تفسير سورة المائدة

معاني القرآن

تفسير سورة سورة المائدة من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الأخفش . المتوفي سنة 215 هـ

قال :﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ ﴿ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ﴾ نصب ( غيرَ ) على الحال.
[ و ] قال ﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ واحدها " شعيرة ".
[ و ] قال ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾ ف " الشَنَآنُ " متحرك مثل " الدَرَجان " و " المَيَلان "، وهو من " شَنِئْتُه " ف " أنا أشنَؤه " " شَنَآناً ". وقال ﴿ لاَ يَجْر ِمَنَّكُمْ ﴾ أي : لا يُحِقَّنَّ لَكُمْ. لأَنَّ قَوْلَهُ ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ ﴾ إنما هو حَقٌّ أَنَّ لَهُمْ النّارَ. قال الشاعر :[ من الكامل وهو الشاهد الثمانون بعد المئة ] :
وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبّا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ***جَرَمَتْ فَزارَةُ بَعْدَها أَنْ يَغْضَبُوا
أي : حُقَّ لَهٌا.
وقوله ﴿ أَن صَدُّوكُمْ ﴾ يقول : " لأَِن صَدُّوكُم " وقد قُرئت ﴿ إِنْ صَدُّوكُم ﴾ [ ١٠١ء ] على معنى " إنْ هُمْ صَدُّوكُم " أي : " إنْ هُمْ فَعَلُوا " أي : إنْ هَمُّوا* ولم يكونوا فعلوا. وقد تقول ذلك أيضاً وقد فعلوا كأنك تحكي ما لم يكن ؛ كقول الله تعالى ﴿ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ وقد كان عندهم قد وقعت السرقة.
وقال ﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ ( ٢ ) أي : لا يُحِقَنَّ لَكُمْ شَنَآنُ قَوْم أَنْ تَعْتَدُوا. أي : لا يَحْمِلَنَّكُم ذلك َ علَى العُدْوانِ. ثم قال ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ ( ٢ ).
وقال ﴿ وَالْمَوْقُوذَةُ ﴾ ( ٣ ) من ( وُقِذَتْ ) ف " هِيَ مَوْقُوذَةٌ ".
﴿ وَالنَّطِيحَةُ ﴾ ( ٣ ) فيها الهاء لأنها جعلت كالاسم مثل " أَكِيلَةِ الأَسَدِ ". وإنما تقول : " هِيَ أَكِيلٌ " و " هِيَ نَطِيحٌ " " لأَنَّ كل ما فيه " مَفْعُولَة " ف " الفَعِيل " فيه بغير الهاء نحو " القَتيِل " و " الصَريع " إذا عنيت المرأة و " هِيَ جَريحٌ " لأَنَكَ تقول " مَجْرُوحَةٌ ".
وقال ﴿ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ ( ٣ ) ولغة يخففون " السَبْع ".
﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ ( ٣ ) وجميعه : " الأنْصاب ".
﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ﴾ ( ٣ ) يقول : " وَحُرِّمَ ذلك " وواحدها " زُلَم " و " زَلَمَ ".
وقال ﴿ مَخْمَصَةٍ ﴾ ( ٣ ) تقول : " خَمَصَهُ الجُوع " نحو " المَغْضَبَة " لأنَّه أَرادَ المصدر.
[ وقال ] ﴿ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ( ٣ ) مهموزة الياء الثانية وهي من " فَعِل " " يَفْعِل " وكسر الياء الأولى لغة نحو " لِعْبَ " ومنهم من يكسِر اللام والعين ويسكنون العين ويفتحون [ ١٠١ ب ] اللام أيضاً ويكسرونها وكذلك " يئس ". وذلك أنَّ " فعل " إذا كان ثانيه احد الحروف الستة كسروا أوله وتركوه على الكسر، كما يقولون ذلك في " فعيل " نحو " شِعير " و " صِهيل ". ومنهم من يسكن ويكسر الأولى نحو " رِحْمَهُ اللهُ " فلذلك تقول : " يِئْسَ " تكسر الياء وتسكن الهمزة. وقد قرئت هذه الآية ﴿ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ على تلك اللغة التي يقولون فيها " لِعِبَ ". وأُناس يقولون " نَعِمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ " فقد يجوز كسر هذه النون التي في " نَعِمَ " لأن التي بعدها من الحروف الستة كما كسر " لِعِب ". وقولهم : " أن العين ساكنة من " نِعِمّا " إذا أدغمت خطأ لأنه لا يجتمع ساكنان. ولكن إذا شئت أخفيته فجعلته بين الإدغام والإظهار فيكون في زنة متحرك كما قرئت ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي ﴾ يشمون النون الأولى الرفع.
وقال ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ( ٣ ) لأَّنَّ الإسلام كان فيه بعض الفرائض فلما فرغ الله مما أراد منه قال ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ ( ٣ ) لا على غير هذه الصفة.
وقال ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ كأنه قال : " فإِنَّ اللهُ لَهُ غَفُورٌ رَحِيم ". كما تقول : " عبدُ اللهِ ضَرَبْتُ " تريد : ضربته. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المئة ] :
[ ١٠٢ ء ] ثَلاثٌ كُلُّهُنَّ قتلتُ عَمْداً فَأَخْزَى اللهُ رابعَةً تَعُود
وقال الآخر :[ من الرجز وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المئة ] :
قدْ أَصْبَحَتْ أُمُ الخِيارِ تَدَّعي عَلَيَّ ذَنْباً كُلَّهُ لَمْ أَصْنعِ
وقال ﴿ مَاذَا أُحِلَّ ﴾ ( ٤ ) فإن شئت جعلت " ذا " بمنزلة " الذي " وان شئت جعلتها زائدة كما قال الشاعر :[ من البسيط وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المئة ] :
يا خُزْرَ تَغْلِبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكُم لا يَسْتَفِقنَ إلى الدَيْرَيْنَ تَحْنانا
ف " ذا " لا تكون ها هنا إلاَّ زائدة. [ إذ ] لو قلت : " ما الذي بال نسوتكم " لم يَكُن كَلاماً.
[ و ] قال ﴿ الْجَوَارِحِ ﴾ ( ٤ ) وهي الكَواسِبُ كما تقول : " فُلانٌ جارِحَةُ أَهْلِهِ " و " مالَهُمْ جارِحَةٌ " أي : مالَهُم مَمَالِيكُ " ولا حافِرَةْ ".
[ و ] قال ﴿ كُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ ( ٤ ) [ ف ] أدخل ﴿ مِنْ ﴾ كما أدخله في قوله : " كانَ مِنْ حَديث " و " قَدْ كانَ مِنْ مَطَرٍ ". وقوله ﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ و ﴿ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾. وهو فيما فسر " يُنَزِّلُ منَ السَّماءِ جِبالاً فيها بَرَدٌ ". وقال بَعْضُهُم ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾ أي : في السَّماءِ جبالٌ مِنْ بَرَد. أي : يَجْعَلْ الجِبالَ مِنْ بَرَدٍ في السَّماء، ويجعل الإِنزال منها.
وقال ﴿ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ﴾ ( ٥ ) فيعني به الرجال.
وقال ﴿ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ ( ٥ ) ( وَ ) أُحِلَّ ﴿ لَكُمْ المُحْصنات ﴾ من النساء ﴿ مُحْصِنِينَ [ ١٠٢ ب ] غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ أي : أُحِلَّ لَكُمْ في هذِهِ الحالِ.
وقال ﴿ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ ( ٦ ) فرده إلى " الغَسْل " في قراءة بعضهِم لأنه قال ﴿ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ وقال بعضهم ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ ﴾ على المسح أي : وامْسحوا بأَرْجُلِكُم. وهذا لا يعرفه الناس. وقال ابن عباس : " المَسْحَ على الرِّجْلَيْن يُجْزِئ ". " ويجوز الجر على الاتباع وهو في المعنى " الغَسْل " نحو " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ ". والنَصب أسلم وأجود من هذا الاضطرار. ومثله قول العرب : " أَكَلْتُ خبزا ولبنا " واللبن لا يؤكل. ويقولون : " ما سَمِعْتُ برائحةٍ أطيبَ من هذهِ ولا رأيتُ رائحةً أطيبَ من هذِه " و " ما رأيتُ كلاماً أصوبَ من هذا ". قال الشاعر :[ من مجزوء الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المئة ] :
يا لَيْتَ زَوجَكِ قَدْ غَدا مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
ومثله ﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ [ ٢ ] ﴿ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ﴾ ( ٢ ).
وقال ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾ ( ٦ ) أي : ما يُريدُ اللهُ لِيجْعَلَ عَلَيْكُمْ حَرَجا.
وقال :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( ٩ ) كأنه فسر الوعد ليبين ما وعدهم أي : هكذا وعدهم فقال ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
[ وقال ] ﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾ ( ١٢ ) ﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ( ١٢ ) فاللام الأَولى على معنى القسم [ ١٠٣ ء ] والثانية على قسم آخر.
وقال ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ﴾ ( ١٤ ) كما تقول : " مِنْ عبدِ اللهِ أخَذْتُ دِرْهَمَه ".
[ و ] قال ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ ( ٢٢ ) فأعمل ﴿ إِنَّ ﴾ في " القوم " وجعل " جَبْارِينَ " من صفتهم لأَنَّ ﴿ فِيها ﴾ ليس باسم.
[ و ] قال ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ ( ٢٦ ) فهي من " أَسَي " " يَأْسىَ " " أَسَىَ شَدِيداً " وهو الحزن. و " يَئِسَ " من " اليَأسِ " وهو انقطاع الرجاء من " يَئِسوا " وقوله ﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ ﴾ : من انقطاع الرجاء وهو من : يئست وهو مثل " إِيٍس " في تصريفه. وإنْ شِئْتَ مثل " خَشِيْتُ " في تصريفه. وأما " أسَوْتَ " " تَأْسُوا " " أَسْواً " فهو الدواء للجِراحة. و " أُسْتُ " " أَؤُوسُ " أَوْساً " في معنى : أَعْطَيْتُ. و " أُسْتُ " قياسها " قُلْتُ " و " أَسَوْتُ " [ قياسها ] " غَزَوْتُ ".
[ و ] قال ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ﴾ ( ٢٧ ) فالهمزة ل " نَبَأ " لأنها من " أَنْبَاتُهُ ". وأَلِف " ابْنَيْ " تذهب لأنها ألف وصل في التصغير. وإذا وقفت [ قلت ] " نبأ " مقصور ولا تقول " نبا " لأنها مضاف فلا تثبت فيها الألف*.
وقال ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ﴾ ( ٣٠ ) مثل " فَطَوَّعَتْ " ومعناه : " رَخَّصَتْ " وتقول " طَوَّقْتُهُ إمْريِ " أي : عَصَبْتُه به.
وقال ﴿ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ ﴾ ( ٣١ ) فنصب ﴿ فَأُوَارِيَ ﴾ لأَنَّكَ عَطَفْتَه بالفاء على ﴿ أَنْ ﴾ وليس بمهموز لأَنّه من " وَارَيْتُ " وإنما [ ١٠٣ ب ] كانت ﴿ عَجَزْتُ ﴾ لأنها من " عَجَزَ " " يَعْجِزُ " وقال بعضهم " عَجَزَ " " يَعْجُزُ "، و " عَجِزَ " " يَعْجَزُ ".
[ و ] قال ﴿ مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ( ٣٢ ). وان شئت أذهبت الهمزة من ﴿ أَجْلِ ﴾ وحركت النون في لغة من خفف الهمزة. و " الأَجْلُ " : الجناية من " أَجَلَ " " يَأْجِلُ "، تقول : " قَدْ أَجَلْتَ عَلَيْنا شَرْاً " ويقول بعض العرب ﴿ مِنْ جَرّا ﴾ من : " الجَريرة " ويجعله على " فَعْلَى ".
وقال ﴿ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ﴾ ( ٣٢ ) يقول : " أَوْ بِغَيْرِ فَسادٍ في الأَرْض ".
وقال ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ﴾ ( ٣٦ ) يقول : " لَوْ أَنَّ هذا مَعَهُم لِلفداء ما تُقُبِّلَ مِنْهُم ".
وقال ﴿ لاَ يَحْزُنكَ ﴾ ( ٤١ ) خفيفة مفتوحة الياء وأهْل المدينة يقولون ﴿ يُحْزِنْكَ ﴾ يجعلونها من " أحْزَنَ " والعرب تقول : " أَحْزَنْتُه " و " حَزَنْتُهُ ".
وقال ﴿ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ ( ٤١ ) أي : " مِنْ هؤُلاءِ ومِنْ هؤلاء " ثم قال مستأنفاً ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ ( ٤١ ) أي : هم سماعون. وان شئت جعلته على ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ﴾ ( ٤١ ) ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ ثم تقطعه من الكلام الأول. ثم قال ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ ( ٤١ ) على ذلك الرفع للأول وأما قوله ﴿ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ ( ٤١ ) فها هنا انقطع الكلام والمعنى " وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ يَسْمَعُونَ كَلامَ النَبِيّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم [ ١٠٤ ء ] لَيَكْذِبُوا عَلَيْهِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرينَ لَمْ يأتُوكَ بَعْد " يقول : " يَسْمَعُونَ لَهُم فَيُخْبِرونَهُمْ وَهُمْ لَمْ يَأْتُوكَ ".
وقال ﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ ( ٤٥ ) إذا عطف على ما بعد " أَنَّ " نصب والرفع على الابتداء كما تقول : " إنَّ زَيْداً منْطَلِقٌ وعَمْرٌ ذاهبٌ " وإِنْ شئتَ قلت : " وَعَمْراً ذاهبٌ " نصب ورفع.
[ و ] قال ﴿ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ﴾ ( ٤٦ ) لأنَّ بَعْضَهم يقول : " هِيَ الإِنْجيل " وبعضهم يقول : " هُوَ الإِنجيل ". وقد يكون على أنَّ " الإِنجيلَ " كتاب فهو مذكر في المعنى فذكروه على ذلك. كما قال ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ﴾ ثم قال ﴿ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ ﴾ فذكّر و " القِسْمَةُ " مُؤَّنَّثة لأَنَّها في المعنى " الميراث " و " المال " فذكر على ذلك.
وقال ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ ( ٤٨ ) يقول : " وَشاهِداً عَلَيْهِ " نصب على الحال.
وقال ﴿ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ ( ٤٨ ) ف " الشِّرْعَةُ " : الدينِ، من " شَرَعَ " " يَشْرَعُ "، و " المِنْهاجُ " : الطَريقُ من " نَهَجَ " " يَنْهَجُ ".
وقال ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ ( ٥١ ) ثم قال ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ ( ٥١ ) على الابتداء.
[ و ] قال ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ( ٥٣ ) نصب لأنه معطوف على قوله ﴿ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ﴾ ( ٥٢ ) وقد قرئ رفعا على الابتداء. قال أبُو عمرو النصب محال لأنه لا يجوز " وَعَسى اللهُ أَنْ يقولَ الذين آمنوا " وإِنَّما ذا " عسى أنْ يقول "، يجعل ﴿ أَنْ يَقُولَ ﴾ [ ١٠٤ ب ] معطوفة على ما بعد " عَسَى " أوْ يكون تابعا، نحو قولهم : " أَكَلْتُ خُبْزاً وَلَبَنَاً " و :
....................... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
وقال ﴿ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ﴾ ( ٦٠ ) كما قال ﴿ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِك ﴾*.
وقال ﴿ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾ ( ٦٠ ) أي :﴿ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ﴾ ( ٦٠ ) ﴿ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ﴾.
وقال ﴿ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ﴾ ( ٦٣ ) وقال ﴿ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ ﴾ ( ٦٣ ) نصبهما بإِسقاط الفعل عليهما.
وقال ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ ( ٦٤ ). فذكروا أنَّها " العَطِيَّة " و " النِّعْمَة ". وكذلك ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ ( ٦٤ ) كما تقول : " إنَّ لِفُلانٍ عِنْدِي يَداً " أي : نِعْمَةً. وقال :﴿ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾ أي : أُولى النِّعَم. وقد تكون " اليَد " في وجوه، تقول " بَيْنَ يَدَي الدارِ " تَعْني : قُدامَها، وليستْ للدارِ يدان.
وقال ﴿ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ ( ٦٧ ) وقال بعضهم ﴿ رِسالاتِهِ ﴾ وكلٌّ صوابٌ لأَنَّ " الرِّسالَةَ " قد تجمع " الرَّسائِلَ " كما تقول " هَلَكَ البَعِيرُ والشَّاةُ " و " أَهْلَكَ الناسَ الدينارُ والدِرْهَمُ " تريد الجماعة.
وقال :﴿ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ﴾ ( ٦٩ ) وقال في موضع آخر ﴿ والصّابِئِينَ ﴾ والنصب القياس على العطف على ما بعد ﴿ إِنّ ﴾ فأما هذه فرفعها على وجهين كأن قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ( ٦٩ ) في موضع رفع في المعنى لأنه كلام مبتدأ لأَنَّ قَوْلَهُ : " إنَّ زَيْداً مُنْطَلِقٌ " و " زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ " من غير أن يكون فيه " إنّ " في المعنى سواء [ ١٠٥ ء ]، فإن شئت إذا عطفت عليه شيئا جعلته على المعنى. كما قلت : " إنَّ زيداً مُنْطَلِقٌ وعمرٌو ". ولكنه إذا جعل بعد الخبر فهو أحسن وأكثر. وقال بعضهم : " لما كان قبله فعل شبه في اللفظ بما يجري على ما قبله، وليس معناه في الفعل الذي قبله وهو ﴿ الَّذِينَ هَادُواْ ﴾ ( ٦٩ ) أجراه عليه فرفعه به وإن كان ليس عليه في المعنى ذلك أنه تجيء أشياء في اللفظ لا تكون في المعاني، منها قولهم : " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " وقولهم " كَذَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ " يرفعون " الحَجَّ " ب " كَذَبَ "، وإنما معناه " عَلَيْكُم الحَجَّ " نصب بأمرهم.
وتقول : " هذا حَبُّ رُمّانِي " فتضيف " الرُّمَانَ " إلَيكَ وإِنَّما لَكَ " الحَبُّ " وليس لك " الرُّمَانُ ". فقد يجوز أشباه هذا والمعنى على خلافه.
[ و ] قال ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ ( ٧١ ) ولم يقل " ثُمَّ عَمِيَ وَصَمَّ " وهو فعل مقدم لأنه أخبر عن قوم أنهم عَمُوا وصَمُّوا، ثم فسر كم صنع ذلك منهم كما تقول " رأيتُ قَوْمَك ثُلُثَيْهِم " ومثل ذلك ﴿ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ وإن شئت جعلت الفعل للآخر فجعلته على لغة الذين يقولون " أَكَلُوني البَراغِيثُ " كما قال :[ من الطويل وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد المئة ] :
ولكِنْ دِيافِيٌّ أَبُوهُ وأُمُّهُ بِحَوْراَنَ يَعْصُرْنَ السَّلِيطُ أَقارِبُه
[ و ] قال ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾ ( ٧٣ ) وذلك أنهم جعلوا معه " عِيْسى " [ ١٠٥ ب ] و " مَرْيَمَ ". كذلك يكون في الكلام إذا كان واحد مع اثنين قيل " ثالِثُ ثلاثَةٍ " كما قال ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ وإنما كان معه واحد. ومن قال : " ثالثَ اثْنَيْنِ " دخل عليه أنْ يقول : " ثَانِيَ واحِدٍ ". وقد يجوز هذا في الشعر وهو في القياس صحيح. قال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد السادس والثمانون بعد المئة ] :
وَلكِنْ لا أَخُونُ الجارَ حَتّىَ يُزيلُ اللهُ ثالِثَةَ الأَثافِي
ومن قال : " ثانِيَ اثْنَيْنِ " و " ثالثُ ثَلاثَةٍ " قال : حاديَ أَحَدَ عَشَرَ " إذا كان رجل مع عشرة. ومن قال " ثالثُ اثْنَيْنِ " قال : " حاديَ عَشْرَةَ " فأمّا قَوْلُ العَرَبِ : " حاديَ عَشَرَ " و " ثانيَ عَشَر " فهذا في العدد إذا كنت تقول : " ثانِي " و " ثالث " و " رابع " و " عاشر " من غير أن تقول : عاشرَ كَذَا وكَذَا "، فلما جاوز العشرةَ أرادَ أَنْ يقول : " حادي " و " ثاني " فكان ذلك لا يعرف معناه إلا بذكر العشرة فضم إليه شيئا من حروف العشرة.
وقال ﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ ﴾ ( ٩٤ ) على القسم أي : وَاللهِ لَيَبْلُوَنَّكُمْ. وكذلك هذه اللام التي بعدها النون لا تكون* إلا بعد القسم.
وقال :﴿ فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ﴾ ( ٩٥ ) أي : فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم.
[ و ] قال ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً ﴾ ( ٩٥ ) انتصب على الحال، ﴿ بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ ( ٩٥ ) من صفته، وليس قولك [ ١٠٦ ء ] ﴿ بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ بمعرفة، لأن فيه معنى التنوين، لأنه إذا قال " هذا ضاربُ زَيْدٍ " في لغة من حذف النون ولم يفعل بعد، فهو نكرة. ومثل ذلك ﴿ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ ففيه بعض التنوين غير أنه لا يوصل إليه من أجل الاسم المضمر.
ثم قال ﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾ ( ٩٥ ) أيْ : أوْ عليه كفارةٌ. رفعٌ منون، ثم فسر فقال " هِيَ طعامُ مساكين " ، وقال بعضهم ﴿ كَفّارَةُ طَعَامِ مَساكِينَ ﴾ بإضافة الكفارة إليه.
[ و ] قال ﴿ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً ﴾ ( ٩٥ ) يريد : أَوْ عَلَيْهِ مثلُ ذلك َ من الصيام. كما تقول : " عَليْها مثلُها زُبْداً ". وقال بعضهم ﴿ أَوْ عِدلُ ذلك صياما ﴾، فكسر، وهو الوجه، لأن " العِدْلَ " : المِثْل. وأَمَّا " العَدْل " فهو المصدر، تقول : " عَدَلْتُ هذا بهذا عَدْلاً حَسَنا "، و " العَدْل " أَيْضاَ : المِثْلُ. وقال ﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي : مِثْلٌ، ففرقوا بين ذا وبين " عدل المتاع " ، كما تقول : " امرأَةٌ رَزانٌ " و " حَجَرٌ رَزِينٌ ".
وقال ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ ﴾ ( ٩٧ )، وقال ﴿ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ﴾ ( ٩٧ ) أي : وجَعَلَ لكُمْ الهَدْيَ والقَلائِدَ.
وقال ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضِرْكُمْ ﴾ ( ١٠٥ ) خفيفة، فجَزَمَ لأن جوابَ الأمر جَزْمٌ، فجعلها من " ضَارَ " " يَضِير ". وقال [ ١٠٦ ب ] بعضهم :﴿ يُضِرَّكُمْ ﴾ و﴿ يَضُرُّكْمْ ﴾ فجعل الموضع جزما فيهما جميعا، إلا أنه حرَّك، لأن الراء ثقيلة، فأولها ساكن فلا يستقيم إسكان آخرها، فيلتقي ساكنان، وأجود ذلك ﴿ لا يَضُرُّكُمْ ﴾ رفع على الابتداء، لأنه ليس بعِلَّة لقوله ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، وإنما أخبر أنه لا يَضُرُّهُم.
وقال ﴿ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ﴾ ( ١٠٦ ) ثم قال ﴿ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ أيْ : شهادة بينِكم شهادةُ اثنين. فلما ألقى " الشهادة " قام " الاثنان " مقامها، وارتفعا بارتفاعها، كما قال ﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ يريد : أَهْلَ القريةِ. وانتصب ( القريةَ ) بانتصاب " الأَهْلِ "، وقامت مقامه. ثم عطف ﴿ أَوْ آخَرَانِ ﴾ على " الاثنين ".
وقال :﴿ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ* عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ﴾ ( ١٠٧ ) أيْ : من الأَوَّلَيْنِ الذينَ استْحَقَّ* عليهم. وقال بعضهم ﴿ الأَوْلَيَانِ ﴾ وبها نقرأ. لأنَّه حين قال ﴿ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ﴾ ( ١٠٧ ) كان كأنه قد حدهما حتى صارا كالمعرفة في المعنى فقال ﴿ الأَوْلَيَانِ ﴾ فأجرى المعرفة عليهما بدلا. ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير. قال الراجز :[ وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المئة ] :
عَلَيَّ يومَ تَملكُ الأُمُورَا صَوْمُ شُهورٍ وَجَبَتْ نُذُورا
وَبَدَناً مُقَلَّداً مَنْحُورا ........
فجعله على " أَوْجَبَ " لأنه في معنى " قَدْ أَوْجَبَ ".
وليس قولهم ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ ﴾ ( ١١٢ ) لأنهم ظنوا أنه لا يطيق. ولكنه كقول العرب : أَتَسْتَطيعُ أَنْ تَذْهَبَ في هذهِ الحاجَةِ وتدَعَنا من كَلامِكَ "، وتقول : " أَتَسْتَطيعُ أَنْ تَكُفَّ عَنّي فإِنِّي مَغْمُوم ". فليس هذا لأنه لا يستطيع، ولكنه يريد " كُفَّ عَنِّي "، ويذكر له الاستطاعة ليحتج عليه، أَيْ : إِنَّكَ تستطيعُ. فإذا ذكّره إِياها علم أَنها حجة عليه. وإنما قرئت ﴿ هَلْ تَسْتَطيعُ رَبَّكَ ﴾ فيما لَدَيّ لغموض هذا المعنى الآخر و الله أعلم. وهو جائز كأنه أضمر الفعل فأراد " هلْ تَستَطيعُ أَنْ تدعوَ رَبَّكَ " أَوْ " هلْ تَستَطيعُ رَبَّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ "، فكل هذا جائز.
و " المائِدَةُ " الطعام. و " فَعَلْتُ " منها : " مِدْتُ " " أَمِيدُ ". قال الشاعر :[ من الرجز وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المئة ] :
نُهْدِى رُؤوسَ المُجْرِمينَ الأَندادْ إلى أمِيرِ المؤمِنِينَ المُمْتاد
[ ١٠٧ ب ] [ و[ " المُمْتاد " ] هو " مُفْتَعِلٌ " من " مِدْتُ ".
[ وقال ] ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا [ ١٠٧ ء ] أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ﴾ ( ١١٤ )، فجعل ﴿ تكونُ ﴾ من صفة " المائدة "، كما قال ﴿ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي ﴾، رفع إذا جعله صفة، وجزم إذا جعله جوابا، كما تقول : " أَعْطِني ثَوْباً يَسَعُني " إذا أردت واسعا، و " يَسَعِْني " إذا جعلته جوابا، كأنك تشترط أنه يَسعُك.
[ و ] قال ﴿ وَآيَةً مِّنْكَ ﴾ ( ١١٤ ) عطف على " العيد " ، كأنه قال : " يكونُ عِيداً وآيَةً " وذكر أن قراءة ابن مسعود ﴿ تَكُنْ لَنَا عِيداً ﴾.
سورة المائدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.

ترتيبها المصحفي
5
نوعها
مدنية
ألفاظها
2837
ترتيب نزولها
112
العد المدني الأول
122
العد المدني الأخير
122
العد البصري
123
العد الكوفي
120
العد الشامي
122

* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ‌اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]  إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).

* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).

* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).

* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).


سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.

* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:

عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).

* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:

فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).

* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:

عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:

العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).

المواثيق والجزاء (٩-١٠).

البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).

ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).

فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).

سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).

جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).

عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).

التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).

حد السرقة (٣٨-٤٠).

تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).

رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).

القرآن (٤٨-٥٠).

المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).

الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).

سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).

لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).

عصمة الرسول (٦٧-٦٩).

طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).

لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).

مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).

النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).

اليمين وكفارتها (٨٩).

خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).

مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).

تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).

الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).

عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).

المائدة (١١٢-١١٥).

التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).

كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).

مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.

وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).