تفسير سورة المجادلة

جهود القرافي في التفسير

تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب جهود القرافي في التفسير
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

١١٩٣- إن كتب المحدثين والفقهاء متظافرة على أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية١ فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تحله الكفارة كما تحل الرجعة تحريم الطلاق. والحديث في أبي داود ورد في ذلك وهو : " أن خويلة بنت مالك قالت : ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، وهو عليه السلام يجادلني فيه ويقول : اتقي الله، فإنه ابن عمك، فما برحت حتى نزل قوله تعالى :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾ الآيات. فقال : ليعتق رقبة. قالت : لا يجد. قال : فيصوم شهرين متتابعين. قالت : يا رسول الله، فإنه شيخ كبير ما به من صيام. قال : فيطعم ستين مسكينا. قالت : ما عنده من شيء يتصدق به. قال : فإني سأعينه بفرق٢ من تمر. قلت : يا رسول الله، وأنا سأعينه بفرق آخر. قال : قد أحسنت فاذهبي وأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك ". ٣
وروي في بعض طرق هذا الحديث أنها قالت : " فإنه قد أكل شبابي ونثرت له بطني، فلما كبرت سني ظاهر مني، ولي صبية صغار، إن ضمهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا " ٤
قوله عليه السلام : " أطعمي، وارجعي إلى ابن عمك " يقتضي أنه قبل نزول الآية. ( الفروق : ١/٣٣-٣٤ ).
١١٩٤- الظهار في قوله القائل لامرأته : " أنت علي كظهر أمي " ٥، يعتقد الفقهاء أنه إنشاء للظهار كقوله : " أنت طالق " إنشاء للطلاق، فإن البابين في الإنشاء سواء. وليس كذلك.
وبيانه من وجوه :
أحدها : أن من خصائص الإنشاء عدم قبوله للتصديق والتكذيب، والله سبحانه يقول :﴿ الذين يظهرون منكم من نسائهم... ﴾ الآيات. فكذبهم في ثلاثة مواطن بقوله تعالى :﴿ ما هن أمهاتهم ﴾ فنفى تعالى ما أثبتوه. ومن قال لامرأته : " أنت طالق " لا يحسن أن يقال له : ما هي مطلقة. وإنما يحسن ذلك إذا أخبر عن تقدم طلاقها، ولم يتقدم فيها طلاق، فدل ذلك على أن قول المظاهر خبر لا إنشاء.
والموطن الثاني في قوله تعالى :﴿ وإنهم ليقولون منكرا من القول ﴾، والإنشاء للتحريم لا يكون منكرا بدليل الطلاق، وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا فإنه حينئذ كذب. والكذب منكر.
والموطن الثالث، قوله تعالى :﴿ وزورا ﴾، الزور هو الخبر الكذب، فيكون قولهم كذبا، وهو المطلوب. وإذا كذبهم الله في هذه المواطن دل ذلك على أن قولهم خبر لا إنشاء.
وثانيهما : أنا أجمعنا على أن الظهار محرم، وليس للتحريم مدرك إلا أنه كذب. والكذب لا يكون إلا في الخبر. فيكون خبرا.
وثالثها : أن الله تعالى شرع فيه الكفارة، وأصل الكفارة أن تكون زاجرة ماحية للذنب. فدل ذلك على التحريم، وإنما يثبت التحريم إذا كان كذبا كما تقدم من بقية التقرير.
ورابعها : قول الله تعالى بعد ذكر الكفارة :﴿ ذلكم توعظون به ﴾، والوعظ إنما يكون عن المحرمات، فإذا جعلت الكفارة وعظا دل ذلك على أنها زاجرة لا ساترة، وإنه حصل هنالك ما يقتضي الوعظ، وما ذلك إلا الظهار المحرم، فيكون محرما لكونه كذبا، فيكون خبرا، كما تقدم في التقرير.
وخامسها : قوله تعالى في الآية :﴿ إن الله لعفو غفور ﴾، والعفو والمغفرة إنما يكونان في المعاصي، فدل ذلك على أنهم معصية، ولا مدرك للمعصية إلا كونه كذبا. والكذب لا يكون إلا في الخبر، فيكون خبرا. وهو المطلوب. ( الفروق : ١/٣١ وما بعدها ).
١١٩٥- قوله تعالى :﴿ والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ ظاهرها أنه لا تجب الكفارة إلا بالوصفين المذكورين قبلها، وهما الظهار والعود.
وقيل : فيها تقديم وتأخير، تقديره : " الذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما كانوا من قبل الظهار سالمين من الإثم بسبب الكفارة ". وعلى هذا لا يكون العود شرطا في كفارة الظهار. ( شرح التنقيح : ١١٣ ).
١١٩٥- قوله تعالى :﴿ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ﴾ اللفظ ظاهر في إعتاق جنس الرقبة، وهي مترددة بين الذكر والأنثى، والطويلة والقصيرة، وغير ذلك من الأوصاف، ولم يقدح في دلالة اللفظ على إيجاب الرقبة. ( الفروق : ٢/٨٨ ).
١ - ن. أنيس الفقهاء للشيخ قاسم القونوي : ١٦٢..
٢ - الفرْق والفرَق : مكيال ضخم لأهل المدينة، معروف. ن : اللسان : ١٠/٣٠٥. قال ابن الأثير : الفرق- بالتحريك- : مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مدا، وثلاثة أصع عند أهل الحجاز. فأما الفرق – بالسكون- فمائة وعشرون رطلا. ن : اللسان : ١٠/٣٠٦..
٣ - تذكر العديد من الروايات أنها نزلت في خولة بنت ثعلبة. ن : صحيح البخاري : ٩/١٤٤. مسند أحمد : ٦/٤٦. لباب النقول : ١٨٩. أما أبو داود فقد رواه في كتاب الطلاق من سننه عن محمد بن إسحاق بن يسار. وعنده :"خولة بنت ثعلبة"، ويقال لها خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر، فيقال خويلة... قاله ابن كثير في تفسيره : ٤/٤٩٨..
٤ - ن : تفسير ابن كثير : ٤/٤٩٦..
٥ - ن : التعريفات : ١٤٤..
١١٩٦- قوله تعالى :﴿ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ﴾ معناه : " ليصم شهرين متتابعين فيكون خيرا معناه الأمر، أو يكون التقدير : " فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين ". وهذا هو الأظهر لأنه أقرب لموافقته الظاهر من بقاء الخبر على حاله.
ونستفيد الوجوب من قوله تعالى، فالواجب عليه واللفظ على كل تقدير متعلق بطلب لا يدفع.
فالذي يصح في الآية أن التتابع ليس من باب المحرم، وأنه يرجع على تحريم التفريق، هذا بعيد وإذا تقرر أنه ليس من المحرمات بقي الإشكال من جهة أن المطلوب صوم شهرين متتابعين، ولم يأت بها المكلف في تلك الصور كلها : الناسي، والمجتهد، والمكره، وكل هؤلاء فرقوا. ولم يقع فعلهم مطابقا لمقتضى الطلاب، فوجب البقاء في العهدة١.
١ - قال الإمام القرافي: "قال مالك في المدونة (٢/٣٢١ بتصرف): إذا أكل في صوم الظهار أو القتل أو النذر المتتابع ناسبا أو مجتهدا أو مكرها، أو وطئ غير المظاهر منها ناسيا، قضى يوما متصلا بصومه، فإن لم يفعل ابتدأ الصوم من أوله، فإن وطئ المظاهر منها ليلا أو نهارا أول صومه أو آخره ناسيا أو عامدا ابتدأ الصوم". ن : الفروق : ٣/١٩٥..
١١٩٧- أي : عليم بكل الأشياء. ( الذخيرة : ٢/٤٧٧ و ١٠/١٥١. الاستغناء : ٣٠٩ ).
١١٩٨- يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل- خلافا لقوم-١ كنسخ الصدقة في قوله تعالى :﴿ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾ لغير بدل.
قيل : إن ذلك زال لزوال سببه، وهو التمييز بين المؤمنين والمنافقين، وقد ذهب المنافقون، فاستغني عن الفرق.
جوابه : روي أنه لم يتصدق إلا علي رضي الله عنه فقط مع بقاء السبب بعد صدقته ثم نسخ حينئذ. ( شرح التنقيح : ٣٠٨ ).
١ -[وهم بعض المعتزلة والظاهرية. يقولون :"إن النسخ بغير بدل لا يجوز شرعا". وشبهتهم في هذا أن الله تعالى يقول :﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ البقرة : ١٠٥. ووجه اشتباههم أن الآية تفيد أنه لابد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر هو خير منه أو مثله...] ن : مناهل العرفان : ٢/٢٢١..
١١٩٩- أضاف العصاة إلى الشيطان ليهينهم بالإضافة إليه ويحقرهم ( الفروق : ٢/٢٢٠ ).
سورة المجادلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المجادلة) من السُّوَر المدنية، نزَلتْ لتحريم عادةٍ من عادات الجاهلية؛ وهي (الظِّهار)، وذلك في حادثةِ مظاهرة أوسِ بن الصامت مِن زوجِه خَوْلةَ، وقد جاءت السورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثبات علمِ الله، وإحاطتِه بكل شيء، ومِن كمال ألوهيته سبحانه: الحُكْمُ العدل فيما يصلُحُ لهم من الشرائع، وخُتمت السورة ببيان حال أعداء الله، وحالِ أوليائه.

ترتيبها المصحفي
58
نوعها
مدنية
ألفاظها
475
ترتيب نزولها
105
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
28

* قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اْللَّهِ وَاْللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).

* قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «إنَّ اليهودَ كانوا يقولون لرسولِ اللهِ ﷺ: سامٌ عليك! ثم يقولون في أنفسِهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اْللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ} [المجادلة: 8]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٥٨٩).

* قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ عليكم رجُلٌ ينظُرُ بعينِ شيطانٍ، أو بعَيْنَيْ شيطانٍ»، قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني -أو: شتَمْتَني، أو نحوَ هذا-؟ قال: وجعَلَ يَحلِفُ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]، والآيةُ الأخرى». أخرجه أحمد (٢١٤٧).

قال محقِّقو "المسند" (4 /48): «قوله: «فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني؟»؛ كذا جاء في جميع الأصول، وكذلك هو في "مسند البزار"، وزيادة: «يا محمد» - كما قال الشيخُ أحمد شاكر- خطأٌ ينافي السياق؛ فإن الذي نُسِب إليه السبُّ والشَّتم هنا هو المنافقُ الأزرق، ورسولُ الله يَسأله ويتَّهِمُه، وهو يَحلِف كاذبًا يَتبرَّأ من التُّهمة، وقد جاء في "تفسير الطبري" على الصواب بإسقاطِ هذه الزيادة، وسيأتي على الصواب أيضًا عند أحمد (2407)»، انظر السبب الآتي.

* قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اْللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اْلْكَٰذِبُونَ} [المجادلة: 18]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما حدَّثه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ظلِّ حُجْرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ مِن المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: «إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَيْنَيْ شيطانٍ، فإذا أتاكم، فلا تُكلِّموه»، قال: فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَه، قال: «علامَ تَشتِمُني أنتَ، وفلانٌ، وفلانٌ؟»، نَفَرٌ دعَاهم بأسمائهم، قال: فذهَبَ الرَّجُلُ، فدعَاهم، فحلَفوا باللهِ واعتذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ...} [المجادلة: 18] الآيةَ» أخرجه أحمد (2407).

* سورةُ (المجادلة):

سُمِّيت سورةُ (المجادلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقصَّة مجادلةِ امرأةِ أوس بن الصامت عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وتُسمَّى كذلك بـ (قَدْ سَمِعَ)؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الظِّهار وكفَّارته (١-٤).

2. خَسارة مَن عادى اللهَ، وتعدَّى حدوده (٥-١٩).

3. حال أعداء الله، ومدحُ أوليائه (٢٠-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /34).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقصد السورةِ: «الحُكْمُ في قضيَّة مظاهرة أوسِ بن الصامت من زوجه خَوْلة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهَر منها زوجُها، وأن عملهم مخالفٌ لِما أراده الله، وأنه من أوهامهم وزُورِهم التي كبَتَهم اللهُ بإبطالها، وتخلَّصَ من ذلك إلى ضلالاتِ المنافقين؛ ومنها مناجاتُهم بمرأى المؤمنين ليَغِيظوهم ويحزُنوهم.
ومنها موالاتهم اليهودَ، وحَلِفُهم على الكذب، وتخلَّل ذلك التعرُّض لآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.

وشرع التصدُّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين.

وأن اللهَ ورسوله وحِزْبَهما هم الغالبون». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /6).