تفسير سورة المجادلة

النهر الماد من البحر المحيط

تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب النهر الماد من البحر المحيط
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ ﴾ الآية هذه السورة مكية وقيل غير ذلك والتي تجادلك خولة بنت ثعلبة وقيل غير ذلك وأكثر الرواية على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ظاهر من امرأته قال أبو قلابة وغيره: كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ولما ظاهر أوس بن أسامة قالت زوجته:" يا رسول الله أكل أوس شبابي ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني فقال لها: ما أراك إلا قد حرمت عليه فقالت: يا رسول الله لا تفعل فإِني وحيدة ليس لي أهل سواه فراجعها بمثل مقالته فراجعته فهذا هو جدالها وكانت تقول في خلال ذلك اللهم إن لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا فهذا هو اشتكاؤها إلى الله تعالى فنزل الوحي عند جدالها قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات كان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع الله جدالها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أوس وعرض عليه كفارة الظهار العتق فقال: ما أملك والصوم قال: ما أقدر والإِطعام فقال لا أجد إلا أن تعينني فأعانه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً ودعا له فكفر بالإِطعام وأمسك أهله "وكان عمر يكرم خولة إذا دخلت عليه ويقول قد سمع الله تعالى لها والظهار قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد في التحريم وقوله: ﴿ مِنكُمْ ﴾ إشارة إلى التوبيخ العرب وتهجين عاداتهم في الظهار لأنه كان من إيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم والظاهر أن قوله: ﴿ مِّن نِّسَآئِهِمْ ﴾ يشمل المدخول بها وغير المدخول بها من الزوجات لا من ظاهر منها قبل عقد نكاحها.﴿ مَّا هُنَّ ﴾ أجري مجرى ليس في رفع الإِسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى:﴿ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾[يوسف: ٣١] وقوله:﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة: ٤٧] وقرأ المفضل عن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء. قال الزمخشري: في لغة من ينصب " انتهى "، يعني أنه لا تزاد الباء إلا في لغة تميم وهذا ليس بشىء وقد ردّ ذلك الزمخشري وزيادة الباء في مثل ما زيد بقائم كثير في لغة تميم والزمخشري تبع في ذلك أبا علي الفارسي ولما كان معنى كظهر أمي أي كأمي التحريم ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد جاء النفي بقوله: ﴿ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ﴾ ثم أكد ذلك بقوله: ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ أي حقيقة.﴿ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ ﴾ والحق بهن في التحريم أمهات الرضاع وأمهات المؤمنين أزواج الرسول عليه السلام وان نافية واللائي أحد جموع التي وقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع وزور كذب وباطل منحرف عن الحق وهو محرم تحريم المكروهات جداً وإذا وقع لزم وقد رجى تعالى بعده بأنه عفو غفور مع الكفارة والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها فلو قال: أنت علي كظهر أختي أو ابنتي، لم يكن ظهاراً والظاهر أن قوله: ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ﴾ أن يعودوا اللفظ الذي سبق منهم وهو قول الرجل ثانياً: أنت علي كظهر أمي فلا تلزم الكفارة بالقول الأول وإنما تلزم بالثاني وهو قول أهل الظاهر. وروي أيضاً عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة وهو قول الفراء وقال طاوس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة لما قالوا: أي للوطء والمعنى لما قالوا انهم لا يعودون إليه فإِذا ظاهر ثم وطىء فحينئذٍ تلزمه الكفارة وإن طلق أو ماتت، وقال أبو حنيفة ومالك أيضاً والشافعي وجماعة: معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإِمساك والوطء فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة طلق أو ماتت. وقال الشافعي: العود الموجب للكفارة أن يمسك على طلاقتها بعد الظهار ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق.﴿ وَٱلَّذِينَ ﴾ مبتدأ ضمن معنى إسم الشرط فلذلك دخلت الفاء في خبره وتحرير خبر مبتدأ محذوف تقديره فالواجب تحرير رقبة والظاهر في التماس الحقيقة فلا يجوز تماسهما بقبلة أو مضاجعة أو غيرك ذلك من وجوه الاستمتاع وهو أحد قولي الشافعي وقول مالك وقال الأكثرون هو الوطء فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير. وهو الصحيح من مذهب الشافعي والضمير في يتماسا عائد على ما دل عليه الكلام في المظاهر والمظاهر منها.﴿ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ﴾ إشارة إلى التحرير.﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ أي الرقبة ولا ثمنها أو وجدها أو ثمنها وكان محتاجاً إلى ذلك فقال أبو حنيفة: يلزمه العتق ولو كان محتاجاً إلى ذلك ولا ينتقل إلى الصوم وهو الظاهر. وقال الشافعي ينتقل إلى الصوم والظاهر وجوب التتابع.﴿ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ﴾ أي الصوم لزمانة به أو كونه يضعف به ضعفاً شديداً والظاهر مطلق الإِطعام ويخصصه ما كانت العادة في الإِطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديد بحد.﴿ ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ ﴾ إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإِطعام ثم شدّد بقوله: ﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾ تعالى أي فالتزموها وقفوا عندها ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ﴾ نزلت في مشركي قريش أخذوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي من قاتل الرسل من قبلهم ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها والمحادة المخالفة والمعاداة في الحدود.﴿ كُبِتُواْ ﴾ أي أخذوا ولعنوا والذين من قبلهم منافقو الأمم وهي بشارة للمؤمنين بالنصر وعبر بالماضي لتحقق وجوده ووقوعه.﴿ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به.﴿ وَلِلْكَافِرِينَ ﴾ أي الذين يحادونه.﴿ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ أي يهينهم ويذلهم والناصب ليوم يبعثهم العامل في الكافرين أو مهين أو أذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء فقيل له يوم يبعثهم أي يكون يوم يبعثهم وانتصب جميعاً على الحال أي مجتمعين في صعيد واحد.﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ ﴾ تخجيلاً لهم وتوبيخاً.﴿ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ ﴾ تعالى بجميع تفاصيله من كميته وكيفيته وزمانه ومكانه.﴿ وَنَسُوهُ ﴾ هم لاستحقارهم إياه واعتقادهم أنه لا يقع عليه حساب.﴿ شَهِيدٌ ﴾ لا يخفى عليه شىء.﴿ رَابِعُهُمْ ﴾ رابع إسم فاعل من ربعت القوم ومعنى رابع ثلاثة الذي صير الثلاثة أربعة وكذلك سادسهم.﴿ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الثلاثة والخمسة والأدنى من الثلاثة الاثنان ومن الخمسة الأربعة.﴿ وَلاَ أَكْثَرَ ﴾ يدل على ما يلي الستة فصاعداً.﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ﴾ نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقرباؤهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فنزلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما.﴿ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ ﴾ كانوا يقولون السام عليك وهو الموت فيرد عليهم وعليكم وتحية الله تعالى لأنبيائه وسلام على عباد الله الذين اصطفى.﴿ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ ﴾ أي إن كان نبياً فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما تقول فقال تعالى:﴿ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار وبدأ بالاثم لعمومه ثم بالعدوان لعظمته في النفوس إذ هي ظلامات العباد ثم ترقى إلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه السلام وفي هذا طعن على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك.
﴿ إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ أي هو الذي يزينها لهم فكأنها منه.﴿ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا.﴿ بِضَآرِّهِمْ ﴾ أي المؤمنين.﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أي بمشيئته فيقضي بالقتل والغلبة ولما نهى تعالى المؤمنين عما هو سبب للتباغض والتنافر أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب فقال:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآية كانوا يتنافسون في مجلس الرسول عليه السلام فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض.﴿ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ ﴾ أي انهضوا في المجلس للتفسح لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق أمروا أولاً بالتفسح ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إذا أمروا والظاهر أن قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾.
معطوف على الذين آمنوا والعطف مشعر بالتغاير وهو من عطف الخاص على العام وقيل: ﴿ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ﴾ من عطف الصفات والمعنى يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فالوصفان لذات واحدة وقال ابن مسعود وغيره: ثم الكلام عند قوله: ﴿ مِنكُمْ ﴾ وانتصب ﴿ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ بفعل مضمر تقديره ويخص الذين أوتوا العلم درجات فللمؤمنين رفع وللعلماء درجات.﴿ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ ﴾ إستعارة والمعنى قبل نجواكم وعن ابن عباس أن قوماً من المؤمنين واغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه السلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً فنزلت مشدّدة عليهم أمر المناجاة وهذا الحكم قيل نسخ قبل العمل به فقدموا بين يدي نجواكم صدقة قال علي كرم الله وجهه: ما عمل به أحد غيري أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيت عشر مراراً أتصدّق في كل مرة بدرهم ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة.﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم ﴾ الذين تولوا هم المنافقون والقوم المغضوب عليهم هم اليهود. قال السدي ومقاتل:" انه عليه السلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن أبيّ بن سلول وكان أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية فقال عليه السلام: علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت "والضمير في ما هم عائد على الذين تولوا وهم المنافقون أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ولا منهم أي وليسوا من الذين تولوا وهم اليهود وما هم استئناف اخبار بأنهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال عليه السلام" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه ".﴿ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي أحاط بهم من كل جهة وغلب على نفوسهم واستولى عليهم.﴿ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ ﴾ فهم لا يذكرون لا بقلوبهم ولا بألسِنتهم وحزب الشيطان جنده.﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ ﴾ أي كتب في اللوح المحفوظ.﴿ وَرُسُلِيۤ ﴾ أي من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ ﴾ ينصر حزبه.﴿ عَزِيزٌ ﴾ يمنعه من أن يذل وبدأ في قوله:﴿ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ ﴾ أولاً بالآباء لأن الواجب على الأولاد طاعتهم فنهاهم عن توادهم ثم ثنى بالأبناء لأنهم أغلق بالقلوب ثم أتى ثالثاً بإِخوان لأن بهم التعاضد ثم أتى رابعاً بالعشيرة لأن بها التناصر وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إذا ما دعوا.﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾ تعالى وهو الهدى والنور واللطف والإِشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادون من حادّ الله ورسوله قيل والآية فنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقيل وهو الظاهر أنها متصلة بالآي التي قبلها في المنافقين الموالين لليهود وقيل غير ذلك.
سورة المجادلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المجادلة) من السُّوَر المدنية، نزَلتْ لتحريم عادةٍ من عادات الجاهلية؛ وهي (الظِّهار)، وذلك في حادثةِ مظاهرة أوسِ بن الصامت مِن زوجِه خَوْلةَ، وقد جاءت السورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثبات علمِ الله، وإحاطتِه بكل شيء، ومِن كمال ألوهيته سبحانه: الحُكْمُ العدل فيما يصلُحُ لهم من الشرائع، وخُتمت السورة ببيان حال أعداء الله، وحالِ أوليائه.

ترتيبها المصحفي
58
نوعها
مدنية
ألفاظها
475
ترتيب نزولها
105
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
28

* قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيٓ إِلَى اْللَّهِ وَاْللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُه الأصواتَ، لقد جاءت خَوْلةُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها، فكان يَخفَى عليَّ كلامُها؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اْللَّهُ قَوْلَ اْلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه النسائي (٣٤٦٠)، وابن ماجه (١٨٨).

* قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «إنَّ اليهودَ كانوا يقولون لرسولِ اللهِ ﷺ: سامٌ عليك! ثم يقولون في أنفسِهم: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اْللَّهُ بِمَا نَقُولُۚ} [المجادلة: 8]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اْللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٥٨٩).

* قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ عليكم رجُلٌ ينظُرُ بعينِ شيطانٍ، أو بعَيْنَيْ شيطانٍ»، قال: فدخَلَ رجُلٌ أزرَقُ، فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني -أو: شتَمْتَني، أو نحوَ هذا-؟ قال: وجعَلَ يَحلِفُ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ في المجادلةِ: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى اْلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14]، والآيةُ الأخرى». أخرجه أحمد (٢١٤٧).

قال محقِّقو "المسند" (4 /48): «قوله: «فقال: يا مُحمَّدُ، علامَ سبَبْتَني؟»؛ كذا جاء في جميع الأصول، وكذلك هو في "مسند البزار"، وزيادة: «يا محمد» - كما قال الشيخُ أحمد شاكر- خطأٌ ينافي السياق؛ فإن الذي نُسِب إليه السبُّ والشَّتم هنا هو المنافقُ الأزرق، ورسولُ الله يَسأله ويتَّهِمُه، وهو يَحلِف كاذبًا يَتبرَّأ من التُّهمة، وقد جاء في "تفسير الطبري" على الصواب بإسقاطِ هذه الزيادة، وسيأتي على الصواب أيضًا عند أحمد (2407)»، انظر السبب الآتي.

* قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اْللَّهُ جَمِيعٗا فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍۚ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اْلْكَٰذِبُونَ} [المجادلة: 18]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، أنَّ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما حدَّثه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ظلِّ حُجْرةٍ مِن حُجَرِه، وعنده نَفَرٌ مِن المسلمين، قد كاد يَقلِصُ عنهم الظِّلُّ، قال: فقال: «إنَّه سيأتيكم إنسانٌ ينظُرُ إليكم بعَيْنَيْ شيطانٍ، فإذا أتاكم، فلا تُكلِّموه»، قال: فجاء رجُلٌ أزرَقُ، فدعاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكلَّمَه، قال: «علامَ تَشتِمُني أنتَ، وفلانٌ، وفلانٌ؟»، نَفَرٌ دعَاهم بأسمائهم، قال: فذهَبَ الرَّجُلُ، فدعَاهم، فحلَفوا باللهِ واعتذَروا إليه، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {فَيَحْلِفُونَ لَهُۥ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ...} [المجادلة: 18] الآيةَ» أخرجه أحمد (2407).

* سورةُ (المجادلة):

سُمِّيت سورةُ (المجادلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقصَّة مجادلةِ امرأةِ أوس بن الصامت عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وتُسمَّى كذلك بـ (قَدْ سَمِعَ)؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الظِّهار وكفَّارته (١-٤).

2. خَسارة مَن عادى اللهَ، وتعدَّى حدوده (٥-١٩).

3. حال أعداء الله، ومدحُ أوليائه (٢٠-٢٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /34).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقصد السورةِ: «الحُكْمُ في قضيَّة مظاهرة أوسِ بن الصامت من زوجه خَوْلة.
وإبطالُ ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهَر منها زوجُها، وأن عملهم مخالفٌ لِما أراده الله، وأنه من أوهامهم وزُورِهم التي كبَتَهم اللهُ بإبطالها، وتخلَّصَ من ذلك إلى ضلالاتِ المنافقين؛ ومنها مناجاتُهم بمرأى المؤمنين ليَغِيظوهم ويحزُنوهم.
ومنها موالاتهم اليهودَ، وحَلِفُهم على الكذب، وتخلَّل ذلك التعرُّض لآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.

وشرع التصدُّق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهودَ والمشركين.

وأن اللهَ ورسوله وحِزْبَهما هم الغالبون». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /6).