تفسير سورة المجادلة

تفسير مقاتل بن سليمان

تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة المجادلة مدنية، عددها اثنتان وعشرون آية كوفي.

قوله: ﴿ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ ﴾ يعني تكلمك ﴿ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ ﴾ بغنى وتضرع ﴿ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ ﴾ يعني خولة، امرأة أوس بن الصامت، والنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ تحاروكما ﴿ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ١] وذلك أن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن أحرم الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف بن الخزرج، كانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها زوجها فأبت عليه، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، وأسمه أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصارى، فأتت خولة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي، يا رسول الله، تزوجني وأنا شابة، ذات مال، وأهل، حتى إذا أكل مالى، وأفني شبابى، وكبرت سني، ووهى عظمي، جعلني عليه كظهر أمه، ثم ندم، فهل من شىء يجمعني وإياه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وكان الظهار، والإيلاء، وعدد النجوم من طلاق الجاهلية، فوَّقت الله تعالى في الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة، ووقت من عدد النجوم ثلاث تطليقات.
فأنزل الله تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ يعني الظهار والمنكر من القول الذي لا يعرف ﴿ وَزُوراً ﴾ يعني كذباً ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ ﴾ يحبن لم يعاقبه ﴿ غَفُورٌ ﴾ [آية: ٢] له لتحريمه الحلال.
﴿ وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ يعني يعودون للجماع الذي حرموه على أنفسهم ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ يعني الجماع ﴿ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ﴾ فوعظهم الله في ذلك ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ من الكفارة ﴿ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ٣] به. قال أبو محمد: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ يعني لنقض ما عقدوا من الحلف ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ التحرير ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ يعني الجماع ﴿ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ﴾ الصيام ﴿ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ﴾ لكل مسكين نصف صاع حنطة ﴿ ذَلِكَ ﴾ يعني هذا الذي ذكر من الكفارة ﴿ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ يقول: لكي تصدقوا بالله ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ إن الله قريب إذا دعوتموه في أمر الظهار، وتصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيما قال لكم من الكفارة حين جعل لكم مخرجاً.
﴿ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ يعني تصدقوا بالله ورسوله ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾ يعني سنة الله وأمره في كفارة الظهار، فلما نزلت هذه الآية" دعا النبي صلى الله عليه وسلم زوجها، فقال: " ما حملك على ما قلت "؟ قال: الشيطان، فهل لي من رجعة تجمعني وإياها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم، هل عندك تحرير رقبة "؟ قال: لا، إلا أن تحيط بمالي كله، قال: " فتستطيع صوماً، فتصوم شهرين متتابعين؟ قال: يارسول الله، إنى إذا لم آكل في اليوم مرتين أو ثلاثة مرات اشتد عليّ وكل بصري، وكان ضرير البصر، قال: " فهل عندك إطعام ستين مسكيناً "؟ قال: لا، إلا بصلة منك وعون فأعانه النبي صلى الله عليه وسلم، بخمسة عشر صاعاً، وجاء هو بمثل ذلك فتلك ثلاثون صاعاً من تمر لكل مسكين نصف صاع "، ذلك يعني أمر الكفارة توعظون به، فوعظهم الله تعالى في أمر الكفار والله بما تعملون خبير.
﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾، يعني سنة الله ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ ﴾ من اليهود والنصارى ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٤].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ ﴾ يعنى يعادون الله ﴿ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ﴾ يعني أخزوا كما أخزى ﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من الأمم الخالية ﴿ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ يعني القرآن فيه البيان أمره ونهيه ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ٥] نزلت في اليهود والمنافقين ﴿ مُّهِينٌ ﴾ يعني الهوان.
قوله: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً ﴾ الأولين والآخرين نزلت في المنافقين في أمر المناجاة ﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾ يقول: حفظ الله أعمالهم الخبيثة، ونسوا هم أعمالهم ﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمالهم ﴿ شَهِيدٌ ﴾ [آية: ٦] يعني شاهده.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ يقول: أحاط علمه بذلك كله ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ ﴾ يعني نفر ثلاثة ﴿ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾ يعني علمه معهم إذا تناجوا ﴿ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ يعني علمه معهم ﴿ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ ﴾ يعني ولا أقل من ثلاث نفر وهما اثنان ﴿ وَلاَ أَكْثَرَ ﴾ من خمسة نفر ﴿ إِلاَّ هُوَ ﴾ يعني إلا وعلمه ﴿ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ﴾ من الأرض ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ يعني بما يتناجون فيه ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمالهم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧].
قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ﴾ يعني اليهود كان بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم موادعة، فإذا رأوا رجلاً من المسلمين وحده يتناجون بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فقال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا ﴾ للذى ﴿ نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ ﴾ يعني بالمعصية ﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ يعني الظلم ﴿ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ يعني حين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فعصوه. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ ﴾ يعني كعب بن الأشرف، وحييي بن أخطب، وكعب بن أسيد، وأبو ياسر، وغيرهم ﴿ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ ﴾ يعني اليهود، قالوا: انطلقوا بنا إلى محمد، فنشتمه علانية كما نشتمه في السر، فقالوا: السام، يعنون بالسم السآمة والفترة، ويقولون: تسأمون يعني تتركون دينكم، فقالت عائشة، رضي الله عنها: عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عائشة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، فإنه ما وضع في شىء إلا زانه، ولا نزع من شىء إلا شانه "، فقال جبريل، عليه السلام: إنه لا يسلمون عليك ولكنهم يشتمونك، فما خرجت اليهود من عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له، فالله يعلمه، ولو كان نبياً لأعلمه الله ما نقول، فذلك قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ ﴾ لنبيه وأصحابه يقول الله ﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ عذابها ﴿ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٨] يعني بئس المرجع إلى النار.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ ﴾ يعني الذين أقروا باللسان، وهم المنافقون منهم عبدالله بن أبى، وعبدالله ابن سعد بن أبي سرح، وغيرهم، كان نجواهم أنهم كانوا يخبرون عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ما يشق على من أقام من المؤمنين، وبلغنا أن ذلك كان في سرية جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبدالله بن رواحة، قتلوا يوم مؤتة، ولعل حميم أحدهم في السرية، فإذا رأوه تناجوا بينهم فيظن المسلم أن حميمه قد قتل فيحزن، لذلك، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ﴿ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾ يعني المعصية والظلم ﴿ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ ﴾ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نهاهم عن ذلك، ثم قال ﴿ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ﴾ يعني الطاعة، وترك المعصية، ثم خوفهم فقال: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ٩] بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم.
ثم قال: ﴿ إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ ﴾ يعني نجوى المنافقين ﴿ مِنَ ﴾ تزيين ﴿ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ يعني إلا أن يأذن الله في ضره ﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١٠] يعني بالله فليثق المصدقون.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ ﴾ وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في صفة ضيقة، ومعه أصحابه فجاء نفر من أهل بدر، منهم: ثابت من قيس بن شماس الأنصارى، فسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليهم، ثم سلموا على القوم، فردوا عليهم، وجعلوا ينتظرون ليوسع لهم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكرم أهل بدر وذلك يوم الجمعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا فلان، وقم يا فلان، لمن لم يكن من أهل بدر، جدد القيام من أهل بدر، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجه من أقيم منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله رجلا تفسح لأخيه "، فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك، فقال المنافقون للمسلمين: أتزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس، فوالله ما عدل على هؤلاء، إن قوماً سبقوا فأخذوا مجلسهم وأحبوا قربه فأقامهم، وأجلس من أبطأ عن الخير، فوالله إن أمر صاحبكم كله فيه اختلاف، فأنزلا لله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ ﴾ يعني أوسعوا في المجالس ﴿ فَٱفْسَحُواْ ﴾ يقول أوسعوا ﴿ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ ﴾ يقول: وإذا قال لكم نبيكم: ارتفعوا عن المجالس فارتفعوا فإن الله يأجركم إذا أطعتم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ يعني أهل بدر ﴿ وَ ﴾ يرفع الله ﴿ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ منكم فيها تقديم يعني بالقرآن ﴿ دَرَجَاتٍ ﴾ يعني الفضائل إلى الجنة على من سواهم ممن لا يقرأ القرآن من المهاجرين والتابعين ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ١١] في أمر المجلس وغيره. حدثنا عبدالله، حدثنى أبي، حدثنا الهذيل، قال مقاتل بن سليمان: إذا انتهى المؤمنون إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذى ليس بعالم: أدخل الجنة بعملك الصالح، ويقال للعالم قم على باب الجنة، فاشفع للناس.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ يعنىالصدقة ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من إمساكه ﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ لذنوبكم؛ نزلت في الأغنياء ﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ ﴾ الصدقة على الفقراء ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٢] لمن لا يجد الصدقة، وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم ويغلبون الفقراء على مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم، فلما أمرهم بالصدقة عند المنأجاة انتهو عند ذلك، وقدرت الفقراء على كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته ولم يقدم أحد من أهل الميسرة بصدقة غير على بن أبى طالب، رضى الله عنه، قدم ديناراً، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم عشر كلمات فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أنزل الله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ ﴾ يقول أشق عليكم ﴿ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ يعني أهل الميسرة ولو فعلتم لكان خير لكم ﴿ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ يقول وتجاوز الله عنكم ﴿ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ لمواقيتها ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾ لحينها ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فنسخت الزكاة الصدقة التي كانت عند المناجاة ﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٣].
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم ﴾ يقول ألم تنظر يا محمد إلى الذين ناصحوا اليهود بولايتهم فهو عبدالله بن نبتل المنافق، يقول الله تعالى: ﴿ مَّا هُم ﴾ يعني المنافقين عند الله ﴿ مِّنكُمْ ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ وَلاَ مِنْهُمْ ﴾ يعني من اليهود في الدين والولاية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن نتيل: " إنك تواد اليهود " فحلف عبدالله بالله إنه لم يفعل وأنه ناصح، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٤] أنهم كذبة ﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ ﴾ يعني بئس ﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٥] ﴿ ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾ يعني حلفهم ﴿ جُنَّةً ﴾ من القتل ﴿ فَصَدُّواْ ﴾ الناس ﴿ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ يعني دين الله الإسلام ﴿ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ١٦] فقال رجل من المنافقين: إن محمد يزع أنا لا ننصر يوم القيامة، لقد شقينا إذًا، إنا لأذل من البعوض، والله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فأما اليوم فلا نبذلها، ولكن نبذلها يومئذ لكي ننصر، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ يوم القيامة ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ١٧] يعني مقيمين في نار لا يموتون.
قوله: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهِ جَمِيعاً ﴾ يعني المنافقين ﴿ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ﴾ وذلك أنهم كانوا إذا قالوا شيئاً أو عملوا شيئاً وأرادوه، سألهم المؤمنون عن ذلك، فيقولون: والله لقد أردنا الخير فيصدقهم المؤمنون بذلك، فإذا كان يوم القيامة سئلوا عن أعمالهم الخبيثة فاستعانوا بالكذب كعادتهم في الدنيا فذلك قوله يحلفون لله في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا ﴿ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ من الدين فلن يغني عنهم ذلك من الله شيئاً ﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾ [آية: ١٨] في قولهم ﴿ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ يقول غلب عليهم الشيطان ﴿ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ﴾ يعني شيعة ﴿ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ﴾ يعني شيعة ﴿ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [آية: ١٩].
قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ ﴾ يعني يعادون الله ﴿ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ ﴾ [آية: ٢٠] يعني في الهالكين ﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ ﴾ يعني قضى الله ﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لئن فتح الله علينا مكة، وخيبر وما حولها فنحن نرجوا أن يظهرنا الله ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الشام وفارس والروم. فقال عبد الله بن أبى المسلمين: أتظنون بالله أن أهل الروم وفارس كبعض أهل هذه القرى التى غلبتموهم عليها، كلا والله لهم أكثر جمعاً، وعدداً، فأنزل الله تعالى في قول عبدالله بن أبي:﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الفتح: ٤] وأنزل: " كتب الله كتاباً وأمضاه " " لأغلبن أنا ورسلى " يعني النبي صلى الله عليه وسلم وحده ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [آية: ٢١] يقول أقوى، وأعز من أهل الشام والروم وفارس.
وقوله: ﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ يعني يصدقون بالله أنه واحد لا شريك له، ويصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ﴿ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ يعني يناصحون من عادى الله ورسوله، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة العلمي حين كتب إلى أهل مكة.
﴿ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ الذين لم يفعلوا ذلك ﴿ كَتَبَ ﴾ يقول جعل ﴿ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ ﴾ يعني التصديق نظيرها في آل عمران:﴿ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾[الآية: ٥٣] يعني فاجعلنا مع الشاهدين، وقال أيضاً في الأعراف:﴿ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾[الآية: ١٥٦] يعني فسأجعلها ﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ يقول قولهم برحمة من الله عجلت لهم في الدنيا ﴿ وَيُدْخِلُهُمْ ﴾ في الآخرة ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ يعني بساتين ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ مطردة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ يعني مقيمن في الجنة لا يموتون ﴿ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ بأعمالهم الحسنة ﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ يعني عن الله بالثواب والفوز ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ الذين ذكر ﴿ حِزْبُ ٱللَّهِ ﴾ يعني شيعة الله ﴿ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ ﴾ يعني الا أن شيعة الله ﴿ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٢٢] يعني الفائزين.
سورة المجادلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المجادلة) من السُّوَر المدنية، نزَلتْ لتحريم عادةٍ من عادات الجاهلية؛ وهي (الظِّهار)، وذلك في حادثةِ مظاهرة أوسِ بن الصامت مِن زوجِه خَوْلةَ، وقد جاءت السورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثبات علمِ الله، وإحاطتِه بكل شيء، ومِن كمال ألوهيته سبحانه: الحُكْمُ العدل فيما يصلُحُ لهم من الشرائع، وخُتمت السورة ببيان حال أعداء الله، وحالِ أوليائه.

ترتيبها المصحفي
58
نوعها
مدنية
ألفاظها
475
ترتيب نزولها
105
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
28

* قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اْللَّهِ وَاْللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).

* قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «إنَّ اليهودَ كانوا يقولون لرسولِ اللهِ ﷺ: سامٌ عليك! ثم يقولون في أنفسِهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اْللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ} [المجادلة: 8]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٥٨٩).

* قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ عليكم رجُلٌ ينظُرُ بعينِ شيطانٍ، أو بعَيْنَيْ شيطانٍ»، قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني -أو: شتَمْتَني، أو نحوَ هذا-؟ قال: وجعَلَ يَحلِفُ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]، والآيةُ الأخرى». أخرجه أحمد (٢١٤٧).

قال محقِّقو "المسند" (4 /48): «قوله: «فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني؟»؛ كذا جاء في جميع الأصول، وكذلك هو في "مسند البزار"، وزيادة: «يا محمد» - كما قال الشيخُ أحمد شاكر- خطأٌ ينافي السياق؛ فإن الذي نُسِب إليه السبُّ والشَّتم هنا هو المنافقُ الأزرق، ورسولُ الله يَسأله ويتَّهِمُه، وهو يَحلِف كاذبًا يَتبرَّأ من التُّهمة، وقد جاء في "تفسير الطبري" على الصواب بإسقاطِ هذه الزيادة، وسيأتي على الصواب أيضًا عند أحمد (2407)»، انظر السبب الآتي.

* قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اْللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اْلْكَٰذِبُونَ} [المجادلة: 18]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما حدَّثه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ظلِّ حُجْرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ مِن المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: «إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَيْنَيْ شيطانٍ، فإذا أتاكم، فلا تُكلِّموه»، قال: فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَه، قال: «علامَ تَشتِمُني أنتَ، وفلانٌ، وفلانٌ؟»، نَفَرٌ دعَاهم بأسمائهم، قال: فذهَبَ الرَّجُلُ، فدعَاهم، فحلَفوا باللهِ واعتذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ...} [المجادلة: 18] الآيةَ» أخرجه أحمد (2407).

* سورةُ (المجادلة):

سُمِّيت سورةُ (المجادلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقصَّة مجادلةِ امرأةِ أوس بن الصامت عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وتُسمَّى كذلك بـ (قَدْ سَمِعَ)؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الظِّهار وكفَّارته (١-٤).

2. خَسارة مَن عادى اللهَ، وتعدَّى حدوده (٥-١٩).

3. حال أعداء الله، ومدحُ أوليائه (٢٠-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /34).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقصد السورةِ: «الحُكْمُ في قضيَّة مظاهرة أوسِ بن الصامت من زوجه خَوْلة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهَر منها زوجُها، وأن عملهم مخالفٌ لِما أراده الله، وأنه من أوهامهم وزُورِهم التي كبَتَهم اللهُ بإبطالها، وتخلَّصَ من ذلك إلى ضلالاتِ المنافقين؛ ومنها مناجاتُهم بمرأى المؤمنين ليَغِيظوهم ويحزُنوهم.
ومنها موالاتهم اليهودَ، وحَلِفُهم على الكذب، وتخلَّل ذلك التعرُّض لآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.

وشرع التصدُّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين.

وأن اللهَ ورسوله وحِزْبَهما هم الغالبون». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /6).