ﰡ
مدنيةٌ، ورُويَ أنها نزلَتْ مُنْصَرَفَ رسولِ اللهِ - ﷺ - من الحُدَيبيةِ، وآيُها مئةٌ وعشرونَ آيةً، وحروفُها أحدَ عشرَ ألفًا وسبعُ مئةٍ وثلاثةٌ وثلاثون حرفًا، وكَلِمُها ألفانِ وثماني مئةٍ وأربعُ كلمات. وعن رسولِ اللهِ - ﷺ - أنه قال: "سُورَةُ المَائِدَةِ تُدْعى فِي مَلَكُوتِ اللهِ: المُنْقِذَةَ؛ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلاَئِكَةِ الْعَذَابِ" (١).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)﴾.[١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أي: العهودِ المحكمةِ، ويقال: وَفَى وأَوْفى بمعنىً واحدٍ، وهذا عامٌّ في كل واجبٍ من أمرٍ ونهيٍ وحفظِ وديعةٍ؛ أي: احفظوا شريعتَهُ (٢)، ولفظُ المؤمنين يعمُّ مؤمني أهلِ الكتابِ بينَهم وبينَ اللهِ عقدٌ في أداءِ الأمانةِ فيما في كتبهم من أمرِ
(٢) "أي: احفظوا شريعته" زيادة من "ظ".
﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ وهي الإبلُ والبقرُ والغنمُ، [وأرادَ تحليلَ ما حرمَ أهلُ الجاهليةِ على أنفسِهم من الأنعامِ] (١)، وسميتْ بهيمةً؛ لإبهامِها من جهة نقصِ نطقِها وفهمها، وعدمِ مَيْزِها (٢) وعقلها، وقال ابنُ عباسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ: "بهيمةُ الأنعامِ الأَجِنَّةُ في البطنِ إذا ذُبِحَتْ أُمهاتُها" (٣)، قال القرطبيُّ (٤): وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ وليسَ في الأجنةِ ما يُستثنى.
واختلفَ الأئمةُ في الجنينِ الذي يوجَدُ في بطنِ أُمه مَيْتًا إذا ذُكِّيَتْ، هل تكونُ ذكاتُها ذكاةً لجنينِها، ويحلُّ أكلهُ؟ فقالَ أبو حنيفةَ: لا يحلُّ أكلُه، وقالَ صاحباه: إذا تمَّ خلقُه، حَلَّ أكلُه، وقال مالكٌ: إذا لمَّ خلقُهُ، ونبتَ شعرُه، أُكِلَ، وإلا فلا، وقالَ الشافعيُّ وأحمدُ: يحلُّ أكلُه، سواءٌ نبتَ شعرُه أو لم ينبتْ، واستحبَّ أحمدُ ذبحَهُ، فإنْ خرجَ وفيه حياةٌ مستقرَّة، لم يُبحْ إلا بذبْحه، بالاتفاق.
﴿إِلَّا مَا يُتْلَى﴾ أي: يُقْرَأُ.
﴿عَلَيْكُمْ﴾ تحريمُهُ في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] استثناءً من بهيمةِ الأنعامِ.
﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ ومعنى الآية: أُحلَّتْ لكمُ الأنعامُ كلُّها إلا ما كانَ
(٢) في "ن": "تميزها".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٠)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ٣٤).
(٤) انظر: "تفسير القرطبي" (٦/ ٣٤).
﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي: ما كانَ صيدًا، فهو حلالٌ في الإحلالِ دونَ الإحرام، وما لم يكنْ صيدًا، فهو حلالٌ في الحالينِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من تحليلٍ وتحريمٍ، لا دافعَ لمرادِهِ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)﴾.
[٢] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ جمعُ شَعيرةٍ، وهي العلامةُ، والمرادُ: مناسكُ الحجِّ، وكان المشركون يحجُّون ويُهْدون، فأرادَ المسلمونَ أن يُغيروا عليهم، فنهاهمُ اللهُ عن ذلك.
واختلفَ العلماءُ في إشعارِ الهَدْيِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: يُسَنُّ إشعارُه بشَقِّ صفحةِ سنامِه اليُمْنى، أو موضعِه ممَّا لا سنامَ لهُ من إبلٍ وبقرٍ حتى يسيلَ الدمُ، وقالَ مالكٌ: في الجانبِ الأيسرِ من السنامِ في الإبلِ، وكذلك في البقرِ إنْ كان لها أسنمةٌ، فإن لم تكنْ لها أسنمةٌ، لم تشعَرْ، ومنعَ من هذا كلِّه أبو حنيفةَ، وقالَ: إنه تعذيبٌ للحيوان.
﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ اسمٌ مفردٌ يدلُّ على الجنسِ في الأشهُرِ الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّمُ، ورجَبٌ؛ أي: لا تُحِلُّوا القتالَ فيها.
﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ أي: ذواتَ (١) القلائدِ من الهَدْيِ، جمعُ قِلادة، وهي ما قُلِّدَ بالهَدْيِ من نعلٍ (٢) أو غيرِه؛ كآذانِ القُرَبِ والحبلِ ونحوِ ذلك؛ ليعلمَ به (٣) أنَّه هديٌ، فلا يُتَعَرَّضُ له.
واختلفَ الأئمةُ في تقليدِ الغنمِ، فقال الشافعيُّ وأحمدُ: تُقَلَّدُ، ومنعَ الشافعيُّ من تقليدِها بالنعلِ، وأباحَهُ أحمدُ، وقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تُقَلَّدُ الغنمُ، واتفقوا على تقليدِ ما عدا الغنمِ بالنعلِ (٤) وغيرِه.
﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ أي: قاصديهِ.
﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبونَ.
﴿فَضْلًا﴾ رزقًا بالتجارةِ.
﴿مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ بزعمِهم؛ لأن الكافرَ لا نصيبَ له في الرضوان، فلا تتعرضوا إليهم. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (ورُضْوانًا) بضمِّ الراء، والباقون: بالكسر (٥)، وكلُّ ما في هذهِ الآيةِ من نهيٍ عن مُشركٍ، أو مراعاةِ حرمةٍ (٦) له بقلادةٍ، أو أمِّ البيتِ الحرامِ ونحوه، فكلُّه منسوخٌ بآية السيف بقوله:
(٢) في "ن": "فعلِ".
(٣) "به" ساقطة من "ت".
(٤) في "ن": "بالفعل".
(٥) تقدمت عند تفسير الآية (١٥) من آل عمران.
(٦) "حرمة" ساقطة من "ن".
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ من إحرامكم.
﴿فَاصْطَادُوا﴾ أمرُ إباحةٍ (١)؛ كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠].
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يَحْمِلَنَّكمْ.
﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ بُغْضُهُم. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عنهُ: (شَنْآنُ) بإسكانِ النونِ الأولى، وهما لغتانِ، والفتحُ أجودُ، وبه قرأ الباقون (٢).
﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: بكسر الهمزةِ شرطًا، فيكون (صَدُّوكُمْ) مستقبلًا معنًى؛ لأنَّ الشرطَ حقُّه الاستقبالُ، والصدُّ كانَ عامَ الحديبيةِ سنةَ ستٍّ، ونزلت الآية عامَ الفتحِ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، فتقديرُه: إن يقعْ منهم صدُّكم (٣) فيما يُستقبل مثلما مضى منهم، فلا تعتدوا عليهم، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة (٤)؛ أي: لأجل صدِّهِمْ إياكُمْ.
﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ واختارَ ابنُ عطيةَ، وتبعَهُ القرطبيُّ أن القراءةَ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٣٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٣ - ٢٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٠ - ١٩١).
(٣) في "ن": "صد".
(٤) انظر: المصادر السابقة.
﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ عليهم بالقتلِ وأخذِ الأموالِ.
﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ أي: لِيُعِنْ بعضُكم بعضًا.
﴿عَلَى الْبِرِّ﴾ اتِّباعِ الأمرِ.
﴿وَالتَّقْوَى﴾ اجتنابِ النهيِ.
﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ﴾ الكفرِ.
﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلمِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فانتقامُه أشدُّ. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلاَ تَّعَاوَنُوا) بتشديد التاء حالةَ الوصلِ (٢). ثم قالَ تعالى محرِّمًا ما كانوا يُحلُّونه وهو بيان قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)﴾.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩١).
﴿وَالدَّمُ﴾ أي: المسفوحُ، وكان أهلُ الجاهلية يصبونه في الأمعاء، ويشوونها.
﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أي: ما ذُكر على ذبحِهِ اسمُ غيرِ اللهِ سبحانه؛ كقولِ: باسمِ اللَّاتِ والعُزَّى.
﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي تُخْنَقُ. ورُويَ عن أبي جعفرٍ: (وَالْمُنخَنِقَةُ) بإخفاءِ النونِ عند الخاء، ورُوي عنهُ الإظهارُ كبقية القراءِ، وهو أشهرُ (٢)، وتقدَّم ذكرُ مذهبِه في ذلك مستوفًى في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا﴾ [النساء: ١٣٥].
﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ المقتولةُ بالخشبِ. قرأ الكسائيُّ: (وَالْمَوْقُوذَةُ) بإمالةِ الذالِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيث (٣).
﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ الساقطةُ من عُلُو فتموتُ.
﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي تنطَحُها أُخرى فتموتُ.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩١).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٢).
﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ إلا ما أدركتُم ذَكاتَه وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ.
﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ وهي حجارةٌ كانتْ منصوبةً حولَ البيتِ يعبدُها الجاهليةُ، ويذبحون عندَها، ويعدُّونَ ذلكَ قربةً.
﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا﴾ تطلبوا القسمَ والحكمَ.
﴿بِالْأَزْلَامِ﴾ جمعُ زَلَمٍ بضمِّ الزاي وفتحِها، وهي القِداحُ التي لا ريشَ لها ولا نصلَ، وذلكَ أنهم إذا قصدوا فعلًا، ضربوا ثلاثةَ قداحٍ مكتوب على أحدِها: أَمَرني ربي، وعلى الآخر: نهاني، والثالثُ: غُفْلٌ، فإن خرجَ الآمرُ، مَضَوا على ذلك، وإن خرجَ الناهي، تجنبوا عنه، وإن خرج الغفلُ، أجالوها ثانيًا، فمعنى الاستقسام: طلبُ معرفةِ ما قُسِمَ لهم دونَ ما لم يقسمْ بالأزلام.
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: المحرَّماتُ في الآية، أو الاستقسامُ.
﴿فِسْقٌ﴾ قال - ﷺ -: "مَنْ تَكَهَّنَّ أَوِ اسْتَقْسَمَ، أَوْ تَطَيَّرَ طيرَةً يَرُدُّهُ عَنْ سَفَرِهِ، لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الدَّرَجَاتِ العُلاَ مِنَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (١).
﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ﴾ أي: من إبطالِه ورجوعِكم عنه.
﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ أن يظهروا عليكم.
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ بإتمامِ عِزِّهِ وظُهورِه ونصرِه: نزلتْ يومَ الجمعةِ يومَ عرفةَ بعدَ العصرِ في حجَّةِ الوداعِ، والنبيُّ - ﷺ - واقفٌ بعرفاتٍ على ناقتِهِ العَضْباءِ، فكادَتْ عَضُدُ الناقةِ تَندقُّ مِنْ ثِقَلِها (٢)، فبركَتْ، قال ابنُ عباسٍ: "لَمْ ينزلْ بعدَ هذهِ الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ" (٣).
﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بالهدايةِ والتوفيقِ، وبدخولِ مكةَ آمنينَ، ومنعِ المشركينَ من دخولِ الحَرمِ بعدَ العام.
﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ﴾ اخترتُه لكم.
﴿دِينًا﴾ من بينِ الأديانِ، وهو الدينُ عندَ اللهِ لا غيرُ، قال ابنُ عباسٍ: "كانَ ذلكَ اليومَ خمسةُ أعيادٍ: جمعةٌ، وعرفةُ، وعيدُ اليهودِ، والنصارى، والمجوسِ، ولم تجتمعْ أعيادُ أهلِ (٤) المللِ في يوم قبلَه ولا بعدَه" (٥).
ولما نزلتْ هذه الآيةُ، بكى عمرُ رضي الله عنه، فقال له (٦) النبيُّ - ﷺ -: "مَا يُبْكِيكَ؟ " فقال: "كُنَّا في زيادةٍ من دينِنا، وأَمَّا إذا كَمُلَ؛ فإنَّه لا يكمُل
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٦).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٧٩)، عن السدي.
(٤) "أهل" ساقطة من "ن".
(٥) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٦).
(٦) "له" ساقطة من "ت".
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ متصلٌ بذكرِ المحرَّمات، وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ معنى التحريم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَمَنُ اضْطُرَّ) بضم النون، وأبو جعفرٍ: بكسر الطاء (٤)، والمعنى: فمن اضطرَّ إلى تناولِ شيء من هذهِ المحرمات.
﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعةٍ.
﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ مائلٍ.
﴿لِإِثْمٍ﴾ وهو الأكلُ فوقَ الشبع.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لهُ ما أتى عندَ اضطراره.
﴿رَحِيمٌ﴾ لا يؤاخذُه بأكلِه. وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ الأربعةِ في جوازِ أكلِ الميتةِ عندَ الضرورةِ، وقدرِ ما يجوز أكلُه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٣٧).
(٣) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (٢/ ٢٨٧).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٣).
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)﴾.
[٤] ولما تلا عليهم ما حُرِّمَ عليهم، سألَ عديُّ بنُ حاتمٍ وزيدُ بنُ مهلهِلٍ وهو زيدُ الخيلِ الذي سماهُ رسولُ الله - ﷺ - زيدَ الخير، قالا: "يا رسولَ الله! إنا قومٌ نصيدُ بالكلابِ والبُزاةِ، وإنَّ الكلابَ تأخذُ البقرَ والحمرُ والظباء، فمنه ما ندركُ ذَكاتَهُ، ومنه ما تقتلُه، فلا ندركُ ذَكاتَهُ، وقد حرَّمَ اللهُ الميتةَ فماذا يحلُّ لنا منها" (١) فنزل قولُه تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا﴾ مبتدأ ﴿أُحِلَّ لَهُمْ﴾ خبرُه.
﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ هي الذبائحُ على اسمِ اللهِ تعالى.
﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ أي: أُحِلَّ لكم صيدُ الذي علَّمْتُم.
﴿مِنَ الْجَوَارِحِ﴾ الصوائدِ من سباعِ البهائمِ والطيرِ؛ كالكلبِ، والفهدِ، والنَّمِرِ، والبازيِّ، والصَّقْر، والشاهينِ، والعُقابِ.
﴿مُكَلِّبِينَ﴾ مُرْسِلي الكلابِ على الصيدِ، والمُكَلِّبُ: مؤدِّبُ الجوارحِ ومُضْرِيها بالصيدِ.
﴿مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ من تأديبِ الكلابِ للصيدِ.
﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ المعنى: إن الجارحةَ إذا خرجَتْ بإرسالِ صاحِبها، فقتلتِ الصيدَ، كانَ حلالًا إذا كانتْ معلَّمَةً، والمعلَّمَةُ: هي التي إذا أُرسلت، استرسلَتْ، وإذا زُجرت، انزجرتْ، وإذا أمسكَتْ، لم تأكلْ، فإذا وُجدَ ذلكَ منها، فهي معلَّمَةٌ، وبه قالَ أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأحمدُ، وقال مالكٌ: لا يُشترط تركُ الأكل إذا كانَ معلَّمًا، فيحلُّ أكلُ ما صادَهُ، وإن أكلَ منهُ الكلبُ والبازي.
واختلفَ مشترطو تركِ الأكلِ في حدِّ التعليم، فقالَ أبو حنيفةَ: لا تأقيتَ فيه، فمتى قالَ أهلُ الخبرة: هذا معلَّمٌ، حَكَمْنا بكونه معلَّمًا، وقال الشافعيُّ: إذا تكررَ ذلكَ منها مرارًا؛ بحيث يظَنُّ تأدُّبُ الجارحةِ، كانت معلَّمَةً، وقال أحمدُ: لا يُشترطُ التكرار، فإذا أمسكَ ولم يأكلْ، صارَ معلَّمًا. واختلفوا في جوازِ الاصطيادِ بالكلبِ الأسودِ البهيمِ، وهو ما لا بياضَ فيه، فمنع منه أحمدُ؛ لقوله - ﷺ -: "الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" (١)،
وأجازه الثلاثةُ، وأباحوا أكلَ ما قَتَل.
واختلف أيضًا مشترطو تركِ الأكلِ في ذي المخلبِ؛ كالبازي والصقرِ ونحوهما، هل يُشترطُ فيها تركُ الأكل كالكلبِ والفهدِ؟ فقال الشافعيُّ: يُشترطُ، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يُشترطُ.
واختلفوا في اشتراطِ الجرحِ في الصيدِ، فقال الثلاثةُ: لا بدَّ أن يجرح،
﴿وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أي: سَمُّوا عليه عندَ إرساله.
واختلفَ الأئمةُ في التسميةِ عندَ إرسالِ الكلبِ، أو الرميِ بالسهمِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: إنْ تركَ التسميةَ عندَ إرسالِه أو رميِه على الصيدِ عامدًا، لم يجزْ أكلُه، وإن تركَها ناسيًا، جازَ، وكذا الحكمُ عندَهما في التسمية عندَ الذبح، وقال الشافعيُّ: يحلُّ الأكلُ، سواءٌ تركَها عامدًا أو ناسيًا في الصيدِ والذبحِ؛ لأن التسميةَ عندَه سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: إنْ تركَ التسميةَ في الصيدِ عمدًا أو سهوًا، لم يُبَحْ، والحكمُ عندَه في الذبحِ كأبي حنيفةَ ومالكٍ.
ويُشترطُ في الذابحِ والصائدِ أن يكونَ مسلِمًا أو كتابيًّا، فلا يحلُّ صيدُ مجوسيٍّ، ولا وثنيٍّ، ولا مرتدٍّ، ولا ذبائحُهم، بالاتفاق، والشافعيُّ يشترطُ أن يكونَ الكتابيُّ ممن تحلُّ مناكحَتُهُ، وهو أن يُعْلَمَ دخولُ قومِه في دينِ اليهوديةِ أو النصرانيةِ قبلَ نسخِه وتحريفِه.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في محرَّماتِهِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ وهو أخذُكُم بما جَلَّ ودَقَّ.
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)﴾.
﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ همُ اليهودُ والنصارى، ومن دخلَ في دينهم قبلَ مبعثِ النبيِّ - ﷺ -.
﴿حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ﴾ أي: يحلُّ لكم طعامُهم وإطعامُهم.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، تقديره: حِلٌّ لكمْ.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وإن كُنَّ حربياتٍ، فيباحُ نكاحُ حرائرِ أهلِ الكتابِ بالاتفاق، والشافعيُّ على أصلِه كما تقدَّم قريبًا في حكمِ الصيد والذبحِ من الاشتراطِ في الكتابيِّ.
﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورَهُنَّ.
﴿مُحْصِنِينَ﴾ أَعِفَّاءَ (١).
﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ مُجاهِرينَ بالزنا.
﴿وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ جمعُ خِدْنٍ، وهو الصديقُ، يطلق على الذكر والأنثى؛ أي: ولا مُسِرِّينَ بالزنا، وتقدمَ في سورةِ النساءِ اختلافُ الأئمةِ في نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الآية: ٢٥].
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ﴾ أي: يُنكرْ شرائعَ الإسلامِ.
﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ إن ماتْ عليه.
﴿وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ للثوابِ.
[٦] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ﴾ أي: أردتم القيامَ.
﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾ كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨]؛ أي: إذا أردتَ القراءةَ، وظاهرُ الآيةِ يوجبُ الوضوءَ على كُلِّ قائم إلى الصلاةِ، وإن لم يكنْ مُحْدِثًا، والإجماعُ على خلافِه، لأن المرادَ: إذاَ قمتُم إلى الصلاةِ وأنتم على غيرِ طهر (١)؛ بدليلِ أَنَّ النبيَّ - ﷺ - صلَّى الخمسَ صلواتٍ بوضوءٍ واحدٍ يومَ الفتحِ (٢).
﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وحدُّ الوجهِ من مَنابِتِ (٣) شعرِ الرأسِ إلى ما انحدَرَ من اللَّحْيَيْنِ؛ والذَّقَنِ طولًا، ومن الأذنِ إلى الأذنِ عرضًا، فيجبُ غسلُ جميعِه بالاتفاق، فإن كان فيه شعرٌ خفيفٌ يصفُ البشرةَ، وجبَ غسلُها معه، وإن كان يسترُها، أجزأَهُ غسلُ ظاهرها، ويستحبُّ تخليلُهُ.
(٢) رواه مسلم (٢٧٧)، كتاب: الطهارة، باب: جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، عن بريدة -رضي الله عنه-.
(٣) في "ظ": "منبت".
﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ الباءُ مزيدةٌ. واختلفَ الأئمةُ رضي الله عنهم في قدرِ الواجبِ من مسحِ الرأسِ، فقال أبو حنيفةَ: ربعُه، وقال مالكٌ وأحمدُ: جميعُه، وقال الشافعيُّ: قدرُ ما يُطلقُ عليه اسمُ المسح، وأجاز أحمدُ المسحَ على العِمامة إذا كانَ منها شيءٌ (١) تحتَ الحَنَكِ، وعلى خُمُرِ النساءِ المدارَةِ تحتَ حلوقهنَّ؛ خلافًا للثلاثة.
﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ وهما العظمانِ الناتئانِ من جانبِ القدمين، وهما مجتمعُ مفصلِ الساقِ والقدمِ، فيجبُ غسلُهما مع القدمين بالاتفاق. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وحفصٌ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بنصبِ اللامِ عطفًا على الأيدي، وقرأ الباقون: بالخفضِ عطفًا على الرؤوس (٢)، وإن كانت غيرَ ممسوحةٍ حثًّا على الاقتصادِ في صَبِّ الماءِ على الرِّجْلينِ؛ لأنهما مَظِنَّةُ الإسرافِ في صبِّ الماء.
واختلفوا في الترتيبِ كما ذكرَهُ اللهُ تعالى، فقال الشافعيُّ وأحمدُ بوجوبه، وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: هو سنة.
واختلفوا في الموالاة، وهي ألَّا يُؤَخَّرَ غسلُ عضوٍ حتى ينشفَ الذي
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٤٤ - ٦٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ١٩٤ - ١٩٥).
واختلفوا في التسميةِ، فقال الثلاثة: هي سُنَّةٌ، وقال أحمدُ: هي واجبةٌ، لكنْ تسقطُ سهوًا.
واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ، فقال أحمدُ: هما واجبان، ولا يسقطانِ سهوًا، وقال الثلاثة: هما سنَّةٌ.
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ فاغتسلوا.
واختلفوا في المضمضةِ والاستنشاقِ في الغُسْلِ، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: هما فرضٌ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: هما سنة كما في الوضوءِ.
واختلفوا في الدلكِ في الوضوءِ والغُسْلِ، فعند مالكٍ: هو شرطٌ، وعند الثلاثةِ: لا يُشترط إذا عَمَّ جسدَه بالماء.
واختلفوا في النيَّةِ في الوضوءِ والغُسلِ، فقال أبو حنيفةَ: هي مستحبَّةٌ، وقال الثلاثةُ: هي واجبةٌ، واختلافُهم في التسميةِ عندَ الغسلِ كاختلافِهم فيها عندَ الوضوء كما تقدم قريبًا (١).
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ أي: من الصعيدِ، وتقدَّم في سورةِ النساء تفسيرُ نظيرِ هذهِ الآيةِ، واختلافُ القراء فيها، واختلافُ الأئمة في حكمِها مستوفًى.
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ بالأمرِ بالطهارةِ للصلاةِ أو الأمرِ بالتيممِ.
﴿وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ منَ الأحداثِ والذنوبِ.
﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بالترخُّصِ عندَ المرضِ والسفرِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: لتشكروا نعمتَهُ فَتُقْبِلوا على طاعته.
ودلتِ الآيةُ على المسحِ على الخفينِ، وهو جائزٌ بالاتفاق، فعندَ الثلاثةِ: يمسحُ المقيمُ يومًا وليلةً، والمسافرُ ثلاثةَ أيامٍ بلياليها، أولُها من الحدثِ بعدَ اللبس، وعند مالكٍ: لا توقيتَ فيه لمقيمٍ ولا لمسافرٍ، وشرطُه أن يُلْبَسَ بعدَ كمالِ الطهارةِ بالاتفاق.
واتفقوا على أن المسحَ يخصُّ ما حاذى ظاهرَ القدمين، ثم اختلفوا هل يُسَنُّ، مسحُ محاذي باطنِ القدمين؟ فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: لا يسنُّ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُسَنُّ، و (١) اختلفوا في قدرِ الإجزاءِ من المسحِ على الخفينِ، فقال أبو حنيفة: مقدارُ ثلاثةِ أصابعَ من اليدِ، وقال مالكٌ: يستوعبُ محلَّ الفرضِ، وقال الشافعي: ما يقعُ عليهِ اسمُ المسح، وقال أحمدُ: يجبُ مسحُ أكثرِ أعلاه.
﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام.
﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾ أي: عهدَه الذي عهدَ إليكم.
﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ وذلك حين بايعوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام على السمعِ والطاعةِ فيما أَحَبُّوا وكَرِهوا.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في نقضِ ميثاقِه.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بخفيَّاتها.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ لأجلِ ثوابِ اللهِ.
﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: كونوا قائمينَ بالعدلِ قَوَّالينَ بالقسطِ.
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يحملَنَّكمْ.
﴿شَنَآنُ﴾ بغضُ.
﴿قَوْمٍ﴾ يعني: المشركين. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، بخلافٍ عن الأول (شَنْآنُ) بإسكان النون، والباقون: بالتحريك (١).
﴿عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ فيهم؛ لعداوتكم إياهم، بل (٢) ﴿اعْدِلُوا﴾ في أوليائِكُم وأعدائِكُم ﴿هُوَ﴾ أي: العدلُ.
(٢) "بل" زيادة من "ظ".
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فَيُجازيكم به.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هذا موضعُ النصب؛ لأن فعلَ الوعدِ واقعٌ على المغفرةِ، ورفعُها على تقديرِ: أيْ: وعدَهُمْ وقالَ لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ نزلَتْ في بني النَّضِيرِ، وقيلَ: في جميعِ الكفارِ.
ونزل لما أريدَ الفتكُ برسولِ الله - ﷺ -، فلم يُمَكِّنِ اللهُ منه، وذلكَ أنه عليه الصلاة والسلام جاءَ إلى قومٍ من اليهود، وهم كعبُ بنُ الأشرفِ وبنو النضير يستقرضُهم ديةَ مسلِمَيْنِ قتلَهما عَمْرُو بنُ أميةَ الضَّمْرِيُّ خطأً يحسبُهما مُشرِكَينِ، فقالوا: نعم، وهَمُّوا بقتله، فمنعه الله منهم:
***
[١١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ (١) بالدَّفع عنكم، و (نعمت) رُسمت بالتاء في أحدَ عشرَ موضعًا، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ.
﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالقتلِ، يقال: بسطَ إليهِ يدَهُ: إذا بطشَ بهِ، وبسطَ إليهِ لسانَهُ: إذا شَتَمَهُ.
﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ منعَها ﴿عَنْكُمْ﴾ أن تُمَدَّ إليكم.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنَّه الكافي لإيصالِ الخيرِ ودفعِ الشرِّ.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
[١٢] ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ من كلِّ سبطٍ نقيبًا، والنقيبُ: الضَّمينُ والأمين، وهو الذي ينقبُ عن الأمور، ويتعرَّفُها.
رُوي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمرِ فرعونَ، واستقرُّوا بمصرَ، أمرَ اللهُ موسى وقومَه بالخروجِ إلى أريحا من أرضِ الشامِ، وكان يسكنُها الكنعانيون الجبارون ومنهم (١) عوجُ بنُ عنق وأصحابُه، ونسبته لأم عناقَ بنتِ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وكان طولُه ثلاثةَ آلافٍ وثلاثَ مئةٍ وثلاثةً وثلاثينَ وثلثَ ذِراع، وكان يَحْتَجِزُ بالسحابِ، ويشربُ منه، ويتناولُ الحوتَ من قَرارِ البحرِ فيشويهِ بعينِ الشمسِ يرفعُه إليها، ثم يأكلُه، وعاشَ ثلاثةَ آلافِ سنةٍ حتى أهلكَه الله على يدِ موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قطع صخرةً على قدرِ عسكرِ موسى ليطرحَها عليهم، وكان العسكرُ فرسخًا في فرسخ، فبعثَ اللهُ الهدهدَ، فقوَّرَ الصخرةَ بمنقاره، فوقعتْ في عنقِه، فصرعَتْهُ، فوثب موسى عليه الصلاة والسلام، وكانت وثبتُهُ عشرةَ أذرعٍ، وطولُه مثلُ ذلك، وطولُ عصاته مثلُ ذلك، ولم يلحقْ إلا عرقوبَه، فضربَهُ فقتله، وتُركَ بموضعِه، وأردمَ عليه بالصخر والرمل (٢)، فكانَ كالجبلِ العظيمِ في صحراءِ مصرَ، ولما أمرَ اللهُ بني إسرائيلَ بالخروج إلى أريحا، قال لهم: إنِّي كتبتُها لكم دارَ قرارٍ، فاخرجوا إليها، وجاهدوا
(٢) في "ظ": "بالرمل والصخر".
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ﴾ ناصرُكم على عدوِّكم.
﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ عَظَّمتموهم.
﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ بالإِنفاقِ في سبيل الخيرِ.
﴿لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ﴾ أي: لأمحوَنَّ عنكمُ.
(٢) في "ظ": "روبيل".
(٣) في "ش": "شافط".
(٤) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ١٧٤)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٥٠)، و"تفسير ابن كثير" (٢/ ٣٩).
...
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ أي: فبنقضِهم، و (ما) صلةٌ.
﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ بتكذيبِ الرسلِ بعد موسى، وقتلِ الأنبياءِ، ونبذِ كتابِ الله، وتضييعِ فرائضِهِ.
﴿لَعَنَّاهُمْ﴾ طردْناهم من رحمتِنا.
﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ يابسةً لشوبهم الإيمانَ بموسى والتوراةِ بكفرِهم بمحمدٍ والقرآن. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (قَسِيَّةً) بتشديد الياء من غير ألف، وهما لغتان، مثل زاكِية وزَكِيَّة (١).
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ أي: يُبدلون نعتَ محمدٍ - ﷺ -.
﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ في كتبِهم؛ لأنَّ من قسا قلبُه، يقدمُ على فعلِ (٢) ما لا يجوزُ.
(٢) "فعل" زيادة من "ظ".
﴿مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ من الإيمانِ بمحمدٍ - ﷺ -، والقرآنِ.
﴿وَلَا تَزَالُ﴾ يا محمدُ.
﴿تَطَّلِعُ﴾ تظهرُ.
﴿عَلَى خَائِنَةٍ﴾ أي: خيانة.
﴿مِنْهُمْ﴾ أي: نقضِهم العهدَ، ومظاهرتهم المشركينَ في حَرْبِكَ.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ هم الذين آمنوا منهم.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ اتركْهم لا تتعرَّضْ لهم، ونُسخت بآية السيفِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
...
﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ونزل في النصارى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ سَمَّوا أنفسَهم بذلكَ ادِّعاءً لنُصرةِ اللهِ.
﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أي: وأخَذْنا من النصارى ميثاقَهم على التوحيدِ والإيمانِ بالأنبياءِ مثلَ الميثاقِ المأخوذِ قديمًا على اليهود.
﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ فنقضوا الميثاقَ.
﴿فَأَغْرَيْنَا﴾ هَيَّجْنا.
﴿بَيْنَهُمُ﴾ أي: بينَ فرقِ النصارى المختلفَةِ.
﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ بالعقاب والجزاء (٢).
...
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥)﴾.
[١٥] ثم قال مخاطبًا اليهود والنصارى: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ وحدَّ الكتاب؛ لأنه للجنسِ.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد - ﷺ -.
﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ كنعتِ محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجمِ في التوراةِ، وبِشارةِ عيسى بأحمدَ في الإنجيلِ.
﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ممَّا تُخفونه، فلا يؤاخذُكم به.
﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ﴾ هو محمدٌ - ﷺ -.
(٢) في "ظ": "بالجزاء وبالعقاب".
...
﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ﴾ أي: بالقرآنِ العظيمِ، وبمحمدٍ النبيِّ - ﷺ -، وَحَّدَ الضميرَ، لأنَّ المرادَ بهما واحدٌ.
﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ أي: ما رضيَهُ الله. قرأ أبو بكرٍ: (رُضْوان) و (رُضْوَانًا) بضمِّ الراء حيثُ وقعَ سوى هذا الحرفِ، ونُبِّهَ عليه في سورة آل عمران (١).
﴿سُبُلَ السَّلَامِ﴾ طرقَ السلامةِ الموصلةَ إلى الجنةِ.
﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ من أنواعِ الكفرِ.
﴿إِلَى النُّورِ﴾ إِلى الإيمان.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ بإرادتِه.
﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ طريقٍ هو أقربُ الطرقِ إلى اللهِ تعالى.
...
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
[١٧] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وهم اليعقوبيةُ والملكائيةُ من النصارى، يقولون: المسيح هو الله.
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أي: فمن يمنعُ من قدرته شيئًا.
﴿إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ أعلمَ اللهُ سبحانه وتعالى أَنَّ المسيحَ بنَ مريمَ لو كانَ إلهًا، لقدرَ على دفعِ ما ينزلُ به أو بغيرِه، وقد أمات الله أُمَّه ولم يتمكَّنْ من دفع الموتِ عنها، فلو أهلكَهُ هو أيضًا، فمَنْ يدفعه عن ذلك؟
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ والمسيحُ وأُمُّهُ بينَهما مخلوقانِ محدودانِ، وما أحاطَ به الحدُّ والنهايةُ، لا يصحُّ للإلهيةِ (١) وقال: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، ولم يقل: بينهنَّ؛ لأنه أرادَ النوعينِ.
﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ من ذكرٍ وأنثى، ومن أمٍّ بلا أبٍ؛ كعيسى، ومن أبٍ بلا أم؛ كحواء (٢)، ومن غير أبي ولا (٣) أم؛ كآدمَ عليه السلام، لا اعتراض عليه عزَّ وجلَّ في خلقِه، ولا في ملكِه.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
(٢) "ومن أن بلا أم كحواء" زيادة من "ظ".
(٣) "لا" زيادة من "ظ".
[١٨] ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قيل: أرادوا أنَّ اللهَ لهمْ كالأبِ في الشفقةِ والرحمةِ، وهم كالأبناءِ له في المنزلةِ عندَه، والقربِ منه - عزَّ وجلَّ -، فأمر سبحانه وتعالى نبيَّه محمدًا - ﷺ - أن يقولَ لهم مُنْكِرًا عليهم ما قالوا (١).
﴿قُلْ﴾ إنْ صحَّ ما زعمتُم.
﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ لأنَّ الحبيبَ لا يعذِّبُ حبيبَه، والوالدُ لا يعذبُ ولده، وقد عُذِّبْتُم بالمسخِ قديمًا، واعترفتم أنه سيعذِّبُكم بالنارِ أيامًا معدودةً.
﴿بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ من بني آدمَ.
﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وهم المؤمنونَ.
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ وهم الكفار (٢).
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ فلا شريكَ يعارِضُه فيهما (٣).
﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي: يَؤولُ أمرُ العبادِ إليه في الآخرةِ.
...
(٢) في "ظ": "الكافرون".
(٣) "فيهما" زيادة من "ظ".
[١٩] ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ محمد - ﷺ -.
﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ شرائعَ الإسلامِ.
﴿عَلَى فَتْرَةٍ﴾ انقطاعِ وجودِ أحدٍ (١).
﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ وكانتِ الفترةُ بينَ محمدٍ وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- خمسَ مئةٍ ونحوَ تسعين سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك، فكانت الرسلُ تَتْرى من (٢) موسى إلى عيسى -عليهما الصلاةُ السلام-، ولم يكن بعدَ عيسى عليه السلام سوى نبيِّنا محمدٍ - ﷺ -.
﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ لَئِلَّا تقولوا معتذرينَ:
﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ أي: مبشرٍ ومنذرٍ، والفاءُ بعدَها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: لا تعتذروا.
﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ نزلَتْ لما قالتِ اليهودُ: ما أنزلَ اللهُ من كتابٍ بعدَ موسى، ولا أرسلَ بعدَه من بشيرٍ ولا نذيرٍ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيقدرُ على إرسال مَنْ شاءَ من خلقِهِ.
...
(٢) في "ن": "بين".
[٢٠] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ﴾ فأرشدَكُم بهم، ولم يبعث في أُمَّةٍ ما بعثَ في بني إسرائيلَ من الأنبياءِ.
﴿وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا﴾ أصحابَ حَشَمٍ وخَدَمٍ.
﴿وَآتَاكُمْ﴾ من الثمن والسَّلْوى وتظليلِ الغَمامِ وفَلْقِ البحرِ وغيرِ ذلكَ من النِّعَمِ.
﴿مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ يعني عالَمي زمانِكم، تبيينٌ من اللهِ تعالى أَنَّ أسلافَهم تمرَّدوا على موسى -عليه الصلاة والسلام-، وعصَوْه، فكذلكَ هؤلاءِ مع محمدٍ - ﷺ -، وهو تسليةٌ - ﷺ -.
...
﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ هي أرضُ بيتِ المقدسِ أو أَريحا. قرأ الكسائيُّ: (الْمُقَدَّسَةَ) بإمالةِ السينِ حيثُ وقفَ على هاءِ التأنيثِ. المعنى: اسكنوا الأرضَ الطاهرةَ.
﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ في اللوحِ المحفوظِ قبلَ خلقِكم أَنَّكم تقتسمونها،
﴿فَتَنْقَلِبُوا﴾ بالخيبة ﴿خَاسِرِينَ﴾ ثوابَ الدارَيْنِ.
وأما حدودُ الأرضِ المقدسةِ، فمنَ القِبْلَةِ أرضُ الحجازِ الشريفِ، يفصلُ بينَهُما جبالُ الشورى، وهي جبالٌ منيعةٌ بينَها وبينَ أيلةَ نحوُ مرحلةٍ، وسطحُ أيلةَ هو أولُ حدِّ الحجازِ من جهةِ الشامِ، وهي من تيهِ بني إسرائيلَ، وبينَها وبينَ بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيامٍ سير الأثقال، ومن الشرقي من بعدِ دومةِ الجندلِ بريةُ السَّماوَةِ، وهي كبيرةٌ ممتدةٌ إِلى العراقِ، ينزلُها عربُ الشام، ومسافتُها عن بيتِ المقدس نحوُ مسافةَ أيلةَ، ومنَ الشَّمالِ مما يلي الشرقَ نهرُ الفراتِ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ عشرين يومًا سير (١) الأثقالِ، فيدخلُ في هذا الحدِّ المملكةُ الشاميةُ بكمالِها، ومن الغربِ بحرُ الرومِ، وهو البحرُ المالحُ ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ من جهةِ رَمْلَةِ فلسطينَ نحوُ يومينِ، ومن الجنوبِ رمل مصرَ والعريشُ، ومسافتُه عن بيتِ المقدسِ نحوُ خمسةِ أيامٍ سير الأثقالِ، ثم يليهِ تيهُ بني إسرائيلَ وطورُ سيناءَ، ويمتدُّ من تلكَ الجهةِ إلى تبوكَ، ثم دومةُ الجندلِ المتصلةُ بالحدِّ الشرقيِّ، ويأتي ذكرُ حدِّ حرمِ مكةَ في سورةِ التوبة، وحرمِ المدينةِ في سورةِ الأحزابِ إن شاء الله تعالى.
...
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢)﴾.
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ متغلِّبينَ، والجبارُ: هو الذي يُجبر الناسَ على ما يُريد، وكانوا من العمالقةِ وبقيةِ قومِ عادٍ. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ، وورشٌ بخلافٍ عن الثاني (جَبَّارِينَ) بالإمالة (٢).
﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ إذْ لا طاقةَ لنا بهم.
...
﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿قَالَ رَجُلَانِ﴾ من النُّقباء هما (٣) كالبُ ويوشعُ.
﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ اللهَ ويتقونَهُ.
﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالإيمانِ والتثبيتِ.
﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ بابَ مدينتِهم.
﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ لتعسُّرِ الكرِّ عليهم في المضائقِ من عظمِ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٢)، و"إتحاف فضلاء البشر، للدمياطي (ص: ١٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠١).
(٣) في "ت": "هم" وهي ساقطة من "ن".
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بهِ، ومصدِّقينَ لوعدِه.
...
﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا﴾ نَفَوا دخولَهم على التأكيدِ والتأبيدِ.
﴿مَا دَامُوا فِيهَا﴾ ثم إنَّهم لجهلِهم واستخفافِهم بموسى عليه الصلاة والسلام قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ جَهِلوا صفةَ الربِّ سبحانَهُ، ووصفوهُ بالذهابِ والانتقالِ، وهو مُتَعالٍ عن ذلكَ، وهذا يدلُّ على أنهم كانوا مُشَبِّهَةً.
...
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام مخالفةَ بني إسرائيلَ وتمرُّدَهم.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ لا يملكُ إِلا نفسه.
﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ بأنْ تحكمَ لنا بما نستحقُّهُ، وتحكمَ عليهم بما يستحقُّونَ، قالَه شَكْوى بَثِّهِ وحزنِهِ إلى اللهِ تعالى لما خالفَهُ قومُه، ولم يبقَ مَعُه مرافقٌ له (١) غيرُ أخيهِ هارونَ عليه الصلاة والسلام، والرجلانِ المذكورانِ.
...
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قَالَ﴾ اللهُ تعالى.
﴿فَإِنَّهَا﴾ أي: الأرضَ المقدسةَ.
﴿مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ ممنوعةٌ منهم (٢) لا يدخلونَها بسببِ عصيانِهم.
﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يتردَّدون فيها متحيِّرينَ.
﴿فَلَا تَأْسَ﴾ تحزنْ.
﴿عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ خاطبَ بهِ موسى عليه الصلاة والسلام لما ندمَ على الدُّعاء عليهم، فلبثوا أربعينَ سنةً في ستةِ فراسخَ يسيرونَ كلَّ يومٍ جادِّينَ، فإذا أَمْسَوْا، كانوا في الموضِعِ الذي ارتحلُوا عنهُ، وكانوا ستَّ مئةِ ألفِ مقاتلٍ. والتيهُ: أرضٌ بالقربِ من أيلةَ التي هي حدُّ أرضِ (٣) الحجازِ من
(٢) "منهم" زيادة من "ظ".
(٣) "أرض" زيادة من "ظ".
وفي "الصحيح" من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ، صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ عز
(٢) "من ذلك" زيادة من "ظ".
(٣) "هارون" زيادة من "ظ".
ولما تُوفي موسى عليه السلام، قامَ بعدَ وفاتِه بتدبيرِ بني إسرائيلَ يوشعُ بنُ نون، بعثَه اللهُ نبيًّا، وأمرَهُ بقتلِ الجبارين، فتوجَّهَ ببني إسرائيلَ إلى أَريحا، وأحاطَ بها ستةَ أشهرٍ، فلما كانَ الشهر (٣) السابعُ، نفخوا في القرونِ، وضجَّ الشعبُ ضجةً واحدةً، فسقطَ السورُ، ودخلوا، فقاتلوهم، وهجموا على الجبارينَ فهزموهم وقتلوهم، وكان ذلكَ في (٤) يومِ الجمعةِ، وقد بقيتْ منهم بقيةٌ، وكادتِ الشمسُ تغرُبُ وتدخلُ ليلةُ السبتِ، فدعا يوشعُ وقال: اللهمَّ ارْدُدِ الشمسَ عليَّ، وسألَ الشمسَ أن تقفَ، والقمرَ أن يقيمَ (٥) حتى ينتقمَ من أعداءِ اللهِ قبلَ دخولِ السبتِ (٦)، فوقفتِ الشمسُ،
(٢) رواه البخاري (١٢٧٤)، كتاب: الجنائز، باب: من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، ومسلم (٢٣٧٢)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام.
(٣) "الشهر" زيادة من "ظ".
(٤) "ذلك في" زيادة من "ظ".
(٥) في "ظ": "يقتمر".
(٦) "قبل دخول السبت" ساقطة من "ظ".
...
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ثم أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى نبيه (٢) محمدًا - ﷺ - أن يقصَّ على حاسديهِ ما جرى بسببِ الحسدِ؛ ليتركوهُ ويؤمنوا، فقال:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ هابيلَ وقابيلَ.
﴿بِالْحَقِّ﴾ خبرهما مُتَلَبِّسًا بالصدق. قرأ السوسيُّ عن أبي عَمْرٍو (آدَمْ بِالْحَقِّ) وشبهَهُ بإسكانِ الميمِ عندَ الباء، وتقدَّم الكلامُ عليه في سورةِ البقرةِ.
﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ وكان سببُ قربانهما أنَّ حواءَ كانتْ تحمل (٣) في كلِّ بطنٍ غلامًا وجاريةً، وجميعُ أولادِها أربعونَ ولدًا في عشرينَ بطنًا، إِلَّا شيثًا عليه السلام وُلِدَ منفردًا، وكان آدم عليه السلام (٤) يزوِّجُ أنثى هذا البطنِ بغيرِ ذكرِه، فقالَ لقابيلَ: إن الله تعالى أمرني أن أُنكح أختكَ إقليميا بهابيلَ،
(٢) "نبيه" زيادة من "ظ".
(٣) في "ظ": "تلد".
(٤) في "ظ" زيادة: "فإنه".
﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا﴾ (٦) يعني: هابيلَ.
﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ﴾ يعني: قابيل، فازداد حَنَقًا في هابيلَ وتهدَّدَهُ.
﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ قال: لِمَ؟ قالَ: لأنَّ اللهَ قبلَ قربانَكَ ولم يَقبلْ قُرباني،
(٢) في "ظ": "ولم يقبل".
(٣) "إليها" زيادة من "ظ".
(٤) "وقال" زيادة من "ظ".
(٥) في "ظ": "فقربه".
(٦) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٦٢ - ٦٦٣).
﴿قَالَ﴾ له هابيل: لا ذنبَ لي.
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ وأنتَ غيرُ متقٍ.
...
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨)﴾.
[٢٨] وكان هابيلُ أقوى وأبطشَ من أخيهِ قابيلَ (١)، ولكنْ كانَ في شريعتِهم أنَّ الرجلَ إذا أرادَ قتلَه رجلٌ آخرُ، لا يمتنعُ عليه، فلذلك قال له:
﴿لَئِنْ بَسَطْتَ﴾ مددت (٢).
﴿إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ﴾ أي (٣): بمادٍّ.
﴿يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (يَدِي إِلَيْكَ) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (٤)، وقرأ حمزةُ، وعاصمٌ، والكسائيُّ،
(٢) "مددت" زيادة من "ظ".
(٣) "أي" ساقطة من "ظ".
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠١)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤٢٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٣).
...
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ولما صمَّمَ قابيل (٢) على قتلِ أخيه ومخالفةِ اللهِ تعالى، وأبيه، قال له هابيلُ:
﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ﴾ ترجع. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿بِإِثْمِي﴾ بإثم قتلي إذا قتلتني.
﴿وَإِثْمِكَ﴾ بإثم معاصيك.
﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ بقتلي.
﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ وهذا دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلَّفين قد لحقهم الوعد والوعيد.
...
﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ﴾ شَجَّعَتْهُ وَزيَّنَتْ له.
(٢) "قابيل" زيادة من "ظ".
(٣) انظر: المصادر السابقة.
﴿فَقَتَلَهُ﴾ والمقتولُ ابنُ عشرين سنةً.
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ دِينًا ودُنيا، وبقي مدةَ عمرِه مطرودًا محزونًا.
...
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)﴾.
[٣١] فلما قتلَه، تركَه بالعراء، ولم يدرِ ما يصنعُ به؛ لأنه كانَ أولَ ميتٍ على وجهِ الأرضِ من بني آدمَ، وقصدَهُ السِّباعُ لتأكلَه (١)، فحمله في جِرابٍ على ظهرِه أربعينَ يومًا حتى أَرْوَحَ وأَنْتَنَ (٢).
﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا﴾ أي: غرابين تقاتلا (٣) فقتل أحدُهما الآخرَ، فجعلَ.
﴿يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يحفرُ فيها (٤) حُفيرةً، فوارى فيها الغرابَ المقتولَ، وفعلَ ذلك.
﴿لِيُرِيَهُ﴾ أي: ليريَ قابيلَ.
﴿كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ أي: جيفته، فَثَمَّ قال:
(٢) "وأنتن" زيادة من "ظ".
(٣) "تقاتلا" زيادة من "ظ".
(٤) "أي: يحفر فيها" زيادة من "ظ".
قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما: لما قُتِلَ ولدُ آدمَ عليه السلام وهو بمكةَ، اشتاكَ الشجرُ، وتغيرتِ الأطعمةُ، وحَمِضَتِ الفواكهُ، واغبرَّتِ الأرضُ، فقالَ آدمُ: قد حدثَ في الأرضِ حدثٌ، فكانَ قتلُ ولدِه (٢).
وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما أيضًا (٣): مَنْ قالَ: إنَّ آدمَ قالَ شعرًا، فقد كذبَ؛ إنَّ محمدًا والأنبياءَ في النهي عن الشعر سَواءٌ، بل رثىَ ولدَه بالسريانية، فأخذها يعربُ بنُ قحطانَ، وكان يتكلَّمُ بالعربيةِ والسريانيةِ، وهو أولُ مَنْ خَطَّ بالعربية، وكانَ يقولُ الشعرَ، فرتَّبَها ووزنَها شعرًا، وهي:
تغيَّرَتِ الْبِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا | فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ |
تغيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنِ | وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الصبِيحِ |
وَمَا لِي لاَ أَزِيدُ بِسَكْبِ دَمْعٍ | وَهَابِيلٌ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيحُ |
أَرَى طُولَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا | فهَلْ أَنَا مِنْ حَيَاتِي مُسْتَرِيحُ |
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٦٥)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ١٣٩).
(٣) "أيضًا" زيادة من "ظ".
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] قال - ﷺ -: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ (٥) الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (٦).
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ أي: بسببِ ذلكَ القتلِ. قرأ أبو جعفرٍ: (مِنِ اجْلِ ذَلِكَ)
(٢) "فإنه" زيادة من "ظ".
(٣) في "ظ": "الملاهي".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٦٥)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ١٤٠).
(٥) "آدم" سقطت من "ظ".
(٦) رواه البخاري (٣١٥٧)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، ومسلم (١٦٧٧)، كتاب: القسامة، باب: بيان إثم من سن القتل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
﴿كَتَبْنَا﴾ قضينا.
﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وخُصَّ بنو إسرائيل بالذكر؛ لأن قتل النفس فيهم كان محظورًا؛ لأنهم أولُ أمةٍ نزلَ الوعيدُ عليهم في قتلِ الأنفس بحسبِ طغيانِهم وسفكِهم الدماءَ.
﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ﴾ قتل.
﴿نَفْسٍ﴾ أي: لم يقتلها قصاصًا.
﴿أَوْ﴾ بغير.
﴿فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ من كفرٍ وزِنًا أو قطعِ طريقٍ ونحوِ ذلك.
﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ من حيثُ إن قتلَ الواحد والجميع سواءٌ في استجلابِ غضبِ الله، والعذابِ العظيمِ.
﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أي: استنقذها من هلكة.
﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ أي: يجبُ على الكلِّ شكرُه.
﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر. قرأ أبو عمرٍو (رُسْلُنَا) بجزم السين، والباقون: برفعها، وكذلك (رسلهم) و (رسلكم) حيثُ وقعَ (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤٠٨)، و"الغيث" =
﴿فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ بالقتلِ وانتهاكِ المحارمِ، والإسرافُ: التباعدُ عن حدِّ الاعتدالِ في الأمر.
...
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)﴾.
[٣٣] وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنه: "أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، [فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَرِضُوا، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -] (١) بِلِقَاحِ مِنْ الصَّدَقَةِ، وأمرهم أَنْ يشربوا من أبوالِها وأَلبانِها، فانطلقوا، وفعلوا ذلك، فلما صَحُّوا، قَتلوا الراعيَ، وساقوا النَّعَمَ، فبلغَ ذلكَ (٢) النبيَّ - ﷺ - خبرهم (٣) من أولِ النهارِ، فأرسلَ في إثرِهم، فما ارتفعَ النهارُ حتى جِيءَ بهم إليه، فأمر بهم فَقُطعت أَيديِهم وأرجلُهم، وسمر (٤) أعينهُم، وأُلقوا في الحَرَّةِ يَسْتسقونَ فلا يُسْقَوْنَ".
(١) ما بين معكوفتين سقطت من "ش".
(٢) "ذلك" زيادة من "ظ".
(٣) "خبرهم" ساقطة من "ظ".
(٤) في "ظ": "سملت".
قال أبو قلابةَ: فهؤلاء قومٌ سرقوا وقَتَلوا وكفروا بعدَ إيمانهم، وحاربوا اللهَ ورسولَه (٣). قال (٤): فأنزلَ الله في ذلكَ:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ أي: أولياءه.
﴿وَرَسُولَهُ﴾ ومحاربةُ المسلمينَ في حكمِ محاربةِ رسوله.
﴿وَيَسْعَوْنَ﴾ أي: وَسَعوا ﴿فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي: مفسدين.
﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ﴾ الذي ذكرت من الحدِّ.
﴿لَهُمْ خِزْيٌ﴾ ذل وفضيحةٌ.
﴿فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لِعِظَمِ ذنوبهم.
...
(٢) "الشريفة" زيادة من "ظ".
(٣) رواه البخاري (٦٤١٩)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، ومسلم (١٦٧١)، كتاب القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين.
(٤) "قال" ساقطة من "ظ".
[٣٤] ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ أي: فإن جاؤوا قبلَ القدرةِ عليهم تائبينَ، استثناءٌ مخصوصٌ بما هو حقُّ الله تعالى، يدلُّ عليه قوله عز وجل: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
اتفقَ الأئمةُ رضي الله عنهم على أن حكمَ هذه الآيةِ مرتَّبٌ (١) في المحارِبين، وهم قطاعُ الطريقِ من أهلِ الإسلامِ، وإن كانتْ نزلتْ في المرتدِّين، وقد ثبتَ في "صحيح مسلم"، و"كتاب النسائي"، وغيرِهما: أن النبيَّ - ﷺ - إنَّما سَمَلَ أعينَ أولئكَ؛ لأنهم سملوا أعينَ الرعاء (٢)، فكان هذا (٣) قصاصًا منه.
واختلفوا فيمن يستحقُّ اسمَ المحاربة، فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: لا تكونُ المحاربةُ في المِصْرِ، إنما تكون خارجًا من المصر، وخالفه أبو يوسفَ فقال: لو كانَ في المصر ليلًا، أو بينهم وبين المصر أقلُّ من مسيرة سفر، فهم قطاعُ الطريق، وعليه الفتوى؛ نظرًا لمصلحةِ الناسِ، وقال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ رحمهم الله تعالى: حكمُهم في المصرِ والصحراءِ واحدٌ.
(٢) رواه مسلم (١٦٧١)، (٣/ ١٢٩٨)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، والنسائي (٤٠٤٣)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث.
(٣) في "ظ": "ذلك".
وقال مالكٌ: الإمامُ مخيرٌ في الحكم على المحاربين، يحكمُ عليهم بما شاءَ من الأحكامِ التي أوجبها الله تعالى؛ من القتلِ، أو الصلبِ، أو القطعِ، أو النفي، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالًا، على ما (١) يراهُ فيهم ردعًا لهم، ولا يُشترط أن يكونَ المقتولُ مكافئًا له يقول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: إذا أخذَ المالَ، قُطعتْ يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى، فإن عادَ، فَيُسراه ويُمناه، وإذا قتلَ مَنْ يكافئه، قُتل حتمًا، وإذا أخذَ المالَ وقتلَ، قُتِلَ، ثم صُلِبَ ثلاثًا.
وقال أحمد رحمه الله: إذا قتلَ مَنْ يكافئه أولا؛ كولدِه وعبدٍ، وذمّيٍّ، وأخذَ المالَ، قُتِلَ حتمًا، ثم صُلِبَ المكافئُ دونَ غيرِه، وصلبُه حتى يشتهرَ، ومن قتلَ ولم يأخذِ المال، قُتل حتمًا، فلا أثرَ لعفو وليٍّ، ولم يصلبْ، ومن أخذَ المالَ ولم يقتلْ، قُطعت يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى في مقامٍ واحدٍ، وحُسِمَتا، وخُلِّيَ، فإنْ كانتْ يمينُه مقطوعةً، أو مستحقَّةً في قصاصٍ، أو شَلَّاءَ، قطعتْ رجلُه اليسرى فقط، فإذا أخافَ السبيلَ ولم يأخذِ المالَ ولم يَقْتُلْ؛ نُفي بالاتفاق. واختلفوا في معنى النفي.
فقال أبو حنيفةَ رحمه الله: نفيُه سجنُه، فينفى من سَعَةِ الدنيا إلى
وقال الشافعي -رحمه الله-: يُخرجُ من بلد إلى بلدٍ، ويُطلب لتقامَ عليه الحدودُ.
وقال أحمدُ: يُشَرَّدُ، فلا يُترك يأوي إلى بلد ولو عبدًا حتى تظهرَ توبتُه، وإن كانوا جماعةً نُفوا متفرقين.
وهل يُعتبر النصابُ في المالِ الذي يأخذُه المحارِبُ كما يُعتبر في السارق؟ فقال مالك: لا يُعتبرُ، وقال الثلاثةُ: يُعتبرُ، ويأتي ذكرُ النصابِ قريبًا عندَ تفسيرِ آيةِ السرقة.
واتفقوا على أن للرجلِ أن يقاتلَ عن نفسِه وأهلِه وماله، فإن كَفَّ المحارب، تركَهُ، وإن لم يكفَّ وقتلَه، فدمه هدرٌ، فإن تاب المحارِبون، وجاؤوا تائبين قبلَ القدرةِ عليهم، سقطَ عنهم ما كان حدًّا (٣) لله تعالى، وأُخِذوا بحقوقِ الآدميين من نفسٍ وجراحٍ ومالٍ، باتفاق.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ القربة.
(٢) في "ظ": "يؤخذ".
(٣) في "ظ": "حقًّا".
﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ بالوصولِ إليه، والفوزِ بكرامته.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ من صنوف الأموال.
﴿جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ﴾ ليجعلوهُ فديةً لأنفسِهم.
﴿مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ ذلكَ الفداءُ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تصريحٌ، المقصودُ منهُ:
...
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ أي: يتمنونَ الخروجَ.
﴿مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ دائمٌ لا يزولُ.
...
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ مبتدأٌ، خبرهُ:
واتفقَ الأئمةُ على أن من سرقَ نِصابًا من المالِ من حرزٍ لا شُبهةَ له فيه، تُقْطَعُ يدُه اليمنى من الكوعِ، وتُحْسَمُ، ولا يجبُ القطعُ بسرقةِ ما دونَ النصابِ بالاتفاق.
واختلفوا في قَدْرِ النِّصابِ.
فقال أبو حنيفة: هو دينارٌ، أو عشرةُ دراهمَ مضروبةٍ من النُّقْرَةِ، أو ما قيمتُه عشرةُ دراهمَ.
وقالَ مالكٌ وأحمدُ: ربعُ دينارٌ من الذهبِ، أو ثلاثةُ دراهمَ من الوَرِقِ، أو عرضٌ يساوي أحدَهما.
وقال الشافعيُّ: ربعُ دينارٍ خالصًا، أو قيمتُه من دراهمَ وغيرِها.
ثم إذا سرقَ ثانيًا، تُقطعُ رجلُه اليسرى من مفصِلِ القدمِ بالاتفاق، فإن سرقَ ثالثًا ورابعًا، فقالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ: يُحبسُ حتى يتوبَ، ولا يقطع أكثرُ من يدٍ ورجل، وقال مالكٌ والشافعيُّ: يُقطعُ في الثالثة يدُه اليسرى، وفي الرابعةِ رجلُه اليمنى، ثم إذا سرقَ بعدَه، يُعَزَّرُ ويُحبسُ حتى تظهرَ توبتُه.
واختلفوا في ثبوتِ حدِّ السرقةِ بالإقرار، فقالَ الثلاثةُ: يثبتُ بإقرارِ السارقِ مَرَّةً، وقالَ أحمدُ: لا يثبتُ إلا بإقرارٍ (١) مَرَّتينِ، وهو قولُ
﴿جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ نصبٌ على الحالِ، ومثلُه.
﴿نَكَالًا﴾ أي: عقوبةً ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ يقالُ: نكلْتُ به: إذا فعلتُ به ما يجبُ أن ينكلَ به عن ذلكَ الفعلِ.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله.
...
﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ رجعَ عن ارتكابِ السرقة. قرأ أبو عمرٍو: (مِنْ بَعْد ظلْمِهِ) بإدغامِ الدالِ في الظاء.
﴿وَأَصْلَحَ﴾ العملَ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يقبلُ توبتَه، فلا يعذِّبُه في الآخر.
فأما القطعُ، فلا يسقطُ عنه بالتوبةِ عندَ أبي حنيفةَ ومالكٍ، وفي الأظهر من مذهبِ الشافعيِّ، وعندَ أحمدَ إذا تابَ قبلَ ثبُوته، سقطَ بمجرَّدِ التوبةِ قبلَ إصلاحِ العملِ.
...
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الخطابُ مع النبيِّ - ﷺ -، والمرادُ بهِ الجميعُ.
﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ على الصغيرةِ.
﴿وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الكبيرةَ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
[٤١] ونزل تسليةً للنبيِّ - ﷺ -: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ﴾. قرأ نافعٌ: بضمِّ الياءِ وكسرِ الزايِ، والباقونَ: بفتح الياءِ وضمِّ الزاي (١).
﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ أي: يبادرونَ إلى موالاةِ الكفار.
تلخيصه: لا تهتمَّ بمسارعةِ المنافقينَ في موالاةِ الكفار؛ فإنّي ناصرُك عليهم. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (يُسَارِعُونَ) بالإمالةِ (٢).
﴿مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ وهم المنافقونَ ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهودَ.
﴿سَمَّاعُونَ﴾ أي: قوم سَمَّاعونَ ﴿لِلْكَذِبِ﴾ أي: قابلونَ لما يختلقُه أَحبارُهم من الكذبِ على اللهِ ورسوله؛ كقولِه: سمعَ اللهُ لَمِنْ حَمِدَهُ؛ أي: قَبِلَ.
﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ﴾ أي: لأجل قوم.
﴿آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ المعنى: هؤلاءِ الجماعةُ الذين جاؤوك من اليهودِ هم جواسيسُ لطائفةٍ أخرى منهم لم تَجِئْكَ؛ لأنه كانَ قد زنى يهوديٌّ بيهوديَّةٍ، وكانا مُحْصَنَيْنِ شَريفين عندَ أهلِ خيبر، وكان حدُّهما الرجمَ،
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٠٩).
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: يميلونه عن مواضعِهِ التي وُضع عليها من الصحةِ ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا﴾ أي: الحكمَ المغيَّرَ، وهو الجلدُ ﴿فَخُذُوهُ﴾.
﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ محمدًا وحكمَهُ ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ إضلالَه وعذابَه.
﴿فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ لن تقدَر على دفعِه عنه.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ من الكفرِ، فيه رَدٌّ على من يُنْكِرُ القَدَر.
﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ هَوانٌ بالجزيةِ، ورؤيتُهم من محمدٍ - ﷺ - وأصحابِه ما يكرهون ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ الخلودُ في النار.
...
[٤٢] ونزلَ في كعبِ بنِ الأشرفِ وفيمَنْ كانَ مثلَه يقبلُ شهادةَ الزورِ، ويحكم ويرتشي:
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (السُّحُتِ) بضمِّ الحاء، والباقون: بسكونها (١)، وهو الحرامُ الذي يلزم صاحبَه العارُ، من سحَتَهَ: إذا استأصَلَهُ؛ لأنه مسحوتُ البركة، وسُمِّيَتِ الرِّشوةُ سُحْتًا؛ لسحتِها المروءةَ والدينَ، والرشوةُ في الحكمِ: إذا رشوتَهُ ليحقَّ لكَ باطِلًا، أو يبطلَ عنكَ حَقًّا.
ولا خلافَ بينَ الأئمةِ أَنَّ أخذَ الرشوةِ على إبطالِ حقٍّ أو ما لا يجوزُ سحتٌ حرامٌ، ولا ينفذُ القضاءُ بالرشوة بالاتفاق، قالَ - ﷺ -: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتشَيَ" (٢)، وفي روايةٍ: "وَالرَّائِشَ"، وهو الماشي بينهما (٣)،
(٢) رواه أبو داود (٣٥٨٠)، كتاب: الأقضية، باب: في كراهية الرشوة، والترمذي (١٣٣٧)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٢٣١٣)، كتاب الأحكام، باب: التغليظ في الحيف والرشوة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٢٧٩)، والطبراني في "المعجم الكبير" =
﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ خَيَّرَ اللهُ رسولَه - ﷺ - في الحكمِ بينَهم إن شاء، وإن شاءَ تركَ.
واختلفوا في حكم الآيةِ اليومَ هل للحاكمِ الخيارُ في الحكمِ بينَ أهلِ الذمَّةِ إذا تحاكموا؟ فقالَ أكثرُ أهلِ العلم: هو حكم ثابتٌ، وليسَ في سورةِ المائدةِ منسوخٌ، وحكامُ المسلمينَ بالخيارِ في الحكمِ (١) بينَ أهلِ الكتابِ، إنْ شاؤوا حكموا، وإن شاؤوا لم يحكموا، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وقالَ قومٌ: حكمُ الآيةِ منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]، فيجبُ على حاكم المسلمينَ الحكمُ بينهم، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِه، فأما إذا كانتِ الخصومةُ بينَ مسلمٍ وذميٍّ، فيجبُ الحكم بينَهما بالاتفاق؛ لأنه لا يجوزُ لمسلمٍ الانقيادُ لحكمِ أهل الذمة.
﴿وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: عن الحكم بينهم.
﴿فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ نصبٌ؛ لقيامِه مقامَ المصدرِ؛ أي: ضررًا.
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بالعدل.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ العادلين.
(١) "في الحكم" ساقطة من "ن".
[٤٣] ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ هذا تعجُّبٌ للنبي - ﷺ -؛ أي: وكيفَ يجعلونك حَكَمًا بينَهم.
﴿وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ﴾ وهو الرجمُ.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ الحكمِ.
﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ بالمصدِّقينَ لك في الحكم.
...
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ يكشفُ ما استُبْهِمَ من الأحكام.
﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ يعني: أنبياءَ بني إسرائيلَ ﴿الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ وانقادوا لأمرِ اللهِ.
﴿لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ أي: يحكمون بها في تحاكُمِهم.
﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ من ولدِ هارونَ الذينَ التزموا طريقةَ النبيين، وجانَبوا دينَ اليهودِ.
﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا﴾ أي: استُودِعوا.
﴿مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ وأُمروا بحفظِه من التضييع والتحريف.
﴿وَكَانُوا عَلَيْهِ﴾ أي: على ما فيه من الأحكامِ.
﴿شُهَدَاءَ﴾ رقباءَ؛ لئلَّا يبدل.
﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ﴾ في إظهارِ نعتِ محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجمِ، والحكمِ بالحقِّ خوفَ الظَّلَمَةِ.
﴿وَاخْشَوْنِ﴾ في تركِ أحكامي. أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ في (وَاخْشوْنِي) حالةَ الوصل، وأثبتَها يعقوبُ وَصْلًا ووَقْفًا، وأسقطها الباقونَ في الحالين (١). قالَ البيضاويُّ: نهيٌ للحكَّامِ أن يخشوا غيرَ اللهِ في حكوماتِهم، ويُداهنوا فيها خشية ظالمٍ، أو مراقبةِ كبيرٍ (٢).
﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي﴾ ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتُها.
﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو الرشوةُ والجاهُ.
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ مُستهينًا به، منكِرًا لهُ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ لاستهانتِهم به، وتمرُّدِهم بأنْ حكموا
(٢) انظر: "تفسير البيضاوي" (٢/ ٣٢٨).
وقال ابنُ عباس: "وليسَ بكفرٍ ينقلُ عن الملَّةِ، بلْ إذا فعلَ ذلكَ، فهو به كافرٌ، وليسَ كمَنْ كفرَ باللهِ واليوم الآخر" (٢).
وعنه: "الكافرونَ والظالمونَ والفاسقونَ كلُّها في الكافرين" (٣).
...
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ فَرَضْنا على اليهودِ.
﴿فِيهَا﴾ في التوراةِ ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ أي: نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول.
﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ تُفْقَأُ بها ﴿وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ﴾ يُجْدَعُ به.
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٢٥٦).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٨٠).
﴿وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾ تُقلعُ بها، وسائر الجوارح قياسٌ عليها في القصاص.
﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ أي: ذاتُ قصاص، فبهذا تعميمٌ بعد تخصيصٍ.
قرأ الكسائيُّ: (والعينُ) (والأنفُ) (والأذنُ) (والسنُّ) (والجروحُ) بالرفع على القطع مما قبلَها، والاستئنافِ بها، وافقه في (والجروح) خاصَّةً ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وقرأ الباقون الخمسةَ: بالنصب على العطف، وقرأ نافع (والأُذْنَ بِالأُذْنِ) بإسكانِ الذال فيهما، والباقون: بالرفع (١).
﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي: القصاصِ.
﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ للمتصدِّقِ بأن يكفِّرَ اللهُ عنه من سيئاته، قال - ﷺ -: "مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ، كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ" (٢).
وتقدَّمَ حكمُ القتلِ العمدِ والخطأ، وقدرُ الدِّيَةِ، وحكمُ الكفارة، واختلافُ الأئمةِ في ذلكَ مستوفًى في سورة النساء بعدَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [الآية: ٩٢]، وتقدمَ اختلافُ الأئمةِ في القِصاص بينَ المسلمِ والكافرِ، والحرِّ والعبدِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ
(٢) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (١١١٤٦)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (٨/ ٢٩٩)، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- بهذا اللفظ.
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وصفٌ لهم بالعتوِّ
في كفرِهم حينَ ظلموا آياتِ اللهِ بالاستهانةِ، وتمرَّدوا بأنْ حكموا بغيرها.
...
﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ وأَتْبَعْنا.
﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ أي: آثار النبيين المتقدِّمي الذِّكْرِ.
﴿بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا﴾ حالٌ من (عيسى).
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما تقدَّمَهُ.
﴿مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا﴾ يعني الإنجيل.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
...
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ قرأ حمزة: (وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام ونصب الميم؛ أي: لكي يحكمَ، وقرأ الباقونَ: بسكون اللامِ وجزمِ الميمِ على الأمرِ (١).
...
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمدُ.
﴿الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: من الكتب المنزلة من قبل.
﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ أي: رقيبًا وشاهدًا لها بالصحة، قال حَسَّانُ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِينا | وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ |
﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي: بينَ أهلِ الكتابِ إذا ترافَعُوا إليكَ.
﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ أي: بالقرآنِ.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ عادلًا.
﴿عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديرهُ: ولا تُعْرِضْ عَمَّا جاءكَ من الحقِّ متبعًا أهواءَهُم.
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ سَبيلًا واضِحًا وسُنَّةً، وأرادَ بهذا: أن الشرائعَ مختلفةٌ، ولكلِّ أهلِ مِلَّةٍ شريعةٌ، قال قتادةُ: الخطابُ للأممِ الثلاثِ: أمةِ موسى، وعيسى، وأمةِ محمدٍ صلواتُ الله عليهم أجمعين: التوراةُ شريعةٌ، والإنجيلُ شريعةٌ، والقرآنُ شريعةٌ، والدينُ واحدٌ، وهو التوحيدُ.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دينٍ واحدٍ.
﴿وَلَكِنْ﴾ فَرَّقَكم فِرَقًا.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختبرَكُم.
﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾ من الكتبِ والشرائعِ المختلفةِ ليظهرَ لكم أَيُّكم الطائعُ من العاصي.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ فابتدِرُوا إلى العملِ بالطاعات، وأصلُ السَّبْقِ: التقدُّمُ في السير.
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بالجزاءِ الفاصلِ بينَ المحقِّ والمبطلِ، والعاملِ والمقصِّرِ.
...
﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَأَنِ احْكُمْ﴾ التقديرُ: وأمرنا أَنِ احكُمْ.
﴿بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ﴾ أي: واحذرْ فتنتَهُمْ.
﴿عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أن يضلُّوكَ ويصرفوكَ عنه. رُوي أنَّ أحبارَ اليهودِ قالوا: اذهبوا بنا إلى محمدٍ نَفْتِنُهُ عن دينه، فقالوا: يا محمدُ! قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود، وإنا إن اتبعناكَ، اتبعَنا اليهودُ كلُّهم، وإنَّ بيننا وبينَ قومنا خصومةً، فنتحاكمُ إليكَ، فاقضِ لنا عليهم، ونحن نؤمنُ بك ونصدِّقُكَ، فأبى ذلكَ رسولُ الله - ﷺ -، فنزلت:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ (٢) عن الحكمِ المنزَلِ، وأرادوا غيرَهُ.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٢٧٣)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٤/ ١١٥٤١)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٠٩).
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ يعني: اليهودَ.
﴿لَفَاسِقُونَ﴾ متمرِّدُونَ في الكفر، مُعْتَدُونَ فيه.
...
﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ يطلبونَ. قرأ ابنُ عامرٍ: (تبْغُونَ) بالخطاب، والباقونَ: بالغيبِ (١).
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ خطابٌ للموقنين؛ فإنهم الذين يتبينون أنْ لا أحدَ أحسنُ حكمًا من الله.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)﴾.
[٥١] ونزلَ نهيًا عن موالاةِ الأعداءِ في الدينِ:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ﴾ فلا تعتمدوا عليهم، ولا تعاشروهم معاشرةَ الأحبابِ.
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ فيعينهُمْ.
﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ من جملتِهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الذين ظلموا أنفسَهُمْ بموالاةِ الكافرينَ.
...
﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شكٌ ونفِاقٌ، وهم عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ وأصحابُه منَ المنافقينَ.
﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي: في موالاتِهم ومعونَتِهم.
﴿يَقُولُونَ﴾ اعتِذارًا:
﴿نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ بأنْ يدورَ الدهرُ علينا من جَدْبٍ وغَلَبَةٍ وغيرِهما، ولا يتمُّ أمرُ محمدٍ، فنزلَ توبيخًا لهم، وإيماءً إلى تتمةِ أمرهِ - ﷺ -:
﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ بنصرِ محمدٍ - ﷺ -، وإظهارِ في دينِه.
﴿أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ هو (١) إجلاءُ اليهودِ من ديارِهم.
﴿نَادِمِينَ﴾ فضلًا عَمَّا أظهروهُ مما أشعر على نفاقهم.
...
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَيَقُولُ﴾ أي: وحينئذٍ يقولُ.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ: (ويقولَ) بالواوِ ونصبِ اللام عطفًا على (أَنْ يَأْتِيَ)؛ أي: وعسى أن يقولَ الذين آمنوا، وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَيَقُولُ) بالواوِ ورفعِ اللامِ على الاستئناف، وقرأ الباقون، وهم ابنُ كثيرٍ، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: بغير واو، ورفعِ اللام، وكذلك هو في مصحفِ أهل العاليةِ (١)، واستُغني عن حرفِ العطفِ لمناسبةِ هذه الآية بما قبلَها؛ يعني: يقولُ الذينَ آمنوا في وقتِ إظهارِ اللهِ نفاقَ المنافقين:
﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: حلفوا بأغلظِ الأيمانِ.
﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ مؤمنينَ مثلَكم؟ ثم قالَ المؤمنونَ داعينَ متعجِّبينَ من صنيع المنافقين.
﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ الصالحةُ.
﴿فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ الدُّنيا بافتضاحِهم، والآخرةَ بالعذابِ.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ﴾ أي: يرجعْ.
﴿مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ كافرًا بعدَ موتِ النبيِّ - ﷺ -. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَرْتَدِدْ) بدالين مظهرَتين على الأصل، الثانيةُ مجزومة بـ (مَنْ)، وقرأ الباقونَ: (يَرْتَدَّ) بدالٍ واحدةٍ مشدَّدَةٍ مفتوحةٍ لالتقاء الساكنين (١).
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾ غيرهم مكانَهم.
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ والمرادُ بالقومِ: أبو بكرٍ وأصحابُه الذين قاتلوا أهلَ الردَّةِ ومانعي الزكاةِ، ورُوي أنهم قومُ أبي موسى الأشعري، وقيل: هم أحياءٌ من اليمنِ جاهدُوا يومَ القادسية أيامَ عمرَ (٢).
﴿أَذِلَّةٍ﴾ أرقَاءَ رحماءَ.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٦/ ٢٨٢)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٨٧).
﴿أَعِزَّةٍ﴾ أشداء غلظاء.
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ كالسَّبُعِ على فريستِه.
﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ المعنى: إنهم الجامعونَ بينَ المجاهدةِ في سبيلِ الله، والتصلُّبِ في دينه؛ بخلافِ المنافقينَ؛ فإنهم يَخرجون في جيش المسلمين خائفينَ ملامةَ أوليائِهم من اليهودِ، فلا يعملون شيئًا يلحقُهم فيه لومٌ من جهتِهم، واللَّوْمَةُ: المَرَّةُ من اللَّومِ.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: ما وُصِفَ به القومُ من لينِ جانبِهم للمؤمنين، وشدَّتِهم على الكافرين، وعدمِ خوفِهِم.
﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يمنحُه ويوفِّقُ له.
﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ﴾ كثيرُ الفضل.
﴿عَلِيمٌ﴾ من هو أهلٌ.
...
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
[٥٥] ولما نَهى عن موالاةِ الكَفَرة، ذَكَرَ عَقِبَهُ مَنْ هو حقيقٌ بها، فقالَ:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وإنما قال: وَلِيُّكُمْ ولم يقلْ: أَوْلياؤكم للتنبيه على أن الولايةَ لله على الأصالةِ، ولرسولِه والمؤمنينَ على التبع، رُوي أن عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ جاءَ للنبيِّ - ﷺ - وقالَ: إنَّ قومَنا قُريظَةَ والنضيرَ قد أقسموا إنهم لا يُجالسُونا، فنزلت هذه الآيةُ، فقرأها عليه رسولُ الله - ﷺ -
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ مُتَخَشِّعونَ في صلِاتهم وزكاتهم، وقيل: نزلَتْ في عليٍّ رضي الله عنه حينَ سألَه سائلٌ وهو راكعٌ في صلاتِه، فطرحَ له خاتمَهُ (٢)، واستدلَّ بها الشيعةُ على إمامتِه زاعمينَ أن المرادَ بالوليِّ: المتولِّي للأمورِ، والمستحقُّ للتصرُّفِ فيها.
...
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومَنْ يَتَّخِهذُهم أولياءَ.
﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ﴾ أنصارَ دينِ اللهِ.
﴿هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ لأنه تعالى ناصرهم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ونزلَ في رفاعةَ بنِ زيدٍ وسُويدِ بنِ الحارثِ، أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجالٌ من المسلمينَ يوادُّونهما:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (٦/ ٢٨٨). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤٠٩)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ١٠٦).
﴿وَالْكُفَّارَ﴾ أي: لا تتخذوا المستهزئينَ والكفارَ.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (وَالْكُفَّارِ) (٢) بخفضِ الراء؛ يعني: من الكفارِ، وقرأ الباقونَ: بالنصب؛ أي: لا تتخذوا الكفارَ أولياءَ (٣).
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بتركِ المناهي.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ لأن الإيمانَ حقًّا يقتضي ذلكَ.
...
﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا﴾ أي: الصلاةَ أو المناداةَ.
﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ لأن اليهودَ كانوا يقولونَ للمسلمينَ عندَ قيامِهم إلى الصلاة: قامُوا لا قاموا، صَلَّوا لا صلَّوا، وقالَ نصرانيٌّ من أهلِ نجرانَ لما سمعَ المؤذِّنَ يقولُ: أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله: أَحرقَ اللهُ الكاذبَ، فدخلَ خادمُه ذاتَ ليلةٍ بنارٍ، وأهلهُ نيامٌ، فطارتْ شرارةٌ فأحرقَتْهُ معَ بيتِه وأهلِه.
(٢) "والكفار" سقطت من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ٦٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٢٠).
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ فإن السَّفَهَ يؤدِّي إلى الجهلِ بالحقِّ والهزءِ به، والعقلُ يمنعُ منهُ.
...
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا﴾ أي: هل تنُكرونَ منا وتَعيبونَ إلَّا إيماننا.
﴿بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ﴾ من الكتبِ المنزلَةِ.
﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ تلخيُصه: وما تنُكرون إلا مخالفَتَنا إياكم؛ حيثُ دخلْنا الإيمانَ وأنتم خارجونَ منه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ: (هَل تنْقِمُون) بإدغامِ اللام في التاء، والباقون: بالإظهارِ (١)، والآية خطابٌ لليهودِ حينَ سألوا رسولَ الله - ﷺ - عمَّن يؤمنُ به، فقالَ: " ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ إِلى قولِه: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٦] "، فلما ذكرَ عيسى، جَحَدوا نبوَّتَهُ، وقالوا: لا نعلمُ دينًا شَرًّا من دينِكم (٢).
...
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١١)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٤١٢).
[٦٠] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ:
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ أُخبرُكم.
﴿بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ﴾ الذي ذكرتمُ (١)؛ يعني قولهم: لا نعلَمُ دينًا شَرًّا من دينكم.
﴿مَثُوبَةً﴾ ثوابًا وجزاءً.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ والمثوبةُ به (٢) مختصةٌ بالخيرِ، كالعقوبة بالشرّ، فَوُضعت هاهنا موضعَها توسُّعًا، ونصبُها على التمييزِ.
﴿مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ أبعدَه من رحمتِه.
﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ يعني: اليهودَ، سخطَ عليهم بكفرِهم، وانهماكِهم في المعاصي بعدَ وضوحِ الآيات.
﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ﴾ وهم أصحابُ السبت.
﴿وَالْخَنَازِيرَ﴾ وهم كفارُ أهلِ مائدةِ عيسى، وعن ابنِ عباس: "أَنَّ المسخينِ كلاهما من أصحابِ السبتِ، مُسخِتْ شبابُهم قردةً، ومشايخُهم خنازيرَ" (٣).
(٢) "به": زيادة من "ن".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٦٩٣).
﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الملعونونَ.
﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾ لأن مكانَهم النارُ.
﴿وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن طريقِ الحقِّ، ولما نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ المسلمونَ لهم: يا إخوةَ القردةِ والخنازيرِ! فنكسوا رؤوسَهم افْتِضاحًا.
...
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ونزلَ فيمَنْ كان يدخلُ على النبيِّ - ﷺ - ويُظهر الإيمانَ نفاقًا:
﴿وَإِذَا جَاءُوكُمْ﴾ يعني: هؤلاءِ المنافقينَ.
﴿قَالُوا آمَنَّا﴾ بكَ وصدَّقناك.
﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ أي: دخلوا وخرجوا كافرينَ.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ﴾ من النفاقِ.
[٦٢] ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ يعني: اليهودَ.
﴿يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ﴾ أي: الشركِ.
﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ الظلمِ.
﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ الرُشَا. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وخلفٌ: (السُّحْتَ) في الحرفين بجزم الحاءِ، والباقون: بالرفع (١).
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لبئسَ شيئًا عملوهُ.
...
﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ يعني: العلماءَ.
﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ ثم وبَّخَ علماءهم في تركِهم نهيَهُمْ، فقال:
﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ودلَّتِ الآية على أن تارك النهيِ (٢) عن المنكَرِ كمرتكبِ المنكَرِ، فالآيةُ توبيخٌ للعلماءِ في تركِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ.
(٢) "النهي" ساقطة من "ن".
[٦٤] قال ابنُ عباسٍ: إنَّ اللهَ قدْ بسطَ على اليهودِ حتَّى كانوا من أكثرِ الناسِ مالًا، فلمَّا عَصَوُا اللهَ في أمرِ محمدٍ - ﷺ -، كَفَّ عنهم ما بَسَطَ عليهِم من السَّعةِ، فقال فنخاصُ بنُ عازوراءَ: يدُ اللهِ مغلولَةٌ، ولم ينكرِ اليهودُ عليه مقالتَهُ، وأشركوا معه، فنزلَ:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ (١) أي: محبوسَةٌ عن إدرارِ الرزقِ علينا، نسبوه إلى البخلِ.
﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أُمْسِكَتْ ومُنِعَتْ عن فعلِ الخير، وأجابهم تعالى: أنا الجوادُ وهمُ البخلاء، وأيديهم هي المغلولةُ.
﴿وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ أي: أُبْعِدوا وعُذِّبوا بسببِ قولهم.
﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ وليسَ المرادُ حقيقةَ الجارحةِ المتركِّبَةِ؛ لأنه تعالى منزَّهٌ عن التركيبِ، وإنَّما هي صفةٌ من صفاتِ ذاتِه؛ كالسمعِ والبصرِ، قالَ جلَّ ذكرُه: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، وقال - ﷺ -: "كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ" (٢)، واللهُ أعلمُ بصفاته، فعلى العبادِ فيها الإيمانُ والتسليمُ، وأَنْ يُمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ؟
(٢) رواه مسلم (١٨٢٧)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
﴿كَيْفَ يَشَاءُ﴾ من التوسيعِ والتضييقِ، لا اعتراضَ عليه. قرأ أبو عمرٍو: (يَنْفِق كيْفَ) بإدغام القاف في الكاف.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ أي: اليهودَ.
﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: القرآنُ.
﴿طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ أي: كلَّما نزلَتْ آيةٌ، كفروا بها؛ لحسدِهم.
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾ أي: بينَ اليهودِ والنصارى، أو بينَ طوائفِ اليهودِ.
﴿الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ جعلَهم مختلفين في دينِهم، مُتباغِضين، وتقدَّمَ اختلافُ القراء في حكمِ الهمزتين من كلمتينِ في سورة البقرة عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ﴾ [البقرة: ١٣٣]، وكذلك اختلافُهم في قوله ﴿وَالْبَغْضَاءَ إِلَى﴾.
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ﴾ أي: لحربِ النبيِّ - ﷺ - بإفسادِ أمرهِ.
﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ بقهرِهم ونصر نبيِّه؛ أي: كلَّما حارَبوا، غُلِبوا.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ بكفرِهم وإضلالِ غيرِهم.
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ فلا يجازيهم إلا شَرًّا.
...
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا﴾ بمحمدٍ وما (١) جاءَ بهِ.
﴿وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ولجعلناهُمْ من الدَّاخلين فيها، فيه تنبيهٌ أن الإسلامَ يَجُبُّ ما قبلَه، وأن الكتابيَّ لا يدخلُ الجنةَ ما لم يُسْلِمْ.
...
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ عَمِلُوا بما فيهما.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني: القرآنَ وجميعَ الكتب.
﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ بقطرِ السماءِ.
﴿وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ بالنباتِ، والمرادُ: سَعَةُ الرزقِ.
﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ﴾ عادلةٌ، كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه.
﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه.
﴿سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ بئسَ شيئًا عملُهم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي: جميعَ المنزلِ إليك.
﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ أي: إن لم تبلغْ مجموعَهُ.
﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ فما أَدَّيتَ شيئًا منها؛ لأن كتمانَ بعضِها يضيِّعُ ما أُدِّي منها؛ كتركِ بعض أركانِ الصلاة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ، ويعقوبُ: (رِسَالاَتِهِ) على الجمع، والباقون: على التوحيد (١)، ثم قالَ مشجِّعًا له:
﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ﴾ أي: يحفظُكَ.
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ فلا يَصِلونَ إليك بقتلٍ ولا غيرِه، ونزلت بعدَما شُجَّ وجهُه، وكُسرت رَباعِيَتُهُ، والمرادُ بالناسِ: الكفارُ؛ لقولِه بعدُ (٢):
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.
عن عائشةَ رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - ﷺ - يُحْرَسُ حتى نزلتْ هذهِ الآيةُ، فأخرجَ رسولُ اللهِ - ﷺ - رأسَهُ من القُبّةِ وقالَ لهم: "يَا أَيُهَا النَّاسُ! انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ" (٣).
(٢) في "ت": "بعده".
(٣) رواه الترمذي (٣٠٤٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة، وقال: =
[٦٨] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ من الدِّينِ وما أنتم عليهِ لا اعتدادَ به، فهو كلا شيءٍ.
﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ومِنْ إقامتِها الإيمانُ بمحمدٍ - ﷺ -؛ فإنَّ جميعَ الكتبِ ناطقةٌ بوجوبِ الطاعةِ لهُ.
﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ﴾ فلا تحزنْ.
﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ففي المؤمنين كفايةٌ عنهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الحقيقةِ.
﴿وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى﴾ تقدَّم تفسيرُه، واختلافُ القراءِ فيه في سورةِ البقرةِ.
﴿مَنْ آمَنَ﴾ أي: ثبتَ على الإيمان.
﴿وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والصابئون والنصارى كذلك. قرأ يعقوبُ: (فَلاَ خَوْفَ) بفتحِ الفاءِ وعدمِ التنوين، والباقونَ: بالرفع والتنوين (١).
...
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ في التوحيدِ والنبوَّةِ.
﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ ليبينوا لهم أمرَ دينِهم.
﴿كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ﴾ مما يخالفُ أهواءَهُمْ.
﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا﴾ كمحمدٍ وعيسى.
﴿وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ يعني: قَتَلوا؛ كزكريا ويحيى.
...
﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ظَنُّوا أنهم لا يُعَذَّبونَ بذنوبهم. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وحمزةُ، والكسائيُّ: (تَكُونُ) برفعِ النونِ على معنى:
﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ عن الحقِّ بعبادةِ العجلِ.
﴿ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ قَبِلَ توبتَهم حينَ تابوا.
﴿ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا﴾ بسؤالِ الرؤيةِ، المعنى: رَماهُم اللهُ بالعمى والصَّمَمِ.
﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فمُجازيهم (٢) وَفْقَ أعمالِهم.
...
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ يعني: الملكائيةَ واليعقوبيةَ منهم.
﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي: إني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم.
﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ في عبادتِه.
(٢) في "ن": "فيجازيهم".
﴿وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ فإنها المعدَّةُ للمشركين.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ يَنصرونهم من النارِ.
...
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ﴾ أي: أحدُ.
﴿ثَلَاثَةٍ﴾ يعني: المرقوسيةَ؛ لأنهم يقولون: الإلهيةُ مشتركةٌ بينَ اللهِ ومريمَ وعيسى، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء إلهٌ، فهم ثلاثةٌ، ومن قالَ: إن الله ثالثُ ثلاثةٍ، ولم يردِ الآلهةَ (١)، لم يكفرْ؛ لقولي تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧]، ولقولِه - ﷺ - لأَبي بكرٍ: "مَا ظَنُّكَ بِاثنيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ " (٢)، ثم قالَ ردًّا عليهم:
﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وما في الموجوداتِ إلَّا إلهٌ واحدٌ متعالٍ عن الشركَةِ، و (مِنْ) مزيدةٌ للاستغراقِ.
﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ ولم يوحِّدوا.
(٢) رواه البخاري (٣٤٥٣)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم (٢٣٨١)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، عن أبي بكر -رضي الله عنه-.
...
﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)﴾
[٧٤] ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ أي: ألا يتوبونَ بالانتهاءِ عن تلكَ العقائدِ، ويستغفرونَ بالتوحيدِ والتنزيهِ.
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفرُ لهم إنْ تابوا.
...
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ثم نَفَى عن عيسى الألوهيةَ، وأثبت لهُ ولأمهِ البشريةَ بقولِه:
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضتْ.
﴿مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فهو رسولٌ من جنسِ الرسلِ الماضين، يموتُ ويمضي، ولو كانَ إلهًا، لكانَ دائمًا.
﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ كثيرةُ الصِّدْقِ.
﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ أي: يحتاجان إليه كالآدميينَ، ومَنْ هذهِ صفتهُ، كيفَ يكونُ إلهًا؟! ثم عجبَ من كفرِهم معَ قيامِ البرهانِ على بشريَّتِهما فقالَ:
﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيفَ يُصْرَفون عن الحقِّ، وتقدَّم في سورةِ آلِ عمران أنَّ (ثُمَّ) للترتيبِ بمهلَةٍ.
...
﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ هو عيسى وكلّ معبودٍ غيرِ اللهِ.
﴿وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ يملكُ الضرَّ والنفعَ، فهو الإلهُ على الحقيقةِ.
...
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ تتجاوَزُوا.
﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ والغلوُّ والتقصيرُ كلٌّ منهما مذمومٌ في الدين.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ﴾ والأهواءُ جمع الهوى، وهو ما تدعو إليه شهوةُ النفسِ.
﴿وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ من أصحابِهم.
﴿وَضَلُّوا﴾ ثانيًا لما بُعِثَ النبيُّ - ﷺ -.
﴿عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ أي: عن قصدِ طريقِ محمدٍ - ﷺ -.
...
﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ﴾ يعني: أهلَ أيلةَ، لعنَهم داودُ، فَمُسخوا قردةً، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِهم في البقرةِ.
﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ أي: وعلى لسانِ عيسى؛ يعني: كفارَ أصحابِ المائدةِ، لعنَهم عيسى، فَمُسخوا خَنازير، ويأتي ذكرُ قصتِهم أواخرَ السورة.
﴿ذَلِكَ﴾ المسخُ.
﴿بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ أي: بسببِ اعتدائِهم بما حرَّمَ اللهُ.
...
﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ أي: لا ينهى بعضُهم بعضًا.
...
﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ﴾ من اليهودِ: كعبِ بنِ الأشرفِ وأتباعِه.
﴿يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مشركي مكةَ يستمدُّونَهم على النبيِّ - ﷺ -.
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي: لبئس شيئًا قدَّموه لمعادِهِم.
﴿أَنْ سَخِطَ﴾ أي: غضبَ.
﴿اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ ابتداءٌ وخبرٌ.
...
﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ﴾ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ﴾ يعني: الكفارَ.
﴿أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجونَ عن أمرِ الله تعالى.
...
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)﴾.
﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ لِلِينِ جانبِهم، وقلَّةِ حرصِهم على الدنيا، وليسَ المرادُ جميعَ النصارى، بلْ مَنْ أسلمَ؛ كالنجاشيِّ وأصحابِه لما قدمَ عليهم المسلمونَ في الهجرةِ الأولى في السُّنةِ الخامسةِ من مبعَثِ رسولِ الله - ﷺ -، واسمُ النجاشيِّ أَصْحَمَةُ، ومعناهُ بالعربيِّ عَطِيَّةُ، وإنما النجاشي اسمُ الملكِ؛ كقولهم: قيصرَ، وكسرى.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: قربُ المودة.
﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾ علماءَ.
﴿وَرُهْبَانًا﴾ عُبَّادًا.
﴿وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ لا يتعظَّمون عن الإيمان.
...
﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ محمدٍ - ﷺ -.
﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ والمرادُ: وفدُ النجاشيِّ إلى النبيِّ - ﷺ -، لما سمعوا القرآنَ، رَقَّتْ قلوبُهم، وفاضَتْ عيونُهم بالدمعِ.
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ المقرِّينَ بنبوَّةِ محمدٍ - ﷺ -.
***
[٨٤] ولما عَيَّرهم اليهودُ بالإيمانِ، قالوا منكِرينَ على أنفسِهم تركَ الإيمانِ بعدَ (١) قيامِ البرهانِ:
﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ وحدَهُ.
﴿وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ أي: في أمةِ محمدٍ - ﷺ -.
...
﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)﴾ الذين أحسنوا النظرَ والعملَ.
...
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وهي النارُ الشديدةُ الاتِّقادِ.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (٢) من اللذاتِ التي تشتهيها النفوسُ مما أحلَّ اللهُ.
﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ لا تتجاوزوا الحلالَ إلى الحرامِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
قالَ - ﷺ -: "إِنَّ خِصَاءَ أُمَّتي الصِّيَامُ، وَإِنَّ سِيَاحَتَهُمُ الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ" (٣).
...
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٧٠٤ - ٧٠٥).
(٣) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: ٢٩٠)، ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (٢/ ٣٧٠)، وفي "تفسيره" (١/ ٧٠٥)، وابن عبد البر في "التمهيد" (٢١/ ٢٢٦)، عن عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-.
[٨٨] ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ حثٌّ على استعمالِ الحلالِ.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: "كان النبي - ﷺ - يُحِبَّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ" (١).
...
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ﴾ كائِنًا.
﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه واختلافُ الأئمةِ فيه في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ نظيرِ هذهِ الآيةِ.
﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ أي: سترُ الحنثِ.
﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾.
واختلفوا في قدرِ الكفارة وحكمِها:
فقال أبو حنيفةَ: نصفُ صاعِ بُرٍّ لكلِّ مسكينٍ، أو صاع من شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ، أو قيمةُ ذلكَ، والصاعُ ثمانيةُ أرطالٍ بالعراقيِّ.
وقال أبو يوسف: خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ، أو يُغَدِّيهم ويُعَشِّيهم، ولا بدَّ من شِبَعِهم (١) في الأكلتينِ، ويجوزُ عنلَه صرفُها إلى العبدِ والذميِّ، ولا يجوزُ عندَه التكفيرُ قبلَ الحنثِ.
وقال مالكٌ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من حنطَةٍ أو غيرِها مِمَّا هو قوتٌ لهم بالمدِّ الأصغرِ بمدِّ النبيِّ - ﷺ - إذا أخرجَ الكفارةَ بالمدينة، وفي بقيةِ الأمصارِ وسطٌ منَ الشبع، وهو رِطْلانِ بالبغداديِّ من الخبز، وشيءٌ من الإدامِ.
وقالَ الشافعيُّ: لكلِّ مسكينٍ مُدُّ حَبٍّ من غالبِ قوتِ بلدِه.
وقالَ أحمدُ: لكلِّ مسكينٍ مُدٌّ من بُرٍّ، أو مُدَّانِ من شعيرٍ أو تمرٍ أو
واتفق مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على عدمِ جوازِ صرفها إلى رقيقٍ وذميٍّ، وعلى عدمِ جوازِ إخراجِ القيمةِ وغداء المساكينَ وعشائهم، وعلى أنه يجوز التكفيرُ قبلَ الحنثِ وبعدَه.
﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ خيرِ قوتِ عيالِكم.
﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ فعندَ أبي حنيفةَ المقصودُ منها ردُّ العُرْيِ، فكلُّ ثوبٍ يصيرُ به مُكْتَسِيًا يسمَّى كسوةً، وعندَ مالكٍ إن كانوا رجالًا، ثوبًا ثوبًا، وإن كُنَّ نساءً، فثوبين ثوبين، درعًا وخمارًا لكلِّ امرأةٍ منهنَّ، وعندَ الشافعيِّ ما يُسَمَّى كسوةً؛ كقميصٍ، أو عِمامةٍ، أو إزارِ، وعندَ أحمدَ للرجلِ ثوبٌ يجزئُه أن يصلِّيَ فيه، وللمرأةِ درعٌ وخمارٌ.
واختلفوا فيما إذا أطعمَ خمسةً وكسا خمسةً، فقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: يجزئُه، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا يجزئُه.
وكذلكَ اختلافُهم فيما إذا أطعمَ من جنسينِ، فأطعمَ خمسةً بُرًّا، وخمسةً تمرًا، أو خمسةً برًّا، وخمسة شعيرًا.
﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ سليمةٍ من كلِّ عيبٍ يَضُرُّ بالعملِ ضررًا بَيِّنًا بالاتفاق،
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ واحدًا منها.
﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ متتابعاتٍ عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وقالَ مالكٌ والشافعيُّ في الأظهر: لا يجبُ التتابعُ.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ.
﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ وحَنِثْتُمْ.
﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ فلا تنكُثوها إن لم تكن على تركِ مندوبٍ أو فعلِ مكروهٍ، فإن كانتْ على شيءٍ منها، فالأولى الحنثُ، قال - ﷺ - لعبدِ الرحمنِ بنِ سَمُرَةَ: "لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (١).
وقالَ - ﷺ -: "إِنِّي وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتيتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا، وَتَحَلَّلْتهَا" (٢)، وقولُه: "تَحَلَّلْتُهَا" من التحلُّلِ، وهو
ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها | ، عن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنه-. |
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثلَ ذلكَ البيانِ.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ أعلامَ شرائِعِه.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمةَ التعليم.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ﴾ جمعُ نُصُبٍ.
﴿وَالْأَزْلَامُ﴾ تقدَّمَ تفسيرُ الخمرِ والميسرِ في سورةِ البقرةِ، وتقدَّمَ في صدرِ هذهِ السورةِ تفسيرُ الأنصابِ والأزلامِ.
﴿رِجْسٌ﴾ خبيثٌ.
﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ من تَزْيينِهِ.
﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ الضميرُ للرِّجْسِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تُفْلِحوا بالاجتنابِ عنه.
...
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)﴾.
= حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها | ، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-. |