تفسير سورة المائدة

التبيان في تفسير غريب القرآن

تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التبيان في تفسير غريب القرآن
لمؤلفه ابن الهائم . المتوفي سنة 815 هـ

" أوفوا بالعقود " أي بالعهود في لغة بني حنيفة - زه - والعقد الجمع بين الشيئين بما يعسر الانفصال معه وأصله الشد والوفاء إتمام العهد بفعل ما عقد عليه ويقال أوفي ووفي بمعنى وفى المخفف بهيمة " هي كل ما كان من الحيوان غير من يعقل ويقال البهيمة ما استبهم عن الجواب أي أستغلق - زه - وقيل كل حي لا يميز
و " الأنعام " أصلها الإبل ثم تستعمل للبقر والشاة ولا يدخل فيها الحافر وإضافة البهيمة إلى الأنعام من باب ثوب خز وقال الحسن بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم وقال ابن عباس هي الوحش وقال ابن عمر الجنين إذا خرج ميتا حل أكله، " حرم " محرمون واحدهم حرام - زه - يقال رجل حرام وقوم حرم.
" شعائر الله " ما جعله الله علما لطاعته واحدتها شعيرة مثل الحرم يقول لا تحلوه فتصطادوا فيه، " ولا الشهر الحرام " فتقاتلوا فيه، " ولا الهدي " وهو ما أهدي إلى البيت يقول فلا تستحلوه حتى يبلغ محله أي منحره وإشعار الهدي أن يقلد بنعل أو غير ذلك ويجلل ويطعن في شق سنامه الأيمن بحديدة ليعلم أنه هدي، " ولا القلائد " كان الرجل يقلد بعيره من لحاء شجر الحرم فيأمن بذلك حيث سلك
ولا آمين البيت " أي عامدين، " يجرمنكم " يكسبنكم من قولهم فلان جريمة أهله وجارمهم أي كاسبهم، " شنآن " محركة النون بغضاء قوم وشنآن قوم مسكنة النون بغيض قوم هذا مذهب البصريين وقال الكوفيون شنآن وشنآن مصدران.
" والمنخنقة " التي تخنق فتموت ولا تدرك ذكاتها، " والموقوذة " المضروبة حتى توقذ أي تشرف على الموت ثم تترك حتى تموت وتؤكل بغير زكاة، " والمتردية " التي تردت أي سقطت من جبل أو حائط أو في بئر فماتت ولم تدرك زكاتها، " والنطيحة " المنطوحة حتى تموت - زه - وهي فعيلة بمعنى مفعول وألحق الهاء به لنقله عن الوصفية إلى الإسمية وقيل إذا انفرد عن الموصوف يلحق به الهاء نحو الكحيلة والرهينة وقيل هي بمعنى الفاعل أي تنطح حتى تموت، " إلا ما ذكيتم " أي قطعتم أوداجه ونهرتم دمه وذكرتم اسم الله تعالى إذا " ذبحتموه وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء من ذلك ذكاء السن أي تمام السن أي النهاية في الشباب والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول وذكيت النار إذا أتممت إشعالها وقوله " إلا ما ذكيتم " أي إلا ما أدركتم ذبحه على التمام، " على النصب " النصب والنصب والنصب بمعنى واحد وهو حجر أو صنم يذبحون عنده، " تستقسموا " تستفعلوا من قسمت أمري، " بالأزلام " القداح التي كانوا يضربون بها على الميسر واحدها زلم وزلم، " في مخمصة " مجاعة بلغة قريش - زه - مشتقة من خماص البطن، " متجانف لإثم " مائل إلى الحرام.
" من الجوارح " أي الكواسب يعني الصوائد - زه - واحدتها جارحة والجرح الكسب من قوله " ويعلم ما جرحتم بالنهار " وعن محمد بن الحسن من الجراحة وقال إذا صادته ولم تجرحه ومات لم يؤكل " لأنه لم يجرح بناب ولا مخلب، " مكلبين " يقال أصحاب كلاب ويقال رجل مكلب وكلاب أي صاحب صيد بالكلاب.
" حل لكم " أي حلال وحرم حرام.
" بذات الصدور " حاجة الصدور وقيل بخفيات القلوب وقيل بحقيقة ما في الصدور وذوات الشيء نفسه وحقيقته.
" نقيبا " أي ضمينا وأمينا والنقيب فوق العريف وسمي نقيبا لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعلم مناقبهم والرجل العالم يقال له النقاب، " وعزرتموهم " أي عظمتموهم ويقال نصرتموهم وأعنتموهم - زه - قال الزجاج واصله من الذب والرد أي ذببتم الأعداء عنهم ومنه التعزير وهو كالتنكيل، " سواء السبيل " قصد السبيل أي الطريق.
" على خائنة منهم " خائنة بمعنى خائن والهاء للمبالغة كما قالوا رجل علامة ونسابة ويقال خائنة مصدر بمعنى خيانة - زه - يعني كالخاطئة والعاقبة وقيل على فرقة خائنة.
" فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء " هيجناها ويقال أغرينا ألصقنا بهم ذلك مأخوذ من الغراء والعداوة تباعد القلوب والنيات والبغضاء البغض.
" سبل السلام " طرق السلامة.
" فترة من الرسل " أي سكون وانقطاع لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إلى وقت رفع عيسى عليه السلام متواترة
" وجعلكم ملوكا " اي أحرارا بلغة هذيل وكنانة
" المقدسة " المطهرة - زه - أي المقدس فيها من حل بها من الأنبياء والأولياء فهو من باب مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر
" جبارين " أقوياء عظام الأجسام والجبار القهار - زه - وقيل طوالا وصفوا بذلك لكثرتهم وقوتهم وعظم خلقهم وطول جثثهم وقال المفضل ممتنعين من أن يقهروا ويذلوا وكل ممتنع الجبار والجبار من النخل ما علا جدا وقال ابن عيسى الجبار المجبر على ما يريد ويعظم عن أن ينال والإجبار الإكراه وقيل جبار من جبرت العظم أي يصلح أمر نفسه.
" من أجل ذلك " أي جناية ذلك ويقال من أجل ذلك من جزاء ذلك وجزاء ذلك بالمد والقصر ويقال من أجل ذلك من سبب ذلك.
" فلا تأس " لا تحزن
يتيهون " يحارون ويضلون.
" تبوء بإثمي وإثمك " أي تنصرف بهما يعني إذا قتلتني وما أحب أن تقتلني فمتى ما قتلتني أحببت أن تنصرف بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك " فتكون من أصحاب النار ".
" فطوعت له نفسه " شجعته وتابعته ويقال طوعت فعلت من الطوع ويقال طاع له بكذا وكذا أي اتاه تطوعا ولساني لا يطوع بكذا أي لا ينقاد - زه - وقيل سهلت من قولهم طاعت الظبية أصول الشجرة أي سهل عليها تناولها.
" سوأة أخيه " أي فرج
" أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " الخلاف المخالفة أي يده اليمنى ورجله اليسرى يخالف بين قطعهما، " خزي " هوان وهلاك أيضا.
" الوسيلة " القربة - زه - وقال أبو عبيدة الحاجة وقيل أفضل درجات الجنة
" سماعون للكذب " أي قائلون له كما يقال لا تسمع من فلان قوله أي لا
تقبل قوله وجائز أن يكون سماعون للكذب أي يسمعون منك ليكذبوا عليك، " سماعون لقوم آخرين " أي هم عيون لأولئك الآخرين الغيب
" أكالون للسحت " السحت كسب مالا يحل ويقال السحت الرشوة في الحكم - زه - وقيل غير ذلك وأصله من سحته وأسحته إذا أهلكه واستأصله قال " فيسحتكم بعذاب ".
" الأحبار " العلماء واحدهم حبر - زه - وفيه لغتان الفتح والكسر والفتح أفصح عند ثعلب وعكس صاحبا ديوان الأدب والصحاح وقيل هو بالفتح فقط وممن نفي الكسر أبو عبيدة وأبو الهيثم والفراء قال أبو عبيدة يرويه المحدثون كلهم بالفتح وحكى أبو عبيدة عن الأصمعي التوقف في ضبطه فقال وما أدري هو الحبر أو الحبر وممن حكى اللغتين فيه المبرد وابن السكيت وابن قتيبة وصاحبا ديوان الأدب والصحاح وعن صاحب العين هو العالم من علماء الديانة مسلما كان أو ذميا بعد أن يكون كتابيا قال بعضهم ولعله أراد الأصل ثم أطلق على المسلم العالم.
" ومهيمنا عليه " أي مؤتمنا وقيل شاهدا وقيل رقيبا وقيل قفانا يقال فلان قفان على فلان إذا كان يحفظ أموره فقيل للقرآن قفان على الكتب لأنه شاهد بصحة الصحيح منها وسقم السقيم والمهيمن في أسماء الله تعالى القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم وقال النحويون أصل المهيمن مؤيمن مفيعل من أمين كما قالوا بطير ومبيطر من البيطار فقلبت الهمزة هاء لقرب مخرجيهما كما قالوا أرقت الماء وهرقت الماء وأيهات وهيهات وإياك وهياك وإبرية وهبرية للحزاز الذي يكون في الرأس، " شرعة " الشرعة والشريعة واحد أي سنة وطريقة، " ومنهاجا " المنهاج الطريق الواضح ويقال الشرعة معناها ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمرة - زه -
" جهد أيمانهم " أغلظ الإيمان وجهد مصدر.
" أذلة على المؤمنين " أي يلينون لهم من قولهم دابة ذلول اي منقادة لينة سهلة وليس هذا من الهوان إنما هو من الرفق
أعزة على الكافرين " يعازون الكفار أي يغالبونهم ويمانعونهم يقال عزه يعزه عزا إذا غلبه - زه - والعزاز الأرض الصلبة
" حزب الله " جنده وجموعه وقيل الحزب الولي واشتقاقه من قولهم تحزب القوم اجتمعوا والحزابية الحمار المجتمع الخلق والحيزبون العجوز لاجتماع الأخبار والأمور عندها.
" تنقمون منا " تكرهون وتنكرون.
" لولا ينهاهم الربانيون " لولا حرف تحضيض بمعنى هلا - زه -
" مقتصدة " الاقتصاد الاستواء في العمل من غير إفراط وتفريط.
" يعصمك من الناس " يمنعك منهم فلا يقدرون عليك وعصمة الله جل وعلا للعبد من هذا إنما هي منعه من المعصية.
" قسيسين " هم رؤساء النصارى واحدهم قسيس وقال بعض العلماء هو فعيل من قسست الشيء وقصصته إذا تتبعته فالقسيس سمي به لتتبعه كتابه وآثار معانيه - زه - رأيت بعضهم ضبط القس بفتح القاف قال ومن ضمها فقد " أخطأ وأما قس بن ساعدة فهو بضم القاف وقال الكرماني القس والقسيس اسم الكبير الزاهد العالم منهم وجمع تكسيره من حيث القياس القساسون ومن حيث السماع القساوسة بالواو وحكاه الأزهري في تهذيب اللغة وأنشد فيه بيتا والقس في اللغة نشر الحديث والنميمة، " والرهبان " جمع راهب وهو الذي يرهب الله أي يخافه.
" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " تقدم تفسيره في البقرة وكذلك كثير من غريب هذه السورة.
" الصيد " ما كان ممتنعا ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال فهو صيد.
" النعم " هي الإبل والبقر والغنم وهو جمع لا واحد له من لفظه وجمع النعم أنعام، " ليذوق وبال أمره " أي عاقبة أمره من الشر والوبال الوخامة وسوء العاقبة يقال ماء وبيل وكلأ وبيل أي وخيم لا يستمرأ أو تضر عاقبته والوبيل والوخيم ضد المريء.
" بحيرة " الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحر فأكله الرجال والنساء وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء.
السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو شيء يتقيه أو بلغه منزلة أن يفعل ذلك فلا تحبس عن رعي أو ماء ولا يركبها أحد
والوصيلة من الغنم كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها وكان لحمها حراما على النساء ولبن الأنثى منهما حراما على النساء إلا أن يكون منهما شيء فيأكله الرجال والنساء
والحام الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال إذا أنتج من صلبه عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء.
" الأوليان " واحدهما الأولى والجمع ألأولون والأنثى الوليا
والجمع الوليات والولى.
" أوحيت إلى الحواريين " ألقيت في قلوبهم.
" عيدا لأولنا وآخرنا " العيد يوم مجمع وقيل يوم العيد معناه الذي يعود فيه الفرح والسرور والعيد عند العرب الوقت الذي يعود فيه الفرح أو الحزن.
سورة المائدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.

ترتيبها المصحفي
5
نوعها
مدنية
ألفاظها
2837
ترتيب نزولها
112
العد المدني الأول
122
العد المدني الأخير
122
العد البصري
123
العد الكوفي
120
العد الشامي
122

* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ‌اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]  إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).

* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).

* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).

* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).


سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.

* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:

عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).

* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:

فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).

* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:

عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:

العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).

المواثيق والجزاء (٩-١٠).

البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).

ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).

فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).

سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).

جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).

عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).

التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).

حد السرقة (٣٨-٤٠).

تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).

رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).

القرآن (٤٨-٥٠).

المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).

الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).

سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).

لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).

عصمة الرسول (٦٧-٦٩).

طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).

لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).

مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).

النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).

اليمين وكفارتها (٨٩).

خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).

مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).

تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).

الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).

عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).

المائدة (١١٢-١١٥).

التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).

كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).

مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.

وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).