تفسير سورة المائدة

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير

تفسير سورة سورة المائدة من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

دعوة أهل الكتاب :
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير.
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين.
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
ويهديهم إلى صراط مستقيم.
( سورة المائدة الآية – ١٥، ١٦ )
تمهيد :
أرسل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – لجميع الأمم ؛ فكانت رسالته عامة، وكانت دعوته عامة مثلها.
وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة، لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى.
ولما أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – كان الخلق قسمين : أهل كتاب – وهم اليهود والنصارى – وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب ؛ بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه، وتحريفهم لما حرفوا. وكانوا أولى القسمين باتباع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء. فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " إلى آخر الآيتين.
وفي ندائهم بيا أهل الكتاب تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – لأنه جاء بكتاب وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه.
أدب واقتداء :
لطيفة قرآنية :
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه : فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاما في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانه لهم حجته عليهم :
كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم، مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم ؛ فكانوا لا يظهرون منها إلا ما يشاءون، ولا تعرف عامتهم منها غلا ما أظهروا، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – وهو أمي من أمة أمية، يبين لهم بما أنزله الله عليه، وأوحي إليه به، من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله، فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقدارا كثيرا. ويتجاوز عن كثير فيما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – من عنتهم وشرهم وأذاهم.
فكان هذا البيان العليم، وهذا الخلق الكريم، من هذا النبي الأمي كافيا أن يعرفهم بنبوته، وصدق دعوته، ونهوض حجته ؛ ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته، لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله :" يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ".
تمثيل :
من التحريف :
في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاويين التصريح برجم الزناة، فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف، وكتموا النص فبينه لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – والقصة مشهورة في كتب السنن.
تصريح عيسى :
جاءت صفات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – التي لا تنطبق على غيره فكتموها، مثل قول عيسى - صلى الله عليه وسلم – في الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا :
( إن لي أمورا أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن إمامتي، جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ).
صرح عيسى عليه السلام بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا.
جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، قول عيسى عليه السلام :
( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته )
وأمثال هذا فيما عندهم كثير.
أدب واقتداء :
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه ؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب ؛ اقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتعد على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظر.
نعمة الإظهار والبيان * بالرسول والقرآن
ولقد كان الناس : أهل الكتاب وغيرهم، قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ظلام من الجهل وبأنبيائه وبشرعه، ومن الجهل بنعم الله عليه في أنفسهم بالعقل والفكر والاستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما، أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها.
بعثة محمد نور ورحمة :
فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفا للخلق بما كانوا يجهلون ؛ فكان نورا سطع في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر.
وكما أن النور الكوني يجلوا الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك النور الرباني، يجلو تك الحقائق للبصائر.
وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية، فلا يحرم منها إلا معدوم البصر، فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك النور الرباني، مجليا للحقائق للبشرية كلها، ولا يحرم من إدراكها إلا مطموسوا البصائر، الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وكما كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – نورا تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق – كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه، يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان.
فبمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابه، تمت نعمة الله تعالى عن البشرية كلها، بإظهار وبيان كل ما تحتاج إلى إظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخلقية من بيانه، وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله :" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ".
محمد ( ص ) والقرآن نور وبيان :
في هذه الآية وصف محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور، كقوله :" فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " ووصف الرسول بأنه مبين كقوله :" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون " وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد.
وقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فقالت :" كان خلقه القرآن " ١.
استفادة :
نستفيد من هذا أولا – أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن.
وثانيا – أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وسنته، وفقه حياته - صلى الله عليه وآله وسلم – يتوقف على القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.
اقتداء :
هذا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم – نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان ؛ فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا البيان : فهو على ما يسر له من العلم ولو ضئيلا يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال، وهو بذاك وبعلمه الصالح كالنور ويشع على من حوله، وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من علم وعمل.
فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه، ويعمل عليه، ويضرع إلى الله دائما في دعواته أن يمده بنوره، وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – الذي كان يدعو به في ذلك وهو :
" اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا٢.
الهداية نوعان :
قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم، ومرضاة خالقهم.
وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكين والاختيار قامت حجة الله على العبد
ثم يسر من شاء – وهو الحكيم العدل – إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق، وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته، وأقبلوا على ما آتاهم من عنده ؛ فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى :
" والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ".
أما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه، فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذك التيسير، كما قال تعالى :" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ".
فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقا.
والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة، وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم.
بماذا تكون الهداية :
كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم، فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون ؛ إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى – كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه، إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال.
ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر – جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى :" يهدي به الله ".
لمن تكون الهداية :
أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها، فهي كما تقدم عامة. و أما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد، فهي للذين اتبعوا ما جاء من عند اله : من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لهما متبعين لرضوانه، المقتضى لقبوله ومثوبه وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهوائهم ومألوفاتهم، وما ألفوا عليه آبائهم ولا أهواء الناس ورضاهم، فكان اتباعهم لرضوان الله سببا في دوام إرشادهم وتوفيقهم، وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم، يكون توفيقهم ؛ إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدى يزداد بالاهتداء.
وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والاتباع، يقتضي الربط ما بين ضديهما : الاعراض والخذلان. وأنه بقدر ما يكون الاعراض عن الهدى، يكون الخذلان والحرمان، والشر يدعو بعضه إلى بعض، والسيئة تجر السيئة.
وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الاتباع، وجعل التوفيق مسببا عنه – بما في صلة الموصول من التعليل – قوله تعالى :" من اتبع رضوانه ".
إلى ماذا تكون الهداية ؟
فشؤون الشخص في نفسه، وشؤونه فيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين بنيه، وفيما بينه وبين أقاربه، وفي بيته، وبين جيرانه، وفيما بينه وبين من تربطه به من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها.
كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة، تسلك ويسار عليها ؛ للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع ؛ وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان، كانت سبل سلامة ونجاة
١ ذكره القاضي عياض في الشفاء وابن سعد في طبقاته..
٢ لبخاري ومسلم وغيرهما..
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير.
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين.
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.
ويهديهم إلى صراط مستقيم.
( سورة المائدة الآية – ١٥، ١٦ )
تمهيد :
أرسل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – لجميع الأمم ؛ فكانت رسالته عامة، وكانت دعوته عامة مثلها.
وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة، لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى.
ولما أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – كان الخلق قسمين : أهل كتاب – وهم اليهود والنصارى – وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب ؛ بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه، وتحريفهم لما حرفوا. وكانوا أولى القسمين باتباع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء. فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا " إلى آخر الآيتين.
وفي ندائهم بيا أهل الكتاب تشريف وتعظيم لهم بإضافتهم للكتب، وبعث لهم على قبول ما جاء به محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – لأنه جاء بكتاب وهم أهل الكتاب، واحتجاج عليهم بأن الإيمان بالكتاب الذي عندهم يقتضي الإيمان بالكتاب الذي جاء به لأنه من جنسه.
أدب واقتداء :
لطيفة قرآنية :
هذا هو أدب الإسلام في دعوة غير أهله، ليعلمنا كيف ينبغي أن نختار عند الدعوة لأحد أحسن ما يدعى به، وكيف ننتقي ما يناسب ما نريد دعوته إليه : فدعاء الشخص بما يحب مما يلفته إليك، ويفتح لك سمعه وقلبه، ودعاؤه بما يكره يكون أول حائل يبعد بينك وبينه، وإذا كان هذا الأدب عاما في كل تداع وتخاطب، فأحق الناس بمراعاته هم الدعاة إلى الله، والمبينون لدينه سواء دعوا المسلمين أو غير المسلمين.
بيانه لهم حجته عليهم :
كانت كتبهم مقصورة على أحبارهم ورهبانهم، مخفية عندهم لا تصل إليها أيدي عامتهم ؛ فكانوا لا يظهرون منها إلا ما يشاءون، ولا تعرف عامتهم منها غلا ما أظهروا، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – وهو أمي من أمة أمية، يبين لهم بما أنزله الله عليه، وأوحي إليه به، من آيات الله وحججه وأحكامه وكلمات رسله، فيما عندهم مما هو حجة عليهم مقدارا كثيرا. ويتجاوز عن كثير فيما عندهم من ذكر قبائح أسلافهم وذمهم، وما لقي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – من عنتهم وشرهم وأذاهم.
فكان هذا البيان العليم، وهذا الخلق الكريم، من هذا النبي الأمي كافيا أن يعرفهم بنبوته، وصدق دعوته، ونهوض حجته ؛ ولهذا ذكر الله هذا البيان وهذا التجاوز في أول صفاته، لما أخبرهم بمجيئه إليهم بقوله :" يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ".
تمثيل :
من التحريف :
في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاويين التصريح برجم الزناة، فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف، وكتموا النص فبينه لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – والقصة مشهورة في كتب السنن.
تصريح عيسى :
جاءت صفات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – التي لا تنطبق على غيره فكتموها، مثل قول عيسى - صلى الله عليه وسلم – في الفقرة الثانية عشرة وما بعدها في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا :
( إن لي أمورا أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن إمامتي، جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم ).
صرح عيسى عليه السلام بأن الله هو الإله وحده، وأن عيسى رسوله، فكتموها وقالوا فيه ما قالوا.
جاء في الفقرة الثانية من الإصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا، قول عيسى عليه السلام :
( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته )
وأمثال هذا فيما عندهم كثير.
أدب واقتداء :
على الداعي إلى الله والمناظر في العلم، أن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقناع الخصم بالحق وجلبه إليه ؛ فيقتصر من كل حديثه على ما يحصل له ذلك، ويتجنب ذكر العيوب والمثالب، ولو كانت هنالك عيوب ومثالب ؛ اقتداء بهذا الأدب القرآني النبوي في التجاوز مما في القوم عن كثير، وفي ذكر العيوب والمثالب خروج عن القصد وبعد عن الأدب، وتعد على الخصم وإبعاد له، وتنفير عن الاستماع والقبول، وهما المقصود من الدعوة والمناظر.
نعمة الإظهار والبيان * بالرسول والقرآن
ولقد كان الناس : أهل الكتاب وغيرهم، قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ظلام من الجهل وبأنبيائه وبشرعه، ومن الجهل بنعم الله عليه في أنفسهم بالعقل والفكر والاستعداد للخير والكمال، وفي العالم المسخر لهم بما، أودع فيه من مرافق العيش والعمران والحياة، ومن الجهل بقيمة أنفسهم الإنسانية وكرامتها وحريتها.
بعثة محمد نور ورحمة :
فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان بقوله وبفعله وبسيرته معرفا للخلق بما كانوا يجهلون ؛ فكان نورا سطع في ذلك الظلام الحالك فبدده عن البصائر.
وكما أن النور الكوني يجلوا الموجودات الكونية للأبصار فكذلك كان محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك النور الرباني، يجلو تك الحقائق للبصائر.
وكما أن النور الكوني يظهر الموجودات الكونية، فلا يحرم منها إلا معدوم البصر، فكذلك كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك النور الرباني، مجليا للحقائق للبشرية كلها، ولا يحرم من إدراكها إلا مطموسوا البصائر، الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وكما كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – نورا تنبعث من أقواله وأفعاله وسيرته الأشعة الكاشفة للحقائق – كذلك كان الكتاب الكريم الذي أنزله الله عليه، يبين بسوره وآياته وكلماته تلك الحقائق أجلى بيان.
فبمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم، وكتابه، تمت نعمة الله تعالى عن البشرية كلها، بإظهار وبيان كل ما تحتاج إلى إظهاره وبيانه. ولما دعا الله إلى تصديق رسوله بالحجة العلمية الخلقية من بيانه، وتجاوزه ذكر بهذه النعمة العظمى في قوله :" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ".
محمد ( ص ) والقرآن نور وبيان :
في هذه الآية وصف محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – بأنه نور، ووصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وصف القرآن بأنه نور، كقوله :" فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " ووصف الرسول بأنه مبين كقوله :" وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون " وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد.
وقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فقالت :" كان خلقه القرآن " ١.
استفادة :
نستفيد من هذا أولا – أن السنة النبوية والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن.
وثانيا – أن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وسنته، وفقه حياته - صلى الله عليه وآله وسلم – يتوقف على القرآن، وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.
اقتداء :
هذا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم – نور وبيان، وهذا كتابنا نور وبيان ؛ فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له حظه من هذا البيان : فهو على ما يسر له من العلم ولو ضئيلا يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال، وهو بذاك وبعلمه الصالح كالنور ويشع على من حوله، وتتسع دائرة إشعاعه وتضيق بحسب ما عنده من علم وعمل.
فعلى المسلم أن يعلم هذا من نفسه، ويعمل عليه، ويضرع إلى الله دائما في دعواته أن يمده بنوره، وليدع بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – الذي كان يدعو به في ذلك وهو :
" اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا٢.
الهداية نوعان :
قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم، ومرضاة خالقهم.
وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكين والاختيار قامت حجة الله على العبد
ثم يسر من شاء – وهو الحكيم العدل – إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق، وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته، وأقبلوا على ما آتاهم من عنده ؛ فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى :
" والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ".
أما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلهم عليه، فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذك التيسير، كما قال تعالى :" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ".
فالمقبلون على الله القابلون لما أتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقا.
والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة، وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم.
بماذا تكون الهداية :
كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم، فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون ؛ إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى – كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه، إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال.
ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر – جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى :" يهدي به الله ".
لمن تكون الهداية :
أما هداية الدلالة والإرشاد وحدها، فهي كما تقدم عامة. و أما هداية الدلالة والإرشاد مع التوفيق والتسديد، فهي للذين اتبعوا ما جاء من عند اله : من رسوله وكتابه، وكانوا باتباعهم لهما متبعين لرضوانه، المقتضى لقبوله ومثوبه وكرامته لهم، ولم يتبعوا أهوائهم ومألوفاتهم، وما ألفوا عليه آبائهم ولا أهواء الناس ورضاهم، فكان اتباعهم لرضوان الله سببا في دوام إرشادهم وتوفيقهم، وبقدر ما يكون ازدياد اتباعهم، يكون توفيقهم ؛ إذ قوة السبب تقتضي قوة المسبب، والخير يهدي إلى الخير والهدى يزداد بالاهتداء.
وهذا الربط الشرعي بين التوفيق والاتباع، يقتضي الربط ما بين ضديهما : الاعراض والخذلان. وأنه بقدر ما يكون الاعراض عن الهدى، يكون الخذلان والحرمان، والشر يدعو بعضه إلى بعض، والسيئة تجر السيئة.
وقد أفاد تخصيص التوفيق بأهل الاتباع، وجعل التوفيق مسببا عنه – بما في صلة الموصول من التعليل – قوله تعالى :" من اتبع رضوانه ".
إلى ماذا تكون الهداية ؟
فشؤون الشخص في نفسه، وشؤونه فيما بينه وبين أهله، وفيما بينه وبين بنيه، وفيما بينه وبين أقاربه، وفي بيته، وبين جيرانه، وفيما بينه وبين من تربطه به من علاقات الحياة ومصالحها، وشؤون الجماعات وشؤون الأمم فيما بينها.
كل هذه الشؤون سبل وطرق في الحياة، تسلك ويسار عليها ؛ للبلوغ إلى الغايات المقصودة منها مما به صلاح الفرد والمجموع ؛ وكلها إن سلكت بعلم وحكمة وعدل وإحسان، كانت سبل سلامة ونجاة، وإلا كانت سبل هل
١ ذكره القاضي عياض في الشفاء وابن سعد في طبقاته..
٢ لبخاري ومسلم وغيرهما..
سورة المائدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.

ترتيبها المصحفي
5
نوعها
مدنية
ألفاظها
2837
ترتيب نزولها
112
العد المدني الأول
122
العد المدني الأخير
122
العد البصري
123
العد الكوفي
120
العد الشامي
122

* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ‌اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]  إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).

* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).

* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).

* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).


سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.

* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:

عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).

* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:

فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).

* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:

عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:

العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).

المواثيق والجزاء (٩-١٠).

البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).

ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).

فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).

سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).

جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).

عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).

التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).

حد السرقة (٣٨-٤٠).

تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).

رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).

القرآن (٤٨-٥٠).

المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).

الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).

سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).

لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).

عصمة الرسول (٦٧-٦٩).

طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).

لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).

مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).

النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).

اليمين وكفارتها (٨٩).

خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).

مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).

تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).

الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).

عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).

المائدة (١١٢-١١٥).

التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).

كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).

مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.

وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).