تفسير سورة المجادلة

معاني القرآن

تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله عز وجل :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِها ﴾.
نزلت في امرأة يقال لها : خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت الأنصاري، قال لها [ ١٩٤/ب ] إن لم أفعل كذا وكذا قبل أن تخرجي من البيت فأنت علي كظهر أمي، فأتت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو، فقالت : إن أوس بن الصامت تزوجني شابة غنية، ثم قال لي كذا وكذا وقد ندم، فهل من عذر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي في أمرك شيء، وأنزل الله الآيات فيها، فقال عز وجل :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ ﴾، وهي في قراءة عبد الله :( قد يسمع الله )، «والله قد يسمع تحاوركما »، وفي قراءة عبد الله :«قول التي تحاورك في زوجها » حتى ذكر الكفّارة في الظهار، فصارت عامة.
وقوله :﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ﴾.
قرأها يحيى والأعمش وحمزة ( يظّاهرون )، وقرأها بعض أهل الحجاز كذلك، وقرأها الحسن ونافع «يظَّهَّرُون » فشدد، ولا يجعل فيها ألفا، وقرأها عاصم وأبو عبد الرحمن السلمي ( يُظاهِرون ) يرفعان الياء، ويثبتان الألف، ولا يشددان، ولا يجوز فيه التشديد إذا قلت :( يظاهرون ) وهي في قراءة أبيّ : يتظاهرون من نسائهم قوة لقراءة أصحاب عبد الله.
وقوله :﴿ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ﴾.
الأمهات في موضع نصب لما ألقيت منها الباء نصبتَ، كما قال في سورة يوسف :﴿ ما هذا بَشراً ﴾ إنما كانت في كلام أهل الحجاز : ما هذا ببشر ؛ فلما ألقيت الباء ترك فيها أثر سقوط الباء وهي في قراءة عبد الله «ما هن بأمهاتهم »، وأهل نجد إذا ألقوا الباء رفعوا، فقالوا «ما هذا بشر »، «ما هن أمهاتهم ».
أنشدني بعض العرب :
رِكابُ حُسَيلٍ آخرَ الصيفِ بُدَّن وناقةُ عمرو ما يُحلّ لها رحل
ويزعم حسل أنه فرع قومه وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل.
وقوله :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قَالُواْ ﴾.
يصلح فيها في العربية : ثم يعودون إلى ما قالوا، وفيما قالوا. يريد : يرجعون عما قالوا، وقد يجوز في العربية أن تقول : إن عاد لما فعل، يريد إن فعله مرة أخرى، ويجوز : إن عاد لما فعل : إن نقض ما فعل، وهو كما تقول : حلف أن يضربك فيكون معناه : حلف لا يضربك وحلف ليضربنك.
وقوله :﴿ كُبِتُواْ ﴾.
غيظوا وأحزِنُوا يوم الخندق ﴿ كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يريد : من قاتل الأنبياء من قبلهم.
وقوله :﴿ ما يَكُونُ مِن نَّجْوَى ﴾.
القراء على الياء في يكون، وقرأها بعضهم : ما تكون ؛ لتأنيث : النجوى.
وقوله :﴿ ثَلاَثَةٍ ﴾.
إن شئت خفضتها على أنها من نعت النجوى، وإن شئت أضفت النجوى إليها، ولو نصبت على أنها لكان كان صوابا.
وقوله :﴿ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾.
وهي في قراءة عبد الله :«ولا أربعة إلاَّ هو خامسُهم » لأن المعنى غير مضمور له، فكفى ذكر بعض العدد من بعض.
وقوله :﴿ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ ﴾.
موضع : أدنى، وأكثر خفض لاتباعه : الثلاثة، والخمسة، ولو رفعه رافع كان صواباً، كما قيل :﴿ ما لكُم من إِله غيرُه ﴾، كأنه قال : ما لكُم إله غيره.
[ ٢٠٦/ا ] وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ﴾، نزلت في اليهود والمنافقين، وكانوا إذا قاعدوا مسلماً قد غزا له قريب في بعض سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجى الإثنان من اليهود والمنافقين بما يوقع في قلب المسلم أن صاحبه قد قتل، أو أصيب، فيحزن لذلك، فنهوا عن النجوى.
وقد قال الله :﴿ إِنَّما النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ ﴾، وقوله :﴿ وَيَتَناجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾، قراءة العوام بالألف، وقرأها يحيى بن وثاب : وينتجون، وفي قراءة عبد الله : إذا انْتجَيْتُمْ فلا تَنْتَجُوا.
وقوله :﴿ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ﴾، كانت اليهود تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون : السام عليك : فيقول لهم : وعليكم، فيقولون : لو كان محمد نبياً لاستجيب له فينا ؛ لأنّ السام : الموت، فذلك قوله :﴿ لَوْلاَ يُعَذِّبُنا اللَّهُ بِما نَقُولُ ﴾ : أي : هلاَّ.
وقوله :﴿ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ ﴾، قرأها الناس : تفَسَّحُوا، وقرأ الحسن : تفاسحوا، وقرأ أبو عبد الرحمن : في المجالِس، وتفاسحوا، وتفسَّحوا متقاربان مثل : تظاهرون، وتظَّهرون، وتعاهدته وتعهَّدته، راءيت ورأّيت، ولا تُصاعر وَلا تُصعِّر.
وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ ﴾، قرأ الناس بكسر الشين، وأهل الحجاز يرفعونها، وهما لغتان كقولك : يَعْكِفُونَ ويَعْكُفُون، ويعرِشون، ويعرُشون.
وقوله :﴿ يأَيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾.
كانوا قد أُمروا أن يتصدقوا قبل أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدرهم ونحوه، فثقُل ذلك عليهم، وقلَّ كلامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاً بالصدقة.
فقال الله :﴿ أَأشْفَقْتُمْ ﴾ أي : أبخلتم أن تتصدقوا، فإن فعلتم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فنَسخت الزكاة ذلك الدرهم.
وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْما ﴾.
نزلت في المنافقين كانوا يوالون اليهود «ما هم منكم » من المسلمين، «ولا منهم » على دين المنافقين ؛ هم يهود.
وقوله :﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ﴾ : غلب عليهم.
وقوله :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنا وَرُسُلِي ﴾.
الكتاب : يجري مجرى القول، تدخل فيه أن، وتستقبل بجواب اليمين ؛ لأنك تجد الكتاب قولا في المعنى كُنى عنه بالكتابِ، كما يكنّى عن القول : بالزعم، والنداء، والصياح، وشبهه.
[ ٢٠٦/ب ] وقوله :﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾.
نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنه كتب إلى أهل مكة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم فاستعدوا لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتاح مكة، فأتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك الوحي، فقال له : ما دعاك إلى ما فعلت ؟ قال : أحببت أن أتقرب إلى أهل مكة لمكان عيالي فيهم، ولم يكن عن عيالي ذابُّ هناك، فأنزل الله هذه الآية.
الجماعة من أهل الكوفة والبصرة والحجاز على :﴿ كَتَبَ في قُلُوبِهِم ﴾، وقَرأ بعضهم : كُتِبَ.
سورة المجادلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المجادلة) من السُّوَر المدنية، نزَلتْ لتحريم عادةٍ من عادات الجاهلية؛ وهي (الظِّهار)، وذلك في حادثةِ مظاهرة أوسِ بن الصامت مِن زوجِه خَوْلةَ، وقد جاءت السورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثبات علمِ الله، وإحاطتِه بكل شيء، ومِن كمال ألوهيته سبحانه: الحُكْمُ العدل فيما يصلُحُ لهم من الشرائع، وخُتمت السورة ببيان حال أعداء الله، وحالِ أوليائه.

ترتيبها المصحفي
58
نوعها
مدنية
ألفاظها
475
ترتيب نزولها
105
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
28

* قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اْللَّهِ وَاْللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).

* قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «إنَّ اليهودَ كانوا يقولون لرسولِ اللهِ ﷺ: سامٌ عليك! ثم يقولون في أنفسِهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اْللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ} [المجادلة: 8]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٥٨٩).

* قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ عليكم رجُلٌ ينظُرُ بعينِ شيطانٍ، أو بعَيْنَيْ شيطانٍ»، قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني -أو: شتَمْتَني، أو نحوَ هذا-؟ قال: وجعَلَ يَحلِفُ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]، والآيةُ الأخرى». أخرجه أحمد (٢١٤٧).

قال محقِّقو "المسند" (4 /48): «قوله: «فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني؟»؛ كذا جاء في جميع الأصول، وكذلك هو في "مسند البزار"، وزيادة: «يا محمد» - كما قال الشيخُ أحمد شاكر- خطأٌ ينافي السياق؛ فإن الذي نُسِب إليه السبُّ والشَّتم هنا هو المنافقُ الأزرق، ورسولُ الله يَسأله ويتَّهِمُه، وهو يَحلِف كاذبًا يَتبرَّأ من التُّهمة، وقد جاء في "تفسير الطبري" على الصواب بإسقاطِ هذه الزيادة، وسيأتي على الصواب أيضًا عند أحمد (2407)»، انظر السبب الآتي.

* قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اْللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اْلْكَٰذِبُونَ} [المجادلة: 18]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما حدَّثه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ظلِّ حُجْرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ مِن المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: «إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَيْنَيْ شيطانٍ، فإذا أتاكم، فلا تُكلِّموه»، قال: فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَه، قال: «علامَ تَشتِمُني أنتَ، وفلانٌ، وفلانٌ؟»، نَفَرٌ دعَاهم بأسمائهم، قال: فذهَبَ الرَّجُلُ، فدعَاهم، فحلَفوا باللهِ واعتذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ...} [المجادلة: 18] الآيةَ» أخرجه أحمد (2407).

* سورةُ (المجادلة):

سُمِّيت سورةُ (المجادلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقصَّة مجادلةِ امرأةِ أوس بن الصامت عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وتُسمَّى كذلك بـ (قَدْ سَمِعَ)؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الظِّهار وكفَّارته (١-٤).

2. خَسارة مَن عادى اللهَ، وتعدَّى حدوده (٥-١٩).

3. حال أعداء الله، ومدحُ أوليائه (٢٠-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /34).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقصد السورةِ: «الحُكْمُ في قضيَّة مظاهرة أوسِ بن الصامت من زوجه خَوْلة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهَر منها زوجُها، وأن عملهم مخالفٌ لِما أراده الله، وأنه من أوهامهم وزُورِهم التي كبَتَهم اللهُ بإبطالها، وتخلَّصَ من ذلك إلى ضلالاتِ المنافقين؛ ومنها مناجاتُهم بمرأى المؤمنين ليَغِيظوهم ويحزُنوهم.
ومنها موالاتهم اليهودَ، وحَلِفُهم على الكذب، وتخلَّل ذلك التعرُّض لآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.

وشرع التصدُّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين.

وأن اللهَ ورسوله وحِزْبَهما هم الغالبون». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /6).