تفسير سورة المجادلة

نيل المرام تفسير آيات الأحكام

تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام.
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

سورة المجادلة اثنتان وعشرون آية
وهي مدنية، قاله القرطبي «١» : في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدنية.
[الآيتان: الأولى والثانية]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤).
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ: بأن يقول الزوج لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي كذا قال ابن عباس.
فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور.
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا: بالتدارك والتلافي، كما في قوله: أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ [النور: ١٧]، أي إلى مثله.
قال الأخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: ٤٣]، وقال: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) [الصافات: ٢٣]، وقال:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) [الزلزلة: ٥]، وقال: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ [هود: ٣٦].
وقال الفراء: اللام بمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء.
وقال الزجاج: المعنى يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
(١) انظره في «تفسيره» (١٧/ ٢٦٩).
432
قال الأخفش أيضا: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، لما قالوا. أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا.
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال:
الأول: أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون: أبو حنيفة وأصحابه، وروي عن مالك.
وقيل: هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن. وروي أيضا عن مالك، وهو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي.
وقيل: هو الكفارة، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد وروي عن أبي حنيفة.
وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه، وبه قال أهل الظاهر.
والظاهر أنها تجزىء أي رقبة كانت.
وقيل: يشترط أن تكون مؤمنة، كالرقبة في كفارة القتل. وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالثاني قال مالك والشافعي واشترطا سلامتها من كل عيب.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا المراد بالتماس: هنا الجماع، وبه قال الجمهور، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر.
وقيل: المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي.
والإشارة بقوله: ذلِكُمْ إلى الحكم المذكور، وهو مبتدأ وخبره:
تُوعَظُونَ: أي تؤمرون بِهِ أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار. وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة.
قال الزجاج: المعنى ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به، أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فهو مجازيكم عليها.
433
ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة، فقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ولم يتمكن من قيمتها، فعليه صيام شهرين متواليين لا يفطر فيهما، فإن أفطر يستأنف إن كان الإفطار لغير عذر، وإن كان لعذر من سفر أو مرض، فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر بن دينار والشعبي والشافعي ومالك: يبني ولا يستأنف.
وقال أبو حنيفة: إنه يستأنف، وهو مروي عن الشافعي. فلو وطئ ليلا أو نهارا عمدا أو خطأ استأنف، وبه قال أبو حنيفة ومالك.
وقال الشافعي: لا يستأنف إذا وطئ ليلا لأنه ليس محلا للصوم. والأول أولى.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين مدّان، وهما نصف صاع. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي وغيره: لكل مسكين مد واحد. والظاهر من الآية أنه يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة، أو يدفع إليهم ما يشبعهم، ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم وبعضهم في يوم آخر.
والإشارة بقوله: ذلِكَ إلى ما تقدم من الأحكام، وهو مبتدأ وخبره مقدر، أي ذلك واقع.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: أي لتصدقوا أن الله أمر به وشرعه، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تعتدوها ولا تعودا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور.
والإشارة بقوله: وَتِلْكَ إلى الأحكام المذكورة، وهو مبتدأ وخبره:
حُدُودُ اللَّهِ: فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة.
وَلِلْكافِرِينَ: الذين لا يقفون عند حدود الله ولا يعملون بما حده الله لعباده وسماه كفرا تغليظا وتشديدا.
عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) : هو عذاب جهنم «١».
(١) انظر في تفسير هذه الآية وأقوال أهل العلم فيها: الأحكام لابن العربي (٤/ ١٧٣٤ إلى ١٧٤٦)، والناسخ والمنسوخ (٢/ ٨٨١)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٩٣) الروضة الندية للمصنف
434
سورة المجادلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المجادلة) من السُّوَر المدنية، نزَلتْ لتحريم عادةٍ من عادات الجاهلية؛ وهي (الظِّهار)، وذلك في حادثةِ مظاهرة أوسِ بن الصامت مِن زوجِه خَوْلةَ، وقد جاءت السورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثبات علمِ الله، وإحاطتِه بكل شيء، ومِن كمال ألوهيته سبحانه: الحُكْمُ العدل فيما يصلُحُ لهم من الشرائع، وخُتمت السورة ببيان حال أعداء الله، وحالِ أوليائه.

ترتيبها المصحفي
58
نوعها
مدنية
ألفاظها
475
ترتيب نزولها
105
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
28

* قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اْللَّهِ وَاْللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).

* قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «إنَّ اليهودَ كانوا يقولون لرسولِ اللهِ ﷺ: سامٌ عليك! ثم يقولون في أنفسِهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اْللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ} [المجادلة: 8]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٥٨٩).

* قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ عليكم رجُلٌ ينظُرُ بعينِ شيطانٍ، أو بعَيْنَيْ شيطانٍ»، قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني -أو: شتَمْتَني، أو نحوَ هذا-؟ قال: وجعَلَ يَحلِفُ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]، والآيةُ الأخرى». أخرجه أحمد (٢١٤٧).

قال محقِّقو "المسند" (4 /48): «قوله: «فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني؟»؛ كذا جاء في جميع الأصول، وكذلك هو في "مسند البزار"، وزيادة: «يا محمد» - كما قال الشيخُ أحمد شاكر- خطأٌ ينافي السياق؛ فإن الذي نُسِب إليه السبُّ والشَّتم هنا هو المنافقُ الأزرق، ورسولُ الله يَسأله ويتَّهِمُه، وهو يَحلِف كاذبًا يَتبرَّأ من التُّهمة، وقد جاء في "تفسير الطبري" على الصواب بإسقاطِ هذه الزيادة، وسيأتي على الصواب أيضًا عند أحمد (2407)»، انظر السبب الآتي.

* قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اْللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اْلْكَٰذِبُونَ} [المجادلة: 18]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما حدَّثه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ظلِّ حُجْرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ مِن المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: «إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَيْنَيْ شيطانٍ، فإذا أتاكم، فلا تُكلِّموه»، قال: فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَه، قال: «علامَ تَشتِمُني أنتَ، وفلانٌ، وفلانٌ؟»، نَفَرٌ دعَاهم بأسمائهم، قال: فذهَبَ الرَّجُلُ، فدعَاهم، فحلَفوا باللهِ واعتذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ...} [المجادلة: 18] الآيةَ» أخرجه أحمد (2407).

* سورةُ (المجادلة):

سُمِّيت سورةُ (المجادلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقصَّة مجادلةِ امرأةِ أوس بن الصامت عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وتُسمَّى كذلك بـ (قَدْ سَمِعَ)؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الظِّهار وكفَّارته (١-٤).

2. خَسارة مَن عادى اللهَ، وتعدَّى حدوده (٥-١٩).

3. حال أعداء الله، ومدحُ أوليائه (٢٠-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /34).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقصد السورةِ: «الحُكْمُ في قضيَّة مظاهرة أوسِ بن الصامت من زوجه خَوْلة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهَر منها زوجُها، وأن عملهم مخالفٌ لِما أراده الله، وأنه من أوهامهم وزُورِهم التي كبَتَهم اللهُ بإبطالها، وتخلَّصَ من ذلك إلى ضلالاتِ المنافقين؛ ومنها مناجاتُهم بمرأى المؤمنين ليَغِيظوهم ويحزُنوهم.
ومنها موالاتهم اليهودَ، وحَلِفُهم على الكذب، وتخلَّل ذلك التعرُّض لآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.

وشرع التصدُّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين.

وأن اللهَ ورسوله وحِزْبَهما هم الغالبون». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /6).