الاحياء، بتصوير كل منهما بصورة لائقة به.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم الله في كل قاطع طريق، كافرا كان أو مسلما، لأن محاربة المسلمين في حكم محاربة الله ورسوله، وقد نزلت في الأصل في العرنيين.
وإنما كافة ومكفوفة، وجزاء مبتدأ والذين مضاف اليه، وجملة يحاربون صلة الموصول، والله مفعوله، ورسوله عطف على الله (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) ويسعون عطف على يحاربون، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيسعون، وفسادا يصح أن يكون مفعولا من أجله، أي يحاربون ويسعون لأجل الفساد، وشروط النصب متوفرة. ويصح أن يكون مصدرا واقعا موقع الحال، أي: ويسعون في الأرض مفسدين، أو ذوي فساد، وجعلوا نفس الفساد مبالغة.
ويصح أن يكون منصوبا على المصدر، أي أنه نوع من العامل قبله، لأن يسعون في الأرض معناه في الحقيقة يفسدون، ففسادا اسم مصدر قائم مقام الإفساد، والتقدير يفسدون في الأرض بسعيهم إفسادا (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) المصدر المؤول من أن وما في حيزها خبر جزاء، وأو حرف عطف، ويصلبوا عطف على يقتلوا، أو حرف عطف، وتقطع عطف على يقتلوا أيضا. وأيديهم نائب فاعل لتقطع، وأرجلهم عطف
وينفوا عطف أيضا، ومن الأرض متعلقان بينفوا (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) الجملة مستأنفة، مبينة للغاية من هذه العقوبات. واسم الاشارة في محل رفع مبتدأ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وخزي مبتدأ مؤخر، وفي الدنيا متعلقان بمحذوف صفة لخزي، والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة، ويجوز أن يعرب «خزي» خبرا ل «ذلك»، ولهم متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال من خزي، لأنه كان في الأصل صفة له، فلما تقدم عليه صار حالا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو عاطفة، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال، وعذاب مبتدأ مؤخر، وعظيم صفة (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) جملة الاستثناء نصب على الحال من المعاقبين، وإلا حرف استثناء، والذين مستثنى، وجملة تابوا صلة الموصول، ومن قبل متعلقان بتابوا، وجرّت «قبل» بالكسرة للاضافة وأن تقدروا مصدر مؤول في محل جر بالاضافة، وعليهم جار ومجرور متعلقان بتقدروا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء استئنافية، واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وأن واسمها وخبراها سدت مسدّ مفعولي «اعلموا».
الفوائد:
أو: حرف عطف، ولها معان أنهاها صاحب المغني الى اثني عشر معنى، نكتفي منها بالمعاني الرئيسية التالية:
٢- التخيير: نحو خذ ثوبا أو عشرة دراهم، قال الله تعالى:
«فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة» فأوجب أحد هذه الثلاثة، وزمام الخيرة بيد المكلف، فأيها فعل فقد كفّر وخرج عن العهدة ولا يلزمه الجمع بينها.
٣- الإباحة: جالس فلانا أو فلانا، وقوله تعالى: «ولا تطع منهم آثما أو كفورا».
٤- التقسيم والتنويع كما في الآية، أي: تقسيم عقوبتهم تقسيما موزعا على حالاتهم وجناياتهم. قال الشافعي: «أو» في جميع القرآن للتخيير، إلا في هذه الآية.
٢- اختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكره الله تعالى في هذا الموضع فقال بعضهم: معنى النفي أي نفيه من بلد الى آخر، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي اليه. وأصل معنى النفي في كلام العرب الطرد، قال أوس بن حجر:
تنفون عن طرق الكرام كما | تنفي المطارق ما يلي القرد |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)اللغة:
(الْوَسِيلَةَ) : كل ما يتوسل به أي يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به الى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. قال لبيد بن ربيعة:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم | ألا كل ذي لبّ الى الله وأسل |
لا تذكري مهري وما أطعمته | فيكون جلدك مثل جلد الأجرب |
إنّ الغبوق له وأنت مسوءة | إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي |
إن الرجال لهم إليك وسيلة | إن يأخذوك تكحلي وتخضبي |
ويكون مركبك العقود وحدجه | وابن النعامة يوم ذلك مركبي |
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائره كثيرا (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان التقوى وابتغاء الوسيلة الى الله بعد ما بين عظم القتل والفساد في الأرض، وأشار الى الذين غفر لهم بعد توبتهم. واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وابتغوا عطف على اتقوا، واليه متعلقان بابتغوا أو بالوسيلة، لأنها فعيلة بمعنى مفعول، أي: المتوسل به، وليست بمصدر حتى يستنع أن يتقدم معمولها عليها، والوسيلة مفعول به (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عطف على ما تقدم، ولعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها، وجملة الرجاء حالية. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) كلام مستأنف مسوق لتأكيد وجوب الامتثال للأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة الى اتخاذ الوسيلة إليه. وإن واسمها، ولو شرطية، وأن حرف مشبه بالفعل، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «أن المقدم»، وما اسم موصول اسمها المؤخر، وأن وما في حيزها مصدر مرفوع على الفاعلية بفعل محذوف تقديره:
نبت، أو في محل رفع مبتدأ، وقد تقدم بحث ذلك مفصلا. وفي الأرض متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول، والشرط
فمن يك أمنى بالمدينة رحله | فإني وقيّار بها لغريب |
البلاغة:
في قوله: ليفتدوا به استعارة تمثيلية، للزوم العذاب بهم وديمومته عليهم، وأنه لا سبيل لهم الى النجاة منه. وفي الحديث الشريف: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك».
الفوائد:
قول عمير بن ضابىء البرجمي في البيت: «وقيار» : قيار اسم فرسه، وقيل جمله، وقيل غلامه. وهو مبتدأ أو معطوف على محل إن واسمها، وإذا أعرب مبتدأ فيكون خبره محذوفا اختصارا لدلالة المذكور عليه بالعطف وفيه العطف قبل تمام المعطوف عليه، وهو سماعي، ولا يجوز القياس عليه، ولا يجوز جعل «غريب» خبرا عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، ولا يجوز جعله خبرا عن «قيار» لأن لام الابتداء لا تدخل على الخبر. وقد جئنا به شاهدا على أنه حذف من الثاني لدلالة ما في الأول عليه.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)اللغة:
(نَكالًا) : قال في المصباح: نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة: أصابه بنازلة. ونكّل به بالتشديد: مبالغة، والاسم: النكال.
الإعراب:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حكم السرقة. والسارق مبتدأ خبره محذوف تقديره:
فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة. أي:
حكمهما. فحذف المضاف الذي هو «حكم»، وأقيم المضاف اليه مقامه، وهو السارق والسارقة، وحذف الخبر وهو الجار والمجرور، لأن الفاء بعده نمنع من نصبه على الاشتغال، كما هي القاعدة، إذ يترجح النصب قبل الطلب، وهي أي: الفاء التي جاءت لشبهه بالشرط تمنع أن يكون ما بعدها الخبر، لأنها لا تدخل عليه أبدا، فلم يبق إلا الرفع. وهذا باب أفرده سيبويه في كتابه، ويرى القارئ خلاصته في باب الفوائد. وهي قراءة الجمهور. وارتأى الأخفش والمبرد وجماعة أن الخبر هو الجملة الأمرية، وهي قوله: «فاقطعوا»، وإنما دخلت الفاء في الخبر لأنه يشبه الشرط، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى: الذي والتي، والصفة صلتها، فهي في قوة قولك: «والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا»، وأجاز الزمخشري ذلك، وإن رجح
بسبب كسبهما، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بجزاء. ويجوز أن تكون ما موصولة، أي: بسبب الذي كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي، والجملة صلة الموصول. ونكالا منصوب كما نصب جزاء، أو هو بدل منه، ومن الله متعلقان بمحذوف صفة ل «نكالا» (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وعزيز خبر أوّل، وحكيم ثان. وسترد قصة طريفة لأحد الأعراب يراها القارئ في باب الفوائد (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط حازم مبتدأ، وتاب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطه للجواب، وإن واسمها، وجملة يتوب خبرها، وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الجملة استئنافية، وإن واسمها وخبراها.
الفوائد:
١- نورد فيما يلي خلاصة الفصل الممتع الذي أورده سيبويه في كتابه لطرافته وفائدته وتوثّب الذهن فيه. قال في باب ترجمته:
«باب الأمر والنهي»، بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار
وأما قوله عز وجل: «والسارق والسارقة فاقطعوا» الآية، وقوله:
«الزانية والزاني فاجلدوا» الآية، فإن هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله تعالى: «مثل الجنة التي وعد المتقون».
ثم قال بعد: «فيها أنهار». كذا يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بيّن فيها اختيار النصب. ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه، فلا يلزم فيه اختيار النصب. ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي بعده، فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال:
ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول هذا على الإضمار، والله أعلم.
وكذلك «الزانية والزاني» كما قال جل ثناؤه: «سورة أنزلناها وفرضناها»، قال: في جملة الفرائض الزانية والزاني، ثم جاء:
«فاجلدوا» بعد أن مضى فيهما الرفع. يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدّم وجاء الفعل طارئا. وعاد كلامه فقال: كما جاء: وقائلة «خولان فانكح فتاتهم» فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك قوله:
«والسارق والسارقة» : وفيما فرض عليكم السارق والسارقة، فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس:
والسارق والسارقة بالنصب، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع. يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على ما تقدم، فكان النصب قويا بالنسبة الى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه؟ والباب مع القراءتين مختلف، وإنما
وإنما لخصنا هذا الفصل مع التعليق عليه، لأن بعض المفسرين ظن أن سيبويه يرجح قراءة النصب من دون هذا التقييد. والملخص من هذا كله: أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر والرفع على وجهين، أحدهما: ضعيف، وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق. وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع وأحدهما قوي والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوي، كما أعربه سيبويه.
الفخر الرازي يرد:
هذا وقد انبرى الفخر الرازي للرد على سيبويه فقال: «والذي ذهب اليه سيبويه ليس بشيء، فيدل على فساده وجوه» وأورد بعد كلام طويل خمسة وجوه، يضيق عن استيعابها صدر هذا الكتاب.
أبو حيان يرد على الرازي:
وقد تصدى أبو حيان للرد على الرازي، ففند بتطويل زائد في تفسيره «البحر المحيط» الوجوه الخمسة التي أوردها، وقال في نهاية المناقشة: «والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنّف
رأي لابن جرير الطبري:
ورأينا لابن جرير الطبريّ تعليلا طريفا في اختيار الرفع ندرجه فيما يلي: يقول جلّ ثناؤه ما معناه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيها الناس يده. ولذلك رفع السارق والسارقة لأنهما غير معينين، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب.
٢- جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة، وهي المعرضة للقطع في السرقة، وللسّرّاق أيد، وللسارقات أيد، كأنه قال: اقطعوا أيمان النوعين. فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين.
٣- روي أن أعرابيا سمع الأصمعي يتلو هذه الآية، فقرأ في آخرها: «والله غفور رحيم» فأنكر الأعرابي أن يكون هذا قرآنا.
قال الأصمعي: فرجعت الى المصحف فاذا هو: «والله عزيز حكيم» فلما قلت ذلك للأعرابي قال: نعم، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. وهذه وثبة من وثبات الذهن العالية.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الرسول، والمقصود به كل أحد، وأنه هو المتصرف الوحيد في شئون التعذيب والغفران لمن يشاء. والهمزة للاستفهام التقريري لما بعد النفي، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتعلم فعل مضارع مجزوم بلم، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي تعلم، وأن واسمها، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، وملك السموات مبتدأ مؤخر، والأرض معطوف على المضاف اليه السموات، والجملة الاسمية خبر أن (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة الفعلية خبر ثان لأن أو حالية، وإنما قدم التعذيب لأن السياق للوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من
في الفساد، وإيغالهم في الضلالة. واسم الإشارة مبتدأ، والذين خبر، وجملة لم
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
اللغة:
(السحت) بضم الحاء وسكونها: الحرام، وما خبث وقبح من المكاسب، فلزم عنه العار، كالرشوة، والجمع أسحات. وكان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام. وترى في باب الفوائد نبذة عنه. ومن عجيب أمر السين والحاء إذا كانتا فاء للكلمة وعينا لها أنها تدل على السحب والتأثير البعيد، فسحب ذيله فانسحب هي أمّ هذا الباب.
ومن مجاز الكلام سحبت الريح أذيالها. وانسحبت فيها ذلاذل الريح، واسحب ذيلك على ما كان مني. ويقولون: ما استبقى الرجل ودّ صاحبه بمثل سحب الذيل على معايبه. ومادة السحت تقدمت، ويقال: سحت الشحم من اللحم قشره، وفلان مسحوت المعدة شره،
الإعراب:
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) سماعون خبر لمبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبله، أو التمهيد لما بعده. وللكذب متعلقان ب «سماعون»، ومثلها:
أكالون للسحت (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الفاء استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لسرد بعض ما يترتب على هذه الأحكام. وإن شرطية، وجاءوك فعل ماض وفاعل ومفعول به، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة طلبية، واحكم فعل أمر، وبينهم ظرف متعلق ب «احكم» وأو حرف عطف للتخيير، وأعرض معطوف على «احكم»، وعنهم متعلقان ب «أعرض»، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) الواو عاطفة، وإن شرطية، وتعرض فعل الشرط مبني للمجهول، وعنهم متعلقان بتعرض، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، ويضروك فعل مضارع منصوب بلن، والواو فاعل، والكاف مفعول به، وشيئا مفعول مطلق والجملة في محل جزم جواب الشرط، (وَإِنْ حَكَمْتَ
الواو عاطفة، وإن شرطية، وحكمت فعل ماض وفاعل، في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، واحكم فعل أمر، وبينهم ظرف متعلق به، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وبالقسط متعلقان بمحذوف حال، أي: عادلا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) إن واسمها، وجملة يحب المقسطين خبرها، والجملة مستأنفة للتعليل.
الفوائد:
روى الحسن قال: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه، فأراها إياه، فيسمع منه ولا ينظر الى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب. وحكي أن عاملا قدم من عمله، فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة، وجعل يحدثهم بما جرى له. فقال أعرابي من القوم: نحن كما قال تعالى: «سمّاعون للكذب أكّالون للسحت». وفي الحديث: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به».
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
(الرَّبَّانِيُّونَ) نسبة الى الرب، على خلاف القياس. ويقال أيضا:
ربّيّ بكسر الراء، وربوبيّ بفتح الراء، وسنورد أشهر الأسماء التي أتت منسوبة على خلاف القياس في باب الفوائد. والرّبانيّ: هو المتألّه المتعبد.
(الْأَحْبارُ) : الفقهاء، واحده حبر، بالفتح والكسر. قال الفرّاء:
الكسر أفصح. وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإنهم يحبرونه ويزينونه. والحبر الأعظم عند المسيحيين: خلف السيد المسيح على الأرض، وعند اليهود رئيس الكهنة.
الإعراب:
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أنه الحق، كما نص على ذلك كتابهم الذي يدعون الإيمان به. وكيف استفهام تعجّبي في محل نصب على الحال، ويحكمونك فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والكاف مفعول به، والواو للحال، وعندهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والتوراة مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال من الواو في يحكمونك
البلاغة:
في هذه الآية فن من فنون البلاغة دقيق المسلك، قلّ من يتفطن اليه لأنه عميق الدلالة، لا يسبر غوره إلا الملهمون الذين أشرقت نفوسهم بضياء اليقين والإلهام، ولم يبوّب له أحد من علماء البلاغة من قبل ولكنه مندرج في سلك الإطناب من علم المعاني، وذلك في
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي | فلقد مدحت قصيدتي بمحمد |
فكيف يتفق هذا مع ما ورد في القرآن لو لم يكن الغرض مدح الصفة بالموصوف، ألا ترى أن أبا الطيب المتنبي نفسه تزحزح عن مقام البلاغة الأسمى في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها | درّ تقاصيرها زبرجدها |
الفوائد:
قواعد النسبة مبسوطة في كتب النحو، ولكن هناك أسماء كثيرة
أنافي: نسبة الى أنف كبير.
أموي: نسبة الى أمية.
بهرانيّ: نسبة الى بهراء، وهي قبيلة من بني قضاعة، كانت مساكنها في سهل حمص، وكانت تدين بالنصرانية شأن جاراتها تنوخ وتغلب.
بدوي: نسبة الى بادية.
بحراني: نسبة الى البحرين.
تهامي وتهام: نسبة الى تهامة.
ثقفي: نسبة الى ثقيف.
جذميّ: نسبة الى جذيمة.
جلولي: نسبة الى جلولاء، وهي مدينة في العراق على طريق خراسان، عند ما انتصر العرب على جيش ملك ساسان.
حروري: نسبة الى حروراء، وهو موضع في العراق، غير بعيد عن الكوفة، اجتمع فيه الخوارج الأولون عند ما جهروا بالخروج على علي بن أبي طالب، فقاتلهم وأبادهم في وقعة النهروان.
حرميّ: بكسر الحاء، نسبة الى الحرمين، أي: مسجدي مكة والمدينة.
حضرميّ: نسبة الى حضرموت.
ديرانيّ: نسبة الى دير.
روحانيّ: نسبة الى روح.
رباني: نسبة الى رب.
رقباني: نسبة الى عظيم الرقبة.
رديني: نسبة الى ردينة، وهو الرمح وردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح.
سليقي: نسبة الى سليقة.
شآم: نسبة الى الشام.
شعراني: نسبة الى كثير الشعر.
صدراني: نسبة الى كبير الصّدر.
صنعاني: نسبة الى صنعاء.
طائيّ: نسبة الى طيّء.
عبديّ: نسبة الى بني عبيدة.
عبشمي: نسبة الى عبد شمس.
عبدريّ: نسبة الى عبد الدار.
يمان: نسبة الى اليمن.
فرهوديّ: نسبة الى فراهيد.
قرشي: نسبة الى قريش.
كنتي: نسبة الى كنت.
لحياني: نسبة الى كبير اللحية.
مروزي: نسبة الى مرو.
نباطي: نسبة الى الأنباط.
ناصري: نسبة الى الناصرة.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
الإعراب:
(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) الواو عاطفة وكتبنا فعل وفاعل، والفعل معطوف على «أنزلنا»، وعليهم متعلقان بكتبنا، والضمير في «عليهم» يعود للذين هادوا، وفيها متعلقان بمحذوف حال، والضمير
وفي قراءة برفع هذه الأربعة على الابتداء والخبر (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) عطف أيضا. وقرىء بالرفع أيضا. والمراد بالجروح ما لا يمكن البتّ في الحكم فيه وأرى أن الأولى في الجروح الرفع ليكون «قصاص» خبره، والتفاصيل في المطولات (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وتصدق فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبه متعلقان بتصدق، والفاء رابطة للجواب، وهو مبتدأ، وكفارة خبر، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويحكم فعل مضارع مجزوم بلم، وهو فعل الشرط، وبما جار ومجرور متعلقان بيحكم، وجملة أنزل الله صلة الموصول، فأولئك الفاء رابطة للجواب، واسم الاشارة مبتدأ، وهم مبتدأ ثان، والظالمون خبره، والجملة الاسمية «هم الظالمون» خبر أولئك، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من».
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)اللغة:
(قَفَّيْنا) قفّى: أتى، وقفى فلان زيدا وبزيد: أتبعه إياه، ويقال: قفّيت على أثره بفلان: أي أتبعته إياه.
بين أبي حيان والزمخشري:
وقد ثارت مناقشة لطيفة بين الزمخشري وأبي حيان، وهذه خلاصتها: قال أبو حيّان على تضمين قفينا معنى جئنا، أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى بن مريم قافيا لهم. وليس التضعيف في «قفينا» للتعدية، وذلك لأن «قفا» يتعدّى لواحد، قال تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم». وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى الى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب، ثم قفينا على آثارهم عيسى بن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني. لكنه ضمن معنى «جاء» وعدّي بالباء، وتعدى «الى آثارهم» بعلى. هذه خلاصة ما قاله أبو حيان، وأطال في هذه المسألة ليرد على الزمخشري ما أعربه إذ قال ما نصه:
«قفيته مثل عقبته إذا أتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه الى الثاني بزيادة الباء، فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟
قلت: هو محذوف، والظرف الذي هو «على آثارهم» كالساد مسدّه، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه».
استطراد أبي حيّان:
واستطرد أبو حيان في الرد على الزمخشري فقال: وكلامه يحتاج الى تأويل، وذلك أنه جعل «قفيّته» المضعف بمعنى «فقوته»، فيكون «فعّل» بمعنى «فعل»، نحو: قدّر الله وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها «فعل». ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد، ولا يجوز. فلا يقال في: طعم زيد اللحم: أطعمت زيدا باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة، تقول: دفع زيد عمرا، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيدا بعمرو، أي جعلت زيدا يدفع عمرا. وكذلك صكّ الحجر الحجر، ثم تقول: صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكّه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف والظرف كالسّاد مسدّه، فلا يتجه. لأن المفعول هو مفعول به صريح ولا يسد الظرف مسده.
الى أن يقول: وقول الزمخشري: «فقد قفى به إياه» فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلا.
الإعراب:
(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ)
وأجاز بعضهم أن يكونا مفعولين لأجلهما، وفيه بعد، لوجود الواو وموعظة عطف على هدى، وللمتقين متعلقان بمحذوف صفة (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر، ويحكم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وأهل الإنجيل فاعل يحكم، وبما متعلقان بيحكم، وفي قراءة سبعية: «وليحكم»، بجعل اللام للتعليل، ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بآتينا أو بقفينا، فيه جار ومجرور متعلقان بيحكم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تكرر إعراب هذه الجملة، وأفاد التكرار معنى التوكيد.
١- التشبيه البليغ، وهو تشبيه الإنجيل بالنور والهدى، وحذف الأداة ليكونا نفس الإنجيل للمبالغة.
٢- التكرار: في الجمل زيادة في التوكيد كما تقدم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
اللغة:
(مُهَيْمِناً) أي: شاهدا ورقيبا على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصّحة والثبات. قال حسان بن ثابت:
إنّ الكتاب مهيمن لنبيّا | والحقّ يعرفه ذوو الألباب |
(شِرْعَةً:) الشرعة بكسر الشين: الدين، والشرع مثله، مأخوذ من الشريعة، وهي مورد الناس للاستسقاء. وسميت بذلك لوضوحها وظهورها. وجمعها شرائع. وشرّع الله لنا كذا يشرعه: أظهره وأوضحه. والمشرعة بفتح الميم والراء: شريعة الماء، قال الأزهري:
ولا تسميها العرب مشرعة حتى يكون الماء عدّا لا انقطاع له، كماء الأنهار، ويكون ظاهرا أيضا، ولا يستسقى منه برشاء. فإن كان من مياه الأمطار فهو الكرع بفتحتين والناس في هذا الأمر شرع بفتحتين، وتسكن الراء للتخفيف: أي سواء.
(مِنْهاجاً) : في المختار: النهج بوزن الفلس: المنهج، أي المذهب. والمنهاج: الطريق الواضح، ونهج الطريق: أبانه، ونهجه أيضا: سلكه، وبابهما قطع. والنهج بفتحتين: تتابع النفس. وفي المصباح: «ونهج الطريق ينهج بفتحتين وضح واستبان، وأنهج بالألف مثله، ونهجته وانتهجته: أوضحته، يستعملان لازمين ومتعديين».
الإعراب:
(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل، وإليك متعلقان بأنزلنا، وبالحق متعلقان بمحذوف حال من الكتاب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) مصدقا حال من الكتاب، ولما متعلقان ب «مصدقا» وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، ويديه مضاف اليه، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
منحرفا، وجملة جاءك صلة، وقيل: تضمن «تتبع» معنى «تنحرف» أو «تتزحزح»، فيتعلق الجار والمجرور به، ومن الحق متعلقان بمحذوف حال من فاعل جاءك، أو من نفس «ما» الموصولة (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كلام مستأنف مسوق لحمل أهل الكتابين من معاصريه على الانصياع لما جاء به. ولكل متعلقان ب «جعلنا»، أو أنه مفعول أول لجعلنا، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للاسم المحذوف الذي ناب عنه تنوين العوض اللاحق ب «لكل «، أي لكل أمة منكم، وشرعة مفعول جعلنا، ومنهاجا عطف على شرعة (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية، ولو شرطية، وشاء الله فعل وفاعل، واللام واقعة في جواب لو، وجملة جعلكم لا محل لها لأنها واقعة جواب شرط غير جازم، وأمة مفعول جعلكم الثاني، وواحدة صفة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) الواو حالية، ولكن حرف استدراك مهمل لأنه مخفف، وليبلوكم اللام للتعليل، ويبلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره: أراد، وفيما متعلقان بيبلوكم، وجملة آتاكم صلة الموصول (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الفاء الفصيحة، أي: إذا تبينتم وجه الحكمة في هذا
ترجعون جميعا (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) الفاء عاطفة على معنى مرجعكم، أي: ترجعون فينبئكم، والكاف مفعول به، وبما متعلقان بينبئكم، وجملة كنتم صلة الموصول، والتاء اسم كان، وجملة تختلفون خبرها.
البلاغة:
في إظهار الضمير بقوله: «الكتاب» بيان لأهميته، وأنه المرجع والملاذ والمعتصم إذا حزب الأمر، وهو داخل في نطاق علم المعاني.
ومنه في الشعر قول البحتري في مطلع سينيته:
صنت نفسي عما يدنس نفسي | وترفعت عن جدا كلّ جبس |
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) الواو مستأنفة، والكلام مستأنف لبيان كيفية الحكم بينهم، وجعلها الزمخشري عاطفة على الكتاب، ولا يخفى ما فيه من بعد، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، ومتعلق الجار والمجرور محذوف، أي:
ووصّيناك بأن احكم، واختار أبو حيّان أن يكون المصدر المؤول مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: وحكمك بما أنزل الله أمرنا وقولنا، أو تقدره بقولك: ومن الواجب حكمك بما أنزل الله، ولا بأس بقوله.
وبينهم ظرف متعلق بمحذوف حال، وبما متعلقان ب «احكم»، وجملة أنزل الله صلة الموصول (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) الجملة معطوفة على «احكم»، ولا ناهية، وتتبع فعل مضارع مجزوم ب «لا»، وأهواءهم مفعول به، واحذرهم عطف أيضا، وأن يفتنوك مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، أي: من أن يفتنوك. ولك أن تجعل المصدر المؤول بدل اشتمال من الهاء في «واحذرهم» لأنهم اشتملوا على الفتنة، وأجازوا أن يكون المصدر مفعولا لأجله، على تقدير لام العلة، ولا النافية، وأرى فيه تكلفا، ولكن كثيرا من المعربين أعربوه كذلك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الجار والمجرور متعلقان بيفتنوك، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة، وجملة أنزل الله صلة، وإليك متعلقان بأنزل (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وتولوا فعل ماض وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، وجملة اعلم في محل جزم جواب الشرط، وأنما كافة ومكفوفة، وهي وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلم، ويريد فعل مضارع، والله فاعل، والمصدر المؤول مفعول يريد، وببعض متعلقان بيصيبهم
البلاغة:
الإبهام في قوله: «ببعض ذنوبهم». والتولّي- على عظمه وجسامته وفداحة التطاول به- واحد منها. والمراد أن لهم ذنوبا كثيرة العدد، والتولي من جملتها وواحد منها. فما أخسر صفقتهم وما أبشع ما اقترفوه. واستعمال «بعض» في الإبهام وارد كثيرا في كلامهم، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها | أو يعتلق بعض النفوس حمامها |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الكلام معطوف على ما تقدم، مسوق لبيان نمط من تعنّتهم، وجريهم على سبيل الباطل. والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟ وحكم مفعول به مقدم لقوله:
«يبغون»، والجاهلية مضاف اليه، ويبغون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وأحسن خبره، ومن الله متعلقان بأحسن، وحكما تمييز، ولقوم متعلقان بمحذوف حال، وقال الجلال وغيره: اللام بمعنى عند، متعلقة بأحسن، أي: عند قوم يوقنون، وجملة يوقنون صفة لقوم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) تقدم إعراب النداء، ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم ب «لا»، والواو فاعل، واليهود مفعول به، والنصارى عطف على اليهود، وأولياء مفعول به ثان، والجملة مستأنفة (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بعضهم مبتدأ، وأولياء بعض خبر، والجملة الاسمية صفة لأولياء أو ابتدائية، ذكرت بمثابة التعليل للنهي (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتولهم فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، فإنه: الفاء رابطة، وان واسمها، ومنهم خبرها، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن واسمها، ولا نافية، ويهدي فعل مضارع، والقوم مفعول به، والظالمين صفة، والجملة تعليلية لا محل لها.
في قوله: «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون» فنّ طريف، وهو فن الإيغال، وفحواه أن يستكمل المتكلّم كلامه قبل أن يأتي بمقطعه، فإذا أراد الإتيان بذلك أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك الكلام. وهو ضربان:
١- إيغال تخيير: كما في هذه الآية، فإن المعنى قد تمّ بقوله:
«ومن أحسن من الله حكما»، ولما احتاج الكلام الى فاصلة تناسب ما قبلها وما بعدها، أتت تفيد معنى زائدا، لولاها لم يحصل، وذلك أنه لا يعلم أن حكم الله أحسن من كل حكم إلا من أيقن أنه واحد حكيم عادل ليبقى توحيده الشريك في الحكم الذي انفرد به، ولم يكن له معارض فيه ولا مناقض له، ويحصل من حكمته وضع الشيء في موضعه فيؤمن منه وضع الحق في غير موضعه، وينفي العدل عنه الجور في الحكم، ثم عدل عن قوله: «يعلمون» الى قوله: «يوقنون» ليكون علمهم بربهم علم قطع ويقين.
الإيغال الاحتياطي في الشعر:
أما الإيغال الاحتياطي في الشعر فهو في القوافي خاصة لا يعدوها، ويسميه بعضهم التبليغ، حكى الحاتميّ عن عبد الله بن جعفر عن محمد ابن يريد المبرّد قال: حدثنى التوزيّ قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيرا، أو يأتي الى المعنى الكبير فيجعله خسيسا، أو ينقض كلامه قبل القافية، فاذا احتاج إليها أفاد بها معنى. قلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى إذ يقول:
كناطح صخرة يوما ليوهنها | فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل |
«الوعل». قلت: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟
قال: لأنه ينحطّ من قنّة الجبل على قرنه فلا يضيره. قلت: ثمّ نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة بقوله:
قف العيس في أطلال ميّة واسأل | رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل |
أظن الذي يجدي عليك سؤالها | دموعا كتبديد الجمان المفصّل |
إذا ماجرى شأوين وابتل عطفه... تقول: هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين، ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد «الأثأب» إيغالا في صفته، وهو شجر للريح في أضعاف غصونه حفيف عظيم وشدّة صوت. وأتبعه زهير ابن أبي سلمى فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل | نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم |
غرّاء فرعاء مصقول عوارضها | تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل |
إذا ما علت منّا ذؤابة شارب | تمشّت به مشي المقيّد في الوحل |
٢-
إيغال احتياط:
وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يقطعه، فإذا أراد الإتيان بذلك أتى بما يفيد معنى زائدا تتمة للمبالغة، كقوله تعالى:
«ولا تسمع الصم الدعاء»، ثم علم عز وجل أن الكلام يحتاج الى فاصلة تماثل مقاطع ما قبلها وما بعدها فأتى بها تفيد معنى زائدا على معنى الكلام حيث قال: «إذا ولّوا مدبرين». فإن قيل: ما معنى مدبرين؟ وقد أغنى عنها ذكر التولي؟ قلنا: ذلك لا يغنى عنها، إذ التولي قد يكون بجانب دون جانب، كما يكون الإعراض. وسيأتي المزيد منها عند الكلام على سورة النمل إن شاء الله تعالى.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)اللغة:
(دائِرَةٌ) : الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وفرق الراغب في مفرداته: بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط، ثم عبّر بها عن الحادثة، وإنما تقال في المكروه، والدولة في المحبوب. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي موالي من يهود، كثيرا عددهم، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولايتهم، وأوالي الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ:
إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. وهم يهود بني قينقاع.
(حَبِطَتْ) أي بطلت التي كانوا يتكلفونها في رأي الناس.
الإعراب:
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) يجوز أن تكون الفاء استئنافية، والكلام مستأنفا مسوقا لبيان كيفية ولائهم ولسببه
ويقول الذين فعل مضارع وفاعل، وجملة آمنوا صلة الموصول، وقرىء بنصب «يقول» عطفا على «أن يأتي»، وقرىء من دون واو، فهي
البلاغة:
في قوله تعالى: «حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» فن سماه قدامة الإغراب والطرفة. وهو على ثلاثة أقسام:
١- قسم يكون الإغراب منه في اللفظ، وهو كثير.
٢- قسم يكون الإغراب منه في المعنى، كقول المتنبي:
يطمّع الطير فيهم طول أكلهم | حتى تكاد على أحيائهم تقع |
والآية الكريمة منه، فإن لقائل أن يقول: إن لفظة «أصبحوا» في الظاهر حشو لا فائدة فيه، فإن هؤلاء المخبر عنهم بالخسران قد أمسوا في مثل ما أصبحوا، ومتى قلت: أصبح العسل حلوا، كانت لفظة «أصبح» زائدة من الحشو الذي لا فائدة فيه، لأنه أمسى كذلك.
وقد تحيل الرمانيّ لهذه اللفظة في تأويل تحصل به الفائدة لجليلة التي لولا مجيئها لم تحصل، وهي أنه لما قال: لما كان العليل الذي قد بات مكابدا آلاما شديدة تعتبر حاله عند الصباح، فاذا أصبح مفيقا مستريحا من تلك الآلام رجي له الخير، وغلب على الظنّ برؤه وإفاقته من ذلك المرض، وإذا أصبح كما أمسى تعيّن هلاكه، بجريان العادة بهيجان الإعلال في الليل وسكونه عند الصباح. وشبهت حال الأشقياء بالعليل الذي أصبح من الألم على ما أمسى، فهو ممن ييئس من إصلاحه، وعلى هذا تكون لفظة «فأصبحوا» قد أفادت معنى حسنا جميلا، وخرجت عن كونها حشوا غير مفيد. ولما أخبر الله سبحانه بأنه حبطت أعمالهم علم بالقطع أنهم أصبحوا خاسرين، فلفظة «أصبحوا» لا يصلح غيرها في موضعها، ولا يتم المعنى إلا بها. وما مثّل به الرماني من قوله: «أصبح العسل حلوا وقد أمسى كذلك» إنما يقال هذا في الأمور الواقعة في دار الدنيا، لأن زمانها فيه صباح ومساء، فلما أصبح فيه على الحال التي يمسي عليها فذكر الصباح فيه والمساء حشو لا فائدة فيه، وأما يوم القيامة الذي لا مساء فيه فإن تمثيله بما أصبح في الزمن الذي يصاحبه مساء تمثيل غير مطابق له.
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان حال المرتدين على الإطلاق. وقد تقدم اعراب النداء كثيرا. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويرتد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون وحرك بالفتحة لخفتها كما تقدم في قاعدة المضعّف، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، وقرىء «يرتدد» بفكّ الإدغام. وعن دينه متعلقان بيرتد، والفاء رابطة لجواب الشرط، وجملة سوف يأتي الله في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من»، ويأتي الله فعل وفاعل، وبقوم متعلقان بيأتي، وجملة يحبهم صفة لقوم، وجملة يحبونه عطف على جملة يحبهم. وفي محبة الله للعبد، وجب العبد لله، أبحاث شيقة اشتجر حولها الخلاف، وليس هذا مقام بحثها، فليرجع إليها القارئ في المطوّلات (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أذلة صفة ثانية لقوم، وعلى المؤمنين متعلقان بأذلة، وهو صفة مشبهة، وأعزة صفة ثالثة، وعلى الكافرين متعلقان بأعزّة (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) جملة يجاهدون صفة رابعة لقوم، وجملة ولا يخافون عطف على جملة يجاهدون، فهي بمثابة صفة خامسة (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة،
يحبهم ويحبونه، وجملة يؤتيه خبر ثان، ولك أن تجعلها مستأنفة، والهاء مفعول به أول ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان ليؤتيه، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وواسع خبر أول، وعليم خبر ثان.
البلاغة:
١- محبة العبد لله بطاعته له، وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبّب بالسبب.
٢- الطباق بين أذلة وأعزّة.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
الإعراب:
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لتقرير الحكم فيمن يوالي الله ورسوله والمؤمنين. وإنما كافة ومكفوفة، ووليكم خبر مقدم، والله مبتدأ مرفوع ويجوز العكس، ورسوله
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) كلام مستأنف مسوق لخطاب بعض المؤمنين وتحذيرهم من المنافقين.
وقد تقدم إعراب كلمة النداء، ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والذين مفعول به، وجملة اتخذوا صلة الموصول، ودينكم مفعول به أول، وهزوا مفعول به ثان، ولعبا عطف على «هزوا» (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) من الذين الجار والمجرور حال من الموصول الأول، أو من فاعل اتخذوا، وجملة أوتوا صلة، وأتوا فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والكتاب مفعول به ثان، ومن قبلكم متعلقان بأتوا، والكفار معطوف على الذين أوتوا، وقرىء بالجر عطفا على الموصول المجرور بمن. قال مكّي: لولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى. وأولياء مفعول به ثان لتتخذوا (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها، ومؤمنين خبر كنتم، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، أي فاتقوا الله (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) الواو عاطفة، على صلة الذين الواقع مفعولا به، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة ناديتم في محل جر بالإضافة، والى الصلاة متعلقان بناديتم، وجملة اتخذوها لا محل
[سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
اللغة:
(تَنْقِمُونَ) : مضارع نقم، وفيه لغتان: الفصحى حكاها ثعلب في فصيحه: نقم بفتح القاف ينقم بكسرها، والأخرى: نقم بكسر القاف ينقم بفتح القاف، حكاها الكسائي. ومعناه تسخطون وتكرهون، وقيل: تنكرون. قال عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
ما نقموا من بني أمية إلّا | أنّهم يحلمون إن غضبوا |
(قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة أهل الكتاب من بني إسرائيل. وقل: فعل أمر، ويا حرف نداء، وأهل الكتاب منادى مضاف (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) الجملة مقول القول،
وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون. ويحتمل أن يكون محله الجر عطفا على الله، أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله، وبما أنزل، وبأن أكثركم فاسقون.
البلاغة:
في هذه الآية فن طريف، وهو توكيد المدح بما يشبه الذم.
وهو فنّ ذائع الشهرة، ولكنه قليل الأمثلة. ولم أجد منه في القرآن إلا هذه الآية، فإن الاستثناء بعد الاستفهام الجاري مجرى التوبيخ
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
فذكر أداة الاستثناء، وهي «بيد» الموازنة ل «غير» وزنا ومعنى قبل ذكر ما بعدها، ثم التعقيب بصفة مدح أخرى وهي كونه من قريش التي هي أفصح العرب، تزيد تأكيد المعنى حسنا. وقال النابغة منه:
فتى كملت أوصافه غير أنه | جواد فما يبقي على المال باقيا |
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
(قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة اليهود بما يليق بتحديهم وتعنتهم وإيغالهم في الكفر.
وقل فعل أمر، والجملة الاستفهامية مقول القول، وهل حرف استفهام، وأنبئكم فعل مضارع في محل نصب، والكاف مفعوله الأول، وبشرّ جار ومجرور متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني، ومن ذلك جار ومجرور متعلقان ب «شرّ»، لأنه اسم تفضيل، ومثوبة تمييز لشر، وهو تمييز نسبة، لأن الشر واقع على الأشخاص، وسيأتي مزيد من التفصيل في باب البلاغة. وعند ذلك متعلقان بمحذوف حال (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) من اسم موصول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، فإنه لما قال: هل أنبئكم بشر من ذلك؟ فكأن قائلا قال: من ذلك؟
فقيل: هو من لعنه الله، والجملة لا محل لها لأنها مفسرة ويجوز أن يكون محل «من» الجر على البدلية من «شر»، وجملة لعنه الله لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة غضب عليه عطف على الصلة (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الواو عاطفة، وجعل عطف على لعنه الله، ومنهم متعلقان بمحذوف مفعول به أول، والقردة هو المفعول الثاني، والخنازير عطف على القردة، وعبد فعل ماض وهو عطف على صلة «ما»، كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت، حذف الموصول وأقيمت الصفة مقامه (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) الجملة مفسرة لا محل لها، واسم الإشارة مبتدأ، وشر خبر، ومكانا تمييز، وأضل عطف على شر، وعن سواء السبيل متعلقان بأضلّ.
اشتملت هذه الآية على ضروب من أنواع البلاغة ندرجها فيما يلي:
١- المجاز المرسل في قوله: «مثوبة»، والعلاقة الضدية، مثل: «فبشرهم بعذاب أليم». والمراد بهذا المجاز التهكم. ومجمل المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم لعبا ولهوا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار: هل أنبئكم بشرّ من أهل ذلك الذي تنقمونه منا، وشر من مثوبته؟ أي: عقابه. وقد أخرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، وإلا فلا شركة بين المؤمنين وبينهم في أصل العقوبة، حتى يقال: إن عقوبة أحد الفريقين شرّ من عقوبة الآخر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شرّ فقيل لهم: هبوا الأمر كذلك، ولكن لعنة الله تعالى وغضبه، والإبعاد عن رحمته، والطرد من ساحة رضاه، ومسخ الصورة الى أقبح أنواع الحيوان وأرذله شرّ من ذلك الذي تزعمون أنه شر، وأنت تعرف ما لنوعي القردة والخنازير من الخسة والحقارة، وما لهما في صدور الدهماء والخاصة من القبح والتشويه وشناعة المنظر، ونذالة النفس، وحقارة القدر، ووضاعة الطبع، وسماجة الشكل والخلق، وقبح الصوت ودناءة الهمة، مما ليس لغيرهما من سائر أنواع الحيوان.
٢- التهكم- وقد انطوى في المجاز المرسل. وتقدم الكلام على التهكم مفصلا.
٣- المجاز المرسل: في قوله: «شر مكانا»، وعلاقته المحلية.
فقد ذكر المكان وأراد أهله، وقد تقدم أيضا.
قد تقول: إنه لا بد في اسم التفضيل من مفضّل ومفضل عليه، فكيف يقال: إنهم شر من المؤمنين، والمؤمنون لا شر عندهم البتة؟
والجواب أنه جاء على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه، تبكيتا له ومناداة عليه بالحجة الدامغة، أو أنه خاص بالكفار، وهم طبقات متفاوتة في نسبة الشر إليها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
الإعراب:
(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب النبي ﷺ ومن معه، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاءوكم في محل جر بالإضافة، وجاءوكم فعل وفاعل ومفعول به، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) الواو حالية، وقد حرف تحقيق، وجملة دخلوا في محل نصب حال من الواو في «قالوا»، وبالكفر جار ومجرور
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
(لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) كلام مستأنف مسوق للتحضيض والتخويف للعلماء والأحبار منهم لصدوفهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها تعميم لتوبيخ العلماء من كل أمة وملة لهذه الخلة الشائنة، ولذلك قال ابن عباس:
هذه أشد آية في القرآن، يعني في حقّ العلماء لتهاونهم في النهي عن المنكرات. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. ولولا أداة للتحضيض بمعنى «هلّا»، وينهاهم الربانيون فعل مضارع ومفعول به وفاعل، والأحبار عطف على قوله: «الربانيون»، وعن قولهم متعلقان بينهاهم، والإثم مفعول به ل «قول»، وأكلهم معطوف على قولهم، والسحت مفعول به لأكل (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) تقدم إعرابها قريبا، والعمل لا يقال فيه: صنع، إلا إذا صار عادة وديدنا (وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) الواو استئنافية، وقالت اليهود فعل وفاعل، ويد الله مبتدأ، ومغلولة خبر، والجملة في محل نصب مقول القول (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) الجملة دعائية معترضة، وغلت فعل ماض مبني للمجهول، وأيديهم نائب فاعل، ولعنوا عطف على غلت أيديهم (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) بل حرف إضراب وعطف، ويداه مبتدأ، ومبسوطتان خبر، والجملة
البلاغة:
حفلت هذه الآية بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي:
١- المجاز المرسل في غلّ اليد وبسطها عن البخل والجود، وعلاقة هذا المجاز السببية، لأن اليد هي سبب الإنفاق، والفائدة من هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالبا. وجعل بعضهم قوله: «بل يداه مبسوطتان» استعارة، فالمستعار البسط، والمستعار منه يد المنفق، والمستعار له يد الحق، وذلك ليتخيّل السامع أن ثم يدين مبسوطتين بالإنفاق، ولا يدان في الحقيقة ولا بسط.
أثر حاسة البصر: وذلك لأن التصوير الحسي يجعلها أرسخ في الذهن، وأكثر تأثيرا. وحاسة البصر هي في مقدمة الحواسّ المقدرة للجمال، والتي تدركه وتنقله الى النفس، وبهذا الصدد يقول «جوير» الناقد العصري المعروف: إن الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتمّ وجه هي الإحساسات البصرية. حتى لقد ذهب «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي الى أبعد من ذلك، فعرّف الجمال بقوله: هو ما يروق في العين. ولما كان الجود والبخل معنويين لا يدركان بالحسّ وتلازمهما صورتان تدركان بالحس، وهما بسط اليد للجود، وغلها للبخل، عبّر عنهما بلازمهما، لفائدة الإيضاح والانتقال الى المحسوسات من المعنويات.
٢- المشاكلة: بقوله: «غلت أيديهم» فقد دعا عليهم بما
بقّيت وفري وانحرفت عن العلا | ولقيت أضيافي بوجه عبوس |
٣- التنكيت: بقوله: «بل يداه مبسوطتان». وكان السياق يقتضي أن يقول: يده مبسوطة، فإنهم عبروا عنها بالمفرد بقولهم:
«يد الله مغلولة» ولكنه عدل عن المطابقة لنكتة تدق على الأفهام البدائية، وهي نفي الجسمية عنه سبحانه، لأنهم أرادوا أنه يعطي بيده، والمرء لا يعطي بكلتا يديه، فردّ عليهم مبطلا أن يكون له شيء مما هو جسم معروف، له يد يمنى ويد يسرى. فلما أثبت أن كلتيهما يد نفى الجسمية، لأن كلتيهما متساوية في الكرم والعطاء.
٤- الكناية: في إيقاد الحرب عن الحرب واشتعالها.
٥- الطباق: بين الإيقاد والإطفاء.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان حالهم في الآخرة. ولو شرطية غير جازمة، وأن واسمها وخبرها في محل رفع فاعل لفعل محذوف، وقد تقدم الحديث عن ذلك. وجملة آمنوا خبر «أن» وجملة اتقوا عطف على جملة آمنوا (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) اللام واقعة في جواب «لو» وكفرنا فعل وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وعنهم متعلقان بكفرنا، وسيئاتهم مفعول به، وجملة ولأدخلناهم عطف على جملة لكفرنا. وجنات مفعول به ثان على السعة، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بأدخلناهم، والنعيم مضاف اليه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٦]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
الإعراب:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) الواو استئنافية، وأنهم أقاموا التوراة والإنجيل: تقدم إعرابها قريبا، وما عطف على التوراة والإنجيل، وجملة أنزل صلة الموصول، وأراد بالموصول غيرهما من الكتب، ككتاب أشعيا وكتاب دانيال وزبور
البلاغة:
في هذه الآية حذفان بليغان، داخلان في نطاق المجاز الذي هو عنصر البلاغة وإكسيرها، وهما:
١- حذف المضاف في قوله: «أقاموا التوراة والإنجيل» والمراد أحكام التوراة والإنجيل وحدودهما، وما انطوى تحتهما من أحكام بالغة، وعبر شائعة.
٢- حذف المفعول به، واللطائف فيه تتجدد دائما. وقوله تعالى: «لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم» بالغ أبعد آماد البلاغة، فمفعول «أكلوا» محذوف لقصد التعميم أو للقصد الى نفس الفعل، كما في قولهم: «فلان يحل ويعقد، ويبرم وينقض، ويضر وينفع»، والأصل في ذلك كله على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على الإطلاق. وفي الحذف الذي بصدده ثلاثة أوجه:
ب- وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة.
ج- وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، يجنون ما تهدّل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) تقدم إعرابها (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) كلام مستأنف مسوق للتسرية عن النبي ﷺ لما ضاق ذرعه بالدعوة. وبلغ فعل أمر، وفاعله أنت، وما مفعول به، وجملة أنزل صلة الموصول، وإليك متعلقان بأنزل، ومن ربك متعلقان بمحذوف حال (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الواو استئنافية، وإن شرطية، ولم تفعل فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، وما نافية، وجملة بلغت في محل جزم جواب الشرط، وفي اتحاد الشرط والجواب سرّ بديع، سوف نبسطه في باب البلاغة، ورسالته مفعول به (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يعصمك خبره، ومن الناس متعلقان بيعصمك (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إن واسمها، وجملة لا يهدي خبرها، والقوم مفعول به، والظالمين صفة.
في اتحاد الشرط والجواب سرّ منقطع النظير، وذلك أنه لا بدّ أن يكون الجزاء مغايرا للشرط لتحصل الفائدة. ومتى اتحدا اختل الكلام لأنه يئول ظاها الى: وان لم تفعل فما فعلت، ولكنه أراد هنا أن يتحدا، لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس، مستقرّ في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، ولأن عدم نشر العلم من العالم أمر يستوجب المذمة، فما بالك بالرسالة؟ فجعل الجزاء عين الشرط ليتضح مدى الاهتمام بالتبليغ. وقيل أيضا في هذا الصدد:
أي إن تركت شيئا فقد تركت الكل، وصار ما بلغته غير معتدّ به، فصار المعنى: وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
الإعراب:
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) كلام مستأنف مسوق لنفي تخرّ صاتهم بأنهم يتبعون التوراة. وقل فعل أمر، ويا أهل الكتاب منادى مضاف، ولستم: فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، وعلى شيء
البلاغة:
التنوين في «شيء» يفيد التقليل والتحقير، أي: لستم على شيء يعتدّ به حتى تقيموا أحكام التوراة والإنجيل.
الفوائد:
(لَسْتُمْ) حذفت عين «ليس» وهي الياء، لالتقاء الساكنين، أي: الياء والسين، إذ أصله: ليس بكسر الياء، ثم سكنت الياء
[سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
اللغة:
(الصَّابِئُونَ) من صبأ، أي: خرج عن دينه، وهم قوم كانوا يعبدون الكواكب، مقرهم في حرّان بين النهرين، خرج منهم علماء وفلاسفة ومنجمون، ومنهم الكاتب الشاعر أبو إسحق الصابىء.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان المؤمنين بالله والعاملين عملا صالحا. وإن واسمها، وجملة آمنوا صلة الموصول، والذين هادوا عطف على الذين آمنوا (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الواو استئنافية، والصابئون رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في «إنّ» من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك. هذا ما رجّحه سيبويه في مخالفة الإعراب، وأنشد شاهدا له:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم | بغاة ما بقينا على شقاق |
الفوائد:
قدّمنا الوجه المختار الذي ذهب إليه الخليل وسيبويه ونحاة البصرة في إعراب «والصابئون»، وهناك أوجه أخرى نوردها فيما يلي باقتضاب:
آ- إن الواو عاطفة، والصابئون معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول «إن» كان في موضع رفع، وهذا مذهب الكسائي والفراء.
ج- أن تكون «إن» بمعنى نعم، أي: حرف جواب، وما بعده مرفوع بالابتداء، فيكون «والصابئون» معطوفا على ما قبله.
ما يقوله ابن هشام:
وتخريج ابن هشام للآية يتلخص بأمرين:
آ- إن خبر «إن» محذوف، أي: مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ وما بعده الخبر، ويشهد له قوله:
خليليّ هل طبّ فإني وأنتما | وإن لم تبوحا بالهوى نفان |
ب- الخبر المذكور ل «إن»، وخبر «الصابئون» محذوف، ويشهد له قوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله | فإني وقيار بها لغريب |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)الإعراب:
(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان نماذج أخرى من جناياتهم التي تنادي باستبعاد الإيمان منهم. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأخذنا فعل وفاعل، وميثاق مفعول به، وبني إسرائيل مضاف اليه، (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا) الواو حرف عطف، وأرسلنا فعل وفاعل، وإليهم متعلقان بأرسلنا، ورسلا مفعول به (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه المحذوف، أي: عصوه، وجاءهم فعل ومفعول به مقدم، ورسول فاعل مؤخر، وبما متعلقان بجاءهم، وجملة لا تهوى أنفسهم صلة الموصول (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) فريقا مفعول مقدم لكذبوا، وفريقا الثانية مفعول مقدّم ليقتلون، والجملة مستأنفة نشأت عن جواب سؤال ناشىء عن الجواب الأول، كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر، وفريقا آخر منهم قتلوهم (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الواو عاطفة، وحسبوا فعل وفاعل، وأن حرف مصدري ونصب، ولا نافية، فتكون فعل مضارع تام منصوب بأن، وفتنة فاعل، وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي حسبوا. وقرىء برفع «تكون»
البلاغة:
في الآية نوع من الالتفات البليغ بقوله: «فريقا كذبوا وفريقا يقتلون»، وهو التفات من الإخبار بالفعل الماضي الى الإخبار بالفعل المضارع، وهذا من أدقّ الأمور، ولا يتاح في الاستعمال إلا للعارف برموز الفصاحة والبلاغة.
وقد طفح القرآن الكريم به، فقد جاء بالفعل الماضي أولا فقرر أمرا وقع ثم جاء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الصورة الشنيعة للتعجب منها واستخلاص العبرة من مطاويها.
وسيرد منه في القرآن الشيء العجيب، وعلى هذا ورد قول تأبط شرّا:
بأنّي قد لقيت الغول تهوي | بسهب كالصحيفة صحصحان |
فأضربها بلا دهش فخرّت | صريعا لليدين وللجران |
[سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
الإعراب:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجملة القسم مستأنفة. وكفر الذين فعل وفاعل، والجملة لا محلّ لها لأنها جواب قسم محذوف، وجملة قالوا لا محل لها لأنها صلة الذين، وجملة إن الله في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، وهو مبتدأ، والمسيح خبر هو، والجملة
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
(يُؤْفَكُونَ:) يصرفون.
الإعراب:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) الجملة مستأنفة، واللام جواب قسم محذوف، وجملة كفر الذين قالوا: لا محل لها لأنها جواب القسم، وجملة قالوا صلة الموصول، وإن واسمها، وثالث ثلاثة خبرها، والجملة المصدّرة بأن في محل نصب مقول القول (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) الواو حالية، وما نافية، ومن حرف جر زائد، وإله مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا، والخبر محذوف، أي موجود، وإله بدل من الضمير فيه، وإلا أداة حصر. وقد مرّ هذا الإعراب مفصلا في كلمة الشهادة، والمعنى: والحال ما إله كائن أو موجود إلا إله واحد (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) الواو استئنافية، وإن شرطية، ولم ينتهوا فعل الشرط، وعما متعلقان بينتهوا، وجملة يقولون صلة الموصول (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف ويمسّن فعل مضارع مبني على الفتح، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، والذين مفعول به، وجملة كفروا صلة الموصول، ومنهم متعلقان بمحذوف حال، وعذاب أليم فاعل، وجواب الشرط محذوف سد مسده جواب القسم لأن التقدير: ولئن لم ينتهوا، والقاعدة أنه إذا اجتمع شرط وقسم
مضت وفنيت، والرسل فاعل (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الواو عاطفة، وأمه مبتدأ، وصديقة خبر، وجملة كانا مفسرة لا محل لها. وألف الاثنين اسم كان، وجملة يأكلان خبر كانا، والطعام مفعول به (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الجملة استئنافية، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال، والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول انظر، وقد علقت «كيف» «انظر» عن العمل لفظا فيما بعدها، ونبين لهم الآيات فعل وفاعل مضمر ومفعول به، وثم حرف عطف للترتيب والتراخي، والمعنى أن بيان هذه الآيات كان عجبا وإعراضهم عنها وصدوفهم عن التأمل فيها كان أعجب، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف، في محل نصب على الحال، ويؤفكون فعل مضارع والواو نائب فاعل.
البلاغة:
في قوله: «كانا يأكلان الطعام» كناية عن أنهما، صلوات الله
٢- التكرير في قوله: «انظر» أولا، ثم قال: «ثم انظر» ثانيا. وفي ذلك دليل على الاهتمام بالنظر والتدبر، وإن اختلفت النظرتان، فالأولى متعلقة بكيفية إيضاح الله لخلقه الآيات، والثانية متعلقة بانصرافهم عنها، وصدوفهم عن التأمل في مراميها وأهدافها.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
(لا تَغْلُوا) : لا تتجاوزوا الحدّ، والغلاء هو الارتفاع. قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته:
أو منعتم ما تسألون فمن حدّ | ثتموه له علينا الغلاء |
فلان يهوى، إلا أنه يقال: يحب الخير». والهاء مع الواو إذا كانتا فاء للكلمة وعينا لها دلتا على معنى السقوط والانحدار الى جانب، يقال: هوى من الجبل، وهوت الدلو من البئر هويّا بفتح الهاء، وطاح في المهواة والهاوية، وهي ما بين الجبلين، وتهاووا فيها: تساقطوا، وهذه هوة عميقة، «وأمه هاوية» وجلست عنده هويا، أي: مليا، ومضى هوي من الليل، و «استهوته الشياطين». ومن المجاز قولهم للجبان: إنه الهواء، أي: خالي القلب من الجرأة، وقد تشبث شوقي بهذه الطرافة اللغوية فقال:
فاتقوا الله في قلوب العذارى | فالعذارى قلوبهنّ هواء |
وهذا كله من خصائص لغتنا الشريفة.
(قُلْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي ﷺ بتبكيتهم وإلزامهم بالحجة. وقل فعل أمر، والهمزة حرف استفهام توبيخي تعجبيّ، وجملة أتعبدون في محل نصب مقول القول، ومن دون الله متعلقان بمحذوف حال، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به واختار بعضهم أن تكون نكرة موصوفة، وجملة لا يملك صلة على الأول لا محل لها أو في محل نصب صفة، ولعل هذا أولى. ولكم متعلقان بيملك، وضرا مفعول به ليملك، ولا نفعا عطف على «ضرا» (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو حالية، والرابط بين الحال وصاحبها هو الواو، ومجيء الحال بعد هذا الكلام مناسب لمقتضى الحال، والله مبتدأ، وهو ضمير فصل لا محل له، أو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، والسميع العليم خبران ل «الله» أو ل «هو»، وقد تقدمت نظائره (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) جملة القول استئنافية، وما بعدها في محل نصب مقول القول، ولا ناهية، وتغلوا فعل مضارع مجزوم بلا، وفي دينكم متعلقان بتغلوا، وغير الحق صفة لمفعول مطلق، أي: غلوا غير الحق، ويصح كونه حالا من ضمير الفاعل، وهو الواو، أي: مجاوزين الحق، وقيل: إن النصب على الاستثناء المتصل، وقيل: على المنقطع (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً) الواو عاطفة، ولا ناهية، تتبعوا فعل مضارع مجزوم ب «لا» وأهواء مفعول به، وقوم مضاف اليه، وجملة قد ضلوا صفة لقوم، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بضلوا، وبنيت قبل على الضم لانقطاع الظرف عن الإضافة لفظا لا معنى، وأضلوا
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
الإعراب:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الكلام مستأنف، ولعن فعل ماض مبني للمجهول، والذين نائب فاعل، وجملة كفروا صلة الموصول، ومن بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وعلى لسان متعلقان بلعن، وفي إفراد اللسان بحث شيق سيأتي في باب الفوائد، وداود مضاف إليه، وعيسى عطف على داود، وابن بدل أو نعت، ومريم مضاف اليه (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) اسم الإشارة مبتدأ، وبما جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، أي: بسبب عصيانهم، والجملة استئنافية، ويجوز في «ما» أن تكون موصولة، وعلى كل حال جملة عصوا لا محل لها من الإعراب، وجملة كانوا عطف على عصوا، منتظمة في حكمها، والواو اسم كان، وجملة يعتدون خبرها (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة للمعصية والاعتداء، وكان واسمها، وجملة لا يتناهون خبرها، وعن منكر متعلقان بيتناهون، وجملة فعلوه صفة لمنكر
البلاغة:
انطوى توبيخ اليهود على الإخبار بأمرين غاية في القبح والسماجة، أولهما: ما كانوا يجترحونه من المناكر، والثاني صدوفهم عن التناهي عن هذه المناكر، وعدم الجنوح إليها في المستقبل، وقد دل على ذلك قوله تعالى: «فعلوه»، فلولا ذكرها لتوهّم متوهم أن النهي عن المنكر عند استحقاق النهي عنه والإشراف على تعاطيه، فانتظم ذكرها الأمرين معا بوجه بليغ وأسلوب رفيع، هو الذروة في البلاغة. وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يجترحه من المنكر، كما هو المتبادر والمشهور لصيغة التفاعل، بل المراد مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة، من غير اعتبار أن يكون كل واحد ناهيا ومنهيّا، فكان الإخلال بالتناهي بعد الأمر به معصية.
الفوائد:
القاعدة تقول: إن كل جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا الى كليهما من غير تفريق جاز فيهما ثلاثة أوجه:
١- لفظ الجمع تقول: قطعت رؤوس الكبشين.
٣- لفظ الإفراد تقول: قطعت رأس الكبشين.
وقوله في الآية على لسان داود وعيسى بالإفراد دون التثنية والجمع.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
الإعراب:
(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة النبي بشأن بني إسرائيل الذين يوالون الكفار من أهل مكة.
وترى فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، وكثيرا مفعول به، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا»، وجملة يتولون في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا بصرية، والذين مفعول به، وجملة كفروا صلة الموصول (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مضمر فسرته كلمة «ما» و «ما» نكرة تامة في محل نصب على التمييز، ويجوز أن تكون «ما» موصولة في محل رفع فاعل، وجملة الذم لا محل لها لأنها جواب
[سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
اللغة:
(قِسِّيسِينَ) : جمع قسّيس، بكسر القاف وتشديد السين، المكسورة، بمعنى القسّ بفتح القاف وتشديد السين، وهو من كان
وقال الراغب: قسيسين جمع قسيس، على فعيّل، وهو مثال مبالغة كصدّيق، وهو هنا رئيس النصارى وعالمهم. وأصله من تقسّس الشيء إذا اتبعه وتطلّبه بالليل، يقال تقسّست أصواتهم أي: تتبّعتها بالليل. وقال غيره: القسّ بفتح القاف: تتبّع الشيء، ومنه سمي عالم النصارى قسيسا لتتبعه العلم، ويقال: قسّ الأثر وقصّه بالصاد أيضا، ويقال: قس وقس بفتح القاف وكسرها وقسيس. فأما قسّ بن ساعدة الإيادي بضم القاف فهو علم، ويجوز أن يكون ما غيّر عن طريق العلمية، ويكون أصله قس أو قس بفتح القاف وكسرها، وكان أعلم أهل زمانه.
(رُهْباناً) يكون واحدا وجمعا، فأما إذا كان جمعا فإن واحدهم يكون راهبا، ويكون الراهب حينئذ فاعلا من قول القائل: رهب الله فلان بمعنى خافه يرهبه رهبا بفتحتين ورهبا بفتح الراء وسكون الهاء، ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول كثير عزّة:
رهبان مدين والذين عهدتهم | يبكون من حذر العذاب قعودا |
لو يسمعون كما سمعت كلامها | خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا |
لو عاينت رهبان دير في القلل | لانحدر الرهبان يمشي ونزل |
ولست بمأخوذ بلغو تقوله | إذا لم تعمّد عاقدات العزائم |
ويوم تثنّت للوداع وسلّمت | بعينين موصول بلحظهما السحر |
توهمتها ألوى بأجفانها الكرى | كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر |
جزى الله عنّي غالبا من عشيرة | إذا حدثان الدهر نابت نوائبه |
فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت | عليّ وموج قد علتني غواربه |
ونحب هنا أن نستدرك فنقول ليس كل تكرير حسنا، فبعضه يكون غثا كقول أبي الطيب المتنبي من قصيدته البديعة التي يقول في مطلعها:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن | يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن |
العارض الهتن ابن العارض ال | هتن العارض الهتن ابن العارض الهتن |
وإنّ الذي بيني وبين بني أبي | وبين بني عمي لمختلف جدا |
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم | وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم | وإن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا |
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
اللغة:
(لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : ليختبرن طاعتكم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) كلام مستأنف مسوق لاختبارهم بالنسبة لما يفهم العباد، أما حقيقة الاختبار فمحال في حقه تعالى، وليبلونكم اللام جواب لقسم محذوف، أي: والله ليبلونكم، فيبلون فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والله فاعله، وبشيء متعلقان بيبلونكم، ومن الصيد متعلقان بمحذوف صفة لشيء وجملة يبلونكم لا محل لها لأنها جواب القسم المحذوف (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) الجملة صفة لشيء، وأيديكم فاعل تناله، ورماحكم عطف على أيديكم، واللام للتعليل، ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والله فاعل يعلم، ومن اسم موصول مفعول يعلم، وجملة يخافه لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبالغيب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل يخاف، أي: يخاف الله حالة كونه غائبا عن الله، أو من المفعول به، أي يخاف الله حال كونه متلبسا بالغيب (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم، واعتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبعد ذلك الظرف متعلق باعتدى، واسم الاشارة مضاف اليه، فله الفاء رابطة للجواب، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعذاب مبتدأ مؤخر، وأليم صفة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من».
البلاغة:
في قوله: «بشيء من الصيد» تقليل واحتقار لهذا الابتلاء،
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
(حُرُمٌ) : جمع حرام. والحرام يستوي فيه المذكر والمؤنث.
تقول: هذا رجل حرام، وهذه امرأة حرام، فإذا قيل: محرم قيل للمرأة: محرمة، والإحرام هو الدخول فيه، يقال: أحرم القوم إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم. فتأويل الكلام لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة.
(عَدْلٍ) : مثل.
(وَبالَ) الوبال: بفتح الواو: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، قال الراغب: الوابل: المطر الثقيل القطر، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال، قال تعالى:
«فذاقوا وبال أمرهم». ويقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل يخاف وباله، قال تعالى: «فأخذناه أخذا وبيلا». واستوبلت الأرض: كرهتها خوفا من وبالها.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما تنطوي عليه كلمة الاعتداء في الآية السابقة.
ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعل، والصيد مفعول به، وأنتم الواو حالية، وأنتم مبتدأ، وحرم خبره، والجملة حال من فاعل تقتلوا (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل
البلاغة:
الذوق في الآية استعارة مكنية تبعية، شبّه سوء العاقبة الناجمة عن هتك حرمة الإحرام بطعام مستوبل مستوخم يذوقه، فحذف المشبه وأبقى شيئا من خصائصه وهو الذوق، وقد تقدمت نظائرها.
الفوائد:
الإضافة على ثلاثة أنواع:
١- نوع يفيد تعريف المضاف بالمضاف إليه إن كان معرفة، أو تخصيصه به إن كان نكرة، مثل كتاب علي، وكتاب تلميذ.
٢- نوع يفيد تخصيص المضاف دون تعريفه. وضابطه أن يكون المضاف متوغّلا في الإبهام، كغير ومثل وشبه، وتسمى
٣- نوع لا يفيد شيئا من التعريف أو التخصيص، وهو أن يكون المضاف صفة تشبه الفعل المضارع في الدلالة على الحال أو الاستقبال، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهه، وتوصف بها النكرة كالآية التي نحن بصددها فإنّ هديا نكرة منصوبة على الحال، وبالغ الكعبة صفتها، فمعنى «بالغ الكعبة» أن يذبح بالحرم ولا توصف النكرة بالمعرفة. ومن خصائصها أيضا أن تأتي حالا نحو:
«ثاني عطفه»، فثاني حال كما سيأتي، والحال واجبة التنكير، ومنه قول أبي كبير الهذلي:
فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا | سهدا إذا ما نام ليل الهوجل |
يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم | لاقى مباعدة منكم وحرمانا |
وهناك أبحاث أخرى تتعلق بالإضافة يرجع إليها في مظانها من الكتب النحوية.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)اللغة:
(وَلِلسَّيَّارَةِ) أي المسافرين. جمع سيار، وأنّث على معنى الرفقة والجماعة.
الإعراب:
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أحل فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحلّ، وصيد البحر نائب فاعل، وطعامه عطف على «صيد»، ومتاعا مفعول لأجله، أي: لأجل تمتعكم، ويصح أن يكون مفعولا مطلقا، أي: متعكم تمتيعا. ولكم متعلقان ب «متاعا»، وللسيارة عطف على «لكم»، والجملة مستأنفة، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الواو عاطفة، وحرم فعل ماض مبني للمجهول، وعليكم متعلقان بحرّم، والجملة عطف على الجملة السابقة، وصيد البر نائب فاعل، ما دمتم فعل ماض ناقص و «ما» وما بعدها في محل نصب على الظرفية، والظرف متعلق بحرم، والتاء اسم ما دام، وحرما خبرها (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو عاطفة، واتقوا الله فعل أمر ومفعول به، والذي نعت، واليه متعلقان بتحشرون، وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وجملة تحشرون صلة الموصول.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)الإعراب:
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) كلام مستأنف مسوق لتوضيح الكعبة التي هي البيت الحرام. و «جعل» : لك أن تعتبرها بمعنى «صيّر»، وأن تعتبرها بمعنى «خلق». وجعل الله فعل وفاعل، والكعبة مفعول به، والبيت الحرام بدل من الكعبة، والفائدة من البدلية المديح، وقياما على الأول مفعول به ثان، وعلى الثاني حال من الكعبة، وهو من ذوات الواو، وقيل: قياما لكسرة القاف، وإنما هي في الأصل قواما وصواما. وللناس متعلقان ب «قياما» أي: يقومون بقصدها بأمر معايشهم ومنافعهم. والشهر عطف على الكعبة، والحرام صفة، والهدي والقلائد عطف على الكعبة أيضا. (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة، واسم الاشارة مبتدأ.
والاشارة الى مجموع ما تقدم ذكره، ولتعلموا اللام لام التعليل، وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك أي: ذلك الحكم هو الحق لا غيره، وقيل: ذلك في موضع خبر لمبتدأ محذوف، أي: الحكم الذي قررناه ذلك. ويجوز أن يكون اسم الاشارة منصوبا بفعل مقدّر،
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
اللغة:
(الْخَبِيثُ) ضد الطيب، والجمع خبث بضمتين، وخبثاء وأخباث وخبثة بفتحتين. وخبثت نفسه: ثقلت وغثّت. وللخاء والباء فاء وعينا للفعل خاصة عجيبة، وهي أنهما تدلان على التأثير والسرعة في الإخفاء، يقال: خبّ أي خدع وأفسد، ولا يخفى ما فيه من معنى التأثير في المخدوع وإفساده، والخبب ضرب من العدو والسير، وخبأ الشيء ستره وأخفاه، وخبر الشيء يخبر وخبرا، بضم الخاء، وخبرا بكسرها: علمه عن تجربة، وخبز الخبز عمله، وخبس
الإعراب:
(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) الكلام مستأنف مسوق للتشديد على إيجاب القيام بما أمر به، أي: لقد قامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم إذا تجاوزتم الحدود. وقد جرى هذا الكلام مجرى المثل، وسيأتي الحديث عنه مفصلا في باب البلاغة. وما نافية، وعلى الرسول جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وإلا أداة حصر، والبلاغ مبتدأ مؤخر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يعلم خبر، وما اسم موصول مفعول تعلمون، وجملة تبدون صلة الموصول، وما تكتمون عطف على قوله ما تبدون (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الجملة مستأنفة، وقل فعل أمر، وجملة لا يستوي الخبيث والطيب في محل نصب مقول القول، وهذه الجملة مما سارت مسير الأمثال أيضا (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الواو حالية، ولو شرطية، وأعجبك فعل ماض ومفعول به، وكثرة الخبيث فاعل أعجبك، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لا يستوي، أي: لا يستويان حالة كونهما على كل حال، وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله، أي: فلا يستويان (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي
الفاء الفصيحة، أي: إذا تبين لكم هذا فاتقوا الله، واتقوا الله فعل وفاعل ومفعول به، ويا حرف نداء، وأولي الألباب منادى مضاف، ولعلكم: لعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها.
البلاغة:
في الآية إرسال المثل، وهو عبارة عن أن يأتي المتكلم في بعض كلامه بما يجري مجرى المثل السائر من حكمة أو نعت أو غير ذلك، ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
لأن حلمك حلم لا تكلفه... ليس التكحل في العينين كالكحل
وقد اشتهر أبو الطيب بهذه الميزة حتى صارت مضرب المثل، قال:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وسيأتي من أمثاله ما يذهل العقول، وحسبنا الآن أن نورد مختارات من قصيدة ابن زيدون:
ما على ظني بأس... يجرح الدهر وياسو
ولقد ينجيك إغفا... ل ويرديك احتراس
ولكم أجدى قعود... ولكم أكدى التماس
وكذا الحكم إذا ما... عزّ ناس ذلّ ناس
لا يكن عهدك وردا... إن عهدي لك آس
كاس واغتنم صفو الليالي... إنما العيش اختلاس
٢- الطباق بين «تبدون» و «تكتمون».
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن كثرة السؤال عن أمور لا تعنيهم، لأن التكليف بها مما يشق على النفوس. وفي ذلك من السموّ ما هو حريّ بالاتعاظ والتأدّب. ولا ناهية، وتسألوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وعن أشياء جار ومجرور متعلقان بتسألوا، وأشياء ممنوعة من الصرف، وسيأتي الحديث عنها مسهبا في باب الفوائد، وإن شرطية، وتبد فعل الشرط، وهو مبني للمجهول، ونائب الفاعل بعود على أشياء، ولكم متعلقان ب «تبد»، وتسؤكم جواب الشرط، والكاف مفعول به، وجملة الشرط صفة ل «أشياء» (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وتسألوا
(عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) جملة عفا الله عنها مستأنفة، مسوقة لبيان أن النهي عنها إنما جرى لاستقصائها وتعذر القيام بها على الوجه الأكمل، وقد عفا الله عنها. ويجوز أن تكون الجملة صفة ثانية ل «أشياء»، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وغفور خبر أول، وحليم خبر ثان. (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ).
الجملة إما مستأنفة وهو الأولى، ولك أن تجعلها نعتا ثانيا ل «أشياء»، وسألها فعل ماض ومفعول به مقدم، والضمير يعود على «أشياء»، ولا بد من تقدير مضاف، أي: سأل مثلها، باعتبارها مماثلة لها في المغبّة وجرّ الوبال. وقد أطالوا الكلام في عودة الضمير من غير فائدة. وقوم فاعل، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف صفة قوم، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وأصبحوا فعل ماض ناقص، والواو اسمها، وبها جار ومجرور متعلقان ب «كافرين» وكافرين خبر أصبحوا.
الفوائد:
١- روي أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال:
يا رسول الله، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أعاد مسألته ثلاث مرات. فقال صلى الله عليه وسلم:
«ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم! والله لو قلت نعم لوجبت، ولو
٢- أشياء: ممنوعة من الصرف، وقد خاض علماء اللغة والنحو في سبب منعها، ويتلخص مما أوردوه في المذاهب الآتية:
١- مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين:
أنها منعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي اسم جمع ل «شيء» والأصل «شيئاء» بوزن فعلاء، فقدمت اللام على الألف كراهية اجتماع همزتين بينهما ألف.
٢- مذهب الفرّاء:
وهو أن أشياء جمع ل «شيء» وإن أصلها «أشيئاء»، فلما اجتمع همزتان بينهما ألف حذفوا الهمزة الأولى تخفيفا.
٣- مذهب الكسائي:
فقد ذهب الى أن وزن أشياء: أفعال، وإنما منعوا صرفه تشبيها له بما في آخره ألف التأنيث.
وهناك مذاهب أخرى أضربنا عنها لأنها لا تخرج عن هذه الفحوى.
[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)اللغة:
(بَحِيرَةٍ) : بفتح الباء وكسر الحاء، فعيلة بمعنى مفعولة، ولحقتها التاء على غير قياس، لأنها جردت من الوصفية وأصبحت بمعنى الجوامد. وقد اختلف أهل اللغة فيها اختلافا كثيرا، وأقوى الأقوال فيها أن أهل الجاهلية كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن، آخرها ذكر، شقّوا أذنها وحرموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها، وهي تختلف باختلاف عادات العرب.
(سائِبَةٍ) : كان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة. فهي اسم فاعل من ساب يسيب أي: سرح، كسيّب الماء فهو مطاوع سيّبته، يقال: سيّبه فساب وانساب.
(وَصِيلَةٍ) وقد اختلفوا في معناها اختلافا شديدا لا يتسع له المقام، وأقرب ما قيل فيها أن الجاهلية كانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، فتاؤها على القياس.
(حامٍ) : اسم فاعل من حمى يحمي إذا منع، والخلاف شديد حولها فقد كانوا يقولون: إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء، ولا مرعى. وكلها عادات لم يأمر الله بشيء منها، وما شرعها.
(ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كلام مستأنف مسوق لشجب عادات وأعمال من عاداتهم وأعمالهم مبتدعة، لم يأمر الله بها ولم يشرعها. وما نافية، وجعل بمعنى خلق، فهي تتعدى لواحد، أو بمعنى صيّر فتتعدى لاثنين، ويكون الثاني محذوفا، أي: صيرها مشروعة. والله فاعل، ومن حرف جر زائد، وبحيرة مجرورا لفظا مفعول به منصوب محلا، وما بعده عطف عليه (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة أو حالية، ولكن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها.
وجملة يفترون خبر لكن، وعلى الله متعلقان بيفترون، والكذب مفعول به. والواو عاطفة أو حالية، وأكثرهم مبتدأ، وجملة لا يعقلون خبر أكثرهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) الواو استئنافية أو عاطفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب الآتي، وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول، والى ما أنزل الله الجار والمجرور متعلقان بتعالوا، وأنزل الله فعل وفاعل، والجملة صلة، والى الرسول عطف عليه (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وحسبنا مبتدأ، وما اسم موصول في محل رفع خبر، وجملة وجدنا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليه متعلقان بوجدنا، وآباءنا مفعول به (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والواو عاطفة على مقدر، تقديره: أحسبهم ذلك؟ أو حالية، أي: ولو كان آباؤهم جهلة ضالين. ولو شرطية وجوابها محذوف تقديره: يقولون ذلك. وكان واسمها، وجملة لا يعلمون خبرها، وشيئا مفعول به، وجملة لا يهتدون عطف على جملة لا يعلمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن كل إنسان مسئول عن نفسه، ولا يرد على هذا أن فيه مندوحة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ذلك مرهون بالطاقة.
قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه». وعليكم اسم فعل أمر منقول بمعنى الزموا، وأنفسكم مفعول به لاسم الفعل (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الجملة مستأنفة، ولا نافية، يضركم فعل مضارع، والكاف مفعول به، ومن اسم موصول في محل رفع فاعل بضركم. وجملة ضل صلة الموصول، وإذا ظرف مستقبل متضمن
الفوائد:
اختلف النحاة في الضمير المتصل ب «عليكم» و «إليكم» و «لديكم» و «مكانكم»، والصحيح أنه في موضع جر، كما كان قبل أن تنقل الكلمة الى الإغراء، فإما أن يكون مجرورا بالحرف نحو:
«عليكم» بحسب ما كان، أو بالإضافة نحو: «لديكم». وقيل:
إن الكاف حرف خطاب، وهذا القول عندي أسهل، وقد أيده ابن بابشاذ، ونورد هنا تلخيصا هاما لأسماء الأفعال، فهي ضربان:
١- مرتجل: وهو ما وضع من أول الأمر كذلك، أي: اسما للفعل، كشتان وأفّ وصه.
٢- منقول: وهو ما وضع من أول الأمر لغير اسم الفعل، ثم نقل من غيره إليه، وهو ثلاثة أنواع:
آ- من جار ومجرور نحو: عليك بمعنى الزم.
ب- من ظرف المكان نحو: دونك الكتاب، أي: خذه، ومكانك، أي: اثبت، وأمامك، أي: تقدم، ووراءك، أي: تنح.
قال يصف السيوف:
تذر الجماجم ضاحيا هاماتها | بله الأكفّ كأنها لم تخلق |
أقلّ فعالي بله أكثره مجد | وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جدّ |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
(ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي: سافرتم.
(الْأَوْلَيانِ) : مثنى الأولى، أي: الأحق بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام تتعلق بأمور الدنيا بعد بيان الأحوال المتعلقة بأمور الآخرة. وشهادة مبتدأ، وبينكم مضاف اليه، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف، أي: فشهادة اثنين، وجملة حضر أحدكم الموت في محل جر بالاضافة، وحين الوصية ظرف متعلق بحضر، واثنان خبر شهادة، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك ليتطابق المبتدأ
أن يشهد اثنان. وهذا ما جرى عليه ابن هشام أيضا. وذوا عدل صفة ل «اثنان»، ومنكم صفة أيضا (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أو حرف عطف، وآخران عطف على «اثنان»، ومن غيركم متعلقان بمحذوف صفة ل «آخران» أي: من غير ملتكم، وإن شرطية، وأنتم فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فالشاهدان آخران، وجملة ضربتم مفسرة لا محل لها، وفي الأرض متعلقان بضربتم، وجملة الشرط معترضة لا محل لها (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب، وأصابتكم عطف على ضربتم، ومصيبة الموت فاعل أصابتكم، وتحبسونهما فعل مضارع ومفعول به، وقد اختلفوا في موضع هذه الجملة، والأظهر أنها صفة ل «آخران».
وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما موضع تحبسونهما؟ قلت: هو استئناف كلام: كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما: فكيف نعمل إن ارتبنا بهما؟ فقيل: تحبسونهما». وعقب أبو حيّان على ذلك فقال:
وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته، ولا موجب لهذا الزعم.
ومن بعد الصلاة متعلقان بتحبسونهما (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الفاء عاطفة، ويقسمان عطف على تحبسونهما، وبالله متعلقان بيقسمان، وإن شرطية، وارتبتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، وتقديره: إن ارتبتم فيهما فحلفوهما. وفعل الشرط وجوابه المقدر
والعرب تضمر كثيرا القول، كقوله تعالى: «والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام»، أي: يقولون: «سلام عليكم»، ولا نافية، ونشتري فعل مضارع مرفوع، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وبه متعلقان بنشتري، وثمنا مفعول به، والواو حالية، ولو شرطية، وكان فعل ماض ناقص، واسمها مستتر، أي: المقسم له، وذا قربى خبر كان، وجواب «لو» محذوف دل عليه ما قبله، أي:
فلا نشتري به، وجملة لو الشرطية وما في حيزها في محل نصب حال (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) الواو عاطفة، وجملة لا نكتم عطف على منتظم معه في حكم القسم، وشهادة الله مفعول به، وإن واسمها، وإذن حرف جواب وجزاء مهملة، واللام المزحلقة، ومن الآثمين متعلقان بمحذوف خبر إن، وجملة إن وما في حيزها لا محل لها بمثابة التعليل لعدم الكتمان (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وعثر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، وعلى أنهما جار ومجرور نائب فاعل، أي: فإن اطلع
الفوائد:
هذه الآيات الثلاث شغلت المفسرين والمعربين كثيرا فأطالوا الحديث، وليس ثمة ما يستدعي الإطالة، فقد ذكر مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى ب «الكشف» أن هذه الآيات في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي القرآن. وقال السخاوي:
لم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها. وقال السمين الحلبي: وأنا أستعين الله في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه. وقد حاولنا نحن الاختصار جهد الطاقة، واكتفينا بقراءة حفص، أما بقية أحكامها فلا بد من النظر في كتب الحديث وكتب التفسير المطوّلة.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
(الْأَكْمَهَ) : الأعمى المطموس البصر.
الإعراب:
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جرى بينه وبين الرسل جميعا. ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، وجملة يجمع في محل جر بالاضافة، والله فاعل، والرسل مفعول به، والفاء حرف عطف، ويقول فعل مضارع معطوف على يجمع، ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق، أي: أيّ إجابة أجبتم، ولك أن تعرب «ما» اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و «ذا» اسم موصول خبر «ما»، وجملة أجبتم لا محل لها على كل حال، وقد تقدمت نظائره، وجملة ماذا أجبتم مقول القول.
(قالُوا: لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قالوا فعل وفاعل، والجملة
الفاء حرف عطف، وتنفخ عطف على تخلق، وفيها متعلقان بتنفخ، فتكون عطف على فتنفخ، وطيرا خبر تكون، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على ما تقدم (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف أيضا (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف أيضا، وبني إسرائيل مفعول كففت، وعنك متعلقان ب «كففت» (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الظرف متعلق بكففت لا باعتبار المجيء بالبينات فقط بل باعتبار ما يعقب ذلك ويترتب عليه حين همّهم بقتله، وجملة جئتهم في محل جر بالإضافة، وبالبينات متعلقان بجئتهم، فقال: الفاء عاطفة، وقال فعل ماض معطوف على جئتهم، والذين فاعل وجملة كفروا صلة، ومنهم متعلقان بكفروا، وإن نافية، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وإلا أداة حصر، وسحر خبر هذا، ومبين صفة، والجملة في محل نصب مقول القول.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
(مائِدَةً) المائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، وهذا هو المشهور كما نصّ عليه الثعالبي، غير أن الراغب قال: المائدة الطبق الذي عليه الطعام. وتقال أيضا المطعام نفسه. إلا أن هذا مخالف لما هو مشهور متعالم عند علماء اللغة.
وهذه المسألة لها نظائر في اللغة: لا يقال للخوان مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان، بتثليث الخاء. ولا يقال: كأس إلا وفيها خمر، وإلا فهي قدح. ولا يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دلو، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب. ولا يقال:
قلم إلا وهو مبريّ، وإلا فهو أنبوب. ولا يقال: كوز إلا إذا كانت له عروة، وإلا فهو كوب. ولا يقال: فرو إلا إذا كان عليه صوف. وإلا فهو جلده ولا يقال: ريطة إلا إذا كانت ذات لفقين وإلا فهي ملاءة. ولا يقال:
رمح إلا إذا كان عليه سنان، وإلا فهو قناة. ولا يقال: لطيمة إلا إذا كان عليها طيب، وإلا فهي عير. ولا يقال: خاتم إلا إذا كان فيه فصّ، وإلا فهو فتخة. هذا ما ذكره الثعالبي نقلا عن أبي عبيدة.
ونقل عن غير أبي عبيدة من أئمة اللغة: أنه لا يقال: نفق إلا إذا كان له منفذ، وإلا فهو سرب. ولا يقال: عهن إلا إذا كان مصبوغا، وإلا فهو صوف. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جارية، وإلا فهو ستر. ولا يقال: ركيّة إلا إذا كان فيها ماء قلّ أو كثر، وإلا فهي بئر. ولا يقال: وقود إلا إذا تقدمت فيه النار، وإلا فهو حطب.
ولا يقال: سياع إلا إذا كان فيه تبن، وإلا فهو طين. ولا يقال: عويل إلا إذا كان فيه رفع صوت، وإلا فهو بكاء. ولا يقال: ثرى إلا إذا
الإعراب:
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) الواو حرف عطف، والكلام معطوف على ما تقدم، وجملة أوحيت في محل جر بالإضافة، وأن مفسرة، لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها مفسرة (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الجملة مستأنفة، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول، والباء حرف جر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب «اشهد»، ومسلمون خبر أنّ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الجملة مستأنفة لحكاية حال ماضية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، وجملة قال في محل جرّ بالإضافة، والحواريون فاعل، ويا حرف نداء، وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم، وابن بدل من «عيسى» على اللفظ أو على المعنى، فيجوز ضم النون وفتحها، كما سيأتي في باب الفوائد، ومريم مضاف إليه (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الجملة في
الفوائد:
إذا كان المنادى مفردا علما متبوعا ب «ابن» ولا فاصل بينهما
بأي مشيئة عمرو بن هند | تطيع بنا الوشاة وتزدرينا |
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
اللغة:
(عِيداً) العيد: معروف، وهو مشتق من العود، لأنه يعول كل سنة. وإنما كسرت عينه لأن الواو وقعت بعد كسرة، والأصل:
عويد، كميزان أصلها: موزان، فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد الكسرة.
الإعراب:
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) كلام مستأنف مسوق لشروعه بالدعاء بعد أن تبيّن له صدقهم. وقال عيسى فعل وفاعل، وابن بدل أو نعت، ومريم مضاف إليه (اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)
(تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) جملة تكون صفة ثانية لمائدة، أي: يكون يوم نزولها عيدا، واسم تكون مستتر تقديره هي، وعيدا خبر تكون، ولنا متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة تقدمت على موصوفها، وهو قوله: «عيدا»، ولأولنا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من «لنا» بتكرير العامل، وآخرنا عطف على «أولنا»، وآية عطف على «عيدا»، ومنك متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو حرف عطف، وارزقنا فعل أمر للدعاء، وفاعله مستتر، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والواو استئنافية أو حالية، وأنت مبتدأ، وخير الرازقين خبر، والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة أو في محل نصب على الحال (قالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان استجابة الله لدعائه. وإني وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، ومنزلها خبر، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمنزلها لأنه اسم فاعل (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويكفر فعل الشرط، وبعد ظرف قطع عن الإضافة لفظا لا معنى فبني على الضمّ وهو متعلق بيكفر، ومنكم متعلقان بمحذوف حال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الفاء رابطة للجواب، وإن واسمها، وجملة أعذبه خبرها، وجملة إني أعذبه في محل جزم جواب الشرط، وعذابا مفعول مطلق وهو اسم مصدر بمعنى التعذيب،
وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ «من».
الفوائد:
ينوب عن المصدر ثلاثة عشر شيئا فتعطى حكمه وهي:
١- اسم المصدر: أعطيتك عطاء.
٢- صفته: اذكروا الله كثيرا.
٣- ضميره العائد اليه: كالآية المتقدمة.
٤- مرادفه: فرح جذلا.
٥- مصدر يلاقيه في الاشتقاق: أنبتكم نباتا.
٦- ما يدل على نوعه: رجع القهقرى، وقول الأعشى:
غراء فرعاء مصقول عوارضها | تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل |
٨- أيّ الاستفهامية وكم الاستفهامية أو الخبرية نحو: «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»، وقول المتنبي:
كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم | ثم انتفضت فزال القبر والكفن |
١٠- ما ومهما وأي الشرطيات: ما تفعل أفعل، ومهما تقف أقف وأي عمل تعمله تجاز عليه.
١١- لفظا كل وبعض مضافين إلى المصدر: «فلا تميلوا كل الميل» واجتهد بعض الاجتهاد.
١٢- اسم الاشارة مشارا به إلى المصدر: اجتهدت ذلك الاجتهاد.
١٣- أيّ الكمالية: وهي التي تدل على معنى الكمال إذا وقعت مضافة للمصدر، نحو: اجتهدت أي اجتهاد. وإذا وقعت بعد النكرة كانت صفة لها، كقول أبي العتاهية:
إنّ الشّباب والفراغ والجده | مفسدة للمرء أيّ مفسده |
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١١٦ الى ١٢٠]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)الإعراب:
(وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الواو حرف عطف، والكلام منسوق على «إذ قال الحواريون» فالظرف متعلق بمحذوف تقديره:
اذكر، وجملة قال الله في محل جر بالإضافة وجملة يا عيسى بن مريم في محل نصب مقول القول (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي
الهمزة للاستفهام، وأنت مبتدأ، وجملة قلت للناس خبر، والجملة الاستفهامة مقول القول، وجملة اتخذوني من فعل الأمر والفاعل والمفعول به في محل نصب مقول القول، وأمي الواو للمعية أو العطف، وأمي مفعول معه أو معطوف على الياء، وإلهين مفعول به ثان لاتخذوني، ومن دون الله متعلقان بمحذوف صفة لإلهين، أي:
كائنين من دونه تعالى، ولا مانع من تعليقهما بمحذوف حال من فاعل اتخذوني، أي: متجاوزين (قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) الجملة مستأنفة مسوقة للتبرؤ مما نسب إليه.
وقال فعل ماض، وسبحانك مفعول مطلق والجملة مقول القول، وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص، ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم، وأن وما بعدها في تأويل مصدر اسم يكون المؤخر، وجملة ما يكون لي استئنافية، وجملة ليس لا محل لها لأنها صلة الموصول، واسم ليس مستتر تقديره هو، وبحق الباء حرف جر زائد، وحق خبر ليس، ولي متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه، وما اسم موصول مفعول أقول لأنها متضمنة معنى الجملة وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) الجملة مستأنفة، وإن شرطية، وكنت فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، والفعل الناقص هو فعل الشرط، وجملة «قلته» خبر كنت، والفاء رابطة، وجملة قد علمته في محل جزم جواب الشرط الجازم، وعلمته فعل وفاعل ومفعول به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الجملة مستأنفة، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وفي نفسي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجملة ولا أعلم ما في نفسك عطف على ما تقدم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها، وأنت
أخذتني أخذا وافيا بالرفع إلى السماء، وهو الأصل في معنى الوفاة، وجملة كنت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وكان واسمها، وأنت ضمير منفصل في محل رفع تأكيد للضمير في كنت، ولك أن تعربه ضمير منفصل لا محل له، والرقيب خبر كنت، وعليهم متعلقان بالرقيب، والواو استئنافية أو حالية، وأنت مبتدأ، وشهيد خبر،
البلاغة:
في قوله: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
إنّ الغريب الطويل الذيل ممتهن | فكيف حال غريب ما له قوت |
وإذا نظرت الى ما قاله وهو: «ماله قوت» وجدتها أبلغ من الجميع، وأدلّ على الفاقة والعوز، وأمسّ بذكر الحاجة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف. فذلك رجحت على ما سواها.
القول في الآية:
ونعود بعد هذا التعريف السريع لهذا الفن الى الآية التي نحن بصددها فنقول: إن البداهة البدائية تقضي بأن تكون الفاصلة:
«إنك أنت الغفور الرحيم» لملاءمتها لقوله: «إن تغفر» ولمناسبته ما بين الغفران والغفور، ولكنّ هذا الوهم الناجم عن هذه البداهة سرعان ما يزول أثره عند ما يذكر المتوهم أن هؤلاء قد استحقوا العذاب دون الغفران، فيجب أن تكون الفاصلة: «العزيز الحكيم» إذ لو
طرفة الأصمعي:
وقد مرت معنا في السابق طرفة الأصمعي، وهي ما ذكره أنه كان يقرأ يوما فقرأ: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم» وكان يسمعه أعرابي، فاعترضه وغلّطه، فراجع الأصمعي الآية، فإذا بها «والله عزيز حكيم»، فقال للأعرابيّ: كيف عرفت ذلك؟ فقال: يا هذا عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. فدهش الأصمعي وأفحم.
وخفي هذا السر على أبي حيان:
وقد خفي سر هذا الفن على أبي حيان- على جلالة قدره- فقال في «البحر» محاولا تعليل الاعتراض ما نصه: «وقال أبو بكر ابن الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال: إن قوله: «فإنك أنت العزيز الحكيم» لا يناسب قوله: «وإن تغفر لهم» لأن المناسب «فإنك أنت الغفور الرحيم». والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى، ومتى نقل إلى ما قاله هذا الطاعن ضعف معناه، فإن ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلّق.
وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون». ونقول: ولو
الفوائد:
بين ابن هشام والزمخشريّ:
ذكر ابن هشام في مغني اللبيب ما يلي: «وذكر الزمخشري في قوله تعالى: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله» أنه يجوز أن تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر، أي: ما أمرتهم إلا بما أمرتني أن اعبدوا الله، وهو حسن. وعلى هذا فيقال في الضابط: أن يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره، ولا يجوز في الآية أن تكون مفسرة لأمرتني، لأنه لا يصح أن يقال: اعبدوا الله ربي وربكم مقولا لله تعالى، فلا يصح أن تكون مفسرة لأمره لأن المفسر عين تفسيره.
عبارة ابن يعيش:
وعبارة ابن يعيش: ف «أن» بمعنى «أي»، وهو تفسير «ما أمرتني به»، لأن الأمر في معنى القول، ولأن هذه إذا كانت تفسيرا ثلاث شرائط:
١- أولها أن يكون الفعل الذي تفسره وتعبر عنه فيه معنى القول وليس بقول.
٣- والثالث أن يكون ما قبلها كلاما تاما لما ذكرناه من أنها وما بعدها جملة مفسرة جملة قبلها، ولذلك قالوا في قوله تعالى:
«أن الحمد لله رب العالمين» أنّ «أن» فيه مخففة من الثقيلة، والمعنى:
أنه الحمد لله، ولا يكون تفسيرا لأنه ليس ما قبلها جملة تامة، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله: «وآخر دعواهم» لم يكن كلاما».
قلت: ولهذا جنحنا الى ما اخترناه في إعرابها مصدرية تفاديا للوقوع في هذه المزالق.
٢- إذا وقعت «ما» قبل «ليس» أو «لم» أو «لا» أو بعد «إلّا» فهي موصولة، وإذا وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية، وإذا وقعت بعد الباء فهي تحتملهما، وإذا وقعت بين فعلين والأول علم أو دراية أو نظر احتملت الموصولية والاستفهامية.
٣- كل ما كان من أسماء الزمان مبهما لما مضى تجوز إضافته الى الجملة، فإن كان ما بعده مبنيا فالبناء على الفتح أرجح للتناسب، قال النابغة:
يروى «على حين» بالجر على الإعراب، و «على حين» بالبناء على الفتح، وهو الأرجح. وإن كان ما بعده فعلا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح كما ورد في الآية: «هذا يوم ينفع».