بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة( ١ )ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدةقال علقمة: ما كان في القرآن ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ فهو نزل بالمدينة، وما كان ﴿يا أيها الناس﴾ فهو نزل بمكة.
وهذا قول جرى من علقمة على معنى أن الأكثر كذلك، وليس يصحب ذلك في كل القرآن، بل " قد " يكون في المدني ﴿يا أيها الناس﴾ وفي المكي ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾.
قوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد﴾ نصب على الحال من المضمر في ﴿أَوْفُواْ﴾ يراد به التقديم، وقيل: هو حال من الكاف والميم " في قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ﴾. وقيل: من
ومعنى الآية الأولى - من هذه السورة - أن العقود: العهود التي (قد) كان عاهد بعضهم بعضاً بها في الجاهلية من النصرة والمؤازرة، أمروا في الإسلام أن يوفوا بها، قال ذلك ابن عباس ومجاهد والضحاك / وقتادة والسدي والثوري.
وقال الكلبي: العقود هنا الفرائض وما أُحِلَّ لهم وما حرم عليهم.
وقيل: هو كل شيء عقده الإنسان على نفسه: من حج أو يمين أو هبة أو عتق أو نكاح أو طلاق أو شبه ذلك.
" و " قال ابن جريج: هي العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد، فهي لأهل الكتاب خاصة، وكان في كتاب رسول الله الذي بعثه إلى نجران: هذا بيانٌ من الله ورسولِه: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ إلى ﴿سَرِيعُ الحساب﴾.
(و) قوله ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ " الآية.
" قال الحسن: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم ". وقال قتادة والسدي والضحاك: بهيمة الأنعام: ﴿الأنعام﴾ كلُّها. وقال ابن عمر: بهيمة الأنعام: ما في
قال عطية: هو بمنزلة كبدها يؤكل، وسئل ابن عمر عنه يخرج ميتاً، فأجاز أكله، يريد بعد ذكاة أمه، (لقول النبي ﷺ: " ذَكاةُ الْجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ "). فأما إِن خَرجَ ميّتاً - والأم حية - فلا يؤكل أَلبتَّة، وقال ابن عباس مثل ذلك.
وروي " عن " الضحاك أن بهيمة الأنعام الوحش مثل (الظباء والحمر) وشبهه.
وقوله ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي: فإِنَّه حرام، وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة (والدم)﴾ [المائدة: ٣] وما بعدها.
وقيل: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ هو الخنزير.
وقيل: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ هو الدم المسفوح، لأنه أحلها ثم حرّم دمها.
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾: الحُرم جمع حرام، " وحرام " بمعنى مُحرِم.
- الأول قوله: ﴿أَوْفُواْ بالعقود﴾.
- والثاني قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾.
- والثالث قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾.
- والرابع قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾.
- ودل على أن الصيد حلال لغير المحرم، فهو الحكم الخامس.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
وقرأ يحيى بن وثاب ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ بالضم.
ومن قرأ ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ بالكسر، فالمعنى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا إن صدّوكم "، فالصد لم يكن بعد. وفي حرف ابن مسعود شاهد للكسر، لأنه قرأ (إِن يَصُدّوكُم)، ومثله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ﴾ [محمد: ٢٢].
وقيل: " إِنْ " بمعنى " إذْ "، فهو صَدٌّ قد كان، فالكسر أولى به، ويدل على الكسر قوله: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله [وَلاَ الشهر الحرام] وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾ ولا كذا ولا كذا، فهو أمر للمؤمنين ألا يعتدوا إنْ صَدّ لهم، ولو كان الفتح الصواب لكان نَهْياً للمشركين ولم يقل ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ﴾، وقد جعل النحاس هذه الحجة حجة للفتح، وهو خطأ، إنما
ومعنى الآية: أن الله نهى المؤمنين أن يحلوا شعائره، وهي معالمه وحدوده التي جعلها علماً لطاعته في الحج.
وقال عطاء: شعائر الله حرماته، حضهم على اجتناب سخطه واتباع طاعته.
وقال ابن عباس: " شعائر الله مناسك الحج ".
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ نهاهم أن يرتكبوا ما نهى عنه المحرمَ أن يصيبه.
وواحد الشعائر: شعيرة، وقيل: هي " فعيلة " بمعنى: " مُفعَلَة ".
قال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا. قال الأصمعي: أشعرتها: أعلمتها.
وقيل: الشعائر العلامات بين الحِلِّ والحَرم، فنُهوا أن يجاوزوها غير مُحرِمين، وهو مشتق من قولهم " شَعر فُلانٌ بالأمرِ " إذا علم به.
قال زيد [بن] أسلم: الشعائر ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. قال: والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد [الحرام]، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والمُحرِم حتى يَحِلَّ.
وقال الكلبي: كان عامة العرب لا يَعُدُّون الصفا والمروة من الشعائر، ولا
وقوله: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ أي: لا تستحلوه بأن تقاتلوا فيه [أعداؤكم]، وهو مثل قوله: ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢١٧].
وعنى بالشهر الحرام رَجَب مُضَر، كانت مضر تحرّم فيه القتال.
وقيل: عنى به ذا القعدة. وقيل: إنهم كانوا يُحرّمونه مرة ويُحلّونه مرة، فنهوا
وقوله ﴿وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾: أما الهدي فهو ما أهداه المؤمن من بعير " أو بقرة " أو شاة إلى بيت الله، حرّم الله سبحانه أن يُغْصَب أهله عليه أو يمنعوا أن يبلغوه محلّه. وقوله ﴿القلائد﴾ أي: لا تحلوا الهدايا المقلدات ولا غير المقلدات، فقوله ﴿الهدى﴾ هو ما لم يقلد، وقوله ﴿القلائد﴾ هو ما قلد منها. وقيل: القلائد هو ما كان المشركون يتقلدون به - إذا أرادوا الحج مُقبلين إلى مكة - من لحاء السَّمِرُ فإذا انصرف تقلد من الشَّعَر، فلا يعرض له أحد.
وقال عطاء وغيره: كان الرجل إذا خرج من الحرم تقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن، فأمر الله المؤمنين ألا [يحِلُّوا] من تقلد بذلك.
وهو منسوخ، وكذلك / قال السدي وابن زيد. وقيل: إنما نهى الله أن يُنزع شجر الحرم فيُتَقلّد به على ما كانت الجاهلية تصنع. فالتقدير على هذه الأقوال: ولا أصحاب القلائد.
وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما: فأنزل الله ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ أي: لا تستحلوا ترك ذلك، ﴿وَلاَ الهدي﴾ أي: لا تعرضوا لهدي المشركين، ﴿وَلاَ القلائد﴾ أي: لا تستحلوا من قلد بعيره، وكان أهل مكة يُقَلِّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر، وقوله ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾ أي: لا تستحلوا منع القاصدين للبيت الحرام.
وقرأ الأعمش (ولا آمِّي البَيْتِ) بالإضافة.
و" هذه الآية [نزلت] في رجل من ربيعةَ يقال له الْحُطَم " بن هند - كافرٍ، أتى حاجاً، قد قلد هديه، فأراد أصحاب النبي ﷺ أن يخرجوا إليه فنزلت الآية، فنهاهم الله (عن) ذلك.
قال ابن جريج: " قدم الحُُطَمُ البكري على النبي ﷺ فقال: إني داعِيةُ قومي وسَيِّدُ قومي، فأْعْرِض عَلَيَّ ما تقول، فقال له النبي: أدعوك إلى الله أن تعبده: لا تشرك به (شيئاً) وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
قال له النبي: ارْجِعْ. فلما خرج قال: لقد دخل عليَّ بِوجهٍ كافرٍ وخرج عنّي بقفاً غادِرٍ، وما الرجل بمسلم. فَمَرّ على سَرْح لأهل المدينة، فانطلق به وقَدِم اليمامة وحضر الحج، فتجهز [خارجاً]- وكان عظيم التجارة - فاستأذن أصحابُ النبي أن يتلقّوه ويأخذوا ما معه "، فأنزل الله تعالى ﴿ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
والحُطَم هذا هو القائل:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطم | ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم |
ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمٍ | باتوا نِياماً وابنُ (هندٍ لَمْ) ينَمْ |
(بَاتَ يُقاسيها) غُلامٌ كالزَّلَم | خَدَلَّجَ (السَّاقَيْن) مَمْسوحَ الْقَدَم |
وكذلك قال ابن عباس وقتادة في ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام﴾: أمر ألا يمنع مشرك من الحج، ثم نسخ ذلك بالقتل.
وقال ابن زيد: هذا كله منسوخ بالأمر بقتالهم كافة.
(و) قال قتادة: نسخ من المائدة ﴿لا آمِّينَ البيت الحرام﴾، نسخه آية القتل
ومن قال: نزلت كلها في شأن الحطم، قال: هي منسوخة. ومن قال: الشعائر حدود الله ومعالمه، قال: هي محكمة.
وأما (الشهر الحرام) فهو منسوخ أيضاً، لأن الجميع قد أجمعوا على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها.
(و) قوله / ﴿وَلاَ القلائد﴾ منسوخ، لأن المشرك لو تقلد بجميع شجر الحرم لم نؤمّنه الآن: إجماع من الأمة، فهو منسوخ.
وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾
قال قتادة: هي للمشركين يلتمسون فضل الله ورضوانه عند أنفسهم وفيما يُصلح شأنهم في الدنيا خاصة.
قال ابن عباس: يترضون الله بحجِّهم عند أنفسهم، وقال مجاهد: يبتغون الأجر والتجارة.
وكونها في المشركين أبين في أقوال المفسرين وأكثر.
قوله ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ هذا إباحة (وليس بحَتْمٍ).
قال عطاء بن (أبي رباح): [أربع رخصة وليس بعزيمة]:
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾، ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤].
﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ [الحج: ٣٦]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة: ١٠].
قوله ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم أن
والقوم - هنا - أهل مكة صدوا النبي عليه السلام ومن معه عن المسجد الحرام يوم الحديبية. وقيل: معنى ﴿" وَ " لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يكسبنكم.
وقوله ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ قيل: إنها نزلت في النهي عن الطلب بِنُحول الجاهلية أمروا ألا يطالبوا بما (مضى من أجل أنهم صُدُّوا عن البيت، فيحملهم البغض [أن] يطالبوا بما) تَقدَّم في الجاهلية من قتل أو غيره. ثم أُمروا أن يتعاونوا على
وقال سهل بن عبد الله: " البر: الإيمان، والتقوى: السنة ". ﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ ﴿الإثم﴾: الكفر، ﴿والعدوان﴾: البدعة.
﴿واتقوا الله﴾ أي: خافوه إنه شديد العقاب.
قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير﴾ الآية.
المعنى: أن الله تعالى حرم [أكَلَ كل] ما مات من الأنعام وغيرها قبل التذكية، وحرم الدم المسفوح ولحم الخنزير [مُذَكّى] أو غير [مُذَكّى] وحرم ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ وهو (ما ذبح) للأصنام والأزلام وشبهها مما أريد به غير الله، ومما تُعُمِّدَ في وقت ذبحه تَركُ ذكر اسم الله عليه، وحرم ﴿المنخنقة﴾ وهي التي
واختلف في ﴿النطيحة﴾ فقيل: (هي) " فعلية " (بمعنى " مفعولة " وقيل هي) بمعنى " فاعلة "، ولذلك ثبتت الهاء (فيها).
وحرم ﴿وَمَآ أَكَلَ السبع﴾ وهو أن [يؤخذ] منه وقد أكل بعضها وليس مما علّم / للصيد.
وكان سبب ذكر هذه الأشياء أن العرب الجاهلية كانت تضرب الشاة بالعصا حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل ما لحقت من الشاة وغيرها في فم الأسد، وكانت تخنق الشاة بالحبل حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل جميع ما ذكر الله تحريمهُ، فأنبأنا الله بتحريمه، وهذه حجة من أجاز أكل جميع ذلك إذا ذكى وفيه حياة على أي: حال كان.
ومنهم من يرى أن هذا الاستثناء إنما هو من التحريم، لاَ مِنَ المحرمات المذكورة، كأن تقديره: إلا ما أحله الله لكم بالتذكية، وهو مذهب أهل المدينة، فيكون المعنى: إلا ما ذكيتم مما ذكر مما تُرجى له الحياة لو ترك، لا ما ذكيتم مما لا ترجى (له) الحياة لو ترك، فكل ما أصيب من ذلك في مقتل، فلا تنفع فيه الذكاة وإن أدرك
ويدل على صحة هذا القول أن هذه الأشياء المذكورات بالتحريم لو كانت لا تحرم إلا بالموت قبل الذكاة، لكان قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ يغني عن ذكر ما بعده، ولا يكون لِذكرِ ما بعد الميتة فائدة.
وقد قال المخالف: الفائدة في ذكر ما بعد الميتة وهو من الميتة ما تقدم ذكره من أن (أهل) الجاهلية كانت تخنق الشاة حتى تموت وتأكلها وتضرب الشاة حتى تموت وتأكلها، فأعيد ذكرها بعد الميتة لهذا السبب.
وأصل التذكية - في اللغة - التمام، يقال: " لفلانٍ ذَكاءٌ " أي: تمام الفهم، " وذَكَّيْتُ النار ". أتْمَمْتُ إيقادَها.
وقرأ الحسن: (السَّبْع) بالإسكان، وهي لغة أهل نجد. وأجاز مالك أكل ذبيحة السارق، ومنعه غيره. ولا يؤكل ما ذبحه المُحْرِم من صيد، لا يأكله هو ولا غيره عند مالك وغيره، بخلاف ما ذبح السارق. وقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم﴾ مخصوص، لأن الدم الذي هو غير مسفوح - كالكبد وما أشبهه - حلال،
وقوله ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ حرم الله ما ذبح ليقرب إلى الأصنام، وقيل: النصب حجارة يذبح عليها أهل الجاهلية ويعبدونها.
قوله ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام﴾: أي وحرم ذلك عليكم، وهو أن أحدهم
وقيل: الأزلام كعاب فارس كانوا يتقامرون بها.
وقيل: هي الشطرنج.
ومعنى ﴿تَسْتَقْسِمُواْ﴾ تستدعوا القِسْمَ، كما تقول: استسقى إذا استدعى
وقال ابن إسحاق: كانت هبل أعظم صنماً لقريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة يروى أن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة من حلي وغيره، وكانت عند هبل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه " نعم "، إذا ضربوا به فخرج " نعم " عملوا به، وقدح فيه " لا " فإذا أرادوا
وقيل: ذلك يوم جمعة، نظر النبي ﷺ إلى الناس فلم ير إلا موحداً فحمد الله على ذلك، فنزلت الآية.
وقيل: المعنى: الآن، والعرب تقول: " أَنَا الْيَوْمَ قَد كَبِرْتُ عن هذا " أي: الآن.
وقال الحسن: يئسوا أن تستحلوا في دينكم ما استحلوا في دينهم.
﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ أي: لا تخافوهم أن يقهروكم فيردوكم عن دينكم، وخافون أي: إن خالفتم أمري.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.
قوله ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أي: أتْممتُ فرائضي عليكم وحدودي، ونزل ذلك يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش النبي عليه السلام - بعد نزول هذه الآية - إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، " ولما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي ﷺ: ما يُبْكِيكَ؟
فقال: كُنَّا في زيادةٍ من ديننا، فَأَمَّا إِذا كَمُلَ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي ﷺ: صَدَقْتَ ".
وقيل: معنى كمال الدين: أنه منع أن يحج مشرك وكمل الحج للمسلمين ونُفِيَ المشركون من البيت الحرام والحج، قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما
وقيل: المعنى: اليوم أظهرت دينكم على سائر الأديان وأهلكت عدوكم.
وذكر بعض العلماء أن في المائدة (ثمان عشرة) فريضة ليست في غيرها (وهي):
تحريم الميتة / والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، والاستقسام بالأزلام، وتحليل طعام أهل الكتاب، وتحليل المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والجوارح
واختيار الطبري أن يكون المعنى أن الله أعلم نبيه أنه أكمل لهم دينهم
وقوله ﴿[وَ] أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ هو منع المشركين الحرام وانفراد المسلمين به.
(وقوله) ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ أي: رضيت لكم أن تستسلموا لأمري
وقيل: إن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الاثنين.
وقوله ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ﴾ أي: من أصابه ضرّ في مجاعة، فالميتة حلال له.
والمخمصة: من خَمَصِ البطن، وهو ضموره من الجوع، وذكر بعضهم أنه مصدر من: " خَمَصَهُ الجوع " وقيل: هو اسم للمصدر.
ومعنى ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ﴾ أي: غير مائل ولا متحرف إلى أكلها يريد به
قوله ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: له، وفي الكلام حذف، والمعنى غير متجانف لإثم فأكله. [والمعنى]: فإن الله يسترُ له عن أكله ويرحمه، ومن رحمته أنه أباح له ما حرم عليه عند الضرورة.
وقال عطاء: يأكل منها قدر ما يرد نفسه، ولا يشبع.
وقال مسروق: من اضطر إلى الميتة فتحرّج أن يأكل منها حتى مات، دخل النار.
قال مسروق: (و) ليس في الخمر رخصة، إذا اضطر إليها [مضطر] لأنَّها لا تروي.
قوله ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ الآية.
المعنى: أنهم سألوا النبي ﷺ ما الذي أحل الله لهم، فقال الله له ﴿[قُلْ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ وهو الحلال الذي أذن فيه من الذبائح، وأعلمهم أنه أحل لهم (مع ذلك) أكل صيد ما علموا من الجوارح، وهي سباع البهائم والطير، سميت " جوارح " (لكسبها لأربابها) أقواتهم، فالجوارح: الكواسب، (و) واحدها: جارحة يقال: جرح فلان أهله خيراً "، إذا أكسبهم خيراً، و " فلان جارحة أهله " أي: كاسبهم، و " لا جارح لفلان " أي: ليس له كاسب، و " فلان يجترح " أي: يكتسب، ومنه قوله تعالى: / ﴿أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات﴾ [الجاثية: ٢١] أي:
وفي الكلام حذف، والتقدير: قل أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح.
وكان النبي قد أمر بقتل الكلاب، فسألوا عما يحل اتخاذه منها وصيده، فنزل ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح﴾ فعلم أنه مباح اكتساب كلاب الصيد سلوقية أو غير سلوقية.
ومعنى ﴿مُكَلِّبِينَ﴾: أصحاب كلاب، قال مجاهد: الفهد من الجوارح، وكلهم على أن الصقر والبازي من الجوارح، وكذلك العقاب.
والجوارح هي المعلَّمة من هذه الأنواع، إذا دعيت أجابت وإذا زجرت أطاعت،
وما صاد غير المعلَّم لا يؤكل إلا أن تدرك ذكاته وهو حي صحيح، لم يحدث فيه ما إن ترك لم يعش. وإذا أكل الكلب المعلم من الصيد، أكل باقيه عند مالك.
ومعنى ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ أصحاب كلاب، ويقال: أكلب الرجل، إذا كثرت عنده الكلاب، فهو مُكْلِب.
وقوله ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ أي: تؤدبوهنّ من التأديب الذي أدبكم الله به والعلم الذي علمكم، وهو الطاعة إذا زُجر والأخذ إذا أُمر.
قال ابن عباس: التعليم: أن يمسك الصيد فلا يأكل حتى يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه فلا يؤكل، وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقتادة وعطاء وعكرمة والشافعي، وروي عن أبي هريرة.
ومن أرسل كلباً غير معلم فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ إلا أن يُدْرِكَ ذكاته فإن أرسل معلماً فأخذ ولحقه قبل أن يموت - فاشتغل عن تذكيته حتى مات - فلا يؤكل، لأنه أدركه حيّاً وفرَّط في تذكيته، فإن (كان) أدركه (حيّاً) وقد أنفذ الكلب - أو البازي - مقاتله فلم يذكه حتى مات، أكل، لأن الذكاة ليست بشيء إذ هو ميت لا محالة لو ترك.
ولا بأس عند مالك بلعاب الكلب الصائد يصيب ثوب الإنسان، وقال الشافعي: هو نجس.
فإن انفلت المعلّم من يد صاحبه - ولم يرسله - فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ عند
ولا يؤكل صيد أهل الكتاب عند مالك، لأن الله تبارك اسْمُهُ قال ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ [المائدة: ٩٤] وتؤكل ذبائحهم. وأجاز الشافعي وعطاء وغيرهما أكل ما صاد كلب الكتابي المعلم.
وأما صيد المجوسي فأكثرهم منعه ولم يجز أكله، فأما صيد الكتابي والمجوسي للحيتان والجراد فهو / حلال أكله عند أكثر العلماء، وكره مالك صيد المجوسي الجراد، ولم يكره الحيتان، فرق بين صيد البر والبحر، وكذلك قال النخعي.
وقال ابن الماجشون: إذا أنفذ سهمك - أو كلبك - مقتل الصيد
وقوله ﴿[مِمَّآ] أَمْسَكْنَ﴾ من: للتبعيض. وقيل: هي زائدة.
ومعنى التبعيض أنه يؤكل، لحمه حلال، ويترك دمه [وفَرْثه]، لأن الدم حرام.
وقوله: ﴿واذكروا اسم الله " عَلَيْهِ "﴾ أي: حين الإرسال. وقيل: حين
ومن نسي فلا شيء عليه، فإن تركها عامداً لم [يؤكل] ما أخذ، كما لا يؤكل ما ذبح إذا ترك التسمية عامداً.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾ أي: اتقوه فيما أمركم به، وأن لا تأكلوا صيد غير معلم، ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي: لمن حاسبه، حافظ لجميع ما تعملون.
قوله: ﴿اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ الآية.
الطيبات - هنا - الحلال من الذبائح. وقيل: هي كل ما تلذذ به من الحلال. ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أي: ذبائحهم، ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ (أي) ذبائحنا جائز (لنا)
ومذهب الشعبي وعطاء وغيرهما أنه تؤكل ذبائحهم وإن سَمَّوا عليها غير اسم الله، وهذا عندهم ناسخ لقوله ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١]، ويروى ذلك عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت.
ومن العلماء من قال: هذا استثناء وليس بناسخ لِما في الأنعام، تؤكل ذبائح
ومذهب عائشة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وابن عمر أنه لا تؤكل ذبيحة الكتابي [إذا] لم يسم عليها.
و" كان " مالك يكره ذلك ولم يحرمه. وأما إن ذكر عليه اسم المسيح فلا تؤكل عند مالك. وكره مالك ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم ولم يحرمه. فأما ذبيحة المجوسي فلا تؤكل.
وقال علي بن أبي طالب: لا تؤكل ذبائحهم، وبه قال الشافعي: فأما الحديث الذي يروى عن النبي ﷺ في المجوس: " سُنّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتابِ " فإنه غير متصل الإسناد، (و) أيضاً فإن الحديث إنما جرى على سبب الجزية لا غير، وقوله " سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ " يدل على أنهم ليسوا منهم.
وقيل: المحصنات - هنا - العفائف من هؤلاء ومن هؤلاء، فأجاز قائل هذا / نكاح الإماء من أهل الكتاب وتحريم غير العفائف من الجميع، قال ذلك مجاهد، وقاله سفيان والسدي.
والحربية من أهل الكتاب - وغيرها سواء - جائز نكاحها. ومن قال: المحصنات العفائف، فالحربية - من الإماء والحرائر - جائز نكاحها عنده، ومذهب مالك وغيره أن إماء أهل الكتاب لا يجوز نكاحهن.
وروي أن ثواب الرجل مع الزوجة المؤمنة أفضلُ من ثوابه مع الزوجة الكتابية، وروي أن الرجل إذا قبَّل زوجته المؤمنة، كتب له عشرون حسنة، وإذا جامعها
وروي أن المرأة لا تضع شيئاً من بيت زوجها، تريد بذلك إصلاحه، ولا ترفعه إلا كتب لها عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا حملت ثم طلقت، فلها بكل طلقة كأنما أعتقت نسمة (من ولد إسماعيل) خير النسم،
وروي عن (ابن المسيب) والحسن أنهما كانا لا يريان بأساً بنكاح إِماء اليهود والنصارى.
و (قد) قيل: عنى بذلك نساء أهل الذمة من أهل الكتاب خاصة، ونساء
قوله ﴿مُحْصِنِينَ﴾ أي: أعِفّاء، ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي: غير مزانين، ﴿وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾ أي: أَخِلاّءٌ على الزّنى، والخدن: الخليل للمرأة يزانيها.
قوله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ أي: بما جاء به محمد ﷺ، وقيل: بالإيمان بالله تعالى وبرسوله محمد ﷺ.
وقيل: بالإيمان: بما نزل من الحرام والحلال والفرائض.
ونزل ذلك في قوم تَحَرَّجوا نكاح [نساء] أهل الكتاب، فأنزل الله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾، أي من يردّ من أتى
وقيل: الإيمان - هنا - التوحيد، وهو مثل قوله ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] ومثل قوله ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً﴾ [آل عمران: ٨٥] الآية.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية.
قوله ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: من خفض.
(فهو) عند الأخفش وأبي عبيدة على الجوار، والمعنى للغسل، شبه
وأيضاً فإن الأرجل معها حرف العطف، ولا يكون الإتباع مع حرف العطف.
وقيل: إنه إنما خفض لاشتراك الغسل والمسح في باب الوضوء، كما قال ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: ٢٢] فخفض وعطفه على الفاكهة التي يطاف بها، وهذا مما لا يطاف
شرّابُ أَلْبَانٍ وتَمْرٍ وأَقطٍ.... فعطف التمر والأقط على ما يشرب، وليس يشربان، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما في التغدي بهما، ومثله قوله:
ورأيتُ زوجَكِ قد غدا | مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمحاً |
عَلَفتُها تِبْناً وماءً بارداً. | فعطف الماء على التّبن وليس مما يوصف بالعلف، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما |
تغيَّرتِ الْبِلادُ ومَنْ عَليْها | فَوَجْهُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ |
تَغيَّر كلُّ ذي طَعْمٍ وَلَوْنٍ | وقَلَّ بَشاشَةَ الْوجْهُ المُليحُ. |
و ﴿المتقين﴾ - هنا -: " الذين اتقوا الله وخافوه ". وقيل: هم من اتقى الشرك، قاله الضحاك وغيره.
وروي أن الذي قرّب هابيلُ كان كبشاً سميناً من خيار غنمه، وأن الله تعالى
قوله: ﴿لَئِن بَسَطتَ (إِلَيَّ) يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ الآية.
أخبر الله - في هذه الآية - بتحرّج المقتول عن القتل، وقال ابن عمر: وأيْمُ الله - إنْ كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده.
قال مجاهد وغيره: كان فرض الله عليهم ألا يمتنعوا ممن أراد قتلهم.
﴿إني أَخَافُ (الله) رَبَّ العالمين﴾ أي: أخافه إن خالفت أمره فمددت يدي إليك.
قوله: ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي﴾ الآية.
ومعنى إرادته لأن يبوأ أخوهُ بإثمه: أن المؤمن يريد الثواب ولا ينبسط إليه،
وقيل: هو حقيقة، لأنه لمّا قال ﴿لأَقْتُلَكَ﴾، استوجب النار بما تقدم في علم الله تعالى أنه سيفعل، فعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله.
وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإدارة بعدما بسط يده بالقتل.
وقيل: المعنى: بإثم قتلي إن قتلتني. وقيل: المعنى: إذا قتلتني أردت ذلك " لك "، لأنه إرادة الله للقاتل.
وقيل: المعنى: ﴿بِإِثْمِي﴾ الذي كان يلحقني لو بسطتُ يدي إليك، وإثمك في تحمّلك قتلي. وعن ابن عباس: بإثم قتلي وإثم معاصيك المتقدمة لك.
وقال إبراهيم بن عرفة: (أراده عن) غير محبة ولا شهوة، لأنّه لمّا لم يكن بُدٌّ من أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، اختار - عن ضرورة وعن غير محبة لذلك - أن يُقتل، كما تقول للرجل - يحاول ظلمك -: " أريد أن أَفدي نفسي منك " وأنت لا تحب ذلك ولكن الضرورة ألجأتك إلى هذه الإرادة.
وقال النبي ﷺ: " ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمَاً إِلاّ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ منها، ذلك بأنه أوَلُ مَن سَنَّ القتل ".
ومعنى ﴿تَبُوءَ﴾ أي: تحمل وتلزم وتنصرف به.
قوله: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ الآية.
معنى " طوّعت ": أجابته إلى ذلك وانقادت (له إلى ذلك ففعل).
وقيل: معناه: زَيَّنَت. وذلك أنه وجده نائماً فشدخ رأسه بصخرة: وذلك أن
قوله: ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً﴾ الآية.
قرأ الحسن: (أَعَجِزَتْ) بكسر الجيم، وهي لغة شاذة، إنما يقال: " عَجِزَت المَرْأةُ ": إذا كبِرت عجيزتها.
ومعنى الآية: أن القاتل لم يدر ما يصنع به.
قال ابن عباس: فمكث يحمل أخاه في خِوان على رقبته سنة، فبعث الله غرابين، فرآهما يبحثان. فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟. / وقيل: بعث الله غراباً حياً إلى غراب ميت، فجعل الحي يواري الميت فتعلم منه ابن آدم. وقيل: بعث الله غرابين أخوين فاقتتلا قدّامه، فقتل أحدهما الآخر،
وقال مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: ﴿يَاوَيْلَتَا﴾ أعجَزت أن ﴿أَكُونَ﴾ أفعل مثل ما فعل هذا؟.
وهذا كله مَثَلٌ ضربه الله لابن آدم وحرصه في الدنيا.
ومعنى ﴿مِنَ النادمين﴾ أي: من النادمين على قتل أخيه.
قال نافع: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾ التمام، وخالفه في ذلك جماعة العلماء باللغة، وقالوا التمام ﴿مِنَ النادمين﴾، لأن الذي كُتب على بني إسرائيل إنما كان من أجل قتل ابْْنَي آدم: أحدهما الآخر. وإذا وقف على ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك﴾، صار إنما كُتب عليهم لغير علة،
قوله: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ﴾ الآية.
قرأ الحسن: ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ بالنصب، على معنى: أو تحمل فساداً، ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: أو أفسد فساداً.
و [قراءة] الجماعة بالخفض على معنى: أو بغير فساد في الأرض.
ومعنى الآية: من أجل هذا القتل كتبنا - أي: [حكمنا]- على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً ظلماً - لم تَقْتُل نفساً - أو قتلها بغير فساد كان منها في الأرض، وفسادُها: إخافة السبل.
وقوله: ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾.
قال ابن عباس: معناه من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أعان نبياً أو إمامَ عدلٍ فنصره من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل المعنى: من قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها - أي: ترك قتلها مخافة الله
وقيل المعنى: فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن استنقذ نفساً من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ.
وقيل: المعنى: أن صاحب القتل يَصْلى النار، فهو بمنزلة من قتل الناس جميعاً، ومَن سَلِم مِن قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً.
وقال مجاهد: معناه أنه يصير إلى جهنم بقتل نفس كما يصير إليها بقتل جميع الناس. وقيل: المعنى (أنّ) من قتل نفساً، يجب عليه من القصاص والقَوْد كما يجب على من قتل الناس جميعاً، قال ذلك ابن زيد عن أبيه.
وقيل: معنى ﴿مَنْ أَحْيَاهَا﴾: مَن عفا عمن يجب عليه القصاص، فهو مثل من عفا عن جميع الناس لو وجب (له عليهم قصاص).
قال ابن زيد أيضاً: ﴿مَنْ أَحْيَاهَا﴾: من عفا عنها، أعطاه الله من الأجر مثل لو عفا
وقيل: المعنى يُعذَّب - كما يعذب قاتل الناس جميعاً - من قتل نفساً، ويُؤجَر من أحيا نفساً - أي: استنقذها - كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً.
وقيل: المعنى هو: في الجرأة على الله والإقدام على خلافه كمن قتل الناس جميعاً، تشبيهاً لا تحقيقاً، لأن عامل السيئة لا يجزي إلا بمثلها.
وقوله / ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ﴾ هذا يُعْطَى من الأجر مثل ما يعطى من أحيا الناس جميعاً، لأن الحسنات تضاعف ولا تضاعَفُ السيئات، فهذه حقيقة والأول على التشبيه لا على الحقيقة.
قوله: ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
معنى الآية: أنها بيان من الله عن حكم المفسد في الأرض.
والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
ونزلت هذه الآية في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، وقطعوا السبل، فخيّر الله تعالى نبيّه ﷺ بالحكم فيهم، قاله ابن عباس (وغيره، قال ابن عباس): خيّر الله نبيه، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع من خلاف. (و) قال الحسن: نزلت هذه الآية في المشركين.
والسَّمْلُ: فَقْءِ العينِ بحديدة أو بشوكة.
وقوله: ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾: قيل: يخرجون من ديار الإسلام إلى دار الحرب، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: ينفى من البلد الذي أحدث فيه ذلك إلى غيره. وقال الكوفيون: النفي - هنا - الحبس، لأنه لا يمكن أن ينفى من الأرض كلها لو تركنا والظاهر.
قوله: ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
أي: إلا الذين تابوا من محاربتهم وشركهم والسعي في الأرض بالفساد من قبل أن تملكوهم، فإن الله يغفر لهم، أي: يستر عليهم ما تقدم من فعلهم ويرحمهم.
وقال مالك: لا يطلب بشيء إذا جاء تائباً - المؤمن ولا غيره - إلا أن يكون معه مال يُعرف فيأخذه صاحبه أو تقوم على المسلم بينة بالقتل فيقاد منه، ولا يتبعه الإمام بشيء من الدماء التي لم يطلبها أولياؤها. وقال الشافعي: تضع توبتُه عنه حقوق الله ولا يَسقط عنه بها حقوقُ بني آدم.
وقيل: إنما تضع التوبة الحقوق عمن لحق - في حرابته - بدار الكفر ثم أتى تابئاً، وأما من لم يلحق بدار الكفر، فالحقوق كلها لازمة له - تاب أو لم يتب -.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ﴾ الآية.
﴿بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ﴾، قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض﴾ الآية.
(و) معناها: أن الذين كفروا بمحمد ﷺ وبما جاء به، وماتوا على ذلك، لو ملكوا - يوم القيامة - ما في الأرض كلها وضِعْفَهُ معه، لرضوا أن يفتدوا به من العذاب وليس يُتَقبّل منهم ذلك ولا ينفعهم.
وهذا إعلام من الله تعالى لليهود والنصارى ومشركي قريش أنهم لا بد لهم من الخلود في النار، وأن قولهم ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] باطل كذب.
(ثم) أخبر تعالى أنهم يريدون أن يخرجوا من النار بعد دخولها وأنهم ليسوا
قال نافع بن الأزرق لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار (و) قد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا﴾، فقال له ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها، هذا للكفار. قال الحسن: (كلما رفعتهم) بلهبها حتى يصيروا إلى أعلاها، أعيدوا فيها.
قوله: ﴿والسارق والسارقة﴾ الآية.
قال سيبويه: أبت العامة إلا الرفع، يريد بالعامة الجماعة من الرواة والقراء، والاختيار عنده النصب، لأن الأمر بالفعل أولى، فهو عنده مثل " زيداً فاضربه "،
وقال: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ بالجمع ليفرق بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان، هذا قول الخليل. وقال الكوفيون: أكثر ما في الإنسان - من الجوارح - اثنان " اثنان " مثل اليدين والرجلين والقدمين والأذنين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِب بالواحد منهم - إذا أضيف إلى آخر - مذهب الجمع.
وقيل: فعل ذلك، لأن التثنية جمع. وقيل: لأنه لا يُشْكل.
وقرأ ابن مسعود " والسّارق والسّارقَةَ " بالنصب، وبه قرأ عيسى بن عمر.
﴿جَزَآءً﴾ مفعول من أجله، ويكون مصدراً، ومثله ﴿نَكَالاً﴾.
وقرأ ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما).
والألف واللام في ﴿السارق والسارقة﴾ دخلتا لتعريف النوع ك ﴿ رضي الله عنR الزانية والزاني﴾ [النور: ٢]،
ومعنى الآية: من سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيديهما.
وعنى بذلك سارق ثلاثة [دراهم]، أو ربع دينار أو (ما قيمته) ربع دينار، أو ثلاثة [دراهم] فصاعداً، هكذا بيَّنَته السنة.
وروي أن علياً قطع في ربع دينار: درهمان ونصف.
وروي عن ابن مسعود أن القطع في دينار أو عشرة دراهم فصاعداً، لا فيما دون ذلك. وقال عطاء: لا تقطع يد السارق فيما دون عشرة دراهم.
وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن اليد تقطع في أربعة [دراهم] فصاعداً، لا فيما دون ذلك.
وقد أوجب قوم القطع على كل من سرق وإن قَلَّ ذلك، على ظاهر الكتاب.
ولا قطع على السارق حتى يُخرج المتاع من حرزه أو ما يشبه الحرز، وهو قول الشعبي والزهري وعطاء، وروي ذلك عن عثمان وابن عمر، وهو قول مالك
ولو نقب بيننا فأدخل يَدَه وأخذ متاعاً فرمى به إلى الخارج ثم خرج فأخذه، فعليه - في ذلك - القطع عند مالك وغيره، لأنه قد أخذه من حرزه - وهو الحائط -، ولو ناوَلَهُ آخرَ خارجاً من البيت، كان القطع على الداخل ولم يُقطع الخارج.
ولو دخل جماعة بيتاً وأخذوا متاعاً وحملوه على أحدهم وخرجوا به، فقال ابن القاسم عن مالك: لا يقطع إلا مَن حمله، وقال ابن أبي أويس (عنه): يقطعون جميعاً.
ولا قطع على من سرق باب دار أو باب مسجد، لأنه ظاهر لا حرز عليه.
وإذا سرق رجلان شيئاً - لو سرقه أحدهما وجب عليه القطع - قُطِعَا جميعاً عند مالك، كالرجلين يَقتُلان رجلاً، فإنهما يُقتَلان به.
وقال الشافعي: لا قطع على أحدهما حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما فيه القطع.
وإذا سرق من رجلين أربعة [دراهم] فصاعداً، قطع عند مالك.
وإذا سرق سارق ما يجب فيه القطع ثم سرقه منه آخر، فعليهما القطع عند مالك وغيره، ولو كانوا سبعين قطعوا. وقيل: لا قطع على الثاني.
فإذا سرق السارق ثم رد ما سرق ورفع إلى الإمام بعد ذلك، قطع في قول مالك وإن عفا عنه صاحب المتاع. وقيل: إنّه لا يقطع إذا عفا عنه صاحب المتاع.
ويقطع عند مالك [في الفواكه] إذا كان فيها قيمة ما تقطع عليه اليد. وقيل: لا قطع في ذلك.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ " " والكَثَرُ: الجُمَّار ".
ومن سرق مصحفاً قطع عند مالك والشافعي.
ولا قطع على مختلس أو خائن عند جماعة العلماء.
وقيل: إن كانت الصُرَّةُ داخل الكم قطع، وإن كانت خارجاً لم يقطع.
وعلى الولد إن سرق من مال والده القطع، وهو قول مالك. وقيل: لا قطع عليه.
وكلهم لم يوجبوا على الوالدين قطعاً إذا سرقا [من] مال ولدهما.
فأما [ذوو] المحارم فقال الشافعي: يقطعون. / وقال غيره: لا
وكذلك اختلف في الزوجين، فقال مالك: يقطع كل واحد منهما إذا سرق مال الآخر.
وقال غيره: لا قطع على واحد منهما.
وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، (ثم إن سرق قطعت يده اليسرى)، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عُزر وحُبس، هذا قول مالك والشافعي وغيرهما. وقيل: تقطع [أولاً] اليمنى ثم يده اليسرى، ثم إن سرق حبس. وقيل: تقطع يده اليمنى ثم رجله ثم لا قطع عليه، قاله الزهري وغيره.
وقال غير ابن القاسم عن مالك: تقطع رجله، لأن يَدَهُ الشّلاء كالمقطوعة.
وإذا أمر الحاكم بقطع يمينه (فقطعت يساره) أجزأ.
وقال مالك: إذا كان السارق مريضاً يُخاف عليه لم يُقطع حتى يبرأ.
ولا يُحَدّ إلا بالغ، والإنبات في حد البلوغ عند جماعة من العلماء، وحد البلوغ - عند مالك - الاحتلام أو يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام (إلا احتلم).
وأجاز جماعة من العلماء أن يُشفع في الحدود ما لم يبلغ السلطان، روي ذلك ابن عباس والزبير بن العوام، وهو مذهب الأوزاعي وابن حنبل.
وروي عن ابن عمر وغيره كراهة ذلك، وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد صاد الله في حكمه.
ومعنى ﴿نَكَالاً مِّنَ الله﴾ أي: مكافأة بفعلهما، ﴿والله عَزِيزٌ﴾ أي: عزيز في انتقامه من السارق وغيره (و) من أهل معصيته، ﴿حَكِيمٌ﴾ في فرائضه وحدوده.
قوله: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ الآية.
المعنى: فمن تاب من هؤلاء السراق من بعد سرقته وأصلح، ﴿فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ أي: يرجعه إلى ما يحب ويرضى عن ما يسخطه، ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ (رَّحِيمٌ)﴾ أي: ساتر على من تاب رحيم بعباده الراجعين إليه.
وتوبة المسلم عن السرق والزنى لا تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أعظمُ لأجره في الآخرة وأمنع بِمَن هَمَّ أن يفعل مثل ذلك، وقال مجاهد: توبة السارق في هذا الموضع إقامة الحد عليه.
" وروي أن النبي ﷺ ( أمر بقطع) امرأة سرقت حلياً فقالت المرأة: هل من توبة؟، فقال لها رسول الله: أنتِ اليومَ مِن خَطيئَتِك كيومَ ولَدَتْكِ أمّك "، فأنزل الله: ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ﴾ الآية.
قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
هذا خطاب للنبي ﷺ والمراد به من كان بالمدينة وحواليها من اليهود، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء القائلون: ﴿لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠] الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبر ما في السماوات وما في الأرض وأنه يعذب من يشاء / ويغفر لمن يشاء قادر على ذلك لا يمتنع عليه.
قوله ﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ﴾ الآية.
وقيل: " إنها " نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن عليه: وقال أبو هريرة: إن أحبار اليهود اجتمعوا في أمر رجل (زنى بامرأة) وهما محصنان، فقالوا: امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه كيف الحكم فيهما: فإنْ حَكَم بعملكم من التحميم - وهو الجَلد بحبل من ليف مطلي بِقارٍ - ثم
فأتوا النبي، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم (فقال لهم): أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور - وكان أحدثَهم سنّاً - فخلا به النبي ﷺ وقال: يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم؟، فقال: اللهم نعم، أما واللهِ يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك! فخرج (رسول الله) فأمر بهما في جماعة - عند باب مسجده - فرُجما، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: ﴿يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
وقال البراء: مُرَّ (على) النبي بيهودي مُحمَّمٍ مجلودٍ، فدعا النبي رجلاً
قال: نعم، قال: فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك، ولكن كثر الزنى في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي ﷺ: ( اللهم) أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه!، فأمر به فرجم، فأنزل الله ﴿لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الآية.
وذكر ابن حبيب أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم في التوراة فرضاً عليهم، فقال لهم النبي ﷺ: مَن أعلَمُكم يا معشر يهود؟ قالوا: ابن صوريا - وهو
أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي، إلَه بني إسرائيل الذي [أخرجكم] من مصر وفرق لكم البحر - وأحلفه بأشياء كثيرة - هل تجد في التوراة آية الرجم (على) المحصن؟، قال: نعم، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك
وقال ابن جريج ومجاهد: " هم " ﴿سَمَّاعُونَ / لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ - آخَرِينَ﴾ - هم اليهود -.
والمعنى: لا يحزنك تسرع (من تسرع منهم إلى الكفر، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم (يؤمنوا بقلوبهم). ﴿وَمِنَ الذين هَادُواْ﴾ أي: ولا يحزنك تسرع) الذين هادوا إلى جحود نبوتك، ثم وصفهم فقال: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي: هم سماعون للكذب، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب: أن حكم الزاني المحصن - في التوراة - التحميم - والجلد، وهو صفة لليهود خاصة، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي، وهم أهل الزاني والزانية، بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي.
وقيل: المعنى سماعون من أجل الكذب، أي: يستمعون منك يا محمد ليكذبوا عليك. ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ﴾ أي: يستمعون منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب.
﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾: أي يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة، ومعنى: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾ أي: حكم الكلم، ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، مثل ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله﴾ [البقرة: ١٧٧].
﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ﴾ أي: (إن حكم) بهذا الحكم المحرف (فاقبلوه،
وقال السدي: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه - وهو الجلد - وإن لم تؤتوه فاحذروا - وهو الرجم -.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما حكَّموا النبي ﷺ في اللَّذَيْن زنيا، دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها - وقد وضع يده على آية الرجم - فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثم قال: هذه - يا نبي الله - آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم النبي عليه السلام: يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو
وقال قتادة: الآية نزلت في قتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت بنو النضير إذا قتلت قتيلاً وَدَت الدية - لا غير - لفضلهم، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا إلا بالقَود تَعزُّراً، فأرادت النضير أن ترفع أمر القتيل - الذي قتلوه -
وقوله: ﴿وَمَن يُرِدِ / الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾: هو تسلية للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع إلى الكفر من المنافقين واليهود، وفتنته: ضلالته.
﴿فَلَن تَمْلِكَ (لَه (ُ مِنَ الله شَيْئاً﴾: لا اهتداء له أبداً.
﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي: بالإسلام " في الدنيا ".
﴿لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي: ذل وصغار وأداء الجزية عن يد، ﴿لَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد ولم يكن ما أراد - تعالى عن ذلك -، وقد قال
وقال: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الإنسان: ٣٠]، وقال: ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ [مَن] فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ [يونس: ٩٩]، وقال: ﴿أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً﴾ [الرعد: ٣١]، وقال: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل: ٩٣]، وفي كتاب الله من هذا ما لا يحصى، يخبر تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن
فعَندت المعتزلة عليها لعنة الله عن ذلك وخالفته، وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله، وعلى إرادة من الشيطان، وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله، وهو كفر الكافر، معاندةً لإجماع الأمة، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله - تعالى ذكره - على إبليس مزيَةٌ، لأن إبليس شاء [ألا] يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، وشاء الله - عندهم - ألا يكفر أحد فكفر الكافرون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً، بل كان عن مشيئته، كان يفعل (ما) يشاء: يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته، وخلق من شاء للسعادة فوفقه
قوله: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ﴾ الآية.
السحت: فيه لغتان: إسكان الحاء وضمها.
وروى خارجة عن نافع: " السَّحْت " بفتح السين وإسكان الحاء، جعله
ومعنى الآية: أن الله زاد في وصف من تقدم وصفه من اليهود أنهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾، فذكر أيضاً أنهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ على التأكيد. ويجوز أن يكون الأول معناه: أنهم يسمعون " مِن " قول مَن يقول لهم: " محمد ليس بنبي "، ويقول لهم: " ليس على المحصن رجم إذا زنى / "، ويكون الثاني معناه: أنهم يستمعون إليك ليكذبوا عليك - وقد قيل ذلك في معنى الأول، وقد ذكرته -. ثم وصفهم تعالى بأنهم: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ وهو الرّشا في الحكم.
قال قتادة والحسن: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ هم حكام اليهود، يسمعون الكذب ويقبلون الرشا.
والسحت - في اللغة -: كل حرام يسحت الطاعات أي: يذهبها، يقال: سحته: إذا أذهبه قليلاً قليلاً، ويقال للحالق: " اِسْحَتْ " أي: استأصل.
وقيل: السحت: الرشا في الأحكام، وأكل ثمن الخمر، وأكل ثمن الميتة، وثمن
وقوله: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ معناه: فإن جاءك قوم المرأة - الذين ذكر أنهم لم يأتوا بَعْدُ -، فاحكم بينهم إن شئت بالحق، وإن شئت فأعرض عنهم، أي: دع الحكم بينهم إن شئت.
وقيل: نزلت في الدية في بني النضير وقريظة، كانت دية النضيري كاملة، ودية القرظي نصف دية لشرف [النضيري]، فتحاكموا إلى النبي ﷺ، فأمره الله أن يحكم بينهم بالحق، ثم خيّره في الترك، قاله ابن عباس.
(و) قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب للنضيري ديتان،
قال: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله﴾ الآية.
وهو الرجم على المحصن إذا زنى. (و) قوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك﴾ هو ما غيَّروا من حكم الرجم المنصوص في التوراة، وجَعلُهم عوضه التحميمَ والضربَ بحبل لِيف مفتول أربعين ضربة استحرافاً منهم [لحكم] لم يؤمروا به، والحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بهذه الآية، إن شاء حكم بالحق على مذهبه، وإن شاء لم يحكم، وهو مذهب الشعبي والنخعي وعطاء وعمرو بن شعيب، وهو قول مالك، فهي محكمة على قول هؤلاء.
قال ابن عباس: نسخت من سورة المائدة آيتان: القلائد وقوله: ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾، وهو قول عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الكوفيين.
وكل العلماء أجاز للإمام أن ينظر بينهم إذا تحاكموا إليه، وإنما اختلفوا في الإعراض عنهم.
قوله: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ الآية.
المعنى: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك ﴿وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا [حُكْمُ الله]﴾ أن على الزاني المحصن الرجم، والنفس بالنفس، ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ﴾ عن حكمها، أي: يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته، ثم قال ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أي: (ما) من فعل هذا بمؤمن.
قوله: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين،
وقيل: المعنى ﴿فِيهَا هُدًى﴾ أي: بيان أمر النبي، ﴿وَنُورٌ﴾ أي: بيان ما سألوا عنه.
ومعنى قوله ﴿النبيون الذين أَسْلَمُواْ﴾ أي: الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه، وليس الإسلام - هنا - ضد الكفر، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً، وإنما الإسلام هنا: الانقياد والتسليم، ومثله قول إبراهيم: ﴿واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] أراد مسلمين لأمرك، منقادين لحكمك بالنية والعمل، وكذلك قوله ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١] أي: سلمت لأمره.
ومعنى ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ أي: يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾، أي: عليهم، فاللام بمعنى " على "، كما قال النبي ﷺ لعائشة:
وقيل: المعنى: للذين هادوا (و) عليهم، أي: يحكمون لهم (و) عليهم، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.
وقيل: المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار.
(و) عني بالنبيين - هنا - محمد ﷺ ومن قبله، قاله السدي وقتادة و [غيرهما].
والأحبار: [العلماء] [الحكماء]، واحدهم حَبْرٌ، وقيل: حِبْرٌ. وسموا أحباراً، لأنهم يحبرون الشيء، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ.
وسمي الحبر - الذي يكتب به - حبراً، لأنه يحبر به، أي: يكتب به.
وقال الفراء: التقدير فيه: مداد حِبْرٍ، (لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [قلت: " هذا] حِبْرٌ " للمداد، فالمعنى: مداد حِبْرٍ)، أي: مداد عالم، ثم تحذف مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقال الأصمعي: (إنما سمي) الحبر - الذي هو المداد - حِبْراً لتأثيره، يقال:
﴿والربانيون والأحبار﴾: القراء والفقهاء. وقيل: الفقهاء والعلماء. و " قال ابن زيد: الربانيون ": الولاة، والأحبار: العلماء ". والرَّبَّاني - عند أهل اللغة -: رب العلم، أي: صاحبه، والألف والنون للمبالغة.
وقيل: معنى ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾: للذين تابوا من الكفر، أي: يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " من الكفر.
وقوله: ﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ أي: يحكمون بما استودعوا من كتاب الله، والباء متعلقة بالأحبار، والمعنى: يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي: والعلماء / بما استودعوا من كتاب الله، ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ أي: وكان النبيون
وقوله ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون﴾ هذا خطاب للربانيين والأحبار، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه، وأن يخشوه في ذلك، قاله السدي وغيره. وقوله ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي: لا تأخذوا [الرّشى] في الأحكام، فإنه
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي: من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل، ﴿فأولئك هُمُ الكافرون﴾ أي: الساترون الحق.
وهذه في كفار أهل الكتاب.
وقيل: هي في المشركين.
وقيل: المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له، فأولئك هم الكافرون.
وقال بعد ذلك: ﴿هُمُ الظالمون﴾. وقال بعد ذلك: ﴿هُمُ الفاسقون﴾.
فقيل: إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ومن جميع الخلق.
وقيل: الوصف الأول لليهود، والثاني والثالث للمسلمين.
وقيل: نزل ﴿الكافرون﴾ في المسلمين إذا غيّروا حكم الله، و ﴿الظالمون﴾ في اليهود، و ﴿الفاسقون﴾ في النصارى. وهو ظاهِرُ النص.
قوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس [بالنفس]﴾ الآية.
قرأ الكسائي برفع (العين) وما بعده، واحتج له بإجماعهم (على الرفع) في ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣]، وقوله ﴿والله وَلِيُّ المتقين﴾ [الجاثية: ١٩]، فرفع [ما] بعد (أنّ)
وقيل: هو معطوف على موضع ﴿النفس (بالنفس)﴾. وقيل: هو معطوف على المضمر الذي في [النفس].
وقال بعض العلماء: من نصب جعله كله مكتوباً في التوراة، من رفع جعل ﴿والعين بالعين﴾ وما بعده ابتداء حكم في المسلمين، وجعل ﴿النفس بالنفس﴾ هو المكتوب في التوراة دون ما بعده. والرفع [قراءة] النبي عليه السلام فيما روي عنه.
ومن نصب ﴿والجروح﴾ عطفه على ما قبله، وأعمل فيه ﴿أَنَّ﴾، و ﴿قِصَاصٌ﴾
ومن رفع قطعه مما قبله، [واختير قطعه مما قبله] لمخالفة خبره خبر ما قبله، ولمخالفة حكمه حكم ما قبله، ولمخالفة إعراب خبره (إعراب) خبر ما قبله، فلما خالف ما قبله، من هذه الوجوه قوي القطع، فرُفع على الابتداء.
والمعنى: وكتبنا على هولاء اليهود الذين يحكمونك - وعندهم التوراة - في التوراة أن يحكموا بالنفس [في النفس] والعين " بالعين " وما بعده.
قال ابن عباس: لم يجعل الله لبني إسرائيل دية، إنما هو النفس بالنفس أو العفو.
فهذا استوى فيه أحرار المسلمين: الرجال والنساء فيما بينهم في النفس، وفيما دون النفس / إذا كان عمداً، ويستوي فيه العبيد: رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس، وفيما دون النّفس.
وأحسن ما روي في صفة الاقتصاص من العين ما فعل " علي " بن أبي طالب: وهو أنه أمر بِمِرْآةٍ فَأحْمِيَتْ، ثم وضع على العين الأخرى قُطناً، ثم أخذ المِرآة
وإذا ضرب رجل عين رجل فأذهب بعض بصره وبقي بعض، فالحكم فيها - على ما فعل علي بن أبي طالب -: أن تُعْصَب عينُه الصحيحة، ويعطى رَجُلٌ بيضة ويذهب " بها "، فحيث ما انتهى بصر المضروب عُلِّمَ، [ثم يرجع فيغطّي] عينه، وتكشف الأخرى، ثم يذهب الرجل بالبيضة فحيث ما انتهى بصر المضروب علم]، ثم يحوّل المضروب فيفعل به من ناحية أخرى في عينيه جميعاً مثل ذلك، ويكال الموضعان فإذا استويا نظر ما بين امتداد نظر الصحيحة والسقيمة، فيعطي من مال الضارب بقسطه، وبذلك قال مالك والشافعي.
روي ذلك عن عمر وعثمان. وقيل عليه القصاص، وهو قول علي بن أبي طالب، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن شاء فقأ عينه، وإن شاء أخذ دية عين أعْوَر كاملة.
وإذا أُوْعِبَ جَدْعُ الأنفِ، ففيه الدية، وهو قول سائر العلماء. ولو كسره
وأما السن: فجاء من الخبر من أنه أقاد من السن، وأنه قال: (و) في السن
ورُوي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في السن بخمس من الإبل أي: سن كانت، وبه قال عروة بن الزبير والزهري وقتادة ومالك والشافعي والثوري وغيرهم.
وروي عن عمر أنه حكم فيما أقبل من الفم - الثنايا والرباعيات والأنياب - بخمس فرائض في كل سن.
كل فريضة: عشرة دنانير، فذلك خمسون ديناراً في كل سن.
وإذا اسودت السن من ضربة أو جناية، فقد تم عقلها عند مالك وغيره، لأن جمالها قد ذهب، فإن طرحت بعد ذلك، كان فيها عقلها، لأن منفعتها قد ذهبت.
وروي عن عمر أنها إذا اسودت ففيها ثلث ديتها.
وقيل: فيها حكومة إذا اسودت، وبه قال الشافعي.
(وإن) قلعت سن الصبي، فنبتت، فلا شيء فيها، إلا أن تنبت ناقصة
وقيل: في ذلك حكومة.
وإذا أخذ الكبير دية سنه ثم نبتت، فلا يرد ما أخذ عند مالك، لأنه أخذه بحق. وقال أصحاب الرأي: يرد ما أخذ. واختلف في ذلك قول الشافعي.
ولو جنى عليها آخر فسقطت، أخذ صاحبها إرشها تاماً.
وكذلك قول الثوري وغيره: تقلع ثانية، لأن القصص للشَّيْن، فلا بد من قلعها.
وقال مالك في قصاص الأسنان: " الثنية بالثنية "، والرباعية بالرباعية والسفلى بالسفلى.
ولا [تقاد] سن إلا بمثلها في موضعها، فإن لم يكن له مثل الذي طرح، رجع ذلك إلى العقل.
وفي السن الزائدة إذا قلعت - عند مالك - حكومة، وهو قول الثوري والشافعي. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث السن.
فإن كسر بعضها أعطى صاحبها بحساب ما نقص منها، وهو قول الجماعة. [وأما] الأذنان: فإذا ذهب سمعهما ففيهما الدية، فإن قطعتا ولم يذهب
فإن ضرب رجل رجلاً فادعى المضروب أن سمعه ذهب، اغتفل المضروب وصيح به، فإن أجاب جواب من يسمع، لم يقبل قوله، وإن لم يجب، أحلف بالله: لقد صممت وما وجدت الصمم إلا منذ ضربت، فإذا حلف أعطي عقله كاملاً.
وفي اللسان الدية. فإن قطع بعضه، نظر ما نقص من مخارج الحروف من ثمانية وعشرين حرفاً، فيكون على الفاعل - من الدية - بمقدار ما ذهب من كلامه.
وليس في اللسان قود عند مالك، وروي عنه أنه قال: فيه القود إن كان
وفي لسان الأخرس حكومة عند مالك والشافعي وأهل العراق وغيرهم.
وقال النخعي: فيه الدية كاملة، وقال قتادة: فيه ثلثا الدية.
وفي ذهاب الصوت الدية عند جماعة من الفقهاء، وقيل: فيه حكم.
وفي كل اثنين من الإنسان الدية كاملة: في الأذنين والشفتين واليدين والرجلين ونحو ذلك.
وعن زيد بن ثابت أن في الشفة السفلى ثلثي الدية، وفي العليا الثلث، وهو
وفي اللحية حكومة عند ابن القاسم. وقال غيره: إن أنبتت فلا شيء فيها، وإن لم تنبت ففيها الدية.
وفي نتف الحاجبين وأشفار العينين حكومة عند مالك " وإن لم تنبت ".
والأصابع إذا زالت من الكف ففيها عقل اليد. وفي اليد من المنكب دية اليد لا غير. وما كان من ذلك خطأ، حملته العاقلة، وما كان عمداً ففيه القصاص.
وإذا شلت اليد أو الرجل فقد تم (عقلها)، فإن كان الضرب: عمداً، ضرب الضارب مثل ما ضرب.
ومن قطع (من) يد رجل أصبعين وما يليهما من الكف (في ضربة) واحدة، وجب عليه خمساً دية الكف.
ومن قطع كفاً لا أصابع فيها، ففيها حكومة.
ومن قطع يمين رجل - ولا يمين له -، فعليه العقل مثل عقل العمد - إذا قُبلت
ومن أصيب أصبعه خطأً، أو ذهبت بأمر من الله، ثم قطع كفه خطأ، فإنما له أربعة أخماس الدية على العاقلة.
وكذلك إذا ذهبت الأنملة، ثم قطع الكف، إنما له حساب ما بقي.
وفي الظفر الاجتهاد إذا برأ على عثم، وإن كان عمداً ففيه القصاص.
وروي عن النبي ﷺ أنه " جعل في الأصابع عشراً عشراً ".
وأصابع اليد والرجل سواء، لا فضل لبعضها على بعض.
والأشهَر أنها سواء (عشر عشر) لكل واحدة.
وفي كل أنملة ثلث دية الأصبع إلا الإبهام ففيها الثلثان، في كل أنملة نصف دية [الأصبع].
وروي عن مالك أنه قال: في الإبهام ثلاثة أنامل: الثالثة مع الكف، ففي كل واحدة ثلث دية الأصبع كسائر الأصابع.
وروي عنه أنه قال: الإبهام مفصلان: في كل مفصل نصف دية أصبع، وفي
وعن عمر أنه جعل في اليد الشلاء والرجل الشلاء ثلث ديتها.
وقال ابن شهاب: فيها نصف ديتها، ومثله الأصبع الأشل، وقال الشافعي: فيها حكومة.
وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي ﷺ.
وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.
وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.
فإن قطع القضيب بعد الحشفة ففيه اجتهاد عند مالك، وينتظر به حتى ينظر ما يحدث عليه من قطعه. فإن قطع من طرف الحشفة، قيس مقداره فيما بقي وكان بحساب ذلك، ولا يقاس ما بقي القضيب، لأن في الحشفة الدية كاملة.
وقال سعيد بن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية، لأن الولد منها، وفي اليمنى الثلث.
وإن قُطع ذكر رجل وأنثياه، ففي ذلك ديتان، وكذلك إن قطعا في وقتين، ففي كل واحد الدية.
وفي ذكر الخَصِيّ حكومة عند مالك، وفي الدية " كاملة " عند الشافعي. وقال قتادة: فيه ثلث الدية.
ويجتهد الإمام في اللطمة عند مالك. و " قد " قيل: / فيها القصاص.
وفي الموضحة - وهي الضربة التي توضح العظم - خمس من الإبل. وهي تكون في الرأس والوجه قال مالك: إنْ كانت التي في الوجه تَشِينهُ، زِيدَ على الجاني بقَدْر شَيْنِها. وليس موضحة البدن مثل موضحة الرأس والوجه. ولا يعجل
وقال مالك: يقاد من العمد، ولا يعقل جراحات الخطأ إلا بعد البرء، وإن اقتص من الجارح عمداً فبرأ، فإن كان جرحُه مثلَ جُرح المَجروح أوّلاً أو أكثر فلا شيء (عليه) للأول، وإن كان في الأول عثل وبرأ المقتص منه على غير عَثَلٍ، أو على عثل دون عثل الأول، اجتهد الإمام في الحكومة على قدر ما زاد شَيْنُ المجروح الأول.
وفي الموضحة - في سائر البدن - حكومة عند مالك والشافعي. وروي عن أبي بكر وعمر أن فيها نصف عشر دية ذلك العضو الذي وقعت فيه، وسند ذلك إليهما ضعيف.
وفي الهاشمة القودُ عند مالك إلا أن يخاف منها فلا يقتص منها، وفيها
وفي المأمومة - وهي التي تصل إلى أم الدماغ - ثلث الدية، وهو قول مالك
والشجاج - التي دون الموضحة - ست:
أولها: الدامية: وهي التي تَدْمَى ولا يسيل دمها.
ثم الدامعة: وهي التي يسيل دمها.
ثم الخارصة: وهي التي تَحرِص الجلد (أي) تشقه قليلاً، ومنه قيل: حَرَصَ الثوبَ القَصَّارُ: إذا شَقّهُ.
ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم أكثر من الباضعة.
ثم السمحاق: وهي التي لم يبق بينها وبين العظم إلا قشرة " رقيقة " وكل قشرة رقيقة فهي سمحاقة، ويسميها أهل المدينة: المِلْطاة، وفي جميع ذلك - عند مالك والشافعي وغيرهما - حكومة.
وقد حد غيرهم في كل نوع حدا: قضى زيد بن ثابت (ببعير في الدامية)، وفي الدامعة بنصف بعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي
وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك، وروي أن فيها نصف دية الموضحة، وروى مالك أن عمر وعثمان قضيا في [الملطاء].
وفي السمحاق بنصف الموضحة، وكان يرى فيها حكومة كسائرها. ورأى مالك: القصاص فيما دون الموضحة، مما ذكرنا إذا كان عمداً.
وفي ثدي المرأة نصف الدية، وفيهما جميعاً الدية كاملة، هذا مذهب الجميع.
وفي الحُلْمة - إذا انقطع لبَنُها - نصف الدية عند مالك.
وفي ثدي الرجل حكومة عند مالك. وعن زيد بن ثابت أن فيها ثمن
وقوله: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ﴾ أي: من تصدق بجرحه، هدم عنه ذنوبه مثل ما تصدق به، [قاله] جابر بن زيد. وروى الشعبي عن / رجل من الأنصار قال: سئل النبي عليه السلام عن قوله تعالى ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ قال: هو الرجل تُكسَرُ سِنُّه، أو يُجْرح في جَسَدِه فَيَعْفو عنه فَيُحَط من خَطاياه بقَدْر ما عفا: إن كان نصف الدّية فنصفُ خَطاياهُ، وإن كان ثُلثُ الدية فَثُلُث خَطاياهُ، وإن كان رُبُع الدية فَرُبُع خطاياه، وإن كانت الدية كلها فخطاياه كلها.
وقال قتادة: " ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ يقول: لولي القتيل الذي عفا ". فالهاء المجروح،
قال زيد بن أسلم: " إِنْ عَفا عنه، أو اقتص منه، أو قَبل منه الدية فهو كفارة له "، أي: للفاعل، وفي هذا القول بُعْدٌ، لأنه لم يَجْرِ ذكر للجارح، وإنما جرى ذِكرُ المجروحِ في (" مَنْ ")، فالهاء تعود عليه أَوْلى، وهو اختيار الطبري، قال: ولأَنّ المعهود أن التكفير إنّما يكون للمتصدِّق دون المتصدَّق عليه.
وقيل: الهاء في (بِهِ) لإرش الجرح، وفي (لَهُ) للجارح، أي: مَن تصدق بما وجب له من الإرش والدية ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾، أي: فذلك الفعلُ كفارةٌ للجارح والقاتل في
وقيل: (" مَن ") اسم للقاتل والجارح، والهاء في (به) تعود على القتل أو الجرح، والهاء في (له) تعود على القاتل أي: من تصدق بِبيان أنه هو القاتل وهو الجارح، فذلك الإقرار كفارة للمُقِرّ، لأنه قد أباح نفسه بإقراره لأخذ الحدّ منه، ورفع التُّهم عن الناس:
قال مجاهد: إذا أصاب الرجلُ الرجلَ بأمر، ولم يعرف الفاعل، فاعترف الفاعل، وأقرّ، فهو كفارة له، وقد روي أن عروة بن الزبير أصاب عين رجل خطأً عند الركن فقال: أنا عروةُ، فإن كان بعينك [بأس فأنا] بها.
قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
المعنى: و " أَتْبَعْنا عيسى بنَ مريم على آثارِ النبيين الذين أسلموا من قبلك ".
﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل﴾ أي: أعطيناه كتاباً اسمه الإنجيل، ﴿فِيهِ هُدًى﴾ أي: بيانُ ما جهِله الناس من حكم الله في زمانه، ﴿وَنُورٌ﴾ أي: وضياء من عمى الجهالة، ﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: وجعلنا الإنجيل مصدقاً لما قبل عيسى من التوراة وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل عيسى، ﴿وَهُدًى﴾ أي: هدى إلى صحة ما أنزل الله على أنبيائه من الكتب، ﴿وَمَوْعِظَةً﴾ أي: [زجراً] لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي: للذين خافوا الله واتقوا عقابه.
قوله: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ﴾ الآية.
مَن كسر اللام ونصب الفعل في ﴿لْيَحْكُمْ﴾، جعلها لام " كي "، والمعنى:
قال ابن زيد: كل شيء في القرآن " فاسق " فهو بمعنى " كاذب " إلا قليلاً، فالفاسقون هنا الكاذبون.
قوله: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ الآية.
المعنى: أنه خطابٌ للنبي ﷺ، والكتاب - هنا -: القرآن، ومعنى ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما قبله من كتب الله أنها حق من الله، ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ أي: شهيداً على الكتب / أنها حق، وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال للرجل إذا حفظ الشيء وشَهِدَه: " قد هَيْمَنَ، يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً ". قال ابن عباس: ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾
وقال ابن جبير: ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ ([أي] مؤتمناً)، القرآن مُؤتمن على ما قبله من الكتب، وكذلك (روي أيضاً) عن ابن عباس والحسن وعكرمة.
وقال عبد الله بن الزبير: المهيمن: القاضي على ما قبله من الكتب.
وقال المبرد: الأصل " مُؤَيْمن "، ثم أُبدِل من الهمزة هاء.
قال أبو عبيد: يقال: هيمن على الشيء، إذا حفظه.
فيكون على قول مجاهد ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ حالاً من الكاف في ﴿إِلَيْكَ﴾. وعلى قول غيره حال من الكتاب، مثل: ﴿مُصَدِّقاً﴾.
والهاء في ﴿عَلَيْهِ﴾ - في قول مجاهد - تعود على الكتاب (الأول الذي هو القرآن. وعلى قول غيره تعود على الكتاب) الثاني الذي هو بمعنى الكتب
وقد طعن قوم في قول مجاهد من أجل الواو التي مع " مهيمن "، لأن الواو توجب عطفه على " مصدق "، و " مصدق " حال من الكتاب الأول، والمعطوف شريك المعطوف عليه، قال: ولو كان حالاً من الكاف التي للنبي ﷺ في ﴿إِلَيْكَ﴾، لم يؤت بالواو، فالواو تمنع من ذلك. ولو تأول متأول أن ﴿مُصَدِّقاً﴾ حال من الكاف في ﴿إِلَيْكَ﴾، ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ عطف عليه، لَبَعُد ذلك، من أجل قوله: ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، ولم يقل " يديك ".
وهو جائز على بُعدِه على التشبيه بقوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢] بعد قوله: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾. فإن تأولته على هذا، كان " مصدق " و " مهيمن " حالين من
وقوله: ﴿فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي: إذا أتوك فاحكم بينهم بشرائع الله التي [أنزلها] عليك، ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق﴾ إذ قالوا: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا﴾ [المائدة: ٤١] أي: إن حَكَم بينكُم (في المحصنين) بالتَّحْميم والجَلْدِ بِحَبْل ليف فاقبلوا منه، وإن لم يحكم بذلك فاحذروا أمره ولا تتبعوه، وذلك قول يهود فَدَك ليهود المدينة، فأمر الله نبيَّه ألا يتبع أهواءهم في ذلك، وأن يحكم بما أنزل الله أي: بحدوده.
قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً [وَمِنْهَاجاً]﴾ أي: شريعة، ﴿وَمِنْهَاجاً﴾ أي: طريقاً واضحاً.
وقال مجاهد: معناه: لِكُلِّكُم جعلنا القرآن شِرعةً ومنهاجاً، أي: شرعة وطريقاً واضحاً، عنى بذلك أمة محمد ﷺ خاصة، هذا معنى قوله.
واختار الطبري القول الأول، وهو أن يكون: لكل أمة جعلنا شريعة
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: على دين واحد وعلى شريعة واحدة.
قوله تعالى: ﴿ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾ في الكلام حذف، والمعنى: ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم فيما آتاكم من شرائعه. وهذا خطاب للنبي ﷺ،
﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي: فبادروا إلى عملها قبل أن تعجزوا عنها بموت أو هرم أو مرض، فإن (مرجعكم إلى الله)، فيجازيكم بأعمالكم، ويخبر كل فريق بعمله، ويبين المحق من المبطل، (وتنقطع الدعاوى، لأن الأنبياء قد أخبرت بالمحق من المبطل) في الدنيا، ولكن الدعاوى لم تنقطع، ففي الآخرة تنقطع الدعاوى وتقع الحقائق.
قوله: ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ الآية.
هذا معطوف على ﴿الحق﴾ [المائدة: ٤٨] أي: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم بينهم. وهذا - عند جماعة - ناسخ للتخيير الذي تقدم في الحكم بينهم، أمره الله
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي: أعرضوا عن الاحتكام إليك والرضا بحكمِك، فاعلم أن ذلك إنما هو من الله ليعجل لهم عقوبة ذنوبهم السالفة في عاجل الدنيا.
﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ﴾ يريد به اليهود، إنهم لتاركون العمل بكتاب الله وخارجون من طاعته: ذكر ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: امضوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: قد علمت أننا علماء يهود وأشرافها، وإنا
قال ابن زيد: معنى ﴿أَن يَفْتِنُوكَ﴾: أن يقولوا لك كذا وكذا في التوراة بخلاف ما فيها، قد بين الله له ما في التوراة، فقال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ [المائدة: ٤٥]، يعني: كتب ذلك في التوراة.
قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ الآية.
قرأ الحسن وقتادة والأعمش ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية﴾، والحَكَم والحاكم سواء، والعامل فيهما [(يبغون)]، والحُكْم في الجاهلية: الكاهن.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
أكثر العلماء على أن المأمور بذلك جميع المؤمنين. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، كان بينهما وبين بني قَيْنُقاع عهد وحلف، فلما حاربت بنو قينقاع النبي عليه السلام، قام دونهم عبد الله بن أبيّ و [حاجّ] عنهم، ومضى
وقال الزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال بعض اليهود: غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لاَ عِلْمَ لَهُمْ بالقتال، أما أنّا لو عزمنا عليكم واستجمعنا لم يكن لكم يَدان بقتالنا، فتبرأ عبادة بن الصامت عند رسول الله من أوليائه من يهود، فقال عبد الله ابن أبي: لكن أنا لا أبرأ من ولاء يهود، أنا رجل لا بد لي منهم، فأنزل الله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى﴾ الآية.
وقيل: نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يخبرون اليهود والنصارى بأسرار المؤمنين ويوالونهم.
والاختيار عند الطبري أن يكون نهياً عاماً لجميع المؤمنين.
وقوله: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي: اليهود بعضهم أنصار بعض، وكذلك النصارى ففيه معنى التحريض للمؤمنين: أن يكون أيضاً بعضهم أولياء بعض.
قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي: من والاهم فهو منهم، لأنه لا [يواليهم] إلا وهو بدينهم راض، فهو منهم.
﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي: " لا يُوَفِّقَ " من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم لله ورسوله ".
هذه الآية بيان لما في الآية التي قبلها، والمعنى: ترى قوماً في قلوبهم مرض يسارعون في ولاية اليهود والنصارى، ﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ أي: تكون الدائرة علينا، فيوالون اليهود والنصارى لضُعْفِ إيمانهم.
وقيل: يعني بذلك عبد الله بن أبي بن سلول المنافق.
وقال مجاهد: كان المنافقون يَصَانِعُونَ اليهود ويَسْتَرْضُونَهم ويستعرضون أولادهم يقولون: نخشى أن تكون الدائرة لليهود، وفيهم نزلت الآية، وكذالك قال قتادة.
قال ابن عباس: معنى قولهم: ﴿نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ (أي): نخشى (ألا يدوم) الأمر لمحمد ويغلب علينا المشركون.
وقيل: يراد بها عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، لأن النبي ﷺ لم يزل في طلب بني / قَيْنُقاع حتى أسرهم، ولم يزل عبد الله بن أبي يسأل فيهم حتى خلاهم له وقال:
وقيل: المعنى: نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا علينا، فيوالونهم لذلك.
والأول أحسن لقوله: ﴿فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح﴾ أي: بالنصر.
(و) قال ابن عباس: فأتى الله بالفتح، فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَة قُريظَةَ، وسُبِيَت ذراريهم، وأُجْليَ بنو النضير.
ومعنى ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ يخبر بأسماء المنافقين الذين يوالون اليهود والنصارى.
﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ (في أَنْفُسِهِمْ)﴾. (من) موالاة اليهود والنصارى ﴿نَادِمِينَ﴾.
ومعنى: (بالفتح): فتح مكة، فيصبحوا نادمين إذا رأوا النصر.
وقيل: الفتح: القضاء، ومن قوله: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ [الأعراف: ٨٩].
قوله: ﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله﴾ الآية.
من نصب (يقولَ) عطفه على (أن يأتي)، وهو بعيد جداً، لأنك (لو قلت): " عسى زيد أن يقوم ويأتي عمروا " لم يجز، كما لا يجوز: " عسى زيد أن يقوم عمرو ".
ولو قلت: " عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو " حَسُنَ، كما يَحسُن " " عسى أن
فلو كان نص الآية: " فعسى أن يأتي الله بالفتح "، حَسُن العطف، وإنما تجوز الآية على أن تحمل على المعنى، لأن قولك: " عسى أن يأتي الله بالفتح " و " عسى الله أن يأتي بالفتح "، سواء فيجعل النصب على المعنى، ويكون مثل قول الشاعر:
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً... ومعنى الآية أنها متعلقة بما قبلها، والمعنى: ﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ إذا رأوا النصر، ﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾ بعضهم لبعض، تعجّباً منهم ومن نفاقهم: ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ مؤمنين والمعنى - على [قراءة] من أتى بالواو - مثل ذلك وهو أبين.
وقال مجاهد: المعنى: ﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [حينئذ]
﴿يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ﴾ إنهم مؤمنون.
قال الكلبي: فجاء الله بالفتح، فأمر الله نبيه بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء [بني] النضير، فندم المنافقون حين أُجلِيَ أَهْلُ وَدِّهِمْ، وظهر (نفاقهم)، فعند ذلك قال المؤمنون - بعضهم لبعض - ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ الآية.
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾: قال الحسن والضحاك وغيرهما: هم أبو بكر الصديق وأصحابه، رَدُّوا من ارتد بعد النبي وقال: لا نؤدي الزكاة إلى [أهل] الإيمان.
وقيل: هم أهل اليمن. وقيل هم آل أبي موسى الأشعري، " روي أن النبي ﷺ أَوْمَأ إلى أبي موسى الأشعري عند نزول هذه الآية، وقال: هم قوم هذا، وهم أهل اليمن " وعن مجاهد أنه قال: " هم قَوْمُ سَبَإٍ ". وقال السدِّي: هم الأنصار.
وقال علي بن أبي طالب: أذلة: ذوي رأفة " وأعزة: ذوي عنف.
وقال ابن جريج: أذلة: رحماء، أعزة: أعداء.
﴿يُجَاهِدُونَ﴾ أي: يجاهدون من ارتد ولم يؤمن، ﴿وَلاَ يَخَافُونَ﴾ في جهادهم ذلك ﴿لَوْمَةَ لائم﴾. وهذا مما يدل على صحة خلافة أبي بكر، لأنه جاهد بعد النبي من ارتد لم يرجع لقول قائل، وقد كان كسر عليه جماعة عن قتال أهل الردة فأبى إلا قتلهم، فقاتلهم حتى رجعوا إلى الإسلام وأداء الزكاة، فرأى كل من كسر عليه أولاً
قوله: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ﴾ الآية.
هذه الآية راجعة إلى ما تقدم من تحذير الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، فأعلمهم في هذه [الآية] أن الذي هو وليهم الله ورسوله والذين آمنوا.
وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من ولاية يهود.
وقال: الكلبي: " بلغنا أن عبد الله بن سلام ورهطاً من مسلمي أهل الكتاب أتوا النبي عند صلاة الظهر، فقالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدثاً دون المسجد، وإنَّ قومنا لَمَّا رأونا صَدَّقْنا الله ورسوله وتركنا دينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا ألا يخالطونا ولا يجالسونا، فشق ذلك علينا. فبينما هم يشكون ذلك إلى النبي حتى نزلت ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ الآية، فلما قرأها رسول الله ﷺ عليهم
قوله: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾،
قيل: هو علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. قال السدي مرَّ به سائل - وهو راكع - فأعطاه خاتمه. وقيل: عنى به جميع المؤمنين.
قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ الآية.
المعنى: أن الله أعلم أن من [تبرأ] من يهود - الذين هم حزب الشيطان -
قوله: ﴿اأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ الآية.
ومعنى الآية: أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، وهم (قد) أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني التوراة والإنجيل.
و [حذرهم] ألا يتخذوا الكفار أولياء، وهم مشركو قريش.
فمن نصب (الكفار) فالمعنى فيه: أنه تعالى نهانا عن اتخاذهم أولياء ولم يخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كأهل الكتاب. ومن خفض فمعناه أنه تعالى
ومعنى اتخاذهم ديننا هزواً ولعباً: / هو إيمانهم: ثم كفرهم وإظهارهم خلاف ما يبطنون أخبر الله عنهم أنهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤].
﴿واتقوا الله﴾ أي: اتقوه (في اتخاذهم) أولياء، ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي: مصدقين بالله.
قوله: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ الآية.
المعنى: أنه إخبار عما يفعل اليهود والنصارى، أنهم كانوا إذا نودي بالصلاة سَخِرُوا ولعِبوا من ذلك، لأنهم قوم لا يعقلون، ما في إجابتهم إليهم لو فعلوا، وما عليهم إذا سخروا من العقاب على ذلك.
قال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع في النداء " أشهد أن
وقال ابن عباس: ضحك قوم من اليهود والمشركون من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله (هذه). الآية.
قال الكلبي: كان إذا نادى منادي رسول الله للصلاة، قالت اليهود والمشركون:
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لليهود والنصارى: هل [تكرهون] منا وتجدون علينا شيئاً من الأشياء إلا إيماننا بالله وإقرارنا به، وبما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبل أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتب؟ ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي: وهل تنقمون منا إلا أن أكثركم فاسقون؟، كأنه: هل تنقمون إلا إيماننا وفسقكم؟.
ومنع بعض العلماء حمل ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ﴾ على ﴿تَنقِمُونَ﴾، وقال: كيف يجوز " هل تنقمون (منا) إلاَّ فسقكم "، والفسق منهم، فغير جائز أن ينقموا على غيرهم فسقهم، قال: وإنما هو مردود على (بالله) أي: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وبأن أكثركم
وذكر ابن عباس أن ناساً من يهود أتوا النبي ﷺ [ فسألوه] عمن يؤمن به من الرسل، فقال: ﴿آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى [وعيسى]﴾، وما أوتي النبييون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: " لا نؤمن (بمن آمن) به "، فأنزل الله ﴿قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ الآية.
قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً﴾ الآية.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا [دينكم] هزواً ولعباً م الذين أوتوا الكتاب والكفار -: هل أنبئكم بشر من ثواب ما تنقمون هو لعن ﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير﴾، وهم أصحاب السبت من اليهود.
﴿أولئك شَرٌّ مَّكَاناً﴾ أي: شر من هؤلاء الذين نَقَمتُم عليهم لإيمانهم بالله وبما أنزل من قبل، ﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي: أجْوَرُ / عن قصد الحق، وهذا كلام فيه تعريض لليهود الذين نقموا إيمان المؤمنين، فهم [المُعْنيون] بذلك.
وقيل: المعنى: أولئك الذين نقموا عليكم - أيها المؤمنين - شرُّ مَكاناً عند الله من الذين لعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير.
وقيل: المعنى أولئك الذين آمنوا شرّ؟ أم مَن لعنه الله؟، (ويعني به المقول) لهم ذلك من اليهود.
المعنى: وإذا جاءكم - أيها المؤمنون - هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا: " آمنا "، وقد دخلوا عليكم بالكفر إذا جاؤكم، وخرجوا به أيضاً كما دخلوا، لم يحولوا عما يعتقدون، وإنما كذبوا بألسنتهم وقالوا ما لا يعتقدون، ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا [كَانُواْ] يَكْتُمُونَ﴾ من كفرهم، قال السدي: هؤلاء ناس من المنافقين - كانوا يهود - دخلوا كفاراً (وخرجوا كفاراً)، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا.
قوله: ﴿وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ﴾ الآية.
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من هؤلاء اليهود يسارعون في الأثم، [أي] في الكفر، والعدوان، وهو مجاوزة حدود الله، فمعنى ذلك أنهم يسارعون في معاصي الله وترك حدوده، ويسارعون في أكلهم السحت، وهو الرشا في الأحكام.
قوله: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار﴾ الآية.
المعنى: هلاَّ ينهاهم عن ذلك الربانيون، وهم أئمتهم وعلماؤهم.
وقيل: وُلاتهم. (والأحبار) (و) هم الفقهاء والعلماء.
﴿عَن قَوْلِهِمُ الإثم﴾ وهو الكفر. وقيل: ﴿وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ وهو الرشوة في الأحكام.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي: لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لا ينهون عامتهم عن ذلك.
وقرأ أبو الجراح (الرِّبِّيُّون) وهم [الجماعات]، مأخوذ من الرِّبَّة، والرِّبَّةُ: الجماعة، ونُسب إليها فقيل: رِبِّيٌّ، ثم جُمع فقيل: رِبِّيُّونَ.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ الآية.
هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد ﷺ، إذ أخبرهم بمكنون سرهم وخفي اعتقادهم. ومعنى قولهم ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾: " خير الله مُمسَك " وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم واليد - هنا - بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ
لأنهم كانوا إذا نزل بهم خير، / قالوا: يد الله مبسوطة علينا، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ، قالوا: يد الله مقبوضة عنا، أي: نعمته وأفضاله.
وقد قيل: في قوله ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾: أنهما مطر السماء ونبات الأرض، لأن النعم (بهما ومنهما) تكون.
قوله: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: من الخير، ﴿وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ أي: أبعدوا من رحمة الله تعالى لقولهم ذلك. وقيل: غلت في الآخرة، وهو دعاء عليهم.
ثم قال تعالى - راداً لما حكى من قولهم -: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ أي: بالبذل
قال عكرمة ومجاهد والضحاك: قولهم ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ معناه: أنه بخيل ليس بالجواد. وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره.
قوله: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ قيل: معناه: نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان. وقيل: معناه: نعمتاه، يعني نعمته في الدينا ونعمته في الآخرة. والعرب تقول: " لفلان عند فلان يد "، أي: نعمة. وقيل: عنى بذلك القوة، كقوله: ﴿أُوْلِي الأيدي والأبصار﴾ [ص: ٤٥] أي: أصحاب القوة والبصائر في الدين.
وقد قيل في معنى قولهم: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ أي: عن عذابنا، [أي يده مقبوضة عن
واليد - عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله - صفة من صفات الله، ليس بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله، إذ ليس كمثله شيء، و (أن ما) وقع من ذكر هذا وشبهه، وذكر المجيء والإتيان، صفات لله، لا أنها فيها انتقال وحركة وجارحة، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت قد جعلته كبعض الأشياء الموجودة، وقد قال:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت، وأهل السنة يقولون: ان يديه غير نعمته.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي: بين اليهود والنصارى. وهو مردود إلى قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ﴾ [المائدة: ٥١].
﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ أي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم. قال قتادة: (لن تلقى) يهودياً ببلد إلا وجدته (من) أذل أهل ذلك البلد، ولقد جاء الإسلام - حين (جاء - وهم) تحت أيدي المجوس أبغض خلق الله إليه.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾ أي: يسعون في إبطال الإسلام، والكفر برسوله وآياته، ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ أي: " من كان عاملاً بمعاصيه ".
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتابءَامَنُواْ واتقوا﴾ الآية.
المعنى: لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله و [رسوله]، واتقوا مخالفتهما، ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ [سَيِّئَاتِهِمْ]﴾ أي: لغطينا ذنوبهم وسترنا / عليها. ﴿ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ أي: بساتين يتنعمون [فيها] في الآخرة.
أي: لو أن اليهود أقامت التوراة، أي: عملت بما فيها وأقرت بما فيها من صفة النبي ونبوته، ولو أن النصارى أقامت الإنجيل، أي: عملت بما فيه وأقرت بصفة النبي ونبوته التي هي فيه، ﴿وَ [مَآ] أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ يعني القرآن، أي: وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، والمعنى في ذلك: التصديق بجميع الكتب.
(و) قوله: ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ﴾ أي: من قطر السماء، ﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾: من نبات الأرض. وقيل: معناه التوسعة عليهم في الأرزاق كما يقول القائل: " هو في خير من قرنِهِ إلى قدمه ".
﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾: أي مؤمنة بمحمد. وقيل: مقتصدة في القول في عيسى أنه
قوله: ﴿يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ الآية.
والمعنى: أن الله تعالى: أكد على النبي في تبليغ ما أنزل إليه من ربه، لأنه كان يرفق بالناس في أول الإسلام وابتدائه، فأمر بالاجتهاد في التبليغ.
وقوله: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أي: إن تركت آية وكتمتها، لم تبلغ رسالته، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: إن (لم) تبلغ ذلك معلناً، غير مُتَوَقٍّ أمراً، فما
وقوله: ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ أي: أمره تعالى بالتبليغ، وأخبره بالعصمة من الناس.
قال ابن جبير: " لما نزلت ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾، قال رسول الله ﷺ: لا تحرسوني، فإنّ ربي قد عصمني. وكان ناس من أصحابه يتعقبونه في الليل، فلما نزلت ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾، قال: يا أيها " الناس " إِلْحَقُوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس " وروي " أن النبي كان إذا نزل منزلاً، اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فخرط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال النبي: الله،
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ﴾ الآية.
المعنى: لستم على دين حتى تصدقوا بما في التوراة من الفروض وصفة محمّد، و [بما] في الإنجيل، وتصدقوا [بما] أنزل إليكم من ربكم، وهو القرآن الكريم.
(و) قوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي: ليزيدنهم ما أطْلَعْتُكَ عليه من أمرهم، ﴿طُغْيَاناً﴾ أي: تجاوزاً في التكذيب، ﴿وَكُفْراً﴾ أي: [وجحوداً
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ﴾ الآية.
مذهب الخليل وسيبويه في [الصَّابون] أنه رفع على أنه عطف على موضع (إن) وما عملت فيه.
وقال الكسائي والأخفش: هو عطف على المضمر في ﴿هَادُواْ﴾. وقو قول مطعون فيه، لأنه يلزم أن يكون ﴿الصابئون﴾ دخلوا في اليهودية.
وقال الفراء: / إنما جاز الرفع، لأن ﴿الذين﴾ لا يظهر فيه عمل (إن).
وأجاز الكسائي: إن [زيدا وعمرو]. قائمان " قال: لضعف " إن " واستدل بقول الشاعر:
فإني وقيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ....
وقرأ [سعيد] بن جبير " والصَّابِينَ " بالنصب، على ظاهر العربية.
ومعنى الآية: أن الذين آمنوا بألسنتهم، يعني المنافقين، واليهود والصّابين والنصارى، من آمن منهم، أي: من حقّق الإيمان بمحمد - وما أتى به - بقلبه، وباليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم. وقيل المعنى: أن الذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، من ثبت منهم على الإيمان ﴿وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي: لا يخافون يوم
قوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً﴾ الآية.
اللام في ﴿لَقَدْ﴾ لام قسم، " والمعنى: أقسم " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على إخلاص التوحيد، والعمل بما أمرهم به، والانتهاء عما نهاهم عنه، وأرسلنا إليهم (بذلك رسلاً)، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسُهُم، فريقاً كذّبوا وفريقاً قتلوا، نقضاً للميثاق الذي أخذ عليهم. فالتكذيب اشتركت فيه اليهود والنصارى، والقتل هو من فعل اليهود خاصة، كانت تقتل النبيين (والمرسلين) إذا أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر.
قوله: ﴿وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ الآية.
المعنى: وظن هؤلاء الذين أُخِذَ ميثاقهم أنه لا يكون لهم من الله ابتلاء " واختبار بالشدائد من العقوبات، ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ أي: عن الحق والوفاء بالميثاق الذي
(و) قال مجاهد: (هم) اليهود خاصة وقيل: المعنى: وحسبوا ألا يكون اختبار. لقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، فعموا عن الحق وصموا.
وقيل: معنى ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾: ثم بعث الله محمداً يخبرهم أن الله يتوب عليهم إن تركوا الكفر وآمنوا، ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ أي: لم ينتفعوا بما قيل لهم.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
أخبر الله عن النصارى أنه لما اختبرهم بوفاء الميثاق، كفروا وقالوا: المسيح الله، وقد عملوا أنه (ابن) مريم، والله لا يكون مولوداً، تعالى (الله) عن ذلك. وأخبر عن المسيح أنه قال لهم ﴿اعبدوا الله﴾ إلى آخر الآية، وهذا قول اليعقوبية من اليهود.
والمسيح: الصديق.
وقيل: سُمِّيَ مسيحاً، لأنه كان لا يمسح بيديه ذا عاهة إلا برأ، ولا يضع يديه على شيء إلا أعطي فيه مراده. وقال / ثعلب: سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها بالسياحة.
و [قيل]: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.
وأما المسيح الدجال، فإنما سمي به لأنه أمسح العين، فهو بمعنى ممسوح، ك " قتيل " بمعنى " مقتول ".
قوله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ الآية.
أخبر الله في هذه الآية قولَ بعضهم وكفرهم، وهو قول جمهور النصارى.
قوله: ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ الآية.
(و) المعنى: [أفلا] يرجعون عن قولهم ويستغفرون منه، ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: ساتر: لذنوب الناس، ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم.
قوله: ﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ الآية.
هذا احتجاج على فرق النصارى في قولهم في عيسى. فالمعنى: ليس عيسى
(والصدّيقة: الفعلية من الصدقٍ].
ومعنى الآية: ما المسيح في إنبائه بالمعجزات - من إبراء الأكمه وإحياء الموتى - ﴿إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ أي: مثل الرسل التي قد خلت من قبله، أتى بالمعجزات كما أتى موسى وابراهيم، فهو أظهر الآيات، (فهو) كغيره ممن تقدم من الرسل الذين أظهروا الآيات.
- ومعنى ﴿خَلَتْ﴾: تقدمت -، فليس هو بأول رسول فيعجب منه.
قوله: ﴿انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات﴾ أي: انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى ﴿الآيات﴾، وهي العلامات على بطلان ما يقولون في أنبياء الله، ثم انظر: يا محمد - مع تنبيهنا إياهم على ذلك - كيف يؤفكون، أي: من أين يصرفون عن الحق. يقال لكل مصروف عن شيء: (هو مأفوك عنه)، و (وقد أفكت فلاناً عن كذا) أي: صرفته عنه، آفِكُه أَفْكاً، و (قد أُفِكَتِ الأَرْضُ): إذا صرف عنها المطر.
قوله: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء القائلين في المسيح ما ذكرت عنهم: أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، والذي خلقكم ورزقكم، فيخبرهم تعالى أن المسيح -
﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ أي: أنتم أقررتم أن عيسى كان في حال لا يسمع ولا يعلم، والله لم يزل سميعاً عليماً، " وهذا من ألطف ما يكون من الكناية ". وقيل: المعنى: ﴿هُوَ السميع﴾ لاستغفارهم لو استغفروه من قولهم في المسيح، ﴿العليم﴾ بتوبتهم - لو تابوا منه - وبغير ذلك من أمورهم.
قوله: ﴿قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد: يا أهل الإنجيل لا تغلوا في دينكم أي: لا تفرطوا في القول في أمر المسيح فتجاوزوا الحق في جعلكم إياه [إلهاً]، ولكن قولوا: ﴿رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ [مِّنْهُ]﴾.
وسمي (الهوى / هوى، لأنه يهوي) بصاحبه في الباطل والهوى - في القرآن - مذموم. والعرب لا تستعمله إلا في الشر، وأما في الخير فيستعملون الشهوة والمحبة.
قوله: ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
(ذلك) في موضع رفع، على معنى: ذلك اللعن بما عَصَوا، أو على معنى: الأمرُ ذلك بما عصوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: فعلنا ذلك بما عصوا.
والمعنى: أن الذين لعنوا على لسان داود (هم) أهل السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى (ابن مريم) هم أصحاب المائدة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة، والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. قال النبي ﷺ: " أول ما وقع النقص في بني إسرائيل: أن أحدهم كان يرى أخاه على
قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد في القرآن.
وقال مجاهد: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير. والمراد بذلك - والله أعلم - أنه (تعالى) حذرهم أن يقولوا في عيسى ما قالوا فلعنوا كما لعن هؤلاء.
ورُوي أن داود عليه السلام دعا عليهم على عهده: وذلك أنه مرَّ على نفر وهم
ثم أخبر تعالى أنهم ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾. أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، والمنكر: المعاصي.
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ في الكلام معنى القسم. والمعنى: أقسم لبئس الفعل فعلهم في تركهم النهي عن المعاصي.
وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن أولَ ما كان من نقض بني إسرائيل ومعصيتهم: أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، شبه تعْذير، فكان أحدهم إذَا لقي
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يزال العذاب مكفوفاً عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها، فلم تنكر، استحلوا عقاب الله ".
وقال عليه السلام: " إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تُغَيَّر ضرتِ العامة ".
وقال ﷺ: " ( لا تعذب) الخاصة بعمل العامة حتى تكون الخاصة تستطيع أن تغير على العامة، فإذا استطاعت ذلك - فلم تفعل - عذبت (الخاصة والعامة) ".
المعنى: ترى يا محمد كثيراً من اليهود يوالون المشركين من عبدة الأوثان ويعادون أولياء الله قال مجاهد: يعني المنافقين.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ﴾ ف (أَنْ) في موضع رفع، فالذي قدمت لهم أنفسهم هو سَخَطُ الله بما فعلوا. ﴿وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ﴾ / أي: مقيمون في الآخرة.
المعنى (لعنوا) - عند أكثر المفسرين -: أبعدوا من رحمة الله فمسخوا بذنوبهم.
(و) روى ابن حبيب في حديث يرفعه إلى النبي عليه السلام أنه قال: الممسوخ خمسة عشر صنفاً: الفيل، والدب، والضب، والأرنب، والعنكبوت، والخنفساء،
قيل: يا رسول الله، فما كان سبب هؤلاء إذ مُسخوا؟، فقال: أما الفيل فكان رجلاً لوطياً، وكان ينكح البهائم، لا يدع رطباً ولا يابساً، فمسخه الله فيلاً. وأما الدب فكان (رَجُلاً) مؤنثاً يؤتى، فمسخه الله دباً. وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج فمسخه الله ضباً. وأما الأرنب: فكانت امرأة [قذرة] لا تغتسل من حيض ولا غير ذلك، فمسخها الله أرنباً. وأما الخنفساء: فكانت امرأة سحرت ضرتها فمسخها الله
وأما الزهرة: فامرأة افتتن بها هاروت وماروت، فمسخها الله شهاباً.
وسورة المائدة: من آخر ما نزل من القرآن. وروي أن فيها إحدى وعشرين فريضة ليست في شيء من القرآن وهي: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، وما علمتم من الجوارح مكلبين، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم، وطعامكم حلٌّ لهم،
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه. وقد اختلف هل فيها منسوخ (أولا)، وقد ذكرنا ذلك في [موضعه] ".
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله﴾ الآية.
المعنى: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا
قوله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً﴾ الآية.
قوله: ﴿قِسِّيسِينَ﴾ هو جمع (قسِّيس) مسلماً، (و) تكسيره على (قساوسة)، أُبدل من إحدى السينات واواً. ويقال: (قَسٌّ) في معناه، وجمعه (قُسُوس)، ويقال للنميمة (قَسَّ).
والمعنى: لتجدن - يا مُحَمَّد - أشد الناس عداوة للذين اتبعوك، فآمنوا بك ﴿اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾، وهم عبدة الأوثان، ولتجدن أقربهم مودة لمن آمن بك، النصارى.
﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الحق.
وهذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر من نصارى الحبشة لما سمعوا القرآن أسلموا. " وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وَأَصْحَابٍ له أسلموا ".
قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي وفداً إلى النبي، فقرأ عليهم القرآن
قال ابن عباس: بعث النبي - وهو بمكة، حين خاف على أصحابه من المشركين - نفراً إلى النجاشي، منهم: ابن مسعود وجعفر بن أبي طالب، فبلغ ذلك المشركين، فبعثوا عمرو بن العاصي في رهط إلى النجاشي يحذرونه من محمد، فسبق أصحاب المشركين، فقالوا للنجاشي: خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها وقد بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك بخبرهم، قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون (لي)، فقدم أصحاب النبي، فأتوا باب النجاشي، وقالوا: استأذِنوا لأَولياء الله، فقال: ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله. فلما دخلوا عليه، سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى - أيها الملك - لم يحيوك بتحيتك!
وقال الكلبي: كانوا أربعين رجلاً: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، فأسلموا حين هاجر إليهم المؤمنون وسمعوا القرآن فعرفوا الحق وانقادوا
وقيل: إن الذي قرأ على النجاشي هو جعفر بن أبي طالب، قرأ عليه أول سورة مريم.
وقال السدي: بعث النجاشي اثني عشر من الحبشة: سبعة " قسيسون وخمسة " رهبان، ينظرون إلى النبي ﷺ ويسألونه، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله، فبكوا وآمنوا، / وأنزل الله فيهم: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين]﴾، فرجعوا إلى النجاشي فآمن وهاجر بمن معه، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله ﷺ والمسلمون واستغفروا له.
وروى ابن شهاب عن أم سلمة - زوج النبي عليه السلام، وكانت قد هاجرت إلى
قال أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو بن العاصي من أن يسمع النجاشي كلام المؤمنين، فدعا النجاشي المؤمنين، فلما جاءهم رسول النجاشي، اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون اذا جئتموه؟ قالوا: نقول - والله - ما علّمنا نبيُّنا وما أمرنا كائناً في ذلك ما كان. فلما جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقِفَته فنشروا مصاحبهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا (به) في ديني، ولا (في) دين أحد من [هذه] الملل؟، (و) قالت أم سلمة: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهـ، فقال له: أيها الملك، كنَّا
قالت أم سلمة: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله (من) شيء؟، قال له جعفر: نعم، قال: فَاقْرَأْهُ عليَّ. قالت: فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، فبكى النجاشي (وبكى أساقفته حِينَ سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي): إن هذا والذي جاء به عيسى لَيَخرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسْلِمْهم
ففي النجاشي وأصحابه نزل {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول [ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ
قالت عائشة رضي الله عنها في قول النجاشي: " ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخُذَ الرشوَة فيه، وما أطاع الله الناس فيّ فأطيع الناس فيه "، قالت: إن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر ولداً، فقالت الحبشة بينهم: لو قتلنا أبا النجاشي، وملَّكْنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه [اثني] عَشَرَ ولداً، فيتوارثوا الملك من بعده وتبقى الحبشة بعده دهراً.
فغَدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّه (ونزل) منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكَانَه من عمِّه قالت
قالت: / فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه وجاءوا به، وعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملَّكوه أنفسهم، فجاءهم التاجر الذين كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ فقالوا: لا نعطيك شيئاً، قال: إذن والله أكلمه. قالوا: فدونك.
قالت: فجاءه التاجر، فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموا إليّ غلامي (وأخذوا دراهمي حتى إذا سِرْت، خرجت بغلامي، أدركوني فأخذوا غلامي مني ومنعوني دراهمي. فقال لهم النجاشي: لتُعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه) يده في يده، فليذهبن به حيث
قال: فلذلك قال: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: لما مات النجاشي، كان يُتَحَدَّثُ أنه لا يزال نور يرى على قبره.
وقال ابن جبير: هم سبعون رجلاً وجَّهَ بهم النجاشي، وكانوا ذوي فقه وسنن، فقرأ عليهم النبي ﴿يس﴾ [يس: ١]، فبكوا، وقالوا: ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ وفيهم نزل: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٥٢] إلى قوله ﴿يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ [القصص: ٥٤] إلى آخر الآية.
والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وإذا كان جمعاً فواحده: " راهب "، وإذا كان واحداً فهو كقربان، وجمعه: رهابين، مثل قرابين.
ثم نعتهم تعالى ذكره في الآية الأخرى فقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق]﴾ يعني الرهبان والقسيسين الذين أتوا من عند النجاشي، فقرأ النبي ﷺ ﴿ يس﴾ [يس: ١] ففاضت أعينهم لما سمعوا الحق وعرفوه.
ومعنى: ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾: قال ابن عباس: مع محمد وأمته، لأنهم شهدوا أنه قد بلغ، وأن الرسل كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣].
ثم ذكر تعالى قولهم أنهم قالوا: ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق﴾ [الآية] وهو النبي والقرآن.
﴿وَنَطْمَعُ﴾ أي: ونحن نطمع، ﴿أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين﴾ أي: المؤمنين
قوله: ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾ الآية.
المعنى: فجزاهم الله بقولهم ذلك وإقرارهم وتصديقهم، ﴿جَنَّاتٍ﴾ أي: دخول جنات، ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في الآخرة، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين﴾.
أخبر تعالى أن من كفر منهم ومن غيرهم، وكذب بالقرآن، أنهم أصحاب الجحيم. " ﴿الجحيم﴾: ما اشتد حره من النار، وهو الجاحم " أيضاً.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ الآية.
(معنى الآية): أن الله أباح أكل الطيبات التي تشتهيها الأنفس، وألا يحرمها أحد على نفسه، ثم نهاهم عن الاعتداء، وهو تعدي الحدود التي (قد)
وهذه [الآية] " نزلت في أبي بكر وعمر (وعثمان) وعلي وابن مسعود وغيرهم، اجتمعوا في (دار) عثمان بن مظعون على أن يَجُبُّوا أنفسهم، وأن يعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً وأن يلبسوا المسوح، ولا يأكلوا من الطعام إلا القوت، وأن يسيحوا في الأرض / كهيئة الرهبان، فبلغ ذلك النبي عليه السلام، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده ولا [إياهم]، فقال لامرأة عثمان أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟، فقالت: ما هو يا رسول الله؟،
قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: مهلاً يا عثمان، فأنا أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت [ربي أن] يطعمنيه (في) كل يوم لأطعمنيه. قال: يا رسول الله: فإن نفسي تحدثني ألا أمس الطيب. قال: مهلاً يا عثمان، فإن جبريل أمرني بالطيب غباً، لا ترغب عن سنتي، [فمن] رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة. فقام رسول الله ﷺ ( وغلّظ) فيهم المقالة وقال: إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم يستقم لكم "
، فنزلت:
والاعتداء " ها " هنا هو ما نووا من جب أنفسهم، نهو عن ذلك، قاله السدي. وقيل: هو ما نووا من التحريم على أنفسهم. وقال الحسن: معنى: ﴿لاَ تعتدوا﴾ إلى ﴿مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾. وأصل الاعتداء: التجاوز إلى ما لا يحل.
قال تعالى: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً﴾ حلالاً لكم، ذلك (و) طيباً. ﴿واتقوا الله﴾ في أن تحرموا ما أحل (الله) لكم، أو تحلوا ما حرم الله عليكم، ﴿الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أي: مصدقون مقرون.
قوله: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ الآية.
معنى الآية: أن الذين ذكر أنهم أرادوا أن يحرموا الطيبات في الآية التي قبلها،
قال ابن عباس: لما نهاهم النبي عن ما أرادوا أن يفعلوا من التحريم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع في أيماننا التي حلفنا بها؟، فأنزل الله ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ (الآية). (﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾): من شدّد ﴿عَقَّدتُّمُ﴾ فمعناه: بما وكدتم الأيمان، فالتشديد يدل على تأكيد اليمين. ومن خفف فِلأَن " عقدهُ " تلزم فيه الكفارة إذا [حنث] بإجماع.
والتخفيف يدل على أنه إن عقده ولم يكرره لزمته الكفارة إذا حنث. وأنكر أبو عبيد على من قرأ بالتشديد، وقال: لأنه يوهم أن الحنث لا يجب إلا بتكرير اليمين، لأن " فعّل " - في كلام العرب - لتكرير [الفعل].
وهذا الاعتراض لا يلزم، وإنما يكون التشديد للتكرير مع الواحد، فأما مع الجميع فلا، لأنه قد تكرر واحد يمين عقده كقولك: " ذَبَّحتُ الكباش "، فكذلك ([عقّدتم الأيمان])، إنما وقع التكرير من أجل الجمع، ولو
- قسم يتكرر الفعل فيه على الواحد.
- وقسم يتكرر الفعل فيه على آحاد: مرة لكل واحد، وهو الذي في الآية.
وقال مجاهد: ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾: بما تعمدتم الأيمان. وقال عطاء: " بِما عقَّدتم الأيْمَانَ " كقولك " والله الذي لا إله إلاّ هو ".
وروى نافع عن ابن عمر: إذا حلف من غير أن يُؤَكِّدَ اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين [مد] وإذا وكَّد اليمين أعتق رقبة.
فقيل لنافع: ما معنى " وكَّد اليمين "؟، قال: أن يحلف على الشيء مراراً.
ولغو اليمين: أن يحلف على الشيء يراه أنه كما حلف، ثم لا يكون كذلك، وهو
وقيل: هو تحريمك ما أحل الله لك، فلتفعله ولا كفارة عليك، قاله ابن جبير وغيره. وقال مسروق: لغو اليمين: كل يمين في معصية ليس فيها كفارة.
وعن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان. لا كفارة في جميع ذلك على الاختلاف المذكور.
والأيمان ثلاث: - يمين تُكَفَّر، كيمينك ألا تفعل الشيء ثم تفعله.
- والثانية: يمين لا تكفر لشدتها، وجرمها عظيم، وهو أن تتعمد فتحلف على الشيء وأنت تعلم أنك كاذب.
وقوله: ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾: الهاء تعود على ما في قوله ﴿بِمَا عَقَّدتُّمُ﴾، فمعناه: " فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين ".
وقيل: الهاء تعود على " اللغو "، وفيه ذكرت الكفارة، وأما ما عقدتم يمينه فلا كفارة له وهو أعظم من أن يكفر.
والأحسن أن تعود الهاء على (ما): لأن اللغو في اللغة: المطرح، (ولو) كان اللغو يكفر لم يكن مطرحاً. وقيل المعنى: فكفارة " إثمه ".
والإطعام: أن تطعم لكل مسكين مداً في قول مالك وغيره. وقيل: تطعم
ومعنى ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ أي: من أعدل ذلك، قيل: الخبز والسمن.
وقيل: الخبز والتمر. و [قيل]: الخبز و [الزيت] وقيل: المعنى: من أوسط ذلك في الشبع: / إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين، وإن كان ممن يقوتهم، قوت المساكين.
وروي عن عاصم من طريق الشموني عن أبي بكر (أوسط)
قال مالك: إن غذاهم وعشاهم أجزأه، ولا يجزيه قيمة الطعام عند الشافعي، وهو قياس مذهب مالك، وأجازه بعض العراقيين، ولا يعطي إلا مسلماً.
ولا يجزيه إلا مؤمنة إن أعتق. ولو أعتق مولوداً أو مرَضعاً من قِصَر النفقة أجزأه عند مالك.
[﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾ أي: إن لم يجد الإطعام ولا العتق والكسوة فعليه
والتفريق عند مالك يجوز في كفارة اليمين، وهو قول الشافعي وغيره. والصوم للعبد أحسن وإن أذن له سيده بالعتق والإطعام، ولم يُجِز له جماعة إلا الصوم، واختلف فيه قول مالك. والكفارة قبل الحنث جائزة، وبعده أحسن.
وقد قيل: لا تجزي قبله.
وقد بدأ تعالى ذكره في هذه الآية بالتخفيف، ثم أتى بالأشد بعده، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى (بالأخف بعده)، وذلك أن الله جل ذِكره إنما بدأ بالأخف ثم أتى بالأشد على طريق التخيير، فأتى بـ (أوْ) للتخيير، ثم أتى بالأَخف بعد ذلك عند عدم ما وقع فيه التخيير، فقال: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى بالأخف عند عدم الأشد، لا على طريق التخيير في ذلك.
قوله: ﴿ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾: (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من الإطعام أو العتق أو الكسوة، أو الصيام عند عدم الثلاثة، ومعنى ﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي: ستر إثم
﴿واحفظوا أَيْمَانَكُمْ﴾ أي: احفظوها أن تحنثوا، ولا تكفروا.
﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ﴾: أي: كما يبين لكم الكفارة في أيمانكم، يبين الله لكم آياته، أي: علاماته، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (أي تشكرون) على هدايته لكم وبيانه لكم.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ الآية.
أخبر الله تعالى الذين أرادوا التحريم على أنفسهم - بعد أن نهاهم عن التحريم - أن الخمر والميسر - وهو الذي يتياسرونه -، والأنصاب - وهي التي يذبحون عندها -، والأزلام التي يقتسمون بها ﴿رِجْسٌ﴾ أي: إثم ونتن، ﴿مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي: مما زيَّنه الشيطان لكم وحسنه في أعينكم، [﴿فاجتنبوه﴾] أي: فاتركوه وارفضوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار هو ما يتخاطر الناس عليه.
قال الأصمعي: الميسر كان في الجزور خاصة، كانوا يقتسمونها على
" والأنصاب: حجارة كانوا يعبدونها في الجاهلية، " والأزلام: القداح ".
والرجس: كل عمل يقبح فعله، (وهو) النتن.
(و) قوله ﴿فاجتنبوه﴾: الهاء تعود على " الرجس ". وقيل: تعود على " الخمر ". / وقيل: المعنى: فاجتنبوا هذا الفعل. وقيل: المعنى: فاجتنبوا ما ذكر.
وذكر ابن المنكدر أن النبي عليه السلام قال: " مَن شَربَ الخمرَ ثُمّ لم يسكر، أَعْرَضَ
قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة﴾ الآية.
(المعنى): إنما يريد الشيطان بكم شرب الخمر ليوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله﴾ أي: يصدكم بغلبة الخمر والميسر عليكم عن ذكر الله وعن الصلاة، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ أي: عن شرب الخمر.
ويقال: إن عمر ذكر لرسول الله مكروه عاقبة الخمر، فأنزل الله تحريمها.
وروي أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في " البقرة ": ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر﴾ [البقرة: ٢١٩] الآية، فقُرِئت على عمر فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " النساء ": ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ [النساء: ٤٣] الآية، فكان النبي يقول إذا
وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله حتى يقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ما له في يد غيره، فيورث ذلك عداوة بينهم. فنهى الله عن ذلك، وهو الميسر.
وقال ابن عباس: شرِب حيّان من الأنصار الخمر حتى سكروا، فلما سكروا جرح بعضهم بعضاً، فلما صَحَوْا، جعل (يرى الرجل) الأثر في وجهه ورأسه ويقول: فعل هذا بي أخي فلان!، وكانوا إخوة لا ضغائن بينهم، فصارت بينهم ضغائن، فنزلت الآية بالتحريم.
قوله: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا﴾ الآية.
المعنى: وأطيعوا الله تعالى في اجتنابكم ما تقدم فيه النهي عن الخمر والميسر
قوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ﴾ الآية.
المعنى: في قول ابن عباس وغيره -: أن المؤمنين قالوا لما نزل تحريم الخمر: (يا رسول) الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ الآية.
﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ أي: اتقى اللهَ الأحياء منهم في اجتناب ما حرم عليهم، ﴿وَآمَنُواْ﴾
فهذه الآية نزلت - في قول الجميع - فيمن مات منهم وهو يشربها، أُعلِموا أنه لا جناح عليهم. وقال جابر بن عبد الله: صبح ناس غداة أُحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها، يريد: فنزلت الآية فيهم.
وقيل: معنى ﴿إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ﴾ أي: اتقوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها " ﴿ثُمَّ (اتَّقَواْ وَآمَنُواْ)﴾ أي: اتقوا الكبائر وازدادوا إيماناً، " ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ " أي: اتقوا الصغائر، ﴿وَّأَحْسَنُواْ﴾ بالنوافل.
وقيل: ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ الكفر، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ الكبائر، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ الصغائر.
وقيل: [معنى هذا: ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾ فيما مضى: على إضمار " كان " مع " إذا "، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ في الحال التي هم فيها، ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ فيما يستقبلون.
(وقيل: ﴿......﴾ ﴿إِذَا مَا اتقوا﴾: في الحال التي هم فيها [﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ فيما
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد﴾ الآية.
أي: يا أيها الذين صدقوا. ليختبرنكم الله في الطاعة والمعصية بشيء من الصيد، أي: ببعضه، لأنه صيد البر خاصة، ف (مِن) للتبعيض. وقيل: هي لبيان الجنس.
قوله ﴿تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ يعني ما يؤخذ باليد من البيض والفراخ.
﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ كالحمير والبقر والظبا، وما يصاد بالنبل، امتحن الله عباده في حال إحرامهم لعمرتهم وحجهم، فلا [يقربوه].
﴿لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب﴾ أي: كي يعلم من يتبع أمره ممن لا يتبع، ﴿بالغيب﴾: في
وقيل: ليعلم ذلك علم معاينة يقع عليها الجزاء، وقد علمه غيباً لا إله إلا هو عَلاَّم الغيوب.
قوله: ﴿فَمَنِ اعتدى﴾ أي: فمن تجاوز حد لله في الصيد بعد تحريمه عليه ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: موجع.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ الآية.
﴿هَدْياً﴾ حال من الهاء في (به)، ويجوز نصبه على البيان، ويجوز نصبه على المصدر.
و ﴿بَالِغَ الكعبة﴾ نعته، والتقدير فيه: التنوين. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا، لا
﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً﴾ (أي) ناسياً لإحرامه، معتمداً لقتل الصيد، فإن كان ذاكراً لإحرامه وتحريمه، فمجاهد وابن زيد يقولان: لا حكم عليه و [نقمة] الله منه أعظم. ومن الناس ما قال: لا حج له.
ومن قتل الصيد خطأ، فعليه ما على المتعمد عند مالك وجماعة غيره.
وقيل: لا شيء عليه، إنما أتى النص في المتعمد. وقال الزهري: نص الله
(قال أبو محمد): (وإيجاب الجزاء على المخطئ) يحتاج إلى نظر، وقد أفردنا لذلك كتاباً لاتساع الكلام في ذلك، إذ ظاهر النص يعطي ألا شيء على المخطئ، وإيجاب الجزاء على المخطئ [أولى] لدخوله تحت عموم الابتلاء في قوله ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله﴾ [المائدة: ٩٤]، ولدخوله تحت عموم النهي في قوله: ﴿لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، ولدخوله تحت عموم التحريم في قوله / ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ [المائدة: ٩٦]، ولأنه عمل أهل المدينة، ولِمَا قال ابن شهاب: إنه السنة.
ومعنى ﴿فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم﴾ هو (أن ينظر) إلى أشبه الأشياء به، فيجزيه
فمن أصاب نعامة فعليه بَدَنَة، وفي بيض النعامة عُشر ثَمن البدنة، هذا قول مالك، كما يكون في جنين الحرة (غُرَّةٌ: عَبْدٌ أو) وليدة، وقيمة الغرة خمسون ديناراً وذلك عُشر دية الأم.
وفي الظبي شاة. وفي الأرنب - عند مالك - قيمتها من طعام، وكذلك ما أشبه الأرنب، مثل اليربوع وشبهه، مثل الضب: فإن شاء أطعم كل مسكين مداً، وإن شاء صام لكل مُدٍّ يَوْماً، هو بالخيار.
وفي الحَمَام - عند مالك شاة. وفي حمام الحِلّ حكومة عند مالك، وليس كحمام الحرم، وكره مالك أن يذبح الأهلي وهو محرم.
وصيد الحرم حرام على الحلال عند جميع العلماء.
ورخص مالك في إدخال الصيد من الحل إلى الحرم. ومنعه غيره، وكرهه ناس.
وإذا نتف المحرمُ من الطيرِ ما يَضُرُّ به ويخاف منه هلاكه، فعليه جزاؤه تامّاً عند مالك. وإذا أحرم وفي يده صيد فعليه أن يرسله. ويأكل المحرم لحم
وكفارة الصيد في قتل الصيد ككفارة الحر.
ولا يكون الجزاء إلا بمنى أو بمكة.
ويحكم في الجزاء عدلان يجتهدان. ولا يحكمان في ذلك من الإبل والبقر والغنم إلا بما يجوز في الضحايا. وإذا اختلفَ الحكمان في الجزاء، ابتدأ الحكم غيرهما. ولهما أن يحكما بغير أمر الإمام، وله أن يرجع إلى غيرهما.
ولا يطعم بعضاً ويصوم بعضاً، بل يطعم الكل أو يصوم عن الكل.
وقيل: يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهو قول من قال: يعطي
وقال الكسائي: هما لغتان في المثل.
وقرأ طلحة بن مصرف والجحدري: ﴿أَو عَدْلُ﴾ بالكسر، وأنكر ذلك جماعة من أهل اللغة، لأن العِدل (نصف) الحمل.
وقوله: ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ أي: عفا لكم عما سلف لكم في جاهليتكم من قتل الصيد وأنتم حرم، ولكن من عاد فقتله - وهو محرم - فالله ينتقم منه في الآخرة وعليه الكفارة. وقد ذكر ابن عباس أن المعنى: من عاد مرة أخرى فقتل متعمداً، فلا حكم عليه، والله (ينتقم منه)، ومن عاد خطأ حكم عليه.
وقيل: المعنى عفا (الله) لكم عن قتلكم الصيد قبل تحريمه عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريمه عليه. عالماً بقتله وبِإِحْرامِه، فالله ينتقم منه، ولا كفارة عليه.
﴿والله عَزِيزٌ﴾ / (أي): ممتنع، ﴿ذُو انتقام﴾ أي: ذو عقوبة لمن عصاه.
قوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ﴾ الآية.
المعنى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ - وأنتم حرم - ﴿صَيْدُ البحر﴾ وهو حيتانه.
و ﴿مَتَاعاً﴾ مصدر، والمعنى: متعتم به متاعاً، لأن المعنى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾: متعتم بصيد البحر متاعاً.
ومعنى ﴿وَطَعَامُهُ﴾ (أي): ما قُذِفَ ميتاً. وقيل: طعامه ما كلن مملحاً، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل: طعامه ما جاء به الموج. وقيل: صيده أن يصطادوه، وطعامه أن يأكلوه، فذلك حلال لهم، وهذا قول حسن، أباح الله الصيد واللحم. وقرأ ابن عباس: (وطُعْمُهُ) بضم الطاء من غير ألف.
ولم يرَ في الحوت يُطرح في النار حياً بأساً. وكرهه غيره. ودواب
وليس في شيء يخرج من البحر ذكاة. وليس طير الماء من صيد البحر، (لأنها تعيش) في البر.
قوله: ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ﴾: (أي منفعة لكم)، ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أي: يأكل منها السيارةُ في أسفارهم، وهو المملح.
قوله: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ أي: حرم الله عليكم أن تصطادوا من البر ما
وأجاز قوم للمحرم أن يشتري الصيد المذبوح من ماله، لأن النهي إنما وقع على صيده.
﴿واتقوا الله﴾ أي: احذروه فيما أمركم به، فإنه إليه تحشرون فيثيبكم بأعمالكم.
قوله: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام﴾ الآية.
إنما سميت الكعبة كعبة لتربيعها، قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: لتربيع أعلاها.
ومعنى ﴿قياما﴾ أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: جعلها مصالح لأمورهم، كالرئيس الذي يصلح أمر من يتبعه، وكذلك ﴿الهدي والقلائد﴾ جعل ذلك أيضاً قياماً للناس.
والناس - هنا -: مَن كان في الجاهلية، كان الرجل لا يخاف إذا دخل في الحرَم
وقيل: الناس هنا: جميع الناس.
قال ابن عباس: قياماً لدينهم ومَعْلَماً لحجهم. قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع عن بعضهم (ظلم بعض)، فجعل الله لهم البيت الحرام قياماً، يدفع بعضهم عن بعض، وكذلك الشهر الحرام لا يؤذى أحد في الحرم، ولا في الشهر الحرام وإنْ كان ذا جناية، وهذا (كله منسوخ) بالحدود (و) بقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، لا يمنع الحرم من الاقتصاص من جان، ولا من إقامة حد على من وجب عليه الحد، وهذا إجماع.
قال بعض العلماء لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما أنظِروا.
قوله: ﴿ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ الآية.
(ذلك) إشارة إلى ما تقدم من قوله: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام﴾ الآية، فالمعنى: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما تحدثون وما تصنعون، كما يعلم ما في السموات و ﴿مَا فِي الأرض﴾، ولتعلموا أن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء من أموركم.
قال المبرد: كانت الجاهلية تعظم البيت الحرام و ﴿الأشهر الحرم﴾، كانوا يُسَمُّون رجباً: الاصم "، لأنه (لا) يسمع فيه وقع السلاح، فأعلم الله ما يكون منهم من إغارة بعضهم على بعض، فألهمهم (الله) ألا يقاتلوا في الأشهر الحرم، ولا
وفي تكرير الاسم في قوله: ﴿وَأَنَّ الله﴾، ولم يقل: " وأنه "، معنى التعظيم.
قال: ﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ الآية تخويفاً، والمعنى: اعلموا - أيها الناس - أن الله شديد العقاب لمن عصاه، وأنه غفور لذنوب من أطاعه، أي: ساتر لها، رحيم (به).
قوله: ﴿مَّا عَلَى الرسول﴾ الآية.
هذه الآية تحذير من الله لعباده ووعيد، والمعنى: ليس على الرسول إلا أن يبلغ الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ثم إلى الله فعل الثواب بمن أطاع، والعقاب بمن عصى، ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ أي: غير خفي عليه ما تبدون من طاعته ومعصيته، وما تخفون من ذلك.
قوله: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث﴾ الآية.
المعنى: قل يا محمد: لا يعتدل الصالح والطالح ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾ أي: لو كثر أهل المعاصي، فإن أهل الطاعة - وإن قَلُّوا - هم أهل رضوان الله. و ﴿الخبيث﴾: المشركون، والطيب: المؤمنون. وهذا خطاب للنبي عليه السلام، (و) يراد به أمته، ودل على ذلك قوله: ﴿فاتقوا الله يا أولي الألباب﴾ أي: فاتقوه فيما أمركم يا أولي العقول واحذروا أن يستفزكم الشيطان بإعجابكم بكثرة المشركين، وتضعف نيتكم بقلة المؤمنين، فإن المؤمن لا يستوي مع المشرك.
هذه الآية: نزلت في سبب أقوام سألوا النبي مسائل امتحاناً له، فيقول له بعضهم: (من أبي)؟، ويقول بعضهم إذا ضَلَّت ناقته: أين ناقتي؟، فنهى الله عن ذلك.
قال أنس: " سأل الناس النبي حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم وقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينتُ لكم. فألقى الناس ثيابهم على رؤوسهم يبكون، فأنشأ رجل كان إذا لاحى دعي بغير أبيه - فقال: يا رسول الله، من أبي؟، قال: حذافة، فقام عمر فقبّل رِجلَ رسول الله فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، أعوذ بالله من شر الفتن. فقال النبي ﷺ: أما والذي
وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله صلى الله عليه - وهو غضبان - حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل (فقال): أين أنا؟ فقال: في النار. و (قام آخر فقال): من أبي؟، قال: (أبوك) حذافة. فقام عمر (وقال): رضينا بالله رباً
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " لما نزلت هذه الآية ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟، فسكت، ثم قالوا: أفي كل عام؟، فسكت، ثم قال: لا ولو قلت " نعم " لوجب، فأنزل (الله) الآية ".
وروي أنه قال " لما كرر عليه السؤال: والذي نفسي بيده، لو قلت: " نعم " لوجبت، (ولو وجبت) عليكم، ما أطعتموه، ولو تركتموه لكفرتم، فأنزل الله ﴿لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ﴾ الآية ".
وروي عنه أنه قال: " لو قلت " (نعم) " لوجبت، و (لو وجبت) ثم تركتم،
وهذه القصة فيها ثلاثة فصول من النظم مختلفة:
فمن قوله: ﴿يا أيها﴾ إلى قوله: ﴿تَسُؤْكُمْ﴾: نهى عن السؤال للنبي فيما لا يعنيهم، فهذا فصل.
- والثاني: قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا﴾ إلى ﴿لَكُمْ﴾، والمعنى: وإن تسألوا عن أشياء أُخَر - غير الأول - تظهر لكم، (لأن) الله قد نهاهم عن السؤال، فكيف (يبيح لهم) ذلك؟ إنما تقديره: وإن تسألوا عن غيرها حين ينزل القرآن تظهر لكم، فيكون الكلام فصلاً ثانياً (مبيناً على حذف) المضاف وهو " غير "، إذ قد امتنع أن يقول لهم: لا تسألوا عن ذلك، وإن تسألوا عنه حين ينزل القرآن يظهر
والفصل الثالث: قوله: ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ﴾
فهذا سؤال لغير شيء، والسؤال الأول والثاني إنما هما سؤال عن الشيء: ما هو؟ وكيف هو؟، سؤال عن حال.
وعن ابن عباس أنهم سألوا عن البحيرة (والسائبة) والوصيلة والحامي، فأنزل الله الآية ينهى عن السؤال، قال: ألا ترى أن بعده ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] الآية، فهو جواب لمن سأل عنه.
قوله: ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ﴾.
أي: ولكن [إن تسألوا] عنها إذ أنزل القرآن بها، فإنها تظهر لكم، قال تعالى:
قوله: ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ أي: ما لم يكن مذكوراً في حلال ولا حرام، فهو شيء عفا الله عنه، فلا تبحثوا عنه، فإنما هي أشياء حرَّمها الله فلا تنتهكوها، وأشياء أحلها فلا تحرموها، وأشياء عفا عنها وسكت عنها، فلا تبحثوا عنها، فلعلها إن ظَهَر لكم حكمها ساءكم ذلك، وإن سألتم عنها إذا نزل القرآن بها ظهرت لكم.
﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: ساتر لذنوبكم، ﴿حَلِيمٌ﴾ عما ترتكبون من مخالفته. ثم أخبر أن قوماً سألوا عنها من قبلنا، فلما فرض عليهم، وبيّن لهم ما سألوا عنه وأعطوا ذلك، كفروا به، وذلك كقوم صالح الذين سألوا الناقة، وقوم عيسى الذين سألوا المائدة فكفروا لما نزلت.
وقيل: المعنى: أنها نزلت فيما سئل النبي بمكة من قولهم: اجعل لنا الصفا ذهباً، فلم يلتفت إلى قولهم صلى الله عليه، فكفروا.
أي: ما حرم الله ذلك. وقيل: المعنى: ما بحر الله بحيرة]، ولا وصل وصيلة ولا / سيب سائبة، ولا حمى حامياً، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك.
وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً﴾ [الزخرف: ٣] أنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه، وهذه الآية تظهر جهلهم، وهو قوله: ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ﴾، فإن كان " جعلنا " بمعنى " خلقنا " قد نفى عن نفسه هنا الجعل، فمن خلقها؟ (أَثَمَّ) خالق غير الله؟ ويدل على فساد قولهم: قوله تعالى:
والبحيرة: " فَعِيلة " بمعنى " مفعولة "، وهي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة.
والسائبة: " فاعلة " بمعنى " مَفعِلة "، كما قيل: راضية بمعنى مَرْضِية، وهي
وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم كانت - في الجاهلية - إذا أتت بذكر وأنثى، قيل: " قد وصلت أخاها "، أي: منعته من الذبح، فسموها وصيلة.
وأما الحامي: فهو الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب والانتفاع بسبب تتابع أولاد [تَحدُث] في فِحْلَتِه.
وقال قتادة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظر إلى البطن الخامس، فإن كان ذكراً أكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، وإن
وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى البطن السابع، فإن كان ذكراً ذبح، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت ميتة أكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت، وإن (كانت ذكراً) وأنثى، قيل: وصلت أخاها فمنعته من الذبح. وكان الحامي هو الفحل إذا ركب من ولده عشرة، / قيل: حمى ظهره، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق.
ويقال: إن الناقة كانت إذا (تتابعت باثنتي عَشْرَةَ أنثى) ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها، فما نتجت - بعد ذلك - من أنثى شقَّ أذنها وخلاّها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، كما (فعل)
والوصيلة: هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، وقالوا: وصلت، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله: الذكور والإناث منهم.
والحامي: هو الفحل إذا نتج (له) عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك. فنفى الله جل ذكره عن نفسه أن يكون سمى شيئاً من ذلك أو صيّره كذلك، فقال: ﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب﴾ أي: يخترقونه.
و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾: هم اليهود، والذين ﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾: أهل الأوثان.
وقيل: إنهم لا يعقلون (أن) الشيطان حرمه عليهم وسنَّه لهم.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: " قَد عَرَفْتُ أََوَّلَ مَن سَيَّب السُّيَّب، ونصَّب النُّصُب وغَيَّرَ عَهْدَ إِبراهيمَ: عمرو بنُ لُحَيّ، لقد رأيتُه وإِنَّه لَيَجُرَّ قُصَبه في النار يؤذي أهلَ النار بريحه " القُصْبُ: الأمعاء. روى مالك أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء أن النبي قال: " قد عرفت
قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾ الآية.
المعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين قد سموا ما ذكر من البحيرة وغيرها: تعالوا إلى كتاب الله وإلى رسوله ليتبين لكم كذب قولكم فيما سننتم، ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ أي: يكفينا ما صنع آباؤنا، ويرضينا من تحليل وتحريم، ثم قال الله تعالى لنبيه: أولو كان - يا محمد - آباء هؤلاء القائلين لا يعلمون شيئاً ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي: ولا يهتدون، جهلوا أنهم يفترون على الله بقيلهم ما كانوا يقولون، أيتبعونهم على فعلهم،
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ الآية.
(والمعنى): عليكم أنفسكم [إذا] أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم.
وقال ابن عمر: هذه لأقوام يأتون بعدنا، إن قالوا لم يُقبل منهم، وأما نحن فقد قال رسول الله: ليُبَلِّغ الشاهد / الغائبَ، فكنا نحن الشهودَ وأنتم الغيب.
وحكى جبير بن نفير عن جماعة من أصحاب النبي أنهم قالوا له في هذه الآية: عسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحّاً مطاعاً، وهوىً متَّبعاً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يَضرُّك من ضل إذا اهتديت.
وقال ابن مسعود: لمّا يجىء تأويل هذه بعد، إن القرآن أُنزل حيث أُنزل،
وقيل: هي في الكفار، لا يضر المسلمَ كفُر الكافر، عليه نفسه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وجعلها ابن عباس وغيره عامة، وقال في معناها: إنّ العبد إذا أطاع الله فيما أمر به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده. وقال ابن المسيب وغيره: معناها: لا يضركم مَن ضل بعد أمركم إياه (بالمعروف) ونهيكم عن
وقال ابن جبير: معناها: لا يضرُّكُم من كَفَرَ بالله من أهل الكتاب، فإنما عليكم أنفسكم، وليس يضركم كفر الكافر.
وقد قيل: إن ذلك في الأمر، أُمِروا بأنفسهم، وأُعلِموا أنهم لا يضرهم ارتداد من ارتد، ولا كفر من كفر وقيل: الآية منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وذم اليهود فقال: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ [المائدة: ٧٩] / ولعنهم على تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع أهل العلم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يجب على الأمراء، ويُعينُ على ذلك المؤمنون إذا احتيج (إليهم)، وبعض الناس يحمله عن بعض: كالجهاد، فهذا إجماع العلماء ويجب على الإنسان - في النظر والقياس - أن يأمر
قوله: ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ أي: إليه تردون فيحكم بينكم فيما أمرتم به فلم يقبل منكم، أو نهيتهم عنه، فينتقم من المتَعدِّي على محارمه، ويجازي الدال على مرضاته.
قوله: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت﴾ الآية.
وهذه الآية - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً! ومعنى وحكماً.
وقيل: التقدير: عدد شهادة بينكم اثنان، ثم حذف، و " ما " محذوفة مع " بينكم "، تقديره: ما بينكم، و [" ما " المحذوفة] إشارة إلى التنازع والتشاجر.
وقيل: ﴿اثنان﴾ رفع بفعلهما، والتقدير: ليكن منكم أن يشهد اثنان.
قوله: ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ﴾
﴿آخَرَانِ﴾: ارتفعا بفعل مضمر، و ﴿يَقُومَانِ﴾ نعت، و ﴿الأوليان﴾ بدل من ﴿آخَرَانِ﴾ أو من المُضمر في ﴿يَقُومَانِ﴾.
روى اسحاق الأزرق عن أبي بكر عن عاصم (شهادةٌ) بالتنوين، (بينكم) بالنصب، وهي مروية عن الأعرج.
(و) روى عبد الله بن مسلم ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ بالنصب فيهما وتنوين (شهادةً) على معنى: لا نكتم الله شهادةً. وقيل تقديره: ولا نكتم شهادة والله، فلما حذفت الواو تعدى الفعل [إلى] المُقسم به فنصب.
وقرأ أبو عبد الرحمن ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله﴾ بالمد، جعل ألف الاستفهام عوضاً من حرف القسم، فخفض بها كالحرف.
وقرأ ابن محيصن: [(إنا إذاً لملاثمين)] أدغم النون في اللام، وهو بعيد في العربية، وهو مثل (عادً [لوُلَى] في قراءة نافع، وإنما بعد، لأن اللام حكمها
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهد بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم، (أي من المسلمين وقيل: من أهل الموصي. والأول أكثر.
قال الحسن: ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي: من العشيرة، لأن العشيرة أعلم بالرجل وماله وولده، وأجدر ألا ينسوا ما يشهدون عليه، فإن لم يكن من / العشيرة أحد، فآخران من غير العشيرة، فإن شهدا - وهما عدلان - مضت شهادتهما، وإن ارتيب في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر فيقسمان بالله {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى
وهذا منسوخ عند أكثر العلماء. وقال الحسن: يحلف الشهود، وليس بمنسوخ.
ومن قال: إن معنى ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ من المسلمين، (قال: أو) من غيركم: من غير المسلمين لتصح المحاذاة، لأن نقيض المسلم الكافر. ومن قال: معنى:
والشهادة (هنا) بمعنى الإشهاد على الوصية، فالاثنان يشهدان على الوصية.
وقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ قال ابن المسيب: معناه: من غيركم، أي: من أهل الكتاب.
وقال ابن جبير: أي: من غير أهل ملتكم، وقال الحسن: معناه: شاهدان من قومكم أو من غير قومكم. وقيل: معناه: من غير حيّكم.
وقوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إذا ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين، وفي الكلام حذف واختصار، تقديره: ودفعتم إليهما ما معكم من مال ثم متم، وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما واتهموهما (وادعوا) عليهما خيانة، فإن الحكم في ذلك أن [تحبسوهما]، أي: تتوثقوا منهما بعد الصلاة، وفي الكلام حذف أيضاً وهو ما ذكرنا، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، (أي) لا نحلف كاذبين على عرض نأخذه من حق هؤلاء الورثة، ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ يقسمان / بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً ولو كان الذي نقسم له به ذا قرابة منا.
فقوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ (- على قول ابن عباس - من صفة الآخرين، والمعنى: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة) إن ارتاب الورثة في مال الميت، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، ولو كان ذا قربى.
والصلاة - عند أبي موسى الأشعري وابن جبير - صلاة العصر. وقيل: هي صلاة من صلاة أهل دينهم.
قال السدي وغيره: أمر الله المؤمنين أن يُشهدوا عند الموت في الحضر شاهدْين (من المسلمين) فيما عليه وله، وأمرهم أن يشهدوا في السفر شاهدين
قال ابن زيد: " لا نشتري به ثمناً " لا نأخذ به رشوة.
قال: الهاء في " به " تعود على القسم، وهو اليمين، وقيل: بل تعود على الله جل ذكره.
قوله: ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً﴾ أي اطلع على أنهما خانا بعد حلفهما، وأنهما حلفا كاذبين في أيمانهما (ما خنا)، فيقوم آخران من ورثة الميت حينئذ
وقال ابن عباس: يحلفان: إن شهادة الكافرين كانت باطلاً، وأنّا لم نَعْتَدِ في دعوانا، إذا اطلع أنهما كذبا في يمينهما وخانا، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة المؤمنين.
وقيل: إنما يحلف أولياء الميت إذا أدعى الشاهدان أنه أوصى بما لا يجوز في دين الإسلام، كقولهم: أوصى بماله كله "، فيحْلف اثنان من أولياء الميت: إن صاحبنا (ما كان يرضى بهذا ولا نرضى به، وإنهما) يكذبان. وشهادتنا أحق من شهادتهما.
والأكثر على أن الأولياء يحلفون إذا وجدوا خيانة بعد يمين الكافرين، أو قيل لهم (إنهما) غير مرضيين، فيحلفان: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإنه لقد ترك كذا وكذا، وما أوصى بكذا ونحوه. وقيل: إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما زعما أن الميت أوصى لهما بكذا وكذا، فإن عثر على أنهما كاذبان في ذلك، حلف آخران من أولياء
وجماعة من العلماء يقولون: كان هذا ثم نُسخ.
ولا تجوز شهادة كافر على مسلم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهي منسوخة عندهم. وقيل: ذلك جائز إذا كانت وصية، وهو قول ابن عباس وغيره.
وقيل: الآية كلها / في المسلمين، والآخران من المسلمين، وهو قول الزهري والحسن.
وقيل: الشهادة - هنا - بمعنى الحُضور، وقد تقدم ذكره.
وقيل: الشهادة - هنا بمعنى اليمين، فمعنى " شهادة أحدكم ": أي: يمين
فال ابن عباس: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة للتجارة - نصرانيين -، فخرج معهما رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم فأوصى إليهما، فوصّلا تركته إلى أهله، وحبسا جَاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب، ففقده أولياء الميت السهمي، فأتوا النبي، فاستحلفهما: " ما كتمنا ولا اطلعنا "، ثم عُرفَ الْجامُ بمكة، [فقالوا]: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي
وتقدير قراءة من قرأ بضم التاء وقرأ (الأوليان) أنه أراد: فآخران من أهل الميت - الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم منهما - يقومان مقام [المُسْتَحِقَّيِ] الإثم منهما لخيانتهما.
و (من قرأ) بفتح التاء، فتقديره: فآخران يقومان [مقام] المؤتمَنيْن
قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ الآية.
المعنى: " واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ومعنى ﴿مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾: ما أجابتكم أممكم حين دعوتموهم؟، فذهلت عقول الرسل عليهم السلام لهول اليوم، فقالت: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ﴾، فلما سئلوا في موضع آخر ورجعت إليهم عقولهم أجابوا.
وقيل: المعنى: لا علم لنا، لأنك أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وهو اختيار الطبري، يدل على ذلك أنهم ردوا العلم إليه، فقالوا ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾.
وقال ابن جريج: المعنى: ماذا عملت أمتكم بعدكم؟، فيقولون: لا علم لنا حقيقة، (أي لا علم لنا) بما غاب عنا، إنك أنت علام الغيوب.
وَيشُدُّ هذا التأويل قول النبي عليه السلام: " يَرِد عليَّ قومٌ الحوضَ [فَيُخْتَلَجون]، فأقول: أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وقيل: إنما سألهم الله عن السر والعلانية، فرَدّوا الأمر إليه، إذ ليس عندهم إلاّ علمُ الظاهر، والباطن عِلمُه إلى الله، لأنه يعلم الغيب، وهذا القول أحب الأقوال إليّ، لأن سؤاله لهم سؤالاً عاماً يقتضي السؤال عن سر الأمم وعلانيتها، والسر علمه إلى من يعلم / الغيوب، (وهو الله جل ذكره، فأقروا بأنهم لا علم عندهم منه، ورَدّوا
قوله: ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي﴾ الآية.
قرأ ابن محيصن ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾، وكذلك روي عن مجاهد، وهما لغتان.
والمعنى: واحذروا يوم يجمع الله ﴿الرسل﴾، فيقول كذا وكذا، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم.
(و) قوله: ﴿(أَيَّدتُّكَ) بِرُوحِ القدس﴾ أي: أعنتك بجبريل. وقوله: ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب﴾ هو الخط، ﴿والحكمة﴾: الفهم بمعاني الكتاب، ﴿والتوراة﴾: وهو ما أنزل على موسى، ﴿والإنجيل﴾، وهو الذي أنزل عليه، ومعنى ﴿بِإِذْنِي﴾: أي: بعوني لك.
﴿وَتُبْرِىءُ الأكمه﴾ هو الذي يولد أعمى، وقيل: يكون الأكمه أيضاً (الذي) يعمى بعد البصر.
﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى﴾ أي: تخرجهم أحياء من قبورهم، ﴿بِإِذْنِيِ﴾ أي: بعوني ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ﴾ أي: منعتهم إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالبينات، وهذا كله تعديد نِعمِ الله على عيسى. والبينات: الأدلّة المعجزة الدّالّة على نبوتك.
﴿إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾: من قرأ ﴿سِحْرٌ﴾ فمن أجل أن بَعْدَه ﴿مُّبِينٌ﴾، والسحر مما يوصف بالبيان.
والكهل: ابن أربعين سنة، وقيل: ابن أربع وثلاثين سنة.
ومعنى النعمة على عيسى في أن يكلم الناس كهلاً: أنه مد في عمره إلى أن بلغ الكهولية.
قوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين﴾ الآية.
المعنى: واذكر اذ أوحيت إلى الحواريين، ومعنى ﴿أَوْحَيْتُ﴾: قذفت في قلوبهم،
وقيل: ألهمتهم، والحواريون: وزراء عيسى.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ الآية.
روي عن ابن عامر: (الحواريون) بالتخفيف، استخفافاً، والتشديد الأصل.
ومعنى الآية: أنهم سألوا ذلك ليثبتوا في صدقه، كما قال إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
وقيل: إنهم إنما سألوا (هذا) قبل أن يعلموا أن عيسى يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى، فسألوه آية.
وقيل: معناه: هل يستجيب لك ربك إن سألته؟.
وقال الحسن: المعنى: هل ربك فاعل بنا ذلك؟. والعرب تقول: " ما أستطيع ذلك "، أي: ما أنا فاعل ذلك، وهو يستطيع.
وقيل: إنهم سألوه قبل أن يكونوا مؤمنين محققين، ثم آمنوا بعد ذلك، ودل على ذلك استعظام عيسى لقولهم، وقوله لهم: ﴿اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.
قال ابن شهاب: قال ابن عباس: قال عيسى لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على مَن عمل له!، [ففعلوا ثم قالوا: يا معلّم الخير، قلتَ لنا: " إن أجر العامل على مَن عمل له "]، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً
قال السدي المعنى: " هل يطيعك ربك إن سألته ".
وقرأه الكسائي بالتاء، ونصب (ربَّك)، ومعناها: أن الحواريين لم يكونوا شاكين، إنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟.
قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر على أن ينزل عليهم
(و) روي عنها أنها قالت: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾.
(و) تقدير قراءة الكسائي: هل تستطيع مسألة ربك أن ينزل علينا مائدة.
والمائدة فاعلة، من مادَ فلان القوم يميدهم: إذا أطعمهم. قال أبو عبيدة: (مائدة) من العطاء، وهي " فاعلة " بمعنى مفعولة وقال الزجاج: " مائدة: فاعلة من مادَ يميد: إذا تحرك "، ومنه ماد الرجل في البحر: إذا دار رأسه وقيل:
ومعنى قوله: ﴿اتقوا الله﴾ أي: اتقوه أن تَنزِل بكم عقوبة، فإن الله سبحانه لا يعجز عن شيء أراده، فلا تَشُكّوا في قدرته هذا على قراءة الجماعة.
قوله تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا﴾ الآية.
قوله: ﴿تَكُونُ لَنَا﴾: حال بمعنى: كائنة. وقرأ الأعمش (تكُن) جعله للطلب.
وقرأ الجحدري: (لأولانا وأُخرانا).
وقيل: معناه: نأكل منها جميعاً، قاله ابن عباس.
(و) روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره، ثم صف (بين) قدميه، فألصق الكعب بالكعب، وساوى الإبهام بالإبهام، وطأطأ رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، فجعلت تقطر على صدره، فقال: ﴿اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول: اللهم اجعلني لك من الشاكرين، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذاباً، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي أعوذ بك من أن تكون أنزلتها غضباً وزجراً، اللهم اجعلها عافية وسلامة
قالوا: يا روح الله وكلمته، لو أَرَيْتَنا اليوم آية من هذه الآية. فقال عيسى: احْيَِيْ بإذن الله، فاضطربت
قال ابن عباس: أكل منها آخرهم كما أكل أولهم، فكانت لجميعهم عيداً.
وقوله: ﴿وَآيَةً مِّنْكَْ﴾: (أي آية) على قدرتك، وعلى أني رسولك. ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام، فأكلوا (منها)، ثم رفعت لأحداث أحدثوها.
(وقيل): كان في المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.
قال الحسن: لما قال الله ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ قالوا: لا حاجة لنا إليها فلم تنزل. قال الفراء: نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرتين: غدوة وعشية، فلذلك اتخذوه عيداً.
وعن ابن عباس أنه قال: كانوا يأكلون منها أينما نزلوا إذا شاءوا.
وقال وهب بن منبه: نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات. وقال مجاهد: هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا. وقال إسحاق بن عبد الله: نزلت على عيسى
(و) روى عمار / عن النبي عليه السلام أنه قال: " نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا و (رفعوا لغد)، فمسخوا قردة وخنازير ".
وروي عن عمار بن ياسر أنه قال: كان عليها ثمر من ثمار الجنة.
قال مجاهد: إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي، ولم ينزل الله عليهم شيئا. وقيل: لما قيل لهم: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ﴾ الآية، استعفوا، فلم ينزل عليهم شيء، قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: أبوا ذلك حين عرض عليهم العذاب.
والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم، لقوله ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾، ولا يجوز
ومعنى ﴿مِّنَ العالمين﴾: من عالمي زمانكم.
وكان نزول المائدة يوم الأحد، فلذلك اتخذوه عيداً.
والعذاب الذي أُوعِدوا به، قيل: هو متأخر إلى الآخرة. وقيل إنَّهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم مسخوا قردة وخنازير.
وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطاً، فقالوا: يا روح الله، كن أنت أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، ولكن يأكل منها الذين طلبوها. فلم يأكلوا منها خوفاً أن تكون سخطاً عليهم، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي والبرص، وكل مَن به داء، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واذكروا اسم الله. فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث مائة، قاله سليمان.
قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ الآية.
المعنى: واذكر إذ قال ﴿الله﴾. وجماعة من المفسرين على أن الله أخبرنا أنه قال لعيسى حين رفعه إليه، قاله السدي وغيره.
وقيل: هو خبر من الله عما يكون في القيامة، قال ابن جريج: يقول ذلك لعيسى والناس يسمعون، فيراجعه بالإقرار والعبودية، فيعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان باطلاً.
ودَلّ قوله: ﴿هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين﴾ على أنه يوم القيامة. و (إذ) - على هذا - بمعنى " إذا "، ويكون ﴿قَالَ﴾ بمعنى " يقول " كما قال: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ [سبأ: ٥١] أي:
والمسألة في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ﴾ إنما هي على وجه التوبيخ للذين ادعوا عليه ذلك، وهم بنو إسرائيل.
واختار الطبري قول السدي أنه خبر قد كان حين رفعه الله إليه، لأن (إذ) ﴿فِي﴾ (الأغلب) من كلام العرب - لما مضى - فحَمْلُ الكلام على الاكثر الفاشي أولى، ولأن عيسى لا يشك - هو ولا أحد من الأنبياء - أن الله لا يغفر لمن مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أنه قال في الآخرة - مجيباً لربه إذ سأله عمن اتخذه (هو) وأمه إلهين ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨].
ومعنى: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ أي: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك حتى تُطلِعَني عليه، ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي: علام الخَفِيّات من الأمور. وقيل: المعنى: تعلم حقيقتي ولا أعلم (غيبك) ولا حقيقتك.
والنفس - في كلام العرب - يجري على ضربين:
على النفس التي بخروجها يكون الموت، كقولك: " خَرَجَت نفسُ فلان " أي: مات.
ويكون جملة الشيء وحقيقته، تقول: " قَتَل فلان نفسَه "، فليس المعنى (أن) الهلاك وقع ببعضه، إنما وقع بذاته كلها وحقيقته. وأجاز بعضهم الوقف على (ما
والتمام عند نافع وغيره ﴿بِحَقٍّ﴾. وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وقف عليه.
قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ الآية.
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا الله﴾: (أن) مفسرِّة لا موضع لها من الإعراب، بمنزلة (أَنِ امْشوا)، وقيل: هي في موضع نصب على معنى: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.
قوله: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الآية.
المعنى: إن تعذبهم بقولهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوبتهم عما قالوا فتستر عليهم، ﴿فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز﴾ في انتقامك، ﴿الحكيم﴾ في أفعالك.
وقال السدي: المعنى: إن تعذبهم فتميتهم على نصرانيتهم فيحق عليهم العذاب
وقال بعض أهل النظر: يكون هذا من عيسى في القيامة وإنما يقوله على التسليم لأمر الله، وقد أيقن أن الله لا يغفر لكافر، ولكنه سلم الأمر، ولم يكن يعلم ما أحدثوا بعده: أكفروا أم لا.
قال ابن الأنباري: لم يقل هذا عيسى وهو يقدّر أن الله يغفر للنصارى إذا ماتوا مصرين على الكفر، لكنه قاله على جهة تفويض الأمر إلى ربه، وإخراجِهِ نَفْسَه من حالة الاعتراض.
والمعنى: إن غفرت لهم، لم يكن ﴿لِي﴾ و ﴿لاَ﴾ لأحذ الاعتراض عليك من حكمك، وإن عذبتهم (فبعدل) منك، ذلك لكفرهم.
وقيل: الهاء في ﴿تُعَذِّبْهُمْ﴾ للبعض الذين أقاموا على الكفر، والهاء في {(وَ)
قوله: ﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ آية.
حكي عن المبرد أنه منع قراءة من نصب (يوماً)، قال: لأنه (خبر الابتداء) والنصب جائز عند غيره، لأن المعنى: قال الله هذا لعيسى في ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ /، ف (يوم) ظرف للقول، وهو الناصب له.
وقيل: المعنى: هذا الأمر وهذا الشأن في ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ أي: في يوم
وقيل: هذا كله مقول يوم القيامة، لقوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ [المائدة: ١٠٩] ولقوله: ﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين﴾.
وقال بعض أهل النظر: لم يقصد عيسى إلى (أن الله) يغفر لمن مات مشركاً، وإنما مقصده: وإن تغفر لهم الحكاية عني (التي) كذبوا علي فيها، والحكاية كذب، ليست بكفر، والكذب جائز أن يغفره ﴿الله﴾.
وهو - عند الكوفيين - بناء: لأنه مضاف إلى غير متمكّن، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الفعل معرب، وإنما يبنى إذا أضيف إلى غير معرب كالماضي و " إذ " وشبه ذلك، والإضافة عند البصريين في هذا إنما هي (إلى المصدر).
ومعنى ﴿يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾: الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة، لأن الآخرة ليست بدار عمل، ولا ينفع أحداً (فيها) ما قال وإنْ أحسن، ولو صدق الكافر (وأقر) بما عمل، وقال: " كفرت " (أو أسأت)، ما نفعه. وإنما الصادق ينفعه صدقه الذي كان منه في الدنيا، (لا) في الآخرة.
قوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ أي: لهم في الآخرة - بصدقهم في الدنيا - جنات مخلدين فيها.
﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ إذ وفّى لهم بوعده.
قوله: ﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ الآية.
المعنى: لله - أيّها النصارى - ملك السماوات والأرض وما فيهنّ، دون عيسى
وفي وصل (قدير) بـ (الحمد ﴿للَّهِ﴾ خمسة أوجه:
الأول: المستعمل عند القراء: أن تكسر للتنوين، وتحذف ألف الوصل وتصل.
الثاني: أن تحذف التنوين لالتقاء الساكنين وتصل.
والثالث: أن تُلقي حركة ألف (الحمد) على التنوين فنفتحه، كأنك تنوي الابتداء بـ (الحمد).
والرابع: أن تسكن الراء وتبتدئ (الحمدُ للهِ) بالقطع، وهذا مستعمل عند القراء أيضاً.
والخامس: أن تنوّن وتقطع ألف (الحمد) لتدل على الانفصال.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام"قال أبو محمد": روى أنس بن مالك عن النبى - ﷺ - (أن) سورة الأنعام نزلت ومعها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقيّن، لهم زَجَل بالتسبيح، والأرض لهم ترتج، ورسول الله يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات.
قال ابن عباس: نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها.
سورة المائدة
إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.
ترتيبها المصحفي
5نوعها
مدنيةألفاظها
2837ترتيب نزولها
112العد المدني الأول
122العد المدني الأخير
122العد البصري
123العد الكوفي
120العد الشامي
122* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:
عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).
* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41] إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).
* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).
* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).
* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).
سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.
* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:
عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).
* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:
فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).
* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:
عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:
العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).
المواثيق والجزاء (٩-١٠).
البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).
ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).
فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).
سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).
جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).
عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).
التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).
حد السرقة (٣٨-٤٠).
تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).
رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).
القرآن (٤٨-٥٠).
المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).
الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).
سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).
لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).
عصمة الرسول (٦٧-٦٩).
طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).
لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).
مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).
النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).
اليمين وكفارتها (٨٩).
خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).
مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).
تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).
الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).
عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).
المائدة (١١٢-١١٥).
التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).
كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).
مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.
وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).