ﰡ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَآئِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْرَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
وَمِنْهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَفَسَّرُوهُ فِي الْآيَةِ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مَا يُعْهَدُ إِلَيْكَ لِأَجْلِ حِفْظِهِ، وَيُطْلَبُ مِنْكَ الْقِيَامُ بِهِ، يُقَالُ: عَقَدَ الْيَمِينَ وَعَقَدَ النِّكَاحَ: أَبْرَمَهُ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ (٤: ٣٣) وَعَقَدَ الْبَيْعَ، وَعَقَدُوا الشَّرِكَةَ، وَيُقَالُ عَاقَدْتُهُ وَعَاهَدْتُهُ، وَتَعَاقَدْنَا وَتَعَاهَدْنَا. وَعَهْدُ اللهِ: كُلُّ مَا عَهِدَ إِلَى عِبَادِهِ حِفْظَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ أَوِ التَّلَبُّسَ بِهِ مِنِ اعْتِقَادٍ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ.
وَمَا يَتَعَاقَدُ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُهُودِ: هُوَ أَوْثَقُهَا وَآكَدُهَا، فَالْعَقْدُ أَخَصُّ مِنَ الْعَهْدِ.
وَ (الْبَهِيمَةُ) : مَا لَا نُطْقَ لَهُ، وَذَلِكَ لِمَا فِي صَوْتِهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، لَكِنْ خُصَّ فِي التَّعَارُفِ بِمَا عَدَا السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، قَالَهُ الرَّاغِبُ.
وَرُوِيَ عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ مُطْلَقًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبَهِيمَةُ كُلُّ ذَاتِ أَرْبَعِ قَوَائِمَ، وَلَوْ فِي الْمَاءِ، أَوْ كُلُّ حَيٍّ لَا يُمَيِّزُ، جَمْعُهُ بَهَائِمُ. اهـ.
وَ (الْأَنْعَامُ) : هِيَ الْإِبِلُ (الْعِرَابُ) وَالْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ. وَالْغَنَمُ: (الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ) وَإِضَافَةُ بَهِيمَةٍ إِلَى الْأَنْعَامِ لِلْبَيَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. " كَشَجَرِ الْأَرَاكِ " أَيْ: أُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الْبَهِيمَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ ; أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمُشَابِهَةُ لِلْأَنْعَامِ، قِيلَ فِي الِاجْتِرَارِ وَعَدَمِ الْأَنْيَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ الْمُقْتَضِي لِلْحِلِّ هُوَ كَوْنُهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ
فِي الْحِلِّ.
وَ (الْحُرُمُ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ حَرَامٍ، وَهُوَ الْمُحَرَّمُ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَ (شَعَائِرُ اللهِ) مَعَالِمُ دِينِهِ وَمَظَاهِرُهُ، وَغَلَبَ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَاحِدُهَا شَعِيرَةٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشُّعُورِ.
وَ (الْهَدْيُ) : جَمْعُ هَدِيَّةٍ ; كَجَدْيٍ جَمْعُ جَدِيَّةٍ لِحَشِيَّةِ السَّرْجِ وَالرَّحْلِ، وَهُوَ مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِيُذْبَحَ هُنَالِكَ، وَهُوَ مِنَ النُّسُكَ، وَ (الْقَلَائِدُ) جَمْعُ قِلَادَةٍ، وَهِيَ مَا يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ، وَكَانُوا يُقَلِّدُونَ الْإِبِلَ مِنَ الْهَدْيِ بِنَعْلٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ لِحَاءِ شَجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ; لِيُعْرَفَ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ أَحَدٌ، كَمَا كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ أَوْ عَادُوا مِنْهُ ; لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَ (يَجْرِمَنَّكُمْ) مِنْ جَرَّمَهُ الشَّيْءَ: أَيْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ يَجْرِمُهُ، أَيْ: يَكْسِبُهُ وَيَفْعَلُهُ، فَهُوَ كَكَسْبٍ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَصْلُ الْجَرْمِ قَطْعُ الثَّمَرَةِ عَنِ الشَّجَرَةِ، وَ (الشَّنَآنُ) : الْبُغْضُ مُطْلَقًا، أَوِ الَّذِي يَصْحَبُهُ التَّقَزُّزُ مِنَ الْمَبْغُوضِ، يُقَالُ شَنَأَهُ (بِوَزْنِ مَنَعَ وَسَمَعَ) شَنَأً (بِتَثْلِيثِ الشِّينِ) وَشَنَآنًا (بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِهَا) وَمَشْنَأً وَمَشْنَأَةً: أَبْغَضَهُ، وَشُنِئَ بِالضَّمِّ فَهُوَ مَشْنُوءٌ أَيْ مُبْغَضٌ، وَإِنْ كَانَ جَمِيلًا، وَضِدُّهُ الْمُشْنَأُ (كَمُقْعَدٍ) وَهُوَ الْقَبِيحُ وَإِنْ كَانَ مُحَبَّبًا، وَالشَّنُوءَةُ: الْمُتَقَزِّزُ وَالتَّقَزُّزُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: شَنَئْتُهُ: تَقَزَّزْتُهُ ; بُغْضًا لَهُ.
(٧: ١٧٢) الْآيَةَ، وَضَرْبٌ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ مَا دَلَّنَا عَلَيْهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ سِتَّةُ أَضْرُبٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ; إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ ابْتِدَاءً أَوْ يَلْزَمَ بِالْتِزَامِ الْإِنْسَانِ إِيَّاهُ. وَالثَّانِي أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ: فَالْأَوَّلُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ ; كَالنُّذُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرَبِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ إِنْ عَافَانِي اللهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ ; كَمَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ مُبَاحٍ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ; فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَالرَّابِعُ وَاجِبٌ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا الْمُسْلِمَ. فَيَحْصُلُ مِنْ ضَرْبِ سِتَّةٍ فِي أَرْبَعَةٍ: أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضَرْبًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي كُلَّ عَقْدٍ سِوَى مَا كَانَ تَرْكُهُ قُرْبَةً وَاجِبًا، فَافْهَمْ وَلَا تَغْفُلْ. اهـ.
هَذَا أَجْمَعُ كَلَامٍ رَأَيْتُهُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ تَجَدَّدَ لِأَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ تَبِعَهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُودِ، يَذْكُرُونَهَا فِي كُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُسْتَحْدَثَةِ ; مِنْهَا مَا يُجِيزُهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُدَوَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُجِيزُونَهُ ; لِمُخَالَفَتِهِ شُرُوطَهُمُ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا. كَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمُ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ قَوْلًا حَتَّى لَوْ كَتَبَ اثْنَانِ عَقْدًا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ قَوْلًا أَوْ كِتَابَةً نَحْوَ: " تَعَاقَدَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ بِكَذَا وَالثَّانِي بِكَذَا، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِالْقَوْلِ
وَأَسَاسُ الْعُقُودِ الثَّابِتُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ الْمُخْتَصَرَةُ الْمُفِيدَةُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَفِيَ بِمَا عَقَدَهُ وَارْتَبَطَ بِهِ،
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْهُ، فَالتَّرَاضِي مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (٤: ٢٩) وَأَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَقْدِ نَفْسِهِ، إِذِ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً، وَالْإِشَارَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَالْفِعْلُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ فِي حُصُولِ الْمَقْصِدِ مِنَ الْعَقْدِ ; كَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ الَّذِي مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ تَعَبُّدًا بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ اللَّفْظِيَّةِ، وَمِثْلُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إِعْطَاءُ الثَّوْبِ لِلْغَسَّالِ أَوِ الصَّبَّاغِ أَوِ الْكَوَّاءِ، فَمَتَى أَخَذَهُ مِنْكَ كَانَ ذَلِكَ عَقْدَ إِجَارَةٍ بَيْنَكُمَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِعْطَاءُ الْمَالِ لِمَنْ بِيَدِهِ تَذَاكِرُ السَّفَرِ فِي سِكَكِ الْحَدِيدِ، أَوِ الْبَوَاخِرِ وَأَخْذُ التَّذْكِرَةِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ، وَرُكُوبُ سُفُنِ الْمَلَّاحِينَ وَمَرْكَبَاتِ الْحُوذِيَّةِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ بَعْدَ إِيصَالِ الرَّاكِبِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَقْصِدُهُ.
فَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَعُدُّهُ النَّاسُ عَقْدًا، فَهُوَ عَقْدٌ يَجِبُ أَنْ يُوفُوا بِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَحْرِيمَ حَلَالٍ أَوْ تَحْلِيلَ حَرَامٍ مِمَّا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ ; كَالْعَقْدِ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ عَلَى إِحْرَاقِ دَارِ أَحَدٍ، أَوْ قَطْعِ شَجَرِ بُسْتَانِهِ أَوْ عَلَى الْفَاحِشَةِ، أَوْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ; كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ - الْقِمَارِ - وَالرِّشْوَةِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَهَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَيْسِرِ فِي كَوْنِهِ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ مِنَ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَيْضًا، وَقَدْ تَوَسَّعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَدْخَلُوا فِي مَعْنَى الرِّبَا وَالْغَرَرِ مَا لَا تُطِيقُهُ النُّصُوصُ مِنَ التَّشْدِيدِ، وَدَعَّمُوا تَشْدَيدَاتِهِمْ بِرِوَايَاتٍ لَا تَصِحُّ، وَأَشَدُّهُمْ تَضْيِيقًا فِي الْعُقُودِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَأَكْثَرُهُمُ اتِّسَاعًا وَسِعَةً الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَمِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُعْظَمَ تَشْدَيدَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ ذَهَابُ بَعْضِهِمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الْحَظْرُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا إِلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُخَالِفُ
وَلَا سِيَّمَا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَالْحَظْرُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَيُؤَيِّدُ إِطْلَاقَ الْآيَةِ حَدِيثُ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَزَّارُ، بِزِيَادَةِ " إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ يَعْتَضِدُ - كَمَا قِيلَ - بِحَدِيثِ " النَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَتِ الْحَقَّ " رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ أَشَدُّ ضَعْفًا مِنْ حَدِيثِ الصُّلْحِ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، بِدُونِ زِيَادَةِ " الشُّرُوطِ " وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ.
وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بِرَيْرَةَ وَهُوَ: " مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هُنَا حَاصِلُ الْمَصْدَرِ ; أَعْنِي: الْمَشْرُوطَ لَا الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاطُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، وَأَذِنَ بِاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِمُكَاتَبِي بِرَيْرَةَ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ: مَا خَالَفَهُ. كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى الظَّاهِرِيَّةَ ; لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ فِي الْعُقُودِ شُرُوطًا لَا ذِكْرَ لَهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - شُرُوطٌ لِأَنْوَاعِ الْعُقُودِ فَيُكْتَفَى بِهَا وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَلَّا يَشْتَرِطَ أَحَدٌ شَرْطًا يُحِلُّ مَا حَرَّمَهُ كِتَابُ اللهِ أَوْ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّهُ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ؛ إِذْ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مَا أَبَاحَهُ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - بِالنَّصِّ أَوْ الِاقْتِضَاءِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَحْثٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ
فَالْوَاقِعَةُ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ اشْتُرِطَ فِيهِ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ اللهِ فَكَانَ لَغْوًا، وَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ; فَالْأَصْلُ فِيهَا عُرْفُ النَّاسِ، وَتَرَاضِيهِمْ مَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ هَذَا الْأَصْلِ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا أَيَّدْنَاهَا بِهِ، حَدِيثُ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ، وَحَدِيثُ: مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. لِهَذَا تَجِدُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ تَصْحِيحًا لِلْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، عَلَى أَنَّهُ أَوْسَعُهُمْ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِمْسَاكًا بِهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عَلَى حَدِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، وَأَحْمَدُ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي شَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي إِبْطَالِ شُرُوطِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَتَرَى الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ - وَهُوَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الْعُرْفِ - لَا يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَلَّا تَنْتَقِلَ مِنْ بَلَدِهَا أَوْ مِنَ الدَّارِ، وَيُجِيزُ لَهَا فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدِ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّزَوُّجِ عَلَيْهَا، كَمَا يُجَوِّزُ لَهَا الْفَسْخَ بِغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْعُيُوبِ وَالتَّدْلِيسِ، وَأَجَازَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ، وَاشْتِرَاطَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ بِثَمَنِهَا إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا، وَلَكِنْ قَالَ لَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ، وَمَذْهَبُهُ هَذَا فِي الشُّرُوطِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُهُولَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْهَا. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَفَّى مَوْضُوعَ الْعُقُودِ حَقَّهُ مُؤَيَّدًا بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَوُجُوهِ الِاعْتِبَارِ فِي مَدَارِكِ الْقِيَاسِ - إِلَّا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ حَالَ كَوْنِكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِأَلَّا تَجْعَلُوهُ حَلَالًا بِاصْطِيَادِهِ أَوِ الْأَكْلِ مِنْهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ دَاخِلُونَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ " مُحِلِّي الصَّيْدِ " فَلَا يَحِلُّ الصَّيْدُ لِمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَلَا لِلْمُحْرِمِ، أَيِ الدَّاخِلِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي خَارِجِ حُدُودِ الْحَرَمِ بِأَنْ نَوَى الدُّخُولَ فِي هَذَا النُّسُكِ، وَبَدَأَ بِأَعْمَالِهِ كَالتَّلْبِيَةِ وَلُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْقَيْدَ لِحَلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُرَجِّحًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا كَانَ مُشَابِهًا لِلْأَنْعَامِ مِنَ الْبَهَائِمِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُصَادَ ; كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهَا، وَأَمَّا حِلُّ الْأَنْعَامِ الْإِنْسِيَّةِ فَيُعْلَمُ مِنَ الْآيَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمِنْ غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ، بَلْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ جَارِيًا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ.
إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ أَيْ يَمْنَعُ مَا أَرَادَ مَنْعَهُ، أَوْ يَجْعَلُهُ حُكْمًا وَقَضَاءً، وَالْحُكْمُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِرَادَتُهُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، فَلَا عَبَثَ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا جُزَافَ وَلَا خَلَلَ وَلَا ظُلْمَ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا شَعَائِرَ دِينِ اللهِ حَلَالًا تَتَصَرَّفُونَ بِهَا كَمَا تَشَاءُونَ، وَهِيَ مَعَالِمُهُ الَّتِي جَعَلَهَا أَمَارَاتٍ تَعْلَمُونَ بِهَا الْهُدَى ; كَمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَسَائِرِ فَرَائِضِهِ وَحُدُودِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، بَلِ اعْمَلُوا فِيهَا بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا تُحِلُّوا الشَّهْرَ الْحَرَامَ بِاسْتِئْنَافِكُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا ذُو الْقَعْدَةِ، وَقِيلَ: رَجَبٌ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جِنْسُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَيَدْخُلُ فِيهِ بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، وَهِيَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ (٢: ٢١٧) فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ ; لِتَقِفَ عَلَى تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا تُحِلُّوا الْهَدْيَ الَّذِي يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللهِ مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى مَنْ هُنَاكَ مِنْ عَاكِفٍ وَبَادٍ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِمَنْعِ بُلُوغِهِ إِلَى مَحِلِّهِ مِنْ بَيْتِ اللهِ ; كَأَخْذِهِ لِذَبْحِهِ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً، أَوْ حَبْسُهُ عِنْدَ مَنْ أَخَذَهُ، وَلَا تُحِلُّوا الْقَلَائِدَ الَّتِي يُقَلَّدُ بِهَا هَذَا الْهَدْيُ، بِنَزْعِ الْقِلَادَةِ مِنْ عُنُقِ الْبَعِيرِ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهَا أَحَدٌ يَجْهَلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَلَائِدِ ذَوَاتُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْهَدْيِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تُحِلُّوا الْهَدْيَ
مَنْ يَقْصِدُ الْحَرَمَ لِلنُّسُكِ أَوْ غَيْرِ النُّسُكِ فَقَدْ حَرَّمَ التَّعَرُّضَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَيْ وَلَا تُحِلُّوا قِتَالَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، أَيْ قَاصِدِيهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، يُقَالُ: أَمَّهُ، وَيَمَّمَهُ، وَتَيَمَّمَهُ: إِذَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَعَمَدَهُ، وَقَصَدَ إِلَيْهِ قَصْدًا مُسْتَقِيمًا لَا يَلْوِي إِلَى غَيْرِهِ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ بَيْتُ اللهِ الْمَعْرُوفُ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ الَّذِي حَرَّمَهُ وَمَا حَوْلَهُ، أَيْ مَنَعَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهُ، وَأَنْ يُقْطَعَ شَجَرُهُ وَأَنْ يُخْتَلَى خَلَاهُ ; أَيْ يُؤْخَذَ نَبَاتُهُ وَحَشِيشُهُ، وَجَعَلَهُ آمِنًا لَا يُرَوَّعُ مَنْ دَخَلَهُ. رَاجِعْ وَمِنْ دَخْلِهِ كَانَ آمِنًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا أَيْ يَطْلُبُونَ بِأَمِّهِمُ الْبَيْتَ وَقَصْدِهِ التِّجَارَةَ وَالْحَجَّ مَعًا، أَوْ رِبْحًا فِي التِّجَارَةِ وَرِضَاءً مِنَ اللهِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَحُلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرَوَاهُ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ، فَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ يَلْتَمِسُونَ فَضْلَ اللهِ، وَرِضْوَانَهُ فِيمَا يُصْلِحُ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَالْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ الَّذِي يَبْتَغُونَ أَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ وَالتِّجَارَةَ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَحُجُّ وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَتَاعًا " لَا بَأْسَ بِهِ " وَتَلَا الْآيَةَ. وَلَمْ يُرْوَ فِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: " يَتَرَضَّوْنَ رَبَّهُمْ بِحَجِّهِمْ " وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ; أَنَّهُ فَسَّرَ الْفَضْلَ مِنْ رَبِّهِمْ بِالتِّجَارَةِ، وَالرِّضْوَانَ بِالْحَجِّ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِنَ الْآيَةِ مَنْسُوخَةٌ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ (بَرَاءَةٌ) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (٩: ٥)
أَمَّا مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْمَأْثُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَكَوْنِهَا فِي الْمُشْرِكِينَ ; فَهُوَ كَمَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْحَطْمَ بْنَ هِنْدِيٍّ الْبَكْرِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو؟ فَأَخْبَرَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِهِ: يَدْخُلُ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِيعَةَ، يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنْظُرُ وَلَعَلِّي أُسْلِمُ، وَلِي مَنْ أُشَاوِرُهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرَجَ بِعَقِبِ غَادِرٍ، فَمَرَّ بِسَرْحٍ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَسَاقَهُ... ثُمَّ أَقْبَلَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ حَاجًّا قَدْ قَلَّدَ وَأَهْدَى، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَتَّى بَلَغَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: " يَا رَسُولَ اللهِ، خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَلَّدَ. قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ الْحَطْمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَهُ يَحْمِلُ طَعَامًا، فَبَاعَهُ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَلَمَّا وَلَّى خَارِجًا نَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: " لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ فَاجِرٍ، وَوَلَّى بِقَفَا غَادِرٍ " فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَامَةَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجَ فِي عِيرٍ لَهُ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ; لِيَقْطَعُوهُ فِي عِيرِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ فَانْتَهَى الْقَوْمُ (ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قَالَ: يَنْهَى عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَطْمَ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْتَادَ وَيَنْظُرَ، فَقَالَ: إِنِّي دَاعِيَةُ قَوْمٍ فَأَعْرِضْ عَلَيَّ مَا تَقُولُ، قَالَ لَهُ: " أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ أَنْ تَعْبُدَهُ، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " قَالَ الْحَطْمُ: إِنَّ فِي أَمْرِكَ هَذَا غِلْظَةً فَأَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَذْكُرُ لَهُمْ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنْ قَبِلُوا أَقْبَلْتُ مَعَهُمْ وَإِنْ أَدْبَرُوا كُنْتُ مَعَهُمْ. قَالَ لَهُ: " ارْجِعْ " فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: " لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعُقْبَى غَادِرٍ، وَمَا الرَّجُلُ
مُتَعَارِضَةً، وَسَوَاءٌ صَحَّتْ أَوْ لَمْ تَصِحَّ ; فَالْآيَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا وَعُمُومِهَا، وَالْمُفِيدُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَإِنَّهَا تُعِينُ عَلَى الْفَهْمِ.
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا أَيْ وَإِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَمِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ فَاصْطَادُوا إِنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ الصَّيْدُ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَقَطْ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ يَجِيءُ بَعْدَ حَظْرِهِ: أَنْ يَكُونَ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ رَفْعِ ذَلِكَ الْحَظْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ (٦٢: ١٠) أَيْ بِالْبَيْعِ وَالْكَسْبِ الَّذِي جَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (٦٢: ٩) وَمِنْهُ حَدِيثُ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ بِالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ. وَمَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةَ قَدْ يَجِبُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُحْظَرُ ; لِعَارِضٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَاصِمٍ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ " شَنْآنُ " بِسُكُونِ النُّونِ الْأَوْلَى، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: " إِنْ صَدُّوكُمْ " بِكَسْرِ " إِنْ " عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُشِيرُ إِلَى صَدِّ الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَنْهَاهُمْ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ السُّورَةُ لِأَجْلِ اعْتِدَائِهِمُ السَّابِقِ، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ وَعَدَاوَتُهُمْ عَلَى أَنْ تَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى أَعْدَائِهِمْ إِنْ صَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ عَنِ النُّسُكِ فِيهِ وَزِيَارَتِهِ، وَلَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ هَذَا قَدْ نَزَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ يُتَوَقَّعُ صَدٌّ مِنْ أَحَدٍ، وَبِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (٢: ١٩١) وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَى مَعْنَى الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ الْكَوْنِ، أَيْ: إِنْ كَانُوا صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ وُرُودَ هَذَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّ
الْأَحْكَامَ قَدْ تُبْنَى عَلَى الْفَرْضِ، وَلِأَنَّ هَذَا الصَّدَّ قَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ فِي عَصْرِنَا مِنْ مَنْعِ بَعْضِ الْعَرَبِ كَأَهْلِ نَجْدٍ مِنَ الْحَجِّ لِأَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ ; كَأَخْذِ بَعْضِ أُمَرَاءِ نَجْدٍ الزَّكَاةَ مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَعُدُّهُمْ أُمَرَاءُ مَكَّةَ تَابِعِينَ لَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْطَادُوا دَاخِلَةً فِي حَيِّزِ شَرْطِهِ،
لَمَّا كَانَ اعْتِدَاءُ قَوْمٍ عَلَى قَوْمٍ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ ; قَفَّى عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ الْبِرُّ: التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (وَالتَّقْوَى) : اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ صَاحِبَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا (وَالْإِثْمُ) : فَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِأَنَّهُ كَالْأَثَامِ، اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبَطِّئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، وَجَمْعُهُ آثَامٌ، وَالْآثِمُ مُتَحَمِّلُ الْإِثْمِ وَفَاعِلُهُ، ثُمَّ صَارَ الْإِثْمُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَالْعُدْوَانُ تَجَاوُزُ حُدُودِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعَدْلِ فِيهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ النُّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَرْبَعِينَ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَفِي رِوَايَةٍ " جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ " قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا فِي نَفْسِهِ وَأَجَابَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " وَلَيْسَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْبِرِّ وَالْإِثْمِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَلَا اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا يَطْلُبُهُ السَّائِلُ مِنَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ مَا يَشْتَبِهُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ; فَيَشُكُّ الْإِنْسَانُ هَلْ هُوَ مِنْهُمَا أَمْ لَا، فَأَحَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عَلَى ضَمِيرِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطَمْئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ خَالَفَ فَتْوَى الْمُفْتِينَ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الظَّوَاهِرَ دُونَ دَقَائِقِ الِاحْتِيَاطِ الْخَفِيَّةِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجِيبُ كُلَّ سَائِلٍ بِحَسْبِ حَالَتِهِ.
فَمَجْمُوعُ مَا وَرَدَ فِي الْبِرِّ مِصْدَاقٌ لِمَا فَسَّرَهُ بِهِ الرَّاغِبُ مِنْ أَنَّهُ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأَفْعَالَ النَّفْسِيَّةَ وَالْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ بِاعْتِبَارِ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ (الْبَرِّ) بِالْفَتْحِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَحْرِ بِتَصَوُّرِ سِعَتِهِ، وَإِلَّا قُلْنَا: إِنَّ الْبِرَّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعَدُّ خَصْلَةً أَوْ شُعْبَةً مِنَ الْبِرِّ.
أَمَّا الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الْهِدَايَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى النَّاسِ إِيجَابًا دِينِيًّا أَنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ أَفْرَادًا وَأَقْوَامًا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ التَّقْوَى الَّتِي يَدْفَعُونَ بِهَا الْمَفَاسِدَ وَالْمَضَارَّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّحْلِيَةِ وَالتَّخْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ التَّحْلِيَةَ بِالْبِرِّ، وَأَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ ; وَهُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ بِالْمَعَاصِي وَكُلِّ مَا يَعُوقُ عَنِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَلَى الْعُدْوَانِ الَّذِي يُغْرِي النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَجْعَلُهُمْ أَعْدَاءً مُتَبَاغِضِينَ يَتَرَبَّصُ بَعْضُهُمُ الدَّوَائِرَ بِبَعْضٍ.
كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً ; يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى عَنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ بِعَهْدٍ وَنِظَامٍ بَشَرِيٍّ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِيَّاتِ الْيَوْمَ، فَإِنَّ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ كَانَ مُغْنِيًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٣: ١١٠) وَلَمَّا انْتَثَرَ بِأَيْدِي الْخَلَفِ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَنُكِثَ ذَلِكَ الْعَهْدُ، صِرْنَا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ بِنِظَامٍ خَاصٍّ لِأَجْلِ جَمْعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ: التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي أَيِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ عَمَلٍ
اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّنَا عُنِينَا بِتَأْلِيفِ جَمَاعَةٍ يُرَادُ بِهَا إِقَامَةُ جَمِيعِ مَا تُحِبُّ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ جَمَاعَةُ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ، اللهُمَّ أَيِّدْ مَنْ أَيَّدَهَا وَأَعِنِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا، وَاخْذُلْ مَنْ ثَبَّطَ عَنْهَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَادِرُ،
الْقَوِيُّ الْقَاهِرُ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي السَّرَائِرِ.
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أَيِ اتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ فِي كِتَابِهِ وَفِي نِظَامِ خَلْقِهِ ; لِئَلَّا تَسْتَحِقُّوا عِقَابَهُ الَّذِي يُصِيبُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هِدَايَتِهِ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، لَا هَوَادَةَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي عِقَابِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِشَيْءٍ، إِلَّا وَفِعْلُهُ نَافِعٌ وَتَرْكُهُ ضَارٌّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا وَفِعْلُهُ ضَارٌّ وَتَرْكُهُ نَافِعٌ، وَفِي مَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ كُلُّ مَا رَغَّبَ فِيهِ، وَفِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كُلُّ مَا رَغَّبَ عَنْهُ، فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ هِدَايَتِهِ مُفْضِيًا بِطَبْعِهِ إِلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ، الَّتِي مِنْهَا فَسَادُ الْفِطْرَةِ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ، وَذَلِكَ إِبْسَالٌ لِلنَّفْسِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الدُّنْيَا وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَسَجَايَاهُ وَتَأْثِيرِ عَقَائِدِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي أَعْمَالِهِ، وَسُنَنِهِ فِي ارْتِقَاءِ الْإِنْسَانِ فِي أَفْرَادِهِ وَشُعُوبِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُوقِعُ الْإِنْسَانَ فِي الْغَوَايَةِ، وَيَنْتَهِي بِهِ إِلَى شَرِّ عَاقِبَةٍ وَغَايَةٍ، وَإِنَّمَا يَظْلِمُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَلَا عَتَبَ لَهُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَالْعِقَابُ هُنَا يَشْمَلُ عِقَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ التَّصْرِيحُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِأَحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ فِي عَذَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١١: ١٠٢) وَوَضَعَ اسْمَ الْجَلَالَةِ الْمَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَالْمَقَامُ مَقَامُ الْإِضْمَارِ لِمَا لِذِكْرِ الِاسْمِ الْكَرِيمِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالتَّأْثِيرِ، وَذَلِكَ أَدْعَى إِلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ.
لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَعَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا:
الْأَوَّلُ: الْمَيْتَةُ، يُرَادُ بِالْمَيِّتِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَيْ بِدُونِ فِعْلِ فَاعِلٍ، وَالتَّأْنِيثُ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَخْ ; لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلشَّاةِ كَمَا قَالُوا، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْأَصْلِ لِلْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْبَهِيمَةَ بَدَلَ الشَّاةِ وَلَفْظُهَا أَعَمُّ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِمَا اسْتُثْنِيَ مِنْ حِلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ صَارَ الْمُنَاسِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ هُنَا صِفَةٌ لِلْبَهِيمَةِ ; أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمَيْتَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَيْتَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا مَاتَ وَلَمْ يُذَكِّهِ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ تَذْكِيَةً جَائِزَةً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ مَا يَأْتِي مَعَ اعْتِبَارِ قَاعِدَةِ: إِذَا قُوبِلَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِالْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْخَاصِّ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ ضَارًّا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ نِسْمَةٍ خَفِيَّةٍ مِمَّا يُسَمَّى الْآنَ بِالْمَيِكْرُوبِ انْحَلَّتْ بِهِ قُوَاهُ، أَوْ وَلَّدَ فِيهِ سُمُومًا، وَقَدْ يَعِيشُ مَيكْرُوبُ الْمَرَضِ فِي جُثَّةِ الْمَيِّتِ زَمَنًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ، وَتَعُدُّهُ خُبْثًا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّ سَبَبَ ضَرَرِ الْمَيْتَةِ احْتِبَاسُ الرُّطُوبَاتِ فِيهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّذْكِيَةِ.
(الثاني: الدَّمُ) وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَسْفُوحُ، أَيِ الْمَائِعُ الَّذِي يُسْفَحُ وَيُرَاقُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ جَمُدَ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُتَجَمِّدِ فِي الطَّبِيعَةِ كَالطِّحَالِ وَالْكَبِدِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ اللَّحْمَ عَادَةً فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مَسْفُوحًا، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الدَّمِ الضَّرَرُ وَالِاسْتِقْذَارُ أَيْضًا كَمَا قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ، أَمَّا كَوْنُهُ خُبْثًا
الْحَرَارَةِ، وَحِينَئِذٍ تَبْقَى جَرَاثِيمُ الْمَرَضِ فِيهِ حَيَّةً تُؤَثِّرُ فِي الْجِسْمِ الَّذِي تَدْخُلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ الدَّمَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْفَعَّالَةِ فِي الصِّحَّةِ ; فَإِذَا أَمْكَنَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضِيفَ دَمَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْيَاءِ إِلَى دَمِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا صِحَّةً وَقُوَّةً.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ شُرْبَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، أَوْ أَكْلَهُ بَعْدَ أَنْ يَجْمُدَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالطَّبْخِ، مُفِيدٌ لِلصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَا أَنَّهُ يَزِيدُ الدَّمَ ; وَلِذَلِكَ لَا يَفْعَلُونَهُ وَلَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَلَا يَقُولُونَ: إِنَّ مِعَدَ النَّاسِ تَقْوَى عَلَى هَضْمِهِ وَالتَّغَذِّي بِهِ بِسُهُولَةٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّدُ الدَّمُ مِمَّا يُهْضَمُ مِنَ الطَّعَامِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْقَنَ ضَعِيفُ الدَّمِ بِدَمِ حَيَوَانٍ سَلِيمٍ، فَيَزِيدُهُ ذَلِكَ قُوَّةً، وَهَذَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَلَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
(الثَّالِثُ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَكَوْنُهُ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْذَارُهُ لَيْسَ لِذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِمَنْ يَتَذَكَّرُ مُلَازَمَتَهُ لِلْقَاذُورَاتِ وَرَغْبَتَهُ فِيهَا ; وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبِ لَبَنِهَا، وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَالْجُلَّةَ، أَيِ الْبَعْرَ (وَالْجَلَّالَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَهِيَ كَالْجُلَّةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ) فَرَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْهُمْ، كَمَا صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُرْبِ لَبَنِ الْجَلَّالَةِ " وَرُوِيَ بِلَفْظِ: " وَعَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا " وَصَحَّحَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَلَّالَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا ; كَالدَّجَاجِ وَالْأَوِزِّ، هَلِ الْعِبْرَةُ بِعَلَفِهَا قِلَّةً وَكَثْرَةً، أَمِ الْعِبْرَةُ بِرَائِحَةِ لَحْمِهَا؟ وَهَلِ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَمْ لِلْكَرَاهَةِ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ: لَا تُؤْكَلُ حَتَّى تُحْبَسَ عَنْ أَكْلِ الْقَذَرِ أَيَّامًا، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَةَ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَرَ بِأَكْلِهَا بَأْسًا، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا، أَنَّ الْإِسْلَامَ طَيِّبٌ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَبَالَغَ فِي أَمْرِ النَّظَافَةِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا عَدَّ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ لِلْقَاذُورَاتِ عِلَّةً أَوْ حِكْمَةً مِنْ عِلَلِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ أَوْ حِكَمِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، فَكَيْفَ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ؟
نَاشِئٌ مِنْ أَكْلِهِ لِلْقَاذُورَاتِ، فَمِنْهُ أَنَّهُ يُوَلِّدُ الدِّيدَانَ الشَّرِيطِيَّةِ، كَالدُّودَةِ الْوَحِيدَةِ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهَا، وَسَبَبُ سَرَيَانِ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَكْلُ الْعَذِرَةِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يُوَلِّدُ دُودَةً أُخْرَى يُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الشَّعْرَةَ الْحَلَزُونِيَّةَ، وَهِيَ تَسْرِي إِلَى الْخِنْزِيرِ مِنْ أَكْلِ الْفِيرَانِ الْمَيِّتَةِ ; وَمِنْهُ أَنَّ لَحْمَهُ أَعْسَرُ اللُّحُومِ هَضْمًا لِكَثْرَةِ الشَّحْمِ فِي أَلْيَافِهِ الْعَضَلِيَّةِ، وَقَدْ تَحُولُ الْأَنْسِجَةُ الدُّهْنِيَّةُ الَّتِي فِيهِ دُونَ عَصِيرِ الْمَعِدَةِ، فَيَعْسُرُ هَضْمُ الْمَوَادِّ الزُّلَالِيَّةِ لِلْعَضَلَاتِ، فَتَتْعَبُ مَعِدَةُ آكِلِهِ، وَيَشْعُرُ بِثِقَلٍ فِي بَطْنِهِ وَاضْطِرَابٍ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَقَذَفَ هَذِهِ الْمَوَادَّ الْخَبِيثَةَ، وَإِلَّا تَهَيَّجَتِ الْأَمْعَاءُ وَأُصِيبَ بِالْإِسْهَالِ، وَلَوْلَا الْعَادَةُ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تَنَاوُلَ السُّمُومِ أَكْلًا وَشُرْبًا وَتَدْخِينًا، وَلَوْلَا مَا يُعَالِجُونَ بِهِ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ; لِتَخْفِيفِ ضَرَرِهِ - لَمَا أَمْكَنَ النَّاسَ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ كُنْهَ الضَّرَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا بَعْضَ التَّفْصِيلِ فَلْيُرَاجِعِ الْمُجَلَّدَ السَّادِسَ مِنَ الْمَنَارِ (ص ٣٠٢ - ٣٠٨).
فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ آيَةَ الْأَنْعَامِ عَلَّلَتْ تَحْرِيمَ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِكَوْنِهِ رِجْسًا، فَهَلْ مَعْنَى ذَلِكَ أَكْلُهُ لِلْقَذَرِ، أَمْ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ " الرِّجْسِ " يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ ضَارِّ مُسْتَقْبَحٍ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، فَيُسَمَّى النَّجَسُ رِجْسًا، وَيُسَمَّى الضَّارُّ رِجْسًا، وَمِنَ الْأَخِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ (٥: ٩٠) فَتَعْلِيلُ آيَةِ الْأَنْعَامِ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مَعًا، فَهِيَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَصِلُ النَّاسُ إِلَى شَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ، إِلَّا بِاتِّسَاعِ دَائِرَةِ عُلُومِهِمْ وَتَجَارِبِهِمْ.
(الرَّابِعُ: مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي حُرِّمَ لِسَبَبٍ دِينِيٍّ مَحْضٍ، لَا لِأَجْلِ الصِّحَّةِ وَالنَّظَافَةِ كَالثَّلَاثَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا ذُبِحَ أَوْ نُحِرَ عَلَى ذِكْرِ غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يُعَظِّمُهَا النَّاسُ تَعْظِيمًا دِينِيًّا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالذَّبَائِحِ.
وَالْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ ; يُقَالُ أَهَلَّ فُلَانٌ بِالْحَجِّ: إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لَهُ، وَمِنْهُ اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ: إِذَا صَرَخَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ لِأَصْنَامِهِمْ، فَيَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: بِاسْمِ اللَّاتِ أَوْ بِاسْمِ الْعُزَّى، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ أَكْلِ هَذَا أَنَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَالْأَكْلُ مِنْهُ مُشَارَكَةٌ لِأَهْلِهِ فِيهِ وَمُشَايَعَةٌ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ إِنْكَارُهُ لَا إِقْرَارُهُ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ لَيْسَ هُوَ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وَلَا شَرْطًا لَهُ، بَلْ هُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ فِيمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ ذَبْحِهِ اسْمُ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ وَلِيٍّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَهَلَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ.
(الْخَامِسُ: الْمُنْخَنِقَةُ) قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: " خَنَقَهُ خَنِقًا (كَكَتِفٍ) وَخَنْقًا فَهُوَ خَنِقٌ أَيْضًا (أَيْ: كَكَتِفٍ) وَخَنْقٌ وَمَخْنُوقٌ، كَخَنَقَهُ فَاخْتَنَقَ، وَانْخَنَقَتِ الشَّاةُ بِنَفْسِهَا "
وَيَغْلَطُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الِانْخِنَاقِ هُنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ، كَمَا قَالَ الصَّرْفِيُّونَ فِي مِثْلِ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا لِمَا كَانَ أَثَرًا لِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ; كَكَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ فَلْسَفَةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقِحَّ إِنَّمَا يَقُولُ: انْكَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ انْكَسَرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَجْهَلُ مَنْ كَسَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَعْبِيرٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَاصَى كَسْرُهُ عَلَى الْكَاسِرِينَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ، وَأَرَى ذَوْقِي يُوَافِقُ فِي مَادَّةِ الْخَنْقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ مُطَاوِعَ خَنَقَ هُوَ اخْتَنَقَ مِنَ الِافْتِعَالِ، وَأَنِ انْخَنَقَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ الْحَيَوَانِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ الَّذِي جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ: الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيْنَ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، فَالْمُنْخَنِقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِتَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ ; لِأَنَّ لِمَوْتِهَا سَبَبًا مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ بِالتَّذْكِيَةِ الَّتِي تَكُونُ بِقَصْدِ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَكُونَ وَاثِقًا مِنْ صِحَّةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي يُرِيدُ التَّغَذِّيَ بِهَا، وَلَوْ أَرَادَ - تَعَالَى - بِالْمُنْخَنِقَةِ: الْمَخْنُوقَةَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَخْنُوقَةِ أَوِ الْخَنِيقِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ أَنَّ الْخَنْقَ وَإِنْ كَانَ ضَرْبًا مِنَ التَّذْكِيَةِ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ لَا يَحِلُّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقِ بِالْأَوْلَى، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُنْخَنِقَةِ لَا تُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ إِلَّا الْإِشْعَارَ بِكَوْنِ الْمُنْخَنِقَةِ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ.
(السَّادِسُ: الْمَوْقُوذَةُ) وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى انْحَلَّتْ قُوَاهَا وَمَاتَتْ. قَالَ فِي
قَالَ الرَّازِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي الْمَوْقُوذَةِ مَا رُمِيَ بِالْبُنْدُقِ فَمَاتَ، وَهِيَ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ; فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا. اهـ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْبُنْدُقِ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الطِّينِ فَيُرْمَى بِهِ بَعْدَ يُبْسِهِ فَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ وَالْخَذْفُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ: الرَّمْيُ بِالْحَصَا وَالْخَزَفِ وَكُلِّ يَابِسٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، سَوَاءٌ رُمِيَ بِالْيَدِ أَوِ الْمِخْذَفَةِ وَالْمِقْلَاعِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَقْذِ ; لِأَنَّهُ يُعَذِّبُ الْحَيَوَانَ وَيُؤْذِيهِ، وَلَا يَقْتُلُهُ، فَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ سَبَبًا مُطَّرِدًا وَلَا غَالِبًا فِي الْقَتْلِ بِخِلَافِ بُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الصَّيْدِ الْآنَ فَإِنَّهُ يَصِيدُ وَيَنْكَأُ ; وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِجَوَازِ الصَّيْدِ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - أَيِ الرَّازِيِّ -: وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمُنْخَنِقَةِ ; فَإِنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ دَمُهَا، فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَرْدُودٌ لِأَنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ سَبَبٌ لِحِلِّ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا، بِدَلِيلِ حِلِّ مَا صَادَتْهُ الْجَوَارِحُ فَجَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَجْرَحَهُ فِي نَصٍّ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ كَمَا سَيَأْتِي.
(السَّابِعُ: الْمُتَرَدِّيَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ مُنْخَفِضٍ فَتَمُوتُ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: " يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ تَرَدِّيًا مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَتَرَدِّيهَا رَمْيُهَا بِنَفْسِهَا مِنْ مَكَانٍ عَالٍ شَرِفٍ إِلَى أَسْفَلِهِ. اهـ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُدْخِلُ الْمُتَرَدِّيَةَ فِي الْمَيْتَةِ بِحَسْبِ مَعْنَاهَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ فِي إِمَاتَتِهَا وَلَا قَصْدٌ بِهِ إِلَى أَكْلِهَا.
(الثَّامِنُ: النَّطِيحَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا أُخْرَى فَتَمُوتُ مِنَ النِّطَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ عَمَلٌ فِي إِمَاتَتِهَا، كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَفِيهَا بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْمَنْطُوحَةِ، وَصِيغَةُ " فَعِيلٍ " إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى التَّاءِ، إِذْ تَقُولُ الْعَرَبُ: عَيْنٌ كَحِيلٌ، لَا: كَحِيلَةٌ، وَ: كَفٌّ خَضِيبٌ، لَا: خَضِيبَةٌ. وَقَدْ أَجَابَ
(التَّاسِعُ: مَا أَكَلَ السَّبُعُ) أَيْ: مَا قَتَلَهُ بَعْضُ سِبَاعِ الْوُحُوشِ كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ ; لِيَأْكُلَهُ، وَأَكْلُهُ مِنْهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلتَّحْرِيمِ، فَإِنَّ فَرْسَهُ إِيَّاهُ يُلْحِقُهُ بِالْمَيْتَةِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ بَعْضَ فَرَائِسِ السِّبَاعِ، وَهُوَ مِمَّا تَأْنَفُهُ أَكْثَرُ الطِّبَاعِ،
وَلَا يَزَالُ النَّاسُ يَعُدُّونَ أَكْلَهُ ذِلَّةً وَمَهَانَةً، وَإِنْ كَانُوا لَا يَخْشَوْنَ مِنْهُ ضَرَرًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حِلُّهَا عَلَى تَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهَا، أَيْ إِمَاتَتِهَا إِمَاتَةً شَرْعِيَّةً لِأَجْلِ أَكْلِهَا، أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَخِيرِ، وَهُوَ مَا أَكَلَ السَّبُعُ؟ أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ التَّحْرِيمِ دُونَ الْمُحَرَّمَاتِ ; يُقْصَدُ بِهِ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مَا ذُكِرَ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ; أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ مَا ذَكَّيْتُمُوهُ بِفِعْلِكُمْ مِمَّا يُذَكَّى؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ وَذِكْرِ الثَّالِثِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالثَّلَاثِ بَعْدَهَا ; لِأَنَّ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا شَأْنَ لِلتَّذْكِيَةِ فِيهِمَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ الصِّفَةَ الَّتِي هُوَ بِهَا قَبْلَ حَالِ مَوْتِهَا، فَيُقَالُ لِمَا قَرَّبَ الْمُشْرِكُونَ لِآلِهَتِهِمْ فَسَمَّوْهُ لَهُمْ: هُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَكَذَلِكَ الْمُنْخَنِقَةُ إِذَا انْخَنَقَتْ وَإِنْ لَمْ تَمُتْ فَهِيَ مُنْخَنِقَةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَا عَدَا مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ الْمُحَلِّلَةِ دُونَ الْمَوْتِ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ بِهِ مَوْصُوفًا. اهـ.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ سُؤَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَكَ فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِهِ مَا كَرَّرَ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَسَائِرُ مَا عَدَّدَ تَحْرِيمَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدِ افْتَتَحَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ شَامِلٌ كُلَّ مَيِّتٍ كَانَ مَوْتُهُ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ عِلَّةٍ بِهِ غَيْرَ جِنَايَةِ أَحَدٍ عَلَيْهِ؟ أَوْ كَانَ مَوْتُهُ مِنْ ضَرْبِ ضَارِبٍ إِيَّاهُ، أَوِ انْخِنَاقٍ مِنْهُ أَوِ انْتِطَاحٍ أَوْ فَرْسِ سَبُعٍ، وَهَلَّا كَانَ قَوْلُهُ - إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِالتَّحْرِيمِ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْمَيْتَةُ بِالِانْخِنَاقِ وَالنِّطَاحِ وَالْوَقْذِ وَأَكْلِ السَّبُعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ تَحْرِيمُهُ إِذَا تَرَدَّى
مَا ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ، وَتَعْدِيدِهِ مَا عَدَّدَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَكْرَارِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ إِذَا مَاتَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَوْصُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا لَا يَعُدُّونَ الْمَيْتَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا مَا مَاتَ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ بِهِ غَيْرَ الِانْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالِانْتِطَاحِ وَفَرْسِ السَّبُعِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللهُ أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ حُكْمُ مَا مَاتَ مِنَ الْعِلَلِ الْعَارِضَةِ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ مَوْتَهَا مِنْ عِلَّةِ مَرَضٍ أَوْ أَذًى كَانَ بِهَا قَبْلَ هَلَاكِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ يَذْبَحْهَا مَنْ أَحَلَّ ذَبِيحَتَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَحَلَّهَا بِهِ. اهـ.
وَقَدْ أَيَّدَ رَأْيَهُ هَذَا بِرِوَايَةٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا، قَالَ: هَذَا حَرَامٌ لِأَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ، وَلَا يَعُدُّونَهُ مَيِّتًا، إِنَّمَا يَعُدُّونَ الْمَيِّتَ الَّذِي يَمُوتُ مِنَ الْوَجَعِ، فَحَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا ذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَدْرَكُوا ذَكَاتَهُ وَفِيهِ الرُّوحُ. اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سِيَاقِهِ هَذَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْعِلَّةِ، وَبِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِلَفْظِ الذَّبْحِ بَدَلَ لَفْظِ التَّذْكِيَةِ الَّذِي هُوَ تَعْبِيرُ الْقُرْآنِ، وَالتَّذْكِيَةُ أَعَمُّ مِنَ الذَّبْحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَرَدِّيَةَ فِي بِئْرٍ إِذَا طُعِنَتْ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَمِّمَ لِمَوْتِهَا عُدَّ تَذْكِيَةً، وَحَلَّ أَكْلُهَا، وَمَا هُوَ بِالَّذِي يَجْهَلُ هَذَا، وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ الْغَالِبَ يُنْسِي الْإِنْسَانَ غَيْرَهُ أَحْيَانًا فَيُعَبِّرُ بِهِ وَقَدْ يُرِيدُ بِهِ الْمِثَالَ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ عِبَارَتِهِ هُوَ. وَأَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْمَيْتَةِ لُغَةً، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعَافُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يَعَافُ مِنْهَا إِلَّا مَا جَهِلَ سَبَبَ مَوْتِهِ، وَأَمَّا مَا عَرَفَ - كَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ - فَلَمْ يَكُونُوا يَعَافُونَهُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَحَلَّ أَكْلَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَسَائِرِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ: مَا دَبَّ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَا سَبَحَ فِي الْبَحْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ إِلَّا الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ. وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَذْبَحُ الْحَيَوَانَ عَلَى اسْمِ غَيْرِ اللهِ، وَهُوَ شِرْكٌ وَفِسْقٌ، وَبَعْضُهُمْ يَأْكُلُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْمَيْتَةِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْكُلُ كُلَّ مَيْتَةٍ، سَهَّلَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ عَدَمُهُ وَفَقْرُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ
وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ إِدْرَاكِ ذَكَاةِ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ عِنْدَ جُمْهُورِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، وَعَلَامَتُهَا انْفِجَارُ الدَّمِ وَالْحَرَكَةُ الْعَنِيفَةُ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيَانِ مَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: إِذَا طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ ضَرَبَتْ بِذَنَبِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عِنْدَهُ: إِذَا كَانَتِ الْمَوْقُوذَةُ تَطْرِفُ بِبَصَرِهَا أَوْ تَرْكُضُ - تَضْرِبُ - بِرِجْلِهَا أَوْ تَمْصَعُ بِذَنَبِهَا - تُحَرِّكُهُ - فَاذْبَحْ وَكُلْ. وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ قَالَ: فَكُلُّ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَهُنَا مَا خَلَا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إِذَا أَدْرَكْتَ مِنْهُ عَيْنًا تَطْرِفُ أَوْ ذَنَبًا يَتَحَرَّكُ أَوْ قَائِمَةً تَرْكُضُ فَذَكَّيْتَهُ فَقَدْ أَحَلَّ اللهُ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِذَا وَجَدْتَهَا تَطْرِفُ عَيْنَهَا أَوْ تُحَرِّكُ أُذُنَيْهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَهِيَ لَكَ حَلَالٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتَ ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ، وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا، فَكُلْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عِنْدَهُ أَيْضًا: إِذَا رَكَضَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ طَرَفَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ حَرَّكَتْ ذَنَبَهَا فَقَدْ أَجْزَى. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ هَذَا فَحَرَّمَ اللهُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا مَا ذُكِّيَ مِنْهُ، فَمَا أُدْرِكَ فَتَحَرَّكَ مِنْهُ رِجْلٌ أَوْ ذَنَبٌ أَوْ طَرَفَ، فَذُكِّيَ فَهُوَ حَلَالٌ. وَرُوِيَ الْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ السَّبُعِ يَعْدُو عَلَى الْكَبْشِ، فَيَدُقُّ ظَهْرَهُ، أَتَرَى أَنْ يُذَكَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَيُؤْكَلَ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ بَلَغَ السَّحْرَ فَلَا أَرَى أَنْ يُؤْكَلَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا أَصَابَ أَطْرَافَهُ، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، قِيلَ لَهُ: وَثَبَ عَلَيْهِ فَدَقَّ ظَهْرَهُ، قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي
أَنْ يُؤْكَلَ، هَذَا لَا يَعِيشُ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: فَالذِّئْبُ يَعْدُو عَلَى الشَّاةِ فَيَشُقُّ بَطْنَهَا، وَلَا يَشُقُّ الْأَمْعَاءَ، قَالَ: إِذَا شَقَّ بَطْنَهَا، فَلَا أَرَى أَنْ تُؤْكَلَ، (قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ) وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مَرْجُوحٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُهُ، وَقَدْ نَقَلْنَا عِبَارَتَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَحْثِ.
أَمَّا الذَّكَاءُ وَالذَّكَاةُ وَالتَّذْكِيَةُ وَالْإِذْكَاءُ فَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِتْمَامُ فِعْلٍ خَاصٍّ أَوْ تَمَامُهُ، لَا مُجَرَّدَ إِيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ وُقُوعِهِ، يُقَالُ: ذَكَتِ النَّارُ تَذْكُو ذَكْوًا وَذَكًا وَذَكَاءً: إِذَا تَمَّ اشْتِعَالُهَا،
أَقُولُ: ذِكْرُ الذَّبْحِ مِثَالٌ، وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِمَّا تَتِمُّ بِهِ الْإِمَاتَةُ ; كَنَحْرِ الْبَعِيرِ وَطَعْنِ الْمُتَرَدِّيَةِ فِي الْبِئْرِ وَالْحُفْرَةِ، وَخَنْقِ الْجَارِحِ الصَّيْدَ. وَالذَّكَاءُ: السِّنُّ - الْعُمُرُ - أَيْضًا. يُقَالُ: بَلَغَتِ الدَّابَّةُ الذَّكَاءَ أَيِ السِّنَّ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَعْمَارَهَا بِرُؤْيَةِ أَسْنَانِهَا، وَمِنْهُ: " جَرْي الْمُذْكِيَاتِ غِلَابٌ " وَهِيَ الْخَيْلُ تَمَّتْ قُوَّتُهَا، وَأَشْرَفَتْ عَلَى النَّقْصِ ; فَهِيَ تُغَالِبُ الْجَرْيَ مُغَالَبَةً، وَذَكَّى الرَّجُلُ - بِالتَّشْدِيدِ - أَسَنَّ وَبَدِنَ. وَفِي السِّنِّ مَعْنَى التَّمَامِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَتَأْوِيلُ تَمَامِ السِّنِّ النِّهَايَةُ فِي الشَّبَابِ، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ زَادَ فَلَا يُقَالُ لَهُ الذَّكَاءُ، وَالذَّكَاءُ فِي الْفَهْمِ: أَنْ يَكُونَ فَهْمًا سَرِيعَ الْقَبُولِ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي ذَكَاءِ الْفَهْمِ وَالذَّبْحِ: إِنَّهُ التَّمَامُ، وَإِنَّهُمَا مَمْدُودَانِ. اهـ. ثُمَّ نَقَلَ أَقْوَالًا عَنِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كَوْنِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ ذَكَاةً، وَذَكَرَ أَقْوَالَ بَعْضِهِمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ: وَأَصْلُ الذَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ إِتْمَامُ الشَّيْءِ ; فَمِنْ ذَلِكَ: الذَّكَاءُ فِي السِّنِّ وَالْفَهْمِ. اهـ.
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَزْقَ حَدِيدَةِ الْمِعْرَاضِ وَقَتْلَ الْكَلْبِ (وَنَحْوِهُ) لِلصَّيْدِ ذَكَاةً ; فَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ
فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ؛ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، قَالَ صَاحِبُ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ عِنْدَ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْكَلْبُ جَرْحًا أَوْ خَنْقًا، وَالْمِعْرَاضُ - كَمَا فِي اللِّسَانِ - بِالْكَسْرِ: سَهْمٌ يُرْمَى بِهِ بِلَا رِيشٍ وَلَا نَصْلٍ يَمْضِي عَرْضًا ; فَيُصِيبُ بِعَرْضِ الْعُودِ لَا بِحَدِّهِ. اهـ. وَإِنَّمَا يُصِيبُ بِحَدِّهِ، أَيْ طَرَفِ الْعُودِ الدَّقِيقِ الَّذِي يَخْزِقُ، أَيْ يَخْدِشُ، إِذَا كَانَ الصَّيْدُ قَرِيبًا كَمَا فِي شَرْحِ الْقَامُوسِ. وَقِيلَ: هُوَ خَشَبَةٌ ثَقِيلَةٌ فِي آخِرِهَا عَصً مُحَدَّدٌ رَأْسُهَا، وَقَدْ لَا يُحَدَّدُ، وَقَوَّى هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمِعْرَاضُ: عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ يَرْمِي بِهَا الصَّائِدُ، فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَهُوَ ذَكِيٌّ فَيُؤْكَلُ، وَمَا أَصَابَ بِغَيْرِ حَدِّهِ فَهُوَ وَقِيذٌ. اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، وَلَعَلَّ لِلْمِعْرَاضِ أَنْوَاعًا. وَالشَّاهِدُ أَنَّ خَدْشَ الْمِعْرَاضِ وَقَتْلَ الْكَلْبِ يُعَدُّ تَذْكِيَةً لُغَةً وَشَرْعًا ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ
وَلَمَّا كَانَتِ التَّذْكِيَةُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ لِصِغَارِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، هِيَ الذَّبْحُ - كَثُرَ التَّعْبِيرُ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ الْأَصْلَ وَظَنُّوا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ لِمَعْنًى فِيهِ، فَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ الذَّبْحِ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الدَّمَ مِنَ الْبَدَنِ الَّذِي يَضُرُّ بَقَاؤُهُ فِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِيهِ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِّيءِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تِلْكَ الشُّرُوطِ. وَإِنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فِي الطِّبِّ وَالشَّرْعِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَمَا أُحِلَّ الصَّيْدُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْجَارِحُ مَيِّتًا، وَصَيْدُ السَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ إِذَا خَزَقَ ; لِأَنَّ هَذَا الْخَزْقَ لَا يُخْرِجُ الدَّمَ الْكَثِيرَ كَمَا يُخْرِجُهُ الذَّبْحُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ كَانَ وَلَا يَزَالُ أَسْهَلَ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ; فَلِذَلِكَ اخْتَارُوهُ وَأَقَرَّهُمُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، كَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى صَيْدِ الْجَوَارِحِ وَالسَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اطَّلَعَ عَلَى طَرِيقَةٍ لِلتَّذْكِيَةِ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا ضَرَرَ فِيهَا - كَالتَّذْكِيَةِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ إِنْ
صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ فِيهَا - لَفَضَّلَهَا عَلَى الذَّبْحِ، لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرِيعَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَمِنْهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ بِالْوَقْذِ وَنَحْوِهِ، وَأُمُورُ الْعَادَاتِ فِي الْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَعَبَّدُ اللهُ النَّاسَ تَعَبُّدًا بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحْكَامُ الْعِبَادَةِ بِنُصُوصٍ مِنَ الشَّارِعِ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مُرَادُ الشَّارِعِ وَحِكْمَتُهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ إِلَّا بِفَهْمِ كُلِّ مَا وَرَدَ فِيهَا بِجُمْلَتِهِ، وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُ النَّاسِ عَلَى الشَّيْءِ مِنَ الْعَادَاتِ أَوِ اسْتِئْنَافُ الشَّارِعِ لَهَا حُجَّةً عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا، لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَيْفِيَّةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ، بَلْ هُنَالِكَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْوُجُوبِ كَالْتِزَامِ صِفَةِ مَسْجِدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ فَرْشُهُ وَوَضْعُ السُّرُجِ وَالْمَصَابِيحِ فِيهِ.
وَقَدْ تَأَمَّلْنَا مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي التَّذْكِيَةِ، فَفَقِهْنَا أَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ مِنْهَا اتِّقَاءُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَأَجَازَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَمَا مَرَاهُ أَوْ أَمْرَاهُ أَوْ أَمَرَّهُ، وَهُوَ دُونَ " أَنْهَرَهُ " فِي مَعْنَى إِخْرَاجِهِ أَوْ إِسَالَتِهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُحَدَّ الشِّفَارُ، وَأَلَّا يُقْطَعَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ، وَأَجَازَ النَّحْرَ وَالذَّبْحَ حَتَّى بِالظِّرَارِ ; أَيْ بِالْحِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَبِالْمَرْوِ، أَيِ الْحَجَرِ الْأَبْيَضِ، وَقِيلَ الَّذِي تُقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ، وَبِشَقِّ الْعَصَا، وَهَذَا دُونَ السِّكِّينِ غَيْرِ الْمُحَدَّدِ بِالشَّحْذِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مَا يُنَاسِبُهُمَا، فَإِذَا تَيَسَّرَ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ حَادٍّ لَا يَعْدِلُ إِلَى مَا دُونَهُ، وَإِذَا تَيَسَّرَ فِي الذَّبْحِ إِنْهَارُ الدَّمِ، يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَقَلَّ إِيلَامًا لَهُ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى مِثْلِ
(الْعَاشِرُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: نَصْبُ الشَّيْءِ: وَضْعُهُ وَضْعًا نَاتِئًا ; كَنَصْبِ الرُّمْحِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَجَرِ، وَالنَّصِيبُ الْحِجَارَةُ تُنْصَبُ عَلَى الشَّيْءِ، وَجَمْعُهُ نَصَائِبُ وَنُصُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَكَانَ لِلْعَرَبِ حِجَارَةٌ تَعْبُدُهَا وَتَذْبَحُ عَلَيْهَا، قَالَ: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٧٠: ٤٣). قَالَ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (٥: ٣) وَقَدْ يُقَالُ فِي جَمْعِهِ: أَنْصَابٌ. قَالَ: وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ (٥: ٩٠). اهـ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالنَّصْبُ (بِالْفَتْحِ) وَالنُّصْبُ (بِالضَّمِّ) وَالنُّصُبُ (بِضَمَّتَيْنِ) : الدَّاءُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّرُّ، وَفِي التَّنْزِيلِ: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٣٨: ٤١). وَالنَّصِيبَةُ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: كُلُّ مَا نُصِبَ فَجُعِلَ عَلَمًا. وَقِيلَ: النُّصُبُ جَمْعُ نَصِيبَةٍ كَسَفِينَةٍ وَسُفُنٍ، وَصَحِيفَةٍ وَصُحُفٍ. اللَّيْثُ: النُّصُبُ: جَمَاعَةُ النَّصِيبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٧٠: ٤٣) قُرِئَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ: النَّصَبُ بِالْفَتْحِ: الْغَايَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ قَرَأَ " إِلَى نَصَبٍ " بِالْفَتْحِ ; فَمَعْنَاهُ: إِلَى عَلَمٍ مَنْصُوبٍ يَسْبِقُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ " إِلَى نُصُبٍ " بِضَمَّتَيْنِ ; فَمَعْنَاهُ: إِلَى أَصْنَامٍ ; كَقَوْلِهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَجَمْعُهُ الْأَنْصَابُ، وَالْيَنْصُوبُ: عَلَمٌ يُنْصَبُ فِي الْفَلَاةِ. وَالنَّصَبُ وَالنُّصُبُ: كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ: أَنْصَابٌ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ: مَا نُصِبَ، فَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ النُّصُبُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يُحَرَّكُ مِثْلَ عُسُرٍ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالنُّصُبُ: الْأَوْثَانُ مِنَ الْحِجَارَةِ، جَمَاعَةُ أَنْصَابٍ كَانَتْ تُجْمَعُ فِي الْمَوْضِعِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقَرِّبُونَ لَهَا، وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، وَكَانَ ابْنُ جَرِيجٍ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ، وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَيْهِ: النُّصُبُ لَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، الصَّنَمُ يُصَوَّرُ وَيُنْقَشُ، وَهَذِهِ حِجَارَةٌ
ابْنِ جُرَيْجٍ بِمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: النُّصُبُ: حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ تَذْبَحُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُبَدِّلُونَهَا إِذَا شَاءُوا بِحِجَارَةٍ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: وَالنُّصُبُ حِجَارَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا فَنَهَى الله عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْصَابٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ وَيُهِلُّونَ عَلَيْهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُذْبَحُ بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ قَدْ يَكُونُ لِصَنَمٍ مِنَ الْأَصْنَامِ بَعِيدًا عَنْهُ وَعَنِ النُّصُبِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لَا بُدَّ أَنْ يُذْبَحَ عَلَى تِلْكَ الْحِجَارَةِ أَوْ عِنْدَهَا وَيُنْشَرُ لَحْمُهُ عَلَيْهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ عَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَرْبَعَةٌ بِالْإِجْمَالِ، وَكَمَا خَصَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَيْتَاتِ بِالذِّكْرِ بِسَبَبٍ خَاصٍّ مَعْرُوفٍ ; لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِاسْتِبَاحَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَهَا - خَصَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بِالذِّكْرِ لِإِزَالَةِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَحْوِهَا.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَهَا عَمَلًا آخَرَ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ ; فَقَالَ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا قُسِمَ لَكُمْ - أَوْ تَرْجِيحَ قِسْمٍ مِنْ مَطَالِبِكُمْ عَلَى قِسْمٍ - بِالْأَزْلَامِ كَمَا تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ كَمَا يَأْتِي، وَالزُّلَمُ - مُحَرَّكَةٌ - كَصُرَدٍ ; أَيْ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: قَدَحٌ لَا رِيشَ عَلَيْهِ وَسِهَامٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، جَمْعُهُ أَزْلَامٌ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا قِطَعٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السَّهْمِ إِلَّا أَنَّهَا لَا يُلْصَقُ عَلَيْهَا الرِّيشُ الَّذِي يُلْصَقُ عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ ; لِيَحْمِلَهُ الْهَوَاءُ، وَلَا يُرَكَّبُ فِيهَا النَّصْلُ الَّذِي يَجْرَحُ مَا يُرْمَى بِهِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتِ الْأَزْلَامُ ثَلَاثَةً مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا: " أَمَرَنِي رَبِّي " وَعَلَى الثَّانِي: " نَهَانِي رَبِّي " وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ زَوَاجًا أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَجَالَ هَذِهِ الْأَزْلَامَ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الزُلَمُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ " أَمَرَنِي رَبِّي " مَضَى لِمَا أَرَادَ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ " نَهَانِي رَبِّي " أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ (الْغُفْلُ الَّذِي لَا كِتَابَةَ عَلَيْهِ) : أَعَادَ الِاسْتِقْسَامَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ
الْحَسَنِ، قَالَ: كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ سَفَرًا
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ هُبَلُ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ سَبْعَةُ أَقْدَاحٍ كُلُّ قَدَحٍ مِنْهَا فِيهِ كِتَابٌ، أَيْ: (كِتَابَةُ شَيْءٍ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قَدَحٌ فِيهِ الْعَقْلَ (أَيْ دِيَةُ الْقَتِيلِ) إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ؟ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السَّبْعَةِ، وَقَدَحٌ فِيهِ " نَعَمْ " لِلْأَمْرِ إِذَا أَرَادُوهُ، يَضْرِبُ بِهِ (أَيْ: يُجَالُ فِي سَائِرِ الْقِدَاحِ) فَإِنْ خَرَجَ قَدَحُ " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، أَوْ قَدَحٌ فِيهِ " لَا " فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا فِي الْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقَدَحُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَقَدَحٌ فِيهِ " مِنْكُمْ " وَقَدَحٌ فِيهِ " مُلْصَقٌ " وَقَدَحٌ فِيهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ " وَقَدَحٌ فِيهِ الْمِيَاهُ ; إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ وَفِيهَا تِلْكَ الْقَدَّاحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا، أَوْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْكَحًا، أَوْ أَنْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا، أَوْ يَشُكُّوا فِي نَسَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِجَزُورٍ - بَعِيرٍ يُجْزَرُ - فَأَعْطَاهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا صَاحِبَهُمُ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا إِلَهَنَا، هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ. فَيَضْرِبُ فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مِنْ غَيْرِكُمْ " كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ " مُلْصَقٌ " كَانَ عَلَى مِيرَاثِهِ مِنْهُمْ، لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ، وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ سِوَى هَذَا مِمَّا يَعْمَلُونَ بِهِ: " نَعَمْ " عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ " لَا " أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ مَرَّةُ أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَتْ بِهِ الْقَدَّاحُ. اهـ.
وَالظَّاهِرُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِ الْكَهَنَةِ أَزْلَامٌ غَيْرُ السَّبْعَةِ الَّتِي عِنْدَ هُبَلَ، الَّتِي يَفْصِلُ فِيهَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّفُونَ قِسْمَتَهُمْ وَحَظَّهُمْ، أَوْ يُرَجِّحُونَ مَطَالِبَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِبِ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْأَزْلَامَ: بِكِعَابِ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَقْمُرُونَ بِهَا، وَسِهَامَ الْعَرَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَزْلَامُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَافْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، وَقَدْ زُلِمَتْ وَسُوِّيَتْ وَوُضِعَتْ فِي الْكَعْبَةِ يَقُومُ بِهَا سَدَنَةُ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ سَفَرًا
أَمَّا سَبَبُ تَحْرِيمِ الِاسْتِقْسَامِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا كَانَ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَمَا لَمْ يَكُنْ ; كَالزُّلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْمِلُهُمَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي رَحْلِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ بِهَا عِلْمَ الْغَيْبِ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، عَلَى أَنَّ جَعْلَ هَذَا مُحَرَّمًا وَعِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِرَدِّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا افْتِرَاءً عَلَى اللهِ إِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ " أَمَرَنِي رَبِّي " اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَهْلًا وَشِرْكًا إِنْ أَرَادُوا بِهِ الصَّنَمَ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَزْلَامِ لَا عَنْ كُلِّهَا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا قَدْ حُرِّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي لَا يَرْكَنُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا يَتْرُكُ عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أُلْعُوبَةً لِلْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ، وَيَتَفَاءَلُ وَيَتَشَاءَمُ بِمَا لَا فَأْلَ فِيهِ وَلَا شُؤْمَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ وَالْبُرْهَانِ، كَمَا أَبْطَلَ التَّطَيُّرَ وَالْكِهَانَةَ وَالْعِيَافَةَ وَالْعِرَافَةَ وَسَائِرَ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بِجَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَوْهَامِهَا.
وَمِمَّا يَجِبُ الِاعْتِبَارُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ صِغَارَ الْعُقُولِ كِبَارُ الْأَوْهَامِ فِي كُلِّ زَمَانٍ
وَمَكَانٍ، وَعَلَى عَهْدِ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، يَسْتَنُّونَ بِسُنَّةِ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ اسْتَقْسَمُوا بِمَا هُوَ مِثْلُهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُسَمُّونَ عَمَلَهُمْ هَذَا اسْمًا حَسَنًا، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَصْرِنَا هَذَا بِالِاسْتِقْسَامِ بِالسِّبَحِ وَغَيْرِهَا، وَيُسَمُّونَهُ اسْتِخَارَةً وَمَا هُوَ مِنْ الِاسْتِخَارَةِ الَّتِي وَرَدَ الْإِذْنُ بِهَا فِي شَيْءٍ، وَقَدْ يُسَمُّونَهُ أَخْذَ الْفَأْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ طَائِفَةً مِنْ حَبِّ السِّبْحَةِ وَيُحَوِّلُونَهُ حَبَّةً بَعْدَ أُخْرَى، يَقُولُونَ " افْعَلْ " عَلَى وَاحِدَةٍ، وَ " لَا تَفْعَلْ " عَلَى أُخْرَى، وَيَكُونُ الْحُكْمُ الْفَصْلُ لِلْحَبَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ كَلِمَاتٍ أُخْرَى بِهَذَا الْمَعْنَى، تَخْتَلِفُ كَلِمَاتُهُمْ كَمَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ كَلِمَاتُ سَلَفِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْمَعْنَى وَالْمَقْصِدُ وَاحِدٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْسِمُ بِوَرَقِ اللَّعِبِ الَّذِي يُقَامِرُونَ بِهِ أَحْيَانًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْفَأْلَ بِفُصُوصِ النَّرْدِ - الطَّاوِلَةِ - وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَدَوَاتِ اللَّعِبِ، وَفُصُوصُ النَّرْدِ هَذِهِ هِيَ كِعَابُ الْفُرْسِ الَّتِي أَدْخَلَهَا مُجَاهِدٌ فِي الْأَزْلَامِ، وَجَعَلَهَا كَسِهَامِ الْعَرَبِ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُؤَيِّدُ تَحْرِيمَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْسِمُ
وَلْيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ الْعَادَةَ وَالْإِلْفَ يَجْعَلَانِ الْبِدْعَةَ مَعْرُوفَةً كَالسُّنَّةِ، وَالسُّنَّةَ مُنْكَرَةً كَالْبِدْعَةِ، فَمَا حَاوَلَ أَحَدٌ إِمَاتَةَ بِدْعَةٍ أَوْ إِحْيَاءَ سُنَّةٍ، إِلَّا وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَا طَالَ الْعَهْدُ عَلَى بِدْعَةٍ، إِلَّا وَتَأَوَّلُوا لِفَاعِلِيهَا وَانْتَحَلُوا لَهَا مُسَوِّغًا مِنَ الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الِاسْتِقْسَامِ بِالسِّبَحِ وَغَيْرِهَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنَ الْفَأْلِ الْحَسَنِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُ
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ، وَمَا هُوَ مِنْهُ، إِنَّمَا الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيرَةِ الَّتِي نَفَتْهَا وَأَبْطَلَتْهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْإِنْسَانُ اسْمًا حَسَنًا أَوْ كَلِمَةَ خَيْرٍ، فَيَنْشَرِحَ لَهَا صَدْرُهُ وَيَنْشَطُ فِيمَا أَخَذَ فِيهِ، وَقِيلَ: يَكُونُ الْفَأْلُ فِي الْحَسَنِ وَالرَّدِيءِ. وَالطِّيَرَةُ بِوَزْنِ عِنَبَةٍ مَا يُتَشَاءَمُ بِهِ مِنَ الْفَأْلِ الرَّدِيءِ، هَذِهِ عِبَارَةُ الْقَامُوسِ، وَهِيَ مِنَ الطَّائِرِ ; إِذْ كَانُوا يَتَفَاءَلُونَ وَيَتَشَاءَمُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ حَتَّى صَارَ زَجْرُ الطَّيْرِ عِنْدَهُمْ صِنَاعَةً، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالطَّائِرُ الدِّمَاغُ، وَمَا تَيَمَّنْتَ بِهِ أَوْ تَشَاءَمْتَ. اهـ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طِيرَةَ " فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ يُبْطِلُ حَسَنَ الطِّيرَةِ وَرَدِيئَهَا ; لِأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا طَبْعًا، لَا فَرْقَ فِي التَّطَيُّرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَرَكَةِ الطَّيْرِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَهَذِهِ الطِّيرَةُ قَدِيمَةُ الْعَهْدِ فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَبْطَلَهَا اللهُ - تَعَالَى - قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ فِي مُجَادَلَتِهِ لِقَوْمِهِ (ثَمُودَ) فِي سُورَةِ النَّمْلِ، قَالَ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٢٧: ٤٧) وَالِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ أَوْ غَيْرِهَا شَرٌّ مِنَ التَّطَيُّرِ الَّذِي يَقَعُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ إِلَيْهِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ عَرَضًا لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، أَوْ تَأَثُّرِهِ بِأَحْوَالِ مَنْ تَرَبَّى بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ مَا يَسْعَى إِلَيْهِ مِنْهَا، وَيَسْتَثِيرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَجْعَلُهُ حَاكِمًا عَلَى قَلْبِهِ، فَيَعْمَلُ
وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الِاسْتِقْسَامِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخَارَةِ ; إِذِ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُ الدَّجَّالِينَ بِإِطْلَاقِ اسْمِهَا عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْقُرْعَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ قِيَاسِ الشَّيْطَانِ، وَالْحُكْمِ فِي دِينِ اللهِ بِالْهَوَى دُونَ بَيِّنَةٍ وَلَا سُلْطَانٍ.
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢: ١١١) لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (٨: ٤٢) قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (٦: ١٤٨) إِلَخْ. وَإِرْشَادُ الْقُرْآنِ، وَهَدْيُهُ فِي الْحَثِّ عَلَى الْأَخْذِ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ شُئُونَ الْإِنْسَانِ، وَلَمَّا كَانَتِ الدَّلَائِلُ وَالْبَيِّنَاتُ تَتَعَارَضُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهَا يَتَعَذَّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَيُرِيدُ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ فَلَا يَسْتَبِينُ لَهُ: آلْإِقْدَامُ عَلَيْهِ خَيْرٌ أَمْ تَرْكُهُ؟ فَيَقَعُ فِي الْحَيْرَةِ - جَعَلَتْ لَهُ السُّنَّةُ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِخَارَةِ حَتَّى لَا يَضْطَرِبَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَلَا تَطُولَ غُمَّتُهُ، وَذَلِكَ الْمَخْرَجُ هُوَ الِاسْتِخَارَةُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ بِأَنْ يُزِيلَ الْحَيْرَةَ وَيُهَيِّئَ وَيُيَسِّرَ لِلْمُسْتَخِيرِ الْخَيْرَ، وَجَدِيرٌ هَذَا بِأَنْ يَشْرَحَ الصَّدْرَ لِمَا هُوَ خَيْرُ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَنْ يَأْخُذُوا بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - مُبَيِّنًا لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ، فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَى أَحَدِهِمْ أَمْرٌ الْتَجَأَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا شَرَحَ صَدْرَهُ لِشَيْءٍ أَمْضَاهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَيْرَتِهِ، وَالْقُرْعَةُ تُشْبِهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْرُهَا أَظْهَرُ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ قَطْعًا، كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِلْزَامِ مَنْ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَأْخُذَ زَيْدٌ مِنْهُمَا هَذِهِ الْحِصَّةَ، وَعَمْرٌو الْأُخْرَى ; فَالْقُرْعَةُ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ عَادِلَةٌ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ.
وَالَّذِي صَحَّ فِي الِاسْتِخَارَةِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ (أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ) مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي
قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَالْخِلَافُ فِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ قَلِيلٌ ; كَأَرْضِنِي بِهِ مِنَ الْإِرْضَاءِ، وَرَضِّنِي مِنَ التَّرْضِيَةِ.
لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ إِشَارَةٌ مَا إِلَى مَعْنَى يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ وَلَا التَّفَاؤُلِ، بَلْ هِيَ أَمْرٌ بِعِبَادَةٍ وَدُعَاءٍ عِنْدَ الِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَنْسَى الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ - تَعَالَى - عِنْدَ اهْتِمَامِهِ بِالشَّأْنِ مِنْ شُئوُنِ الدُّنْيَا، وَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ فِقْهِ الِاسْتِخَارَةِ وَحِكْمَتِهَا فِي بَدْءِ الْكَلَامِ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ مَعْنَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا صَحِيحًا فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ، فِي عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِكَ فَإِنَّ الْخِيَرَةَ فِيهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ، لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى مَا كَانَ لَهُ فِيهِ هَوًى قَبْلَ الِاسْتِخَارَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ بَعْدَ مَا عَزَى الْحَدِيثَ إِلَى ابْنِ السُّنِّيِّ: لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ هُوَ الْمُعْتَمَدَ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ وَاهٍ جِدًّا. اهـ. أَقُولُ: وَآفَتُهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْبَرَاءِ، ضَعَّفُوهُ جِدًّا، بَلْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِيهِ: شَيْخٌ كَانَ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيُحَدِّثُ عَنِ الثِّقَاتِ بِالْمَوْضُوعَاتِ، لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَدْحِ فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذَلِكُمْ فِسْقٌ. ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَا رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَيْ كُلُّ مُحَرَّمٍ مِنْهَا خُرُوجٌ مِنْ طَاعَةِ اللهِ، وَرَغْبَةٌ عَنْ شَرْعِهِ، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. إِنَّنِي أَتَنَسَّمُ مِنْ وَضْعِ هَذَا الْخَبَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَرْتِيبِ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَيْهِ أَنَّ حِكْمَةَ الِاكْتِفَاءِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بِذِكْرِ مُحْرِمَاتِ الطَّعَامِ الْأَرْبَعَةِ الْوَارِدَةِ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَتَرْكِ تَفْصِيلِ مَا يَنْدَرِجُ فِيهَا مِمَّا كَرِهَهُ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ سَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ - هُوَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ وَالتَّشْدِيدِ فِيهَا، كَمَا كَانَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ; لِئَلَّا يَنْفِرَ الْعَرَبُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَيَرَوْنَ فِيهِ حَرَجًا عَلَيْهِمْ
يَرْجُونَ بِهِ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ. جَاءَ هَذَا التَّفْصِيلُ لِلْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْسِعَةِ اللهِ عَلَى أَهْلِهِ وَإِعْزَازِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ يَئِسَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ مِنْ نُفُورِ أَهْلِهِ مِنْهُ، وَفِرَارِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِهِ، وَزَالَ طَمَعُهُمْ فِي الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةِ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ أَجْدَرَ بِأَلَّا يُبَالُوا بِمُدَارَاتِهِمْ، وَلَا يَهْتَمُّوا بِمَا يُنَفِّرُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَأَلَّا يَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى دِينِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا نَبْدَأُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ حَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، بِذِكْرِ صَفْوَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنْ مَعْنَاهَا وَزَمَنِ نُزُولِهَا وَمَكَانِهِ. رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يَقُولُ: يَئِسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَبَدًا فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَاخْشَوْنِ: فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا كَانَ - أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَقُولُ: حَلَالَكُمْ وَحَرَامَكُمْ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ: مِنَّتِي فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَرَضِيتُ يَقُولُ: اخْتَرْتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ - أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -
قَالَ: أَخْبَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهُمُ الْإِيمَانَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا، وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُ أَبَدًا، وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرِ الْيَهُودِ أُنْزِلَتْ ; لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالُوا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَنَا عِيدًا وَالْيَوْمَ الثَّانِيَ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي يَوْمُ النَّحْرِ، فَأَكْمَلَ اللهُ لَنَا الْأَمْرَ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي انْتِقَاصٍ.
وَأَمَّا الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ فَهُوَ خُلُوصُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَهُمْ، وَإِجْلَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ حَتَّى حَجَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُمْ لَا يُخَالِطُهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةِ إِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ، وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِكْمَالِ بِإِكْمَالِ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ، وَمَا يُعَارِضُهُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فِي آيَةِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنَّهَا آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَنَقُولُ: لَا مُعَارَضَةَ فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهَا آخِرُ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّرْجِيحِ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ قُبِضَ، وَكَوْنِهِ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَكْثَرَ مَا كَانَ تَتَابُعًا، وَجَعَلَ مِنْهُ آيَةَ الْفَتْوَى فِي الْكَلَالَةِ، وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَمْنَعُونَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ آيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا يَمْنَعُونَ غَيْرَهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ فَرَائِضُ وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَبِهَذَا يُبْطِلُ تَرْجِيحُهُ إِثْبَاتَ نُزُولِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى نَفْيِهِ بِتَقْدِيمِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي.
وَقَدْ كَانَ قَدَّمَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ; إِذْ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فَرَائِضِي عَلَيْكُمْ وَحُدُودِي وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ وَنَهْيِي وحلَالِي وَحَرَامِي وَتَنْزِيلِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَنْزَلْتُ مِنْهُ فِي كِتَابِي، وَتِبْيَانِي مَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مِنْهُ بِوَحْيِي عَلَى لِسَانِ رَسُولِي، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي نَصَبْتُهَا لَكُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا بِكُمُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، فَأَتْمَمْتُ لَكُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَلَا زِيَادَةَ فِيهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَارِيخَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ
وَأَمَّا مُفَسِّرُو الْخَلَفِ فَقَدْ نَظَرُوا فِي الْآيَةِ نَظَرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ الظَّاهِرِ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ وَكُلِّ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ; فَأَرَادُوا دَفْعَ ذَلِكَ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ مَا فِي مَفْهُومِ الْإِكْمَالِ مِنْ سَبْقِ النَّقْصِ ; فَأَرَادُوا التَّفَصِّيَ مِنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى قَوْلٍ جَامِعٍ فِي الْأَمْرَيْنِ، تَبِعَهُ فِيهِ الْبَيْضَاوِيُّ وَالرَّازِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِمْ، قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ كَفَيْتُكُمْ أَمْرَ عَدُوِّكُمْ، وَجَعَلْتُ الْيَدَ الْعُلْيَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ الْمُلُوكُ: الْيَوْمَ كَمُلَ لَنَا الْمُلْكُ وَكَمُلَ لَنَا مَا نُرِيدُ، إِذَا كُفُوا مَنْ يُنَازِعُهُمُ الْمُلْكَ وَوَصَلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، أَوْ أَكْمَلْتُ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَكْلِيفِكُمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالتَّوْقِيفِ
عَلَى الشَّرَائِعِ وَقَوَانِينِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِ الِاجْتِهَادِ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِفَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِهَا آمِنِينَ ظَاهِرِينَ، وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَأَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، أَوْ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَتَمُّ مِنْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ. اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِهَادِ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَبِإِكْمَالِ الدِّينِ، أَوْ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَهَدْمِ مَنَارِ الْجَاهِلِيَّةِ. اهـ.
وَتَبِعَهُمَا فِي ذَلِكَ أَبُو السُّعُودِ بِاللَّفْظِ وَالْفَحْوَى، قَالَ: وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ تَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: دِينَكُمْ لِلْإِيذَانِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِأَنَّ الْإِكْمَالَ لِمَنْفَعَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (٩٤: ١) وَشَرَحَ الرَّازِيُّ احْتِجَاجَ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ بِالْآيَةِ وَرَدَّ مُثْبِتِيهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّدُّ مَبْنِيٌّ عَلَى إِثْبَاتِ الِاجْتِهَادِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ، وَاعْتَمَدَ فِي مَسْأَلَةِ إِكْمَالِ الدِّينِ مِنْ أَوَّلِهِ قَوْلَ الْقَفَّالِ أَنَّ كُلَّ مَا نَزَلَ فِي وَقْتٍ كَانَ كَافِيًا لِأَهْلِهِ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْإِكْمَالَ فِي الْآيَةِ هُوَ إِكْمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى يَوْمِ السَّاعَةِ.
(إِكْمَالُ الدِّينِ بِالْقُرْآنِ)
لَمْ أَرَ لِعَالَمٍ مِنْ حُكَمَاءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى اللَّخْمِيِّ الشَّاطِبِيِّ الْغِرْنَاطِيِّ، فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ (الْمُوَافِقَاتِ) الَّذِي لَمْ يُؤَلَّفْ مِثْلَهُ فِي أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَحِكْمَتِهِ، وَمِنْ أَوْسَعِ كَلَامِهِ فِيهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ " الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نُلَخِّصَهُ هُنَا تَلْخِيصًا، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي (الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ) مِنْهُ:
مِنْ شَيْءٍ (٦: ٣٨) وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (١٧: ٩) يَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ، وَلَوْ لَمْ يُكْمِلْ فِيهِ جَمِيعَ مَعَانِيهَا - أَيِ الشَّرِيعَةِ - لَمَا صَحَّ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُدًى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَلَا يَكُونُ شِفَاءً لِجَمِيعِ مَا فِي الصُّدُورِ إِلَّا وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ. وَمِنْهَا مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْمُؤْذِنَةِ بِذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، إِلَخْ ; فَكَوْنُهُ حَبْلَ اللهِ بِإِطْلَاقٍ وَالشِّفَاءَ النَّافِعِ إِلَى تَمَامِهِ، دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ كُلَّ مُؤَدِّبٍ يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى أُدُبَهُ، وَأَنَّ أُدُبَ اللهِ الْقُرْآنُ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَصِدْقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٦٨: ٤).
ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ طَائِفَةً مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَأْيِيدِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ:
" وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْقَوَاعِدِ غَيْرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي السُّنَّةِ، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ " وَهَذَا ذَمٌّ وَمَعْنَاهُ اعْتِمَادُ
وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلَمَّا قَبَضَهُ اللهُ - تَعَالَى - فَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ. وَمِثْلُهُ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا (٣٣: ٣٦) الْآيَةَ. يُقَالُ: إِنَّ السُّنَّةَ يُؤْخَذُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا بَيَانٌ لِكِتَابِ اللهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْكِتَابِ فَفِي أَحَدِ قِسْمَيْهَا ; فَالْقِسْمُ الْآخَرُ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَقِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابَ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ إِلَّا كِتَابُ اللهِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا أَصَّلْتَ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ بِحَوْلِ اللهِ. اهـ.
ثُمَّ قَالَ فِي (الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ) مِنْ مَسَائِلِ الدَّلِيلِ الثَّانِي (السُّنَّةُ) مَا نَصُّهُ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا وَعَدَ بِهِ:
" رُتْبَةُ السُّنَّةِ التَّأَخُّرُ عَنِ الْكِتَابِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ (أَحَدُهَا) : أَنَّ الْكِتَابَ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالسُّنَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْقَطْعُ فِيهَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَظْنُونِ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ عَلَى السُّنَّةِ.
(وَالثَّانِي) : أَنَّ السُّنَّةَ إِمَّا بَيَانٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيَانًا كَانَ ثَانِيًا عَلَى الْمُبِينِ فِي الِاعْتِبَارِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمُبِينِ سُقُوطُ الْبَيَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْبَيَانِ سُقُوطُ الْمُبِينِ، وَمَا شَأْنُهُ هَذَا فَهُوَ أَوْلَى فِي التَّقَدُّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا فَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بَعْدَ أَلَّا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ.
(وَالثَّالِثُ) : مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ ; كَحَدِيثِ مُعَاذٍ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ " قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي " الْحَدِيثَ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: إِذَا أَتَاكَ
أَمْرٌ فَاقْضِ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ قَالَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ، وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِهِ. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ، وَمَا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ رَاجِعٌ إِلَى تَقَدُّمِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ عَلَى اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِ السُّنَّةِ، وَقَدْ لَا يُخَالِفُ غَيْرُهُمْ فِي مَعْنَى تِلْكَ التَّفْرِقَةِ " وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ كَالْكِتَابِ فِي مَرَاتِبِ الِاعْتِبَارِ ".
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَتَأْتِي السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، فَيُرْجَعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَيُتْرَكُ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَمْرًا، فَتَأْتِي السُّنَّةُ فَتُخْرِجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ السُّنَّةِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهَا تُقَيِّدُ مُطْلَقَهُ، وَتَخُصُّ عُمُومَهُ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ ; فَالْقُرْآنُ آتٍ بِقَطْعِ يَدِ كُلِّ سَارِقٍ فَخَصَّتِ السُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ سَارِقَ النِّصَابِ الْمُحَرَّزِ، وَأَتَى بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ظَاهِرًا ; فَخَصَّتْهُ السُّنَّةُ بِأَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (٤: ٢٤) فَأَخْرَجَتْ مِنْ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. فَكُلُّ هَذَا تَرْكٌ لِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، وَتَقْدِيمٌ لِلسُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْصَى كَثْرَةً.
" وَأَمَا ثَانِيًا: فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِذَا تَعَارَضَا، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ هَلْ يُقَدَّمُ
الْكِتَابُ عَلَى السُّنَّةِ أَمْ بِالْعَكْسِ أَمْ هُمَا مُتَعَارِضَانِ؟ وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُ خِلَافُ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَا تَضْعُفُ فِي الدَّلَالَةِ عَنْ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ مَعَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ ; وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ، وَتَأَوَّلُوا التَّقْدِيمَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى الْبِدَايَةِ بِالْأَسْهَلِ الْأَقْرَبِ وَهُوَ الْكِتَابُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَلَا وَجْهَ لِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْكِتَابِ بَلِ الْمُتَّبَعُ الدَّلِيلُ.
" وَأَمَّا خِلَافُ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّعَارُضِ، فَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا اسْتَنَدَ إِلَى قَاعِدَةٍ مَقْطُوعٍ بِهَا فَهُوَ فِي الْعَمَلِ مَقْبُولٌ، وَإِلَّا فَالتَّوَقُّفُ، وَكَوْنُهُ مُسْتَنِدًا إِلَى مَقْطُوعٍ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ جُزْئِيٌّ تَحْتَ مَعْنًى قُرْآنِيٍّ كُلِّيٍّ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ هُنَالِكَ، فَإِذَا عَرَضْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، وَجَدْنَا الْمُعَارَضَةَ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مُعَارَضَةَ أَصْلَيْنِ قُرْآنِيَّيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ مُعَارَضَةِ كِتَابٍ مَعَ سُنَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّعَارُضُ إِلَّا مِنْ تَعَارُضِ قَطْعِيَّيْنِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَنِدِ الْخَبَرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَطْعِيَّةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ عَلَى الْخَبَرِ بِإِطْلَاقٍ.
" وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ تَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ، إِنَّمَا غَالِبُهُ فَرْضُ أَمْرٍ جَائِزٍ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُ فِي الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَقْضِي بِتَوَاتُرِهِ إِلَى زَمَنِ الْوَاقِعَةِ، فَالْبَحْثُ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ أَوْ نَادِرِ الْوُقُوعِ، وَلَا كَبِيرَ جَدْوَى فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : السُّنَّةُ رَاجِعَةٌ فِي مَعْنَاهَا إِلَى الْكِتَابِ ; فَهِيَ تَفْصِيلُ مُجْمَلِهِ، وَبَيَانُ مُشْكَلِهِ، وَبَسْطُ مُخْتَصَرِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١٦: ٤٤) فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ أَمْرًا إِلَّا وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ دَلَالَةً إِجْمَالِيَّةً أَوْ تَفْصِيلِيَّةً، وَأَيْضًا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبُوعٌ لَهَا ; فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ اللهَ قَالَ: وَإِنَّكَ لِعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٦٨: ٤) وَفَسَّرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِأَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ، وَاقْتَصَرَتْ فِي خُلُقِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَإِقْرَارَهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْخُلُقَ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ حَاصِلَةً فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوَّلُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٦: ٣٨) وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٥: ٣)
ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ الشُّبَهَاتِ عَلَى هَذَا مَعَ رَدِّهَا، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ أَوْجُهٍ:
(١) الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْكِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَخْذِ مَا أَعْطَى وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، وَحَذَّرَ الْمُخَالِفَةَ عَنْ أَمْرِهِ.
(٢) الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ تَرْكِ السُّنَّةِ.
(٣) الِاسْتِقْرَاءُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ; كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
(٤) " إِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْكِتَابِ رَأْيُ قَوْمٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ خَارِجِينَ عَنِ السُّنَّةِ ; إِذْ عَوَّلُوا عَلَى مَا بَنَيْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْكِتَابَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَطْرَحُوا أَحْكَامَ السُّنَّةِ، فَأَدَّاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الِانْخِلَاعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ. وَأَوْرَدَ بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَتَكَلَّمَ عَنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا. وَمُلَخَّصُ الْجَوَابِ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ تُطَاعُ لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، فَطَاعَةُ اللهِ الْعَمَلُ بِكِتَابِهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ الْعَمَلُ بِمَا بَيَّنَ بِهِ كِتَابَ اللهِ - تَعَالَى - قَوْلًا أَوْ عَمَلًا أَوْ حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ بَيَانًا لَهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَا فِي السُّنَّةِ مِنَ التَّفْصِيلِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْإِجْمَالِيَّةِ وَإِنْ كَانَ تَتَرَاءَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ الْمُجْمَلَةِ فِي الْقُرْآنِ، الْمُفَصَّلَةِ فِي السُّنَّةِ، وَلَكِنَّنَا عَلِمْنَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ مُجْمَلَةً. وَمُلَخَّصُ الْجَوَابِ عَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ خُرُوجَ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ عَنِ السُّنَّةِ لِمَكَانِ اتِّبَاعِهِمُ الرَّأْيَ وَالْهَوَى، وَإِطْرَاحِهِمُ السُّنَنَ الْمُبَيِّنَةَ لِلْقُرْآنِ ; يَعْنِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَيَانَهُمْ لَهُ أَوْلَى مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ مُبَيِّنًا لَهُ. وَقَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ السُّنَّةُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ وَلَا مُوَافَقَةٌ، بَلْ بِمَا يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا إِذَا قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْجَائِزِ، وَهُوَ الَّذِي تَرْجَمَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَحِينَئِذٍ، لَا بُدَّ فِي كُلِّ حَدِيثٍ مِنَ الْمُوَافَقَةِ لِكِتَابِ اللهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ; فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ صَحَّ سَنَدُهُ أَوَّلًا ; أَيْ فَهَذَا الْأَمْرُ الْجَائِزُ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ وُجُوبُ مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ عَرْضِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَطَالَ فِي تَأْيِيدِهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَقَدْ عَقَدَ لَهُ مَسْأَلَةً خَاصَّةً (وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) اسْتَغْرَقَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةً مِنَ الْكِتَابِ، بَيَّنَ فِيهَا بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْثِلَةِ وَالشَّوَاهِدِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي السُّنَّةِ
أَمَّا الْمَسْلَكُ الَّذِي سَلَكَهُ (الشَّاطِبِيُّ) فِي إِرْجَاعِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ ; فَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْقُرْآنِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالتَّحْسِينَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا فِي السُّنَّةِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَضَرَبَ الْأَمْثِلَةَ فِي الضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعَقْلِ وَالْعِرْضِ، وَقَالَ: " وَيُلْحَقُ بِهَا مُكَمِّلَاتُهَا وَالْحَاجَاتُ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا مُكَمِّلَاتُهَا، وَلَا زَائِدَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ - أَيْ مِنْ كِتَابِهِ
هَذَا - وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى السُّنَّةِ وَجَدْنَاهَا لَا تَزِيدُ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ ; فَالْكِتَابُ أَتَى بِهَا أُصُولًا يُرْجَعُ إِلَيْهَا، وَالسُّنَّةُ أَتَتْ بِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الْكِتَابِ وَبَيَانًا لِمَا فِيهِ مِنْهَا، فَلَا تَجِدُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا مَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْحَاجَاتِ تَدُورُ عَلَى قُطْبِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ وَالرِّفْقِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ، وَأَنَّ التَّحْسِينَاتِ كَالْحَاجَاتِ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْآدَابِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَأَصْلُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهَا كَذَلِكَ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ فِي الْفَهْمِ، وَأَشْفَى فِي الشَّرْحِ، وَبَيَّنَ مَسْلَكَ السُّنَّةِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ وَالْقِيَاسِ عَلَى أُصُولِهِ وَعِلَلِهِ ; لِحِفْظِ مَقَاصِدِهَا وَبَيَانِهَا لِلنَّاسِ وَأَخْذِ الْمَعْنَى الْعَامِّ مِنْ مَجْمُوعِ أَدِلَّتِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَفِقْهِ مَقَاصِدِهِ مِنْهَا.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْثِلَةَ لَهُ، مِثَالٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَصْلِ حِفْظِ الْمَالِ: وَلَهُ أَمْثِلَةٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، حَرَّمَ الرِّبَا وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ: " إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا " هُوَ فَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، يَقُولُ الطَّالِبُ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ. وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (٢: ٢٧٩) فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْعُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، أَلْحَقَتِ السُّنَّةُ بِهِ كُلَّ مَا فِيهِ زِيَادَةٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى. وَذَكَرَ حَدِيثَ بَيْعِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَمْثِلَةِ كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا ذَكَرَهُ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِهِ.
وَقَالَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: (فَصْلٌ) وَقَدْ ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَمَّا أَوْرَدُوا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يَتَنَاوَلُ مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِي مَنْ يَطْرَحُ السُّنَّةَ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا لَمْ نَدَّعِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ هُوَ رَأْيُ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ
أَقُولُ: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَ بَعْضَهُ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ كُلِّهِ فِي الْحُجَجِ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى قَاعِدَتِهِ هُوَ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، بِلَفْظٍ: يُوشِكُ أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ ; فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ، فِيهِ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِكَثْرَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا، وَتَكَلَّمُوا فِي أَحَادِيثَ لَهُ عَنْ سُفْيَانَ تُسْتَغْرَبُ، وَقَدْ تَرَكَهُ الشَّيْخَانِ لِذَلِكَ، وَاللَّفْظُ الْآخَرُ: لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي ; مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُبَاحَاتِ لِكَرَاهَتِهِ لَا لِتَحْرِيمِهِ، أَوْ لِلْمَنْعِ مِنْهُ مُؤَقَّتًا لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ، وَيُوشِكُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ السِّبَاعِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَعَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ الْإِذْنِ بِأَكْلِ الْخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الثَّانِي، لَوْلَا مَا رُوِيَ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَمِثَالُ الْعِلَّةِ الْعَارِضَةِ: قِلَّةُ الشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا تَنْهَى بَعْضُ الْحُكُومَاتِ أَحْيَانًا عَنْ بَيْعِ الْخَيْلِ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ، أَوْ عَنْ ذَبْحِ الْبَقَرِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْفِلَاحَةِ. وَقَدْ يَرِدُ الْحَدِيثُ بِلَفْظَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: لَفْظُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ: لَفْظٌ بِمَعْنَاهُ بِحَسْبِ فَهْمِ الرَّاوِي، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَوَى أَحَدَهُمَا بِالْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ الْمَرْوِيَّ بِالْمَعْنَى يَجُوزُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ مُعَارِضًا لِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا حَصَرَهَا فِيهِ الْقُرْآنُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مَا عَدَا الْبُخَارِيَّ، وَأَبَا دَاوُدَ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، وَلَعَلَّ مَالِكًا كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ هَذَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ قَوْلٌ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَوْلٌ
بِإِبَاحَتِهَا، وَقَدْ فَاتَ هَذَا صَاحِبَ الْمُوَافِقَاتِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَسْأَلَةِ السِّبَاعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَكْمَلَ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ وَبَيَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ مَا نَزَّلَ إِلَيْهِمْ فِيهِ، فَمَا صَحَّ مِنْ بَيَانِهِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا بَعْدَ سُنَّتِهِ نُورٌ يُهْتَدَى بِهِ فِي
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي إِكْمَالِ الدِّينِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ فِيهِ عَقَائِدُهُ وَأَحْكَامُهُ وَآدَابُهُ (الْعِبَادَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ، وَالْمُعَامَلَاتُ بِالْإِجْمَالِ وَنَوْطُهَا بِأُولِي الْأَمْرِ) وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ ; أَمْرِ الْقُوَّةِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ، قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ (٥: ٣) وَيَزِيدُهُ تَقْرِيرًا وَتَأْكِيدًا قَوْلُهُ: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (٥: ٣) وَلَوْلَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ جُمْلَتُهُ وَمَجْمُوعُهُ لَمَا قَالَ: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٥: ٣). فَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ كَيْفَ أَذْهَلَهُ مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ تَعَارُضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ هَذَا النَّصِّ!.
هَذَا وَإِنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ اللهَ أَكْمَلَهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا، أَثْبَتُ وَأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا بَعْدَ الْكَمَالِ إِلَّا النَّقْصُ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ الدِّينَ نَفْسَهُ، وَعُمَرَ أَرَادَ قُوَّةَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ ; إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ هُوَ مُرَادُ عُمَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ قُرْبَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ الِاضْطِرَارُ هُوَ دَفْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ إِلْجَاؤُهُ إِلَيْهِ ; فَهُوَ صِيغَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الضِّيقُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، فَالِاضْطِرَارُ تَكَلُّفُ مَا يَضُرُّ بِمُلْجِئٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا
حَاصِلًا أَوْ مُتَوَقَّعًا يُلْجِئُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: " ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ " الثَّابِتَةِ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَفْسِهِ ; كَإِكْرَاهِ بَعْضِ الْأَقْوِيَاءِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ (٢: ١٢٦) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرَرُ الْمُلْجِئُ فِيهِ هُوَ: الْمَخْمَصَةُ، أَيِ الْمَجَاعَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمْصِ الْبَطْنِ، أَيْ ضُمُورِهِ لِفَقْدِ الطَّعَامِ، فَالْجُوعُ ضَرَرٌ يَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى تَكَلُّفِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعَافُهَا طَبْعًا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا لَوْ تَكَلَّفَ أَكْلَهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا عِلَّةٌ أَمْ لَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَأَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ أَيُّ جُوعٍ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ مُطْلَقًا، بَلِ الْجُوعُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَعَهُ الْجَائِعُ شَيْئًا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ إِلَّا الْمُحَرَّمَ مِمَّا ذُكِرَ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ مِمَّا ذُكِرَ حَالَ كَوْنِهِ فِي مَجَاعَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، لَا يَجِدُ مَنْفَذًا مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ، وَحَالَ كَوْنِهِ: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ: غَيْرَ جَائِرٍ فِيهِ أَوْ مُتَمَايِلٍ إِلَيْهِ مُتَعَمِّدٍ لَهُ، فَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ، وَيَصْدُقُ بِالْمَيْلِ إِلَى الْأَكْلِ ابْتِدَاءً، وَبِالْجَوْرِ فِيهِ بِأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ:
الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَآيَاتِ الْكِتَابِ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُظْهِرُونَ أَسْرَارَ خَلْقِ اللهِ وَحِكَمِهِ
فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا يَضُرُّهُمْ. وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ الْفِطْرَةِ وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّةِ وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ دَأْبُهُمُ الْجِنَايَةُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ، وَالتَّصَدِّي أَحْيَانًا لِفِعْلِ مَا يَضُرُّهُمْ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ، وَحَرَّمَتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ بِأَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ ; كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِبَيَانِ مَا يُحِلُّهُ اللهُ مِمَّا حَرَّمُوهُ، بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ مِمَّا أَحَلُّوهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ إِلَخْ ; أَيْ يَسْأَلُكَ الْمُؤْمِنُونَ أَيُّهَا الرَّسُولُ: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ اللُّحُومِ خَاصَّةً؟ وَالسُّؤَالُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَهُمْ لَا: " لَنَا " مُرَاعَاةً لِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي يَسْأَلُونَكَ وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ كَمَا هُنَا، وَمُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، يَقُولُونَ: أَقْسَمَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، وَ: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا السُّؤَالِ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أَبَا رَافِعٍ بِقَتْلِ الْكِلَابِ فِي الْمَدِينَةِ جَاءَ النَّاسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ صَيْدِ الْكِلَابِ، وَأَكْلِ مَا أَمْسَكْنَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَزَيْدَ بْنَ مُهَلْهَلٍ الطَّائِيَّيْنِ، سَأَلَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ حَرَّمَ اللهُ الْمَيْتَةَ فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ الطَّيِّبُ: ضِدُّ الْخَبِيثِ، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ (٥: ١٠٠) وَقَدِ اسْتُعْمِلَا فِي الْأَنَاسِيِّ وَالْأَشْيَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ (٣٤: ١٥) قَالَ الرَّاغِبُ: الْمُخْبَثُ وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَمْ مَعْقُولًا، وَأَصْلُهُ: الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الْجَارِي مَجْرَى خُبْثِ الْحَدِيدِ. اهـ. وَقَالَ فِي الْحَرْفِ الْآخَرِ: وَأَصْلُ الطَّيِّبِ مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ، وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ. اهـ. فَجَعَلَ الطَّيِّبَ أَخَصَّ مِنْ مُقَابِلِهِ فِي بَابِهِ، وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَاهُ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ هِيَ مَا تَسْتَطِيبُهُ النُّفُوسُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةُ الْمَعِيشَةِ، بِمُقْتَضَى طَبْعِهَا، فَتَأْكُلُهُ بِاشْتِهَاءٍ، وَمَا أَكَلَهُ الْإِنْسَانُ بِاشْتِهَاءٍ هُوَ الَّذِي يُسِيغُهُ وَيَهْضِمُهُ بِسُهُولَةٍ، فَيَتَغَذَّى بِهِ غِذَاءً صَالِحًا، وَمَا يَسْتَخْبِثُهُ وَيَعَافُهُ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ هَضْمُهُ، وَلَا يَنَالُ مِنْهُ غِذَاءً صَالِحًا، بَلْ يَضُرُّهُ غَالِبًا فَمَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ خَبِيثٌ بِشَهَادَةِ اللهِ الْمُوَافَقَةِ لِفِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَمَا زَالَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ يَعَافَوْنَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَمَا مِثْلُهَا مِنْ فَرَائِسِ السِّبَاعِ وَالْمُتَرَدِّيَاتِ وَالنَّطَائِحِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَأَمَّا لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّمَا يَعَافُهُ مَنْ يَعْرِفُ ضَرَرَهُ وَانْهِمَاكَهُ فِي أَكْلِ الْأَقْذَارِ. وَ " الْجَوَارِحُ ": جَمْعُ جَارِحَةٍ، وَهِيَ الصَّائِدَةُ مِنَ الْكِلَابِ وَالْفُهُودِ وَالطُّيُورِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سُمِّيَتِ الصَّوَائِدُ جَوَارِحَ مِنَ الْجَرْحِ، بِمَعْنَى الْكَسْبِ ; فَهِيَ كَالْكَاسِبِ مِنَ النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (٦: ٦٠) أَيْ: كَسَبْتُمْ، وَقِيلَ: مِنَ الْجَرْحِ: بِمَعْنَى الْخَدْشِ، أَيْ إِنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَجْرَحَ مَا تَصِيدُهُ. وَ " مُكَلِّبِينَ " اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّكْلِيبِ، وَهُوَ تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ وَتَأْدِيبُهَا وَإِضْرَاؤُهَا بِالصَّيْدِ، وَأَصْلُهُ تَعْلِيمُ الْكِلَابِ، غُلِّبَ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَلَبِ بِالتَّحْرِيكِ، بِمَعْنَى الضَّرَاوَةِ، يُقَالُ: هُوَ كَلِبٌ - كَكَتِفٍ - بِكَذَا، إِذَا كَانَ ضَارِيًا بِهِ، وَمَوْضِعُ مُكَلِّبِينَ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ، أَيْ: أَنْتُمْ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ، أَيْ مِمَّا أَلْهَمَكُمُ اللهُ إِيَّاهُ وَهَدَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَرْوِيضِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِتَعْلِيمِهَا، وَمَا أَلْهَمَكُمْ ذَلِكَ الِانْتِفَاعَ إِلَّا وَهُوَ يُبِيحُهُ لَكُمْ، وَنُكْتَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا حَالِيَّةٌ مُرَاعَاةُ اسْتِمْرَارِ تَعَاهُدِ الْجَوَارِحِ بِالتَّعْلِيمِ ; لِأَنَّ إِغْفَالَهَا يُنْسِيهَا مَا تَعَلَّمَتْ، فَتَصْطَادُ لِنَفْسِهَا وَلَا تُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَإِمْسَاكُهَا عَلَيْهِ
- تَعَالَى - أَظْهَرُ مِمَّا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ الْمُبَالَغَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا فَنُكْتَتُهَا تَذْكِيرُ النَّاسِ بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيمِ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي مَزْجِ الْأَحْكَامِ بِمَا يُغَذِّي التَّوْحِيدَ وَيُنَمِّي الِاعْتِرَافَ بِفَضْلِ اللهِ وَشُكْرِ نِعَمِهِ. وَغَايَةُ تَعْلِيمِ الْجَارِحِ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ بِإِغْرَاءِ مُعَلِّمِهِ أَوِ الصَّائِدِ بِهِ، وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَيَنْزَجِرَ بِزَجْرِهِ، وَيُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كُلِّهَا، وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ بِشَرْطِهِ. أَمَّا الطَّيِّبَاتُ فَظَاهِرُ الْحَصْرِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ طَيِّبٌ فَهُوَ حَلَالٌ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ مَا هُوَ خَبِيثٌ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ طَيِّبٌ حِلٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ ; كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْبَحْرُ فَكُلُّ حَيَوَانِهِ يُصَادُ، وَأَمَّا الْبَرُّ فَإِنَّمَا يُصَادُ مِنْهُ لِلْأَكْلِ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ الْغَالِبِ، مَا عَدَا سِبَاعَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، فَتَكُونُ هَذِهِ السِّبَاعُ حَرَامًا، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. وَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، مَا عَدَا التِّرْمِذِيَّ فِي الْأَوَّلِ، وَأَبَا دَاوُدَ فِي الثَّانِي. وَمَنْ أَخَذَ بِالْحَصْرِ فِي الْآيَتَيْنِ جَعَلَ النَّهْيَ عَمَّا ذُكِرَ نَهْيَ كَرَاهَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَهُ. وَالسَّبُعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: مَا يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ ; فَيَخْرُجُ الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَعْدُوَانِ عَلَى النَّاسِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ مَا أَكَلَ اللَّحْمَ، قَالُوا: فَيَدْخُلُ فِيهِ الضَّبُعُ وَالضَّبُّ وَالنَّمِرُ وَالْيَرْبُوعُ وَالْفِيلُ، عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَجَازَ أَكْلَ الضَّبِّ، كَمَا فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَادِيثَ أُخْرَى، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَعَافُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ قَوْمِهِ. وَأَجَازَ أَكْلَ الضَّبُعِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَخْذِ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ مِنْ مَفْهُومِ الصَّيْدِ، وَنَصُّهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عِمَارَةَ، قَالَ: " قُلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ أَصِيدُ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: آكُلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْضًا - لَوْلَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَصْرِ - أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى حِلِّهِ أَوْ عَلَى حُرْمَتِهِ قِسْمَانِ: طَيِّبٌ حَلَالٌ وَخَبِيثٌ حَرَامٌ، وَهَلِ الْعِبْرَةُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ذَوْقُ أَصْحَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، أَوْ يَعْمَلُ كُلُّ أُنَاسٍ بِحَسْبِ ذَوْقِهِمْ؟ كُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ،
وَأَمَّا صَيْدُ الْجَوَارِحِ فَقَدْ قَيَّدَ النَّصُّ حِلَّهُ بِأَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ الَّذِي صَادَهُ مِمَّا أَدَّبَهُ النَّاسُ وَعَلَّمُوهُ الصَّيْدَ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الصَّيْدُ إِلَيْهِمْ، وَيَكُونَ قَتْلُ الْجَارِحِ لَهُ كَتَذْكِيَةِ مُرْسِلِهِ إِيَّاهُ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَرَائِسِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى الصَّائِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أَيْ: فَكُلُوا مِنَ الصَّيْدِ مَا تُمْسِكُهُ الْجَوَارِحُ عَلَيْكُمْ، أَيْ تَصِيدُهُ لِأَجْلِكُمْ، فَتَحْبِسُهُ وَتَقِفُهُ عَلَيْكُمْ بِعَدَمِ أَكْلِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا فَضُلَ عَنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ مِثْلُ فَرِيسَةِ السَّبُعِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ هِيَ
مِنْهَا ; لِأَنَّ الْكِلَابَ وَنَحْوَهَا مِنَ السِّبَاعِ، وَكَذَلِكَ تُسَمَّى السِّبَاعُ كِلَابًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ ; فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ " الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ الْأَخْذُ بِظَاهِرِ عُمُومِ مِمَّا أَمْسَكْنَ فَقَالُوا: كُلُّ مَا جَاءَ بِهِ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ، أَكَلَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ، فَهُوَ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَلَهُ أَكْلُهُ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ نَحْوَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: وَإِنْ أَكَلَ ثُلُثَيْهِ، وَبَقِيَ الثُّلُثُ فَكُلْ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ.
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ الْكِلَابِ وَنَحْوِهَا مِنَ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ
- تَعَالَى - فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، وَكُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْدِيُّ الدِّمَشْقِيُّ عَامِلُ وَاسِطٍ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ مُقَارِبٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَلَا أَرَى بِرِوَايَاتِهِ بَأْسًا، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ هُوَ شَيْخٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا رَدَّتْ يَدُكَ، مَا صِدْتَهُ بِيَدِكَ مُبَاشَرَةً، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ طُعِنَ فِي حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلْ مَا رَدَّتْ عَلَيْكَ قَوْسُكَ وَكَلْبُكَ " زَادَ ابْنُ حَرْبٍ: الْمُعَلَّمُ وَيَدُكَ ; فَكُلْ ذَكِيًّا وَغَيْرَ ذَكِيٍّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَفْسِيرِ " ذَكِيٍّ وَغَيْرِ ذَكِيٍّ ": يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالذَّكِيِّ مَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ، فَأَدْرَكَهُ قَبْلَ زَهُوقِ نَفْسِهِ فَذَكَّاهُ فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ، وَغَيْرِ الذَّكِيِّ: مَا زَهَقَتْ نَفْسُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالذَّكِيِّ: مَا جَرَحَهُ الْكَلْبُ بِسِنِّهِ أَوْ مَخَالِبِهِ فَسَالَ دَمُهُ، وَغَيْرِ الذَّكِيِّ: مَا لَمْ يَجْرَحْهُ. اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةً كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حِلِّ مَا صَادَهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ فَمَاتَ بِأَخْذِهِ وَلَمْ يُذَكِّهِ ; لِأَنَّ مَوْتَهُ بِيَدِهِ لَيْسَ دُونَ مَوْتِهِ بِأَخْذِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنْ أَعْرَابِيًّا يُقَالُ لَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً (كَمُعَلَّمَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى) فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ كَانَ لَكَ كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ قَالَ: ذَكِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَكِيٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي.
وَعَلِيًّا، وَإِسْحَاقَ وَالْحُمَيْدِيَّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَمَنِ النَّاسُ بَعْدَهُمْ؟ ! وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ: " لَسْنَا نَقُولُ إِنَّ حَدِيثَهُ مِنْ أَعْلَى أَقْسَامِ الصَّحِيحِ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ ".
فَإِذَا كَانَ حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، فَلِمَ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدِيًّا كَانَ مُوسِرًا فَاخْتِيرَ لَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَوْلَى، بِخِلَافِ أَبِي ثَعْلَبَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ أَعْرَابِيًّا فَقِيرًا، وَرَدُّوا هَذَا بِتَعْلِيلِ الْحَدِيثِ بِخَوْفِ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَفْهُومَ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَإِنْ أَكَلَ الْجَارِحُ قِطْعَةً مِنْهُ لِشِدَّةِ جُوعِهِ - مَثَلًا - كَمَا يَأْكُلُ مِنْ سَائِرِ طَعَامِ مُعَلِّمِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِالْقَرِينَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا صَادَ لِنَفْسِهِ وَأَمْسَكَ لَهَا لِعَدَمِ انْتِهَاءِ تَعْلِيمِهِ وَتَكْلِيبِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ النَّهْيَ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَالْخَوْفُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَلَى نَفْسِهِ تَرْجِيحٌ لَهُ.
أَمَّا " مِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ مَا يُمْسِكُهُ الْجَارِحَةُ حَلَالٌ لَحْمُهُ حَرَامٌ فَرْثُهُ وَدَمُهُ، فَيُؤْكَلُ بَعْضُهُ وَهُوَ اللَّحْمُ. وَرَدَ قَوْلُ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. وَأَقُولُ: هِيَ هُنَا مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ (٢٣: ٥١) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ (٢: ٦٠) كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (٢: ١٦٨) كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ (٦: ١٤١) فَـ " مِنْ " فِي كُلِّ ذَلِكَ لِلِابْتِدَاءِ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ ; فَلِأَنَّهُ الْوَاقِعُ غَالِبًا، لَا لِإِفَادَةِ حِلِّ بَعْضِ مَا ذُكِرَ وَتَحْرِيمِ بَعْضٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ: اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا أَمْسَكَتْ عَلَيْكُمْ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الصَّيْدِ عِنْدَ أَكْلِهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ ; إِذْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَيْهِ. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُنَا: إِذَا أَرْسَلْتَ جَوَارِحَكَ، فَقُلْ بِسْمِ اللهِ، وَإِنْ نَسِيتَ، فَلَا حَرَجَ. فَهُوَ يَرَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ إِرْسَالِ الْكَلْبِ سُنَّةٌ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ عَنْ طَاوُسٍ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: " سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا " قَالَ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ طَلَبُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ، وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْهُمْ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، لَا وَاجِبَةٌ وَلَا شَرْطٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: هِيَ وَاجِبَةٌ، وَتَسْقُطُ مَعَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا. وَالْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ آيَةُ الْأَنْعَامِ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ (٦: ١٢١) فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي الْأَثَرِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذَّبَائِحِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ عَنَى بِذَلِكَ: مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ، أَوْ مَا مَاتَ، أَوْ ذَبَحَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنَى بِذَلِكَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ فَنَسِيَ ذِكْرَ اسْمِ اللهِ - فَقَوْلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ ; لِشُذُوذِهِ، وَخُرُوجِهِ عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ مِنْ تَحْلِيلِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى فَسَادِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " لَطِيفُ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ " فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لِفِسْقٌ فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ أَكْلَ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَيْتَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ لَفِسْقٌ. اهـ. وَخَصَّهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَجَعَلَ الْجُمْلَةَ حَالِيَّةً أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ، تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦: ١٤٥) وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْمَبْحَثِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَيْ وَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ بِأَنْ تَأْتَمِرُوا بِهِ، وَفِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ بِأَنْ تَنْتَهُوا عَنْهُ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ أَنَّهُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يُضِيعُ
شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ تُحَاسَبُونَ وَتُجَازَوْنَ
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا مُنَاسَبَةٌ غَيْرَ سَرْدِ أَحْكَامِ الطَّعَامِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهِيَ أَنَّ سَبَبَ مَشْرُوعِيَّةِ التَّذْكِيَةِ التَّفَصِّي مِنْ أَكْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمَيْتَةِ، وَسَبَبَ التَّشْدِيدِ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ مِنْ صَيْدٍ وَذَبِيحَةٍ هُوَ إِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْإِهْلَالِ بِهِ لِأَصْنَامِهِمْ، أَوْ وَضْعِهَا عَلَى النُّصُبِ وَاسْتِبْدَالِ اسْمِ اللهِ وَحْدَهُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ، مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، لِيُطَهِّرهُمْ مِنْ كُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَدْرَانِ الشِّرْكِ، وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ أَهْلَ تَوْحِيدٍ ثُمَّ سَرَتْ إِلَيْهِمْ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُشَدِّدُوا فِي الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَاضِيهِمْ، وَكَانَ هَذَا مَظِنَّةَ التَّشْدِيدِ فِي مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ، كَمَا شَدَّدَ فِي أَكْلِ ذَبَائِحِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ، بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَلَّا نُعَامِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ مُعَامَلَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ، فَأَحَلَّ لَنَا مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ، وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ إِحْلَالُ الطَّيِّبَاتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَوْمُ عَرَفَةَ سَنَةَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّ حِلَّهَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَالْأَعْرَافِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا بِالْإِجْمَالِ، فَلَمَّا حَرَّمَ اللهُ يَوْمَ إِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الْخَبَائِثِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَحِلُّهَا، وَنَفَى تَحْرِيمَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي مِنْ طَيِّبَاتِ الْأَنْعَامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُهَا - صَارَ حِلُّ الطَّيِّبَاتِ مُفَصَّلًا تَمَامَ التَّفْصِيلِ، وَحُكْمُهُ مُسْتَقِرًّا دَائِمًا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالنَّصِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ.
وَفَسَّرَ الْجُمْهُورُ الطَّعَامَ هُنَا بِالذَّبَائِحِ أَوِ اللُّحُومِ ; لِأَنَّ غَيْرَهَا حَلَالٌ بِقَاعِدَةِ أَصْلِ الْحِلِّ، وَلَمْ تَحْرُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ يَشْمَلُهَا، وَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ: الْحُبُوبُ أَوِ الْبُرُّ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذَا فِي مَجْلِسٍ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْهُمْ وَذَكَرْتُ الْآيَةَ، فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا هُوَ الْغَالِبَ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ ; فَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَيِ الْمَائِدَةِ: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ (٥: ٩٦) وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إِنَّ الطَّعَامَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ الْبُرُّ أَوِ الْحُبُوبُ، وَقَالَ: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (٣: ٩٣) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ
هُنَا الْبُرُّ أَوِ الْحَبُّ مُطْلَقًا ; إِذْ لَمْ يَحْرُمْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا قِبَلَ التَّوْرَاةِ وَلَا بَعْدَهَا، فَالطَّعَامُ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا يُطْعَمُ ; أَيْ يُذَاقُ أَوْ يُؤْكَلُ، قَالَ - تَعَالَى - فِي مَاءِ النَّهْرِ حِكَايَةً عَنْ طَالُوتَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (٢: ٢٤٩) وَقَالَ: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا (٣٣: ٥٣) أَيْ أَكَلْتُمْ وَلَيْسَ الْحَبُّ مَظِنَّةَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا اللَّحْمُ هُوَ الَّذِي يُعْرَضُ لَهُ ذَلِكَ ; لِوَصْفٍ حِسِّيٍّ كَمَوْتِ
وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَبْعَدَ مِنْهُمْ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مِنْ سِيَاسَةِ الدِّينِ التَّشْدِيدُ فِي مُعَامَلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَزِيرَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ، وَخَفَّفَ فِي مُعَامَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; اسْتِمَالَةً لَهُمْ حَتَّى إِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُمَا سُئِلَا عَمَّا ذَبَحُوهُ لِلْكَنَائِسِ، فَأَفْتَيَا بِأَكْلِهِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَحَلَّ اللهُ طَعَامَهُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَمَّا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَقَدْ سُئِلَ عَنْ كَبْشٍ ذُبِحَ لِكَنِيسَةٍ يُقَالُ لَهَا " جِرْجِسَ " أَهْدَوْهُ لَهَا: أَنَأْكُلُ مِنْهُ؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِلسَّائِلِ: اللهُمَّ عَفْوًا، إِنَّمَا هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ طَعَامُهُمْ حِلٌّ لَنَا، وَطَعَامُنَا حِلٌّ لَهُمْ، وَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ (٥: ٥) قَالَ: ذَبَائِحُهُمْ. وَرَوَى مِثْلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى هَذَا، وَأَكَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّاةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ، وَوَضَعَتْ لَهُ
السُّمَّ فِي ذِرَاعِهَا، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ بِغَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافٌ، إِلَّا فِي بَنِي تَغْلِبَ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ انْتَسَبُوا إِلَى النَّصَارَى، وَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْ دِينِهِمْ شَيْئًا، فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا نِكَاحَ نِسَائِهِمْ ; مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لَمْ يَصِيرُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَاكْتَفَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ بِانْتِمَائِهِمْ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (٥: ٥١) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُوا مِنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، وَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ... وَقَرَأَ الْآيَةَ. فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوَلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ ; أَيْ يَكْفِي فِي كَوْنِهِمْ مِنْهُمْ نَصْرُهُمْ لَهُمْ، وَتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرْبِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ التَّعَمُّقُ فِي الْأَشْيَاءِ، وَحُبُّ التَّشْدِيدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ، اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسْأَلَةً جَعَلُوهَا مَحَلَّ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهِيَ: هَلِ الْعِبْرَةُ فِي حِلِّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ بِمَنْ كَانُوا يَدِينُونَ بِالْكِتَابِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَيْفَمَا كَانَ كِتَابُهُمْ وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ، أَمِ الْعِبْرَةُ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبِأَهْلِهِ الْأَصْلِيِّينَ ; كَالْإِسْرَائِيلِيِّينَ مِنَ الْيَهُودِ؟ الْمُتَبَادِرُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ وَمِنَ السُّنَّةِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ
وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ عِلَّةً أُخْرَى لِتَحْرِيمِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، وَهِيَ إِسْنَادُ الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١) مَعَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (٢: ٢٢١) وَهَذَا هُوَ عُمْدَةُ الشِّيعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ.
(أَوَّلًا) : بِأَنَّ الشِّرْكَ الْمُطْلَقَ فِي الْقُرْآنِ، إِذَا كَانَ وَصْفًا أَوْ عُدَّ أَهْلُهُ صِنْفًا مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، بَلْ يُعَدُّونَ صِنْفًا آخَرَ مُغَايِرًا لِهَذَا الصِّنْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (٩٨: ١) وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (٢٢: ١٧) الْآيَةَ.
(وَثَانِيًا) : بِأَنَّنَا إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ " الْمُشْرِكِينَ " فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ عَامٌ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ خَصَّصَتْهُ، أَوْ نَسَخَتْهُ لِتَأَخُّرِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلِجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ مِنْ أَكْبَرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ قَدْ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ حِلٌّ لَكُمْ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَهَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْحَرَائِرُ أَوِ الْعَفِيفَاتُ - أَيْ غَيْرَ الزَّوَانِي - فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ؟ خِلَافٌ سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْكِتَابِيَّةَ بِالذِّمِّيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَامٌّ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَمَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، مَنَعَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَوَّوْهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَمِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ (٤: ٢٥) وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا
وَرَوَى عِدَّةَ رِوَايَاتٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعِفَّةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يُجِيزُ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مُرَادَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا خَرَجَتْ بِالتَّوْبَةِ مِنْ كَوْنِهَا زَانِيَةً، وَالرِّوَايَاتُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، فَفِي بَعْضِهَا: أَلَيْسَ قَدْ تَابَتْ؟ قَالَ السَّائِلُ: بَلَى، وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْأَةِ الْهَمَدَانِيَّةِ الَّتِي شَرَعَتْ فِي ذَبْحِ نَفْسِهَا فَأَدْرَكُوهَا، فَدَاوَوْهَا، فَبَرِئَتْ، قَالَ لَهُمْ: أَنْكِحُوهَا نِكَاحَ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَصَابَتْ أُخْتُهُ فَاحِشَةً فَأَمَرَّتِ الشَّفْرَةَ عَلَى أَوْدَاجِهَا فَأُدْرِكَتْ، فَدَاوَى جُرْحَهَا حَتَّى بَرِئَتْ، ثُمَّ إِنْ عَمَّهَا انْتَقَلَ بِأَهْلِهِ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَقَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَنَسَكَتْ حَتَّى كَانَتْ مَنْ أَنْسَكِ نِسَائِهِمْ، فَخُطِبَتْ إِلَى عَمِّهَا، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُدَلِّسَهَا وَيَكْرَهُ أَنْ يُفْشِيَ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهِ، فَأَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْشَيْتَ عَلَيْهَا لَعَاقَبْتُكَ، إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ صَالِحٌ تَرْضَاهُ فَزَوِّجْهَا إِيَّاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَتَى رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِنِ ابْنَةً لِي كَانَتْ وُئِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاسْتَخْرَجْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ، فَأَدْرَكَتِ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا أَسْلَمَتْ أَصَابَتْ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللهِ فَعَمَدَتْ إِلَى الشَّفْرَةِ لِتَذْبَحَ نَفْسَهَا فَأَدْرَكْتُهَا، وَقَدْ قَطَعَتْ بَعْضَ أَوْدَاجِهَا فَدَاوَيْتُهَا حَتَّى بَرِئَتْ، ثُمَّ إِنَّهَا أَقْبَلَتْ بِتَوْبَةٍ حَسَنَةٍ فَهِيَ تُخْطَبُ إِلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُخْبِرُ مِنْ شَأْنِهَا بِالَّذِي كَانَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَتُخْبِرُ بِشَأْنِهَا؟ تَعْمِدُ إِلَى مَا سَتَرَهُ اللهُ فَتُبْدِيهِ؟ وَاللهِ لَئِنْ أَخْبَرْتَ بِشَأْنِهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَأَجْعَلَنَّكَ نَكَالًا لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ، بَلْ أَنْكِحْهَا بِنِكَاحِ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَدَعَ أَحَدًا أَصَابَ فَاحِشَةً فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُحْصَنَةً، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا تَابَ. اهـ.
وَالْإِبَاضِيَّةُ يُشَدِّدُونَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ الزِّنَا، لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ مَنْ تَابَ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَمَّا كُنْتُ فِي " مَسْقَطَ " فِي الْعَامِ الْمَاضِي (١٣٣٠ هـ) كَانَتْ قَدْ عُرِضَتْ وَاقِعَةٌ فِي ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ السَّيِّدِ فَيْصَلٍ فَسَأَلَنِي عَنْهَا، فَقُلْتُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٍ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٢٤: ٣) وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ تُبِيحُ نِكَاحَ الَّتِي آمَنَتْ وَإِنْكَاحَ الَّذِي آمَنَ، وَالشِّرْكُ أَقْوَى الْمَانِعِينَ وَالْإِبَاضِيَّةُ مُجْمِعُونَ مَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
ذَلِكَ، كَانَ يَنْبَغِي بِالْأَوْلَى أَنْ يُجِيزُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الزِّنَا، وَهُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ.
رُوِيَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مُفَسِّرِي السَّلَفِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْصَنَاتِ هُنَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُنَّ الْحَرَائِرُ. وَجَمَاعَةٌ: هُنَّ الْعَفَائِفُ عَنِ الزِّنَا، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، فَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا مَعًا، وَإِلَّا فَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا الْحَرَائِرُ. وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّوَانِي يُعْرَفُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ، وَمَا هُنَا لَا يُنَافِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ الْعَجْزُ عَنِ الْحَرَائِرِ، كَمَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، فَالْكِتَابِيَّاتُ بِالْأَوْلَى، وَالْحِلُّ هَنَا مُطْلَقٌ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ فِي الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِنَسْخِ مَا اشْتُرِطَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ هُنَالِكَ بِمَا هُنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتِ بِالْعَفَائِفِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِمَاءُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخِطَابِ الْأَحْرَارُ، وَالْحَرَائِرُ بِالرِّقِّ أَمْرٌ عَارِضٌ ; وَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى نِكَاحِهِنَّ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَالْغَالِبُ فِيهِنَّ عَدَمُ الْعِفَّةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا - خِلَافًا لِمَنْ أَدْخَلَ الْإِمَاءَ فِي عُمُومِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - لَا يَبْقَى وَجْهٌ لِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إِلَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْأَمَةَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمُحْصَنَاتِ بِمَعْنَى الْعَفِيفَاتِ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ اشْتِرَاطِ اسْتِطَاعَةِ عَدَمِ نِكَاحِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كِتَابِيَّةٍ لِصِحَّةِ نِكَاحِهَا، إِمَّا بِقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الشَّرْطِ نَفْسِهِ هُنَا مِنْ قَبِيلِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْمُقَيِّدِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي حَالِ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ كَمَا هُنَا، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لِضَعْفِ الْخِلَافِ فِيهِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْحَرَائِرُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ، وَالْأَمَةُ لَا تَأْخُذُ مَهْرَهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ، وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (٤: ٢٥) فَهُوَ عَيْنُ مَا هُنَا، وَقَدْ رَجَّحْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَهْرَ الْأَمَةِ حَقٌّ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ، لَا لِمَوْلَاهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْإِمَاءَ لَا يُعْطَيْنَ مُهُورَهُنَّ، وَاللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأُجُورَ هِيَ الْمُهُورُ؟ غَايَةُ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْأَمَةَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَثْنُونَ الْمَهْرَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ: أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُبْقِيَ لَهَا الْمَهْرَ الَّذِي تَأْخُذُهُ مِنْ زَوْجِهَا، وَأَنْ يَأْخُذَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ.
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ عَلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفَ أَقْوَى مِمَّا ذُكِرَ ; إِذْ يَكُونُ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ عَيْنَ
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءَهُمْ - يَعْنِي نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهُمْ عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: وَمَنْ يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَأَحَلَّ اللهُ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى عِلْمٍ. اهـ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ لَا مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا، وَأَنَّ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْرَبَ بَعْضُهُمْ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَوَعَظُوهُمْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِيمَانَ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِذْعَانِ لِمَا أَحَلَّهُ اللهُ وَحَرَّمَهُ، وَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ كَفَرَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ حَبِطَ عَمَلُهُ أَيْ بَطَلَ ثَوَابُهُ، وَخَسِرَ فِي الْآخِرَةِ مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَزَاءِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ وَالْعَمَلِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ تَفْسِيرَ (يَكْفُرُ بِالْإِيمَانِ) بِالْكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: " أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا إِلَّا بِهِ، وَلَا يُحَرِّمُ الْجَنَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ " وَوَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، بِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِ لَا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا ابْتَعَثَهُمْ بِهِ مِنْ دِينِهِ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا هُوَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَأْبَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَيَمْتَنِعْ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ - فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَذَلِكَ الْكُفْرُ هُوَ الْجُحُودُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمَنْ أَبَى التَّصْدِيقَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَالْإِقْرَارَ بِهِ فَهُوَ مِنَ الْكَافِرِينَ. اهـ. وَوَجَّهَ الرَّازِيُّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ مَجَازٌ حَسَّنَهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَبُّ الْإِيمَانِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَنِ اسْتَنْكَرُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ، أَيْ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ
وَمُجْمَلُ مَعْنَى الْآيَةِ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا بَحِيرَةَ وَلَا سَائِبَةَ وَلَا وَصِيلَةَ وَلَا حَامٍ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ عَلَيْكُمْ قَطُّ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَلَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنَ اللُّحُومِ الَّتِي ذَكَّوْا حَيَوَانَهَا، أَوْ صَادُوهَا كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِمَّا تُذَكُّونَ وَتَصْطَادُونَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ لَا يَشْمَلُهُمْ وَصْفُهُمْ ; كَالْمَنْذُورِ عَلَى أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، حِلٌّ لَكُمْ كَذَلِكَ بِمُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَمَا قَرَّرَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (٤: ٢٤) لَمْ يُحَرِّمْهُنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ إِذَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ الَّتِي تَفْرِضُونَهَا لَهُنَّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا وَجَبَ لَهُنَّ مَهْرُ الْمِثْلِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا قَاصِدِينَ بِالزَّوَاجِ إِحْصَانَ أَنْفُسِكُمْ
وَأَنْفُسِهِنَّ، لَا الْفُجُورَ الْمُرَادُ بِهِ سَفْحُ الْمَاءِ جَهْرًا وَلَا سِرًّا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ الِاحْتِيَاطُ وَبَحْثُ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالتَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إِنْشَاءٌ لِحِلِّهَا الْعَامِّ الدَّائِمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهُ بَلْ قَالَ: حِلٌّ لَكُمْ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَرِّرٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَسْأَلَةُ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُمَا مُحَرَّمًا مِنْ قَبْلُ وَأُحِلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا بِتَحْرِيمٍ مِنَ اللهِ وَلَا بِتَحْرِيمِ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ; كَمَا حَرَّمُوا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ. فَهَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ نُكْتَةِ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ، وَسَكَتَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ فِي نُكَتِ الْبَلَاغَةِ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كَلَامِهِمْ، وَحِكْمَةُ النَّصِّ عَلَى هَذَا الْحِلِّ قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْغُلَاةِ أَنْ يُحَرِّمُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُ مَعَ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَنَا حِلٌّ لَهُمْ دُونَ نِسَائِنَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُزَوِّجَهُمْ مِنَّا ; لِأَنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتَهُ لَا يَظْهَرَانِ مِنَ الْمَرْأَةِ؛ لِسُلْطَانِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ لِمَنْ يَفْهَمُ الْعِبَارَةَ مُجَرَّدًا مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ، فَمَنْ فَهِمَ مِثْلَ فَهْمِنَا، فَفَهْمُهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَلَا نُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَنَا فِيهِ تَقْلِيدًا.
(فَصْلٌ فِي طَعَامِ الْوَثَنِيِّينَ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ)
أَخَذَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ مَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي اللَّقَبِ ; كَالدِّقَاقِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يُحَرِّمْ طَعَامَ الْوَثَنِيِّينَ وَلَا طَعَامَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مُطْلَقًا كَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ نِسَائِهِمْ، بَلْ حَرَّمَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، كَمَا حَرَّمَ مَا كَانَ يَأْكُلُهُ بَعْضُهُمْ
وَهَذَا مَا كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى فِيهِ نَقْلًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِنَا وَعُلَمَاءِ الْمِلَلِ وَالتَّارِيخِ
مِنَّا، وَذَكَرْتُهُ فِي الْمَنَارِ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ (الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) لِأَبِي مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيِّ (الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٤٢٩) فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ: " إِنَّ الْمَجُوسَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ زَرَادُشْتَ، وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى - وَالصَّابِئِينَ يَدَّعُونَ نُبُوَّةَ (هَرْمَسَ) وَ (وَالِيسْ) (وَدُورِيتُوسَ) وَ (أَفْلَاطُونَ) وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مُقِرُّونَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الَّذِينَ أَقَرُّوا بِنُبُوَّتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْوَحْيَ شَامِلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ عَنْ عَاقِبَةِ الْمَوْتِ، وَعَنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَجَنَّةٍ وَنَارٍ يَكُونُ فِيهِمَا الْجَزَاءُ عَنِ الْأَعْمَالِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ.
وَقَدْ نَشَرْنَا فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ سُؤَالًا مِنْ جَاوَهْ عَنْ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ كَالْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ، وَأَجَبْنَا عَنْهُ بِمَا نَصُّهُ (ص ٢٦١).
ذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمَةِ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حِلِّ الزَّوَاجِ بِالْكِتَابِيَّةِ وَحُرْمَةِ الزَّوَاجِ بِالْمُشْرِكَةِ، وَيُرِيدُونَ مِنَ الْكِتَابِيَّةِ: الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَأَحَلَّ بَعْضُهُمُ الْمَجُوسِيَّةَ أَيْضًا، وَبِالْمُشْرِكَةِ: الْوَثَنِيَّةَ مُطْلَقًا، بَلْ عَدُّوا جَمِيعَ النَّاسِ وَثَنِيِّينَ مَا عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الْمُشْرِكِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ الْأَدْيَانِ يَعُدُّ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا صِنْفًا، وَأَهْلَ الْكِتَابِ صِنْفًا آخَرَ يَعْطِفُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا الْمَجُوسُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ، بَلْ كَانُوا أُمِّيِّينَ.
وَالْأَصْلُ فِي الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ آيَتَانِ فِي الْقُرْآنِ ; إِحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (٢: ٢٢١) الْآيَةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٥: ٥) وَقَدْ زَعَمَ
بِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْمَائِدَةِ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، مُسْتَثْنِيَةً أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ عُمُومِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ فِي جَوَازِ التَّزَوُّجِ بِنِسَائِهِمْ.
وَقَدْ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنِ النَّصِّ الصَّرِيحِ فِي حُكْمِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ لَهُمْ كِتَابٌ أَوْ شُبْهَةُ كِتَابٍ ; كَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ، وَمِثْلُهُمُ الْبُوذِيُّونَ وَالْبَرَاهِمَةُ وَأَتْبَاعُ (كُونْفُوشْيُوسَ) فِي الصِّينِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا الَّذِينَ حَرَصَ بَعْضُهُمْ عَلَى إِدْخَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِدَادِ الْمُشْرِكِينَ، لَا يَتَرَدَّدُونَ فِي إِدْخَالِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفْرِقَةِ وَالْمُغَايَرَةِ، فَكَمَا غَايَرَ الْقُرْآنُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (٩٨: ١) وَقَوْلِهِ: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا (٣: ١٨٦) وَذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقِسْمَيْهِمْ فِي مَعْرِضِ الْمُغَايَرَةِ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى (٥: ٨٢) الْآيَةَ، كَذَلِكَ ذَكَرَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ وَعَدَّهُمْ صِنْفَيْنِ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٢٢: ١٧) فَهَذَا الْعَطْفُ فِي مَقَامِ تَعْدَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ طَائِفَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، لَيْسَتَا مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْكِتَابُ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا إِلَهِيَّةٌ، وَلَكِنْ بُعْدُ الْعَهْدِ وَطُولُ الزَّمَانِ جَعَلَ أَصْلَهَا مَجْهُولًا لَنَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٣٥: ٢٤) وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (١٣: ٧) وَإِنَّمَا قَوِيَتْ فِيهِمُ الْوَثَنِيَّةُ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِأَنْبِيَائِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا
يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ١٦) وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالشِّرْكِ عَلَيْهِمْ - لَمْ يَسْلُبْهُمُ امْتِيَازَهُمْ فِي كِتَابِ اللهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَّهُمْ صِنْفًا آخَرَ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَدُخُولَ نَزَغَاتِ الْوَثَنِيَّةِ فِي عَقَائِدِهِمْ، لَا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْلِمِينَ وَلَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَعْنِيهِمُ الْخُطَبَاءُ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُرْآنَ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْقَدِيمَةِ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَرَاهِمَةَ وَالْبُوذِيِّينَ وَأَتْبَاعَ كُونْفُوشْيُوسَ ; لِأَنَّ الصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسَ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْعَرَبِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلًا ; لِمُجَاوَرَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْعِرَاقِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْحَلُونَ إِلَى الْهِنْدِ وَالْيَابَانِ وَالصِّينِ فَيَعْرِفُوا الْآخَرِينَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ حَاصِلٌ بِذِكْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمِلَلِ الْمَعْرُوفَةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِغْرَابِ بِذِكْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُونَ فِي عَصْرِ التَّنَزُّلِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَيْضًا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَقَبِلُوهَا مِنَ الْمَجُوسِ فِي الْبَحْرَيْنِ وَهَجَرَ وَبِلَادِ فَارِسَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى أَخْذَ النَّبِيِّ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ شَهِدَ لِعُمَرَ بِذَلِكَ عِنْدَمَا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِ، وَرَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ " أَهْلِ الْكِتَابِ " عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ لِتَحَقُّقِ أَصْلِ كُتُبِهِمَا وَلِزِيَادَةِ خَصَائِصِهِمَا، لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَهْلُ كِتَابٍ غَيْرَهُمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
وَقَدْ وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُنْتَقَى: " وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: (سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ " مَا نَصُّهُ: لَكِنْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ، كَانَ الْمَجُوسُ أَهْلَ كِتَابٍ يَدْرُسُونَهُ وَعِلْمٍ يَقْرَءُونَهُ، فَشَرِبَ أَمِيرُهُمُ الْخَمْرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا أَهْلَ الطَّمَعِ فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ يُنْكِحُ أَوْلَادَهُ بَنَاتِهِ، فَأَطَاعُوهُ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، فَأُسْرِيَ عَلَى كِتَابِهِمْ وَعَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبُرُوجِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ أَبْزَى: لَمَّا هَزَمَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ فَارِسَ قَالَ عُمَرُ: اجْتَمِعُوا - أَيْ قَالَ لِلصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ وَالْفَرِيضَةُ اللَّازِمَةُ - فَقَالَ: إِنِ الْمَجُوسَ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَنَضَعُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَلَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَوَقَعَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَوَضَعَ الْأُخْدُودَ لِمَنْ خَالَفَهُ. فَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: لَوْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِعَ لِرَفْعِ حُكْمِهِ، لَمَا اسْتُثْنِيَ حِلُّ
ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ تَبَعًا لِلْأَمْرِ الْوَارِدِ ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَقْتَضِي حَقْنَ الدَّمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُحْتَاطُ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ تَحْرِيمُ نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ. اهـ.
إِذَا عَلِمْتَ هَذَا تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِنَا، وَلَا جَمِيعَ مَنْ عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْهُمْ، فَهَذَا نَقْلٌ صَحِيحٌ فِي الْمَجُوسِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالًا لِجَعْلِ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ خَاصًّا بِوَثَنِيِّي الْعَرَبِ، وَأَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَلَا شُبْهَةُ كِتَابٍ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِمْ مَنْ عِنْدَهُمْ كُتُبٌ لَا يُعْرَفُ أَصْلُهَا، وَلَكِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْآدَابِ وَالشَّرَائِعِ ; كَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ قَتَادَةُ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فِي الْآيَةِ: الْعَرَبُ. كَمَا سَيَأْتِي.
وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (٢: ٢٢١) نَصًّا قَاطِعًا فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الصِّينِيَّاتِ الَّذِي أَكْثَرَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الصِّينِ، وَانْتَقَلَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيهِ إِلَى جَاوَهْ أَوْ كَادَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الصِّينِ، وَلَا أَدْرِي مَبْلَغَ أَثَرِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ (الْخِطَابُ لِلْمُسْتَفْتِي) وَبِنَفْيِ كَوْنِهِ نَصًّا قَاطِعًا فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْلَالُهُ كُفْرًا وَخُرُوجًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا لَسَاغَ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِكُفْرِ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْ مُسْلِمِي الصِّينِ.
مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ (٤: ٢٣، ٢٤) الْآيَةَ.
فَنَقُولُ عَلَى أُصُولِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (٤: ٢٤) لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ بَعْدَمَا جَاءَ فِي الْبَقَرَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، وَفِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ نَزَلَ بَعْدَهُ صَحَّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ نَزَلَ قَبْلَهُ يَكُونُ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالزَّانِيَةِ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ نَسْخًا أَمْ لَا، كَمَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ; مِنْ مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبِنْتِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أَوْ إِلْحَاقًا بِهِ، وَجَعْلِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ كَالَّذِي يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ فِي الْأُصُولِ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ أَحَلُّوا التَّزَوُّجَ بِالزَّانِيَةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِنَّ كَالْمَجُوسِيَّاتِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ كَمَا نَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ الْمُنْذِرِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ نَصِّ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَأَكَّدَ حِلَّ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ.
وَخُلَاصَةُ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ جَائِزٌ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ، وَنِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ مُحَرَّمٌ. وَكَوْنُ لَفْظِ الْمُشْرِكَاتِ عَامًّا لِجَمِيعِ الْوَثَنِيَّاتِ، أَوْ خَاصًّا بِمُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ: " وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُرَادًا بِحُكْمِهَا مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ " وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا قَالَ: " مُشْرِكَاتُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ " وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ ابْنَ جَرِيرٍ مِنْ عَدِّهِ قَائِلًا بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمُشْرِكَاتِ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ سَائِرِ رِوَايَاتِ الْخِلَافِ: " وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
هَذَا مَا يَظْهَرُ بِالْبَحْثِ فِي الدَّلِيلِ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى قَوْلٍ صَرِيحٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّ التَّزَوُّجِ بِمَا عَدَا الْكِتَابِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِحِلِّ الْمَجُوسِيَّةِ الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ صَاحِبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي تَفَقَّهَ بِهِ حَتَّى صَارَ مُجْتَهِدًا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَفَرُّدَهُ لَا يُعَدُّ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُبِيحُونَ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ فَضْلًا عَنِ الْوَثَنِيَّةِ الصِّينِيَّةِ.
وَلَا يَأْتِي فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ النِّكَاحَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْحِلِّ، فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُ مَا وُضِعَ لَهُ بِالنَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ، كَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ; لِأَنَّ وَضْعَهُ لِلْمِلْكِ لَا لِلْحِلِّ بِدَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ ; فَلِذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ غَيْرَ مُقْتَضٍ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، فَلَا يُقَالُ عِنْدَهُمْ: إِنَّ نِكَاحَ الصِّينِيَّةِ يَقَعُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا.
وَأَمَّا الْبَحْثُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ جِهَةِ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، فَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - ذَلِكَ فِي آيَةِ النَّهْيِ عَنِ التَّنَاكُحِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ (٢: ٢٢١) وَقَدْ وَضَّحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ، فَيُرَاجَعْ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ (مِنْ ص ٢٨٠ - ٢٨٤ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ شُرِعَتْ مُوَادَّتُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِمُعَاشَرَتِنَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنَّا بِالتَّخَلُّقِ وَالْعَمَلِ، يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ دِينَنَا هُوَ عَيْنُ دِينِهِمْ مَعَ مَزِيدِ بَيَانٍ وَإِصْلَاحٍ يَقْتَضِيهِ تَرَقِّي الْبَشَرِ، وَإِزَالَةِ بِدَعٍ وَأَوْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الدِّينِ، وَمَا هِيَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا صِلَةَ بَيْنَ دِينِنَا وَدِينِهِمْ قَطُّ ; وَلِذَلِكَ دَخَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي الْإِسْلَامِ مُخْتَارِينَ بَعْدَمَا انْتَشَرَ بَيْنَهُمْ، وَعَرَفُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَوْ قُبِلَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَمَا قُبِلَتْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَافَّةً، وَلَمَا قَامَتْ لِهَذَا الدِّينِ قَائِمَةٌ، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِسْلَامِ أَوِ الدَّعْوَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ مُشْرِكُو الْعَرَبِ.
ثُمَّ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسَةً خَاصَّةً فِي الْعَرَبِ وَبِلَادِهِمْ، وَهِيَ: أَنْ تَكُونَ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ
حَرَمَ الْإِسْلَامِ الْمَحْمِيَّ، وَقَلْبَهُ الَّذِي تَتَدَفَّقُ مِنْهُ مَادَّةُ الْحَيَاةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَطْرَافِ، وَمَوْئِلَهُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجِزْيَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهَا مُشْرِكٌ، بَلْ أَوْصَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْفَتْوَى الرَّابِعَةِ الْمَنْشُورَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي (ص ٩٧) مِنَ الْمُجَلَّدِ (الثَّانِي عَشَرَ) وَتَدُلُّ
إِذَا كَانَ الِازْدِوَاجُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يُنَافِي هَذِهِ السِّيَاسَةَ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمِينَ بِالصِّينِيَّاتِ مَدْعَاةً لِدُخُولِهِنَّ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي بِلَادِ الصِّينِ، فَلَا يَكُونُ تَعْلِيلُ الْآيَةِ لِلْحُرْمَةِ صَادِقًا عَلَيْهِنَّ، وَكَيْفَ يُعْطَى الضِّدُّ حُكْمَ الضِّدِّ؟ !
وَقَدْ حَذَّرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْكِتَابِيَّةِ إِذَا خُشِيَ أَنْ تَجْذِبَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إِلَى دِينِهَا ; لِعِلْمِهَا وَجَمَالِهَا، وَجَهْلِهِ وَضَعْفِ أَخْلَاقِهِ، كَمَا يَحْصُلُ كَثِيرًا فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي تَزَوُّجِ بَعْضِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِبَعْضِ الْأُورُبِّيَّاتِ، أَوْ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْكِتَابِيَّاتِ، فَيُفْتَنُونَ بِهِنَّ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ وَاجِبٌ فِي الْإِسْلَامِ. اهـ.
مُلَخَّصُ هَذِهِ الْفَتْوَى: أَنَّ الْمُشْرِكَاتِ اللَّاتِي حَرَّمَ اللهُ نِكَاحَهُنَّ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُنَّ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي رَجَّحَهُ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَنَّ الْمَجُوسَ وَالصَّابِئِينَ وَوَثَنِيِّي الْهِنْدِ وَالصِّينِ، وَأَمْثَالِهِمْ كَالْيَابَانِيِّينَ - أَهْلُ كُتُبٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ إِلَى الْآنِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّارِيخِ وَمِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ بُعِثَ فِيهَا رُسُلٌ، وَأَنَّ كُتُبَهُمْ سَمَاوِيَّةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا التَّحْرِيفُ كَمَا طَرَأَ عَلَى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي هِيَ أَحْدَثُ عَهْدًا فِي التَّارِيخِ، وَأَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الْإِبَاحَةُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ النَّصُّ بِمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ بَيَانِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (٤: ٢٤) يُفِيدُ حِلَّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ إِلَّا بِنَصٍّ نَاسِخٍ لِلْآيَةِ أَوْ مُخَصِّصٍ لِعُمُومِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ
بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هُنَا أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا بِمَفْهُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَخَصَّصُوا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذَا مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، مَنَعَ الْجُمْهُورُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِي اللَّقَبِ، وَلَكِنْ جَرَى الْعَمَلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشُّعُورِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ نَشْأَتِهِمْ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ، وَظُهُورِ انْحِطَاطِ جَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ عَنْ أَهْلِهِ ; وَلِهَذَا مَالَ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ إِلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حِلِّهِ فِي آخِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ النَّصَّ بِأَنَّ مَعْنَى أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَمِلُوا بِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَانُوا بِهِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لَا يَصِحُّ لُغَةً، فَإِنَّ مَعْنَى أُوتُوهُ مِنْ قَبِلْنَا: أُعْطُوهُ ; أَيْ أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُفَسِّرُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كُلِّ مَكَانٍ وَرَدَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا (٦: ١٥٦) وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى لَمَا كَانَ لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ.
وَمِنْهُمْ مَنِ الْتَمَسَ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِيَجْعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ، فَوَجَدُوا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَنَعَ التَّزَوُّجَ بِالْكِتَابِيَّةِ، مُتَأَوِّلًا لِآيَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ شِرْكًا أَعْظَمُ
وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ (٦٠: ١٠) وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي النِّسَاءِ الْمُشْرِكَاتِ اللَّوَاتِي أَسْلَمَ أَزْوَاجُهُنَّ وَبَقِينَ عَلَى شِرْكِهِنَّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلِينَ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْغِلْظَةَ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِ فِي الدِّينِ هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ بِهَا الدِّينُ، وَتَعْلُو كَلِمَتُهُ، وَتَنْتَشِرُ دَعْوَتُهُ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ سُوءَ الْمُعَامَلَةِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُنَفِّرَاتِ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (٣: ١٥٩) وَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهَا نَظِيرٌ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ إِلَّا بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ أَهْلِهِ لِمَنْ يُعَاشِرُونَهُمْ، وَيَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَوْلَا تَرْكُ الْخَلَفِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَحَدٌ لَمْ يَدْخُلِ الْإِسْلَامَ بِاخْتِيَارِهِ، بَلْ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ.
نَقُولُ هَذَا تَمْهِيدًا لِبَيَانِ حِكْمَةِ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَا تَحَرُّجٍ مِنْ تَذْكِيَتِهِمْ، وَحِلِّ نِسَائِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ غَرَضِ الشَّارِعِ بِذَلِكَ تَأَلُّفِهِمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِهِمْ، فَقَدْ أَكْمَلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِحَسْبِ سُنَّتِهِ فِي التَّرَقِّي الْبَشَرِيِّ وَالتَّدْرِيجِيِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ مُنَاسَبَاتِ جَعْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الْآيَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ (رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ) :
" الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْعِنَادِ، فَقَالَ لَهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢: ١١١) وَعَنَّفَ الْمُنَازِعِينَ إِلَى الشِّقَاقِ عَلَى مَا زَعْزَعُوا مِنْ أُصُولِ الْيَقِينِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَغْيٌ وَخُرُوجٌ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلَمْ يَقِفْ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمَوْعِظَةِ بِالْكَلَامِ وَالنَّصِيحَةِ بِالْبَيَانِ، بَلْ شَرَعَ شَرِيعَةَ الْوِفَاقِ وَقَرَّرَهَا فِي الْعَمَلِ، فَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَوَّغَ
وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ - تَعَالَى - مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجِ مِنْهُمْ، هِيَ إِزَالَةُ الْجَفْوَةِ الَّتِي تَحْجُبُهُمْ عَنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ ; بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِهِ لَهُمْ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ - فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وَسَالِكًا سَبِيلَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً صَالِحَةً لِامْرَأَتِهِ وَلِأَهْلِهَا فِي الصَّلَاحِ وَالتَّقْوَى وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ وَالتُّرْكِ يَتَزَوَّجُونَ مِنْ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسْتَدْبِرُونَ بِذَلِكَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ دُونَ امْرَأَتِهِ وَيَجْعَلُهَا قُدْوَةً لَهُ، وَلَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْمَحُ لَهَا بِتَنْصِيرِ أَوْلَادِهِ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ، فَفِتْنَتُهُمْ بِالْكُفْرِ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَتِهِمْ بِالنِّسَاءِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(تَتِمَّةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ فِي مَبَاحِثِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ وَالتَّذْكِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ)
كَتَبْنَا مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُسْتَعِينِينَ عَلَى فَهْمِهَا بِبَيَانِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَرَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ شَأْنُنَا فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ وَبِأَسَالِيبِ لُغَةِ الْعَرَبِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ. ثُمَّ رَاجَعْنَا بَعْدَ ذَلِكَ مَا كَتَبْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ حِلِّ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ، فَرَأَيْنَا مَا كَانَ مِنْهُ بِفَهْمِنَا وَاجْتِهَادِنَا مُوَافِقًا لِمَا هُنَا مَعَ زِيَادَةِ بَيَانٍ لِحِكْمَةِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَنُقُولٍ مِنْ كُتُبِ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورَةِ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُلَخِّصَ مِنْهُ مَا يَأْتِي إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْمُضِلِّينَ الْجَاهِلِينَ سُلْطَانٌ عَلَى الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ يُضِلُّونَهُ بِهِ، كَمَا فَعَلَ أَشْيَاعُهُمْ مِنْ نَحْوِ عَشْرِ سِنِينَ ; إِذْ سُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْمُفْتِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (فِي التِّرِنْسِفَالِ) يَضْرِبُونَ رَأْسَ الثَّوْرِ بِالْبَلْطَةِ، ثُمَّ يَذْبَحُونَهُ وَلَا يُسَمُّونَ اللهَ، كَمَا يَذْبَحُونَ الشَّاةَ بِدُونِ تَسْمِيَةٍ، فَأَفْتَى بِحِلِّ ذَبِيحَتِهِمْ هَذِهِ، فَقَامَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ يُشَنِّعُ عَلَى هَذِهِ الْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ، وَيَعُدُّ هَذِهِ الذَّبِيحَةَ مِنَ الْمَوْقُوذَةِ وَيَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا، فَكَتَبْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ بَيَانَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَجَاءَتْنَا رَسَائِلُ مِنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ مِصْرَ وَالْغَرْبِ، فَنَشَرْنَاهَا تَأْيِيدًا لِمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى، ثُمَّ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَلَّفُوا رِسَالَةً أَيَّدُوا بِهَا الْفَتْوَى بِنُصُوصِ مَذَاهِبِهِمْ، وَطَبَعَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَمِيدِ حَمْرُوشُ (مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَقُضَاةِ الشَّرْعِ لِهَذَا الْعَهْدِ) وَهَاكَ مَا رَأَيْنَا زِيَادَتَهُ الْآنَ:
(١) تَعْظِيمُ شَأْنِ الْقَصْدِ فِي الْأُمُورِ
كُلِّهَا لِيَكُونَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنَّ التَّزْكِيَةَ عِبَارَةٌ عَنْ إِزْهَاقِ رُوحِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، وَلَهَا صُوَرٌ وَكَيْفِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ.
(٢) أَنَّ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ يَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ لِمَرَضٍ أَوْ أَكْلِ نَبَاتٍ سَامٍّ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ لَحْمُهُ ضَارًّا، وَكَذَا إِذَا مَاتَ مِنْ شِدَّةِ الضَّعْفِ وَانْحِلَالِ الطَّبِيعَةِ.
(٣) اسْتِقْذَارُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ لَهُ وَاسْتِخْبَاثُهُ وَعَدُّ أَكْلِهِ مَهَانَةً تُنَافِي عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا، ثُمَّ قُلْنَا هُنَالِكَ مَا نَصُّهُ:
" وَأَمَّا مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا مِنَ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ إِلَخْ، فَيَظْهَرُ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا حِكْمَةَ تَوَقِّي الضَّرَرِ فِي الْجِسْمِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ بَدَلُهَا تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنْ تَعْرِيضِ الْبَهِيمَةِ لِلْمَوْتِ بِإِحْدَى هَذِهِ الْمِيتَاتِ الْقَبِيحَةِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَيَنْهَى عَنْ تَعْذِيبِهِ، أَوْ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْذِيبِ، وَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِي ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِ كَيْلَا يَتَهَاوَنَ فِي حِفْظِ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الرُّعَاةَ يَغْضَبُونَ أَحْيَانًا عَلَى بَعْضِ الْبَهَائِمِ، فَيَقْتُلُونَهُ بِالضَّرْبِ، وَيُحَرِّشُونَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ فَيُغْرُونَ الْكَبْشَيْنِ بِالتَّنَاطُحِ حَتَّى يَهْلَكَا أَوْ يَكَادَا، وَمَنْ كَانَ يَرْعَى أَنْعَامَ غَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا أَكْثَرَ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا هَلَكَ بِتِلْكَ الْمِيتَاتِ حَلَالًا لَمَا بَعُدَ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرُّعَاةُ وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ التُّحُوتِ تَعْرِيضَ الْبَهَائِمِ لَهَا لِيَأْكُلُوهَا بِعُذْرٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ ; مِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْحَذْفِ - وَهُوَ الرَّمْيُ بِالْحَصَا - وَالْبُنْدُقِ - الطِّينِ الْمَشْوِيِّ - لِذَلِكَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرْنَا (فِي ص ٨٢٢ م ٦) حِكْمَةً أُخْرَى فِي ضِمْنِ مَقَالَةٍ وَعْظِيَّةٍ لِعَالِمٍ مَغْرِبِيٍّ أَيَّدَ بِهَا فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، قَالَ: وَهَلْ عَرَفَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ حِكْمَةَ الذَّبْحِ الْمُعْتَادِ، وَشُيُوعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِّيءِ، مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الصَّيْدِ وَالدَّابَّةِ الشَّارِدَةِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَالْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ بِحَسْبِ الْأَصْلِ مُوَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّ اللهَ لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِنَا وَبِالْحَيَوَانِ، جَعَلَ بَيْنَنَا قِسْمَةً عَادِلَةً وَمِنَّةً عَامَّةً، فَحَرَّمَ عَلَيْنَا مَا قَتَلَهُ الْحَيَوَانُ، وَمَا مَاتَ فِي الْخَلَاءِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَّا، لِيَبْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْحَيَوَانِ يَأْكُلُهُ ; لِأَنَّهَا أُمَمٌ أَمْثَالُنَا، وَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ أَنْ نَأْكُلَ مَا لَمْ نَقْصِدْهُ وَلَمْ نُفَكِّرْ فِيهِ، فَأَمَّا الْمُذَكَّى وَالصَّيْدُ وَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ وَنَحْوُهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا لَا تُؤْخَذُ إِلَّا بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ. انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ خَطَرَتْ فِي بَالِي تَذَكَّرْتُ أَنْ أُرَاجِعَ كِتَابَ حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ ; لَعَلِّي أَجِدُّ فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا أَقْتَبِسُهُ فِي هَذَا الْمَقَالِ، فَرَأَيْتُهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ
(حِكْمَةُ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ)
ذَهَبَ بَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَى أَنَّ تَذْكِيَةَ الْحَيَوَانِ وَصَيْدَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَبَاحَتْ أَكْلَ الْحَيَوَانِ كَالْمُوسَوِيَّةِ وَالْعِيسَوِيَّةِ وَالْمُحَمَّدِيَّةُ، وَمِمَّا يَطْعَنُ بِهِ النَّاسُ فِي أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ الْفَيْلَسُوفِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اسْتِقْبَاحًا لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّهُ تَوَحُّشًا، لَا أَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ بِطَبْعِهِ كَكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَرِضَ فَوَصَفَ لَهُ الطَّبِيبُ فَرُّوجًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ مَطْبُوخًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَضْعَفُوكَ فَوَصَفُوكَ، هَلَّا وَصَفُوا شِبْلَ الْأَسَدِ؟.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ لَوْ لَمْ تُبِحْ لِلنَّاسِ أَكْلَ الْحَيَوَانِ لَكَانَ
هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَرِدُ عَلَى نِظَامِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَنِهِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ بَعْضًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْإِنْسَانُ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ الْحَيَوَانِ ; لِأَنَّ اللهَ فَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَسَخَّرَهَا لَهُ كَمَا سَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى ; لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ وَاللَّطَائِفِ وَالْمَحَاسِنِ. وَامْتِنَاعُ النَّاسِ عَنْ أَكْلِ مَا يَأْكُلُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَنْعَامِ لَا يَعْصِمُهَا مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ أَوِ التَّرَدِّي، أَوْ فَرْسِ السِّبَاعِ لَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُلُّ مِيتَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمِيتَاتِ أَهْوَنَ وَأَخَفَّ أَلَمًا مِنَ التَّذْكِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي كَتَبَ اللهُ فِيهَا الْإِحْسَانَ وَمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَنَحْنُ نَرَى الشَّاةَ إِذَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الذِّئْبِ أَوْ سَمِعَتْ عُوَاءَهُ تَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الدَّجَاجِ
(مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاكَحَتِهِمْ)
جَاءَ فِي ص (٩٧) مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ " الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ فِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ " لِابْنِ عَابِدِينَ الشَّهِيرِ، صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ الشَّهِيرَةِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مَا نَصُّهُ:
" سُئِلَ فِي ذَبِيحَةِ الْعَرَبِيِّ الْكِتَابِيِّ هَلْ تَحِلُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا (الْجَوَابُ) تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَ الذَّابِحِ صَاحِبَ مِلَّةِ التَّوْحِيدِ حَقِيقَةً كَالْمُسْلِمِ، أَوْ دَعْوَى كَالْكِتَابِيِّ ; وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِكِتَابٍ مِنْ كُتِبِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ، فَصَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكِتَابِيِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا يَهُودِيًّا، حَرْبِيًّا أَوْ عَرَبِيًّا تَغْلِبِيًّا ; لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُرَادُ بِطَعَامِهِمْ: مُذَكَّاهُمْ، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ " وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الطَّعَامِ غَيْرِ الْمُذَكَّى يَحِلُّ مِنْ أَيِّ كَافِرٍ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ
تَخْصِيصُهُ بِالْمُذَكَّى، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكِتَابِيِّ أَنَّهُ سَمَّى غَيْرَ اللهِ ; كَالْمَسِيحِ وَالْعُزَيْرِ، وَأَمَّا لَوْ سَمِعَ فَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَهُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْيَهُودِيِّ أَنْ يَكُونَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَفِي النَّصْرَانِيِّ أَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ؟ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَبِهِ أَفْتَى " الْجَدُّ " فِي الْإِسْرَائِيلِيِّ، وَشَرَطَ فِي " الْمُسْتَصْفَى " لِحِلِّ مُنَاكَحَتِهِمْ عَدَمَ اعْتِقَادِ النَّصْرَانِيِّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي " الْمَبْسُوطِ " فَإِنَّهُ قَالَ: " وَيَجِبُ أَلَّا يَأْكُلُوا ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ، وَأَنَّ عُزَيْرًا إِلَهٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُوا نِسَاءَهُمْ " لَكِنَّ فِي " مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ": وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ النَّصْرَانِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَالَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَوْ لَا، وَمُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْآيَةِ: الْجَوَازُ، كَمَا ذَكَرَهُ التِّمِرْتَاشِيُّ فِي فَتَاوَاهُ، وَالْأَوْلَى أَلَّا يَأْكُلَ ذَبِيحَتَهُمْ وَلَا يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا حَقَّقَهُ الْكَمَالُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَاللهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ.
" قَالَ الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ فِي رَسَائِلِهِ: قَالَ الْإِمَامُ: وَمَنْ دَانَ دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ الصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، أُكِلَ ذَبِيحَتُهُ وَحَلَّ نِسَاؤُهُ، وَحَكَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِمْ، أَوْ فِي أَحَدِهِمْ، فَكَتَبَ مِثْلَ مَا قُلْنَا، فَإِذَا كَانُوا يَعْتَرِفُونَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ، فَلَا يَجُوزُ إِذَا جَمَعَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بَيْنَهُمْ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَبَعْضَهُمْ
(حُكْمُ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ)
ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بَيْرَمٌ الْخَامِسُ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ فِي كِتَابِهِ (صَفْوَةُ الِاعْتِبَارِ) مَبْحَثًا طَوِيلًا فِي ذَبَائِحِ أَهْلِ أُورُبَّةَ، وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِهِ أَنَّ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَلَالٌ مُطْلَقًا، وَجَاءَ بِتَفْصِيلٍ فِي أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ فِي أُورُبَّةَ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:
" وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخَنْقِ، فَإِنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ شَكٍّ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ لِتَحَقُّقٍ فَلَمْ أَرَ حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ مُصَرَّحًا بِهِ عِنْدَنَا، وَقِيَاسُهَا عَلَى تَحْقِيقِ تَسْمِيَةِ غَيْرِ اللهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحِلَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمْعٍ عَظِيمٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعَيْنَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ ; فَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا يُفِيدُ الْحِلِّيَّةَ، حَيْثُ خُصِّصُوا بِآيَةِ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَآيَةِ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (٦: ١٢١) وَآيَةِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَكَذَلِكَ تَكُونُ مُخَصِّصَةً لِآيَةِ الْمُنْخَنِقَةِ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ خَاصًّا بِفِعْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِبَاحَةِ عَامَّةً فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَذَلِكَ الثَّانِي، وَقَدْ كُنْتُ رَأَيْتُ رِسَالَةً لِأَحَدِ أَفَاضِلِ الْمَالِكِيَّةِ نَصَّ فِيهَا عَلَى الْحِلِّ، وَجَلَبَ النُّصُوصَ مِنْ مَذْهَبِهِ بِمَا يَنْثَلِجُ بِهِ الصَّدْرُ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ عَمَلُ الْخَنْقِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الذَّكَاةِ، كَمَا أَخْبَرَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: التَّوَصُّلُ إِلَى قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِأَسْهَلِ قِتْلَةٍ ; لِلتَّوَصُّلِ إِلَى أَكْلِهِ، بِدُونِ فَرْقٍ بَيْنَ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ، عَلَى زَعْمِهِمْ - فَلَا مِرْيَةَ فِي الْحِلِّيَّةِ عَلَى هَاتِهِ الْمَذَاهِبِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَسُوغُ تَقْلِيدُ الْحَنَفِيِّ لِغَيْرِ مَذْهَبِهِ؟ قُلْتُ: أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقَلِّدُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَقَلَّدَ الْحَنَفِيَّ عَنْ تَرْجِيحِ بُرْهَانٍ فَهَذَا رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَرْجِيحُ دَلِيلِ الْحِلِّ ثَانِيًا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ، كَمَا هُوَ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَئِمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَالْعَامِّيُّ لَا مَذْهَبَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ مُفْتِيهِ، وَقَوْلُهُ: أَنَا حَنَفِيٌّ أَوْ مَالِكِيٌّ ; كَقَوْلِ الْجَاهِلِ أَنَا نَحْوِيٌّ، لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ سِوَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ، فَبِأَيِّ الْعُلَمَاءِ اقْتَدَى فَهُوَ نَاجٍ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ، وَالْكَلَامُ مَبْسُوطٌ فِي ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ حَرَّرَ الْبَحْثَ أَبُو السُّعُودِ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ حَدِيثًا النَّوَوِيَّةِ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمَكِّيُّ، فَلْيُرَاجِعْهَا مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى التَّفْصِيلِ.
; فَالْخِنْزِيرُ وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُحَرَّمَةٌ لِعَيْنِهَا ; وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَى تَحْرِيمِهَا فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا وَحَالَاتِهَا، وَأَمَّا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ، أَوْ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ أَتَى فِيهِ لِعَارِضٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، ثُمَّ أَتَى نَصٌّ آخَرُ عَامٌّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ حَلَالٌ، فَأُخْرِجَ مِنْهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَبَقِيَ الْمُحَرَّمُ لِغَيْرِهِ ; وَهُوَ مَسْأَلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ، وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ، فَبَقِيَتَا فِي مَحَلِّ الشَّكِّ ; لِتَجَاذُبِ كُلٍّ مِنْ نَصَّيِ التَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ لَهُمَا، فَوَجَدْنَا إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّسْمِيَةِ - وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ عَظِيمٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةُ الْمُنْخَنِقَةِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَهْلُ الْكِتَابِ طَعَامًا لَهُمْ مَسْكُوتًا عَنْهَا، فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّسْمِيَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ; لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهَا عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ فَلَا يَصِحُّ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ: الْمُسَاوَاةُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَجَالِ لِأَنَّهُ مُهِمٌّ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِيهِ كَثِيرٌ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. انْتَهَى ".
(مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ)
جَاءَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ مِنَ (الْمُدَوَّنَةِ) مَا نَصُّهُ " قُلْتُ: أَفَتَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصِبْيَانِهِمْ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا، وَلَكِنْ إِذَا حَلَّ ذَبَائِحُ رِجَالِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ إِذَا أَطَاقُوا الذَّبْحَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ، وَتَأَوَّلَ مَالِكٌ فِيهِ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦: ١٤٥) وَكَانَ يَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّمَهُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ مَا ذَبَحَتِ الْيَهُودُ مِنَ الْغَنَمِ فَأَصَابُوهُ فَاسِدًا عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَهُ لِأَجْلِ الرِّئَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا الَّتِي يُحَرِّمُونَهَا فِي دِينِهِمْ، أَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ مَرَّةً يُجِيزُهُ فِيمَا بَلَغَنِي. انْتَهَى " وَ (الْمُدَوَّنَةُ) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَصْلُ الْمَذْهَبِ فَهِيَ كَالْأُمِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَجَاءَ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْإِمَامِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ الْفَرَسِ الْخَزْرَجَيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٥٩٩ هـ مَا نَصُّهُ:
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا حَلَالٌ لَنَا، وَأَمَّا سَائِرُ أَطْعِمَتِهِمْ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَاتِ فِيهِ ; كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَذَهَبَ
الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ
" الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَنْ هُمْ؟ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ، هَلْ هُمْ مِمَّنْ أُوتِيَ كِتَابًا أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا يُخْتَلَفُ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَفِي كِتَابِ (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ) فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ - أَيْضًا - مَا نَصُّهُ: " هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ وَطَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ: مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَرْفَعَ بِهِ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ الِاعْتِرَاضَاتِ عَنِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ، وَتُحْرِجُ إِلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ، وَلَقَدْ سُئِلْتُ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا، هَلْ تُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ مِنْهُ طَعَامًا؟ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ، فَقُلْتُ: تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ ذَكَاةً عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا، إِلَّا مَا كَذَّبَهُمُ اللهُ فِيهِ، وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّهُمْ يُعْطُونَنَا نِسَاءَهُمْ أَزْوَاجًا، فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ، فَكَيْفَ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَالْأَكْلُ
دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. انْتَهَى. وَفِيمَا قَالَهُ الْقَاضِي نَوْعٌ مِنَ التَّقْيِيدِ وَالتَّشْدِيدِ، إِذِ اعْتَبَرَ فِي طَعَامِهِمْ مَا يَأْكُلُهُ أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ مُفْتِي مِصْرَ، فِي فَتْوَاهُ التِّرِنْسِفَالِيَّةِ.
وَقَدْ أَفْتَى الْمَهْدِيُّ الْوَزَّانِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ فَاسَ بِمِثْلِ مَا أَفْتَى بِهِ مُفْتِي مِصْرَ، وَلَمَّا عَلِمَ بِمُشَاغَبَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي فَتْوَى مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَتَبَ رِسَالَةً فِي تَأْيِيدِ الْفَتْوَى بِنُصُوصِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ، نَشَرْنَاهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
قَالَ الشَّيْخُ بَنَانِيُّ عَلَى قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ: " وَذَبْحٌ لِصَنَمٍ " مَا نَصُّهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنَمِ كُلُّ مَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِحَيْثُ يَشْمَلُ الصَّنَمَ وَالصَّلِيبَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فِي أَكْلِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ، كَمَا فِي التَّتَائِيِّ والزُّرْقَانِيِّ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَنَصُّهُ: كَرِهَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِكَنَائِسِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ لِأَنَّهُ رَآهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ إِذْ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مُضَاهِيَةً لَهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُ إِنَّمَا مَعْنَاهَا فِيمَا ذَبَحُوا لِآلِهَتِهِمْ مِمَّا لَا يَأْكُلُونَ، قَالَ: وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ. انْتَهَى.
" وَقَالَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَشْهَبَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّا ذُبِحَ لِلْكَنَائِسِ، قَالَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. ابْنُ رُشْدٍ: " كَرِهَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوا لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَجَّهَ قَوْلَ أَشْهَبَ أَنَّ مَا ذَبَحُوا لِكَنَائِسِهِمْ، لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا لَنَا ; لِأَنَّ اللهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَقُولُ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُونَهُ، فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ". انْتَهَى.
" فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَبْحَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا قَصَدُوا بِهِ التَّقَرُّبَ لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهُ، فَهُوَ لَيْسَ طَعَامَهُمْ، وَلَمْ يَقْصِدُوا بِالذَّكَاةِ إِبَاحَتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنَ الْكَرَاهَةِ فِي ذَبْحِ الصَّلِيبِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لَكِنْ سَمَّوْا عَلَيْهِ
اسْمَ آلِهَتِهِمْ فَهَذَا يُؤْكَلُ بِكُرْهٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ " هَذَا الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ بُنَانِيٍّ، وَسَلَّمَهُ الرُّهُونِيُّ بِسُكُوتِهِ عَنْهُ، فَهَذَا شَاهِدٌ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ الْأَكْلِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي ذَكَاتِنَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ فِي ذَكَاتِهِمْ، كَمَتْرُوكِ التَّذْكِيَةِ عَمْدًا ; فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِنَا وَتُؤْكَلُ بِذَبِيحَتِهِمْ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. فإذًا الْمَدَارُ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ طَعَامِهِمْ لَا غَيْرَ، وَاللهُ أَعْلَمُ ". انْتَهَى الْمُرَادُ مِمَّا كَتَبَهُ الْمُفْتِي الْوَزَّانِيُّ.
وَقَدْ أَطَالَ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ فِي الْفَتْوَى (التِّرِنْسِفَالِيَّةِ) وَالْقَوْلَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفَصَّلُوهُ فِي بِضْعِ فُصُولٍ. الْفَصْلُ السَّابِعُ مِنْهَا فِي بَيَانِ أَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (أَيْ مِنْ حِلِّ مَا خَنَقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقَصْدِ التَّذْكِيَةِ لِأَكْلِهِ) هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَاطِبَةً، وَالْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي رَدِّ الرُّهُونِيِّ بِرَأْيِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّاسِعُ فِي تَفْنِيدِ كَلَامِ الرُّهُونِيِّ وَبَيَانِ بُطْلَانِهِ، قَالُوا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّابِعِ مَا نَصُّهُ:
لَهُمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِنَا، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ النُّصُوصُ وَالتَّعَالِيلُ الْآتِيَةُ، وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ.
قَالَ الزَّيَّاتِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: " الرَّابِعُ: مَا ذُبِحَ لِلصَّلِيبِ، أَوْ لِعِيسَى، أَوْ لِكَنَائِسِهِمْ يُكْرَهُ أَكْلُهُ. بَهْرَامُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: " وَمَا ذَبَحُوهُ وَسَمَّوْا عَلَيْهِ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا ذَبَحُوهُ لِلصَّلِيبِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ لُبَابَةَ: هُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ لِلْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ". انْتَهَى.
" وَفِي الْقَلَشَانِيِّ أَنَّ أَشْهَبَ يَرَى - أَيْضًا - الْكَرَاهَةَ فِيمَا ذُبِحَ لِلْمَسِيحِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ: يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَقَدْ أَبَاحَ اللهُ ذَبَائِحَهُمْ لَنَا وَقَدْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ، وَذَكَرَ الْقَلَشَانِيُّ - أَيْضًا - فِيمَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ الْكَرَاهَةُ.
وَنَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ مَا ذُبِحَ لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. انْتَهَى. وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ عَنِ الرَّمَاصِيِّ: أَجَازَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسِيحِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالْإِبَاحَةَ لِابْنِ حَارِثٍ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَعَ رِوَايَةِ أَشْهَبَ. وَعَنْهُ أَبَاحَ اللهُ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ، وَعَلِمَ مَا يَفْعَلُونَهُ ". انْتَهَى. وَسَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يُكْرَهُ: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ أَوْ عِيسَى، وَلَيْسَ تَحْرِيمُ الْمَذْبُوحِ لِلصَّنَمِ لِكَوْنِهِ ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ، قَالَ التُّونِسِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (٦: ١٢١).
مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ. قَالَ: وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ كِتَابِ الضَّحَايَا. وَقَالَ فِي سَمَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَشْهَبَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّا ذُبِحَ لِلْكَنَائِسِ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ". ابْنُ رُشْدٍ: " كَرِهَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَكْلَ مَا ذَبَحُوهُ لِأَعْيَادِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَوَجَّهَ قَوْلَ أَشْهَبَ أَنَّ مَا ذَبَحُوهُ لِكَنَائِسِهِمْ، لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا ; لِأَنَّ اللهَ قَالَ: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فِيمَا ذَبَحُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُونَهُ ; فَهَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا بِدَلِيلِ الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ". انْتَهَى. فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَبْحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنْ قَصَدُوا بِهِ التَّقَرُّبَ لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُؤْكَلُ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَهُ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَكَاتِهِ إِبَاحَتَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا مَا يَأْتِي مِنَ الْمَكْرُوهِ فِي: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ... إِلَخْ. فَأَرَادَ بِهِ مَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَسَمَّوْا عَلَيْهِ بِاسْمِ آلِهَتِهِمْ، فَهَذَا يُؤْكَلُ بِكُرْهٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. انْتَهَى.
وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ التَّتَائِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ، جَوَازَ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِلصَّنَمِ. انْتَهَى. وَأَنْتَ لَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنْ مَا ذُبِحَ لِلصَّنَمِ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ الْأَجِلَّاءُ لِكَوْنِهِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَأَمَّلْهُ.
وَقَالَ الْعَلَامَةُ التَّتَائِيُّ، عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَذُبِحَ لِصَلِيبٍ أَوْ لِعِيسَى: أَيْ يُكْرَهُ أَكْلُ مَذْبُوحٍ لِأَجْلِهِ، مُحَمَّدٌ وَابْنُ حَبِيبٍ: " هُوَ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَمَا تَرَكَ مَالِكٌ الْعَزِيمَةَ بِتَحْرِيمِهِ، فِيمَا ظَنَنَّا، إِلَّا لِلْآيَةِ الْأُخْرَى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ فَأَحَلَّ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا طَعَامَهُمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُونَهُ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا: كَرِهَ مَالِكٌ مَا ذَبَحُوهُ لِلْكَنَائِسِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِلصَّلِيبِ أَوْ مَا مَضَى مِنْ أَحْبَارِهِمْ، أَوْ لِجِبْرِيلَ أَوْ لِأَعْيَادِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ " انْتَهَى. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ قَصْدُهُمْ بِهِ تَعْظِيمَ شِرْكِهِمْ مَعَ قَصْدِ الذَّكَاةِ. انْتَهَى. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَفِي بَهْرَامَ: وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِلصَّلِيبِ أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. انْتَهَى.
إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ أَجَازَ أَكْلَ شُحُومَهُمْ لِأَنَّهَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمُحَالٌ أَنْ تَقَعَ الذَّكَاةُ عَلَى بَعْضِ الشَّاةِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مَا يَأْكُلُونَ، لَمْ يُجِزْ أَكْلَ شُحُومِهِمْ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَلَيْسَتْ مِمَّا يَأْكُلُونَ.
وَفِي مِنَحِ الْجَلِيلِ - أَيْضًا - بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى التَّسْمِيَةِ، مَا نَصُّهُ: وَقَالَ فِي الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ: " لَيْسَتِ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: لَا تَأْكُلُوا الْمَيْتَةَ الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ إِلَى ذَكَاتِهَا ; لِأَنَّهَا فِسْقٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (٦: ١١٨) : كُلُوا مِمَّا قَصَدْتُمْ إِلَى ذَكَاتِهِ، فَكَنَّى عَنِ التَّذْكِيَةِ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا كَنَّى عَنْ رَمْيِ الْجِمَارِ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (٢: ٢٠٣) انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ.
وَقَالَ فِي كَبِيرِ الْخَرَشِيِّ: وَدَخَلَ فِي قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: " يُنَاكَحُ " أَيْ يَحِلُّ لَنَا وَطْءُ نِسَائِهِ فِي الْجُمْلَةِ، الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ، مُعَاهِدًا أَوْ حَرْبِيًّا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْآنَ وَمَنْ تَقَدَّمَ، خِلَافًا لِلطَّرْطُوشِيِّ فِي اخْتِصَاصِهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ بَدَّلُوا، فَلَا نَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ الذَّكَاةُ مِمَّا بَدَّلُوا، وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْهُمْ، فَهُمْ مُصَدَّقُونَ فِيهِ. انْتَهَى. وَمِثْلُهُ فِي التَّتَائِيِّ بِلَا فَرْقٍ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَأَمَّا مَنْ يُذْكِي فَمَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا... إِلَخْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ قَدْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ عَلَى صِحَّةِ ذَكَاةِ الْكِتَابِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي ذَلِكَ لِيَصِيرَ كَلَامُهُ مُوَافِقًا لِلْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِنَّ كَانَ غَيْرَ كِتَابِيٍّ لَمْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ مُمَيِّزًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا، فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَّاهُ مِمَّا يَسْتَحِلُّ أَكْلَهُ فَذَكَاتُهُ لَهُ صَحِيحَةٌ وَيَجُوزُ لَنَا الْأَكْلُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ قَدْ كَرِهَ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ طَعَامِهِمْ مَا يُذَكُّونَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَّاهُ مِمَّا لَا يَسْتَحِلُّهُ، بَلْ مِمَّا يَقُولُ: إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ: فَإِنْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ بِنَصِّ شَرِيعَتِنَا كَذِي الظُّفْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادَوْا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفْرٍ (٦: ١٤٦) فَالْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ بِشَرْعِنَا، بَلْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِمْ ; كَالَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالطَّرِيقَةِ -
بِالطَّاءِ الْمُهْمِلَةِ - فَفِي جَوَازِ
قَالَ اللَّخْمِيُّ: " وَثَبَتَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، وَاقْتَصَرَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ بَشِيرٍ بِاحْتِمَالِ صِدْقِ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْكِتَابِيُّ لَا يَسْتَبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَهَا فَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: فَإِنْ غَابَ الْكِتَابِيُّ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْمَيْتَةَ كَبَعْضِ النَّصَارَى، أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ نَأْكُلْ مَا غَابُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُذَكُّونَ أَكَلْنَاهُ ". انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا يَذْبَحُهُ الْكِتَابِيُّ لِعِيدِهِ أَوْ لِلصَّلِيبِ أَوْ لِعِيسَى أَوْ لِلْكَنِيسَةِ أَوْ لِجِبْرِيلَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَهَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَاسْتَخَفَّهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَالُوا: قَدْ أَحَلَّ لَنَا ذَلِكَ وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ. انْتَهَى.
وَأَمَّا مَا ذَبَحُوهُ لِلْأَصْنَامِ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: بِاتِّفَاقٍ ; لِأَنَّهُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ.
قَالَ اللَّخْمِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ، فِيمَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لِعِيدِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ وَصُلْبَانِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: " الصَّحِيحُ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالْأَصْنَامُ، وَهِيَ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ أَصْبَغُ فِي ثُمَانِيَّةِ أَبِي زَيْدٍ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسُوا أَصْحَابَ أَصْنَامٍ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: إِنَّا لَا نَأْكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ لِأَنْصَابِكُمْ ; يَعْنِي الْأَصْنَامَ، وَأَمَّا مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ - سُبْحَانَهُ - لَهُمْ حُرْمَةً، فَأَجَازَ مُنَاكَحَتَهُمْ وَذَبَائِحَهُمْ ; لِتَعَلُّقِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا كَافِرِينَ، وَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ مَا ذُبِحَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْكَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، إِلَّا أَنْ يُسْأَلَ هَلْ سَمَّى عَلَيْهِ الْمَسِيحَ أَوْ ذَبَحَ لِلْكَنِيسَةِ؟ بَلْ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الْمَسِيحَ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ كَيْفَ كَانَتْ. انْتَهَى.
فَانْظُرْ كَيْفَ تَضَافَرَتْ كُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ كَبَاقِي نُصُوصِ جَمِيعِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى إِنَاطَةِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِكَوْنِهِ حَلَالًا عِنْدَهُمْ - أَيْ يَأْكُلُونَهُ - وَعَدَمِهِ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْحَفَّارُ، وَقَالَ: أَهْلُ الْمَذْهَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ وَيُفْتُونَ بِحِلِّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ،
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تَعْلَمُ أَنَّ الذَّبْحَ لِلصَّلِيبِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَسِيحِيَّةِ الْحَقَّةَ ; لِأَنَّهُ حَادِثٌ بَعْدَهَا، إِذْ مَنْشَؤُهُ حَادِثَةُ الصَّلْبِ الْمَشْهُورَةِ، فَكُلُّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَا هُوَ حَلَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي شَرِيعَتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ - أَيْضًا - مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَأَنَّهَا الَّتِي لَمْ يُقْصَدْ ذَكَاتُهَا، كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْيِيدُ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا مَعَهَا بِمَا لَمْ تُقْصَدْ ذَكَاتُهُ، وَيَكُونُ هَذَا فِي الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا مَعَهَا، بِدَلِيلِ: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ كَمَا سَبَقَ، وَمِنْهُ يَتَّضِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَيْتَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ كَانَ الْكِتَابِيُّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَلَا تَأْكُلْ مَا غَابَ... إِلَخْ.
(مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ مِنَ الْأُمِّ، مَا نَصُّهُ: (١) أَحَلَّ اللهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ طَعَامُهُمْ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: ذَبَائِحَهُمْ، وَكَانَتِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى إِحْلَالِ ذَبَائِحِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ ذَبَائِحُهُمْ يُسَمُّونَهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - فَهِيَ حَلَالٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ ذَبْحٌ آخَرُ يُسَمُّونَ عَلَيْهِ غَيْرَ اسْمِ اللهِ - تَعَالَى - مِثْلَ اسْمِ الْمَسِيحِ، أَوْ يَذْبَحُونَهُ بِاسْمٍ دُونَ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ يَحِلَّ هَذَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا أُثْبِتُ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ هَكَذَا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ زَعَمْتَ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ صِنْفَانِ، وَقَدْ أُبِيحَتْ مُطْلَقَةً؟ قِيلَ: قَدْ يُبَاحُ الشَّيْءُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، فَإِذَا زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ نَسِيَ اسْمَ اللهِ - تَعَالَى - أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ اسْتِخْفَافًا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ، وَهُوَ لَا يَدَعُهُ لِلشِّرْكِ، كَانَ مَنْ يَدَعُهُ عَلَى الشِّرْكِ أَوْلَى أَنْ تُتْرَكَ ذَبِيحَتُهُ، وَقَدْ أَحَلَّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لُحُومَ الْبُدُنِ (الْإِبِلِ) مُطْلَقَةً، فَقَالَ: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا (٢٢: ٣٦) أَيْ إِذَا سَقَطَتْ جَنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا، وَوَجَدْنَا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْبَدَنَةِ الَّتِي هِيَ نَذْرٌ، وَلَا جَزَاءُ صَيْدٍ، وَلَا فِدْيَةٌ. فَلَمَّا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَتَرَكْنَا الْجُمْلَةَ، لَا أَنَّهَا
خِلَافٌ لِلْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ، وَمَعْقُولٌ أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، لِأَنَّا إِذَا جَعَلْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَمْ نَجْعَلْ عَلَيْهِ الْكُلَّ، إِنَّمَا جَعَلْنَا عَلَيْهِ الْبَعْضَ الَّذِي أَعْطَى، فَهَكَذَا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى شَبِيهِ مَا قُلْنَا. انْتَهَى بِحُرُوفِهِ (ص ١٩٦ ج ٢ مِنَ الْأُمِّ).
أَقُولُ: إِنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - حَرَّمَ مَا ذَكَرُوا اسْمَ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ، بِأَقْيِسَةٍ عَلَى مَسَائِلَ خِلَافِيَّةٍ جَعَلَهَا نَظِيرًا لِلْمَسْأَلَةِ، وَقَيَّدَ بِهَا إِطْلَاقَ الْقُرْآنِ، وَمُخَالِفُوهُ فِي ذَلِكَ - كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ - لَا يُجِيزُونَ تَخْصِيصَ الْآيَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي غَايَةُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْقُرْآنِ جَائِزٌ بِالدَّلِيلِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ تَهَاوُنًا وَاسْتِخْفَافًا، لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَإِذَا سَلَّمْنَاهُ جَدَلًا، نَمْنَعُ قِيَاسَ الْكِتَابِيِّ عَلَيْهِ فِيمَا ذُكِرَ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِبَيَانِ الْمَنْعِ بِالتَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَا ذَبَحُوهُ
(٢) ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ ذَبَائِحَ نَصَارَى الْعَرَبِ لَا تُؤْكَلُ، وَاحْتَجَّ بِأَثَرٍ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا نَصَارَى الْعَرَبِ بِأَهْلِ كِتَابٍ، وَمَا تَحِلُّ لَنَا ذَبَائِحُهُمْ، وَمَا أَنَا بِتَارِكِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ أَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ". وَبِقُولِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - الْمَشْهُورِ فِي بَنِي تَغْلِبَ. فَأَمَّا أَثَرُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا لَهُ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعَرَبِ مُصَرِّحٌ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا نَصَارَى، وَأَمَّا أَثَرُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَرَوَاهُ فِي الْأُمِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَذِبِهِ، وَمِمَّنْ طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ جَمَعَ أُصُولَ الْبِدَعِ: فَكَانَ قَدَرِيًّا جَهْمِيًّا مُعْتَزَلِيًّا رَافِضِيًّا، وَقَدْ سُئِلَ الرَّبِيعُ حِينَ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا: مَا حَمَلَ الشَّافِعِيَّ عَلَى أَنْ رَوَى عَنْهُ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ كَانَ يُبَرِّئُهُ مِنَ الْكَذِبِ وَيَرَى أَنَّهُ ثِقَةٌ فِي الْحَدِيثِ ; أَيْ وَالْعِبْرَةُ فِي الْحَدِيثِ بِالصِّدْقِ لَا بِالْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُ بِالْبِدْعَةِ وَبِالْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ: وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ إِبْرَاهِيمَ فِي حَدَاثَتِهِ وَيَحْفَظُ عَنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مِصْرَ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ وَأَخَذَ يُصَنِّفُ الْكُتُبَ احْتَاجَ إِلَى الْأَخْبَارِ، وَلَمْ تَكُنْ كُتُبُهُ مَعَهُ، فَأَكْثَرُ مَا أَوْدَعَ الْكُتُبَ مِنْ حِفْظِهِ، وَرُبَّمَا كَنَّى عَنِ اسْمِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَحْتَجُّ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى مِثْلَ الشَّافِعِيِّ، قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ: وَفِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يَحْتَجُّ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى؟. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْأَثَرِ، عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ رَأَيُ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ فِيهِ الْجُمْهُورُ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنْ صَحَّ.
(٣) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ الذَّبِيحَةِ وَفِيهِ مَنْ يَجُوزُ ذَبْحُهُ (مِنَ الْأُمِّ ص ٢٠٥ و٢٠٦ ج٢) : وَذَبْحُ كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الذَّبْحَ مِنِ امْرَأَةٍ حَائِضٍ، وَصَبِيٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَبْحِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَكُلٌّ حَلَالُ الذَّبِيحَةُ، غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَ نُسُكِهِ ; أَيْ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ أَوْ غَيْرِهَا: احْضَرِي ذَبْحَ نَسِيكَتِكِ ; فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ ذَبَحَ النَّسِيكَةَ غَيْرُ مَالِكِهَا أَجْزَأَتْ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بَعْضَ هَدْيِهِ وَنَحَرَ بَعْضَهُ غَيْرُهُ، وَأَهْدَى هَدْيًا فَإِنَّمَا نَحَرَهُ مَنْ أَهْدَاهُ مَعَهُ، غَيْرَ أَنِّي
" وَنِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا أَطَقْنَ الذَّبْحَ كَرِجَالِهِمْ، وَمَا ذَبَحَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلُهُ مِنَ الصَّيْدِ أَوْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَكَانُوا يُحْرَمُونَ مِنْهُ، شَحْمًا أَوْ حَوَايَا - أَيْ مَا يَحْوِي الطَّعَامَ كَالْأَمْعَاءِ - أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ فَلَا بَأْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْلِهِ ; لِأَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - إِذْ أَحَلَّ طَعَامَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ذَبَائِحَهُمْ ; فَكُلُّ مَا ذَبَحُوا لَنَا فَفِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُحَرِّمُونَ، فَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا إِذَا ذَبَحُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ بِتَحْرِيمِهِمْ لَحُرِّمَ عَلَيْنَا إِذَا ذَبَحُوهُ لَنَا، وَلَوْ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَإِنَّمَا أُحِلَّ لَنَا طَعَامُهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَسْتَحِلُّونَ، كَانُوا قَدْ يَسْتَحِلُّونَ مُحَرَّمًا عَلَيْنَا يُعِدُّونَهُ لَهُمْ طَعَامًا، فَكَانَ يَلْزَمُنَا لَوْ ذَهَبْنَا هَذَا الْمَذْهَبَ أَنَّ نَأْكُلَهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمُ الْحَلَّالِ لَهُمْ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، مَعْنَاهَا مَا وَصَفْنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ ".
هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ، فَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِمْ فِي الْآيَةِ، ذَبَائِحُهُمْ خَاصَّةً لَا عُمُومَ
الطَّعَامِ، فَمَا ذَبَحُوهُ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَنَا كَذَبَائِحِنَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَمَا حَلَّ لَهُمْ، وَمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا لَا يَحِلُّ إِذَا كَانَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ، فِي هَذَا لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخَذَتْ بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعَدَّتْهَا كَالِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْنَا، إِلَّا الْمَيْتَةَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ; فَإِنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ لِذَاتِهِمَا لَا لِمَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالتَّذْكِيَةِ أَوْ بِمَا يُذْكَرُ عَلَيْهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَدْ شَرَحَ كَوْنَ مَا أُحِلَّ لَنَا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، لَا يَحْرُمُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (ص ٢٠٩ و٢١٠ مِنْهُ) وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتْبَعَهُ فِي أُصُولِ شَرْعِهِ وَفُرُوعِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ صَارَ حِلًّا لَهُمْ بِشَرْعِهِ وَحِلًّا لَنَا بِالْأَوْلَى.
(مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ: " وَأَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، دُونَ الْمَجُوسِ، وَالصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ، يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَصْلٍ مَا يُحِلُّونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ، فَيَحْرُمُونَ كَالْمَجُوسِ، وَإِنْ كَانُوا يُجَامِعُونَهُمْ - أَيْ يُوَافِقُونَهُمْ - عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ، فَلَا يَحْرُمُونَ، فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالْمُسْلِمَةِ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ. انْتَهَى مِنْ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ (ص ٢٨٢ ج ٣ عَلَى هَامِشِ الْأُمِّ) وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمَجُوسَ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا فِي نِكَاحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ.
وَذَكَرَ فِي حَاشِيَتِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْمَذْهَبِ إِبَاحَةُ ذَبِيحَةِ بَنِي تَغْلِبَ، قَالَ: " وَأَمَّا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ غَيْرُ كِتَابِيٍّ فَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا تُبَاحُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَالثَّانِيَةُ لَا تُبَاحُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ;
لِأَنَّهُ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ وَالتَّحْرِيمَ، فَغُلِّبَ التَّحْرِيمُ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ - أَيِ الصَّيْدَ - مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ ". انْتَهَى.
أَقُولُ: " وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ، هُوَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَبِ، وَكَانَ اللَّائِقُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَشْرَفَ الْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ أَنْ يَجْعَلُوا ذَبْحَ الصَّغِيرِ كَذَبْحِ أَشْرَفِ وَالِدَيْهِ، وَأَمَّا الْبَالِغُ فَلَا وَجْهَ لِلْبَحْثِ عَنْ أَبَوَيْهِ ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كِتَابِيًّا كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ (فِي ص ٥٣٧) مِنْهُ: " وَإِذَا ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ; كَذِي الظُّفْرِ - أَيْ عِنْدَ الْيَهُودِ - لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا، وَإِنْ ذَبَحَ حَيَوَانًا غَيْرَهُ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْنَا الشُّحُومُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ شَحْمُ الثَّرْبِ، أَيِ الْكِرْشِ وَالْكُلْيَتَيْنِ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَحَكَاهُ عَنِ الْخَرَقِيِّ فِي كَلَامٍ مُفْرَدٍ، وَاخْتَارَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَالْقَاضِي تَحْرِيمَهُ، وَإِنْ ذَبَحَ لِعِيدِهِ أَوْ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى شَيْءٍ مَا يُعَظِّمُونَهُ، لَمْ يَحْرُمْ. نَصَّ عَلَيْهِ " انْتَهَى، أَيْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَإِنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِيهِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى.
وَقَالَ (فِي ص ٥٣٥ مِنْهُ) : الرَّابِعُ، أَيْ مِنْ شُرُوطِ التَّذْكِيَةِ: أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، لَا يَقُومُ مَقَامَهَا غَيْرُهَا، إِلَّا الْأَخْرَسَ فَإِنَّهُ يُومِئُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لَمْ تُبَحْ، وَإِنْ تَرَكَهَا سَاهِيًا أُبِيحَتْ، وَعَنْهُ تُبَاحُ فِي الْحَالَيْنِ، وَعَنْهُ لَا تُبَاحُ فِيهِمَا.
قَالَ فِي حَاشِيَتِهِ: " قَوْلُهُ فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا... إِلَخْ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا، وَذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ إِجْمَاعًا فِي سُقُوطِهَا سَهْوًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ، وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَا نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ تُبَاحُ فِي الْحَالَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سُئِلَ، فَقِيلَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ؟ فَقَالَ:
وَلَنَا مَا رَوَى الْأَحْوَصُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. لَكِنَّ الْأَحْوَصَ ضَعِيفٌ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تُبَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (٦: ١٢١) وَجَوَابُهُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا تَرَكَ اسْمَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (٦: ١٢١) وَالْأَكْلُ مِمَّا نُسِيَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ انْتَهَى.
أَقُولُ: مِنْ عَجَائِبِ انْتِصَارِ الْإِنْسَانِ لِمَا يَخْتَارُهُ جَعْلُ الْفِسْقِ هُنَا بِمَعْنَى تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، وَالظَّاهِرُ فِيهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَفِي الْبَابِ مِنْ كِتَابِ بُلُوغِ الْمَرَامِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، مَا نَصُّهُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللهَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لْيَأْكُلْ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِيهِ رَاوٍ فِي حِفْظِهِ ضَعْفٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الْحِفْظِ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ بِلَفْظِ: ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ ذَكَرَ اللهَ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، قَالَتْ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَ بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. انْتَهَى.
وَقَدْ جَعَلَ عُلَمَاءُ الْأَزْهَرِ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ مِنْ كِتَابِ (إِرْشَادُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ) الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فِي الذَّبِيحَةِ الَّتِي أَفْتَى بِهَا مُفْتِي مِصْرَ، قَالُوا: " ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حِلِّ الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ، أَنْ تُذَكَّى وَفِيهَا حَيَاةٌ وَإِنْ قَلَّتْ كَالْمَرِيضَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسَّيِّدَيْنِ: الْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ، وَإِبْرَاهِيمَ وَطَاوُسٍ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ، وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ; فَيَحِلُّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ عَلَى رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تُشْتَرَطُ مِنْ مُسْلِمٍ لَا مِنْ كِتَابِيٍّ، وَعَنْهُ عَكْسُهَا، ثُمَّ أَيَّدُوا هَذِهِ الْخُلَاصَةَ بِنَقْلٍ مِنْ كِتَابِ (دَقَائِقِ أُولِي النُّهَى عَلَى مَتْنِ الْمُنْتَهَى) وَمِنْ غَيْرِهِ.
(صَفْوَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُخْتَارُ مِنْهُ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) مَنْ تَأَمَّلَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَمَا تَخَلَّلَهُ وَسَبَقَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ
مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا، فِي دِينِنَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَا الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، مَا نَصُّهُ: " وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، مِنْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ شَرْعِهِمْ وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، قَالَ: مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرٌ حَقٌّ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَمْرٌ بَاطِلٌ، فَتَعْمَلُ فِيهِ التَّذْكِيَةُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْحَقُّ أَنَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَوْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ فِي وَقْتِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْرٌ بَاطِلٌ ; إِذْ كَانَتْ نَاسِخَةً لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ أَلَّا يُرَاعَى اعْتِقَادُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ فِي تَحْلِيلِ الذَّبَائِحِ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا اعْتِقَادَ شَرِيعَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ لَمَا جَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِكَوْنِ اعْتِقَادِ شَرِيعَتِهِمْ فِي ذَلِكَ مَنْسُوخًا، وَاعْتِقَادُ شَرِيعَتِنَا لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ خَصَّهُمُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ، فَذَبَائِحُهُمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ، جَائِزَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا ارْتَفَعَ حُكْمُ آيَةِ التَّحْلِيلِ
جُمْلَةً، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ، وَاللهٌ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمُرَادُهُ بِذَبَائِحِهِمْ مُذَكَّاهُمْ كَيْفَمَا كَانَتْ تَذْكِيَتُهُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّذْكِيَةِ وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ بِقَصْدِ أَكْلِهِ، وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمُحَقِّقِي الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَلِلَّهِ دَرُّ مَالِكٍ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِنَّ كَلَامَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ مُخَالِفِيهِمْ دَلِيلًا، وَأَلْيَقُ بِيُسْرِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ عُسْرًا لَا يُسْرًا وَحَرَجًا لَا سِعَةً، وَإِنْ هُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا إِلَّا فِيمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، فَمَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ، وَمَنْ شَدَّدَ عَلَى الْأُمَّةِ حَثَوْنَا التُّرَابَ فِي فِيهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
رِسَالَةً فِي خُصُوصِ ذَلِكَ وَأَطْنَبَ فِيهَا، فَذَكَرَ أَقْوَالَ الْمَشَايِخِ وَالْخِلَافَاتِ فِي الْمَذَاهِبِ، وَاعْتَمَدَ قَوْلَ الْإِمَامِ الطَّرْطُوشِيِّ فِي الْمَنْعِ وَعَدَمِ الْحِلِّ، وَحَشَا الرِّسَالَةَ بِالْحَطِّ عَلَى عُلَمَاءِ الْوَقْتِ وَحُكَّامِهِ، وَهِيَ نَحْوُ الثَّلَاثَ عَشْرَةَ كُرَّاسَةً - كَذَا - وَأَرْسَلَهَا إِلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الثَّغْرِ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَالْإِنْكَارُ، خُصُوصًا وَأَهْلُ الْوَقْتِ أَكْثَرُهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْمِلَّةِ، وَانْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى الْبَاشَا، فَكَتَبَ مَرْسُومًا إِلَى كَتُخْدَا بِيكْ بِمِصْرَ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ مَشَايِخَ الْوَقْتِ لِتَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا بِالرِّسَالَةِ الْمُصَنَّفَةِ، فَأَحْضَرَ كَتُخْدَا بِيكِ الْمَشَايِخَ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ، فَلَطَّفَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْعَرُوسِيُّ الْعِبَارَةَ، وَقَالَ: " الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَلِيلِيُّ رَجُلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّى عَنْ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ، لَا يُنْكَرُ عِلْمُهُ وَفَضْلُهُ، وَهُوَ مُنْعَزِلٌ عَنْ خِلْطَةِ النَّاسِ، إِلَّا إِنَّهُ حَادُّ الْمِزَاجِ، وَبِعَقْلِهِ بَعْضُ خَلَلٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ نَجْتَمِعَ بِهِ وَنَتَذَاكَرَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِكُمْ، وَنُنْهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ إِلَيْكُمْ ".
فَاجْتَمَعُوا فِي ثَانِي يَوْمٍ وَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّيْخِ عَلِيٍّ يَدْعُونَهُ لِلْمُنَاظَرَةِ، فَأَبَى عَنِ الْحُضُورِ وَأَرْسَلَ الْجَوَابَ مَعَ شَخْصَيْنِ مِنْ مُجَاوِرِي الْمَغَارِبَةِ، يَقُولَانِ: إِنَّهُ لَا يَحْضُرُ مَعَ الْغَوْغَاءِ، بَلْ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يَتَنَاظَرُ فِيهِ مَعَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَمِيرِ بِحَضْرَةِ الشَّيْخِ حَسَنٍ الْقُوَيْسِنِيِّ وَالشَّيْخِ حَسَنٍ الْعَطَّارِ فَقَطْ ; لِأَنَّ ابْنَ الْأَمِيرِ يُنَاقِشُهُ وَيَشُنُّ عَلَيْهِ الْغَارَةَ، فَلَمَّا قَالَا ذَلِكَ الْقَوْلَ تَغَيَّرَ ابْنُ الْأَمِيرِ وَأَرْعَدَ وَأَبْرَقَ، وَتَشَاتَمَ بَعْضُ مَنْ بِالْمَجْلِسِ مَعَ الرُّسُلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرُوا بِحَبْسِهِمَا فِي بَيْتِ الْأَغَا، وَأَمَرُوا الْأَغَا بِالذَّهَابِ إِلَى بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ وَإِحْضَارِهِ بِالْمَجْلِسِ وَلَوْ قَهْرًا عَنْهُ، فَرَكِبَ
ثُمَّ كَتَبُوا عَرَضًا مُحَضَّرًا وَذَكَرُوا فِيهِ بِأَنَّ الشَّيْخَ عَلِيًّا عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَبَى عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُنَاظَرَةَ مَعَهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَهَرَبَ وَاخْتَفَى ; لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ مَا اخْتَفَى وَلَا هَرَبَ، وَالرَّأْيُ لِحَضْرَةِ الْبَاشَا فِيهِ إِذَا ظَهَرَ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا السَّكَنْدَرِيِّ - كَذَا - وَتَمَّمُوا الْعَرْضَ وَأَمْضَوْهُ بِالْخُتُومِ الْكَثِيرَةِ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى الْبَاشَا، وَبَعْدَ أَيَّامٍ أَطْلَقُوا الشَّخْصَيْنِ مِنْ حَبْسِ الْأَغَا وَرَفَعُوا الْخَتْمَ عَنْ بَيْتِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ، وَرَجَعَ أَهْلُهُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ الْبَاشَا إِلَى مِصْرَ فِي أَوَائِلِ
الشَّهْرِ وَرَسَمَ بِنَفْيِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ بَاشَا إِلَى بَنِي غَازِي، وَلَمْ يَظْهَرِ الشَّيْخُ مِنِ اخْتِفَائِهِ " انْتَهَى.
(اسْتِدْرَاكٌ فِي حِكْمَةِ الذَّبْحِ وَتَحْرِيمِ الدَّمِ) قَالَ لَنَا أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَ قِرَاءَةِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الدَّمِ فِي الْمَنَارِ: إِنَّ تَجْرِبَةَ حَقْنِ الْإِنْسَانِ بِدَمِ الْحَيَوَانِ لَمْ تَنْجَحْ، فَهُوَ ضَارٌّ، وَإِنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ أَوْ نَحْرَهُ أَنْفَعُ ; لِأَنَّهُ يَنْهَرُ الدَّمَ الضَّارَّ، وَإِنَّ الْمَوَادَّ الْمَيِّتَةَ فِي الدَّمِ لَيْسَتْ عَفِنَةً، بَلْ سَامَّةً. انْتَهَى. قُلْتُ: مُرَادِي بِعَفِنَةٍ: الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لَا الطِّبِّيِّ أَيْ فَاسِدَةٌ ضَارَّةٌ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٦ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
فِيمَا يُطْلَبُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ، فَاشْتَغِلْ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ الْعُبُودِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، الصَّلَاةُ، وَكَانَتِ الصَّلَاةُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لَا جَرَمَ بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - بِذِكْرِ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ " (لَعَلَّ الْأَصْلَ فَرَائِضُ الْوُضُوءِ).
أَقُولُ: لَوْ جَعَلَ هَذَا الْوَجْهَ فِي الِاتِّصَالِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مَعًا - وَقَدْ جَمَعْنَاهُمَا - لَكَانَ أَظْهَرَ، فَإِنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ يُذَكِّرُنَا بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ. وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ آيَةِ الْوُضُوءِ وَمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ الْحَدَثَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا سَبَبُ الطَّهَارَتَيْنِ هُمَا أَثَرُ الطَّعَامِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْلَا الطَّعَامُ لَمَا كَانَ الْغَائِطُ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ، وَلَوْلَا النِّكَاحُ لَمَا كَانَتْ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ، وَأَمَّا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ آيَةِ الْمِيثَاقِ وَمَا قَبْلَهَا فَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَنَا طَائِفَةً مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، ذَكَّرَنَا بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ عَلَيْنَا، وَمَا الْتَزَمْنَاهُ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِقَبُولِ دِينِهِ الْحَقِّ ; لِنَقُومَ بِهَا مُخْلِصِينَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ هُنَا إِرَادَتُهُ، أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (١٦: ٩٨) أَيْ إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَتَهُ، عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مُرِيدَ الصَّلَاةِ يَقُومُ إِلَيْهَا مِنْ قُعُودٍ أَوْ نَوْمٍ، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْقِيَامِ إِلَى الشَّيْءِ عَلَى الِانْصِرَافِ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ فَسَّرَ الْقِيَامَ بِإِرَادَتِهِ حَاوَلَ أَنْ يُدْخِلَ فِي عُمُومِ مَنْطُوقِهِ صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا لِعُذْرٍ.
وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ عُمُومُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ تَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَعَلَيْهِ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَلَكِنْ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُحْدِثًا، فَهُمْ يُقَيِّدُونَ الْقِيَامَ الَّذِي خُوطِبَ أَهْلُهُ بِالطَّهَارَةِ بِالتَّلَبُّسِ بِالْحَدَثِ، فَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثِينَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... إِلَخْ. وَالْعُمْدَةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّقْيِيدِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ
وَرُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ مُتَّفِقَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ
عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ، سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتُمْ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ ".
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَهْدِهِ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤُوسَهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ " وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوقَظُونَ لِلصَّلَاةِ حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ لِأَحَدِهِمْ غَطِيطًا، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ ".
وَرَوَى أَحْمَدُ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: لَوْلَا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ بِوُضُوءٍ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ تَعْلِيقًا، وَرَوَى نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ غَالِبًا، وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ أَمَامَ النَّاسِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فَنُسِخَ يَوْمئِذٍ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ لِنُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَالْمَنْقُولُ خِلَافُهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَزِيمَةٌ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ، وَآخِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْحَدَثَيْنِ وَوُجُوبَ التَّيَمُّمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ بَعْدَهُمَا، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ وَجَدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِهِ عَقِبَهُمَا، وَلَوْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةً لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمَا كَانَ لِهَذَا مَعْنًى، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْوَى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُحْدِثِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ الْغَسْلُ، بِالْفَتْحِ: إِسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِزَالَةُ مَا عَلَى الشَّيْءِ مِنْ وَسَخٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُرَادُ تَنْظِيفُهُ مِنْهُ، وَالْوُجُوهُ: جَمْعُ وَجْهٍ، وَحَدُّهُ مِنْ أَعْلَى تَسْطِيحِ الْجَبْهَةِ إِلَى أَسْفَلِ اللَّحْيَيْنِ طُولًا، وَمِنْ شَحْمَةِ الْأُذُنِ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ عَرْضًا، وَالْأَيْدِي: جَمْعُ يَدٍ، وَهِيَ الْجَارِحَةُ الَّتِي تَبْطِشُ وَتَعْمَلُ بِهَا،
وَحَدُّهَا فِي الْوُضُوءِ مِنْ رُؤُوسِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَهُوَ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ، وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَبِالْعَكْسِ) وَأَعْلَى الذِّرَاعِ وَأَسْفَلِ الْعَضُدِ.
فَالْفَرْضُ الْأَوَّلُ مِنْ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْوَجْهِ، وَهَلْ يُعَدُّ بَاطِنُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ مِنْهُ ;
قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: " وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ مَعَ صِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ، إِلَّا بِكَوْنِهِ لَا يَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَهُ لَا يُعِيدُ، وَهَذَا دَلِيلٌ فِقْهِيٌّ ; فَإِنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، إِلَّا عَنْ عَطَاءٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى " انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَصِحُّ جَعْلُ تَرْكِهِمْ حُجَّةً فِي هَذَا الْبَابِ، هُمُ الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَرْكُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى يُبْحَثَ فِي إِعَادَتِهِمَا، وَحَدِيثُ (الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ سُنَّةٌ)... إِلَخِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، ضَعِيفٌ، عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي كَلَامِهِمْ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ، وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ جَعْلُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ أَظْهَرَ.
وَالْفَرْضُ الثَّانِي مِنْ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ، وَهَلِ الْمَرْفِقَانِ مِمَّا يَجِبُ غَسْلُهُ، أَمْ هُوَ مَنْدُوبٌ؟ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَنَقَلَهُ عَنْ زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، وَقَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِمَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا زُفَرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ، فَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ جَعَلَ " إِلَى " فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى " مَعَ " وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ جَعَلَهَا لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ. انْتَهَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ غَايَةٍ حُدَّتْ بِـ (إِلَى) فَقَدْ تَحْتَمِلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ دُخُولَ الْغَايَةِ فِي الْحَدِّ، وَخُرُوجَهَا مِنْهُ، قَالَ وَإِذَا احْتَمَلَ الْكَلَامُ
ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ الْقَضَاءُ بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهِ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ فِيمَا بَيَّنَ وَحَكَمَ، وَلَا حُكْمَ بِأَنَّ الْمَرَافِقَ دَاخِلَةٌ فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَنَا مِمَّنْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِحُكْمِهِ. انْتَهَى ".
وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ سِيبَوَيْهَ، حَقَّقُوا أَنَّ مَا بَعْدَ (إِلَى) إِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا قَبْلَهَا دَخَلَ فِي الْحَدِّ، وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ، فَعَلَى هَذَا تَدْخُلُ الْمَرَافِقُ فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ ; لِأَنَّهَا مِنَ الْيَدِ، وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِيمَا يَجِبُ صَوْمُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (٢: ١٨٧) لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنْ نَوْعِ النَّهَارِ الَّذِي يَجِبُ صَوْمُهُ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَنَازَعَ آخَرُونَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَلَكِنْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْسِلُ الْمَرْفِقَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَ صَرِيحًا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ تَرَكَ غَسْلَهُمَا، وَالِالْتِزَامُ الْمُطَّرِدُ آيَةُ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَبُّ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
الْفَرْضُ الثَّالِثُ: الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الرَّأْسُ مَعْرُوفٌ، وَيُمْسَحُ مَا عَدَا الْوَجْهَ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْوَجْهَ شُرِعَ غَسْلُهُ لِسُهُولَتِهِ، وَكَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ الْمُبَيَّنَةِ فِي السُّنَّةِ، أَنْ يَمْسَحَهُ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ إِذَا كَانَ مَكْشُوفًا، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ وَنَحْوُهَا يَمْسَحُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ، وَيُتِمُّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ
وَالْخُفَّيْنِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضُّمَرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، مَا عَدَا أَبَا دَاوُدَ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: مَسَحَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ، وَالْخِمَارُ: الثَّوْبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ النَّصِيفُ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ، وَفَسَّرَهُ النَّوَوِيُّ هُنَا بِالْعِمَامَةِ ; أَيْ لِلرِّجَالِ ; لِأَنَّهَا تَسْتُرُ الرَّأْسَ، وَخُمُرُ النِّسَاءِ مَعْرُوفَةٌ، وَرُوِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ أَوِ الْخِمَارِ أَوِ الْعِصَابَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْفَعُونَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَثَوْبَانِ وَأَبُو أُمَامَةَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو خُزَيْمَةَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمَسْحَ كَانَ يَكُونُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سَاتِرٍ وَحْدَهُ، وَالْأَخْذُ بِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَسٌ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ بِجَوَازِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ; مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِهِ أَقُولُ، وَقَدْ صَحَّ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لِلْمَسْحِ عَلَيْهَا لُبْسُهَا عَلَى طُهْرٍ، وَلَا التَّوْقِيتَ ; إِذْ لَمْ يُرْوَ فِيهِ شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ قَاسَ الْمَسْحَ عَلَيْهَا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، فَاشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ وَوَقَّتَ، وَالْجُمْهُورُ الَّذِينَ لَمْ يُجِيزُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَحْدَهَا، قَالَ مَنْ بَلَغَتْهُ الْأَخْبَارُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَعَ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ ; كَالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ النَّاصِيَةِ.
يُظْهِرُوا نَاصِيَتَهُمْ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، فَيَمْسَحُوا بِهَا، وَيُتَمِّمُوا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ; لِيَكُونَ وُضُوءُهُمْ صَحِيحًا عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَمَنْ مَسَحَ شَيْئًا أَوْ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مَسَحَ ذَلِكَ الشَّيْءَ، أَوْ بِهِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: وَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى صَدْرِي، لَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ حَقِيقَةً، أَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ، وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: إِنَّ الْأَصْلَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِدُونِ سَاتِرٍ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فَرْضِيَّتِهِ تَنْظِيفُهُ مِنْ نَحْوِ الْغُبَارِ، وَهُوَ الْمُتَيَسِّرُ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ سَاتِرٌ لَا يُصِيبُهُ الْغُبَارُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي أَقَلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " إِذَا مَسَحَ الرَّجُلُ بِأَيِّ رَأْسِهِ شَاءَ، إِنْ كَانَ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَبِأَيِّ شِعْرٍ شَاءَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْضِ أُصْبُعٍ، أَوْ بَطْنِ كَفِّهِ، أَوْ أَمَرَ مَنْ يَمْسَحُ لَهُ - أَجْزَأَهُ ذَلِكَ " انْتَهَى. وَبَيَّنَ فِيهِ أَنْ أَظْهَرَ مَعْنَيَيِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَنَّ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ، وَلَكِنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ ; فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَذَكَرَ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ، وَحَدِيثًا مُرْسَلًا فِي مَعْنَاهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَيَأْتِي، وَقَالَ: " الْجُزْءُ الْمَمْسُوحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنَ الشَّعْرِ الَّذِي عَلَيْهِ ".
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: " يَجْزِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَيَمْسَحُ الْمُقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرِ وَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَمَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ وَالْجِبَائِيُّ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " يَجِبُ مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ " وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّحْدِيدُ عَنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: إِنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ (الْبَاءُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِرُءُوسِكُمْ هَلْ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ ; فَيُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَمْ زَائِدَةٌ ; فَيَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ، أَمْ هِيَ لِلْإِلْصَاقِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَاهَا؟ وَوَجَّهَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَ إِمَامِهِمْ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْمَسْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَهِيَ تَسْتَوْعِبُ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فِي الْغَالِبِ ; فَوَجَبَ تَعَيُّنُهُ، وَهَذَا أَشَدُّ الْأَقْوَالِ تَكَلُّفًا، وَلَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمَسْحُ بِمَجْمُوعِ الْيَدِ، فَلَوْ مَسَحَ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، رُبُعَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ
وَلَوْ كَانَ مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْرَ الْيَدِ لَعَبَّرَ بِهِ،
وَالْحَدِيثُ لَيْسَ نَصًّا فِي مَسْحِ جَمِيعِ النَّاصِيَةِ، فَالْخِلَافُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ يَجْرِي فِي مَسْحِ النَّاصِيَةِ ; فَالِاسْتِدْلَالُ بِمَسْحِهَا مُصَادَرَةٌ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِ الْبَاءِ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: اسْتِقْلَالًا، وَإِنَّمَا تُفِيدُهَا مَعَ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ، وَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْبَاءِ الْإِلْصَاقُ، لَا التَّبْعِيضُ أَوِ الْآلَةُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبِيُّ مِنْ: مَسَحَ بِكَذَا، وَمَسَحَ كَذَا ; فَهُوَ يَفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ: مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ وَجْهِهِ: أَنَّهُ أَزَالَهُ بِإِمْرَارِ يَدِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِالطِّيبِ أَوِ الدُّهْنِ: أَنَّهُ أَمَرَّهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ مَسْحِ الشَّيْءِ بِالْمَاءِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهِ مَاءً قَلِيلًا لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ غُبَارٍ أَوْ أَذًى، وَمِنْ مَسْحِ يَدِهِ بِالْمِنْدِيلِ: أَنَّهُ أَمَرَّ عَلَيْهَا الْمَنْدِيلَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ لِيُزِيلَ مَا عَلَقَ بِهَا مَنْ بَلَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ أَوْ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَسَحَ بِعُنُقِ الْفَرَسِ أَوْ سَاقِهِ أَوْ بِالرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ: أَنَّهُ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، لَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِمَجْمُوعِ الْكَفِّ الْمَاسِحِ، وَلَا بِكُلِّ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ أَوِ الْعُنُقِ أَوِ السَّاقِ أَوِ الرُّكْنِ أَوِ الْحَجَرِ الْمَمْسُوحِ، فَهَذَا مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ مِمَّا ذُكِرَ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٨: ٣٣) عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ، أَنَّ الْمَسْحَ بِالْيَدِ لَا بِالسَّيْفِ، وَمِنْ مِثْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ | وَمَسَحَ بِالْأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ |
الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: " إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ، أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ كَمَّلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - وَذَكَرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - فَهَذَا مَقْصُودُ أَنَسٍ بِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْقُضْ عِمَامَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ مَسْحَ الشَّعْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَنْفِ التَّكْمِيلَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَسُكُوتُ أَنَسٍ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ " انْتَهَى.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ يَكْفِي فِي الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِحَرَكَةِ الْعُضْوِ الْمَاسِحِ مُلْصَقًا بِالْمَمْسُوحِ، فَوَضْعُ الْيَدِ أَوِ الْأُصْبُعِ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى مَسْحًا، وَلَا يَكْفِي مَسْحُ الشَّعْرِ الْخَارِجِ عَنْ مُحَاذَاةِ الرَّأْسِ كَالضَّفِيرَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَيْسَ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَمْسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ إِذَا كَانَ مَكْشُوفًا، وَبَعْضَهُ إِذَا كَانَ مَسْتُورًا، وَيُكْمِلُ عَلَى السَّاتِرِ، وَأَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى السَّاتِرِ وَحْدَهُ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَمْسَحَ مَعَهُ جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
الْفَرْضُ الرَّابِعُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ مَسْحِهِمَا، أَوْ مَسْحُهُمَا بَارِزَتَيْنِ أَوْ مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بِالْفَتْحِ ; أَيْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ: ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ، بِالْجَرِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الرَّأْسِ ; أَيْ وَامْسَحُوا بِأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا ; فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْغَسْلُ وَحْدَهُ، وَالشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ أَنَّهُ الْمَسْحُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّاصِرُ
لِلْحَقِّ، مِنَ الزَّيْدِيَّةِ: يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَسَتَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ جَرِيرٍ الْجَمْعُ.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ فَأَرَادُوا الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّعَارُضِ إِذَا أَمْكَنَ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ فَأَجَازُوا الْأَخْذَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ النَّصْبِ إِلَيْهَا، وَذَكَرَ الرَّازِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ، عِنْدَ ذِكْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ: وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُ هَذَا، إِلَّا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَدْ أَخَذُوا بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَأَرْجَعُوا قِرَاءَةَ الْجَرِّ إِلَيْهَا، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ عَمَلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقَوْلِيَّةِ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: " تَخَلَّفَ عَنَّا، رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، قَالَ: فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " وَقَدْ يَتَجَاذَبُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الطَّرَفَانِ، فَلِلْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ أَنْ يَقُولُوا إِنِ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَمْسَحُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ عَدَمَ مَسْحِ أَعْقَابِهِمْ، وَذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِلَى أَنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِسَبَبِ الْمَسْحِ، لَا بِسَبَبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الرِّجْلِ، ذَكَرَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْحَافِظُ، أَيِ ابْنُ حَجَرٍ: " وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا " وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ: " فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ بِيضٌ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ " فَتَمَسَّكَ بِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِإِجْزَاءِ الْمَسْحِ وَيَحْمِلُ الْإِنْكَارَ عَلَى تَرْكِ التَّعْمِيمِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَرْجَحُ، فَتُحْمَلُ عَلَيْهَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بِالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ: أَيْ مَاءُ الْغَسْلِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ، فَقَالَ ذَلِكَ " انْتَهَى. وَهَذِهِ وَاقِعَةٌ أُخْرَى.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْمَسْحَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، قَالَ: " اغْسِلُوا الْأَقْدَامَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: " قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَقَرَآ: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَسَمِعَ عَلِيٌّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: وَأَرْجُلِكُمْ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا رَوَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ مِنْ قَوْلِهِ. أَمَّا وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَيَقُولُ: اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ; فَهَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَمِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَمْسَحُ لَمَا مَنَعَ الْمَسْحَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْغَسْلِ إِلَّا لِأَنَّهُ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَى الْقَوْلَ بِالْمَسْحِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ الْوُضُوءَ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ " وَعَنْ أَنَسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ، وَالسُّنَّةُ الْغَسْلُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَعْدَ سَوْقِ الرِّوَايَاتِ فِي الْقَوْلَيْنِ، مَا نَصُّهُ: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِعُمُومِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ بِالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ، كَمَا أَمَرَ
دُونَ بَعْضِهِمَا مَعَ غَسْلِهِمَا بِالْمَاءِ، وَهَهُنَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ فِي السَّفِينَةِ أَنْ يَغْمِسَ رِجْلَيْهِ فِي الْمَاءِ غَمْسًا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَخْفِضُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْحِ الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ وَصَفْنَا مِنْ عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِهِ بِالْمَاءِ، وَخُصُوصِ بَعْضِهِمَا بِهِ، وَكَانَ صَحِيحًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا بَعْدُ، أَنَّ مُرَادَ اللهِ مِنْ مَسْحِهِمَا الْعُمُومُ، وَكَانَ لِعُمُومِهِمَا بِذَلِكَ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ ; فَبَيِّنٌ صَوَابُ قِرَاءَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي النَّصْبَ فِي الْأَرْجُلِ وَالْخَفْضَ ; لِأَنَّ فِي عُمُومِ الرِّجْلَيْنِ بِمَسْحِهِمَا بِالْمَاءِ: غَسْلُهُمَا، وَفِي إِمْرَارِ الْيَدِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ عَلَيْهِمَا: مَسْحُهُمَا. فَوَجَّهَ صَوَابَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ نَصْبًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى عُمُومِهِمَا بِإِمْرَارِ الْمَاءِ عَلَيْهِمَا، وَوَجَّهَ صَوَابَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ خَفْضًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِمْرَارِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَ الْيَدِ مَسْحًا بِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقِرَاءَتَانِ كِلْتَاهُمَا حَسَنًا صَوَابًا، فَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَهَا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ خَفْضًا ; لِمَا وَصَفْتُ مِنْ جَمْعِ الْمَسْحِ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَالْعَطْفُ بِهِ عَلَى الرُّءُوسِ مَعَ قُرْبِهِ مِنْهُ أَوْلَى مِنَ الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْأَيْدِي، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِقَوْلِهِ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلَيْنِ، الْعُمُومُ دُونَ أَنْ يَكُونَ خُصُوصًا، نَظِيرَ قَوْلِكَ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ؟ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَظَاهُرُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ " وَلَوْ كَانَ مَسْحُ بَعْضِ الْقَدَمِ مُجْزِيًا عَنْ عُمُومِهَا بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهَا الْوَيْلُ بِتَرْكِ مَا تُرِكَ مَسْحُهُ مِنْهَا بِالْمَاءِ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضًا ; لِأَنَّ مَنْ أَدَّى فَرْضَ اللهِ عَلَيْهِ فِي مَا لَزِمَهُ غَسْلُهُ مِنْهَا، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْوَيْلَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَوُجُوبُ الْوَيْلِ لِعَقِبِ تَارِكِ غَسْلِ عَقِبِهِ فِي وُضُوئِهِ أَوْضَحُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْعُمُومِ بِمَسْحِ جَمِيعِ الْقَدَمِ بِالْمَاءِ وَصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، وَفَسَادِ مَا خَالَفَهُ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَأْيُهُ وَاضِحٌ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، بِأَنْ يَغْسِلَ الْمُتَوَضِّئُ رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَهُمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ ; لِأَجْلِ اسْتِيعَابِ غَسْلِهِمَا عِنَايَةً بِنَظَافَتِهِمَا
الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ قَلِيلِي الْمَاءِ فِي الْحِجَازِ، وَقَدْ تَنَبَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ قِرَاءَةِ الْجَرِّ: " الْأَرْجُلُ مِنْ بَيْنِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَغْسُولَةِ، تُغْسَلُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ مَظِنَّةً لِلْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَعُطِفَتْ عَلَى الرَّابِعِ الْمَمْسُوحِ، لَا لِتُمْسَحَ، وَلَكِنْ لِيُنَبَّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَجِيءَ بِالْغَايَةِ إِمَاطَةً لِظَنِّ ظَانٍّ يَحْسَبُهَا مَمْسُوحَةً ; لِأَنَّ الْمَسْحَ لَمْ تُضْرَبْ لَهُ غَايَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. انْتَهَى. وَالصَّوَابُ: لِتُمْسَحَ حِينَ تُغْسَلُ.
وَقَدْ أَطْنَبَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَوْجِيهِ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ لِلْقِرَاءَتَيْنِ، وَتَحْوِيلِ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَرَجَّحَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ الرِّوَايَةِ عَنِ الشِّيعَةِ فَقَالَ: " بَقِيَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا أَقْنَعُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَسْلِ الْأَرْجُلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مِنْ خَارِجٍ مَا يُقَوِّي تَطْبِيقَ أَهْلِ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ كَلَامَهُمْ وَكَلَامَ الْإِمَامِيَّةِ فِي ذَلِكَ، عَسَى أَنْ يَكُونَ فَرَسَيْ رِهَانٍ، قِيلَ لَهُ: " إِنَّ سُنَّةَ خَيْرِ الْوَرَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارَ الْأَئِمَّةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، شَاهِدَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَهِيَ مِنْ طَرِيقِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ فَقَدْ رَوَى الْعَيَّاشِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ الْقَدَمَيْنِ، فَقَالَ: تُغْسَلَانِ غَسْلًا ".
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: إِذَا نَسِيتَ مَسْحَ رَأْسِكَ حَتَّى غَسَلْتَ رِجْلَيْكَ فَامْسَحْ رَأْسَكَ ثُمَّ اغْسِلْ رِجْلَيْكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْكَلْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ، بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهَا، وَلَا الْحَمْلُ عَلَى التَّقِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ شِيعِيٌّ خَاصٌّ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: جَلَسْتُ أَتَوَضَّأُ فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا غَسَلْتُ قَدَمَيَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ خَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ. وَنَقَلَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، فِي نَهْجِ الْبَلَاغَةِ، حِكَايَةَ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ فِيهِ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمُ النَّسْخَ لِيَتَكَلَّفَ لِإِثْبَاتِهِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ لَا وُقُوفَ لَهُ، وَمَا يَزْعُمُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ نِسْبَةِ الْمَسْحِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ مَا رُوِيَ عَنْهُ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الْمَسْحَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ بِطَرِيقِ التَّعَجُّبِ: لَا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا الْمَسْحَ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا الْغَسْلَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْمَسْحَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ الَّتِي كَانَتْ قِرَاءَتَهُ، وَلَكِنَّ
وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، أَوِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَمِثْلُهُ نِسْبَةُ التَّخْيِيرِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ صَاحِبِ التَّارِيخِ الْكَبِيرِ وَالتَّفْسِيرِ الشَّهِيرِ، وَقَدْ نَشَرَ رُوَاةُ الشِّيعَةِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبَ الْمُخْتَلَقَةَ، وَرَوَاهَا بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يُمَيِّزِ الصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ مِنَ الْأَخْبَارِ بِلَا تَحَقُّقٍ وَلَا سَنَدٍ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَلَعَلَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ الْقَائِلَ بِالتَّخْيِيرِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ رُسْتُمَ الشِّيعِيُّ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ لِلْمُسْتَرْشِدِ فِي الْإِمَامَةِ، لَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ غَالِبٍ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا هُوَ الْغَسْلُ فَقَطْ، لَا الْمَسْحُ وَلَا الْجَمْعُ وَلَا التَّخْيِيرُ الَّذِي نَسَبَهُ الشِّيعَةُ إِلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي دَعْوَى الْمَسْحِ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى وَجْهَهُ، أَنَّهُ مَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، وَشَرِبَ فَضْلَ طَهُورِهِ قَائِمًا وَقَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. وَهَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي وُضُوءِ الْمُحْدِثِ، لَا فِي مُجَرَّدِ التَّنْظِيفِ بِمَسْحِ الْأَطْرَافِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الْخَبَرِ مِنْ مَسْحِ الْمَغْسُولِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ، بِرِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ الْحُفَّاظُ: شَاذٌّ مُنْكَرٌ، لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ مَعَ احْتِمَالِ حَمْلِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَوْ مَجَازًا، وَاحْتِمَالِ اشْتِبَاهِ الْقَدَمَيْنِ الْمُتَخَفِّفَيْنِ بِدُونِ الْمُتَخَفِّفَيْنِ مِنْ بَعِيدٍ. وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ الرُّوَاةِ، مَا رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَهْوَازِيُّ، عَنْ فُضَالَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ غَالِبِ بْنِ هُذَيْلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ
الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحَمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، كَيْفَ هُوَ؟ فَوَضَعَ بِكَفَّيْهِ عَلَى الْأَصَابِعِ ثُمَّ مَسَحَهُمَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ هَكَذَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ، أَيُجْزِئُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا بِكَفِّهِ كُلِّهَا. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَوَتْهُ الْإِمَامِيَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَحْوَالِ رُوَاتِهِمْ لَمْ يُعَوِّلْ عَلَى خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نُبْذَةً مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا (النَّفَحَاتُ الْقُدُسِيَّةُ فِي رَدِّ الْإِمَامِيَّةِ) عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: لَوْ فُرِضَ أَنَّ حُكْمَ اللهِ - تَعَالَى - الْمَسْحُ عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْآيَةِ فَالْغَسْلُ يَكْفِي عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْغَسْلَ لَا يَكْفِي الْمَسْحُ عَنْهُ، فَبِالْغَسْلِ يَلْزَمُ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ دُونَ الْمَسْحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَسْلَ مُحَصِّلٌ لِمَقْصُودِ الْمَسْحِ مِنْ وُصُولِ الْبَلَلِ وَزِيَادَةٍ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ عَبَّرَ
أَقُولُ: إِنَّ فِي كَلَامِهِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - تَحَامُلًا عَلَى الشِّيعَةِ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِي نَقْلٍ وُجِدَ مِثْلُهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ نَقَلْنَا بَعْضَ رِوَايَاتِهِ وَنَصَّ عِبَارَاتِهِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُ آنِفًا.
وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ فَرْضِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ يَتَّضِحُ بِأُمُورٍ: (١) أَنَّ ظَاهِرَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وُجُوبُ الْغَسْلِ، وَظَاهِرَ قِرَاءَةِ الْجَرِّ وُجُوبُ الْمَسْحِ.
(٢) أَنَّ مَجَالَ النَّحْوِ وَاسْعٌ لِمَنْ أَرَادَ رَدَّ كُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَرُبَّمَا كَانَ رَدُّ النَّصْبِ إِلَى الْجَرِّ أَوْجَهَ فِي فَنِّ الْإِعْرَابِ، وَكَذَلِكَ مَجَالُ التَّجَوُّزِ ; كَقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: " إِنَّ الْمُرَادَ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا ; لِأَنَّهُ وَرَدَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمَسْحِ عَلَى الْوُضُوءِ " وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَأَقْوَى الْحُجَجِ اللَّفْظِيَّةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ جَعْلُ الْكَعْبَيْنِ غَايَةَ طَهَارَةِ الرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاسْتِيعَابِهِمَا بِالْمَاءِ ; لِأَنَّ الْكَعْبَيْنِ هُمَا الْعَظْمَانِ
النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيِ الرِّجْلِ، وَالْإِمَامِيَّةُ يَمْسَحُونَ ظَاهِرَ الْقَدَمِ إِلَى مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، عِنْدَ الْمِفْصَلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْكَعْبُ. فَفِي الرِّجْلِ كَعْبٌ وَاحِدٌ عَلَى رَأْيِهِمْ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَقَالَ إِلَى الْكِعَابِ ; كَمَا قَالَ فِي الْيَدَيْنِ إِلَى الْمَرَافِقِ ; لِأَنَّ فِي كُلِّ يَدٍ مِرْفَقًا وَاحِدًا.
(٣) أَنَّ الْقَوْلَ بِكُلٍّ مِنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِالْغَسْلِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ، وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ وَاسْتَمَرَّ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُهُ، إِلَّا مَسْحُ الْخُفَّيْنِ.
(٤) أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ جَوَازِ الْغَسْلِ أَبْعَدُ عَنِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ الْمَسْحِ، وَإِنْ رُوِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا، أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَلِصِحَّةِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْغَسْلَ هُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ، أَيِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ الَّتِي شُرِعَ الْوُضُوءُ وَالْغَسْلُ لِأَجْلِهَا، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْغَسْلِ دُونَ الْعَكْسِ.
(٥) إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، وَالسُّنَنَ مُتَعَارِضَةٌ أَيْضًا، نَقُولُ: إِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بِمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الْمَسْحُ فِي أَثْنَاءِ الْغَسْلِ ; لِأَنَّ الْمَسْحَ هُوَ إِمْرَارُ مَا يُمْسَحُ بِهِ عَلَى مَا يَمْسَحُ وَإِلْصَاقُهُ بِهِ، وَصَبُّ الْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِهِ، وَالْآيَةُ لَمْ تَقُلْ: امْسَحُوا أَرْجُلَكُمْ بِالْمَاءِ
(٦) إِذَا أَمْكَنَ الْمِرَاءُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِيَ أَحَدٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ بِالْبَدْءِ بِالْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ بِهِ مُوجِبُو الْمَسْحِ، وَالتَّثْنِيَةِ بِالْغَسْلِ الْمَعْرُوفِ.
(٧) لَا يُعْقَلُ لِإِيجَابِ مَسْحِ ظَاهِرِ الْقَدَمِ بِالْيَدِ الْمُبَلَّلَةِ بِالْمَاءِ حِكْمَةٌ، بَلْ هُوَ خِلَافُ حِكْمَةِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ طُرُوءَ الرُّطُوبَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي عَلَيْهِ غُبَارٌ، أَوْ وَسَخٌ يَزِيدُ وَسَاخَتَهُ وَيَنَالُ الْيَدَ الْمَاسِحَةَ حَظٌّ مِنْ هَذِهِ الْوَسَاخَةِ، وَلَوْلَا فِتْنَةُ الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَا تَشَعَّبَ هَذَا الْخِلَافُ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا ; كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا: وَرَدَ فِي الْمَسْحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهَا بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: " وَقَدْ رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنَ الصَّحَابَةِ " قَالَ الْحَسَنُ: " حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ " أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِّي: " وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتَهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ، مِنْهُمُ الْعَشْرَةُ ". وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْهُمْ إِنْكَارُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إِثْبَاتُهُ ".
وَأَقْوَى الْأَحَادِيثِ حُجَّةً فِيهِ، حَدِيثُ جَرِيرٍ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ: " أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَكَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " قَالَ أَبُو دَاوُدَ: فَقَالَ جَرِيرٌ لَمَّا سُئِلَ: هَلْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الْمَائِدَةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ :" مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ الْمَائِدَةِ " وَفِي التِّرْمِذِيَّ مِثْلُ هَذَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ مُفَسِّرٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَأَوَّلَ مَسْحَ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَهَذَا التَّأَوُّلُ هُوَ سَبَبُ إِنْكَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِلْمَسْحِ بَعْدَ الْمَائِدَةِ. وَكَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَفَاضَ بَيْنَهُمُ النَّقْلُ عَنْ مِثْلِ جَرِيرٍ وَالْمُغِيرَةِ رَجَعُوا عَنِ الْإِنْكَارِ، وَمَا رُوِيَ فِي الْإِنْكَارِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ لَا يَصِحُّ، بَلْ صَحَّ الْمَسْحُ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: وَأَمَّا الْقِصَّةُ الَّتِي سَاقَهَا الْأَمِيرُ الْحُسَيْنُ فِي الشِّفَاءِ، وَفِيهَا الْمُرَاجَعَةُ الطَّوِيلَةُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُمَرَ، وَاسْتِشْهَادِ عَلِيٍّ لِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنَ
الصَّحَابَةِ فَشَهِدُوا بِأَنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ الْمَائِدَةِ فَقَالَ ابْنُ بَهْرَانَ، مِنْ عُلَمَاءِ الشِّيعَةِ الزَّيْدِيَّةِ: " لَمْ أَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْإِمَامَ الْمَهْدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ فِي الْبَحْرِ إِلَى عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ " انْتَهَى.
وَنَقُولُ: هَبْ أَنَّهَا صَحَّتْ، أَلَيْسَ قُصَارَاهَا إِثْبَاتَ الْمَسْحِ قَبْلَ الْمَائِدَةِ، وَنَفْيَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ اللُّزُومِ أَوِ النَّصِّ؟ أَوَلَيْسَ مِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي؟ بَلَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ النَّقْلَ الثَّابِتَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الصَّحَابَةِ هُوَ الْمَسْحُ، وَأَنَّ مَا رُوِيَ خِلَافُهُ لَا يُعَارِضُهُ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ سَبَبَهُ، إِمَّا عَدَمُ رُؤْيَةِ الْمَسْحِ، وَإِمَّا ظَنُّ أَنَّهُ قَدْ نُسِخَ، ثُمَّ عَرَفَ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ.
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " لَا أَعْلَمُ مَنْ رَوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِنْكَارَهُ إِلَّا عَنْ مَالِكٍ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ مُصَرِّحَةٌ عَنْهُ بِإِثْبَاتِهِ " انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ، فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَسْحِ: فَأَمَّا الْجَوَازُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَشَذُّهَا، وَالْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الْوُضُوءِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمَسْحِ، مَعَ تَأَخُّرِ آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ; فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الْآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: " أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ". وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآثَارِ تَعَارُضٌ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ، وَالرُّخْصَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلَابِسِ الْخُفِّ، وَقِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ الْأَرْجُلِ بِالْخَفْضِ، هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْحِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالتَّخْفِيفَ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ ; فَإِنَّ نَزْعَهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ " انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ.
وَيَرُدُّ حُجَّةَ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّوْقِيتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ وَمُوَافَقَةُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِمَسْحِ الْعِمَامَةِ وَلِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَيُؤَيِّدُهَا اشْتِرَاطُ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَسَيَأْتِي.
وَنَقَلَ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ إِثْبَاتَ الْمَسْحِ فِي السُّنَّةِ، وَتَوَاتُرَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَاتِّفَاقَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنَ الْخِلَافِ فِي جَوَازِهِ مُطْلَقًا، أَوْ لِلْمُسَافِرِ دُونَ الْمُقِيمِ، وَعَنِ ابْنِ نَافِعٍ فِي الْمَبْسُوطِ، أَنَّ مَالِكًا إِنَّمَا كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ مَعَ إِفْتَائِهِ بِالْجَوَازِ.
ثُمَّ قَالَ: وَذَهَبَتِ الْعِتْرَةُ جَمِيعًا، وَالْإِمَامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَبُقُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ عَلَّمَهُ: " وَاغْسِلْ رِجْلَكَ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسْحَ، وَقَوْلِهِ بَعْدَ غَسْلِهِمَا: " لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ بِدُونِهِ " قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخَةٌ بِالْمَائِدَةِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَجْوِبَةَ، فَقَالَ مَا نَصُّهُ: أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحَ بَعْدَهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " وَاغْسِلْ رِجْلَكَ " فَغَايَةُ مَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِالْقَصْرِ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ مُخَصَّصًا بِأَحَادِيثِ الْمَسْحِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: " لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلَاةَ بِدُونِهِ " فَلَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَجِدْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " فَهُوَ وَعِيدٌ لِمَنْ مَسَحَ رِجْلَيْهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُمَا، وَلَمْ يُرِدِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَإِنْ قُلْتَ: هُوَ عَامٌ فَلَا يُقْصَرُ عَلَى السَّبَبِ، قُلْتُ: لَا نُسَلِّمُ شُمُولَهُ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ; فَإِنَّهُ يَدَعُ رِجْلَهُ كُلَّهَا وَلَا يَدَعُ الْعَقِبَ فَقَطْ، سَلَّمْنَا. فَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُخَصِّصَةٌ لِلْمَاسِحِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ. وَأَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ بِاعْتِبَارِ حَالَتَيْ لُبْسِ الْخُفِّ وَعَدَمِهِ، فَتَكُونُ أَحَادِيثُ الْخُفَّيْنِ مُخَصَّصَةً أَوْ مُقَيَّدَةً فَلَا نَسْخَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ رُجْحَانُ الْقَوْلِ بِبِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ نَاسِخٌ فَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ تَأَخُّرِ الْآيَةِ، وَعَدَمِ وُقُوعِ الْمَسْحِ بَعْدَهَا، وَحَدِيثُ جَرِيرٍ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَالْقَدْحُ فِي جَرِيرٍ بِأَنَّهُ فَارَقَ عَلِيًّا مَمْنُوعٌ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ وَإِنَّمَا احْتُبِسَ عَنْهُ بَعْدَ
إِرْسَالِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِأَعْذَارٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَزِيرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ فَاسِقِ التَّأْوِيلِ فِي عَوَاصِمِهِ وَقَوَاصِمِهِ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، وَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا مِنْ طُرُقِ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْآلِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ قَبْلَ الْفِتْنَةِ وَبَعْدَهَا، فَالِاسْتِرْوَاحُ إِلَى الْخُلُوصِ عَنْ أَحَادِيثِ الْمَسْحِ، بِالْقَدْحِ فِي ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعِتْرَةِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَسَائِرِ عُلَمَاءِ
" وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَقَامِ مَانِعًا مِنْ دَعْوَى النَّسْخِ، لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْتُ، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ ثَابِتٌ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَابِتًا قَبْلَ نُزُولِهَا فَوُرُودُهَا بِتَقْرِيرِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ - أَعْنِي الْغَسْلَ مَعَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلْآخَرِ، وَهُوَ الْمَسْحُ - لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لَا سِيَّمَا إِذَا صَحَّ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ وَأَرْجُلَكُمْ مُرَادٌ بِهَا مَسَحُ الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْحُ غَيْرَ ثَابِتٍ قَبْلَ نُزُولِهَا فَلَا نَسْخَ بِالْقَطْعِ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالنَّسْخِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مِنْ أَضْدَادِ الْغَسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنْ كَوْنُ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ مَحَلُّ نِزَاعٍ وَاخْتِلَافٍ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ضِدُّ الْغَسْلِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَقِيقٌ بِأَلَّا يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا فِي إِبْطَالِ مِثْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي سَطَعَتْ أَنْوَارُ شُمُوسِهَا فِي سَمَاءِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ".
" وَالْعَقَبَةُ الْكَئُودُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، نِسْبَةُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى جَمِيعِ الْعِتْرَةِ الْمُطَهَّرَةِ، كَمَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ، وَلَكِنَّهُ يُهَوِّنُ الْخَطْبَ بِأَنَّ إِمَامَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَيْضًا هُوَ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ بِأَنَّهَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ. وَأَيْضًا فَالْحُجَّةُ إِجْمَاعُ جَمِيعِهِمْ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْبَسِيطَةِ، وَسَكَنُوا الْأَقَالِيمَ الْمُتَبَاعِدَةَ، وَتَمَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَمَعْرِفَةُ إِجْمَاعِهِمْ فِي جَانِبِ التَّعَذُّرِ، وَأَيْضًا لَا يَخْفَى
عَلَى الْمُنْصِفِ مَا وَرَدَ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنَ الْإِيرَادَاتِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَنْتَهِضُ مَعَهَا لِلْحُجِّيَّةِ، بَعْدَ تَسْلِيمِ إِمْكَانِهِ وَوُقُوعِهِ، وَانْتِفَاءُ حُجِّيَّةِ الْأَعَمِّ يَسْتَلْزِمُ حُجِّيَّةَ الْأَخَصِّ " انْتَهَى.
أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الَّذِي أَشَارَ - كَمَا أَشَرْنَا - إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي، فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي بَابِ جَوَازِ الْمُعَاوِنَةِ عَلَى الْوُضُوءِ مِنَ الْمَتْنِ، وَعَزَاهُ إِلَى الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " قَالَ فِي الشَّرْحِ: الْحَدِيثُ اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِلَفْظِ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِي: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الْإِدَاوَةَ. فَأَخَذْتُهَا ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ، وَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. انْتَهَى.
الْمَسْحُ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ كَالْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ: قَالَ فِي مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ: عَنْ بِلَالٍ قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَالْخِمَارِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: كَانَ يَخْرُجُ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ " وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: امْسَحُوا عَلَى النَّصِيفِ وَالْمُوقِ " وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ (أَيْ: أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ) إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. انْتَهَى.
وَقَالَ شَارِحُهُ: إِنَّ حَدِيثَ بِلَالٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالضِّيَاءُ أَيْضًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: " وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ حَرِيثٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ أَعَلُّوهَا، ثُمَّ قَالَ:
" وَالْحَدِيثُ بِجَمِيعِ رِوَايَاتِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ، وَهُمَا ضَرْبٌ مِنَ الْخِفَافِ، قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَالْأَزْهَرِيُّ، وَهُوَ مَقْطُوعُ السَّاقَيْنِ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُوقُ: الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ، قِيلَ: وَهُوَ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّصِيفِ، وَهُوَ أَيْضًا الْخِمَارُ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ، وَهُوَ لُفَافَةُ الرِّجْلِ، قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْقَامُوسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْخُفُّ الْكَبِيرُ، وَقَدْ قَالَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرَهُمْ أَبُو دَاوُدَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَزَادَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيَّ: عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى النَّعْلَيْنِ إِذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْجَوْرَبَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَا بِنَعْلَيْنِ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِمَا " انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ أَنْ يُلْبَسَا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ; لِأَنَّ نِعَالَهُمْ لَمْ تَكُنْ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي فَتْوَى لَهُ: " وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَدِ اشْتَرَطَ فِيهِ
طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ شَرْطَيْنِ (أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ضَعْفُ هَذَا الشَّرْطِ (أَيْ: مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي أَوَّلِ الْفَتْوَى بَيَّنَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ فِي الْمَسْحِ، وَلِلْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ حَالِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَلِلْقِيَاسِ). (وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِشَدِّهِ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ أَوْ خَيْطٍ مُتَّصِلٍ بِهِ أَوْ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُمْسَحْ، وَإِنْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ إِلَّا بِالشَّدِّ (كَالزُّرْبُولِ) الطَّوِيلِ الْمَشْقُوقِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ لَا يَسْتُرُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِلَّا بِالشَّدِّ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ، بَلِ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا بَلْ بِنَعْلَيْنِ تَحْتَهُمَا، وَأَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ مَا لَمْ يَخْلَعِ النَّعْلَيْنِ (أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ هَذَا فِي الْجَوْرَبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَثْبُتَانِ بِأَنْفُسِهِمَا كَالْجَوَارِبِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) ".
" فَإِذَا كَانَ أَحْمَدُ لَا يَشْتَرِطُ فِي الْجَوْرَبَيْنِ أَنْ يَثْبُتَا بِأَنْفُسِهِمَا، بَلْ إِذَا ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، فَغَيْرُهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُنَا قَدْ ثَبَتَا بِالنَّعْلَيْنِ وَهُمَا مُنْفَصِلَانِ عَنِ الْجَوْرَبَيْنِ ; فَالزُّرْبُولُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِسَيْرٍ يَشُدُّهُ بِهِ، مُتَّصِلًا بِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، أَوْلَى بِالْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْرَبَيْنِ. وَهَكَذَا مَا يُلْبَسُ عَلَى الرِّجْلِ مِنْ فَرْوٍ وَقُطْنٍ وَغَيْرِهِمَا، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِشَدِّهِمَا بِخَيْطٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ مُسِحَ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى الرِّجْلِ لَفَائِفَ مِنَ الْبَرْدِ أَوْ خَوْفِ الْحَفَاءِ أَوْ مِنْ جِرَاحٍ بِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قِيلَ: فِي هَذَا وَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الْحَلْوَانِيُّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُمْسَحُ عَلَى اللَّفَائِفِ، وَهِيَ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنَ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ، فَإِنَّ اللَّفَائِفَ
ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ فِي الْمَسْحِ، وَقَالَ: " فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِمَّا هَابَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، حَيْثُ كَانَ الْغَسْلُ هُوَ الْفَرْضَ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ، فَصَارُوا يُجَوِّزُونَ الْمَسْحَ حَيْثُ يَظْهَرُ ظُهُورًا لَا حِيلَةَ فِيهِ، وَلَا يَطْرُدُونَ فِيهِ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِظَاهِرِ النَّصِّ الْمُبِيحِ، وَإِلَّا فَمَنْ تَدَبَّرَ أَلْفَاظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْقِيَاسَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الرُّخْصَةَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسِعَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا. وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا، فَهَلْ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِهِ؟ وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَنَسٌ يَمْسَحَانِ عَلَى الْقَلَانِسِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَدُ هَذَا، وَهَذَا فِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَوَّزَ أَيْضًا الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ " انْتَهَى.
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَنِ اشْتَرَطَ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً ; لِأَنَّهَا يَعْسُرُ نَزْعُهَا، وَضَعَّفَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَحْنِيكِ الْعَمَائِمِ طَرْدُ الْخَيْلِ وَالْجِهَادُ ; لِئَلَّا تَسْقُطَ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَبِسُوا الْعَمَائِمَ بِلَا تَحْنِيكٍ، ثُمَّ كَانَ الْجُنْدُ يَرْبِطُونَ الْعَمَائِمَ بِالْكَلَالِيبِ أَوِ الْعَصَائِبِ. وَانْتَقَلَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْخُفِّ إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، وَكَوْنِهِ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِلَى نَظَائِرَ أُخْرَى لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهَا هُنَا. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الْمَسْحِ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّنَّةِ وَيُسْرِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ أَوْسَعُ فِي بَابِ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرَ فَهُوَ إِلَى الْحَقِّ أَقْرَبُ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (٢: ١٨٥) وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
شَرْطُ مَسْحِ الْخُفِّ لُبْسُهُ عَلَى طَهَارَةٍ: جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الْمُتَقَدِّمِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرَةٍ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهَوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: دَعْهُمَا ; فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا ". وَرَوَى الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْهُ، قَالَ: " قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَمْسَحُ أَحَدُنَا عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا أَدْخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَاهُ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ صَفْوَانِ
بْنِ عَسَّالٍ، قَالَ:
إِنَّمَا الْمَسْحُ عَلَى ظَهْرِ الْخُفِّ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ ". قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَالَ فِي التَّلْخِيصِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ "، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَسْحَ ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ كَافٍ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ، وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ وَالْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ. وَالْعُمْدَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ.
تَوْقِيتُ الْمَسْحِ: تَقَدَّمَ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فِيهِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: " سَأَلَتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنِّي، كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ". رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ: " وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا "، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي عِمَارَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ صَرِيحٌ فِي الزِّيَادَةِ إِلَى السَّبْعِ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَعَمْ، وَمَا بَدَا لَكَ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَى التَّوْقِيتِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهُ
(تَرْتِيبُ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ) تِلْكَ فَرَائِضُ الْوُضُوءِ الْعَمَلِيَّةُ الْمَنْصُوصَةُ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ مُرَتَّبَةً مَعَ فَصْلِ الرِّجْلَيْنِ عَنِ الْيَدَيْنِ - وَفَرِيضَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْغَسْلُ - بِالرَّأْسِ الَّذِي فَرِيضَتُهُ الْمَسْحُ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِيهَا، وَصَحَّ حَدِيثُ: " ابْدَأْ - وَفِي رِوَايَةٍ: ابْدَءُوا - بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ ". وَهُوَ عَامٌّ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ خَاصًّا ; لِوُرُودِهِ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُرَكَّبَةِ الَّتِي الْتَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَيْفِيَّةً خَاصَّةً ; كَالصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ، وَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ الْمَأْثُورَ فِي كَيْفِيَّةِ وُضُوئِهِ الْمُطَّرِدَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي الصَّلَاةِ ; كَعَدَدِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَتَرْتِيبِهِمَا. وَلَا يَظْهَرُ التَّعَبُّدُ وَالْإِذْعَانُ لِأَمْرِ الشَّارِعِ وَهَدْيِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي الْتِزَامِ الْكَيْفِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الِالْتِزَامِ أَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَحَّدُ بِهَا شَخْصِيَّةُ الْأُمَّةِ، فَإِنَّمَا الْأُمَمُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنْ الِاخْتِلَافِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِعَدِّ التَّرْتِيبِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ لَا فَرْضٌ، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ كَانَ الْخِلَافُ بِالْقَوْلِ لَا بِالْعَمَلِ، فَالْجَمِيعُ يُرَتِّبُونَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ كَمَا رَتَّبَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُنَّتِهِ، وَلَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِدَعْوَى الْجَوَازِ، فَتَوَضَّأَ كُلُّ أَهْلِ مَذْهَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ لَكَانَ عَمَلُهُمْ هَذَا مِنْ شَرِّ مَا تَفَرَّقُوا فِيهِ، فَتَفَرَّقَتْ قُلُوبُهُمْ، وَضَعُفَ مَجْمُوعُهُمْ.
(النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ كَكُلِّ عِبَادَةٍ) رُوِيَ عَنْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَعَنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ ; فَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهَوَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَرْضِيَّتِهَا بِحَدِيثِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِآيَةِ الْوُضُوءِ نَفْسِهَا ; لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَعْمَالِ الْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
ذَلِكَ أَنَّ النِّيَّةَ نِيَّتَانِ: نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ - وَسَيَأْتِي مَعْنَاهَا - وَنِيَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ ; وَهِيَ الْقَصْدُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ فِعْلُ الْمُخْتَارِ الشَّاعِرِ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ وَالذَّاهِلِ الَّذِي تُشْبِهُ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ النَّائِمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلنِّيَّةِ ضَرُورِيٌّ فِي تَحَقُّقِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ ; فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ وَافْتِرَاضِهِ، وَقَدْ يُظْهِرُ الْقَوْلُ بَعْدَهُ شَرْطًا لِيُخْرِجَ بِهِ مَا يَقَعُ لِلْمُحْدِثِ مِنْ غَسْلِ أَطْرَافِهِ لِنَحْوِ الِابْتِرَادِ، وَنَاهِيكَ إِذَا غَسَلَهَا بِغَيْرِ التَّرْتِيبِ الْمَأْثُورِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَهَا ; لِأَنَّ عَمَلَهُ السَّابِقَ لَمْ يَكُنِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ مِنَ النِّيَّةِ بِالْحَدِيثِ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَعْنَى الثَّانِي لِلنِّيَّةِ، وَهُوَ الْغَرَضُ الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَهُوَ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، بِاتِّبَاعِ مَا شَرَعَهُ وَالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ، أَوْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَاصُ ; أَيْ جَعْلُ الْعِبَادَةِ خَالِصَةً مِنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، لَا غَرَضَ مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّحَقُّقِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا. كُلُّ مَنْ يُهَاجِرُ يَقْصِدُ الْهِجْرَةَ قَصْدًا مُقْتَرِنًا بِالْفِعْلِ، وَكُلُّ مَنْ يَتَوَضَّأُ يَقْصِدُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ يُصَلِّي يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِأَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَكُلُّ مَنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَقْصِدُ الْإِتْيَانَ بِمَنَاسِكِهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَتَلَبَّسُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ يَقْصِدُ بِهَا مَرْضَاةَ اللهِ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ مِنْهَا ; كَنَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ
بِالْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ بِهِجْرَةِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، مِنْ مَكَانٍ لَا حُرِّيَّةَ لَهُ فِي دِينِهِ فِيهِ، إِلَى غَيْرِهِ، وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوُضُوءِ وَحِكْمَتِهِ، الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا، وَالصَّلَاةِ وَحِكْمَتِهَا، وَالْحَجِّ وَحِكْمَتِهِ، فَكَمَا يُهَاجِرُ بَعْضُ النَّاسِ لِأَجْلِ الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ، وَلِأَجْلِ التِّجَارَةِ، أَوِ الزَّوَاجِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فِي الْبَاطِنِ، كَذَلِكَ يُسَافِرُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْحَجِّ ; لِأَجْلِ التِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَمِنْهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، وَإِذَا كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يُصَلِّي رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي لِمُوَافَقَةِ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ، كَمَا يُوَافِقُهُمْ فِي الزِّيِّ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَفِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمُنَاجَاتِهِ وَذِكْرِهِ عَلَى تَهْذِيبِ نَفْسِهِ وَنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْوِي النِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ؛ وَهِيَ قَصْدُ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ فِعْلِهَا ; إِذْ لَا تَحْصُلُ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَذَا الْقَصْدِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ جَهِلُوا حَقِيقَةَ النِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ الْمَحْضَةِ، وَابْتَدَعُوا كَلِمَاتٍ، يُسَمُّونَهَا النِّيَّةَ اللَّفْظِيَّةَ، لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ وَلَا رَسُولُهُ، وَلَا عُرِفَتْ فِي سُنَّةٍ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقَدْ غَلَوْا فِي التَّنَطُّعِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يُؤْذُونَ الْمُصَلِّينَ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَسْوِسُونَ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَيَرْفَعُونَ بِهَا أَصْوَاتَهُمْ:
نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ، نَوَيْتُ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مَعَ سُنَنِهِ... إِلَخْ! وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُوَسْوِسِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ دَقَّقَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ فِي فَلْسَفَةِ نِيَّتِهِمْ ; فَاشْتَرَطَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمُصَلِّي جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عِنْدَ الْبَدْءِ بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ النُّطْقِ بِـ (هَمْزَةِ) لَفْظِ الْجَلَالَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَ (رَاءِ) لَفْظِ (أَكْبَرِ) السَّاكِنَةِ مِنْ كَلِمَتِي (اللهُ أَكْبَرُ) لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى قَصْدِ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، وَالْمَعْلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ كُلِّ ذِكْرٍ، تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ، فَإِذًا لَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَتَصَوَّرَ عِنْدَ التَّكْبِيرِ إِلَّا مَعْنَى التَّكْبِيرِ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ بَعْدَهُ: وَرَدَ فِي التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى وُجُوبِهَا، وَبَعْضُهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهَا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: " الظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَهَا يُحْدِثُ مِنْهَا قُوَّةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، وَدَعَّمَهَا النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبَسْمِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ وَهُوَ مِثْلُهَا ". وَلَمَّا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَمْرًا حَسَنًا فِي نَفْسِهِ، وَمَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ تَسَاهَلَ الْفُقَهَاءُ فِي عِلَلِ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَبَعْضُهُمْ بِسُنِّيَّتِهَا، حَتَّى إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ، الْمُحَقِّقَ الشَّهِيرَ، قَالَ فِي بَيَانِ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) :" وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ
أَقُولُ: أَمَّا الشَّهَادَتَانِ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُمَا أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَالْعُمْدَةُ فِي صِحَّتِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الدُّعَاءِ فَهِيَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ، وَقَدْ قَالَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ: " وَفِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ كَثِيرُ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ
رِوَايَةَ مُسْلِمٍ سَالِمَةٌ مِنْ هَذَا الِاضْطِرَابِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، فَضَعَّفُوا الْمَرْفُوعَ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، عَلَى النَّوَوِيِّ تَضْعِيفَهُ، وَمِنْ هَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دُعَاءَ الْأَعْضَاءِ بَاطِلٌ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ: إِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: أَيْ لَا أَصْلَ لَهُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ، وَلَكِنَّهُ وَاهٍ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ.
التَّيَامُنُ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ: فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطَهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ". التَّنَعُّلُ: لِبْسُ النَّعْلَيْنِ، وَالتَّرَجُّلُ: تَرْجِيلُ الشِّعْرِ ; أَيْ تَسْرِيحُهُ. وَالطَّهُورُ يَشْمَلُ الْوُضُوءَ، وَالْغُسْلَ، وَفِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا لَبِسْتُمْ فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ ". جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَدْءَ بِالْيَمِينِ سُنَّةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ: لِيُخْرِجَ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَنَحْوَهُ. وَمَذْهَبُ الشِّيعَةِ: وُجُوبُ التَّيَامُنِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: مَا أُبَالِي بَدَأْتُ بِيَمِينِي أَوْ بِشَمَالِي إِذَا أَكْمَلْتُ الْوُضُوءَ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ أَيْضًا، طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
الْمُوَالَاةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالتَّثْلِيثُ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَلَيْهَا عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَغْسِلَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ أَعْضَائِهِ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى إِتْمَامِ مَا بَدَأَ بِهِ، إِلَّا لِضَرُورَةٍ
الْمَاءُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ فِي حَدِيثٍ، وَبِإِحْسَانِ الْوُضُوءِ فِي حَدِيثٍ أَصَحَّ، وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا تُتْرَكَ الْمُوَالَاةُ، وَالْعُمْدَةُ فِيهَا أَلَّا يَقْطَعَ الْمُتَوَضِّئُ وُضُوءَهُ بِعَمَلٍ أَجْنَبِيٍّ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ انْصِرَافًا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: " إِذَا جَفَّ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ قَبْلَ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ، انْقَطَعَتِ الْمُوَالَاةُ "، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ يَجِفُّ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ بِسُرْعَةٍ فِي الْهَوَاءِ الْحَارِّ الْجَافِّ، وَلَا يُعَدُّ الْمُتَوَضِّئُ مُنْقَطِعًا عَنْ وُضُوئِهِ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ مَسَحَ بِالرَّأْسِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَ كُلَّ عُضْوٍ ثَلَاثًا، وَأَنْ يَمْسَحَ الرَّأْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ الْخُفُّ.
غَسْلُ الْكَفَّيْنِ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، وَمَسْحُ الْعُنُقِ: سَيَأْتِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ، فَهُوَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَمُجَرَّدُ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مَرْفُوعًا إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ; فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَكَلِمَةُ (ثَلَاثًا) فِي مَا عَدَا رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ، وَالْمُرَادُ لَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ تَنَاوُلَهُ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ سَبَبَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنَامُونَ بِالْإِزَارِ، وَلَا يَلْبَسُونَ السَّرَاوِيلَاتِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَانُوا - كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - يَسْتَنْجُونَ بِالْحِجَارَةِ، وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ، فَلَا يَأْمَنُ النَّائِمُ أَنْ تَطُولَ يَدُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ، أَوْ عَلَى قَذَرٍ غَيْرِهِ ; فَالْأَمْرُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ لِمَنْ يُرِيدُ غَمْسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهِيَ حَالُ تَغْلِيبِ النَّجَاسَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُرَجَّحُ فِيهِ الْغَالِبُ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي الْيَدِ الطَّهَارَةُ، وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ الْحَدِيثَ عَلَى إِفَادَةِ كَرَاهَةِ غَمْسِ الْيَدَيْنِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا، وَنَدْبِ الْغُسْلِ قَبْلَهُ عَمَلًا بِالْأَصْلِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ خَصَّهُ بِنَوْمِ اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ رَوَاهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ "، قَالَ النَّوَوِيُّ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ: إِنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ،
وَإِنْ قَامَ مَنْ نَوْمِ النَّهَارِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ.
(قَالَ) : وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ الشَّكُّ فِي نَجَاسَةِ الْيَدِ، فَمَنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا كُرِهَ لَهُ غَمْسُهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، أَوْ نَوْمِ النَّهَارِ، أَوْ شَكَّ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي الْوُضُوءِ
وَأَمَّا مَسْحُ الْعُنُقِ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: " إِنَّهُ بِدْعَةٌ ". وَابْنُ الْقَيِّمِ: " لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْحِ الْعُنُقِ حَدِيثٌ أَلْبَتَّةَ ". وَالصَّوَابُ أَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ، مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ وَمُرْسَلَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِحُسْنِ بَعْضِهَا، وَلِذَلِكَ تَعَقَّبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْفُسُهُمْ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْبَغَوِيَّ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، قَالَ بِاسْتِحْبَابِهِ.
صِفَةُ وَضَوْءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمَرْفِقَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " ; أَيْ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا رَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالِاسْتِنْشَاقِ بَدَلَ الِاسْتِنْثَارِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِنْثَارُ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِنْشَاقَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْمَضْمَضَةِ. قِيلَ: إِنَّ (ثُمَّ) فِي الْحَدِيثِ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، لَا لِلتَّرْتِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا كَانَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ قَبْلَ غَسْلِ الْوَجْهِ، فَغَسَلَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ بَاطِنَ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَا يُعَدَّانِ مِنَ الْوَجْهِ الْوَاجِبِ غَسْلُهُ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَصَحَّ الْأَمْرُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِغَيْرِ الصَّائِمِ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي صِفَةِ وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ ذِكْرُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي حَيَّةَ، قَالَ: " رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَهُ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طَهُورُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَمَّا التَّثْلِيثُ فَهُوَ السُّنَةُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَغَيْرُهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَصِحَّ مَسْحُ الرَّأْسِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
السِّوَاكُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ: رَوَى الْجَمَاعَةُ (أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ " لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ ". وَلِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا " لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ ". قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ فِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ: " إِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ ". وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، مَرْفُوعًا: " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِّ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ ". وَرُوِيَ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَاكُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَعِنْدَ دُخُولِ بَيْتِهِ. وَالسِّوَاكُ يُطْلَقُ عَلَى الْعُودِ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ، وَعَلَى الِاسْتِيَاكِ نَفْسِهِ، وَهُوَ دَلْكُ الْأَسْنَانِ بِذَلِكَ الْعُودِ، أَوْ بِشَيْءٍ
آخَرَ خَشِنٍ تُنَظَّفُ بِهِ الْأَسْنَانُ، يُقَالُ: سَاكَ فَمَهُ يَسُوكُهُ سَوْكًا، وَيُقَالُ: اسْتَاكَ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ اسْتَاكَ فَمَهُ، وَخَيْرُ الْعِيدَانِ لِلِاسْتِيَاكِ، عُودُ الْأَرَاكِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْحِجَازِ ; لِأَنَّهُ إِذَا دُقَّ طَرَفُهُ قَلِيلًا يَصِيرُ خَيْرًا مِنَ السِّوَاكِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُسَمَّى " فُرْشَةُ الْأَسْنَانِ "، وَيُقَالُ إِنَّ مِنْ خَوَاصِّهِ شَدُّ اللِّثَةِ ; أَيْ أَنَّ فِيهِ مَادَّةً تَنْفَصِلُ مِنْهُ عِنْدَ الِاسْتِيَاكِ بِهَا تُشَدُّ اللِّثَةُ وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِالِاسْتِيَاكِ بِالْفُرْشَةِ، كَمَا تَحْصُلُ بِشَوْصِ الْأَسْنَانِ (دَلْكِهَا) بِكُلِّ خَشِنٍ يُزِيلُ الْقَلَحَ (صُفْرَةَ الْأَسْنَانِ) وَيُنَظِّفُ الْفَمَ. وَمَنْ يُوَاظِبُ عَلَى السِّوَاكِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ تُحْفَظُ لَهُ أَسْنَانُهُ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الصِّحَّةِ وَالْجَمَالِ، وَهِيَ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُ أَكْثَرُ النَّاسِ قِيمَتَهَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُفْسِدَهَا السُّوسُ، وَيَضْطَرُّ إِلَى قَلْعِهَا بَعْدَ أَنْ يُقَاسِيَ مِنْ آلَامِهَا مَا يُقَاسِي.
(طَهَارَةُ الْغُسْلِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَالْحَدَثَانِ الْأَصْغَرُ وَالْأَكْبَرُ) وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ بَيَّنَ طَهَارَةَ الْغُسْلِ، فَقَالَ: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا) أَيْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَكُنْتُمْ جُنُبًا فَتَطَهَّرُوا لَهَا طَهُورًا كَامِلًا بِأَنْ تَغْتَسِلُوا، " فَاطَّهَرُوا " أَمْرٌ بِالْعِنَايَةِ بِالطَّهَارَةِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِيهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَسْلِ الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَةِ الْغُسْلِ
لَا يَجِبُ بِهِ إِلَّا الْوُضُوءُ، هُوَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ النَّاطِقِ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَصَرَّحَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِكَلِمَةِ " وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ " وَبِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطَالَةِ الشَّرْحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; إِذِ لَا خِلَافَ فِيهَا الْيَوْمَ وَلَا أَهْوَاءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَنِيِّ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ; لِعِلَّةٍ مَا، فَإِذَا خَرَجَتْ بَقِيَّةٌ مِنْهُ بَعْدَ الْغُسْلِ، مِمَّا خَرَجَ شَهْوَةً، فَعَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهَا ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَلَمَّا بَيَّنَ وُجُوبَ الطَّهَارَتَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَاهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَهَارَةِ الْوُضُوءِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي الْغَالِبِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْغُسْلِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَوْ كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، أَوْ عِدَّةَ مِرَارٍ فِي الْغَالِبِ - بَيَّنَ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِهِمَا عِنْدَ الْمَشَقَّةِ أَوِ الْعَجْزِ ; لِأَنَّ الدِّينَ يُسْرٌ لَا حَرَجَ فِيهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) مَرَضًا جِلْدِيًّا ; كَالْجُدَرِيِّ، وَالْجَرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرُوحِ وَالْجُرُوحِ، أَوْ أَيِّ مَرَضٍ يَضُرُّ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ، فَالْعِبْرَةُ بِمَا يُسَمَّى سَفَرًا عُرْفًا، وَمِنْ شَأْنِ السَّفَرِ أَنْ يَشُقَّ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ فِيهِ (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) الْغَائِطُ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَصَارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فِي هَذَا الْحَدَثِ، وَعُرْفِيَّةً فِي الرَّجِيعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ. وَمُلَامَسَةُ النِّسَاءِ: هِيَ الْمُبَاشَرَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَبَيْنَهُنَّ، كُلٌّ مِنَ التَّعْبِيرَيْنِ كِنَايَةٌ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي النَّزَاهَةِ ; كَالتَّعْبِيرِ بِالْجَنَابَةِ هُنَا، وَبِالْمُبَاشَرَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمُرَادِ: أَوْ أَحْدَثْتُمُ الْحَدَثَ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا كَالطَّوَافِ - وَيُسَمَّى الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ أَوِ الْحَدَثَ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ، وَيُسَمَّى الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ - فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً تَتَطَهَّرُونَ بِهِ ; أَيْ إِذَا كُنْتُمْ عَلَى حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ: الْمَرَضُ، أَوِ السَّفَرُ
وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَمَعْنَى الصَّعِيدِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ، وَكَوْنِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِيهِ سَوَاءً إِذَا فُقِدَ الْمَاءُ، وَكَوْنِ الصَّلَاةِ بِهِ مُجْزِئَةً لَا تَجِبْ إِعَادَتُهَا، وَبَحْثِ تَيَمُّمِ الْمُسَافِرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَبَحْثِ التَّيَمُّمِ مِنَ الْبَرْدِ وَالْجُرْحِ، وَكَوْنِهِ كَالْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ، وَفِي اسْتِبَاحَةِ عِدَّةِ صَلَوَاتٍ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ التَّيَمُّمِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ (ص ١٠٠ - ١١٠ مِنْ مَطْبُوعِ الْهَيْئَةِ).
نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ: وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ أَنَّ الْحَدَثَ، الَّذِي يَكُونُ فِي الْغَائِطِ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ; فَلَا تَحِلُّ الصَّلَاةُ، بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ تَوَضَّأَ، وَذَلِكَ الْحَدَثُ: هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ; الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي مَحَلِّ التَّخَلِّي (قَضَاءِ الْحَاجَّةِ) الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ بِالْغَائِطِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّيحُ وَالْمَذْيُ اللَّذَانِ يَخْرُجَانِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ نَقْضُ الْوُضُوءِ بِهِمَا، وَصَحَّ الْحَدِيثُ فِي أَنَّ الرِّيحَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ، يُعْتَبَرُ فِي نَقْضِهِ لِلْوُضُوءِ، أَنْ يُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ، أَوْ تُشَمَّ لَهُ رَائِحَةٌ. رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ " أَيْ رَائِحَةٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، فَمَا يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ لَا يَسْمَعُ لَهُ صَوَّتًا، وَلَا يَجِدُ لَهُ رَائِحَةً لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَوَجَدَ رِيحًا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَخْرُجُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " الرِّيحُ الثَّانِيَةُ: الرَّائِحَةُ، وَالْعُمْدَةُ: الْيَقِينُ بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّقْضِ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنَ الْبَدَنِ بِجُرْحٍ، أَوْ حِجَامَةٍ، أَوْ رُعَافٍ. قِيلَ: يَنْقَضُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: يَنْقُضُ كَثِيرُهُ دُونَ قَلِيلِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ يُحْتَجُّ بِهِ مَعَ تَوفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; لِكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يُجْرَحُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ، دَعِ الْحِجَامَةَ وَسَائِرَ الْجُرُوحِ وَالدَّمَامِلَ، بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ أُصِيبَ بِسِهَامٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَاسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ، وَلَمْ يَنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَيْءِ أَيْضًا قَالَتِ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: يَنْقُضُ إِذَا كَانَ دَفْعَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمَعِدَةِ تَمْلَأُ الْفَمَ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا يَنْقُضُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي نَقْضِهِ حَدِيثٌ يُحْتَجُّ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوْمِ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ: (١) لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الشِّيعَةُ الْإِمَامِيَّةُ.
(٢) يَنْقُضُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
(٣) يَنْقُضُ كَثِيرُهُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
(٤) يَنْقُضُ إِذَا نَامَ مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الْمُصَلِّي، فِيمَا عَدَا الْقُعُودِ، وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ.
(٥) يَنْقُضُ فِي الصَّلَاةِ، لَا فِي خَارِجِهَا، وَعَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ.
(٦، ٧) يَنْقُضُ نَوْمُ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، أَوِ السَّاجِدِ فَقَطْ، رُوِيَا عَنْ أَحْمَدَ.
(٨) أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ، فَمَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ بِحَالٍ، وَمَنْ نَامَ غَيْرَ مُمَكِّنٍ انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَمَلِ بِتَرْجِيحِ الْغَالِبِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْبَرَاءَةُ، وَعَدَمُ خُرُوجِ شَيْءٍ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سُمِعَ غَطِيطُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ اللَّيْلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالُوا: تِلْكَ مِنْ خَصَائِصِهِ بِقَرِينَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ عَيْنَيْهِ تَنَامَانِ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى مَعَهُ صَلَاةَ اللَّيْلِ، قَالَ: " فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي "، وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ; أَيْ تَمِيلَ مِنَ النُّعَاسِ أَوِ النَّوْمِ، ثُمَّ يُصَلُّونَ، وَلَا يَتَوَضَّئُونَ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ " حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ لِأَحَدِهِمْ غَطِيطًا "، وَحَمَلَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى نَوْمِ الْجَالِسِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مُنْتَظِرِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونُوا جُلُوسًا، وَلَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " فَيَضَعُونَ جُنُوبَهُمْ ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ " رَوَاهَا ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ وَكُلَّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ سُكْرٍ أَوْ دَوَاءٍ وَغَيْرِهِمَا، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ ; أَيْ مَسِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا بِغَيْرِ حَائِلٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ يَنْقُضُ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَعَلَيْهِ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَنْقُضُ اللَّمْسُ
بِشَهْوَةٍ فَقَطْ، وَقَاسُوا عَلَى هَذَا لَمْسَ الْأَمْرَدِ. اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُ وَالنَّافِي بِالْآيَةِ ; إِذْ حَمَلَ بَعْضُهُمِ الْمُلَامَسَةَ فِيهَا عَلَى الْجَسِّ، وَالْآخَرُونَ عَلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الْفَرْجِ بِدُونِ حَائِلٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ تَعَارُضُ الْأَحَادِيثِ (فَمِنْهَا) فِي إِثْبَاتِ النَّقْضِ حَدِيثُ بُسْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ " رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ "، وَيَتَوَضَّأُ مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ "، قَالُوا: وَيَشْمَلُ ذَكَرَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ بِالْمَعْنَى، وَلَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا ; لِاخْتِلَافٍ وَقَعَ فِي سَمَاعِ عُرْوَةَ مِنْ بُسْرَةَ. قِيلَ: سَمِعَ مِنْهَا، وَقِيلَ: مِنْ مَرْوَانَ عَنْهَا، وَمَرْوَانُ مَطْعُونٌ فِيهِ، وَقِيلَ: أَرْسَلَ مَرْوَانُ رَجُلًا مِنْ حَرَسِهِ إِلَى بُسْرَةَ، فَسَأَلَهَا عَنْهُ، وَعَادَ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهَا قَالَتْهُ، وَالْحَرَسِيُّ مَجْهُولُ الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ لِمَا ذُكِرَ. وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو زُرْعَةَ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: " مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ، لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ يَرْفَعُهُ: " أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرُوِيَ الْأَخْذُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللهِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعُمُومُ ; لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَعْنَاهُ الْوُصُولُ، وَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ فَهِمَ هَذَا مِنْ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْمَسَّ الِاخْتِيَارِيَّ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا يَكُونُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مَظِنَّةَ إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ النَّقْضِ فِيمَا يَظْهَرُ، فَلَا يُعْتَدُّ بِغَيْرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ الْوُضُوءَ إِنَّمَا يُنْدَبُ مِنَ الْمَسِّ نَدْبًا، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ رِوَايَةَ الْفَرْجِ تَشْمَلُ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْجِ
وَرُوِيَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وَالْعِتْرَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ فِي مُعَارَضَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، حَدِيثُ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ أَعَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَلَّاسِ، وَقَالَ: هُوَ عِنْدَنَا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ عِنْدَنَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ بُسْرَةَ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَقْوَى دَعَائِمَ ; لِمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ نَسْخَ حَدِيثِ طَلْقٍ ; لِأَنَّهُ رَوَى حَدِيثَ النَّقْضِ بِلَفْظِ حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَنْقُضُ الْمَسُّ إِذَا كَانَ بِلَذَّةٍ، وَرَأَى الشَّعَرَانِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي الْمِيزَانِ، أَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ عَزِيمَةٌ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِبُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَزَائِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ سُكَّانِ الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ الْأَمْصَارِ الَّتِي يَسْهُلُ فِيهَا الْوُضُوءُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَعَدَمُ النَّقْضِ رُخْصَةٌ رَخَّصَ بِهَا لِلسَّائِلِ، وَكَانَ بَدَوِيًّا، وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ يَرُدُّونَ مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ بِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّقْضِ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ ; فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِهِ،
وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْقَوْلُ بِالنَّقْضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ بِنَسْخِهِ، وَلَا يُعْرَفُ حَدِيثٌ صَرِيحٌ مُثْبِتٌ لِلنَّسْخِ، وَلَكِنَّ عَمَلَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا وَرَدَ فِي النَّقْضِ، وَإِنْ صَحَّحَ الْمُحَدِّثُونَ حَدِيثِينَ فِيهِ؛ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَحَدِيثَ الْبَرَاءِ، فَغَيْرُ مَعْقُولٍ أَنْ يَعْرِفَ جَابِرٌ وَالْبَرَاءُ مَا يَجْهَلُهُ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ، وَمِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ.
وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْخِلَافِ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ ; أَيْ مِنْ أَكْلِ مَا طُبِخَ وَعُولِجَ بِالنَّارِ، قَالَ بَعْضُهُمْ يَنْقُضُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: " تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ، وَمِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَالْعَبَادِلَةُ، إِلَّا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو لَمْ أَرَ عَنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ ; مِنْهَا حَدِيثُ مَيْمُونَةَ: " أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
(حِكْمَةُ شَرْعِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ) وَلَمَّا بَيَّنَ فَرْضَ الْوُضُوءِ وَفَرْضَ الْغُسْلِ، وَمَا يَحُلُّ مَحَلَّهُمَا عِنْدَ تَعَذُّرِهِمَا أَوْ تَعَسُّرِهِمَا؛ تَذْكِيرًا بِهِمَا وَمُحَافَظَةً عَلَى مَعْنَى التَّعَبُّدِ فِيهِمَا، وَهُوَ التَّيَمُّمُ - بَيَّنَ حِكْمَةَ شَرْعِهِمَا لَنَا، مُبْتَدِئًا بِبَيَانِ قَاعِدَةٍ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاعِدِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ، فَقَالَ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أَيْ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا أَيْضًا حَرَجًا مَا ; أَيْ أَدْنَى ضِيقٍ وَأَقَلَّ مَشَقَّةٍ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْكُمْ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ بِكُمْ، فَهُوَ لَا يَشْرَعُ لَكُمْ إِلَّا مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ
لَكُمْ (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) مِنَ الْقَذَرِ وَالْأَذَى، وَمِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَالْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ ; فَتَكُونُوا أَنْظَفَ النَّاسِ أَبْدَانًا، وَأَزْكَاهُمْ نُفُوسًا، وَأَصَحَّهُمْ أَجْسَامًا، وَأَرْقَاهُمْ أَرْوَاحًا (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَهَارَةِ الْأَرْوَاحِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَطَهَارَةِ الْأَجْسَادِ وَصِحَّتِهَا، فَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ، لَا تَكْمُلُ إِنْسَانِيَّتُهُ إِلَّا بِكَمَالِهِمَا مَعًا، فَالصَّلَاةُ تُطَهِّرُ الرُّوحَ، وَتُزَكِّي النَّفْسَ ; لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَتُرَبِّي فِي الْمُصَلِّي مَلَكَةَ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ لَدَى الْإِسَاءَةِ، وَحُبِّهِ وَالرَّجَاءِ فِيهِ عِنْدَ الْإِحْسَانِ، وَتُذَكِّرُهُ دَائِمًا بِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ، فَتُوَجِّهُ هِمَّتَهُ دَائِمًا إِلَى طَلَبِ الْكَمَالِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ: (حَافَظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى). (٢: ٢٣٨) فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ). وَالطَّهَارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى شَرْطًا لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَمُقْدِمَةً لَهَا، تُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَتُنَشِّطُهُ ; فَيَسْهُلُ بِذَلِكَ الْعَمَلُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ عِبَادَةٍ وَغَيْرِ عِبَادَةٍ، فَمَا أَعْظَمَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَمَا أَجْدَرَ مَنْ هَدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ بِدَوَامِ الشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَيْ وَلِيُعِدَّكُم بِذَلِكَ لِدَوَامِ شُكْرِهِ ; فَتَكُونُوا أَهْلًا لَهُ، وَيَكُونَ مَرْجُوًّا مِنْكُمْ لِتَحَقُّقِ أَسْبَابِهِ، وَدَوَامِ الْمُذَكِّرَاتِ بِهِ، فَتَعْنَوْا بِالطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَتَقُومُوا بِشُكْرِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ " الطَّهَارَةِ " فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ الْبَدَنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ النَّفْسِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ، فَمِنَ
الْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢: ١٢٥) أَيْ طَهِّرَاهُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَشَعَائِرِهَا وَمَظَاهِرِهَا ; كَالْأَصْنَامِ، وَالتَّمَاثِيلِ، وَالصُّوَرِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي اسْتُعْمِلَتِ الطَّهَارَةُ فِيهَا بِمَعْنَيَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ) (٩: ١٠٨) فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعَرَفْتَ اسْتِعْمَالَ الْقُرْآنِ لِكَلِمَةِ الطَّهَارَةِ فِي مَعْنَيَيْهَا تَرَجَّحَ عِنْدَكَ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَذِكْرُ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ قَرِينَةُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. وَالسِّيَاقُ الْعَامُّ وَذِكْرُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ بِغَيْرِ مُتَعَلِّقٍ، قَرِينَةُ الْمَعْنَى الثَّانِي مَضْمُومًا إِلَى الْأَوَّلِ.
أَمَّا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي حِكْمَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَيَتَضَمَّنُ حِكْمَةَ مَا يَجِبُ مِنْ طَهَارَةِ كُلِّ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ مِنَ الْقَذَرِ، فَيَدْخُلُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ نُبَيِّنُ فِيهِمَا فَوَائِدَهُمَا الذَّاتِيَّةَ، وَفَوَائِدَهُمَا الدِّينِيَّةَ.
الْفَوَائِدُ الذَّاتِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ: أَمَّا فَوَائِدُهُمَا الذَّاتِيَّةُ فَثَلَاثٌ (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ كَوْنِ غَسْلِ الْبَدَنِ كُلِّهِ وَغَسْلِ أَطْرَافِهِ، يُفِيدُ صَاحِبَهُ نَشَاطًا وَهِمَّةً، وَيُزِيلُ مَا يَعْرِضُ لِجَسَدِهِ مِنَ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنْتَهِي بِمِثْلِ تَأْثِيرِهِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُقِيمَ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَيُعْطِيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْخُشُوعِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْسُرُ هَذَا فِي حَالِ الْفُتُورِ وَالْكَسَلِ، وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْمَلَلِ، أَوِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا فَنَقُولُ: مِنَ الْمَعْرُوفِ عَقْلًا وَتَجْرِبَةً أَنَّ الطَّهَارَةَ دَوَاءٌ لِهَذِهِ الْعَوَارِضِ ; فَهِيَ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ تُفِيدُ الْمَقْرُورَ حَرَارَةً، وَالْمَحْرُورَ ابْتِرَادًا، وَتُزِيلُ الْفُتُورَ الَّذِي يَعْقُبُ خُرُوجَ الْفَضَلَاتِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ اللَّذَيْنِ يَضُرُّ احْتِبَاسُهُمَا ; كَاحْتِبَاسِ الرِّيحِ فِي الْبَطْنِ، فَالْحَاقِنُ مِنَ الْبَوْلِ، وَالْحَاقِبُ مِنَ الْغَائِطِ، وَالْحَازِقُ مِنَ الرِّيحِ ; كَالْمَرِيضِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ تُكْرَهُ صَلَاتُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً،
بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَحُدُوثُ اللَّذَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَبُّهٍ، أَوْ تَهَيُّجٍ فِي الْعَصَبِ، يَعْقُبُهُ فُتُورٌ مَا بِمُقْتَضَى سُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ، وَالْوُضُوءُ يُزِيلُ هَذَا الْفُتُورَ الَّذِي يَصْرِفُ النَّفْسَ بِاللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ عَنِ اللَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ; وَلِهَذَا اشْتَرَطَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ بِلَذَّةٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ اللَّذَّةِ.
أَمَّا إِذَا بَلَغَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ اللَّذَّةِ الْجَسَدِيَّةِ غَايَتَهَا بِالْوِقَاعِ أَوِ الْإِنْزَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْتَهَى تَهَيُّجِ الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يَعْقُبُهُ - بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ - أَشَدُّ الْفُتُورِ وَالِاسْتِرْخَاءِ وَالْكَسَلِ، وَضَعْفُ الِاسْتِعْدَادِ لِلَّذَّةِ الرُّوحِيَّةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَلَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا غَسْلُ الْبَدَنِ كُلِّهِ ; فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْغُسْلُ عَقِبَ ذَلِكَ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْإِنْزَالِ اللَّذَّةَ، وَيَحْصُلُ نَحْوُ هَذَا الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ، وَهُمَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ ; فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ عَقِبَهُمَا كَمَا شُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالرَّجُلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ كُلُّهُ هُوَ مَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، وَخَصَّ مِنْهَا لَحْمَ الْإِبِلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيبُونَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُسْتَثْقَلُ عَلَى الْمَعِدَةِ، فَيَضْعُفُ النَّشَاطُ عَقِبَ أَكْلِهِ، ثُمَّ خَفَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَاكْتَفَى بِالْحَدَثِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْأَكْلِ عَنِ الْمَبْدَأِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِمَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ; كَالْإِغْمَاءِ، وَالسُّكْرِ، وَتَنَاوُلِ بَعْضِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ، لَا يَنْشَطُ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ إِلَّا إِذَا أَمَسَّ الْمَاءَ بَدَنَهُ بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ، وَإِنَنِي أَرَى هَذَا الدُّخَانَ - التَّبْغَ وَالتِّنْبَاكَ - الَّذِي فُتِنَ بِهِ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الشَّارِعِ لَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُحَرِّمْهُ تَحْرِيمًا. وَيَقْرُبُ مِنَ الْإِغْمَاءِ وَنَحْوِهِ النَّوْمُ. وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ؛ هَلْ هُوَ لِذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِشَيْءٍ آخَرَ؟ وَهَلْ يَنْقُضُ مُطْلَقًا، أَوْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَثْرَةُ، أَوْ عَدَمُ تَمَكُّنِ الْمِقْعَدَةِ مِنَ الْأَرْضِ؟ فَالْجَمَاهِيرُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَقِبَ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ تَحْصُلُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ حَتَّى مَا يُزِيلُ الْوَسَخَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ كَالْكُحُولِّ، فَلَا تَحْصُلُ عِبَادَةُ الْغُسْلِ بِغَيْرِهِ لِإِنْعَاشِهِ وَكَوْنِهِ أَصْلَ الْأَحْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ الصُّوفِيَّةُ بِتَقْوِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) الْآيَةَ، وَلَا يُنَافِي رُوحَانِيَّةَ الْمَائِيَّةِ الْمَادَّةُ الْعَطِرَةُ الَّتِي تُقْطَرُ مِنَ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ، بَلْ تَزِيدُ الْمُتَطَهِّرَ بِهِ طَهَارَةً وَطِيبًا وَرُوحَانِيَّةً، وَمَادَّةُ الْمَاءِ مَعْرُوفَةٌ.
(الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ فَوَائِدِ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ) : تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ يَعِيشُ مَعَهُمْ، كَمَا يُكْرِمُهَا وَيُزَيِّنُهَا لِأَجْلِ غَشَيَانِ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى لِلْعِبَادَةِ، بِهِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٧: ٣١) وَمَنْ كَانَ نَظِيفَ الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ كَانَ أَهْلًا لِحُضُورِ كُلِّ اجْتِمَاعٍ، وَلِلِقَاءِ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَشُرَفَائِهِمْ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ كَرَامَةٍ يُكْرَمُ بِهَا النَّاسُ، وَأَمَّا مَنْ يَعْتَادُ الْوَسَخَ وَالْقَذَارَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْتَقَرًا عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ، لَا يَعُدُّونَهُ أَهْلًا لِأَنْ يَلْقَاهُمْ وَيَحْضُرَ
مَجَالِسَهُمْ، وَيَشْعُرُ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِالضَّعَةِ وَالْهَوَانِ. وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي طَبَائِعِ النُّفُوسِ وَأَخْلَاقِ الْبَشَرِ رَأَى بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةِ الْبَاطِنِ، أَوْ طَهَارَةِ الْجَسَدِ وَاللِّبَاسِ، وَطَهَارَةِ النَّفْسِ وَكَرَامَتِهَا، ارْتِبَاطًا وَتَلَازُمًا.
وَالطَّهَارَةُ فِي الْآيَةِ تَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ عَوْنًا لِلْآخَرِ، كَمَا أَنَّ التَّنَطُّعَ وَالْإِسْرَافَ فِي أَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَشْغَلُ عَنِ الْأُخْرَى. وَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ عِنَايَةِ بَعْضِ الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ بِنَظَافَةِ الظَّاهِرِ، وَعَدَمِ عِنَايَةِ الْمُوَسْوَسِينَ الْمُتَنَطِّعِينَ فِي نَظَافَةِ الظَّاهِرِ بِنَظَافَةِ
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالطِّيبِ، وَلِبْسِ الثِّيَابِ النَّظِيفَةِ ; لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدِ الْأُسْبُوعِ، يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَيُطْلَبُ فِيهِ مَا يُطْلَبُ فِي عِيدَيِ السَّنَةِ، وَوَرَدَ فِي أَسْبَابِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ فِيهِ خَاصَّةً أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَتْرُكُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قُبَيْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَتُشَمُّ رَائِحَةُ الْعَرَقِ مِنْهُمْ، وَلَا تَكُونُ أَبْدَانُهُمْ نَظِيفَةً، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، فَإِذَا عَرِقُوا عَلَتْ رَائِحَتُهُ حَتَّى شَمَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً وَهُوَ يَخْطُبُ، فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْغُسْلِ وَالطِّيبِ وَالثِّيَابِ النَّظِيفَةِ لِأَجْلِ هَذَا، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ "؛ أَيْ بَالِغٍ مُكَلَّفٍ. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ وَعَطَاءٍ وَكَعْبٍ وَالْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ وَسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَالْوُجُوبُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَعَارَضَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ حَدِيثَ الْوُجُوبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ تَوَضَّأَ فَقَطْ، وَقَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِلْيَوْمِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاتِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ وَمَسِّ الْفَرْجِ وَالْقَيْءِ وَالدَّمِ.
شُبَهَاتُ الْمَلَاحِدَةِ عَلَى جَعْلِ الطَّهَارَةِ عِبَادَةً: تِلْكَ فَوَائِدُ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ لَهَا الَّتِي شُعِرَتْ لِأَجْلِهَا، وَأَمَّا فَوَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ، وَجَعْلُهَا عِبَادَةً وَدِينًا، فَإِنَّنَا قَبْلَ بَيَانِهَا نُنَبِّهُ أَذْهَانَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جَهَالَةِ بَعْضِ الْمُعَطِّلِينَ، الَّذِينَ يَنْتَقِدُونَ جَعْلَ الطَّهَارَةِ مِنَ الدِّينِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِحَقَائِقِ الْفَلْسَفَةِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا السَّفَهَ وَالتَّقْلِيدَ فِي الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عُذْرٍ: عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ تَقْلِيدًا
وَفَوَائِدِهَا، هُوَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ الذى عَظَّمَ أَمْرَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ.
وَ (ثَانِيًا) : إِنَّ أَمْرَ الْأُمَمِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُفِيدُهَا فِي مَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمَنَافِعِ أَفْرَادِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وَنَهْيَهَا عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ الْأَفْرَادَ وَالْجُمْهُورَ لَا يُقْبَلَانِ وَيُمْتَثَلَانِ بِمُجَرَّدِ تَعْلِيلِهِمَا بِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ كَمَا يَزْعُمُونَ ; لِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ إِقْنَاعَكَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا بِضَرَرِ كُلِّ مَا تَرَاهُ ضَارًّا وَنَفْعِ كُلِّ مَا تَرَاهُ نَافِعًا مُتَعَذِّرٌ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ إِرْجَاعُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ عَمَلٍ ضَارٍّ، وَلَا حَمْلُهَا عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى نَفْعِ النَّافِعِ وَضَرَرِ الضَّارِّ، وَلَا تَرَى أُمَّةً وَلَا قَبِيلَةً مِنَ الْبَشَرِ مُتَّفِقَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبِ دَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ تَقَالِيدَ أَوْصَلَهُمْ إِلَيْهَا اخْتِبَارُهُمُ الْمُوَافِقُ لِطَبِيعَةِ مَعَاشِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ قَوْمٍ مُخْتَلَفًا فِيهَا عِنْدَ آخَرِينَ، أَوْ مُتَّفَقًا عَلَى ضَرَرِ مَا يَرَاهُ أُولَئِكَ نَافِعًا، وَنَفْعِ مَا يَرَوْنَهُ ضَارًّا.
(ثَانِي الْأَمْرِ) : أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْنَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ بِضَرَرِ الضَّارِّ وَنَفْعِ النَّافِعِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا التَّرْكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ هَوَى النَّفْسِ وَلَذَّتُهَا فَيُرَجِّحُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ الْهَوَى عَلَى الْمَنْفَعَةِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ لِأُمَّتِهِمْ لَا لِأَشْخَاصِهِمْ، وَإِنَّنَا نَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ الْمَسَاكِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ضَارَّةٌ، وَقَدْ أَفْقَرَ الْقِمَارُ بُيُوتَ أَمْثَلِهِمْ وَأَشْهَرِهِمْ، وَأَذَلَّ مَنْ أَذَلَّ مِنْهُمْ بِالدَّيْنِ وَالْحَجْزِ عَلَى مَا يَمْلِكُ، وَبَيْعِهِ حَتَّى قِيلَ
الَّذِي كَانَ وَكِيلَ نِظَارَةِ الْمَالِيَّةِ بِمِصْرَ - أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي أُورُبَّا مَنْ لَا يَغْتَسِلُ فِي سَنَتِهِ أَوْ فِي عُمْرِهِ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الشَّعْبَ الْإِنْكِلِيزِيَّ هُوَ أَشَدُّ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عِنَايَةً بِالنَّظَافَةِ، وَالْقُدْوَةُ لَهَا فِيهَا، كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الْبَوَاخِرِ الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ الْمُخْتَلِفِي الْأَجْنَاسِ، وَأَنَّ الْإِنْكِلِيزَ قَدْ تَعَلَّمُوا الِاسْتِحْمَامَ وَكَثْرَةَ الْغُسْلِ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ.
وَمِنْ دَلَائِلَ تَقْلِيدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَسَاكِينِ فِي النَّظَافَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ، أَنَّهُمْ فِي غَسْلِ الْأَطْرَافِ يَسْتَبْدِلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ " التُّوَالِيتَّ " بِالْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنَّ مَنْ يُعْنَى مِنْهُمْ بِأَسْنَانِهِ يَسْتَبْدِلُ فِي تَنْظِيفِهَا " الْفُرْشَةَ " بِمِسْوَاكِ الْأَرَاكِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْهَا بِشَهَادَةِ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِيِّينَ لِمَنْ أَوْصَاهُ بِأَسْنَانِهِ: " عَلَيْكَ بِشَجَرَةِ مُحَمَّدٍ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ (غَازِتَةِ بَارِيسَ الطِّبِّيَّةِ) تَحْتَ عُنْوَانِ " عِنَايَةِ الْعَرَبِ بِالْفَمِ ": " بِتَأْثِيرِ السِّوَاكِ تَصِيرُ الْأَسْنَانُ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ، وَاللِّثَةُ وَالشَّفَتَانِ جَمِيلَةَ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَإِنَّهُ لَيَسُوؤُنَا أَلَّا تَكُونَ عِنَايَتُنَا بِأَفْوَاهِنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ، كَعِنَايَةِ الْعَرَبِ بِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَا فِي عُودِ الْأَرَاكِ مِنَ الْمَادَّةِ الْعَفَصِيَّةِ الْعَطِرَةِ يَشُدُّ اللِّثَةَ، وَيَحُولُ دُونَ حَفْرِ الْأَسْنَانِ، وَإِنَّهُ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ عَلَى الْهَضْمِ، وَيَدِرُّ الْبَوْلَ، وَقَدْ فَاتَنَا أَنَّ نَذْكُرَ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى السِّوَاكِ.
وَ (ثَالِثًا) : إِذَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ أَنَّ إِقْنَاعَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى تَرْكِ الضَّارِّ وَعَمَلِ النَّافِعِ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ نَافِعٌ، غَيْرُ كَافٍ فِي هِدَايَتِهَا، ثَبَتَ أَنَّ إِصْلَاحَ شَأْنِهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ، وَتَرْكِ الْمَضَارِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي سَبِيلِ الْمَنَافِعِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ آخَرَ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النَّفْسِ؛ وَهُوَ الدِّينُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِهَا طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤَهِّلُ الْعَامِلَ لِسَعَادَةِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُذْعِنَ لَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِأَحْكَامِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ حِكْمَةَ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَكُلِّ حُكْمٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ
عَنْ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ اسْتِعْدَادَهُ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا قَبِلَ ذَلِكَ، بَادِئَ بَدْءٍ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عِنْدَمَا يَتَفَقَّهُ فِي دِينِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَهْمَا ضَعُفَ الدِّينُ فَهُوَ أَعَمُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ مُتَدَيِّنٌ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَمَا نَرَاهُ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الِاسْمُ، فَلَا تَعَلَّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا تَرَبَّوْا عَلَى تَزْكِيَتِهِ.
وَ (رَابِعًا) : أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفَضَائِلَ، دِينًا هُوَ أَنَّ الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ يَأْمُرُنَا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَوَائِدِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَنْفَعُنَا، وَتَدْرَأُ الضُّرَّ عَنَّا، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى لَا نُدْرِكُهَا إِلَّا بِجَعْلِهَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَ (خَامِسًا) :- وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ، وَمَا قَبْلُهُ تَمْهِيدٌ وَمُقْدِمَاتٌ - أَنَّ الْفَوَائِدَ مِنْ جَعْلِ الطَّهَارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعِبَادَتِهِ أَرْبَعٌ، وَهِيَ كَمَا نَرَى:
الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ: (الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا كُلُّ مُذْعِنٍ لِهَذَا الدِّينِ ; مِنْ حَضَرِيٍّ وَبَدَوِيٍّ، وَذَكِيٍّ وَغَبِيٍّ، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ، وَعَالِمٍ بِحِكْمَتِهَا وَجَاهِلٍ لِمَنْفَعَتِهَا حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ فِيهَا الْآرَاءُ، وَلَا تَحُولَ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا الْأَهْوَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ مَا يَسْتَقِلُّونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُذَكِّرَاتِ لَهُمْ بِفَضْلِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، فَإِذَا تَذَكَّرُوا أَنَّهُ يُرْضِيهِ عَنْهُمْ أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ أَنَّ أَهَمَّ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ تَطْهِيرَ أَجْسَادِهِمْ هُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ نَظَرَ الرِّضَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، لَا إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، فَيَعْنُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ تَوَسُّلًا بِهِمَا إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (٢: ٢٠١).
(الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : أَنَّ مُجَرَّدَ مُلَاحَظَةِ الْمُؤْمِنِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، وَابْتِغَاءِ
مَرْضَاتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ، مِمَّا يُغَذِّي الْإِيمَانَ بِهِ، وَيَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ طَهَارَةٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، الَّتِي شَرَحْنَا مَعْنَاهَا فِي بَحْثِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، جَذْبَةٌ إِلَى حَظِيرَةِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَتَعْلُو بِهَا هِمَّتُهُ، وَتَتَقَدَّسُ بِهَا رُوحُهُ، فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ عَمَلُهُ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ ; لِهَذَا كَانَ لِأُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، تِلْكَ الْأَعْمَالُ وَالْآثَارُ، وَالْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ
(الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ) : اتِّفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الطَّهَارَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَسْبَابٍ وَاحِدَةٍ أَيْنَمَا كَانُوا وَمَهْمَا كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا، وَأَنَّ اتِّفَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ ; فَكُلَّمَا كَثُرَ مَا تَتَّفِقُ بِهِ كَانَ اتِّحَادُهَا أَقْوَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
ثُمَّ نَقُولُ (سَادِسًا) : إِنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْصِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي النَّظَافَةِ، وَيَعُدُّونَ الطَّهَارَةَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا، لَا يُنَافِي الْقَذَارَةَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ طَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ كَالْجِيفَةِ فِي وَسَخِهِ وَنَتَنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَظِيفًا تَامَّ النَّظَافَةِ، وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، وَيَعُدُّونَ كَثِيرًا مِنَ الطِّيبِ وَالْمَائِعَاتِ الْمُطَهِّرَةِ نَجِسَةً ; كَالْكُحُولِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ حُجَّةٌ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَيْهِ، إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ وَيَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، لَا عَنْ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمُعْتَرِضِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ أُصُولِهِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ شَيْئًا، إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعَمَّمِينَ مِنْهُمْ، بَلْ يَعُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ بَعْضِ أَعْدَائِهِ، وَيَقْرَءُونَهُ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَنَحْوُهَا مَا يَكْتُبُهُ رِجَالُ السِّيَاسَةِ ; لِأَنَّهُمْ يُتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَنْظُرُ إِلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مُلْتَمِسًا مِنْهَا مَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَعِيبَهُ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ ; فَهُوَ لَا يَطْلُبُ حَقِيقَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْرِكُهَا، وَلَا يَقُولُ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، بَلْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الطَّهَارَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَطُّعٍ، وَلَا وَسْوَسَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَلَا التَّرْتِيبُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلِ الْمُطَّرِدِ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ طَهَارَةَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَطْرَافِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوَسَخُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَأَكَّدَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى السِّوَاكِ وَالطِّيبِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ امْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِالنَّظَافَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، حَتَّى صَارَ هَذَا مَعْرُوفًا لَهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَسَمِعْتُ كَثِيرِينَ مِنْ أُدَبَاءِ النَّصَارَى يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَيُعَلِّلُونَهَا بِأَنَّ الْعَرَبَ
نَفْيُ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ وَإِثْبَاتِ الْيُسْرِ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلٌ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ، تُبْنَى عَلَيْهِ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا نَفْيُ الْحَرِجِ، وَالْمُرَادُ بِهِ - أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ - مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآيَةِ، أَوْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَثَانِيًا - وَبِالتَّبَعِ - جَمِيعُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، مَثَلًا ; لِأَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ ; فَقَالَ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢٣: ٧٨) الْآيَةَ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدَهُ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ لَيْسَ مِنَ الْحَرَجِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقَّ الْجِهَادِ، وَهُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَكُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْحَقِّ
وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. وَلَا يَصْعَدُ الْإِنْسَانُ إِلَى مُسْتَوَى كَمَالِهِ إِلَّا بِبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ وَالْمَشَقَّةُ فِيمَا ضَرَرُهُ أَرْجَحُ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ ; كَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالِامْتِنَاعِ مَنْ سَدِّ الرَّمَقِ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْخَمْرِ لِمَنْ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَكَاسْتِعْمَالِ الْمَرِيضِ الْمَاءَ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مَعَ خَشْيَةِ ضَرَرِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَرْدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ غَرَضِ الشَّارِعِ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فِي وَقْتٍ آخَرَ ; كَالصِّيَامِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، بَعْدَ بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ، وَالرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.
وَقَدْ بَنَى الْعُلَمَاءُ عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَإِثْبَاتِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى الْيُسْرَ بِالْعِبَادِ فِي كُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ - عِدَّةَ قَوَاعِدَ وَأُصُولٍ، فَرَّعُوا عَلَيْهَا كَثِيرًا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، مِنْهَا: " إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ "، وَ " الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ "، وَ " دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ "، وَ " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ "، وَ " مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ".
وَقَدْ نَاطَ الْفُقَهَاءُ مَعْرِفَةَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَتَكُونُ سَبَبَ التَّخْفِيفِ بِعُرْفِ النَّاسِ
وَاسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ هَذَا الضَّابِطَ فِيمَا يَسْكُتُونَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَحْدِيدِهِ مِنَ الْعُرْفِ، وَقَالَ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَهِلْهُ إِلَّا الْعَوَامُّ الَّذِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا رَأْيِهِمْ فِي الدِّينِ (وَعِبَارَتُهُ: لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِي الدِّينِ) وَرَأَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يَتَعَيَّنُ تَقْرِيبُهُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ أَدْنَى مَشَاقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيُحَقِّقُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ، مِثْلَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، جَعَلَهُ مُسْقِطًا، وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْهَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْقِطًا، مِثَالُهُ: التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ فِي الْحَجِّ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَأَيُّ مَرَضٍ آذَى مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ; فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ الْأَنْصَارِيُّ.
وَأَقُولُ: فِيمَا اسْتَشْكَلَهُ مِنْ نَوْطِ مَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ بِالْعُرْفِ، نَظَرٌ ظَاهِرٌ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ نَاطُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ بِالْعُرْفِ إِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ أَوِ
التَّصْنِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ كُلُّ فَرْدِ مِنْهُمُ الْعُرْفَ الْعَامَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَمَا اجْتَمَعَ عُلَمَاءُ عَصْرٍ أَوْ قُطْرٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عُرْفِ النَّاسِ فِي أَمْرٍ وَمُحَاوَلَةِ ضَبْطِهِ وَتَحْدِيدِهِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَالُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ. إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَقِيرَ الْبَائِسَ، وَالضَّعِيفَ الْمُنَّةِ (الْمُنَّةُ، بِالضَّمِّ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ) وَالْغَنِيَّ الْمُتْرَفَ وَالْقَوِيَّ الْجَلَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَيَسْهُلُ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الْجُمْهُورِ ; فَالرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَتَعَرُّفِ شُئُونِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَتِ الدَّوَاهِي فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ: " الْفَقِيهُ هُوَ الْمُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ الْعَارِفُ بِأَهْلِ زَمَانِهِ "، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مِنَ التَّقْرِيبِ مَحَلُّهُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا عُرْفَ مِمَّا يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ فَيَسْتَفْتُونَ فِيهِ، وَأَمَّا نَوْطُ كُلِّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِآرَاءِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَيَفِرُّونَ مِنْ حَظِيرَتِهِ زُرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَاسْتَبْدَلَ حُكَّامُهُمْ بِشَرْعِهِ قَوَانِينَ الْأَجَانِبِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَنَسْخَ مَا شَاءُوا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
بَعْدَ مَا بَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَقَاعِدَةَ رَفْعِ الْحَرَجِ الَّتِي تَمَّ بِهَا الْإِنْعَامُ، ذَكَّرَنَا بِمَا إِنْ ذَكَرْنَاهُ نَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ، وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ، فَقَالَ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أَيْ تَذَكَّرُوا يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ; إِذْ كُنْتُمْ كُفَّارًا مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِخْوَانًا فِي الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَاذْكُرُوا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ ; أَيْ عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ حِينَ بَايَعْتُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمُكْرَهِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ; إِذْ قُلْتُمْ لَهُ سَمِعْنَا مَا أَمَرْتَنَا بِهِ وَنَهَيْتَنَا
وَمُجَرَّدُ قَبُولِ الدَّعْوَةِ وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ يُعَدُّ عَهْدًا وَمِيثَاقًا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ الَّذِي أَخَذَهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ قَبِلَ الْإِسْلَامَ وَمَنْ نَشَأَ فِيهِ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجِبُ أَنْ نَعُدَّ هَذَا التَّذْكِيرَ خِطَابًا لَنَا كَمَا كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَعُدُّونَهُ خِطَابًا لَهُمْ.
(وَاتَّقُوا اللهَ) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَنْقُضُوا عَهْدَهُ بِمُخَالَفَةِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ أَنْ تَزِيدُوا فِيمَا بَلَّغَكُمْ رَسُولُكُمْ مِنْ أَمْرِ رَبِّكُمْ، أَوْ تَنْقُضُوا مِنْهُ، أَوْ أَنْ تُقَصِّرُوا فِي حِفْظِهِ، أَوْ تُحَرِّفُوا كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَتَكُونُوا كَالَّذِينِ أَخَذَ اللهَ مِيثَاقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَزَادُوا فِي دِينِهِمْ بِرَأْيِهِمْ، وَنَقَصُوا مِنْهُ، كَمَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَعِقَابِهِ لَهُمْ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا أَضْمَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ، مِنَ الْوَفَاءِ أَوْ عَدَمِ الْوَفَاءِ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرِيرَةُ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْإِخْلَاصِ أَوِ الرِّيَاءِ، وَسَيَرَوْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
عَامَّةً، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِإِبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَهُمْ إِلَّا مَا اسْتَثْنَى، وَمَا حَرَّمَ مِنَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَنَادَاهُمْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، بَلِ الثَّالِثَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَأَمَرَهُمْ بِأَشْيَاءَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ الَّتِي يُرَجَّحُ فِيهَا أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَشَدِّهِمَا، وَأَحَلَّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَصَيْدَ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَاتِ، وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنِسَاءَهُمْ إِذَا كُنَّ مُحْصَنَاتٍ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ آيَاتٍ، وَنَادَاهُمْ ثَالِثًا فَأَمَرَهُمْ بِالطَّهَارَةِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ، ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَالْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا تَرَى. وَإِذَا رَاجَعْتَ سَائِرَ السُّورَةِ تَجِدُ النِّدَاءَ فِيهَا كَثِيرًا، مِنْهُ نِدَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنْهُمْ، وَنِدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، وَنِدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِرَارًا أَيْضًا، هَذَا أُسْلُوبٌ فِي الْخِطَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نِدَاءٍ مِنْهُ مَبْدَأَ مَوْضُوعٍ مُسْتَقِلٍّ، لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا بِمِيثَاقِهِ أَمَرَنَا بِأَنْ نَكُونَ قَوَّامِينَ لَهُ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ; لِأَنَّنَا بِذَلِكَ يُرْجَى أَنْ نَفِيَ بِمِيثَاقِهِ وَلَا نَنْقُضَهُ، كَمَا نَقَضَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيَظْهَرُ لَكَ هَذَا الِاتِّصَالُ وَالتَّنَاسُبُ مِمَّا يَلِي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) الْقَوَّامُ: هُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْقِيَامِ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِهِ مُقَوَّمًا تَامًّا لَا نَقْصَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ، وَقَدْ حَذَفَ هُنَا مَا أَمَرَنَا بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِهِ، فَكَانَ عَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا أَخَذَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ حَتَّى الْمُبَاحَاتِ ; أَيْ كُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ، وَأَهْلِ الْإِيقَانِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ أَوْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ، وَمَعْنَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي أَعْمَالِ الدُّنْيَا أَنْ تَكُونَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ ; بِأَنْ يُرِيدَ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ الْخَيْرَ وَالْتِزَامَ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ شَائِبَةِ اعْتِدَاءٍ عَلَى حَقِّ أَحَدٍ، أَوْ إِيقَاعِ ضَرَرٍ بِهِ. وَالشَّهَادَةُ بِالْقِسْطِ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ بِالْعَدْلِ بِدُونِ مُحَابَاةِ مَشْهُودٍ لَهُ وَلَا مَشْهُودٍ عَلَيْهِ ; لَا لِقَرَابَتِهِ وَوَلَائِهِ، وَلَا لِمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَلَا لِفَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ. فَالشَّهَادَةُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْحَقِّ لِلْحَاكِمِ ; لِيَحْكُمَ بِهِ، أَوْ إِظْهَارِهِ هُوَ إِيَّاهُ بِالْحُكْمِ بِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ لِصَاحِبِهِ. وَ (الْقِسْطُ) :
هُوَ مِيزَانُ الْحُقُوقِ، مَتَى وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ وَالْجَوْرُ - لِأَيِّ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ - زَالَتِ الثِّقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَانْتَشَرَتِ الْمَفَاسِدُ وَضُرُوبُ الْعُدْوَانِ بَيْنَهُمْ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَعْضَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ مِنْهُمْ، فَيُزِيلُونَ اسْتِقْلَالَهُمْ، وَيُذِيقُونَهُمْ وَبَالَهُمْ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ الَّتِي شَهِدْنَاهَا فِي الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، وَشَهِدَ بِهَا تَارِيخُ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ ; فَأَنَّى يَعْتَبِرُونَ وَيَتَّعِظُونَ؟ !
(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) أَيْ وَلَا يَكْسِبَنَّكُمْ وَيَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ
وَلَمْ يَكْتَفِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ وَالنِّيَّةُ فِيهِ، بَلْ أَكَّدَ أَمْرَهُ بِقَوْلِهِ (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أَيْ قَدْ فَرَضْتُ عَلَيْكُمُ الْعَدْلَ فَرْضًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، اعْدِلُوا هُوَ - أَيِ الْعَدْلُ الْمَفْهُومُ مِنْ " اعْدِلُوا " - أَقْرَبُ لِتَقْوَى اللهِ ; أَيْ لِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ وَسُخْطِهِ بِاتِّقَاءِ مَعْصِيَتِهِ، وَهِيَ الْجَوْرُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَاصِي ; لِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْمَفَاسِدِ (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). الْخِبْرَةُ: الْعِلْمُ الدَّقِيقُ الَّذِي يُؤَيِّدُهُ الِاخْتِبَارُ ; أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَلَا مِنْ نِيَّاتِكُمْ وَحِيَلِكُمْ فِيهَا، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ فَاحْذَرُوا أَنْ يُخْزِيَكُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى تَرْكِكُمُ الْعَدْلَ، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ الْعَادِلَةُ فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ جَزَاءَ تَرْكِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ إِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الدُّنْيَا هُوَ ذُلُّ الْأُمَّةِ وَهَوَانُهَا، وَاعْتِدَاءُ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، وَلَجَزَاءُ الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَأَخْزَى، وَأَشَدُّ وَأَبْقَى، قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا ظُلِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَوْلَةَ الْعَدُوِّ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (٤: ١٣٥) (فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٢٧٠ - ٣٧٣ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْخَامِسِ ط الْهَيْئَةِ) وَمَا أَطَلْنَا بِهِ هُنَاكَ يُغْنِينَا عَنِ الْإِطَالَةِ هُنَا، عَلَى أَنَّ مَا هُنَا أَبْلَغُ، وَإِنْ كَانَ أَخْصَرَ ; لِأَنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ " قَوَّامِينَ " يَدْخُلُ فِيهِ الْقِسْطُ وَغَيْرُهُ، وَتَأْكِيدُ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَالشَّهَادَةُ لَهُمْ بِهِ يُفِيدُ وُجُوبَهُ مَعَ غَيْرِهِمْ بِالْأَوْلَى.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى مِمَّا حَتَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ أَقْرَبُ مَا يُتَّقَى بِهِ عِقَابُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ قِوَامُ الصَّلَاحِ لِلْأَفْرَادِ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَقْوَامِ، وَلَمَّا عَلَّلَ هَذَا الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِدَقَائِقِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ يُشِيرُ إِلَى جَزَاءِ الْعَامِلِينَ الْمُتَّقِينَ وَغَيْرِ الْمُتَّقِينَ - قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَيَانِ الْجَزَاءِ الْعَامِّ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَيِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا أَمْرُ الْعِبَادِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي رَوَابِطِهِمْ، وَمَرَافِقِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْ أُسُسِهَا: الْعَدْلُ الْعَامُّ التَّامُّ، وَالتَّقْوَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمَاذَا وَعَدَهُمْ؟ أَوْ مَاذَا فِي وَعْدِهِ لَهُمْ، وَالْوَعْدُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ؟ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا هَذَا
الْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، الْمُضَاعَفُ بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمَّا بَيَّنَ الْوَعْدَ اقْتَضَى أَنْ يُبَيِّنَ الْوَعِيدَ، كَمَا هِيَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، فَقَالَ:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا: الْكُفْرُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْكُفْرِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ وَالْإِيمَانِ بِبَعْضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ بِأَيِّ رَسُولٍ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ - مِمَّنْ يَعْقِلُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ - إِلَّا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا عَنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ. وَآيَاتُ اللهِ تَعَالَى قِسْمَانِ: آيَاتُهُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى رَسُولِهِ، وَآيَاتُهُ الَّتِي أَقَامَهَا فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَعَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ، فَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ; أَيْ دَارِ الْعَذَابِ. وَالْجَحِيمُ: النَّارُ الْعَظِيمَةُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وَمَعْلُومٌ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي هَذَا الْبُنْيَانِ نَارًا عَظِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ عَمَلٌ، فَإِنَّ إِفْسَادَهُ لِلْأَرْوَاحِ وَتَدْسِيَتَهُ لِلنُّفُوسِ لَا يَمْحُوهَا عَمَلٌ آخَرُ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ (وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ هَمَّ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَهُ قَوْمُهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ بِيَدِهِ السَّيْفُ، وَلَيْسَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلَاحٌ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا. وَأَقْوَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ
وَرَوَى آخَرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ ; إِذْ
ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَطْلُبُونَ مِنْهُمُ الْإِعَانَةَ عَلَى دِيَةِ قَتْلِ الرَّجُلَيْنِ الْكِلَابِيَّيْنِ، اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَ مَعَهُمَا أَمَانٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَقَوْمُهُمَا مُحَارِبُونَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَأَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الدِّيَاتِ ; فَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَهُوَ بَيْنُهُمْ أَظْهَرُوا لَهُ الْقَبُولَ، وَقَالُوا اقْعُدْ حَتَّى نَجْمَعَ لَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتَسْأَلَنَا حَاجَةً، اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ الَّذِي تَسْأَلُنَا. فَلَمَّا جَلَسَ بِجَانِبِ جِدَارِ دَارٍ لَهُمْ وَجَدُوا أَنَّ الْفُرْصَةَ قَدْ سَنَحَتْ لِلْغَدْرِ بِهِ، وَقَالَ لَهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ: لَا تَرَوْنَهُ أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، اطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَرَوْنَ شَرًّا أَبَدًا! فَهَمُّوا أَنْ يَطْرَحُوا عَلَيْهِ صَخْرَةً، وَفِي رِوَايَةٍ: رَحًى عَظِيمَةً، وَإِنَّمَا اعْتَلُّوا بِصُنْعِ الطَّعَامِ ; لِيَكُونَ لَهُمْ فِيهِ وَقْتٌ يَنْقُلُونَ الصَّخْرَةَ، أَوِ الرَّحَى إِلَى سَطْحِ الدَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ مَنْ مَعَهُ أَيْضًا، وَقِيلَ كَانَ مَعَهُمْ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا، وَقَدْ أَعْلَمَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَانْطَلَقَ وَتَرَكَهُمْ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُذَكِّرَةً بِهَذِهِ الْقِصَّةِ ; فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ وَبِحَادِثَةِ الْمُحَارِبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ وَقَائِعِ الِاعْتِدَاءِ الَّتِي كَانَتْ كَثِيرَةً حَتَّى بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامَ بِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، دَعْ مَا كَانَ يَقَعُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِيذَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَعُدْوَانِهِمْ ; فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُذَكِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْمِنَّةُ لَهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى مَنْ وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَقَائِعُ مِنَ النَّبِيِّ، صَلَّى الله عَلَيْهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ،
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا التَّذْكِيرِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَرْغِيبُهُمْ فِي التَّأَسِّي بِسَلَفِهِمْ فِي الْقِيَامِ بِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاحْتِمَالِ الْجُهْدِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ، وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
(وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ; أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ بِعِنَايَتِهِ بِكُمْ ; إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ; أَيْ شَارَفُوا أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَنْفِيذَ مَا هَمُّوا بِهِ وَكَادُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْإِيقَاعِ بِكُمْ. وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَرَاكُمْ قُدْرَتَهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَقْتَ ضَعْفِكُمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَقَدْ أَرَاكُمْ عِنَايَتَهُ بِمَنْ يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ بَعْدَ مُرَاعَاةِ سُنَنِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَيْهَا فِي اتِّقَاءِ كُلِّ مَا يُخْشَى ضُرُّهُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بِقُدْرَتِهِ وَعِنَايَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، لَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْفُسِهَا، وَلَا عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ يَغْدِرُونَ كَمَا غَدَرَ بَنُو النَّضِيرِ وَغَيْرُهُمْ ; وَلِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ قَدْ يَكْثُرُ عَلَيْهَا الْأَعْدَاءُ، وَتَتَقَطَّعُ بِهَا الْأَسْبَابُ، فَتَقَعُ بَيْنَ أَمْوَاجِ الْحَيْرَةِ وَالِاضْطِرَابِ، حَتَّى تَفْقِدَ الْبَأْسَ، وَتُجِيبَ دَاعِيَ الْيَأْسِ، وَلَا يَقَعُ هَذَا لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ إِذَا هَمَّ أَنْ يَيْئَسَ مِنْ نَفْسِهِ بِتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، وَتَغْلِيقِ الْأَبْوَابِ، وَتَغَلُّبِ الْأَعْدَاءِ، وَتَقَلُّبِ الْأَوْلِيَاءِ، يَتَذَكَّرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيرُ، وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، فَتَتَجَدَّدُ قُوَّتُهُ، وَتَنْفَتِقُ حِيلَتُهُ، فَيَفِرُّ مِنْهُ الْيَأْسُ، وَيَتَجَدَّدُ عَنْهُ مَا اخْلَوْلَقَ مِنَ الْبَأْسِ، فَيَنْصُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا يَسْتَفِيدُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالذِّكْرَى وَالتَّوَكُّلِ، وَمَا يَخْذُلُ بِهِ عَدُوَّهُ وَيُلْقِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الرُّعْبِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ عِنَايَتِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الَّتِي رَآهَا كُلُّ مُتَوَكِّلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَمَلَةِ، مَعَ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَتَأَلُّبِ النَّاسِ كُلِّهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالتَّقْوَى ثُمَّ بِالتَّوَكُّلِ؛ وَإِنَّمَا التَّقْوَى بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَكُلِّ شَرٍّ وَمِنْ مَبَادِئِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ. وَلَا تَحْصُلُ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِالسَّيْرِ عَلَى سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ; لِأَنَّ مَنْ يُوكَلُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُطَاعَ. وَمَنْ تَنَكَّبَ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ عَمِلٍ نَافِعٍ، وَنَهَى عَنْهُ مَنْ عَمِلَ ضَارٍّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَاثِقًا بِهِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ التَّوَكُّلِ وَالْأَسْبَابِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ (رَاجَعْ ص ١٦٨ - ١٧٥ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ،
ط الْهَيْئَةِ).
الْآخِرَةِ - وَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى - لِنَعْتَبِرَ بِحَالِهِمْ وَنَتَّقِيَ حَذْوَ مِثَالِهِمْ، وَلِيُبَيِّنَ لَنَا عِلَّةَ كُفْرِهِمْ بِنَبِيِّنَا، وَتَصَدِّيهِمْ لِإِيذَائِهِ وَعَدَاوَةِ أُمَّتِهِ ; وَلِيُقِيمَ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَرَاهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ. فَهَذَا مَبْدَأُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَانِ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى:
(وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) النَّقِيبُ فِي الْقَوْمِ: مَنْ يُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَيَبْحَثُ عَنْ شُئُونِهِمْ، مِنْ نَقَبَ عَنِ الشَّيْءِ: إِذَا بَحَثَ أَوْ فَحَصَ فَحْصًا بَلِيغًا، وَأَصْلُهُ الْخَرْقُ فِي الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ ; كَالنَّقْبِ فِي الْخَشَبِ وَمَا شَابَهَهُ، وَيُقَالُ نَقَبَ عَلَيْهِمْ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلِمَ) نِقَابَةً ; أَيْ صَارَ نَقِيبًا عَلَيْهِمْ، عُدِّيَ بِاللَّامِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّوْلِيَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَنُقَبَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ زُعَمَاءُ أَسْبَاطِهِمُ الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَالْمُرَادُ بِبَعْثِهِمْ: إِرْسَالُهُمْ لِمُقَاتَلَةِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ يَجِيءُ خَبَرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا أُخِذَ بِهِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْثَهُمْ مِنْهُمْ هُوَ جَعْلُهُمْ رُؤَسَاءَ فِيهِمْ (وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أَيْ إِنِّي مَعَكُمْ بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ مَا دُمْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى مِيثَاقِي، قَالَ اللهُ هَذَا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ بَلَّغَهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُذَكِّرُهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، وَيُجَدِّدُهُ رُسُلُهُمْ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ نَحْوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مُوسَى عِنْدَ أَخْذِهِ عَلَيْهِمْ، إِذَا هُمْ نَقَضُوهُ (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) أَيْ وَأَقْسَمَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى بِمَا مَضْمُونُهُ: لَئِنْ أَدَّيْتُمُ الصَّلَاةَ عَلَى وَجْهِهَا، وَأَعْطَيْتُمْ مَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَتَتَطَهَّرُ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أَيْ بِرُسُلِي الَّذِينَ أُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ بَعْدَ مُوسَى ; كَدَاوُدَ، وَسُلَيْمَانَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ،
صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَهَذِهِ هِيَ نُكْتَةُ تَأْخِيرِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - وَهُوَ مِنْ أَصُولُ الْعَقَائِدِ - عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهُمَا مِنْ فُرُوعِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي بَلَّغَهُمْ ذَلِكَ.
" وَالتَّعْزِيرُ ": النُّصْرَةُ مَعَ التَّعْظِيمِ، كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَسُمِّيَ مَا دُونَ الْحَدِّ مِنَ التَّأْدِيبِ الشَّرْعِيِّ تَعْزِيرًا ; لِأَنَّهُ نُصْرَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَمْعٌ لِلْمُعَزَّرِ عَمَّا يَضُرُّ وَمَنَعٌ لَهُ أَنْ يُقَارِفَهُ. فَالتَّعْزِيرُ قِسْمَانِ: أَنْ تَرُدَّ عَنِ الْمَرْءِ مَا يَضُرُّهُ، أَوْ تَرُدَّهُ هُوَ عَمَّا يَضُرُّهُ مُطْلَقًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ تَعْزِيرُ النَّاسِ لِلرُّسُلِ (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) أَيْ وَبَذَلْتُمْ مِنَ الْمَالِ وَالْمَعْرُوفِ فَوْقَ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَفَرَضَهُ عَلَيْكُمْ بِالنَّصِّ ; فَكُنْتُمْ بِذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَنْ أَقْرَضَ مَالَهُ لِغَنِيٍّ مَلِيٍّ وَفِيٍّ ; فَهُوَ لَا يَضِيعُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَجِدُهُ أَمَامَهُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا فِي هَذَا التَّعْبِيرِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) (٢: ٢٤٥) فِي ص ٣٦٦ - ٣٧٢ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي ط الْهَيْئَةِ. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ ; أَيْ لَأُزِيلَنَّ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ الْخَمْسِ - الصَّلَاةِ
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَنَا الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَوَاثَقْنَاهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِمَنْ نُرْسِلُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ
الرُّسُلِ وَنَصْرُهُمْ، وَتَعْزِيرُهُمْ، اسْتَحَقُّوا لَعْنَتَنَا وَالْبُعْدَ مِنْ رَحْمَتِنَا ; لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ قَدْ دَنَّسَ نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ، وَقَسَّى قُلُوبَهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَافْتَرَوْا عَلَى مَرْيَمَ وَبَهَتُوهَا، وَأَهَانُوا وَلَدَهَا الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ، وَافْتَخَرُوا بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشُّبْهَةِ، فَمَعْنَى لَعْنِهِمْ وَجَعْلِ قُلُوبِهِمْ قَاسِيَةً أَنَّ نَقْصَ الْمِيثَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ كَانَ بِحَسَبَ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، مُبْعِدًا لَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ رَحْمَةَ اللهِ وَفَضْلَهُ، وَمُقَسِّيًا لِقُلُوبِهِمْ حَتَّى لَمْ تَعُدْ تُؤَثِّرُ فِيهَا حُجَّةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ، فَهَذَا مَعْنَى إِسْنَادِ اللَّعْنَةِ وَتَقْسِيَةِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ شَيْءٌ خَلَقَهُ اللهُ ابْتِدَاءً، وَعَاقَبَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسَبَّبًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ، وَلَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ الْإِلَهِيِّ ; إِذْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْجَزَاءِ الْوَضْعِيِّ الْمُرَتَّبِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الطِّبِّ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ وَلِحِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، وَجَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَوْ خَلَقَ اللهُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِهِمُ ابْتِدَاءً فَلَمْ تَكُنْ أَثَرًا لِأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ السَّيِّئَةِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَذُمَّهُمْ بِهَا، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " قَسِيَّةً " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ " فَعِيلَةً "، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ " قَاسِيَةً " وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَلِأَجَلِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ كُتِبَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ: إِنَّ " قَسِيَّةً " بِمَعْنَى " رَدِيئَةً فَاسِدَةً "، مِنْ قَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ قَسِيٌّ، عَلَى وَزْنِ " شَقِيٌّ ": أَيْ " فَاسِدٌ مَغْشُوشٌ "، وَقَدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْقَسْوَةِ بِمَعْنَى الصَّلَابَةِ ; لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، فَإِذَا غُشَّا بِإِدْخَالِ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فِيهِمَا كَالنُّحَاسِ أَفَادَهُمَا ذَلِكَ قَسْوَةً وَصَلَابَةً.
بِتَحْرِيفِ الْأَلْفَاظِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِتَحْرِيفِ الْمَعَانِي بِحَمْلِ الْأَلْفَاظِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، وَقَدِ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَلْفَاظِ كِتَابٍ مُتَوَاتِرٍ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِيَارِ وَالتَّعْلِيلِ عَدَمُ وُقُوفِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعَدَمُ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَقِيَاسُ تَوَاتُرِهَا عَلَى الْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ عَرَفُوا تَارِيخَ الْقَوْمِ وَاطَّلَعُوا عَلَى كُتُبِهِمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا التَّوْرَاةَ وَغَيْرِهَا (وَكَذَا كُتُبُ النَّصَارَى) هُوَ أَنَّ التَّحْرِيفَ اللَّفْظِيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ كِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَأَنَّهَا كُتُبٌ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، فَالتَّوْرَاةُ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخَذَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهَا - كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ - قَدْ فُقِدَتْ قَطْعًا، بِاتِّفَاقِ مُؤَرِّخِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ نُسْخَةٌ سِوَاهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَحْفَظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، كَمَا حَفِظَ الْمُسْلِمُونَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ الْأَسْفَارُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إِلَى مُوسَى فِيهَا خَبَرُ كِتَابَتِهِ التَّوْرَاةَ، وَأَخْذِهِ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ بِحِفْظِهَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا قَطْعًا، وَفِيهَا خَبَرُ مَوْتِهِ وَكَوْنِهِ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِثْلُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ; أَيِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهَذَا نَصٌّ قَاطِعٌ فِي كَوْنِ الْكَاتِبِ كَانَ بَعْدَ مُوسَى بِزَمَنٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ طَوِيلٌ، وَكَوْنِ مَا ذُكِرَ لَيْسَ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي شَيْءٍ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا فُقِدَتْ عِنْدَ سَبْيِ الْبَابِلِيِّينَ لَهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْكَلِمِ الْبَابِلِيِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ بَعْدَ السَّبْيِ. فَأَيْنَ التَّوَاتُرُ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ نَقْلُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ الْإِسْنَادُ فِي طَبَقَةٍ مَا؟ وَالْمَرْجِعُ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْرَاةَ الْمَوْجُودَةَ كُتِبَتْ بَعْدَ مُوسَى بِبِضْعَةِ قُرُونٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ عِزْرَا الْكَاهِنُ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ أَرْتَحْشِشْتَا الَّذِي أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ ; إِذْ أَذِنَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةِ النِّسَاءِ، وَسَنَزِيدُهَا بَيَانًا.
(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " نَسُوا الْكِتَابَ "، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: " نَسُوا كِتَابَ
اللهِ ; إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ "، وَمُرَادُهُمَا الْحَظُّ مِنْهُ ; أَيْ نَسُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْلِ الْكِتَابِ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرَ الْآيَةِ: " إِنِّي لَأَحْسَبُ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا ; يُعَلِّلُ بِذَلِكَ مَا أَفَادَتْهُ الْآيَةُ مِنْ نِسْيَانِهِمْ لِبَعْضِ مَا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ ". وَفَسَّرَ النِّسْيَانَ بَعْضُ
أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ كِتَابِهِمْ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَفِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ (٣: ٢٣، و٤: ٤٤، و٥١) أَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَفِي (٤: ٤٦) أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: (أُوتُوا نَصِيبًا) أَنَّهُمْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ؛ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَنْسِيَّ هُوَ الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانُ صِفَاتِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ نَسَوْهَا كُلَّهَا لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ فِي عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُمْ (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) (٢: ١٤٦) وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ مَجَازٌ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ لَازِمِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ
عِنْدَ امْتِنَاعِ إِرَادَتِهَا، وَلَا امْتِنَاعَ هُنَا، وَمِنْ دَلَائِلِ إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ آيَةُ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) فَمَعْنَى مَا هُنَاكَ وَمَا هُنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلَهُمْ مَنْ قَبْلَهُمْ فَصَاعِدًا إِلَى زَمَنِ السَّبْيِ وَخَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي فُقِدَتْ فِيهِ التَّوْرَاةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ وَإِلَى مَا شَاءَ اللهُ - أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَنَسُوا نَصِيبًا مِنْهُ بِسَبَبِ فَقْدِ الْكِتَابِ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ لَهُ كُلِّهِ فِي الصُّدُورِ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي أُوتُوهُ مِنْهُ وَبَقِيَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ كَمَا يَجِبُ، وَلَا يُقِيمُونَ مَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي، بَلْ كَانُوا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ بِاللَّيِّ وَالتَّأْوِيلِ، عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مُحَرَّفًا لَفْظُهُ ; لِأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ قَرَاطِيسَ وَصُحُفٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا ثِقَةَ بِأَهْلِهَا، وَلَا بِضَبْطِ مَا فِيهَا، وَسَنَذْكُرُ تَتِمَّةَ هَذَا الْبَحْثِ فِي الْكَلَامِ عَنْ نِسْيَانِ النَّصَارَى حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
(وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) الْخَائِنَةُ هُنَا: الْخِيَانَةُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ. وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَلِيلِ، وَاصْفَحْ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَعَامِلْهُمْ بِالْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَحَرِّي مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَهَذَا رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ. أَوْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَاضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إِيثَارًا لِلْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ. قِيلَ: كَانَ هَذَا أَمْرًا مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ التَّوْبَةِ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٩: ٢٩) الْآيَةَ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَيَرُدُّهُ قِتَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ قَبْلَ نُزُولِ
التَّوْبَةِ، وَكَوْنُ آيَةِ التَّوِيَةِ نَزَلَتْ بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَهُوَ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، فَإِنَّهُمْ بِخِيَانَتِهِمْ صَارُوا حَرْبِيِّينَ، وَاسْتَحَقُّوا أَنْ يُقْتَلُوا، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ يُعَدُّ عَفْوًا وَصَفْحًا عَنْ قَتْلِهِمْ، وَإِحْسَانًا لَهُمْ. وَثَمَّ وَجْهٌ آخَرُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْخِيَانَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، لَا عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي يَصِيرُونَ بِهِ مُحَارِبِينَ لَا يُؤْمَنُ جِوَارُهُمْ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَاهَدُوا، أَوِ الْتَزَمُوا الْجِزْيَةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا يُقَالُ فِي رَأْيِ الْجُمْهُورِ.
وَلَوْلَا أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَهُودِ مِنَ الْقِتَالِ، وَعَنْ نُزُولِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، لَقُلْتُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَمِثْلُهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ بِقَرِينَةِ مَا جَاءَ قَبْلَ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ خَبَرِ مُحَاوَلَتِهِمْ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدْرًا مِنْهُمْ وَخِيَانَةً، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ تَرْكَ قَتْلِهِمْ، وَالرِّضَاءَ مِنْهُمْ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ.
ثَبْتَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغِبَ - عِنْدَمَا آوَى إِلَى الْمَدِينَةِ - فِي مُصَالَحَةِ الْيَهُودِ وَمُوَادَعَتِهِمْ، فَعَقَدَ الْعَهْدَ مَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا مَنْ يُحَارِبُهُ، وَلَا يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا لَهُ، وَأَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ ; فَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ وَتَصَدَّى لِحَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّهُمْ بَأْسًا، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِمْ وَسَأَلَهُ
وَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ أَيْضًا، وَهَمُّوا بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَّ لَهُ قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ السِّلْمَ، وَأَنْ يَكْتَفِيَ أَمْرَهُمْ بِطَرْدِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ " أَنِ اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْرًا، فَمَنْ وَجَدْتُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، " فَأَقَامُوا يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامًا، ثُمَّ ثَنَاهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ; إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَلَّا تَخْرُجُوا، فَإِنَّ مَعِي أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ، فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ، وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ، وَكَانَ رَئِيسُهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَطْمَعَهُمْ بِقَتْلِهِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْغَدْرِ بِهِ، فَغَرَّهُ قَوْلُ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّنَا لَا نَخْرُجُ، فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ، وَهَذَا إِعْلَانٌ لِلْحَرْبِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، يَحْمِلُ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ أَقَامُوا عَلَى حُصُونِهِمْ يَرْمُونَ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَخَانَهُمُ ابْنُ أُبَيٍّ وَلَمْ تَنْصُرْهُمْ قُرَيْظَةُ وَغَطَفَانُ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَاَرُ رَضُوا بِالْخُرُوجِ سَالِمِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الْعَفْوَ وَالْإِحْسَانَ وَاكْتِفَاءَ شَرِّهِمْ بِإِبْعَادِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بِنُفُوسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَمَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى خَيْبَرَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ عَظِيمٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ; لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ، وَلَمْ يُعَاقِبِ الْيَهُودَ عَلَى خِيَانَةٍ وَلَا غَدْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِإِجْلَائِهِمْ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بَعْدَهُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى نَقْضَ الْيَهُودِ لِمِيثَاقِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ وَكَذَلِكَ أَخَذْنَا مِيثَاقَ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ نَصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ وَنَصَرُوهُ، وَقَدْ صَارُوا طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَنَقَضُوا مِيثَاقَهُمْ، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ; أَيْ فَكَانَ نِسْيَانُ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ كِتَابِهِمْ سَبَبًا لِوُقُوعِهِمْ فِي الْأَهْوَاءِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ الْمُوجِبِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْبَشَرِ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَالْإِغْرَاءُ: التَّحْرِيشُ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ سَبَبًا وَمُسَبَّبًا ; لِأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. فَهَذَا جَزَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) عِنْدَمَا يُحَاسِبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، يُنَبِّئُهُمُ بِحَقِيقَةِ ضَلَالِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
لِعِبَادَتِهِ، وَكَانَ مَنِ اتَّبَعُوهُ مِنَ الْعَوَامِّ، وَأَمْثَلُهُمْ حَوَارِيِّوهُ وَهُمْ مِنَ الصَّيَّادِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ الْيَهُودُ فِي عَدَاوَتِهِمْ وَمُطَارَدَتِهِمْ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ ذَاتُ قُوَّةٍ وَعِلْمٍ تُدَوِّنُ مَا حَفِظُوهُ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ وَتَحْفَظُهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَبُثُّونَ بَيْنَ النَّاسِ فِي عَصْرِهِمْ تَعَالِيمَ بَاطِلَةً عَنِ الْمَسِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ كَتَبُوا كُتُبًا سَمَّوْهَا الْأَنَاجِيلَ كَثِيرُونَ جِدًّا، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَتَوَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، وَمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ الْمُعْتَمَدَةُ عِنْدَهُمُ الْآنَ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ قُرُونٍ مِنْ تَارِيخِ الْمَسِيحِ عِنْدَمَا صَارَ لِلنَّصَارَى دَوْلَةٌ بِدُخُولِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِدْخَالِهِ إِيَّاهَا فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ. وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَارِيخٍ نَاقِصٍ لِلْمَسِيحِ، وَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ مَجْهُولَةُ الْأَصْلِ وَالتَّارِيخِ، بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي مُؤَلِّفِيهَا وَاللُّغَاتِ الَّتِي أَلَّفُوهَا بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " حَقِيقَةَ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَكَوْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ لَمْ تَحْوِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، كَمَا تَحْتَوِي السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ عِنْدَنَا عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْإِنْجِيلِ قَدْ دَخَلَهُ التَّنَاقُضُ وَالتَّحْرِيفُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) الْمَشْهُورِ، مِائَةَ شَاهِدٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، عَلَى التَّحْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِيهَا، نَقَلْتُ بَعْضَهَا عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ (٤: ٤٦) وَمِنْهَا مَا عَجَزَ مُفَسِّرُو التَّوْرَاةِ عَنْ تَمَحُّلِ الْجَوَابِ عَنْهُ، وَجَزَمُوا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا كَتَبَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَرَاجِعْهُ فِي (ص ١١٣ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الْخَامِسِ، ط الْهَيْئَةِ). وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ " نَصِيبًا وَحَظًّا " لِلتَّعْظِيمِ ; أَيْ أَنَّ مَا نَسُوهُ وَأَضَاعُوهُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَا أُوتُوهُ وَحَفِظُوهُ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَلَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ مَا فَسَدَتْ حَالُهُمْ، وَلَا عَظُمَ خِزْيُهُمْ وَنَكَالُهُمْ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي حَالِ عَدَمِ حِفْظِ الْأَصْلِ بِنَصِّهِ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّنَا نَسِينَا وَأَضَعْنَا مِنْ حَدِيثِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَظًّا عَظِيمًا ; لِعَدَمِ كِتَابَةِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كُلَّ مَا سَمِعُوهُ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ مَا هُوَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أُمُورِ الدِّينِ مُودَعَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَمُبَيَّنَةٌ فِي السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمَا دُوِّنَ مِنَ الْحَدِيثِ مَزِيدُ هِدَايَةٍ وَبَيَانٍ.
هَذَا، وَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةَ حِفْظٍ، وَدَوَّنُوا الْحَدِيثَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَعُنُوا بِحِفْظِهِ وَضَبْطِ مُتُونِهِ وَأَسَانِيدِهِ عِنَايَةً شَارَكَهُمْ فِيهَا كُلُّ مَنْ
دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَقَدْ قَامَتْ مَجَلَّتُنَا - الْمَنَارُ - بِمَا يَجِبُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ، وَدَفْعِ مَا بَدَأَ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَسَبَقَ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا نُشِرَ فِي الْمَنَارِ، وَنَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْمَسَائِلِ فِي ذَلِكَ بِالْإِيجَازِ:
(فَصْلٌ فِي ضَيَاعِ كَثِيرٍ مِنَ الْإِنْجِيلِ وَتَحْرِيفِ كُتُبِ النَّصَارَى الْمُقَدَّسَةِ) أَوَّلًا: إِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ تَارِيخٌ مُخْتَصَرٌ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِ يُوحَنَّا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ: " هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا، وَكَتَبَ هَذَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ، وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ، آمِينَ ".
هَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ بِهَا الْمُبَالَغَةُ فِي بَيَانِ أَنَّ الَّذِي كُتِبَ عَنِ الْمَسِيحِ لَا يَبْلُغُ عُشْرَ مِعْشَارِ تَارِيخِهِ. وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ، وَقَعَتْ فِي أَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَعِنْدَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كَثِيرًا. فَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ضَاعَ وَنُسِيَ، وَحَسْبُنَا هَذَا حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي إِثْبَاتِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) وَحُجَّةً عَلَى بَعْضِ عُلَمَائِنَا الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّ كُتُبَهُمْ حُفِظَتْ وَتَوَاتَرَتْ. قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: " إِنَّ الْإِنْجِيلَ لَا يَسْتَغْرِقُ كُلَّ أَعْمَالِ الْمَسِيحِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ كُلَّ أَقْوَالِهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا ".
ثَانِيًا: الْإِنْجِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَا كَانَ يَدُورُ ذِكْرُهُ عَلَى أَلْسِنَةِ كُتَّابِ تِلْكَ التَّوَارِيخِ
ثَالِثًا: كَانَتِ الْأَنَاجِيلُ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ كَثِيرَةً جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا بَلَغَتْ زُهَاءَ سَبْعِينَ إِنْجِيلًا، وَقَالَ بَعْضُ مُؤَرِّخِي الْكَنِيسَةِ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ الْكَاذِبَةَ كَانَتْ ٣٥ إِنْجِيلًا، وَقَدْ رَدَّ صَاحِبُ كِتَابِ (ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ) الْمَارُونِيُّ الْقَوْلَ بِكَثْرَتِهَا،
وَقَالَ إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ بِعِدَّةِ أَسْمَاءَ، وَقَالَ: إِنَّ الْخَمْسَةَ وَالثَّلَاثِينَ لَا تَكَادُ تَبْلُغُ الْعِشْرِينَ، وَعَدَّهَا كُلَّهَا، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهَا مُكَرَّرُ الِاسْمِ، وَذَكَرَ مِنْهَا إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ بِرْنَابَا، وَذَكَرَ أَنَّ جَاحِدِي الْوَحْيِ طَعَنُوا فِي الْأَنَاجِيلِ أَرْبَعَةَ مَطَاعِنَ: (١) : أَنَّ الْآبَاءَ الَّذِينَ سَبَقُوا الْقِدِّيسَ يُوسْتِينُوسَ الشَّهِيدَ لَمْ يَذْكُرُوا إِلَّا أَنَاجِيلَ كَاذِبَةً وَمَدْخُولَةً.
(٢) : لَا سَبِيلَ إِلَى إِظْهَارِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّتِي خَطَّهَا مُؤَلِّفُوهَا.
(٣) : قَدْ فَاتَ الْجَمِيعَ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ وَالْعَهْدِ اللَّذَيْنِ كُتِبَتْ فِيهِمَا.
(٤) أَنْ كُورِنْتِسَ وَكِرْبُوكِرَاتُوسَ قَدْ نَبَذَا ظِهْرِيًّا مُنْذُ أَوَائِلِ الْكَنِيسَةِ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ لُوقَا، وَالْأَلُوغِيِّينَ إِنْجِيلَ الْقِدِّيسِ يُوحَنَّا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنَّ يَرُدَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ رَدًّا مَقْبُولًا عِنْدَ مُسْتَقِلَّيِ الْفِكْرِ.
وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ الْبُرُوتِسْتَانِيُّ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: إِنَّ نَقْصَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِرُوحِ الْمُخَلِّصِ وَحَيَاتِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّنَا قَدِ اطَّلَعْنَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْجِيلُ بِرْنَابَا، فَوَجَدْنَاهُ أَكْمَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَقْدِيسِ اللهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا بُرْهَانَهَمْ، عَلَى رَدِّ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ الْكَثِيرَةِ، وَإِثْبَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ بُرْهَانٌ يُثْبِتُ صِحَّةَ إِنْجِيلِ بَرْنَابَا قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ دُونَ غَيْرِهِ.
رَابِعًا: بُدِئَ تَحْرِيفُ الْإِنْجِيلِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، قَالَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ غِلَاطِيةَ: (١: ٦ إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ. لَا لَيْسَ هُوَ آخَرُ غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ).
وَقَدْ بَيَّنَ بُولِسُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ كُورْنِثْيُونَ: (١١: ١٥ - ١٦) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ " رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى رُسُلِ الْمَسِيحِ "، وَتَتِمَّةُ الْعِبَارَةِ تَدُلُّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَرُسُلِ الْمَسِيحِ، وَيَتَشَبَّهُونَ
بِهِمْ كَمَا يَتَشَبَّهُ الشَّيْطَانُ بِالْمَلَائِكَةِ ; إِذْ " يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى مَلَاكِ نُورٍ "، وَفِي الْفَصْلِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَنْبَثُّونَ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ غَيْرَ مَا يُعَلِّمُهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ الْمَشَايِخَ وَالرُّسُلَ أَرْسَلُوا بِرْنَابَا وَبُولِسَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ ; لِيُحَذِّرُوا أَهْلَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَلِّمِينَ الْكَاذِبِينَ، وَأَنَّ بُولِسَ وَبِرْنَابَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا هُنَالِكَ، وَهُمَا مَا تَشَاجَرَا وَافْتَرَقَا إِلَّا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي حَقِيقَةِ تَعْلِيمِ الْمَسِيحِ ; فَبِرْنَابَا يَذْكُرُ فِي مُقَدِّمَةِ إِنْجِيلِهِ أَنَّ بُولَسَ كَانَ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا الْمَسِيحَ فِي تَعْلِيمِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ بِرْنَابَا أَجْدَرُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ بُولَسَ ; لِأَنَّهُ تَلَقَّى عَنِ الْمَسِيحِ مُبَاشَرَةً، وَكَانَ بُولَسُ عَدُوًّا لِلْمَسِيحِ وَالْمَسِيحِيِّينَ، وَلَوْلَا أَنْ قَدَّمَهُ بِرْنَابَا لِلرُّسُلِ لَمَا وَثِقُوا بِدَعْوَاهُ التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ بِالْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى رَفَضُوا إِنْجِيلَ بِرْنَابَا الْمَمْلُوءَ بِتَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَبِالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ رَسَائِلَ بُولَسَ وَأَنَاجِيلَ تَلَامِيذِهِ لُوقَا وَمُرْقُسَ، وَكَذَا يُوحَنَّا، كَمَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا ; لِأَنَّ تَعَالِيمَ بُولَسَ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى عَقَائِدِ الرُّومَانِيِّينَ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ رَجَّحُوهَا، وَرَفَضُوا مَا عَدَاهَا ; إِذْ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ السُّلْطَةِ الْأُولَى فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَوَّنُوهَا بِهَذَا الشَّكْلِ.
خَامِسًا: اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْكَنِيسَةِ وَعُلَمَاءُ التَّارِيخِ فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اعْتَمَدُوهَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ: مَنْ هُمُ الَّذِينَ كَتَبُوهَا؟ وَمَتَى كَتَبُوهَا؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ؟ وَكَيْفَ فُقِدَتْ نُسَخُهَا الْأَصْلِيَّةُ؟ كَمَا تَرَى ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْكُبْرَى، وَفِي غَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ الدِّينِ وَالتَّارِيخِ، وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مِنْ كُتِبِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهَا: قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) :" إِنَّ مَتَّى بِمُوجِبِ اعْتِقَادِ جُمْهُورِ الْمَسِيحِيِّينَ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ قَبْلَ مُرْقُسَ وَلُوقَا وَيُوحَنَّا، وَمُرْقُسُ وَلُوقَا كَتَبَا إِنْجِيلَهُمَا قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ فِي أَيَّةِ سَنَةٍ كَتَبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بَعْدَ صُعُودِ الْمُخَلِّصِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا نَصٌّ إِلَهِيٌّ عَلَى ذَلِكَ ".
(إِنْجِيلُ مَتَّى) : قَالَ صَاحِبُ ذَخِيرَةِ الْأَلْبَابِ: إِنَّ الْقِدِّيسَ مَتَّى كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ ٤١ لِلْمَسِيحِ... بِاللُّغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ يَوْمَئِذٍ فِي فِلَسْطِينَ، وَهِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السِّيرُوكِلْدَانِيَّةُ (ثُمَّ قَالَ) :
اسْتِعْمَالُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَعِبَتْ بِهِ أَيْدِي النُّسَّاخِ الْأَبُونِيِّينَ وَمَسَخَتْهُ بِحَيْثُ أَضْحَى ذَلِكَ الْأَصْلُ هَامِلًا، بَلْ فَقِيدًا، وَذَلِكَ مُنْذُ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ، انْتَهَى.
أَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هُوَ الَّذِي تَرْجَمَ إِنْجِيلَ مَتَّى بِالْيُونَانِيَّةِ؟ وَمَنْ عَارَضَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ النُّسَّاخُ، وَيَمْسَخُوهُ؟ اللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: " يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي نَفْسِ أُورْشَلِيمَ "، وَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةٌ جَدَلِيَّةٌ عَنِ الْمَسِيحِ، لَا تَرْجَمَةُ حَيَاتِهِ ".
(وَقَالَ) : إِنَّ الْبُرُوتِسْتَانْتَ الْمُتَأَخِّرِينَ امْتَرَوْا وَشَكُّوا فِي كَوْنِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْهُ لِمَتَّى.
وَقَالَ الدُّكْتُورُ (بوستُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ بِخُصُوصِ لُغَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; هَلْ هِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السُّرْيَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لُغَةَ فِلَسْطِينَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؟ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كُتِبَ بِالْيُونَانِيَّةِ كَمَا هُوَ الْآنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي شُبْهَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ; وَهِيَ أَنَّ شَوَاهِدَهُ فِي الْعِظَاتِ مِنَ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ مِنَ التَّرْجَمَاتِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَرَاءَى لَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ (بوستُ) أَنَّهُ أُلِّفَ بِالْيُونَانِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ رُؤَسَاءِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَثَبَتَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِتَارِيخِهِ وَلَا لُغَتِهِ، " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ".
ثُمَّ قَالَ: " وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَدْ كُتِبَ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ إِنْجِيلَنَا الْحَالِيَّ كُتِبَ بَيْنَ سَنَةِ ٦٠، وَسَنَةِ ٦٥ "، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَاحِبَ الذَّخِيرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ ٤١، وَإِنْ هِيَ إِلَّا ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ، يُنَاطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ النَّصَارَى الْأَقْدَمُونَ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ أَنَّ مَتَّى لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ بَعْضَ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَالنَّصَارَى يَحْتَجُّونَ الْآنَ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، الَّتِي لَا سَنَدَ لَهَا لَفْظِيًّا وَلَا كِتَابِيًّا، كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ الْأَوْلَى بِأَقْوَالٍ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنَارِ بَيَانُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأَقْدَمُ شَهَادَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ (بَابِيَاسَ) أُسْقُفِ هِيرَا بُولِيسَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي ; فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ (أُوسَابْيُوسُ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٣٤٠ مَا تَرْجَمَتُهُ: " إِنَّ
مَتَى كَتَبَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْجُمَلِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ تَرْجَمَهَا كُلٌّ بِحَسَبَ طَاقَتِهِ ".
وَيَمْتَازُ إِنْجِيلُ مَتَّى بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنَاجِيلِ.
(إِنْجِيلُ مُرْقُسَ) ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مُرْقُسَ كَانَ عِبْرَانِيًّا مِلَّةً (أَيْ: نَسَبًا)
وَقَالَ (بوستُ) :" مُرْقُسُ لَقَبُ يُوحَنَّا، يَهُودِيٌّ، يُرَجَّحُ أَنَّهُ وُلِدَ فِي أُورْشَلِيمَ.
(قَالَ) : وَتَوَجَّهَ مُرْقُسُ مَعَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا خَالِهِ فِي رِحْلَتِهِمُ التَّبْشِيرِيَّةِ الْأَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ فَارَقَهُمَا فِي (بُرْجَهْ) فَصَارَ عِلَّةَ مُشَاجَرَةٍ قَوِيَّةٍ بَيْنَ بُولَسَ وَبِرْنَابَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ تَصَافَحَ مَعَ بُولَسَ، فَرَافَقَهُ إِلَى (رُومِيَّةَ) وَكَانَ مَعَ بُطْرُسَ لَمَّا كَتَبَ رِسَالَتَهُ الْأُولَى (١ بط ٥: ١٣) ثُمَّ مَعَ تِيمُوثَاوُسَ فِي (أَفْسَسَ) وَلَا يُعْرَفُ شَيْءٌ حَقِيقِيٌّ عَنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ".
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَشَرَحَ فِيهِ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ اللَّاتِينِيَّةِ ; فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي رُومِيَّةٍ (قَالَ) : إِنَّمَا الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ إِنْجِيلَيِّ مَتَّى وَمُرْقُسَ، حَمَلَتْ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الثَّانِي مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَارِيخَ كِتَابَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ إِيرْنِياوُسَ أَنَّهُ كَتَبَهُ بَعْدَ مَوْتِ بُطْرُسَ وَبُولَسَ، فَلَمْ يَطَّلِعَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ نَثِقُ بِأَنَّهُ وَعَى مَا سَمِعَهُ مَنْ بُطْرُس، وَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ؟ ! هَذَا إِذَا صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، وَلَنْ تَصِحَّ.
(إِنْجِيلُ لُوقَا) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إِنَّ لُوقَا كَانَ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ، وَمِنَ الشُّرَّاحِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِغْرِيقِيٌّ مُتَهَوِّدٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ إِلَّا نَقْلًا عَنِ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ، " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ وَثَنِيٌّ هَادَ إِلَى الْحَقِّ وَارْتَدَّ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ " وَقَالَ: " لُوقَا كَانَ تِلْمِيذًا وَمُعَاوِنًا لَبُولَسَ ".
ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: " قَدْ أَغْفَلَ مَتَّى وَمُرْقُسُ بَعْضَ حَوَادِثَ وَأُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِسِيرَةِ الْمَسِيحِ، وَقَامَ بَعْضُ الْكَتَبَةِ وَاخْتَلَقُوا تَرْجَمَةً مُمَوَّهَةً لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَكَثِيرًا مَا فَاتَهُمْ فِيهَا الرِّوَايَةُ وَالتَّدْقِيقُ ; فَبَعَثَ ذَلِكَ بِلُوقَا عَلَى وَضْعِ إِنْجِيلِهِ ضَنًّا بِالْحَقِّ، فَكَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ، وَجَاءَ كَلَامُهُ أَصَحَّ وَأَفْصَحَ وَأَشَدَّ انْسِجَامًا مِنْ كَلَامِ بَاقِي مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّهُ كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي السَّنَةِ ٥٣ لِلْمَسِيحِ، وَقِيلَ بَلْ سَنَةَ ٥١ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَتَبَهُ فِيهِ، وَبَيَّنَ غَرَضَهُ مِنْهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ: " وَأَنْ يَكْشِفَ النِّقَابَ عَنِ الْأَغْلَاطِ الْمَدْخُولَةِ فِي تَرَاجِمِ حَيَاةِ الْمَسِيحِ الْمُمَوَّهَةِ ; أَيِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي رَدَّتْهَا الْكَنِيسَةُ بَعْدُ، وَيَنْفِيَ كُلَّ رُكُونِ إِلَيْهَا "، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ إِنْجِيلَيْ مَتَّى وَمُرْقُسَ، وَأَنَّهُ اقْتَبَسَ مِنْهُمَا مَا وَافَقَهُمَا فِيهِ، ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا لِمَا اعْتَرَضَ بِهِ عَلَى مَا حَذَفُوهُ وَأَسْقَطُوهُ مِنْ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَسِيحِ، أَوْ لِعِلَّةٍ أُخْرَى.
وَقَالَ الدُّكْتُورُ بوستُ فِي قَامُوسِهِ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ - أَيْ لُوقَا - مَوْلُودٌ فِي أَنْطَاكِيَةَ،
(قَالَ) :" وَمِنْ تَغْيِيرِ صِيغَةِ الْغَائِبِ إِلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُسْتَدَلُّ أَنَّ لُوقَا اجْتَمَعَ مَعَ بُولَسَ فِي تِرْوَاسَ (أَعِ ١٦: ١) وَذَهَبَ مَعَهُ إِلَى فِيلْبِي فِي سَفَرِهِ الثَّانِي، ثُمَّ اجْتَمَعَ مَعَهُ ثَانِيَةً فِي فِيلْبِي بَعْدَ عِدَّةِ سِنِينَ (أَعِ ٢٠: ٥ و٦) وَبَقِيَ مَعَهُ إِلَى أَنْ أُسِرَ وَأُخِذَ إِلَى رُومِيَّةَ (أَعِ ٢٨: ٣٠) وَلَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ تَارِيخَهُ مِنْ أُسْلُوبِ عِبَارَتِهِ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَيْهِمْ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ، لَا صَحِيحَ وَلَا ضَعِيفَ، كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ إِيطَالِيًّا لَا فِلَسْطِينِيًّا مِنْ كَلَامِهِ عَنِ الْقُطْرَيْنِ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَقْلٌ يَعْرِفُونَ بِهِ شَيْئًا عَنْ مُؤَسِّسِي دِينِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: " وَظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ لَفْظَةَ (إِنْجِيلَيْ) الْوَارِدَةَ فِي (٢: تِي ٢: ٨) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُولَسَ أَلَّفَ إِنْجِيلَ لُوقَا، وَأَنَّ لُوقَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا كَاتِبًا ".
ثُمَّ قَالَ: " وَقَدْ كُتِبَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ وَقَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَيُرَجَّحُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قَيْصَرِيَّةَ فِي فِلَسْطِينَ مُدَّةَ أَسْرِ بُولَسَ سَنَةَ ٥٨ - ٦٠م، غَيْرَ أَنَّ الْبَعْضَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كُتِبَ قَبْلَ ذَلِكَ " انْتَهَى.
فَأَنْتَ تَرَى مِنَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ التَّرْجِيحِ وَالظَّنِّ، وَمِنَ الْخِلَافِ بَيْنَ سَنَةِ ٥١ و٥٣،
كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ و٥٨ و٦٠، كَمَا أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَ الْقَوْمِ بِشَيْءٍ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢: ٧٨) وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ بُولَسَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا الْإِنْجِيلَ هُمُ الْمُصِيبُونَ ; لِمُشَابِهَةِ أُسْلُوبِهِ لِأُسْلُوبِ رَسَائِلِهِ، بِاعْتِرَافِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَمَا تَفْعَلُ بِتَحْرِيفِهِ؟ قُلْتُ: هُوَ كَتَحْرِيفِهَا، وَتَجِدُ فِيهِ مِثْلَ مَا تَجِدُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ وَضْعِ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَاجِيلَ كَاذِبَةٍ، وَمَنْ لَنَا بِدَلِيلٍ يُثْبِتُ لَنَا صِدْقَهُ هُوَ؟ وَأَنَّى لَنَا بِتَمْيِيزِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَمَعْرِفَةِ صَادِقِهَا مَنْ كَاذِبِهَا؟
(إِنْجِيلُ يُوحَنَّا) تَقُولُ النَّصَارَى: إِنَّ يُوحَنَّا هَذَا هُوَ تِلْمِيذُ الْمَسِيحِ ابْنُ زُبْدَى وَسَالُومَهْ، وَيَقُولُ أَحْرَارُ الْمُؤَرِّخِينَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا فِي دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْفَرَنْسِيَّةِ. وَيُرَجِّحُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ تَلَامِيذِ بُولَسَ أَيْضًا، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهِ، وَهِيَ ٦٤ و٩٤ و٩٧، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ بِالْيُونَانِيَّةِ لِيُثْبِتَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَيَسُدَّ النَّقْصَ الَّذِي فِي الْأَنَاجِيلِ الثَّلَاثَةِ " إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَكْثَرِ الْأَسَاقِفَةِ وَنُوَّابِ كَنَائِسِ آسْيَا، وَإِلْحَاحِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مِنْ بَعْدِهِ ذِكْرًا مُخَلَّدًا "، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا الْإِلْحَاحُ لَمْ يَكْتُبْ مَا كَتَبَ، وَإِذًا لَبَقِيَتْ أَنَاجِيلُهُمْ نَاقِصَةً، وَخَلَوْا مِنْ شُبْهَةٍ عَلَى عَقِيدَتِهِمُ الْمُعَقَّدَةِ الَّتِي لَا تُعْقَلُ ; إِذْ لَا تَجِدُ الشُّبْهَةَ عَلَيْهَا إِلَّا فِي هَذَا الْإِنْجِيلِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ الْأَنَاجِيلِ تَنَاقُضًا، وَنَاهِيكَ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَقَوْلِهِ عَنِ الْمَسِيحِ إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، ثُمَّ قَوْلِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَشَهَادَتُهُ لَيْسَتْ حَقًّا، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.
تَصْدِيقُهُ ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا، وَلَا يَتَّصِلُ إِلَى عُلُوِّ وَعُمْقِ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِذَا قَابَلْنَاهُ بِمُؤَلَّفَاتِ الْآبَاءِ رَأَيْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَوْنًا عَظِيمًا، حَتَّى نَضْطَرَّ لِلْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَأْلِيفٍ كَهَذَا، بَلْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ التَّلَامِيذِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا يُوحَنَّا، وَيُوحَنَّا ذَاتُهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَأْلِيفَهُ بِدُونِ إِلْهَامٍ مِنْ رَبِّهِ " انْتَهَى.
أَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَجَائِبِ الْبَشَرِ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ يَنْقُلَهُ مُتَعَمِّدًا لَهُ، عَالَمٌ طَبِيبٌ كَالدُّكْتُورِ بوستَ! فَإِنَّهُ كَلَامٌ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَهَافُتُهُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَلَا أَعْقِلُ لَهُ تَعْلِيلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا وَغِشًّا ; لِإِرْضَاءِ عَامَّةِ النَّصَارَى، لَا لِإِرْضَاءِ اعْتِقَادِهِ وَوِجْدَانِهِ، أَوْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ الدِّينِيُّ مِنَ الصِّغَرِ قَدْ رَانَ عَلَى قَلْبِ الْكَاتِبِ، فَسَلَبَهُ عَقْلَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ وَفَهْمَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ دِينِهِ. وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ بِالْإِيجَازِ: إِنَّ الدُّكْتُورَ بوستَ مِنْ أَعْلَمِ الْأُورُوبِّيِّينَ الَّذِينَ خَدَمُوا دِينَهُمْ فِي سُورِيَّةَ، وَأَوْسَعِهِمُ اطِّلَاعًا، وَهُوَ يُلَخِّصُ فِي قَامُوسِهِ هَذَا أَقْوَى مَا بَسَطَهُ عُلَمَاءُ اللَّاهُوتِ فِي إِثْبَاتِ دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ وَرَدِّ اعْتِرَاضَاتِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا. فَإِذَا كَانَ هَذَا مُنْتَهَى شَوْطِهِمْ فِي إِثْبَاتِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي عَقِيدَةِ تَأْلِيهِ الْمَسِيحِ ; فَمَا هُوَ الظَّنُّ بِكَلَامِ الْمُؤَرِّخِينَ الْأَحْرَارِ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي إِبْطَالِ هَذَا الْإِنْجِيلِ؟ !
ابْتَدَأَ رَدَّهُ عَلَى مُنْكِرِي هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنَّ بُطْرُسَ أَشَارَ إِلَى آيَةٍ مِنْهُ فِي رِسَالَتِهِ الثَّانِيَةِ، فَهَذَا أَقْوَى بُرْهَانٍ عِنْدَهُمْ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْإِنْجِيلِ كُتِبَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ.
فَأَوَّلُ مَا تَقُولُهُ فِي رَدِّ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَهْمِيِّ أَنَّ رِسَالَةَ بُطْرُسَ الثَّانِيَةَ كُتِبَتْ فِي بَابِلَ سَنَةَ ٦٤ و٦٨ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ كِتَابِ (مُرْشِدِ الطَّالِبِينَ إِلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ الثَّمِينِ) وَإِنْجِيلُ يُوحَنَّا كُتِبَ سَنَةَ ٩٥ أَوْ ٩٨ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ بوستُ وَصَاحِبُ هَذَا الْكِتَابِ وَسَائِرُ عُلَمَاءِ طَائِفَتِهِمُ (الْبُرُوتِسْتَانْتِ) فَهُوَ قَدْ أُلِّفَ بَعْدَ كِتَابَةِ رِسَالَةِ بُطْرُسَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَإِذَا وَافَقَهَا فِي شَيْءٍ فَأَوَّلُ مَا يَخْطُرُ فِي بَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْهَا، وَإِنْ أُلِّفَ بَعْدَهَا بِعِدَّةِ
جَازِمُونَ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَارِيخٌ صَحِيحٌ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا، بَلْ تَارِيخُ وِلَادَةِ إِلَهِهِمْ وَرَبِّهِمُ الَّذِي يُؤَرِّخُونَ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ خَطَأٌ، كَمَا حَقَّقَهُ يَعْقُوبُ بَاشَا أَرْتِينَ وَغَيْرُهُ.
وَنَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّنَا قَابَلْنَا بَيْنَ (٢ بط ١: ١٤) وَبَيْنَ (يو ٢١: ١٨) فَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِ بُطْرُسَ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ إِشَارَةً وَاضِحَةً إِلَى مَا ذَكَرَهُ يُوحَنَّا، فَعِبَارَةُ بُطْرُسَ الَّتِي سَمَّوْهَا شَهَادَةً لَهُ، هِيَ قَوْلُهُ: " عَالِمًا أَنَّ خَلْعَ سَكَنِي قَرِيبٌ، كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضًا "، وَعِبَارَةُ يُوحَنَّا الْمَشْهُودُ لَهَا هِيَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَبُطْرُسَ " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ، وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ، وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَكَ، وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لَا تَشَاءُ ".
فَمَعْنَى عِبَارَةِ بُطْرُسَ أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ مَسْكَنَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَرْحَلُ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ، وَمَعْنَى عِبَارَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ إِذَا شَاخَ وَهَرِمَ يَقُودُهُ مَنْ يَخْدِمُهُ، وَيَشُدُّ لَهُ مِنْطَقَتَهُ. فَإِنْ فَرْضَنَا أَنَّ بُطْرُسَ كَتَبَ هَذَا بَعْدَ يُوحَنَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَدْنَى شُبْهَةٍ عَلَى تَصْدِيقِ يُوحَنَّا فِي عِبَارَتِهِ هَذِهِ، فَضْلًا عَنْ تَصْدِيقِهِ فِي كُلِّ إِنْجِيلِهِ. فَمَا أَوْهَى دِينًا هَذِهِ أُسُسُهُ وَدَعَائِمَهُ!
ذَكَّرَنِي هَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَادِرَةً رُوِيَتْ لِي عَنْ رَجُلٍ هَرِمٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ (وَلَا أَذْكُرُ هَذَا الْوَصْفَ تَعْرِيضًا بِتَلَامِيذِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ) قَالَ: إِنَّ رَجُلًا غَرِيبًا مِنَ الدَّرَاوِيشِ عَلَّمَهُ سُورَةً لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ سِوَاهُمَا، إِلَّا أَنَّ خَطِيبَ الْبَلَدِ يَحْفَظُ مِنْهَا كَلِمَتَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى أَصْلِهَا، وَأَوَّلُ هَذِهِ السَّخَافَةِ، الَّتِي سَمَّاهَا سُورَةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِينَ الْمَدَدَا، عِنْدَ النَّبِيِّ أَشْهَدَا، نَبِيُّنَا مُحَمَّدَا، فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدَا، إِجَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَا، بِنْتُ خَدِيجَةَ الْكُبْرَى، آلَتْ لَوْ يَا بَابَتِي يَا بَابَتِي عَلَّمَنِي كَلِمَتَيْنِ... إِلَخْ. وَالْكَلِمَتَانِ اللَّتَانِ يَحْفَظُهُمَا الْخَطِيبُ مِنْهُمَا هُمَا " فَاطِمَةُ الزَّهْرَا " وَ " خَدِيجَةُ الْكُبْرَى " عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، بَعْدَ التَّرَضِّي عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " وَارْضَ اللهُمَّ عَنْ أُمِّهِمَا فَاطِمَةَ الزَّهْرَا، وَعَنْ جَدَّتِهِمَا خَدِيجَةَ الْكُبْرَى ".
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْقَارِئِ، أَنَّ الِاتِّفَاقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْجَاعِ الْعَامِّيَّةِ، وَخُطْبَةِ خَطِيبِ الْبَلَدِ فِي تَيْنَكَ الْكَلِمَتَيْنِ أَظْهَرُ مِنْ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ رِسَالَةِ بُطْرُسَ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا، بَلْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ، وَهَذِهِ الرِّسَالَةِ اتِّفَاقٌ مَا فِيمَا زَعَمُوهُ تَكَلُّفًا وَتَحْرِيفًا لِلْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَاهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاقْتِطَافِ أَغْنَاطْيُوسَ، وَبُولِيكْرِيسَ مِنْ رُوحِ هَذَا الْإِنْجِيلِ فَهُوَ
مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِ بِشَهَادَةِ بُطْرُسَ لَهُ، بَلْ أَضْعَفُ ; إِذْ مَعْنَى هَذَا الِاقْتِطَافِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ شَيْءٌ يَتَّفِقُ مَعَ بَعْضِ مَعَانِي هَذَا الْإِنْجِيلِ. فَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فَهُوَ لَا يَدُلُّ
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْوَجِيزِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بوستُ وَسَمَّاهُ كَغَيْرِهِ شَهَادَةً لِإِنْجِيلِ يُوحَنَّا لَيْسَ شَهَادَةً. وَإِنَّ مَا سَمَّيْنَاهُ شَهَادَةً فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا شَهَادَةُ زُورٍ، وَأَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ كِتَابَةَ هَذَا الْإِنْجِيلِ تُوَافِقُ سِيرَةَ يُوحَنَّا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهُوَ تَمْوِيهٌ، نَقَضُوهُ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَيْضًا، إِلَّا بِالْإِلْهَامِ ; إِذْ كُلُّ مُلْهَمٍ يَقْدِرُ بِإِقْدَارِ اللهِ الَّذِي أَلْهَمَهُ، وَلَيْسَ لِيُوحَنَّا عِنْدَهُمْ سِيرَةٌ تُثْبَتُ أَوْ تُنْفَى.
بَقِيَ اسْتِدْلَالُهُ الْأَخِيرُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ بِأَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَلَمِ يُوحَنَّا لَكَانَ الْكَاتِبُ لَهُ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْغِشِّ ; قَالَ: " وَهَذَا الْأَمْرُ يَعْسُرُ تَصْدِيقُهُ; لِأَنَّ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يَغُشَّ الْعَالَمَ لَا يَكُونُ رُوحِيًّا "... إِلَخْ. فَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يُنْبِئُ بِسَذَاجَةِ مَنِ اخْتَرَعَهُ وَنَقَلَهُ وَغَرَارَتِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِغَبَاوَتِهِمْ، أَوْ قَصْدِهِمْ مُخَادَعَةَ النَّاسِ.
وَبُطْلَانُهُ بَدِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْكَاتِبَ لِلْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رُوحِيًّا، وَالْكَاتِبَ فِي الْفَضَائِلِ لَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا. وَقَدْ كَانَ فِي مِصْرَ كَاتِبٌ مَنْ أَبْلَغِ كُتَّابِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمَعَ هَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ عَارِفِيهِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ حُرُوفَ الْفَضِيلَةِ تَتَأَلَّمُ مِنْ لَوْكِهَا بِفَمِهِ، وَوَخْزِهَا بِسِنِّ قَلَمِهِ ". وَإِنَّ الرُّوحَانِيَّةَ الَّتِي تَجِدُهَا فِي إِنْجِيلِ بِرْنَابَا وَمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيسِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَمِنَ الْأَفْكَارِ وَالصَّلَوَاتِ، لَهُوَ أَعْلَى وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي النَّفْسِ
إِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَخِيرَ الَّذِي سَلَكَهُ بوستُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ نِسْبَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا إِلَيْهِ يَقْبَلُهُ الْمُقَلِّدُونَ لِعُلَمَاءِ اللَّاهُوتِ عِنْدَهُمْ، بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ، وَالنَّاظِرُ الْمُسْتَقِلُّ يَرَاهُ يُؤَدِّي إِلَى بُطْلَانِ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ ; لِأَسْبَابٍ، أَهَمُّهَا ثَلَاثَةٌ: (١) أَنَّهُ جَاءَ بِعَقِيدَةٍ وَثَنِيَّةٍ نَقَضَتْ عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُقَرَّرَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَجَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَسِيحُ بِأَنَّهُ مَا جَاءَ لِيَنْقُضَ النَّامُوسَ، بَلْ لِيُتَمِّمَهُ، وَأَصْلُ النَّامُوسِ وَأَسَاسُهُ الْوَصَايَا الْعَشْرُ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْبِنَاءِ، وَصِيَّةُ التَّوْحِيدِ.
(٢) مُخَالَفَتُهُ فِي عَقِيدَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ لِكُلِّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عَنْ جَمَاعَتِهِ وَقَوْمِهِ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَبَعْدَهُ. (٣) مُخَالَفَتُهُ لِلْأَنَاجِيلِ الَّتِي كُتِبَتْ قَبْلَهُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا تَحَامِيهِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، مِمَّا يُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ ; كَتَجْرِبَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَخَوْفِهِ مَنْ فَتْكِ الْيَهُودِ بِهِ، وَتَضَرُّعِهِ إِلَى اللهِ خَائِفًا مُتَأَلِّمًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُمْ وَيُنْقِذَهُ مِنْهُمْ، وَصُرَاخِهِ وَقْتَ الصَّلْبِ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَسَالِيبَ الْأَنَاجِيلِ وَفَحْوَاهَا يَرَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا غَرِيبٌ عَنْهَا، وَيَجْزِمُ بِأَنَّ كَاتِبَهُ مُتَأَخِّرٌ، سَرَتْ إِلَيْهِ عَقَائِدُ الْوَثَنِيِّينَ، فَأَحَبَّ أَنْ يُلَقِّحَ بِهَا الْمَسِيحِيِّينَ.
وَنَقُولُ ثَالِثًا: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ مُوَافَقَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي لِهَذَا الْإِنْجِيلِ فِي رُوحِ مَعْنَاهُ يُعَدُّ شَهَادَةً لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي؛ فَأَيْنَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِمَّا بَعْدَهُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ لَنَا مَنْ تَلَقَّاهُ عَنْهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اقْتَطَفُوا مِنْ رُوحِهِ؟ !
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ (إِظْهَارَ الْحَقِّ) فَرَأَيْتُهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا
لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ يُوحَنَّا، الَّذِي هُوَ أَحَدُ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، بِعِدَّةِ أُمُورٍ: (مِنْهَا) أُسْلُوبُهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَكْتُبْ مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ، بَلْ يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ.
(وَمِنْهَا) آخِرُ فَقْرَةٍ مِنْهُ، وَهِيَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ عَنْ أَحْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَقْوَالِهِ إِلَّا الْقَلِيلَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا يُوحَنَّا بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَأَنَّهُ كَتَبَ وَشَهِدَ بِذَلِكَ، فَالَّذِي يَنْقُلُ هَذَا عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، وَقُصَارَاهُ أَنَّهُ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَتَبَهُ، فَحَكَاهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ فِي ضِمْنِ إِنْجِيلِهِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْأَصْلُ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ يُوحَنَّا كَتَبَهُ وَشَهِدَ بِهِ؟ وَكَيْفَ نَثِقُ بِنَقْلِهِ عَنْهُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ عِنْدَ مُحَدِّثِي الْمُسْلِمِينَ وَجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا أَلْبَتَّةَ!
(وَمِنْهَا) أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ النَّاسَ أَنْكَرُوا كَوْنَ هَذَا الْإِنْجِيلِ لِيُوحَنَّا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَلَى
(وَمِنْهَا) نَقْلُهُ عَنْ بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا نَصُّهُ " كَتَبَ (إِسْتَادِلْنُ) فِي كِتَابِهِ: " إِنَّ كَافَّةَ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا تَصْنِيفُ طَالِبٍ مِنْ طَلَبةِ مَدْرَسَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ ".
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (بَرْطَشِنِيدَرَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كُلَّهُ، وَكَذَا رَسَائِلُ يُوحَنَّا لَيْسَتْ مِنْ تَصْنِيفِهِ، بَلْ صَنَّفَهَا أَحَدٌ (كَذَا) فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُحَقِّقَ (كُرُوتِيسَ) قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِنْجِيلَ كَانَ عِشْرِينَ بَابًا، فَأَلْحَقَتْ كَنِيسَةُ أَفَسَاسَ الْبَابَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ مَوْتِ يُوحَنَّا.
(وَمِنْهَا) أَنَّ جُمْهُورَ عُلَمَائِهِمْ رَدُّوا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ... إِلَخْ.
سَادِسًا: عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّصَارَى لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ وَلَا مُنْقَطِعَةٌ لِكُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ؛ وَإِنَّمَا بَحَثُوا وَنَقَّبُوا فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَفَلَّوْهَا فَلِيًّا لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهَا شُبْهَةَ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى لِلْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا صَرِيحًا يُثْبِتُ شَيْئًا مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا وَجَدُوا كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةً أَوْ مُبْهَمَةً، فَسَّرُوهَا كَمَا شَاءَتْ أَهْوَاؤُهُمْ، وَسَمَّوْهَا شَهَادَاتٍ، وَنَظَمُوهَا فِي سِلْكِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا غَيْرَ مَنْقُولَةٍ عَنِ الثِّقَاتِ، ثُمَّ اسْتَنْبَطُوا مِنْ فَحْوَاهَا وَمَضَامِينِهَا مَسَائِلَ مُتَشَابِهَةً، زَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يُؤَيِّدُ الْآخَرَ وَيَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ضَعْفِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ.
فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ صِدْقُ قَوْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)
(٥: ١٤) وَثَبَتَ بِهِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَوَحْيُهُ ; إِذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اهْتَدَى إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ وَنَظَرِهِ، كَيْفَ وَقَدْ خَفِيَ هَذَا عَنْ أَكْثَرِ عُلَمَائِنَا الْأَعْلَامِ عِدَّةَ قُرُونٍ ; لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَارِيخِ الْقَوْمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ كُبَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَقَوْا بِعِلْمِهِمْ وَاخْتِبَارِهِمْ إِلَى أَرْفَعِ الْمَنَاصِبِ، سَأَلَنِي مَرَّةً: كَيْفَ نَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ لِلنَّصَارَى كِتَابًا وَاحِدًا يُسَمَّى الْإِنْجِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى عِيسَى، فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، مَعَ أَنَّ النَّصَارَى أَنْفُسَهُمْ يَقُولُونَ هَذَا وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ أَرْبَعَةُ أَنَاجِيلَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَسِيرَتِهِ؟ فَأَجَبْتُهُ: إِنَّ الْإِنْجِيلَ الَّذِي نَنْسُبُهُ إِلَى الْمَسِيحِ وَنَقُولُ إِنَّهُ هُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُذَكَرُ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ عَنْ لِسَانِ الْمَسِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، إِلَى آخِرِ مَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) (٥: ١٤) فَأَنْتَ تَرَى مِصْدَاقَ هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ فِرَقِهِمْ، وَبَيْنَ دُوَلِهِمْ، لَمْ يَنْقَطِعْ زَمَنًا.
(يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَبْلُ، كَمَا أَخَذَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْآنَ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَهُ، وَأَضَاعُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا مَا حَفِظُوهُ مِنْهُ. وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ. ثُمَّ نَادَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ إِخْفَاءِ الْيَهُودِ حُكْمَ رَجْمِ الزَّانِي حِينَ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَسَتَأْتِي الْقِصَّةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى
آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الْمُنْصِفِينَ، وَاعْتَرَفُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَصِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَهُ، فَلَا يَفْضَحُكُمْ بِبَيَانِهِ، وَهَذَا النَّصُّ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُخْفُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ عَامَّتِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ إِذْ هُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِهِ، كَدَأْبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ؛ يَكْتُمُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَاشِفًا عَنْ سُوءِ حَالِهِمْ، أَوْ يُحَرِّفُونَهُ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ.
(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) فِي الْمُرَادِ بِالنُّورِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ نُورًا هُوَ أَنَّهَا لِلْبَصِيرَةِ كَالنُّورِ لِلْبَصَرِ، فَلَوْلَا النُّورُ لَمَا أَدْرَكَ الْبَصَرُ شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ، وَلَوْلَا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ لَمَا أَدْرَكَ ذُو الْبَصِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ حَقِيقَةَ دِينِ اللهِ، وَحَقِيقَةَ مَا طَرَأَ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ ضَيَاعِ بَعْضِهَا وَنِسْيَانِهِ وَعَبَثِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ بِإِخْفَاءِ بَعْضِهِ وَتَحْرِيفِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَظَلُّوا فِي ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ لَا يُبْصِرُونَ. وَالْكِتَابُ الْمُبِينُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، مُبَيِّنٌ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَوْلَا عَطْفُهُ عَلَى النُّورِ لَمَا فَسَّرُوا النُّورَ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ غَيْرَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَرِدُ لِلتَّفْسِيرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ هُنَا لِتُوَافِقَ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (٤: ١٧٤، ١٧٥) وَقَدْ قَالَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النُّورِ:
الْمُهْتَدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧: ١٥٧) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (٦٤: ٨) عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَغَيَّرُ إِذَا قُلْنَا: إِنِ النُّورَ هُنَا هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَظْهَرُ الْأَكْمَلُ لِلْقُرْآنِ بِبَيَانِهِ لَهُ، وَتَخَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ "، وَلَا نُعْدَمُ لِذَلِكَ شَاهِدًا مِنْ آيَاتِهِ، فَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: (وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (٣٣: ٤٦).
وَلْيَرْجِعِ الْقَارِئُ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِآيَتَيِ النِّسَاءِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعْنَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مُبِينًا بِمَا يَنْفَعُهُ فِي فَهْمِ مَا هُنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ هُنَا لِهَذَا النُّورِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ.
(الْفَائِدَةُ الْأُولَى) : أَنَّهُ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ; أَيْ إِنَّ مَنِ اتَّبَعَ مِنْهُمْ مَا يُرْضِيهِ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهَذَا النُّورِ يَهْدِيهِ - هِدَايَةَ دَلَالَةٍ تَصْحَبُهَا الْعِنَايَةُ وَالْإِعَانَةُ - الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِيهِ وَيُشْقِيهِ، فَيَقُومُ فِي الدُّنْيَا بِحُقُوقِ اللهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالطَّيِّبَاتِ مُجْتَنِبًا لِلْخَبَائِثِ، تَقِيًّا مُخْلِصًا، صَالِحًا مُصْلِحًا، وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيدًا مُنَعَّمًا، جَامِعًا بَيْنَ النَّعِيمِ الْحِسِّيِّ الْجَسَدِيِّ وَالنَّعِيمِ الرُّوحِيِّ الْعَقْلِيِّ. وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ يَتْبَعُ دِينًا يَجِدُ فِيهِ جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا تَسْلَمُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ شَقَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّهُ دِينُ السَّلَامِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، دِينُ الْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ.
(الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ) : الْإِخْرَاجُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي أَفْسَدَ بِهَا الرُّؤَسَاءُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَاسْتَعْبَدُوا أَهْلَهَا إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الَّذِي يُحَرِّرُ صَاحِبَهُ مِنْ رِقِّ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخَلْقِ حُرًّا كَرِيمًا، وَبَيْنَ يَدَيِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ عَبْدًا خَاضِعًا. وَقَوْلُهُ: (بِإِذْنِهِ) فَسَّرُوهُ بِمَشِيئَتِهِ وَبِتَوْفِيقِهِ. وَالْإِذْنُ الْعِلْمُ. يُقَالُ أَذِنَ بِالشَّيْءِ: إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَآذَنْتُهُ بِهِ: أَعْلَمْتُهُ فَأَذِنَ، وَيُقَالُ أَذَّنَ - بِالتَّشْدِيدِ - وَتَأَذَّنَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ غَيْرَهُ، وَيُقَالُ: أَذِنَ لَهُ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَبَاحَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ أَذَنًا: اسْتَمَعَ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ ; أَيْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِعِلْمِهِ الَّذِي جَعَلَ بِهِ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبًا لِانْقِشَاعِ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنْ نَفْسِ
(الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ) : الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ وَالْغَايَةِ مِنَ الدِّينِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ ; لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، فَيُبْطِئُ سَالِكُهُ أَوْ يَضِلُّ فِي سَيْرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِصَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ وَالتَّأْوِيلِ ; بِأَنْ تَكُونَ عَقَائِدُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ مُؤَثِّرَةً فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ. وَثَمَرَةُ ذَلِكَ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبَ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ كَافَّةً، ثُمَّ بَيَّنَ مَا كَفَرَ بِهِ النَّصَارَى خَاصَّةً، فَقَالَ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: " هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِالِاتِّحَادِ
أَنْ يُرْجِعُوهَا إِلَى التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُسُلِ اللهِ أَجْمَعِينَ، فَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَبِالتَّثْلِيثِ، وَيَعُدُّونَ الْمُوَحِّدَ غَيْرَ مَسِيحِيٍّ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْفِرْقَتَانِ الْكَبِيرَتَانِ الْأُخْرَيَانِ مِنْ فِرَقِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهُمُ الْكَاثُولِيكُ وَالْأُرْثُوذُكْسُ، فَجَمِيعُ فِرَقِ نَصَارَى هَذَا الْعَصْرِ تَقُولُ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ هُوَ اللهُ، تَعَالَى الله عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّصَارَى الْقُدَمَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ كَمَا قَالَ مُفَسِّرُونَا.
قَالَ (الدُّكْتُورُ بوستُ) فِي تَارِيخِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ مَا نَصُّهُ: " طَبِيعَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ: اللهُ الْآبُ، وَاللهُ الِابْنُ، وَاللهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، فَإِلَى الْآبِ يَنْتَمِي الْخَلْقُ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ، وَإِلَى الِابْنِ الْمُفَدَّى وَإِلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ التَّطْهِيرُ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَانِيمَ تَتَقَاسَمُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ.
أَمَّا مَسْأَلَةُ التَّثْلِيثِ فَغَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا هِيَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا فِي (تك ص١) حَيْثُ ذُكِرَ " اللهُ " وَ " رُوحُ اللهِ "... إِلَخْ (قابل مز ٣٣: ويو ١٦: ١٠ و٣) وَالْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُشَخِّصَةُ فِي (أم ص ٨)
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَهْدَ الْقَدِيمَ ; أَيْ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْمَسِيحِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ظَاهِرٌ وَلَا خَفِيٌّ فِي عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ ; لِأَنَّهَا عَقِيدَةٌ وَتَثْنِيَةٌ مَحْضَةٌ. وَمِنْ أَغْرَبِ التَّكَلُّفِ تَفْسِيرُ " الْحِكْمَةِ " فِي أَمْثَالِ سُلَيْمَانَ، بِـ " الْكَلِمَةِ " بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونَهُ، وَهُوَ وَهْمٌ لَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِ سُلَيْمَانَ وَلَا الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَسَتَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَلِمَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي كَلَامِ يُوحَنَّا، وَقَدْ كَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَحِّدِينَ، أَعْدَاءً لِلْوَثَنِيَّةِ وَالْوَثَنِيِّينَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنِ التَّوْحِيدَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَيْضًا، وَالتَّثْلِيثَ فِيهِ هُوَ الْخَفِيُّ ; فَإِنَّ الْعَقِيدَةَ الَّتِي يَدْعُو إِلَيْهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا فِي أُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَالتَّثْلِيثِ لَا تُفْهَمُ كُلُّهَا مِنَ
الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، بَلْ هُنَالِكَ عِبَارَاتٌ يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِهَا وَشَرْحِهَا كَمَا يَهْوَوْنَ عَلَى خِلَافٍ شَهِيرٍ فِيهَا بَيْنَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ.
وَالْعُمْدَةُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ أَوَّلُ عِبَارَةٍ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَهِيَ: " فِي الْبَدْءِ كَانَتِ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ " وَقَدْ أَطْلَقُوا لَفْظَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَصَارَ مَعْنَى الْفِقْرَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ عِبَارَةِ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا: وَاللهُ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا عَيْنُ مَا أَسْنَدَهُ الْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ؛ فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَيْضَاوِيُّ وَالرَّازِيُّ إِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ لَازِمَ مَذْهَبِهِمْ؟ ! قَالَ بوستُ فِي قَامُوسِهِ: " يُقْصَدُ بِالْكَلِمَةِ السَّيِّدُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مُؤَلَّفَاتِ يُوحَنَّا (١: ١ - ١٤، و١ يو ١: ١، ورؤ ١٩: ١٣) وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفَيْلَسُوفُ (فِيلُو) لَفْظَةَ " الْكَلِمَةِ " غَيْرَ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَا غَيْرَ مَا قَصَدَ يُوحَنَّا " اهـ.
أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرٍ (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا مَا كَتَبَ إِنْجِيلَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، إِلَّا إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ مَنْ أَلَحُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، فَلَوْلَا هَذَا الِاقْتِرَاحُ وَالْإِلْحَاحُ لَمَا كَتَبَ، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبْ لَمْ تُعْرَفْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَلَا دَعَا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ الَّذِينَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِنْجِيلِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ إِلَّا فِي الْعُشْرِ الْعَاشِرِ مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ يُوحَنَّا إِنْجِيلَهُ. هَذَا إِنْ صَحَّ أَنَّ يُوحَنَّا الْحَوَارِيَّ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ - وَلَنْ يَصِحَّ - وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَسْكُتَ الْمَسِيحُ وَجَمِيعُ تَلَامِيذِهِ عَنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِذَا كَانَتْ هِيَ أَصْلَ الدِّينِ كَمَا تَزْعُمُ النَّصَارَى، بَلِ الَّذِي تَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ الدَّوَاعِي أَنْ يُقَرِّرَهَا الْمَسِيحُ نَفْسُهُ فِي كَلَامِهِ، وَيَجْعَلَهَا تَلَامِيذُهُ أَوَّلَ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَيُكَرِّرُونَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَرَسَائِلِهِمْ.
وَلَا يَغُرَنَّكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ (بوستُ) مِنَ الشَّوَاهِدِ عَنْ رِسَالَةِ يُوحَنَّا وَرُؤْيَاهُ، فَتَظُنَّ أَنَّ هُنَالِكَ
" ١١ ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ ١٢، وَعَيْنَاهُ كَلَهِيبٍ مِنْ نَارٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تِيجَانٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إِلَّا هُوَ ١٣ وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ ١٤، وَالْأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ عَلَى خَيْلٍ بِيضٍ، لَابِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ نَقِيًّا ١٥ وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ ; لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الْأُمَمَ، وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ "، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى الْمَسِيحِ، وَإِنَّمَا تَنْطَبِقُ عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمِنْ أَسْمَائِهِ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ، وَبِالْعَدْلِ كَانَ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ... إِلَخْ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ وَلَمْ يُحَارِبْ وَلَمْ يَرْعَ الْأُمَمَ. وَلَفْظُ " كَلِمَةِ اللهِ " هُنَا لَا يُفِيدُ مَعْنَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهَا ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٣٦: ٨٢).
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَثَنِيَّةً فَهُوَ يَظْهَرُ لَكَ جَلِيًّا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْجُزْءِ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) (٤: ١٧١) وَذَلِكَ أَنَّ زَعْمَهُمْ " أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ " جُزْءٌ مِنْ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَرَاهِمَةِ وَالْبُوذِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ وَثَنِيِّي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا هُنَالِكَ مِنْ شَوَاهِدِ كُتُبِ التَّارِيخِ وَآثَارِ الْأَوَّلِينَ مَا عُلِمَ بِهِ قَطْعًا أَنَّ النَّصَارَى أَخَذُوا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عَنْهُمْ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) (٥: ٧٣).
قَالَ تَعَالَى فِي تَبْكِيتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَرَدِّ زَعْمِهِمْ: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أَيْ قُلْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَقَامِ الْأُلُوهِيَّةِ بِهَذَا الزَّعْمِ الْبَاطِلِ: مَنْ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْئًا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ وَالْإِعْدَامَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَعَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِنْ أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَيُبِيدَهُمْ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ ; أَيْ إِنَّ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ التى هِيَ قَابِلَةٌ لِطُرُوءِ الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ عَلَيْهَا كَسَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُهْلِكَهُمَا وَيُهْلِكَ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا، لَا يُوجَدُ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ إِرَادَتَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ
لِأَمْرِ الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ عَمَلٍ
وَمِنْ غَرِيبِ تَهَافُتِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ شَرَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِهْلَاكِ، وَهُوَ الصَّلْبُ نَزَلَ بِالْمَسِيحِ - الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ وَاللهُ هُوَ الْكَلِمَةُ بِزَعْمِهِمْ - وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ خَائِفًا وَجِلًا ضَارِعًا خَاضِعًا ; لِيَصْرِفَ عَنْهُ ذَلِكَ الْكَأْسَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ! وَهُمْ يُكَابِرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي دَفْعِ هَذَا التَّهَافُتِ بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ طَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ ; ثِنْتَانِ مِنْهُمَا إِلَهِيَّتَانِ، وَثِنْتَانِ بَشَرِيَّتَانِ، وَلَيْتَ شِعْرِي، إِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا؛ فَهَلْ يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَجْهَلَ الْمَسِيحُ بِطَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ طَبِيعَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (٣٧: ٤٦ إِلَهَيْ إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي) وَيَسْتَنْجِدُهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يُمْكِنُ وَمَا لَا يُمْكِنُ لَهَا بِمِثْلِ مَا قَالُوهُ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (٢٦: ٣٩ ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ) إِلَى أَنْ قَالَ: (٤٢ فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ، إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ) وَهَذَا أَعْظَمُ
حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ مُصَدِّقَةٍ لِحُجَّةِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَشِيئَةَ اللهِ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ.
ثُمَّ إِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي خَاطَبَتِ الْبَشَرَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَهَا ; لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَلَا يُوثَقُ بِتَعْلِيمِهَا؛ فَكَيْفَ تُجْعَلُ مَعَ الطَّبِيعَةِ الْأُخْرَى شَيْئًا وَاحِدًا يُسَمَّى رَبًّا وَإِلَهًا وَيُعْبَدُ؟ وَالنَّاسُ مَا رَأَوْا إِلَّا الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَلَا عَرَفُوا غَيْرَهَا، وَلَا سَمِعُوا إِلَّا كَلَامَهَا، وَلَا رَأَوْا إِلَّا أَفْعَالَهَا، وَالنُّكْتَةُ فِي عَطْفِ (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) عَلَى الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْآخَرِ، وَأَنَاجِيلُهُمْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ الْمَسِيحَ كَانَ كَغَيْرِهِ فِي الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ ٥: ٧٥) الْآيَةَ.
وَهَذَا الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ مِمَّا تَعْتَرِفُ بِهِ النَّصَارَى، وَلَكِنَّهُمْ زَعْمُوا أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ وَالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ وَالْكَمَالِ الْأَعْلَى قَدْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ - الَّذِي نَدِمَ وَتَأَسَّفَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ - أَمْرٌ عَظِيمٌ ; وَهُوَ أَنَّ آدَمَ عَصَاهُ، فَاقْتَضَى عَدْلُهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ، وَاقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُ، فَوَقَعَ التَّنَاقُضُ وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَخْرَجًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِلَّا أَنْ يَحُلَّ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَيَتَكَوَّنَ جَنِينًا فِيهِ ; فَتَلِدُهُ إِنْسَانًا كَامِلًا وَإِلَهًا كَامِلًا، ثُمَّ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِشَرِّ قِتْلَةٍ، لُعِنَ صَاحِبُهَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَهِيَ الصَّلْبُ ; فِدَاءً لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَجَمْعًا بَيْنَ عَدْلِهِ بِتَعْذِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ وَحْدَهُ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ، وَرَحْمَةِ الْآخَرِينَ إِنْ آمَنُوا بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْبَشَرِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَهُ بِهِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْعَقِيدَةِ، فَلِمَاذَا لَمْ يَكُنْ تَعْذِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِدَاءً لَهُمْ؟ وَهَلْ هَذَا هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ؟
وَلَمَّا كَانَتْ شُبْهَتُهُمْ عَلَى كَوْنِ الْمَسِيحِ بَشَرًا إِلَهًا، وَإِنْسَانًا رَبًّا، هِيَ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى غَيْرِ
السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُ عَمِلَ أَعْمَالًا غَرِيبَةً لَا تَصْدُرُ عَنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ، قَالَ تَعَالَى فِي رَدِّ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: (يخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أَيْ لَمَّا كَانَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ تَابِعًا لِمَشِيئَتِهِ، فَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَ الْأَحْيَاءِ مِنْ مَادَّةٍ لَا تُوصَفُ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ كَأُصُولِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَمِنْهَا أَبُو الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضهَا مِنْ ذَكَرٍ فَقَطْ، أَوْ أُنْثَى فَقَطْ، وَقَدْ يَخْلُقُ بَعْضَهَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا يَدُلُّ شَكْلُ الْخَلْقِ وَلَا سَبَبُهُ وَلَا امْتِيَازُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَالْكَهْرَبَاءِ - عَلَى بَعْضِ أُلُوهِيَّتِهَا أَوْ حُلُولِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ فِيهَا، بَلْ هَذَا لَا يُعْقَلُ وَلَا يُمْكِنُ. فَامْتِيَازُ الْأَرْضِ عَلَى عُطَارِدَ أَوْ زُحَلَ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ فِيهَا مِنَ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْأَرْضِ إِلَهًا لِذَلِكَ الْكَوْكَبِ الَّذِي فَضَلَتْهُ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، كَذَلِكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِ الْمَسِيحِ وَمَزَايَاهُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا لِمَنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَزَايَا ; لِأَنَّ الْمَزَايَا فِي الْخَلْقِ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهَا الْمَخْلُوقُ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، نِسْبَتُهُ إِلَى خَالِقِهِ كَنِسْبَةِ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الِامْتِيَازُ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ الْغَرِيبَةِ فَهُوَ مَعْهُودٌ مِنَ الْبَشَرِ أَيْضًا، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ، وَقَدِ ادَّعَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ لِأَصْحَابِهَا الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، وَأَجْمَعَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُبَيٍّ وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وَشَاسُ بْنُ عَدِيٍّ، فَكَلَّمَهُمْ وَكَلَّمُوهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ؟
نَحْنُ وَاللهِ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى. فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَمَنْ قَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَى فِيهَا لَقَبَ " ابْنِ اللهِ " قَدْ أُطْلِقَ عَلَى آدَمَ.
(انْظُرْ إِنْجِيلَ لُوقَا ٣: ٣٨) وَعَلَى يَعْقُوبَ وَدَاوُدَ مَعَ لَقَبِ الْبِكْرِ (انْظُرْ سِفْرَ الْخُرُوجِ ٤: ٢٢ و٢٣ وَالْمَزْمُورَ ٩٨: ٢٦ و٢٧) وَكَذَا عَلَى إِفْرَامَ (انْظُرْ نُبُوَّةَ أَرْمِيَاءَ ٣١: ٩) وَعَلَى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَكِنْ مَعَ لَقَبِ الْحَبِيبِ ; فَهُوَ تَفْسِيرٌ لِكَلِمَةِ ابْنٍ، وَأُطْلِقَ مَجْمُوعًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَمِنْهُ مَا حَكَاهُ مَتَّى فِي وَعْظِ الْمَسِيحِ عَلَى الْجَبَلِ (٥: ٩ طُوبَى لِصَانِعِي السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ يُدْعَوْنَ) وَقَالَ بُولَسُ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلٍ رُومِيَّةَ (٨: ١٤ لِأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ) وَجَاءَ فِي سِيَاقِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، مَا نَصُّهُ: (٨: ٤١ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا، لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ ٤٢ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، إِلَى أَنْ قَالَ - ٤٤ أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ، هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتُ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى، مِنْ رِسَالَتَيْ يُوحَنَّا (٣: ٩ كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لَا يَفْعَلُ خَطِيئَةً ; لِأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ ; لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ ١٠ بِهَذَا أَوْلَادُ اللهِ ظَاهِرُونَ، وَأَوْلَادُ إِبْلِيسَ) فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَأَشْبَاهِهَا أَنَّ لَفْظَ " ابْنِ اللهِ " يُسْتَعْمَلُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ بِمَعْنَى حَبِيبِ اللهِ الَّذِي يُعَامِلُهُ اللهُ مُعَامَلَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّكْرِيمِ، فَعَطَفَ أَحِبَّاءَ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ اللهِ لِلتَّفْسِيرِ وَالْإِيضَاحِ؛ وَإِنَّمَا تَحَكَّمَ النَّصَارَى بِهَذَا اللَّقَبِ فَجَعَلُوهُ بِمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ، وَبِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَعْنَى الِابْنِ الْحَقِيقِيِّ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَلَدِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْ تَلْقِيحِ الرَّجُلِ بِمَائِهِ لِبَعْضِ
(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِكُمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ تَارِيخِكُمُ الْمَاضِي، وَكَمَا تَرَوْنَ فِي تَارِيخِكُمُ الْحَاضِرِ، وَمِنْ هَذَا الْعَذَابِ لِلْيَهُودِ مَا كَانَ مِنْ تَخْرِيبِ الْوَثَنِيِّينَ لِمَسْجِدِهِمُ الْأَكْبَرِ وَلِبَلَدِهِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَمِنْ إِزَالَةِ مُلْكِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِلنَّصَارَى مَا اضْطَهَدَهُمْ بِهِ الْأُمَمُ، وَمَا نَكَّلَ بِهِ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ تَنْكِيلِهِمْ وَتَنْكِيلِ الْوَثَنِيِّينَ بِالْيَهُودِ ; أَيْ أَنَّ الْأَبَ لَا يُعَذِّبُ ابْنَهُ، وَالْمُحِبَّ لَا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ، فَلَسْتُمْ إِذًا أَبْنَاءَ اللهِ وَلَا أَحِبَّاءَهُ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يُحَابِي أَحَدًا، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَغْفِرَةِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ، فَهُوَ يَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كَمَا يَجْزِي سَائِرَ الْبَشَرِ أَمْثَالَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنْ غُرُورِكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ وَسَلَفِكُمْ وَكُتُبِكُمْ ; فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، لَا بِمَنْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ مَا أَثْبَتَ فِي الَّتِي مِنْ قَبْلِهَا، مِنْ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَ أَجْرَامِهِمَا وَأَجْزَائِهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَتَمَ تِلْكَ بِكَوْنِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْغَرَابَةِ فِي الْخَلْقِ، وَامْتِيَازِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَخَتَمَ هَذِهِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْمَرْجِعِ وَالْمَصِيرِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَنْ فِيهِمَا وَبَيْنَ عَالَمَيْهِمَا نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الرَّبُّ، ذُو التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَمْلُوكَةُ، وَجَمِيعُ مَنْ يَعْقِلُ فِيهَا مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَبِيدٌ لَهُ لَا أَبْنَاءٌ وَلَا بَنَاتٌ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (١٩: ٩٣) وَفِي خَتْمِهَا بِقَوْلِهِ: " وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ وَالْغُرُورِ، وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ، فَيَعْلَمُونَ عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ آبِقُونَ يُجَازَوْنَ، لَا أَبْنَاءٌ وَلَا أَحِبَّاءٌ يُحَابَوْنَ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَ تَعْذِيبِهِمْ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الْآخِرَةِ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا، أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي ادِّعَائِهِمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتَهُ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا كَالَّذِي حَصَلَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَقَتْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أَنَّ
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَضْعَفُهَا، وَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِهِ أَيْضًا، وَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَا فِي الثَّانِي عَلَى النَّصَارَى ; فَيَكُونُ تَسْلِيمًا لَهُمْ، أَوْ إِقْرَارًا عَلَى دَعْوَى أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيَتَبَجَّحُونَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ (يُعَذِّبُكُمْ) يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَعْذِيبًا خَاصًّا بِطَائِفَةٍ وَقَعَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَأَقْوَى أَجْوِبَتِهِ الْأَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْطِنْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ بَيَانًا تَامًّا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّرْ أَصْلَ الدَّعْوَى ; فَيَهْتَدِي إِلَى تَحْرِيرِ الْجَوَابِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَا يَرِدُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَإِلَيْكَ الْبَيَانُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَتَضَاءَلُ بِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي خَبَرِ كَانَ.
كَانَ الْيَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصُّ، مَيَّزَهُمْ لِذَاتِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ ; فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ شَعْبٌ آخَرُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصَحَّ مِنْهُمْ إِيمَانًا وَأَصْلَحَ عَمَلًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ تَابِعِينَ لِغَيْرِهِمْ فِي الدِّينِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، لَا إِسْرَائِيلِيٌّ، وَالْفَاضِلُ لَا يَتْبَعُ الْمَفْضُولَ بِزَعْمِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ عَلَى الْكُفْرِ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ الْمَحْبُوبُ، فَهُوَ لَا يُعَامِلُهُمْ إِلَّا مُعَامَلَةَ الْوَالِدِ لِأَبْنَائِهِ الْأَعِزَّاءِ، وَالْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ الْخَاصِّ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَقَدْ أَرْبَوْا عَلَيْهِمْ فِي الْغُرُورِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ قَدْ جَاهَدَ غُرُورَ الْيَهُودِ جِهَادًا عَظِيمًا، فَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ قَدْ فَدَاهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ بِوِلَادَةِ الرُّوحِ، وَالْمَسِيحُ ابْنُهُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُخَاطَبُونَ
اللهَ تَعَالَى دَائِمًا بِلَقَبِ الْأَبِ. وَقَدْ كَانَتْ جَمِيعُ فِرَقِهِمْ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ مِنَ الْيَهُودِ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَفِسْقًا وَفُجُورًا، وَظُلْمًا وَعُدْوَانًا، بِشَهَادَةِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ كُلِّهَا، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ إِلَى إِصْلَاحٍ فِي دِينِهِمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ ; وَلِهَذَا رَفَضُوا مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْفَضَائِلِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَدُّوا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ كَوْنِ مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَمَثُوبَتِهِ لَا تُنَالَانِ إِلَّا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَلِ.
إِذَا فَقِهْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِشْكَالَ الرَّازِيِّ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَإِبْطَالِ دَعْوَى أَنْ يَكُونَ شَعْبٌ مِنْهَا مُمْتَازًا عِنْدَ اللهِ بِذَاتِهِ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِ سُنَّتُهُ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّ أُمَّتَهُ لَهَا مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ اللهِ وَلَا مِنْ أَحِبَّائِهِ، مَهْمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ; فَيُقَالُ: لِمَ غُلِبُوا
إِذًا فِي غَزْوَةِ " أُحُدٍ "؟ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ بِأُحُدٍ الْمُنَافِقُينَ، وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ؟ يُثْبِتُ لَكَ هَذَا مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْآيَاتِ ; فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِذُنُوبِ بَعْضِهِمْ ; إِذْ خَالَفَ الرُّمَاةُ أَمْرَ نَبِيِّهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَتَنَازَعُوا وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِالْحَوَادِثِ، فَلَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (٣: ١٣٧ - ١٤١) ثُمَّ قَالَ: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (٣: ١٥٢) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ١٥٥، ثُمَّ قَالَ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (٣: ١٦٥)... إِلَخْ.
وَمَنْ رَاجِعِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا يَتَجَلَّى لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ تَمَامَ التَّجَلِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِهَذَا الْبَيَانِ ; فَيَتَّقُوا غُرُورَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلِ اتَّبَعُوا سُنَّتَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى
ضِدِّ مَا كَانَ، فَتَرَكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ذَلِكَ الْغُرُورَ بِدِينِهِمْ، وَاهْتَدَوْا بِسُنَنِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُمْ، فَسَارُوا عَلَيْهَا فِي سِيَاسَةِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ آخَرُ حَوَادِثِ غُرُورِ دُوَلِهِمُ الْكُبْرَى غُرُورَ دَوْلَةِ الرُّوسِيَّةِ فِي حَرْبِهَا مَعَ دَوْلَةِ الْيَابَانِ الْوَثَنِيَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غُرُورًا دِينِيًّا مَحْضًا، بَلْ كَانَ مَمْزُوجًا بِالِاسْتِعْدَادِ الدُّنْيَوِيِّ مَزْجًا، وَبَقِي مَنِ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَابِتِينَ عَلَى تَقْلِيدِ أُولَئِكَ الْمَخْذُولِينَ، وَفُتِنَ بَعْضُهُمْ بِالْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَبَرِينَ، وَلَكِنَّهُمْ مَا احْتَذَوْا مِثَالَهُمْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا رَجَعُوا فِي مِثْلِهِ إِلَى هَدْيِ الدِّينِ (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (٤٠: ١٣).
أَقَامَ اللهُ الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَدَحَضَ شُبْهَتَهُمُ الَّتِي غَرَّتْهُمْ فِي دِينِهِمْ، فَحَسُنَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى غُرُورِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، فَقَالَ: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِكُمْ، الْمُنْتَظَرُ فِي اعْتِقَادِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ أَخْبَرَكُمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَنَّهُ سَيُقِيمُ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ إِخْوَتِكُمْ، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بِأَنْ سَيَجِيءَ بَعْدَهُ الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا تَزَالُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ فِي كُتُبِكُمْ، وَإِنْ حَرَّفْتُمُوهَا بِسُوءِ فَهْمٍ أَوْ بِسُوءِ قَصْدٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْكَامِلُ الْمَعْهُودُ الَّذِي سَأَلَ أَجْدَادُكُمْ عَنْهُ يَحْيَى (يُوحَنَّا) عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَفِي أَوَائِلِ الْإِنْجِيلِ الرَّابِعِ أَنَّ الْيَهُودَ أَرْسَلُوا كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ فَسَأَلُوا يُوحَنَّا: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ إِيلِيَا؟ قَالَ: لَا. أَأَنْتَ النَّبِيُّ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا هُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا - وَهُوَ يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ - أَيِ انْقِطَاعٍ -
وَرُهْبَانِكُمْ وَحُكَمَائِكُمْ وَسَاسَتِكُمْ، جَاءَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ يُبَيِّنُ لَكُمْ كُلَّ هَذَا ; لِيَقْطَعَ مَعْذِرَتَكُمْ، وَيَمْنَعَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) يُبَشِّرُنَا بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرُنَا وَيُخَوِّفُنَا سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُفْسِدِينَ الضَّالِّينَ الْمَغْرُورِينَ.
(فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يَبِينُ لَكُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي دَارِ الْقَرَارِ لَيْسَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمُ التى تَتَمَنَّوْنَهَا، وَأَوْهَامِكُمُ التى تَغْتَرُّونَ بِهَا، بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحَابِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ ١٢٤) (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُرِيَكُمْ صِدْقَ نَبِيِّهِ بِنَصْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِتَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ - إِنْ عَقَلْتُمْ - مَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى.
رَوَى أَبْنَاءُ إِسْحَاقَ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَحَذَّرَهُمْ ; فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ لَتَعْلَمُونِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: إِنَّا مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ ; أَيْ أَنْزَلَهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، مُتَضَمِّنَةً لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنْ " الْفَتْرَةَ " مِنْ فَتَرَ الشَّيْءُ: إِذَا سَكَنَ أَوْ زَالَتْ حِدَّتُهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الْفُتُورُ " سُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ، وَلِينٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، وَضَعْفٌ بَعْدَ قُوَّةٍ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ وَظُهُورِ الرُّسُلِ عِدَّةَ قُرُونٍ، وَقَوْلُهُ (أَنْ تَقُولُوا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤: ١٧٦) فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْحُجَجَ الْقَيِّمَةَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ رِسَالَةَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بِشَأْنِهِمْ وَشَأْنِ كُتُبِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَتَحْرِيفِ الْكُتُبِ وَنِسْيَانِ حَظٍّ مِنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ وَكَوْنِ
يَدَيْهِ مِنَ الرِّقِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَمِلْكِ أَمْرِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ عَلَى هَذَا كُلِّهِ كَانُوا يُخَالِفُونَهُ وَيُعَانِدُونَهُ، حَتَّى فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمُ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ هَمِّهِمْ ; لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ بِهَذَا أَنَّ مُكَابَرَةَ الْحَقِّ وَمُعَانَدَةَ الرُّسُلِ خُلُقٌ مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ سَلَفِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَزِيدَ عِرْفَانٍ بِطَبَائِعِ الْأُمَمِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ حُسْنُ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَوَجْهُ اتِّصَالِ لَاحِقِهِ بِسَابِقِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) أَيْ وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَسَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْقُرْآنِ ; إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالشُّكْرِ لَهُ وَالطَّاعَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ، وَتَرْكَهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ وَالْعَذَابَ الشَّدِيدَ، وَلَفْظُ " نِعْمَةَ " يُفِيدُ الْعُمُومَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى اسْمِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مُوسَى مُرَادَهُ بِهَذَا الْعُمُومِ بِذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ كَانَتْ حَاصِلَةً بِالْفِعْلِ بَعْدَ نِعْمَةِ إِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالسَّلْبِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْحَاصِلَةُ الْمَشْهُودَةُ هِيَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ النِّعَمِ وَمَجَامِعِهَا الَّتِي يَنْدَرِجُ فِيهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا: (الْأَوَّلُ) - وَهُوَ أَشْرَفُهَا -: جَعْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَهَذَا يَصْدُقُ بِوُجُودِ الْمُبَلِّغِ لِذَلِكَ، وَوُجُودِ أَخِيهِ هَارُونَ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمَا، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتُشْعِرُ الْعِبَارَةُ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ النِّعْمَةَ أَوْسَعُ، وَأَنَّ عَدَدَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَثِيرٌ، أَوْ سَيَكُونُ كَثِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَعْلِ بَيَانُ الشَّأْنِ لَا مُجَرَّدُ الْحُصُولِ بِالْفِعْلِ فِي الزَّمَنَيْنِ الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَقِيلَ: كَانَ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ كَثِيرًا فِي عَهْدِ مُوسَى، حَتَّى حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِيَصْعَدُوا مَعَهُ الْجَبَلَ إِذْ يَصْعَدُهُ لِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، صَارُوا كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْإِخْبَارُ بِبَعْضِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنَى إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُؤَيِّدِينَ لِلتَّوْرَاةِ، عَامِلِينَ وَحَاكِمِينَ بِهَا، حَتَّى الْمَسِيحِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلِلنَّصَارَى تَحَكُّمٌ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَنَفْيِهَا عَمَّنْ شَاءُوا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ سُلَيْمَانَ
بْنَ دَاوُدَ نَبِيًّا! ! بَلْ حَكِيمًا ; أَيْ فَيْلَسُوفًا
(الثَّانِي) : جَعْلُهُمْ مُلُوكًا، لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ بَنَى إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ وَمُلُوكٍ شَاوِلُ بْنُ قَيْسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا ; لِأَنَّهُ قَالَ: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ " كُلٍّ " الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ ; أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ ; فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَدَابَّةٌ وَامْرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا "، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: " مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ بِلَفْظِ " زَوْجَةٍ وَمَسْكَنٍ وَخَادِمٍ "، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى سَتَأْتِي بِنَصِّهَا، وَقَدْ صَحَّحُوا سَنَدَهَا، وَالْمَرْفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ
أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُلْكِ هُنَا: الِاسْتِقْلَالُ الذَّاتِيُّ، وَالتَّمَتُّعُ بِنَحْوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الْمُلُوكُ مِنَ الرَّاحَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ وَسِيَاسَةِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مَجَازٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ مَا عَرَفْنَا مِنْ بِلَادِهِمْ، يَقُولُونَ لِمَنْ كَانَ مُهَنَّئًا فِي مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسْكَنِهِ، مَخْدُومًا مَعَ أَهْلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَوْ مَلِكُ زَمَانِهِ ; أَيْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ، وَتَرَى مِثْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الْمَجَازِيِّ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا، قَالَ: (١: ٦ وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً).
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا آتَاهُمْ
(الْأَمْرُ الثَّالِثُ) : إِيتَاؤُهُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ ; أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ وَشُعُوبِهِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْبَدَةً لِلْمُلُوكِ الْعُتَاةِ الطُّغَاةِ ; كَالْقِبْطِ وَالْبَابِلِيِّينَ، رَوَى الْفِرْيَابِيُّ وَابْنَا جَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) قَالَ: الْمَرْأَةُ وَالْخَادِمُ (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قَالَ: الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ يَوْمَئِذٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْهُ فِي الْأَخِيرِ أَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى، وَرَوَى هُوَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ زِيَادَةِ الْغَمَامِ الَّذِي ظَلَّلَهُمْ فِي التِّيهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمِ الْحَجَرَ الَّذِي انْبَجَسَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْخَصَائِصِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَيُرَاجَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الْمُقَدَّسَةُ: الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، لِمَا بَعَثَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ " الْمُقَدَّسَةَ ": بِالْمُبَارَكَةِ،
وَيَصْدُقُ بِالْبَرَكَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: مَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهَا الشَّامُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، فَالْمُرَادُ بِالْقَوْلَيْنِ الْقُطْرُ السُّورِيُّ فِي عُرْفِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ لِسُورِيَّةَ قَدِيمٌ، وَحَسْبُنَا أَنَّهُ مِنْ عُرْفِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى وَلَا أَحَقَّ وَلَا أَعْدَلَ مِنْ قِسْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ سُورِيَّةَ هِيَ الْقِسْمُ الشَّمَالِيُّ الشَّرْقِيُّ مِنْ هَذَا الْقُطْرِ، وَالْبَاقِي يُسَمُّونَهُ فِلَسْطِينَ أَوْ بِلَادَ الْمَقْدِسِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهَا هِيَ " الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ "، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكُوا سُورِيَّةَ، فَسُورِيَّةُ وَفِلَسْطِينُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُسَمُّونَ الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ أَرْضَ الْمِيعَادِ ; فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَدْخُلُ فِيمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ الْحِجَازُ وَمَا جَاوَرَهُ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَدْ خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ; لِيُسْكِنَهُمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا مِنْ عَهْدِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ وَالْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ مَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ الَّتِي هِيَ أَرْضُ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ.
الْأَرَاضِي كَانَتْ تَحْتَ سُلْطَةِ سُلَيْمَانَ، فَكَانَ التَّخْمُ الشَّمَالِيُّ حِينَئِذٍ سُورِيَّةَ، وَالشَّرْقِيُّ الْفُرَاتَ وَالْبَرِّيَّةَ السُّورِيَّةَ، وَالْجَنُوبِيُّ بَرِّيَّةَ التِّيهِ وَأَدُومَ، وَالْغَرْبِيُّ الْبَحْرَ الْمُتَوَسِّطَ. انْتَهَى بِنَصِّهِ، مَعَ اخْتِصَارٍ حُذِفَ بِهِ أَكْثَرُ الشَّوَاهِدِ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا بِغَيْرِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يُرِيدُ بِهِ مُوسَى مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي: كَتَبَ لَهُمُ الْحَقَّ فِي سُكْنَى تِلْكَ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ، بِحَسَبِ ذَلِكَ الْوَعْدِ، أَوْ فِي عِلْمِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا كُلُّهَا تَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ دَائِمًا، أَوْ لَا يُزَاحِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ ; لِأَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ. فَاسْتِنْبَاطُ الْيَهُودِ مِنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ لَهُمُ الْمُلْكُ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَحْسُنُ هُنَا أَنْ نَذْكُرَ نَصَّ التَّوْرَاةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ فِي هَذَا الْوَعْدِ. جَاءَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بِأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ ظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ (١٢: ٧ وَقَالَ لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ) وَجَاءَ فِيهِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ (١٥: ١٨ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ إِبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ) وَهَذَا الْوَعْدُ ذُكِرَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ قَبْلَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَاءَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْمَاعِيلَ لَهُ، وَوَعْدِ اللهِ بِتَكْثِيرٍ نَسْلِهِ، وَبِكَوْنِهِمْ يَسْكُنُونَ أَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِمْ (١٧: ٨ وَأُعْطِي لَكَ، وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا، وَأَكُونُ إِلَهَهُمْ) فَهَذَا وَذَاكَ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ أَوْلَى أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَهُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ، وَالْوَفَاءُ الْأَبَدِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِهِ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ كُلُّهَا عَرَبِيَّةً مَحْضَةً.
وَلَيْسَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ وِلَادَةِ إِسْحَاقَ وَعْدٌ لِإِبْرَاهِيمَ مِثْلُ هَذَا بِبِلَادٍ وَلَا بِأَرْضٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَنَّهُ يُقِيمُ مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَهْدَ لِإِسْحَاقَ دُونَ إِسْمَاعِيلَ، فَمَا هَذَا الْعَهْدُ؟
يُبَارِكَهُ وَيُثَمِّرَهُ، وَيُكَثِّرَهُ جِدًّا جِدًّا، وَيَجْعَلَهُ أُمَّةً كَبِيرَةً (رَاجِعْ ١٧: ١٨ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ).
نَعَمْ إِنَّ الْفَصْلَ الرَّابِعَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ صَرِيحٌ فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ، وَاقْتِسَامِهَا بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا حَقٌّ قَدْ وَقَعَ، فَلَا مِرَاءَ فِيهِ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ قَبْلُ مِنْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ لَهُمْ حَظٌّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فِي وَقْتٍ مَا، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ، وَلَا هُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَوْلَادِ عَمِّهِمُ الْعَرَبِ، بَلْ هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَوْلَى كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ مَفْعُولًا.
يُوَضِّحُ هَذَا مَا نَقَلَهُ كَاتِبُ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ (١: ٦ الرَّبُّ إِلَهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلًا: كَفَاكُمْ قُعُودًا فِي هَذَا الْجَبَلِ ٧ تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا، وَادْخُلُوا جَبَلَ الْأَمُورِيِّينَ، وَكُلَّ مَا يَلِيهُ مِنَ الْعَرَبَةِ (وَفِي التَّرْجَمَةِ الْيَسُوعِيَّةِ الْقَفْرِ) وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّ، وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ ٨٠ انْظُرُوا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكُمُ الْأَرْضَ، ادْخُلُوا وَتَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لِآبَائِكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ) وَأَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهَذَا الْوَعْدِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا السِّفْرِ، وَهَذَا النَّصُّ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَلَيْسَ فِي الْعِبَارَةِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ نَسْلُ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ.
وَأَمَّا ذِكْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هُنَا ; فَلِأَنَّ الرَّبَّ ذَكَّرَهُمَا بِوَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمَا، وَأَكَّدَهُ لَهُمَا وَلِنَسْلِهِمَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّأْيِيدِ (تَك ٢٦ و٢٨) كَمَا سَبَقَ فِي وَعْدٍ لِإِبْرَاهِيمَ، فَالْوَعْدُ الْمُؤَكَّدُ الْمُؤَبَّدُ إِنَّمَا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَصْدُقْ إِلَّا بِمَجْمُوعِ نَسْلِهِ، وَهُمُ الْعَرَبُ وَالْإِسْرَائِيلِيُّونَ.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَ الرَّبِّ لِإِسْحَاقَ مَا وَعَدَ بِهِ أَبَاهُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ إِعْطَاءِ نَسْلِهِ تِلْكَ الْبِلَادَ مُعَلَّلٌ بِحِفْظِ أَوَامِرِهِ وَفَرَائِضِهِ وَشَرَائِعِهِ (تك ٢٦: ٥ وخر ١٣) وَهُوَ عَيْنُ الْوَعْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِيَعْقُوبَ فِي الْمَنَامِ فِي الْفَصْلِ الْـ ٢٨، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ هُنَالِكَ التَّعْدِيلُ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ
أَيْضًا سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْ يُذِلُّهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَدِينَتِهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، وَيُتَبِّرُوا مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْهُمَا تَتْبِيرًا، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ١٧: ٨) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَقَدْ عَادُوا، وَعَادَ انْتِقَامُ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ مِنْهُمْ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الرُّومَ قَبْلَ الْمَسِيحِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، وَمُزِّقُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَدُلُّ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُلْكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ، ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ آيَةُ (عَسَى رَبُّكُمْ) أَرْجَى الْآيَاتِ لَهُمْ ; لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْإِصْلَاحِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ مَا فُقِدَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا وَاتَّحَدُوا بِبَنِي عَمِّهِمُ الْعَرَبِ يَمْلِكُونَ كُلَّ هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ فِي هَذَا بِعِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ ; لِأَنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ شَدِيدُو التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ فِي جِنْسِيَّتِهِمُ النَّسَبِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَهَذَا الْعَصْرُ عَصْرُ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ يَحِلُّونَ رَابِطَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ لِأَجْلِ شَدِّ عُرْوَةَ الرَّابِطَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ لُغَاتٌ ذَاتُ آثَارٍ يُحْرَصُ عَلَيْهَا، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّفُونَ تَدْوِينَ لُغَاتِهِمْ وَتَأْسِيسَهَا ; لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لُغَاتِ عِلْمٍ وَكِتَابٍ، ثُمَّ إِنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا غَالِبٌ فِيهِ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ، وَالْيَهُودُ يُرِيدُونَ أَنْ يُعِيدُوا مُلْكَهُمْ لِهَذِهِ الْبِلَادِ بِتَكْوِينٍ وَتَأْسِيسٍ جَدِيدٍ، وَيَسْتَعِينُونَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ وَطُرُقِ الْعُمْرَانِ الْحَدِيثَةِ.
فَيَا دَارُهَا بِالْخِيفِ إِنَّ مَزَارَهَا قَرِيبٌ وَلَكِنْ دُونُ ذَلِكَ أَهْوَالُ فَإِنَّ الشُّعُوبَ النَّصْرَانِيَّةَ وَدُوَلَهَا الْقَوِيَّةَ تُعَارِضُهُمْ فِي التَّغَلُّبِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَالْعَرَبُ أَصْحَابُ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَا يَتْرُكُونَهَا لَهُمْ غَنِيمَةً بَارِدَةً، وَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ الْوَسَائِلُ الرَّسْمِيَّةُ وَالْمُكَايَدَةُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُغْنِي وَيُقْنِي هُوَ الِاتِّفَاقُ مَعَ الْعَرَبِ عَلَى الْعُمْرَانِ ; فَإِنَّ الْبِلَادَ تَسَعُ مِنَ السُّكَّانِ أَضْعَافَ مَنْ فِيهَا الْآنَ.
وَيُؤَيِّدُ التَّعْلِيلَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَخِيرًا هَذَا النَّهْيُ الَّذِي عُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ: لَا تَرْجِعُوا عَمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْهُدَى إِلَى الْوَثَنِيَّةِ أَوِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ; فَيَكُونَ هَذَا الرُّجُوعُ إِلَى
الْوَرَاءِ انْقِلَابَ خُسْرَانٍ تَخْسَرُونَ فِيهِ هَذِهِ النِّعَمَ، وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي سَتُعْطَوْنَهَا جَزَاءً عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا، فَتَعُودُ الدَّوْلَةُ فِيهَا لِأَعْدَائِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ شُكْرَ النِّعَمِ مَدْعَاةُ الْمَزِيدِ مِنْهَا، وَكُفْرَهَا مَدْعَاةُ سَلْبِهَا وَزَوَالِهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الِارْتِدَادِ عَلَى الْأَدْبَارِ النُّكُوصُ عَنْ دُخُولِهَا، وَالْجُبْنُ عَنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْوَثَنِيِّينَ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ قِتَالَهُمْ، وَالْخُسْرَانُ عَلَى هَذَا قِيلَ هُوَ
(قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) كَانَ اسْتِعْبَادُ الْمِصْرِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَذَلَّهُمْ وَأَفْسَدَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُمْ، وَكَانَ بَنُو عَنَاقٍ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ أَمَامَهُمْ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ
أُولِي قُوَّةٍ وَأُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَكَانُوا كِبَارَ الْأَجْسَامِ، طِوَالَ الْقَامَاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ ".
فَالْجَبَّارُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الطَّوِيلِ الْقَوِيِّ وَالْمُتَكَبِّرِ وَالْقَتَّالِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاتِي الْمُتَمَرِّدِ، وَالَّذِي يَجْبُرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَالْقَاهِرِ الْمُتَسَلِّطِ، وَالْمَلِكِ الْعَاتِي، وَكُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ ; أَيْ طَوِيلَةٌ، لَا يُنَالُ ثَمَرُهَا بِالْأَيْدِي، وَإِنْ عَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا مِنَ الْمَجَازِ فِي أَسَاسِهِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ لِاسْمِ الْفَاعِلِ، مِنْ جَبَرَهُ عَلَى الشَّيْءِ ; كَأَجْبَرَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَلْفَاظِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْأَجْسَامِ وَلِمَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا مَا وُضِعَ لِلْمَعَانِي، وَمَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَقَدْ رَجَعْتُ بَعْدَ جَزْمِي بِمَا ذَكَرْتُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُ مِثْلَهُ وَمَا يُؤَيِّدُهُ. ذَكَرَ الْآيَةَ وَقَالَ: قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَرَادَ الطُّولَ وَالْقُوَّةَ وَالْعِظَمَ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ مِنَ النَّخِيلِ، وَهُوَ الطَّوِيلُ الَّذِي فَاتَ يَدَ التَّنَاوُلِ، وَيُقَالُ جَبَّارٌ إِذَا كَانَ طَوِيلًا عَظِيمًا قَوِيًّا، تَشْبِيهًا بِالْجَبَّارِ مِنَ النَّخْلِ. انْتَهَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ:
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الْإِلَهُ فَجُبِرْ
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَبَّارُ فِي صِفَةِ الْإِنْسَانِ يُقَالُ لِمَنْ يَجْبُرُ نَقِيصَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّعَالِي لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَهَذَا لَا يُقَالُ إِلَّا عَلَى طَرِيقَةِ الذَّمِّ، وَذَكَرَ عِدَّةَ آيَاتٍ فِيهَا الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلِتَصَوُّرِ الْقَهْرِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الْأَقْرَانِ قِيلَ نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ وَنَاقَةٌ جَبَّارَةٌ. انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ لِمَادَّةِ الْجَبْرِ، مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالْقُوَّةِ وَمَعْنَى جَبْرِ الْكَسْرِ وَجَبْرِ الْجُرْحِ وَتَجْبِيرِهِ وَمَا أُخِذَ مِنْهُ ; كَجَبْرِ الْمُصِيبَةِ بِالتَّعْوِيضِ عَمَّا فُقِدَ، وَجَبْرِ الْفَقِيرِ بِإِغْنَائِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَدْخُلُ فِي مَعْنَى جَبَّارِ النَّخْلِ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَالنَّمَاءُ وَالطُّولُ.
وَالْجَبَّارُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ مَعْنَى الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَوْنُهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ بِتَأْثِيرٍ مَا، وَمَعْنَى جَبْرِ الْقَلْبِ الْكَسِيرِ، وَإِغْنَاءِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَمَعْنَى جَبْرِ الْخَلْقِ بِمَا وَضَعَهُ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ وَالْمَقَادِيرِ الْمُنْتَظِمَةِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَهُوَ مِثْلُ اسْمِ الْمُتَكَبِّرِ مَدْحٌ لِلْخَالِقِ، وَذَمٌّ لِلْمَخْلُوقِ ; إِذْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي مَعْنَى الْجَبْرِ؛ وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَالْعُلُوُّ وَالِامْتِنَاعُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَتَكَبَّرَ بِأَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُ كَبِيرُ الشَّأْنِ، وَلَوْ بِالْحَقِّ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْبَاطِلِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ! فَإِنَّ الْكَبِيرَ بِالْفِعْلِ لَا يَتَعَمَّدُ وَيَتَكَلَّفُ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ كَبِيرٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيَتَوَخَّاهُ مَنْ يَشْعُرُ بِصَغَارِ نَفْسِهِ فِي بَاطِنِ سِرِّهِ، فَيَحْمِلُهُ حُبُّ الْعُلُوِّ عَلَى تَكَلُّفِ إِخْفَاءِ هَذَا الصَّغَارِ، بِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ إِظْهَارِ كِبْرِهِ، فَيَكُونُ مِنْ خُلُقِهِ أَلَّا يَخْضَعَ لِلْحَقِّ، وَلَا يُقَدِّرُ النَّاسَ قَدْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنَ الْحَقِّ وَمِنَ النَّاسِ، فَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونُوا فَوْقَهُ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ النَّقْصِ وَسَبَبُ الْمُؤَاخَذَةِ، فَقَالَ: " الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا تَكَبُّرُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ إِظْهَارُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ لِعِبَادِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْظَمُ تَرْبِيَةً وَتَغْذِيَةً لِإِيمَانِهِمْ، يُوَجِّهُ قُلُوبَهُمْ إِلَى الْكَمَالِ الْأَعْلَى ; فَيَقْوَى اسْتِعْدَادُهُمْ لِتَكْمِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَعِرْفَانِهِمْ بِهَا، فَيَكُونُونَ أَحِقَّاءَ بِأَلَّا يَرْفَعُوهَا عَنْ مَكَانِهَا بِالْبَاطِلِ وَلَا يُسَفِّهُوهَا فَيَرْضَوْا لَهَا بِالْخَسَائِسِ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ " جَبَّارِينَ " وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى اسْمِ الْجَبَّارِ وَالْمُتَكَبِّرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى ; لِمَا نَعْلَمُهُ مِنْ ضَلَالِ بَعْضِ النَّاسِ فِي فَهْمِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ.
أَمَّا مَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ وَصْفِ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ، فَأَكْثَرُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْخُرَافِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَبُثُّهَا الْيَهُودُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَرَوَوْهَا مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ إِلَيْهِمْ ; كَقَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُيُونَ
مِنْكُمْ، وَلَا يَحْمِلُ عُنْقُودَ عِنَبِهِمْ إِلَّا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ بَيْنَهُمْ فِي خَشَبَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ حَبُّهَا خَمْسَةُ أَنْفُسٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ السِّفْرُ الرَّابِعُ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ. وَفِي أَوَّلِهِمَا أَنَّ الْجَوَاسِيسَ تَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ كَمَا أُمِرُوا، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوا فِي عَوْدَتِهِمْ زَرْجُونَةً فِيهَا عُنْقُودُ عِنَبٍ وَاحِدٌ، حَمَلُوهُ بِعَتَلَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَقَالُوا لِمُوسَى وَهُوَ فِي مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (١٢: ٢٩ قَدْ صِرْنَا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَعَثْتَنَا إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ تُدِرُّ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَهَذَا ثَمَرُهَا ٣٠ غَيْرَ أَنَّ الشَّعَبَ السَّاكِنِينَ فِيهَا أَقْوِيَاءُ، وَالْمُدُنَ حَصِينَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَرَأَيْنَا ثَمَّ أَيْضًا بَنِي عَنَاقٍ - إِلَى أَنْ قَالَ الْكَاتِبُ - ٣١ وَكَانَ كَالِبٌ يُسْكِتُ الشَّعْبَ عَنْ مُوسَى قَائِلًا: نَصْعَدُ وَنَرِثُ الْأَرْضَ فَإِنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهَا ٣٢ وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ صَعِدُوا مَعَهُ (أَيْ لِلتَّجَسُّسِ) فَقَالُوا: لَا نَقْدِرُ أَنْ نَصْعَدَ إِلَى الشَّعْبِ ; لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَّا ٣٣، وَشَنَّعُوا عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَجَسَّسُوهَا، وَقَالُوا:... هِيَ أَرْضٌ تَأْكُلُ أَهْلَهَا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ فِيهَا طِوَالُ الْقَامَاتِ ٣٤، وَقَدْ رَأَيْنَا ثَمَّ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، جَبَابِرَةِ بَنِي عَنَاقٍ، فَصِرْنَا فِي عُيُونِنَا كَالْجَرَادِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا فِي عُيُونِهِمْ) هَذَا آخَرُ الْفَصْلِ، وَذُكِرَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَهُ تَذَمُّرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى لَهُمْ بِدُخُولِ تِلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ بَكَوْا وَتَمَنَّوْا لَوْ أَنَّهُمْ مَاتُوا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَقَالُوا (١٤: ٣ لِمَاذَا أَتَى الرَّبُّ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ؟ حَتَّى نَسْقُطَ تَحْتَ السَّيْفِ وَتَصِيرَ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً؟ أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى مِصْرَ؟)... إِلَخْ! ! فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْخُرَافَاتُ الَّتِي بَثُّوهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُمْ لِخَوْفِهِمْ وَرُعْبِهِمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ احْتَقَرُوا
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي رَاجَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ
التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ، وَقَلَّ مَنْ صَرَّحَ بِبُطْلَانِهَا أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ الْيَهُودِ الْمُعْتَمَدَةِ لِيَقِفُوا عَلَى الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِيهَا؛ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ هِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مَا جَاءَ بِهِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ، لَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ نَحْوَ مَا يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةُ الَّذِينَ غَشَّهُمُ الْيَهُودُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِهِمْ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ حِكَايَتِهِمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَبَيْنَ كَذِبِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ فِي مِثْلِ مَكَّةَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا يَهُودُ وَلَا كُتُبٌ، وَأَكْثَرُ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَمُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَرُبَ بِقَوْمِهِ مِنْ حُدُودِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الْعَامِرَةِ الْآهِلَةِ أَمَرَهُمْ بِدُخُولِهَا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مَنْ أَهْلِهَا، وَأَنَّهُمْ لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالذُّلِّ بِاضْطِهَادِ الْمِصْرِيِّينَ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاهُمْ أَبَوْا وَتَمَرَّدُوا وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِهِمْ، وَقُوَّةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَحَاوَلُوا الرُّجُوعَ إِلَى مِصْرَ (كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَبِيدِ يَرْجِعُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى خِدْمَةِ سَادَتِهِمْ فِي أَمِرِيكَةَ، بَعْدَ تَحْرِيرِهِمْ كُلِّهِمْ وَمَنْعِ الِاسْتِرْقَاقِ بِقُوَّةِ الْحُكُومَةِ ; لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا تِلْكَ الْخِدْمَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، وَصَارَتِ الْعِيشَةُ الِاسْتِقْلَالِيَّةُ شَاقَّةً عَلَيْهِمْ) وَقَالُوا لِمُوسَى: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَ هَذِهِ الْأَرْضَ مَا دَامَ هَؤُلَاءِ الْجَبَّارُونَ فِيهَا، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا بِقُوَّةِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ ; لِتَكُونَ غَنِيمَةً بَارِدَةً لَهُمْ، وَجَهِلُوا أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْقُوا دَائِمًا عَلَى ضَعْفِهِمْ وَجُبْنِهِمْ، وَأَنْ يَعِيشُوا بِالْخَوَارِقِ وَالْعَجَائِبِ مَا دَامُوا فِي الدُّنْيَا، لَا يَسْتَعْمِلُونَ قُوَاهُمُ الْبَدَنِيَّةَ وَلَا الْعَقْلِيَّةَ فِي دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا فِي جَلْبِ الْخَيْرِ لَهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُونَ أَكْفَرَ الْخَلْقِ بِنِعَمِ اللهِ، فَكَيْفَ يُؤَيِّدُهُمْ بِآيَاتِهِ طُولَ الْحَيَاةِ! وَالْحِكْمَةُ فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْيِيدِ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ أَصْفِيَاءِ اللهِ تَعَالَى مُوَقَّتًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَامَّةِ ; فَهُوَ كَالدَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغِذَاءِ. وَقَوْلُهُمْ (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) تَأْكِيدٌ لِمَفْهُومِ مَا قَبْلَهُ، مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ لَا عِلَّةَ لَامْتِنَاعِهِمْ إِلَّا مَا ذَكَرُوهُ.
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ هُمَا: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالَبُ بْنُ يَفُنَةَ ; وِفَاقًا لِرِوَايَةِ التَّوْرَاةِ عِنْدَ أَهْلِ
الْكِتَابِ ; فَهُمَا
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) أَيْ لَمْ تَنْفَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَوْعِظَةُ الرَّجُلَيْنِ، بَلْ أَصَرُّوا عَلَى التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَكَّدُوا لِمُوسَى بِالْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ تِلْكَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَّارُونَ أَبَدًا - أَيْ مُدَّةَ الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ - مَا دَامُوا فِيهَا ; لِأَنَّ دُخُولَهَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ وَالْحَرْبَ، وَلَيْسُوا لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَالُوا لِمُوسَى مَا مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ أَخْرَجْتَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِأَمْرِ رَبِّكَ ; لِنَسْكُنَ هَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِتَالِ وَأَنَّنَا لَا نُقَاتِلُ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ الَّذِي أَمَرَكَ بِذَلِكَ، فَقَاتِلَا الْجَبَّارِينَ، وَاسْتَأْصِلَا شَأْفَتَهُمْ، أَوِ اهْزِمَاهُمْ وَأَخْرِجَاهُمْ مِنْهَا، إِنَّا هَاهُنَا مُنْتَظِرُونَ وَمُتَوَقِّفُونَ، أَوْ قَاعِدُونَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالى: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ٩: ٤٦) وَقَوْلِهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ) (٤: ٩٥) الْآيَةَ. وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ حَمْلَ هَذَا الْقَوْلِ السَّمِجِ الْخَارِجِ مِنْ حُدُودِ الْآدَابِ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَلِيقُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ ; كَكَوْنِ الْمُرَادِ بِذَهَابِ الرَّبِّ إِعَانَتَهُ وَنَصْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَاجَةَ إِلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَكَانَ مِنْ فَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَجَفَاءِ طِبَاعِهِمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَشَدَّ التَّأْيِيدِ، تَارَةً بِالْإِجْمَالِ،
وَتَارَةً بِأَوْسَعِ التَّفْصِيلِ. وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ صَفْوَةَ الْوَقَائِعِ، وَمَحَلَّ الْعِبْرَةِ فِيهَا، لَا تَرْجَمَةَ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ بِحُرُوفِهَا، وَشَرْحَ الْأَعْمَالِ بِبَيَانِ جُزْئِيَّاتِهَا، فَمَا يَقُصُّهُ مِنْ أُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ الْوَاقِعُ وَرُوحُ مَا صَحَّ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ تَصْحِيحُ مَا حُرِّفَ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى التَّمَرُّدِ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ وَالْجَفَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْوِيلِهَا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُورَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ إِنْشَاءٌ، فَهُوَ مِنْ بَثِّ الْحُزْنِ وَالشَّكْوَى إِلَى اللهِ، وَالِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَالتَّنَصُّلِ مِنْ
(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) الْفَرْقُ: الْفَلْقُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَضَاءِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ قِسْمَانِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ هُنَا: فَافْصِلْ بَيْنَنَا - يَعْنِي نَفْسَهُ وَأَخَاهُ - وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُمْ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِقَضَاءٍ تَقْضِيهِ بَيْنَنَا، إِذْ صِرْنَا خَصْمًا لَهُمْ وَصَارُوا خَصْمًا لَنَا، وَقِيلَ مَعْنَاهَا: إِذَا أَخَذْتَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى فُسُوقِهِمْ، فَلَا تُعَاقِبْنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ قَالَ اللهُ لِمُوسَى
مُجِيبًا لِدُعَائِهِ إِجَابَةً مُتَّصِلَةً بِهِ: فَإِنَّهَا - أَيِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ - مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَحْرِيمًا فِعْلِيًّا، لَا تَكْلِيفِيًّا شَرْعِيًّا، مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ يَسِيرُونَ فِي بَرِّيَّةٍ مِنَ الْأَرْضِ، تَائِهِينَ مُتَحَيِّرِينَ، لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَنْتَهُونَ فِي سَيْرِهِمْ، فَالتِّيهُ: الْحَيْرَةُ، يُقَالُ: تَاهَ يَتِيهُ، وَيَتُوهُ لُغَةٌ، وَيُقَالُ: مَفَازَةٌ تَيْهَاءُ: إِذَا كَانَ سَالِكُوهَا يَتَحَيَّرُونَ فِيهَا لِعَدَمِ الْأَعْلَامِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا. وَالتَّحْرِيمُ: الْمَنْعُ. (فَلَا تَأَسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ مُسْتَحِقُّونَ لِهَذَا التَّأْدِيبِ الْإِلَهِيِّ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا وَحِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَحَقِيقَتُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ الْغَمَّ، يُقَالُ: أَسِيتُ عَلَيْهِ أَسًى، وَأَسِيتُ لَهُ.
ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا أَمْرَ رَبِّهِمْ سَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وُجُوهِهِمَا أَمَامَهُمْ، وَأَنَّ يُوشَعَ وَكَالَبَ مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَنَهَيَا الشَّعْبَ عَنِ التَّمَرُّدِ، وَعَنِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَّارِينَ لِيُطِيعَ، فَهَمَّ الشَّعْبُ بِرَجْمِهِمَا، وَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ لِمُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ (١١ وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟
احْتَقَرْتُمُوهَا ٣٢ فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هَذَا الْقَفْرِ ٣٣، وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي الْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي الْقَفْرِ ٣٤ كَعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ ; أَيْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي ٣٥ أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ لَأَفْعَلَنَّ هَذَا بِكُلِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ، فِي هَذَا الْقَفْرِ يَفْنَوْنَ، وَفِيهِ يَمُوتُونَ).
لَا نَبْحَثُ هُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي أَثْبَتْنَاهَا، وَلَا فِي تَرْكِ مَا تَرَكْنَاهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَاتِبِ هَذِهِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَإِنَّمَا نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ شَاهِدًا، وَنَقُولُ كَلِمَةً فِي حِكْمَةِ هَذَا الْعِقَابِ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهِيَ:
إِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي تَنْشَأُ فِي مَهْدِ الِاسْتِبْدَادِ، وَتُسَاسُ بِالظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا، وَتَذِلُّ نُفُوسُهَا، وَيَذْهَبُ بِأْسُهَا، وَتُضْرَبُ عَلَيْهَا الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَتَأْلَفُ الْخُضُوعَ، وَتَأْنَسُ بِالْمَهَانَةِ وَالْخُنُوعِ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا أَمَدُ الظُّلْمِ تَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مَوْرُوثَةً وَمُكْتَسَبَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالطَّبَائِعِ الْخِلْقِيَّةِ. إِذَا أَخْرَجْتَ صَاحِبَهَا مِنْ بِيئَتِهَا وَرَفَعْتَ عَنْ رَقَبَتِهِ نِيرَهَا، أَلْفَيْتَهُ يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، وَيَتَفَلَّتُ مِنْكَ لِيَتَقَحَّمَ فِيهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ مَا يَأْلَفُونَهُ، وَيَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِهِدَايَتِهِ وَضَلَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ " مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ
أَفْسَدَ ظُلْمُ الْفَرَاعِنَةِ فِطْرَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا طَابَعَ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَقَدْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُرِ أَحَدًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْعَذَابِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَالْعِزِّ وَالنَّعِيمِ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُمْ
نَصَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ كُلِّفُوا أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَيَتَمَلْمَلُونَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مِصْرَ وَيَحِنُّونَ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، وَلَمَّا غَابَ عَنْهُمْ أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، اتَّخَذُوا لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَعَبَدُوهُ، لِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِكْبَارِ سَادَتِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِعْظَامِ مَعْبُودِهِمُ الْعِجْلِ (أَبِيسَ) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا تُطِيعُهُمْ نُفُوسُهُمُ الْمَهِينَةُ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ وَعْدَهُ تَعَالَى لِأَجْدَادِهِمْ إِنَّمَا يِتِمُّ عَلَى وِفْقِ سُنَّتِهِ فِي طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، إِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي الْوَثَنِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَنَشَأَ بَعْدَهُ جِيلٌ جَدِيدٌ فِي حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَعَدْلِ الشَّرِيعَةِ وَنُورِ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ قَوْمًا بِذُنُوبِهِمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ عَجَائِبَ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا آخَرِينَ، جَعَلَهُمْ هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ بِهِمَمِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُوَافِقَةِ لِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ ; فَهَذَا بَيَانُ حِكْمَةِ عِصْيَانِهِمْ لِمُوسَى بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَحِكْمَةِ حِرْمَانِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْجِيلِ مِنْهُمْ مَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ.
فِعْلَيْنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) جَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَشَأْنِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ بَيَّنَ قِصَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَصَوْا رَبَّهُمْ فِيمَا كَلَّفَهُمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَبَيَّنَ مَا شَرَعَهُ اللهُ مِنْ جَزَاءِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَيُهَدِّدُونَ الْأَمْنَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ عِقَابِ السَّرِقَةِ.
فَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِلسِّيَاقِ فِي جُمْلَتِهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِكَوْنِ الْحَسَدِ الَّذِي صَرَفَ الْيَهُودَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَهُمْ عَلَى عَدَاوَتِهِ عَرِيقًا فِي الْآدَمِيِّينَ وَأَثَرًا مِنْ آثَارِ
وَأَضَرُّ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ الدِّينِ أَنَّ يُبَيِّنَ لَنَا حِكْمَةَ ذَلِكَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، تُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اعْتِدَاءَ بَعْضِ الْبَشَرِ عَلَى بَعْضٍ - حَتَّى بِالْقَتْلِ - هُوَ أَصِيلٌ فِيهِمْ، وَقَعَ بَيْنَ أَبْنَاءِ أَبِيهِمْ آدَمَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَعَدُّدِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، حَسَبَ إِرَادَتِهِمُ التَّابِعَةِ لِعِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ، وَكَوْنِ عُلُومِهِمْ وَظُنُونِهِمْ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَكَوْنِهَا لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْإِحَاطَةِ بِمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، وَكَذَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْكَمَالِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ حَسَدِ النَّاقِصِ لِمَنْ يَفُوقُهُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْحَاسِدِ يَبْغِي إِنْ قَدَرَ، مَا لَمْ يَزَعْهُ الدِّينُ أَوْ يَمْنَعْهُ الْقَدْرُ، وَهُوَ لَا يَبْغِي وَلَا يَقْتُلُ إِلَّا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنْوَهُ بِقَدْرِهِ وَأَرْفَعُ، وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ لَا يَزُولُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَحَاطَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ عِلْمًا بِكُلِّ شُئُونِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَارْتِبَاطِ الْمَنَافِعِ الشَّخْصِيَّةِ بِمَنَافِعِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَامُوا الدِّينَ الْقَيِّمَ كُلُّهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ تَأْبَاهُ، فَهُمْ يُخْلَقُونَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْعِلْمِ، وَمَا يَرِدُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ صُوَرِ الْمَعْلُومَاتِ بِأَنْوَاعِهَا يَخْتَلِفُ، وَمَا يَتَّحِدُ مِنْهُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ ; فَالِاخْتِلَافُ فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ وَالشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ طَبِيعِيٌّ فِيهِمْ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ النَّافِعَةِ اشْتِغَالُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ، وَبِذَلِكَ يُظْهِرُونَ أَسْرَارَ اللهِ وَحِكَمِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الضَّارَّةِ التَّخَاصُمُ وَالتَّقَاتُلُ. لِأَجْلِ هَذَا صَارُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الْحُكَّامِ وَالشَّرَائِعِ. وَكَانَ مِنْ عَدْلِ الشَّرِيعَةِ أَنْ تَبْنِيَ أَحْكَامَ قَتْلِ الْأَفْرَادِ وَقِتَالِ الشُّعُوبِ عَلَى قَوَاعِدَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (٢: ٢٥١) فَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) (٥: ١١) الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ) (٥: ١٨) الْآيَةَ، وَمَا قُلْنَاهُ أَكْمَلُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، قَالَ تَعَالَى:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الْأَصْلُ لِمَعْنَى مَادَّةِ (ت ل و) التَّبَعُ ;
فَالتِّلْوُ - بِالْكَسْرِ - وَلَدُ النَّاقَةِ وَالشَّاةِ إِذَا فُطِمَ وَصَارَ يَتْبَعُهَا، وَكُلُّ مَا يَتْبَعُ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ يُقَالُ: هُوَ تِلْوُهُ. وَيُقَالُ
وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَاتْلُ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ النَّاسِ، ذَلِكَ النَّبَأَ الْعَظِيمَ، نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ، تِلَاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالْحَقِّ مُظْهِرَةً لَهُ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ كَمَا وَقَعَ، مُبَيِّنًا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْكَشْفِ عَنْ غَرِيزَةِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّحَاسُدِ وَالْبَغْيِ وَالْقَتْلِ ; لِيَعْلَمُوا حِكْمَةَ اللهِ فِيمَا شَرَعَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِقَابِ الْبَاغِينَ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَكَوْنَ هَذَا الْبَغْيِ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَسَدِهِمْ وَبَغْيِهِمْ، فَهُمْ فِي هَذَا كَابْنَيْ آدَمَ ; إِذْ حَسَدَ شَرُّهُمَا خَيْرَهُمَا، فَبَغَى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ مَا بَيَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الِابْنَيْنِ هُمَا ابْنَا آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَعَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُمَا أَوَّلُ أَوْلَادِ آدَمَ، اسْمُ أَحَدِهِمَا قَايِنُ أَوْ قَايِينُ، وَهُوَ الْبِكْرُ، وَيَقُولُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ مِنَّا: قَابِيلُ - وَهُوَ الْقَاتِلُ - وَاسْمُ الثَّانِي هَابِيلُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ غَرِيبَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ مِثْلُهَا إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَهِيَ لَمْ تُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِ اللهِ ; وَمِنْهَا أَنَّ آدَمَ رَثَى هَابِيلَ بِشِعْرٍ عَرَبِيٍّ، فَنُعْرِضُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَصِحُّ وَلَا تُفِيدُ، وَوَصْفُ مَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَقِّ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا يَلُوكُهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِمَّا سِوَاهُ بَاطِلٌ.
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) أَيِ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَهُمَا؛ أَيْ وَقْتَ تَقْرِيبِهِمَا الْقُرْبَانَ، وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَالْقُرْبَانُ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا، وَغَلَبَ عِنْدَنَا فِي ذَبَائِحِ النُّسُكِ ; كَالْأَضَاحِي، وَكَانَتِ الْقَرَابِينُ عِنْدَ الْيَهُودِ أَنْوَاعًا (مِنْهَا) : الْمُحَرَّقَاتُ لِلتَّكْفِيرِ عَنِ الْخَطَايَا، وَهِيَ ذُكُورُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ السَّالِمَةُ مِنَ الْعُيُوبِ. وَالذَّبَائِحُ عَنِ الْخَطَايَا: عَنِ الْخَطَايَا الْعَامَّةِ وَالْخَطَايَا الْخَاصَّةِ (وَمِنْهَا) : ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ لِشُكْرِ الرَّبِّ تَعَالَى (وَمِنْهَا) : التَّقَدِمَاتُ مِنَ الدَّقِيقِ وَالزَّيْتِ وَاللُّبَانِ (وَمِنْهَا) تَقْدِمَةُ التَّرْدِيدِ مِنْ بَاكُورَةِ الْأَرْضِ. وَأَمَّا الْقُرْبَانُ عِنْدَ النَّصَارَى فَهُوَ مَا يُقَدِّمُهُ الْكَاهِنُ مِنَ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ، فَيَتَحَوَّلُ فِي اعْتِقَادِهِمْ
(قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) أَيْ إِنَّ مَنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ تَوَعَّدَ أَخَاهُ وَأَقْسَمَ لَيَقْتُلَنَّهُ، فَأَجَابَهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ وَأَنْفَعَهُ: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أَيْ لَا يَقْبَلُ اللهُ الصَّدَقَاتِ
وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْقَبُولَ الْمَقْرُونَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِلَّا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى، فَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ سَبَبِ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ مَعَ الِاعْتِذَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَمْ أُذْنِبْ إِلَيْكَ ذَنْبًا تَقْتُلُنِي بِهِ، فَإِنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ، فَحَاسِبْهَا عَلَى السَّبَبِ، فَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ; أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْأَصْغَرَ، وَهُوَ الرِّيَاءُ وَالشُّحُّ وَاتِّبَاعُ الْأَهْوَاءِ، فَاحْمِلْ نَفْسَكَ عَلَى تَقْوَى اللهِ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعَمَلِ، ثُمَّ تَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِالطَّيِّبَاتِ يَتَقَبَّلْ مِنْكَ، فَاللهُ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٣: ٩٢) فَلْيَتَّعِظْ بِهَذَا أَهْلُ الْغُرُورِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا النَّفَقَاتُ الَّتِي يُرَاءُونَ بِهَا النَّاسَ، وَيَبْغُونَ بِهَا الصِّيتَ وَالثَّنَاءَ.
ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَقِّ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، بَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ مَا يَجِبُ لِلنَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا الْإِخْوَةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنِ احْتِرَامِ الدِّمَاءِ وَحِفْظِ الْأَنْفُسِ، فَقَالَ: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أَيْ بَيَّنَ لَهُ حَالَهُ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَدَمِ مُقَابَلَتِهِ عَلَى جِنَايَتِهِ بِمِثْلِهَا، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْقَسَمِ، وَبِجُمْلَةِ النَّفْيِ الِاسْمِيَّةِ
آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُبِيحُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ. وَالدِّفَاعُ قَدْ يَكُونُ بِمَا دَونَ الْقَتْلِ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ; فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ ! قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّأْمِينِ وَالْوَعْظِ الْبَلِيغِ لَا يُؤَثِّرُ فِي كُلِّ نَفْسٍ قَفَّى عَلَيْهِ هَذَا الْأَخُ الْبَارُّ بِالتَّذْكِيرِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أَيْ إِنِّي أُرِيدُ بِمَا ذَكَرْتُ مِنِ اتِّقَاءِ مُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ بِمِثْلِهَا أَنْ تَرْجِعَ أَنْتَ إِنْ فَعَلْتَهَا مُتَلَبِّسًا بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ; أَيْ إِثْمِ قَتْلِكَ إِيَّايَ وَإِثْمِكَ الْخَاصِّ بِكَ، الَّذِي كَانَ مِنْ شُؤْمِهِ عَدَمُ قَبُولِ قُرْبَانِكَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْقَاتِلِ يَحْمِلُ فِي الْآخِرَةِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَهُ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ ; لِأَنَّ الذُّنُوبَ وَالْآثَامَ الَّتِي فِيهَا حُقُوقٌ لِلْعِبَادِ، لَا يَغْفِرُ اللهُ تَعَالَى مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يَأْخُذَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ فِي الْآخِرَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ مَا يُسَاوِي حَقَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي ذَلِكَ، أَوْ يَحْمِلُ الظَّالِمُ مِنْ آثَامِ الْمَظْلُومِ وَأَوْزَارِهِ مَا يُوَازِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ آثَامٌ أَوْ أَوْزَارٌ، وَمَا نَقَصَ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ يُسْتَعَاضُ عَنْهُ بِمَا يُوَازِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَفِي ذِكْرِ الْمُتَكَلِّمِ إِثْمَهُ وَإِثْمَ أَخِيهِ تَوَاضُعٌ وَهَضْمٌ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْإِثْمِ إِلَيْهَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَتَذْكِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ تُوَازِي هَذَا الظُّلْمَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) أَيْ تَكُونَ بِمَا حَمَلْتَ مِنَ الْإِثْمَيْنِ مِنْ
وَإِثْمَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْقِصَاصِ وَالْجَزَاءِ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِعَذَابِ النَّارِ وَكَوْنِهَا مَثْوًى لِلظَّالِمِينَ الْفُجَّارِ، فَمَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْحَاسِدِ الظَّالِمِ؟ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) فَسَّرُوا طَوَّعَتْ بِشَجَّعَتْ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَبِوَسَّعَتْ وَسَهَّلَتْ وَزَيَّنَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ اللُّغَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يُشِيرُ إِلَى حَاصِلِ الْمَعْنَى فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا شَرَحَ بَلَاغَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِبَعْضِ مَا أَجِدُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِي، وَإِنَّهَا لَبِمَكَانٍ مِنَ الْبَلَاغَةِ يُحِيطُ بِالْقَلْبِ وَيَضْغَطُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) إِنَّنِي أَكْتُبُ الْآنَ، وَقَلْبِي يَشْغَلُنِي عَنِ الْكِتَابَةِ بِمَا أَجِدُ لَهَا فِيهِ مِنَ الْأَثَرِ وَالِانْفِعَالِ. إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى تَدْرِيجٍ وَتَكْرَارٍ فِي حَمْلِ الْفِطْرَةِ عَلَى طَاعَةِ الْحَسَدِ الدَّاعِي إِلَى الْقَتْلِ ; كَتَذْلِيلِ الْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تُمَثِّلُ - لِمَنْ يَفْهَمُهَا - وَلَدَ آدَمَ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ حَسَدُهُ لِأَخِيهِ قَتْلَهُ، وَهُوَ بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، يُفَكِّرُ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ أَخِيهِ الْحِكَمِيَّةِ، فَيَجِدُ فِي كُلٍّ مِنْهَا صَارِفًا لَهُ عَنِ الْجَرِيمَةِ، يُدَعِّمُ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ صَوَارِفِ الْعَقْلِ وَالْقَرَابَةِ وَالْهَيْبَةِ، فَكَرَّ الْحَسَدُ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ عَلَى كُلِّ صَارِفٍ فِي نَفْسِهِ اللَّوَّامَةِ، فَلَا يَزَالَانِ يَتَنَازَعَانِ وَيَتَجَاذَبَانِ حَتَّى يَغْلِبَ الْحَسَدُ كُلًّا مِنْهَا وَيَجْذِبَهُ إِلَى الطاعَةِ، فَإِطَاعَةُ صَوَارِفِ الْفِطْرَةِ وَصَوَارِفِ الْمَوْعِظَةِ لِدَاعِي الْحَسَدِ هُوَ التَّطَوُّعُ الَّذِي عَنَاهُ اللهُ تَعَالَى. فَلَمَّا تَمَّ كُلُّ ذَلِكَ قَتَلَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِمُقْتَضٍ، فَنَحْنُ نَرَى مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاخْتِبَارِ الْقُضَاةِ لِلْجُنَاةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِقَتْلِ أَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ الْقَرِيبِ أَوِ الْبَعِيدِ (آدَمَ) يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ صَارِفًا، أَوْ عِدَّةَ صَوَارِفَ تَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَيَتَعَارَضُ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي فِي نَفْسِهِ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، حَتَّى تُطَوِّعَ لَهُ نَفْسُهُ الْقَتْلَ بِتَرْجِيحِ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ عَلَى الْمَوَانِعِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْتُلُ إِنْ قَدَرَ. فَالتَّطْوِيعُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ كَتَذْلِيلِ الْحَيَوَانِ الصَّعْبِ، وَتَعْلِيمِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْرَارُ لِأَجْلِ إِطَاعَةِ مَانِعٍ أَوْ صَارِفٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِطَاعَةِ عِدَّةِ صَوَارِفَ وَمَوَانِعَ،
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي قِيلَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى
(فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَتْلُ أَوَّلَ قَتْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْقِ - أَيِ الْإِنْسَانِ - مَوْكُولًا إِلَى كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي عَامَّةِ أَعْمَالِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ كَيْفَ يُوَارِي جُثَّةَ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، الَّتِي يَسُوؤُهُ أَنْ يَرَاهَا بَارِزَةً - فَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ ظُهُورُهُ، وَرُؤْيَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَقْتُولُ، يَسُوءُ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُوحِشُهُ - وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَتُلْهَمُ عَمَلَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلْهَامًا فِي الْأَكْثَرِ، وَقَلَّمَا يَتَعَلَّمُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ شَيْئًا. وَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ تَعَلَّمَ دَفْنَ أَخِيهِ مِنَ الْغُرَابِ، وَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَانَ فِي مُنْتَهَى السَّذَاجَةِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَانَ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَاخْتِبَارًا وَيَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ غُرَابًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَبَحَثَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ حَفَرَ بِرِجْلَيْهِ فِيهَا، يُفَتِّشُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الطَّيْرَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْغُرَابَ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَالَ " يَبْحَثُ " وَلَمْ يَقُلْ بَحَثَ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ، فَلَمَّا أَطَالَ الْبَحْثَ أَحْدَثَ حُفْرَةً فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْحُفْرَةَ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِ مُوَارَاةِ سَوْءَةِ أَخِيهِ، زَالَتِ الْحَيْرَةُ، وَاهْتَدَى إِلَى مَا يَطْلُبُ، وَهُوَ دَفْنُ أَخِيهِ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ، فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنِ اللهَ بَعَثَ غُرَابَيْنِ لَا وَاحِدًا، وَإِنَّهُمَا اقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ حُفْرَةً أَلْقَاهُ فِيهَا، وَمَا جَاءَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي مَصْدَرُهَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ، عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ
الْغُرَابِ وَالدَّفْنِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، لَا فَائِدَةَ لَهَا وَلَا صِحَّةَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرِيَهُ) لِلتَّعْلِيلِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللهِ تَعَالَى ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْغُرَابَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ ابْنُ آدَمَ مِنْهُ الدَّفْنَ، وَلِلصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ ; أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ بَحْثِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْغُرَابَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الدَّفْنِ، وَظَهَرَ لَهُ مِنْ ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ (قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " يَاوَيْلَتَا " كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ: وَقَوْلُ الْعَرَبِ فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ كَذَا وَأَجْلَ كَذَا (بِفَتْحِ اللَّامِ) وَمِنْ أَجْلَاكَ (وَتُكْسَرُ الْهَمْزَةُ فِيهِمَا) قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: " وَالْأَصْلُ فِي قَوْلِهِمْ فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ: أَجَلَ عَلَيْهِمْ أَجَلًا ; أَيْ جَنَى وَجَرَّ " ثُمَّ قَالَ: وَأَجَلَ عَلَيْهِمْ شَرًّا يَأْجُلُهُ (بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا)
أَجَلًا: جَنَاهُ وَهَيَّجَهُ، وَأَوْرَدَ شَوَاهِدَ مِنَ الشِّعْرِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: أَجَلْتُ عَلَيْهِمْ آجُلُ أَجَلًا ; أَيْ جَرَرْتُ جَرِيرَةً، قَالَ أَبُو عُمَرَ: يُقَالُ: جَلَبْتُ عَلَيْهِمْ وَجَرَرْتُ وَأَجَلْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ ; أَيْ جَنَيْتُ، وَأَجَلَ لِأَهْلِهِ بِأَجَلٍ: كَسَبَ وَجَمَعَ وَاحْتَالَ، انْتَهَى. وَزَادَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ قَيْدًا فِي تَعْرِيفِ الْأَجَلِ، فَقَالَ: الْأَجَلُ: الْجِنَايَةُ الَّتِي يَخَافُ مِنْهَا آجِلًا، فَكُلُّ أَجَلٍ جِنَايَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ أَجَلًا، يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أَيْ مِنْ جَرَّائِهِ. انْتَهَى.
وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَيْدِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ كُلِّ جِنَايَةٍ أَنْ يُخَافَ آجِلُهَا وَتُحْذَرَ عَاقِبَتُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الشَّوَاهِدَ وَالْأَقْوَالَ يُرَجِّحُ مَعِي أَنَّ الْأَجَلَ هُوَ جَلْبُ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ عَاقِبَةٌ أَوْ ثَمَرَةٌ، وَكَسْبُهُ أَوْ تَهْيِيجُهُ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ، وَقَدْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ حَسَنَةً كَقَوْلِهِمْ: أَجَلَ لِأَهْلِهِ، وَغَلَبَ الْفِعْلُ فِي الرَّدِيءِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ عُدِّيَ بِاللَّامِ كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الْعَيْسِيِّ:
فَإِنْ تَكُ أُمُّ ابْنِي زَمِيلَةُ أَثْكَلَتْ | فَيَا رُبَّ أُخْرَى قَدْ أَجَلْتَ لَهَا ثَكْلَا |
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ | إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي |
وَوَسَلَ فُلَانٌ إِلَى اللهِ وَسِيلَةً، إِذَا عَمِلَ عَمَلًا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَالْوَاسِلُ الرَّاغِبُ، قَالَ لَبِيدٌ:
أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِمْ | بَلَى كُلُّ ذِي رَأْيٍ إِلَى اللهِ وَاسِلُ |
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ، أَيِ الْأَذَانَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ. حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ "، وَتَفْسِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَسِيلَةِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ الْخَاصَّةَ هِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ، فَمَنْ دَعَا اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّفَاعَةِ، وَهِيَ دُعَاءٌ أَيْضًا، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَالْوَسِيلَةُ فِي الْحَدِيثِ اسْمٌ لِمَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ مُعَيَّنَةٍ، وَفِي الْقُرْآنِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ.
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) أَيْ جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِكَفِّهَا عَنِ الْأَهْوَاءِ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَجَاهِدُوا أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ دَعْوَتَهُ وَهِدَايَتَهُ لِلنَّاسِ ; فَالْجِهَادُ مِنَ الْجَهْدِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ ; فَكُلُّ جَهْدٍ يَحْمِلُهُ الْإِنْسَانُ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ، أَوْ فِي تَقْرِيرِهَا وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا، فَهُوَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيِ اتَّقُوا مَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَابْتَغَوْا مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَرْضَاةِ اللهِ وَقُرْبِهِ، وَاحْتَمِلُوا الْجَهْدَ وَالْمَشَقَّةِ فِي سَبِيلِهِ رَجَاءَ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ وَالسَّعَادَةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
" وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ، فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّلَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَالتَّوَسُّلُ بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، يُرَادُ بِهِ الْإِقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ، كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ.
" وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّلِ بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ، فَأَمَّا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ الصَّحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَحَدُهُمَا
هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ، وَالثَّانِي دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَانِ جَائِزَانِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا "؛ أَيْ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أَيِ الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ، قَالَ تَعَالَى:
" فَلَفَظُ التَّوَسُّلِ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ (أَحَدُهَا) : التَّوَسُّلُ بِطَاعَتِهِ، فَهَذَا فَرْضٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ (وَالثَّانِي) : التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَوَسَّلُونَ بِشَفَاعَتِهِ (وَالثَّالِثُ) : التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللهِ بِذَاتِهِ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ، لَا عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
" وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَنَهَوْا عَنْهُ ; حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الْكَرْخِيِّ فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ إِلَّا بِهِ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، أَوْ بِحَقِّ خَلْقِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ، هُوَ اللهُ، فَلَا أَكْرَهُ هَذَا، وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ
وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الْمَسْأَلَةُ بِحَقِّهِ لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ ; فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا.
" وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقٍ، لَهُ مَعْنَيَانِ (أَحَدُهُمَا) : هُوَ مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ أَنْ يُقْسِمَ أَحَدٌ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ إِذَا مُنِعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْخَالِقِ بِمَخْلُوقٍ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذَا بِخِلَافِ إِقْسَامِهِ، سُبْحَانَهُ، بِمَخْلُوقَاتِهِ ; كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِمَخْلُوقَاتِهِ يَتَضَمَّنُ مِنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ مَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِقْسَامُهُ، بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ إِقْسَامَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ شِرْكٌ بِخَالِقِهَا، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ". وَقَدْ
" وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: هِيَ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: لَأَنْ أَحَلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ صَادِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ النِّزَاعَ فِي الْحَلِفِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَتَانِ: (إِحْدَاهُمَا) لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ.
(وَالثَّانِيَةُ) يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي وَأَتْبَاعِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَافَقَ هَؤُلَاءِ،
وَقَصَرَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَعَدَّى ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا الْحُكْمَ إِلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْحَلِفِ بِمَخْلُوقٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْغَايَةِ، مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالنُّصُوصِ، فَالْإِقْسَامُ بِهِ عَلَى اللهِ وَالسُّؤَالُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ، هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ.
" وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ، لَا بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(أَحَدُهُمَا) : الْإِقْسَامُ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
(وَالثَّانِي) السُّؤَالُ بِهِ، فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، كُلُّهُ ضَعِيفٌ، بَلْ مَوْضُوعٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إِلَّا حَدِيثَ الْأَعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: " أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ".
" وَحَدِيثُ الْأَعْمَى لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَسَّلَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَوْلُهُ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنِ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إِلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ، وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَالِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
دُونَ الْإِقْسَامِ بِهِمْ ; لِأَنَّ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْإِقْسَامِ فَرْقًا ; فَإِنَّ السَّائِلَ مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَلُ بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الْإِجَابَةَ، وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ، وَالْمُقْسِمُ لَا يُقْسِمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبِرُّ قَسَمَهُ، فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا إِجَابَةُ السَّائِلِينَ فَعَامٌّ، فَإِنَّ اللهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَنْ نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ " (ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ).
" وَهَذَا التَّوَسُّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَالِ بِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ السَّبِّ، فَمَنْ نَقَلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّلَ بِهِ، بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ بِهِ أَوِ السُّؤَالِ بِهِ، فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مَالِكٌ إِنَّ هَذَا سَبٌّ لِلرَّسُولِ أَوْ تَنْقُصٌ بِهِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلدَّاعِي أَنْ يَقُولَ: يَا سَيِّدِي سَيِّدِي! وَقَالَ: قُلْ كَمَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ: " يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا كَرِيمُ "، وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ: يَا حَنَّانُ، يَا مَنَّانُ! فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَأْثُورٍ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ ; إِذْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عِنْدَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللهُ بِمَخْلُوقٍ، نَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَجْدَبُوا عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَسْأَلُوا اللهَ بِمَخْلُوقٍ، لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ قَالَ عُمَرُ: " اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا "، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَجْدَبُوا إِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِسْقَائِهِ،
لَقَالُوا لِعُمَرَ: إِنِ السُّؤَالَ وَالتَّوَسُّلَ بِهِ أَوْلَى مِنَ السُّؤَالِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْعَبَّاسِ، فَلِمَ نَعْدِلُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي كُنَّا نَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ، إِلَى أَنْ نَتَوَسَّلَ بِبَعْضِ أَقَارِبِهِ؟ وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَعُدُولٌ عَنِ الْأَفْضَلِ، وَسُؤَالُ اللهِ تَعَالَى بِأَضْعَفِ السَّبَبَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَعْلَاهُمَا، وَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ غَايَةَ الِاضْطِرَارِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْجَدْبِ، وَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ فَعَلَ مِثْلَهُ مُعَاوِيَةُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَتَوَسَّلُوا بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ، كَمَا تَوَسَّلَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ.
" وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدُعَاءِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ مِنْ أَقَارِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ، اقْتِدَاءً بِعُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُسْأَلُ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ ; لَا بِنَبِيٍّ وَلَا بِغَيْرِ نَبِيٍّ.
" وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَالَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، أَوْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ مَالِكٍ ; كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا - فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ يَنْقُلُ هَذَا، وَيَسْتَنِدُ إِلَى حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَمْ يَكُنِ التَّوَسُّلُ الَّذِي فِيهَا هُوَ هَذَا، بَلْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِشَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحَرِّفُ نَقْلَهَا، وَأَصْلُهَا ضَعِيفٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِيطَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا فَلْيَقْرَأْ كِتَابَ (قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ فِي التَّوَسُّلِ وَالْوَسِيلَةِ) كُلَّهُ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ الْجَامِعُ فَهُوَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ مَا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَرْجُو أَنْ تَصِلَ بِهِ إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ لَكَ لِتَزْكِيَةِ نَفْسِكَ؛ إِذْ جَعَلَ مَدَارَ الْفَلَاحِ عَلَى تَزْكِيَتِهَا. وَالتَّوَسُّلُ هُوَ ابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ، الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا ; أَيِ الْعَمَلُ بِالْمَشْرُوعِ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللهِ فِي جُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ عَلَى أَنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (٥٣: ٣٩ - ٤١) (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) (٢٠: ١٥) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(٢٧: ٩٠). نَعَمْ، دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِ لِغَيْرِهِ قَدْ يَنْفَعُهُ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا اللهَ وَسَأَلَهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهَا فَلَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ، وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
أَلَّا تَعِيشَ بِأَخْلَاقِ غَيْرِكَ، وَلَا بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، وَهِيَ دَارُ الْكَسْبِ وَالتَّعَاوُنِ، فَكَيْفَ يَنْفَعُكَ إِيمَانُ غَيْرِكَ وَصَلَاحُهُ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢: ١٩) ؟
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ مَدَارِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَقْوَى اللهِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ. فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ مَدَارَ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لَا عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا، كَمَا يَتَوَهَّمُ الْكُفَّارُ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَبَذَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِيَكُونَ فِدَاءً لَهُمْ يَفْتَدُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَتَقَبَّلُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَلَا يُنْقِذُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ ; لِأَنَّ سُنَّتَهُ الْحَكِيمَةَ قَدْ مَضَتْ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاةِ
(يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) يُرِيدُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ دَارِ الْعَذَابِ وَالشَّقَاءِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنْهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ بِالْبَاءِ، ثُمَّ أَكَّدَ مَضْمُونَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لَهُمْ، وَالْمُقِيمُ هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يُظْعِنُ، وَالْآيَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ ; إِذْ مِنْ شَأْنِ مَنْ سَمْعِ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنْ تَسْتَشْرِفَ نَفْسُهُ لِلسُّؤَالِ عَنْ حَالِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ فِدَاءٌ مَهْمَا جَلَّ وَعَظُمَ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْجَوَابِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الْمُحَارِبُونَ: الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ جَهْرَةً، وَيَنْتَزِعُونَهَا مِنْهُمْ
وَالْوَصْفُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، فَقَرَنَ خَبَرَهُ بِالْفَاءِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ
عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّنْبَيْنِ يَقَعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَرَادَ اللهُ زَجْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَتَغْلِيبِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَضَمَائِرِهَا فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهِ الرِّجَالَ ; كَالْإِمَامَةِ وَالْقِتَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْيَدِ أَنَّهَا الْكَفُّ إِلَى الرُّسْغِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: (وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (٥: ٦) وَإِنَّمَا تَقَعُ السَّرِقَةُ بِالْكَفِّ مُبَاشَرَةً، وَالسَّاعِدُ وَالْعَضُدُ يَحْمِلَانِ الْكَفَّ كَمَا يَحْمِلُهُمَا مَعَهَا الْبَدَنُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ الْيَدَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِيقَاعُ الْعَذَابِ عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَاشِرِ لِلْجَرِيمَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ; لِأَنَّ التَّنَاوُلَ يَكُونُ بِهَا إِلَّا مَا شَذَّ.
(جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْحَدِّ ; أَيِ اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً لَهُمَا بِعَمَلِهِمَا وَكَسْبِهِمَا السَّيِّئِ، وَنَكَالًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمَا ; فَالنَّكَالُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّكْلِ، وَهُوَ بِالْكَسْرِ قَيْدُ الدَّابَّةِ، وَنَكَلَ عَنِ الشَّيْءِ: عَجَزَ أَوِ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ صَرَفَهُ عَنْهُ، فَالنَّكَالُ هُنَا: مَا يُنَكِّلُ النَّاسَ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَسْرِقُوا. وَلَعَمْرِ الْحَقِّ إِنَّ قَطْعَ الْيَدِ الَّذِي يَفْضَحُ صَاحِبَهُ طُولَ حَيَاتِهِ، وَيَسِمُهُ بِمَيْسَمِ الذُّلِّ وَالْعَارِ هُوَ أَجْدَرُ الْعُقُوبَاتِ بِمَنْعِ السَّرِقَةِ وَتَأْمِينِ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ كَثِيرًا مَا تَتْبَعُ الْأَمْوَالَ إِذَا قَاوَمَ أَهْلُهَا السُّرَّاقَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمْ (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَهُوَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي صُنْعِهِ وَفِي شَرْعِهِ، فَهُوَ يَضَعُ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ بِحَسَبَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ.
الْعُرُوضَ تُقَوَّمُ بِمَا كَانَ غَالِبًا فِي نُقُودِ أَهْلِ الْبَلَدِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ وَفِي هَذَا الْخِلَافِ فِي التَّقْدِيرِ، حَدِيثُ عَائِشَةَ " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلنَّسَائِيِّ مَرْفُوعًا " لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ، قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا ثَمَنُ الْمِجَنِّ؟ قَالَتْ: رُبُعُ دِينَارٍ "، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الثَّلَاثِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ " وَفِي رِوَايَةٍ " قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ " وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنِ الْأَعْمَشَ رَاوِيَهُ فَسَّرَ الْبَيْضَةَ بِبَيْضَةِ الْحَدِيدِ الَّتِي تُلْبَسُ لِلْحَرْبِ، وَهِيَ كَالْمِجَنِّ (التُّرْسِ) وَقَدْ يَكُونُ ثَمَنُهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النِّصَابَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَأَكْثَرُ، وَلَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي تَقْدِيرِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَجَّحُوهَا عَلَى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ بِإِدْخَالِهَا فِي عُمُومِ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ عَنْعَنَ، وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ مُعَنْعَنًا، فَكَيْفَ يُعَارِضُ حَدِيثَ الصَّحِيحَيْنِ، بَلِ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ؟ وَهُنَالِكَ مَذَاهِبُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ فِي قَدْرِ النِّصَابِ، لَا نَذْكُرُهَا لِضَعْفِ أَدِلَّتِهَا، بَلْ بَعْضُهَا لَا يُعْرَفُ لَهُ دَلِيلٌ.
وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي أَنَّ الثَّمَرَ وَالْكَثَرَ (وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ: جُمَّارُ النَّخْلِ) لَا قَطْعَ فِيهَا، وَأَمَّا الثَّمَرُ بَعْدَ إِحْرَازِهِ فَكَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ: لَا قَطْعَ فِيهِ، وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ فِي الْقَطْعِ أَنْ يُسْرَقَ الشَّيْءُ مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرَزًا مَحْفُوظًا فَلَا قَطْعَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَشُرُوحِهَا.
وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِالْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ قَبْلَ رَفْعِ أَمْرِهِ إِلَى الْإِمَامِ (الْحَاكِمِ) وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ، وَوَرَدَ
أَيْ فَمَنْ تَابَ مِنَ السُّرَّاقِ وَرَجَعَ عَنِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَاصِي رُجُوعَ نَدَمٍ وَعَزْمٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ بِامْتِهَانِهَا وَسَفَهِهَا، وَلِلنَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ وَزَكَّاهَا بِالصَّدَقَةِ الْمُضَادَّةِ لِلسَّرِقَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ - فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ بِالرِّضَاءِ وَالْإِثَابَةِ، وَيَغْفِرُ لَهُ وَيَرْحَمُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ وَاسْمِهِ الرَّحِيمِ.
وَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ التَّائِبِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَإِذَا قِيسَتِ السَّرِقَةُ عَلَى الْحَرَابَةِ وَالْإِفْسَادِ فَالْقَوْلُ بِسُقُوطِ الْحَدِّ ظَاهِرٌ إِنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِ أَمْرِهِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، بَلْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ إِنْ بَقِيَ، وَإِلَّا دَفَعَ قِيمَتَهُ إِنْ قَدَرَ، وَلَا يَظْهَرُ لَنَا وَجْهٌ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِّ وَغَرَامَةِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ; فَإِنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللهِ تَعَالَى لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ عَامَّةً، وَالْمَالَ حَقُّ مَنْ سُرِقَ مِنْهُ خَاصَّةً.
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جَعَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ذَيْلًا لِهَذَا السِّيَاقِ بَيَّنَ فِيهِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ الْقُلُوبَ بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَرِ وَالْأَحْكَامِ، فَقَالَ مَا حَاصِلُ الْمُرَادِ مِنْهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَيُّهَا السَّامِعُ لِهَذَا الْخِطَابِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَكَانَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ اسْمِهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَنْ وَضَعَ هَذَا الْعِقَابَ لِكُلِّ مَنْ يَسْرِقُ مَا يُعَدُّ بِهِ سَارِقًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كَمَا وَضَعَ ذَلِكَ الْعِقَابَ لِلْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَمِنْ مُقْتَضَى اسْمِهِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ أَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَرْحَمَهُ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوْبَةِ وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ ; فَهُوَ بِمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ تَعْذِيبَهُ مِنَ الْجُنَاةِ؛ تَرْبِيَةً لَهُ وَتَأْمِينًا لِعِبَادِهِ مِنْ شَرِّهِ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ التَّائِبِينَ وَالْمُصْلِحِينَ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ؛ تَرْغِيبًا لِعِبَادِهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهُمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالرَّحْمَةِ قَدِيرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ ; أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ هَذَا فَتَذَكَّرْهُ،
وَذَكِّرْ بِهِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ وَجِوَارِهَا، وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمُ الَّذِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ الَّذِي انْتَهَى بِبَيَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ كَانَ فِي مُحَاجَّتِهِمْ، وَمِنْهَا إِبْطَالُ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الْعِبَادِ، وَمَالِكُهُمِ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَمْرِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَذَابِ عَلَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ، خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْعَذَابِ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي رَدَّ اللهُ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ زَعْمَهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; إِذْ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (٥: ١٨) وَحِكْمَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ هُنَا تَرْتِيبُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ بَيَانِ عِقَابِ السَّارِقِ أَوَّلًا، وَذِكْرِ تَوْبَتِهِ ثَانِيًا. فَهِيَ لَا تُنَافِي كَوْنَ الرَّحْمَةِ الْمُطْلَقَةِ سَابِقَةً وَمُقَدَّمَةً عَلَى الْعَذَابِ الْمُطْلَقِ.
وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ وَأَمْثَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ التَّائِبِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَرْحَمَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَاطَ التَّعْذِيبَ وَالرَّحْمَةَ بِالْمَشِيئَةِ، وَرَتَّبَهُ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَ الْمُلْكِ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ، وَمَا حَسَّنَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَاسْتِنْبَاطَ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ لَهُ إِلَّا تَوَجُّهُ ذَكَائِهِمْ وَفَهْمِهِمْ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ; أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِعِبَادِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بِنَصِّهِ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَقَلِيلُ الْأَدَبِ ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنْ هُنَالِكَ سُلْطَانًا فَوْقَ سُلْطَانِ اللهِ، سُبْحَانَهُ، يُوجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْكِرُوا وَلَا أَنْ
يَتَأَوَّلُوا مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَشَاءُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِيًا لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَا لِتَقْيِيدِ مَشِيئَتِهِ بِسُلْطَةِ سِوَاهُ، وَلَا هُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعَطِّلَةً لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذًا لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُلْكِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَالِكُ حَسَنًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ ; إِذِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَمْلِكُ عِدَّةَ عَبِيدٍ، فَيَظْلِمُ الْمُحْسِنَ مِنْهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهُ، وَيُحْسِنُ إِلَى الْفَاسِقِ الْمُسِيءِ الْمُفْسِدِ فِي دَارِهِ وَمُلْكِهِ، يُعَدُّ ظَالِمًا مَذْمُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلُغَةً وَعُرْفًا، وَأَمَّا كَوْنُ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ وَحَسَنٌ، فَلَيْسَ سَبَبُهُ أَنَّهُ الْمَالِكُ، وَكَوْنُ الْمَالِكِ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي مُلْكِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالنَّقْصِ، مُتَّصِفٌ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَتَقْدِيسُهُ وَتَنْزِيهُهُ وَكَمَالُهُ يَتَجَلَّى فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا لَا فِي اسْمِ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ وَالْمُرِيدِ فَحَسْبُ.
(يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).
أُخْرَى ; فَالْأَوَّلُ مِنَ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ، وَالثَّانِي مِنَ الْحُمَّةِ وَهِيَ الْفَحْمَةُ) وَنَحْمِلُهُمَا وَنُخَالِفُ بَيْنَ وُجُوهِهِمَا ; أَيْ نُرْكِبُهُمَا وَنَجْعَلُ وُجُوهَهُمَا إِلَى مُؤَخَّرِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْخِزْيِ ; أَيِ الْفَضِيحَةِ. وَفِيهَا أَنَّ الَّذِي أَمَرَ الْقَارِئَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: اللهُمَّ لَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا فَلْنَجْتَمِعْ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَجَعَلْنَا التَّحْمِيمَ وَالْجَلْدَ مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ "، وَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) يَقُولُ: ائْتُوا مُحَمَّدًا فَإِنْ أَمَرَكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوهُ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (٥: ٤٤) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥: ٤٥) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (٥: ٤٧). قَالَ: هِيَ فِي الْكُفَّارِ كُلُّهَا.
هَذَا أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَهَاكَ تَفْسِيرُهَا: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الْخِطَابُ بِوَصْفِ الرَّسُولِ تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي، وَمِثْلُهُ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (٦٦: ١) وَوَرَدَ فِي بِضْعِ سُوَرٍ. وَفِي هَذَا التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ
(٢٤: ٦٣) فَلَمْ يَعُدْ إِلَى دُعَائِهِ بِاسْمِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ يَغْفَلُونَ عَنْ هَذَا، فَيُكَرِّرُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَلِمَةَ " يَا مُحَمَّدُ " عِنْدَ تَفْسِيرِهِمْ لِخِطَابِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِمِثْلِ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (١٠٨: ١) وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْخِطَابِ، وَأَخَذَهُ عَنْهُمْ قُرَّاءُ التَّفْسِيرِ، فَيَكَادُونَ يَقُولُونَهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ خِطَابٍ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ النِّدَاءُ فِي الْكِتَابِ.
وَالْحُزْنُ ضِدَّ السُّرُورِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ آلَامِ النَّفْسِ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ فَوْتِ مَا يُحِبُّهُ، وَيُسْتَعْمَلُ الْفِعْلُ الثُّلَاثِيُّ مِنْهُ مُتَعَدِّيًا بِـ " عَلَى " كَحَزِنَ فُلَانٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَمُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ ; كَحَزَنَهُ الْأَمْرُ، وَهَذِهِ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَتَمِيمٌ تُعَدِّيهِ بِالْهَمْزَةِ فَتَقُولُ: أَحْزَنَهُ مَوْتُ وَلَدِهِ، وَالْحُزْنُ مَذْمُومٌ طَبْعًا وَشَرْعًا مَهْمَا كَانَ سَبَبُهُ ; وَلِهَذَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَجَعَلَ التَّجَرُّدَ مِنْهُ وَمِنْ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ فَرَحُ الْبَطَرِ وَالْخِفَّةِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ، غَايَةً لِكَمَالِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (٥٧: ٢٣). وَأَمَّا الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِالْحَقِّ وَالْفَضْلِ، دُونَ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، فَهُوَ مَحْمُودٌ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٠: ٥٨) كَمَا أَنَّ حُزْنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ عَنْ مَوْتِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْفِطْرِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، لَا مَا تَكَلَّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ لَوَازِمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحُزْنَ أَلَمٌ طَبِيعِيٌّ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ فَوْتِ مَا يُحِبُّهُ، وَلَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا؛ فَكَيْفَ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْحُزْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي يَفْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُخْتَارِينَ، فَتَكُونُ مُحَرِّكَةً لِذَلِكَ الْأَلَمِ وَمُجَدِّدَةً لَهُ وَمُبْعِدَةً أَمَدَ السَّلْوَى، وَالْأَمْرُ بِضِدِّهَا مِنْ تَكَلُّفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَشْغَلُ النَّفْسَ وَتَصْرِفُهَا عَنِ التَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا حَزِنَتْ لِأَجْلِهِ احْتِسَابًا وَرِضَاءً مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ تَكُونُ بَدَنِيَّةً نَفْسِيَّةً، وَتَكُونُ نَفْسِيَّةً فَقَطْ أَوْ بَدَنِيَّةً فَقَطْ، وَفَسَّرُوهُ هُنَا بِقَوْلِهِمْ: أَيْ لَا تَهْتَمَّ، وَلَا تُبَالِ بِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ; أَيْ فِي إِظْهَارِهِ بِالتَّحَيُّزِ إِلَى أَعْدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِهِ عِنْدَمَا تَسْنَحُ لَهُمُ الْفُرْصَةُ، وَيَجِدُونَ قُوَّةً يَعْتَصِمُونَ بِهَا مِنَ التَّبِعَةِ، فَإِنَّ اللهَ يَكْفِيكَ شَرَّهُمْ، وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ يَتَشَيَّعُونَ لَهُمْ.
وَلِلنَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ عَادَاتٌ رَدِيئَةٌ، وَأَعْمَالٌ سَخِيفَةٌ ضَارَّةٌ، تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْبَشَرِ وَالسُّخْطِ عَلَى الْقَدَرِ، وَمُعْظَمُ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ يَذُمُّونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الدِّينُ، وَقَدْ قُلْتُ فِي مَرْثِيَّةٍ نَظَمْتُهَا فِي أَيَّامِ طَلَبِ الْعِلْمِ، نَاهِيًا ذَامًّا مَا اعْتِيدَ
مِنْ شَعَائِرَ الْحُزْنِ:
أَطَبِيعَةٌ ذَا الْحُزْنِ لَيْسَ يَشِذُّ عَنْ | نَامُوسِهِ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ |
أَمْ ذَاكَ مِمَّا أَوْدَعَتْهُ شَرَائِعُ الْـ | أَدْيَانِ مِنْ هَدْيٍ لَنَا وَرَشَادِ |
أَمْ ذَلِكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ قَضَى عَلَى | كُلِّ الشُّعُوبِ بِهَذِهِ الْأَصْفَادِ |
كَلَّا فَلَيْسَ الْأَمْرُ ضَرْبَةَ لَازِبٍ | لَكِنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمُعْتَادِ |
فَاخْلَعْ جَلَابِيبَ الْعَوَائِدِ إِنْ تَكُنْ | لَيْسَتْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ ذَاتَ سَدَادِ |
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَقْفِ هُنَا، هَلْ يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلُوبُهُمْ) أَمْ قَوْلِهِ: (هَادُوا) ؟ أَمَّا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَقْدِيرُهَا: وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا (أَيِ الْيَهُودِ) قَوْمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ... إِلَخْ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ عَلَى الثَّانِي فَهُوَ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْمُبْتَدَأُ ; أَيْ هُمْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ... إِلَخْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا مُنَافِقُو الْيَهُودِ ; فَيَكُونُ الْكَلَامُ هُنَا فِي أُولَئِكَ الْيَهُودِ عَامَّةً، الَّذِينَ أَظْهَرُو الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَالَّذِينَ ظَلُّوا عَلَى دِينِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَوَّلِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ عَلَى قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) هَلْ هُوَ وَصْفٌ لِلْفَرِيقَيْنِ أَمْ لِأَحَدِهِمَا؟ أَيْ
بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (سَمَّاعُونَ)... إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِلْكَذِبِ) فِيهَا وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنَّهَا لِلتَّقْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْكَذِبَ كَثِيرًا سَمَاعَ قَبُولٍ، أَوْ يَقْبَلُونَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكَذِبِ: مَا يَقُولُهُ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَحْكَامِ الدِّينِ الَّتِي يَتَلَاعَبُونَ فِيهَا بِأَهْوَائِهِمْ. (وَثَانِيهَا) : أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَثِيرُو الِاسْتِمَاعِ لِكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (وَمِنَ الَّذِينَ هَادَوْا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) قَالَ: يَهُودُ الْمَدِينَةِ.
(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) قَالَ: يَهُودُ فَدَكَ يَقُولُونَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) الْجَلْدَ (فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الرَّجْمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) فَمَعْنَاهُ يُحَرِّفُونَ كَلِمَ التَّوْرَاةِ مِنْ بَعْدِ وَضْعِهِ فِي مَوَاضِعِهِ ; إِمَّا تَحْرِيفًا لَفْظِيًّا بِإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِكَلِمَةٍ، أَوْ بِإِخْفَائِهِ وَكِتْمَانِهِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ، وَإِمَّا تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.
(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أَيْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَرْسَلُوهُمْ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا مِنْهُمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَابُوهُمَا
بِعَدَمِ رَجْمِهِمَا: إِنْ أُعْطِيتُمْ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدٍ رُخْصَةً بِالْجَلْدِ عِوَضًا عَنِ الرَّجْمِ فَخُذُوهُ وَارْضَوْا بِهِ، وَإِنْ لَمْ تُعْطَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِأَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ فَاحْذَرُوا قَبُولَ ذَلِكَ وَالرِّضَاءَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ جَاءُوهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزُّنَاةِ فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، وَجَاءُوا بِالتَّوْرَاةِ فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَاعْتَرَفُوا بِصِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَ كَذِبُهُمْ وَعَبَثُهُمْ بِكِتَابِ شَرِيعَتِهِمْ. وَالْإِيتَاءُ وَالْإِعْطَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي كَغَيْرِهَا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْعَابِثِينَ بِدِينِهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أَيْ وَمَنْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُخْتَبَرَ فِي دِينِهِ فَيُظْهِرَ الِاخْتِبَارُ كُفْرَهُ وَضَلَالَهُ، كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ، فَيَظْهَرُ مِقْدَارُ مَا فِيهِ مِنَ الْغِشِّ وَالزَّغَلِ، فَلَنْ تَمْلِكَ
الْمَوْرُوثَةِ الثَّابِتَةِ، تُحِيطُ بِهَا خَطِيئَتُهَا، وَتُطْبِقُ عَلَيْهَا ظُلْمَتُهَا، حَتَّى لَا يَبْقَى لِنُورِ الْحَقِّ مَنْفَذٌ يَنْفُذُ مِنْهُ إِلَيْهَا ; فَتَفْقِدُ قَابِلِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِبْصَارِ فِي تَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ، وَهَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءُ وَأَعْوَانُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ صُبُّوا فِي قَوَالِبَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ صَبًّا، فَلَا تَقْبَلُ طَبَائِعُهُمْ سِوَاهَا قَطْعًا، فَهَذَا هُوَ سَبَبُ عَدَمِ تَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا طَبَعَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ إِرَادَتَهُ تَطْهِيرَ قُلُوبِهِمْ وَهُمْ مُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، إِبْطَالٌ لِلْقَدَرِ، وَتَبْدِيلٌ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنَ السُّنَنِ، وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، لَا أَمْرًا أُنُفًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِهِ تَبْدِيلًا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمَخْذُولِينَ وَجَزَاءَهُمْ، فَقَالَ: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فَأَمَّا الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ فَأَمْرُهُ مَعْلُومٌ، وَكُنْهُهُ مَجْهُولٌ، وَأَمَّا خِزْيُ الدُّنْيَا فَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْفَضِيحَةِ وَهَوَانِ الْخَيْبَةِ عِنْدَ مَا يَنْكَشِفُ نِفَاقُهُمْ وَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُمْ، وَيَعْلُو الْحَقُّ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَدْ صَدَقَ وَعِيدُ اللهِ تَعَالَى بِهَذَا الْخِزْيِ عَلَى يَهُودِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ، كَمَا يَصْدُقُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى مَنْ يُفْسِدُونَ كَفَسَادِهِمْ، فَيَفْشُو فِيهِمُ الْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ، وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ فَسَادُ الْأَخْلَاقِ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ الِانْتِسَابُ إِلَى نَبِيٍّ لَمْ يَتَّبِعُوهُ، وَلَا تَنْفَعُهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِكِتَابٍ لَمْ يُقِيمُوهُ ; فَإِنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآيَةِ لَمْ يُوَجَّهْ إِلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ لِذَوَاتِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ ; فَذَوَاتُهُمْ كَسَائِرِ الذَّوَاتِ، وَلَا لِنَسَبِهِمْ
ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِهِمْ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أَعَادَ وَصْفَهُمْ بِكَثْرَةِ سَمَاعِ الْكَذِبِ لِتَأْكِيدِ مَا قَبْلَهُ وَالتَّمْهِيدِ لِمَا بَعْدَهُ - كَمَا قَالُوا - وَالْإِعَادَةُ لِلتَّأْكِيدِ وَتَقْرِيرِ الْمَعْنَى وَإِفَادَةِ اهْتِمَامِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، مِمَّا يَنْبَعِثُ عَنِ الْغَرِيزَةِ، وَيُعْرَفُ التَّأْثِيرُ وَالتَّأَثُّرُ بِهِ مِنَ
الطَّبِيعَةِ، وَلَعَلَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْبَشَرِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ " اللَّامَ " فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّقْوِيَةِ يَنْتَفِي التَّكْرَارُ ; إِذِ الْمَعْنَى هُنَاكَ: يَسْمَعُونَ كَلَامَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَجِدُوا مَجَالًا لِلْكَذِبِ، يُنَفِّرُونَ النَّاسَ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهُمْ يَسْمَعُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ سَمَاعَ قَبُولٍ، فَهُمْ يَكْذِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَكْذِبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَيَقْبَلُ بَعْضُهُمُ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمْرُهُمْ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ شَرُّ الرَّذَائِلِ وَأَضَرُّ الْمَفَاسِدِ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْأُمَمِ الذَّلِيلَةِ الْمَهِينَةِ، تَلُوذُ بِالْكَذِبِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَتَرَى أَنَّهَا تَدْرَأُ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا مَا تَتَوَقَّعُ مِنْ ضُرٍّ.
وَكَذَلِكَ يَفْشُو فِيهَا أَكْلُ السُّحْتِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ بِالْمُحَابَاةِ، وَتَأْلَفُ الدَّنَاءَةَ، وَتُؤْثِرُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ.
فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ السُّحْتَ بِالرِّشْوَةِ فِي الدِّينِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَعَلِيٌّ بِالرِّشْوَةِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْكُفْرُ، وَقَالَ عُمَرُ: بَابَانِ مِنَ السُّحْتِ يَأْكُلُهُمَا النَّاسُ ; الرِّشَا فِي الْحُكْمِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ ; فَأَفَادَ أَنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالرِّشْوَةِ الْمُطْلَقَةِ أَوِ الْمُقَيَّدَةِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ نُزُولِهَا فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، لَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْعَامُّ. وَقِيلَ: السُّحْتُ: الْحَرَامُ مُطْلَقًا، أَوِ الرِّبَا، أَوِ الْحَرَامُ الَّذِي فِيهِ عَارٌ وَدَنَاءَةٌ كَالرِّشْوَةِ. وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ الَّذِي اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَجْلِهِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَحَتَهُ، وَأَسْحَتَهُ بِمَعْنَى اسْتَأْصَلَهُ بِالْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ) (٢٠: ٦١). فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِالسُّحْتِ مَا يُسْحِتُ الدِّينَ وَالشَّرَفَ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ، أَوْ لِسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَأَثَرِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُ السُّحْتِ: شِدَّةُ الْجُوعِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَسْحُوتُ الْمَعِدَةِ: إِذَا كَانَ أَكُولًا لَا يَكَادُ يُرَى إِلَّا جَائِعًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَامَ، أَوِ الْكَسْبَ الدَّنِيءَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الشَّرَهُ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: " السُّحَتِ "، بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهِمَا مَعًا. لِسَانُ الْعَرَبِ: السُّحْتُ وَالسُّحُتُ: كُلُّ حَرَامٍ قَبِيحُ الذِّكْرِ، وَقِيلَ
اسْتَأْصَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالسَّحْتُ - بِالْفَتْحِ - شِدَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَرَجُلُ سُحْتٌ - بِالضَّمِّ - وَسَحِيتٌ وَمَسْحُوتٌ: رَغِيبٌ وَاسِعُ الْجَوْفِ، لَا يَشْبَعُ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنَ اللِّسَانِ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى السُّحْتِ: إِزَالَةُ الْقِشْرِ عَنِ الْعُودِ بِالتَّدْرِيجِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَحَلْقِ الشَّعْرِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَقُولُ: أَسْحَتُّ الشَّيْءَ، إِلَّا إِذَا اسْتَأْصَلَهُ بِالْقِشْرِ، وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ مَعْنَى عَدَمِ الشِّبَعِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى ; كَأَنَّ الْمَعِدَةَ لِسُرْعَةِ هَضْمِهَا تَسْتَأْصِلُ الطَّعَامَ. وَسُمِّيَ الْكَسْبُ الْخَسِيسُ وَالْحَرَامُ سُحْتًا ; لِأَنَّهُ يَسْتَأْصِلُ الْمُرُوءَةَ أَوِ الدِّينَ، وَالرِّشْوَةُ تَسْتَأْصِلُ الثَّرْوَةَ، وَتُفْسِدُ أَمْرَ الْمُعَامَلَةِ، وَتَسْتَبْدِلُ الطَّمَعَ بِالْعِفَّةِ، وَكَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَذَّابِينَ أَكَّالِينَ لِلسُّحْتِ مِنَ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَسَائِسِ، كَدَأْبِ سَائِرِ الْأُمَمِ فِي عَهْدِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا، وَقَدْ صَارَتْ حَالُهُمُ الْآنَ أَحْسَنَ مَنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَعِيبُونَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ سَلَفِهِمْ.
وَمِنْ عَجَائِبَ غَفْلَةِ الْبَشَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَعِيبَكَ أَحَدُهُمْ بِنَقِيصَةٍ يَنْسِبُهَا إِلَى أَحَدِ أَجْدَادِكَ الْغَابِرِينَ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِأَنَّكَ عَارٍ عَنْهَا، أَوْ مُتَّصِفٌ بِالْمَحْمَدَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِنَقِيصَةِ جَدِّكَ الَّتِي يَعِيبُكَ بِهَا! ! فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَعُدُّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَرُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيهِمْ، وَكَثِيرًا مِنْ حُكَّامِهِمُ الشَّرْعِيِّينَ وَالسِّيَاسِيِّينَ يَكْذِبُونَ كَثِيرًا، وَيَقْبَلُونَ الْكَذِبَ، وَيَأْكُلُونَ السُّحْتَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ; لِيَشْهَدُوا لَهُمْ زُورًا بِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَيُعْطُونَهُمْ مَا يُسَمُّونَهُ " شَهَادَةَ الْعَالِمِيَّةِ " كَمَا يَمْنَحُهُمْ حُكَّامُهُمُ الرُّتَبَ الْعِلْمِيَّةَ، وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ طَلَبَةِ الْأَزْهَرِ مَرَّةً عَلَى شَيْخِنَا الْإِمَامِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ جُنَيْهًا ; لِيُسَاعِدَهُ فِي امْتِحَانِ شَهَادَةِ الْعَالِمِيَّةِ ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِلِامْتِحَانِ وَلَا أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْأُسْتَاذُ نَفْسَهُ مِنْ الِانْفِعَالِ أَنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وَقَالَ: أَتَطْلُبُ مِنِّي فِي هَذِهِ السِّنِّ أَنْ أَغُشَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ لِتُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ بِجَهْلِكَ، بِهَذِهِ الْجُنَيْهَاتِ الْحَقِيرَةِ فِي نَظَرِي الْعَظِيمَةِ فِي نَظَرِكَ، وَأَنَا الَّذِي لَمْ أَتَدَنَّسْ فِي عُمْرِي، حَتَّى وَلَا بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ أَنْقَذْتُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ؟ ! وَلَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَتَسَاهَلُ فِي هَذَا لَكُنْتُ مِنْ أَوْسَعِ النَّاسِ ثَرْوَةً. أَوْ مَا هَذَا مُؤَدَّاهُ.
(فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أَيْ فَإِنْ جَاءُوكَ مُتَحَاكِمِينَ إِلَيْكَ
فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَتَرْكِهِمْ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّخْيِيرِ أَهْوَ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ - وَهِيَ حَدُّ الزِّنَا: هَلْ هُوَ الْجَلْدُ أَوِ الرَّجْمُ، أَوْ دِيَةُ
(وَإِنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرَضْتَ، وَلَمْ تَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَإِنْ سَاءَتْهُمُ الْخَيْبَةُ وَفَاتَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنْ خِفَّةِ الْحُكْمِ وَسُهُولَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلتَّخْيِيرِ.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ; أَيِ الْعَدْلِ، لَا بِمَا يَبْغُونَ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَبَيَّنَّا مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٣٥ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (ص٣٧٠ - ٣٧٣ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص٢٢٦ - ٢٢٧ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُقْسِطُونَ هُمُ الْمُقِيمُونَ لِلْقِسْطِ بِالْحُكْمِ بِهِ أَوِ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ فِي تَفْسِيرِ (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٤: ٥٨) فَيُرَاجَعُ فِي الْمَنَارِ
(ص١٣٩ - ١٤٥ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ).
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِبَيَانِ حَالٍ مَنْ أَغْرَبِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَيَتَحَاكَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; أَيْ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ فِي قَضِيَّةٍ كَقَضِيَّةِ الزَّانِيَيْنِ، أَوْ قَضِيَّةِ الدِّيَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ، الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُمْ، فِيهَا حُكْمُ اللهِ فِيمَا يُحَكِّمُونَكَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ أَنْ رَضُوا بِهِ، وَآثَرُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ ; لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا؟ أَيْ إِذَا فَكَّرْتَ فِي هَذَا رَأَيْتَهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِمَّنْ جَاءَ فِيهِمْ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ) (٤٥: ٢٣)
أَمَّا حُكْمُ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الزُّنَاةِ، قَالَ فِي الْفَصْلِ ٢٢ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ عَذْرَاءَ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا تُرْجَمُ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا: (٢٢ إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأَةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ، يُقْتَلُ الِاثْنَانِ، الرَّجُلُ الْمُضْطَجِعُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ ٢٣ إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَارْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا، الْفَتَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَصْرُخْ فِي الْمَدِينَةِ،
وَالرَّجُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ، فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ) ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامًا أُخْرَى فِي الزِّنَا، مِنْهَا قَتْلُ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ، وَمِنْهَا دَفْعُ غَرَامَةٍ، وَالتَّزْوِيجُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا.
وَمِمَّا يَجِبُ التَّنْبِيهُ لَهُ هُنَا أَنَّ دُعَاةَ النَّصْرَانِيَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى كَوْنِ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْيَهُودِ، هِيَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى، لَمْ يَعْرِضْ لَهَا تَغْيِيرٌ وَلَا تَحْرِيفٌ ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَأُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَيَرُدُّونَ مَا يُخَالِفُهَا جَدَلًا، وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، فَالْكِتَابُ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ ; أَيِ الشَّرِيعَةُ، وَأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَبَيَّنَ لَنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ، وَأَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؛ إِذْ نَسُوا نَصِيبًا آخَرَ وَأَضَاعُوهُ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَمَّا خَرَجَتْ أُمَّةُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْأُمِّيَّةِ، وَعَرَفُوا تَارِيخَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ; كَالْبَابِلِيِّينَ، ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ; إِذْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ فَقَدُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوهَا، وَإِنَّمَا كَتَبَ لَهُمْ بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ مَا حَفِظُوهُ مِنْهَا، مَمْزُوجًا بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالتَّوْرَاةُ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ تُثْبِتُ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَمِنْهُ تَفْسِيرُ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَفْسِيرُ الْآيَاتِ ١٣ - ١٥ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ سِيَاقِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا، وَالْغَرَضُ مِنْهَا بَيَانُ كَوْنِ التَّوْرَاةِ كَانَتْ هِدَايَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَعْرَضُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا ; لِمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الْفَسَادِ، وَبَيَانُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ وَأَهْلِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَالُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا سَيَأْتِي مِنْ ذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَمَزِيَّتِهِ وَحِكْمَةِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالِاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَهْلَ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يُقِيمُوهُ ; إِذْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ هِدَايَتِهِ وَنُورِهِ إِلَّا بِإِقَامَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ إِيثَارَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى هِدَايَةِ دِينِهِمْ هُوَ الَّذِي أَعْمَاهُمْ عَنْ نُورِ الْقُرْآنِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) أَيْ إِنَّا نَحْنُ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مُشْتَمِلَةً عَلَى هُدًى فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، خَرَجَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ وَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيِّينَ وَضَلَالِهِمْ، وَعَلَى نُورٍ أَبْصَرُوا
آخِرُهُمْ عِيسَى: لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَلَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَعِيسَى مِنْ دُونِهَا شَرِيعَةٌ (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) أَيْ وَيَحْكُمُ بِهَا الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ فِي الْأَزْمِنَةِ أَوِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَنْبِيَاءُ أَوْ مَعَهُمْ بِإِذْنِهِمْ، وَالرَّبَّانِيُّونَ هُمُ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى الرَّبِّ، إِمَّا بِمَعْنَى الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ لِأَمْرِ الْمُلْكِ ; لِأَنَّهُمْ يُعْنَوْنَ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّهْذِيبِ الرُّوحَانِيِّ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَصْدَرِ رَبَّهَ يَرُبُّهُ؛ أَيْ رَبَّاهُ ; لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ أَنْفُسَهُمْ ثُمَّ غَيْرَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَأَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ، وَهُمْ كِبَارُ كَهَنَتِهِمْ مِنَ اللَّاوِيِّينَ الصَّالِحِينَ. وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ، وَالْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ الْعَالِمُ. وَمَادَّةُ حَبَرَ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى الْجَمَالِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَسُرُّ النَّاسَ، وَشِعْرٌ مُحَبَّرٌ: مُزَيَّنٌ بِنُكَتِ الْبَلَاغَةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَثَوْبٌ مُحَبَّرٌ: مُزَيَّنٌ بِالنُّقُوشِ أَوِ الْوَشْيِ الْجَمِيلِ. وَمِنْهُ بُرْدٌ حِبَرَةٌ (بِالْكَسْرِ) وَحَبِيرٌ، وَهُوَ ثَوْبٌ ذُو خُطُوطٍ بِيضٍ وَسُودٍ أَوْ حُمْرٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْحَبْرِ عَلَى الْعَالِمِ مَأْخُوذًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحِبْرُ - بِالْكَسْرِ - الْأَثَرُ الْمُسْتَحْسَنُ. ثُمَّ قَالَ: وَالْحَبْرُ الْعَالِمُ، وَجَمْعُهُ أَحْبَارٌ ; لِمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ عُلُومِهِمْ، اهـ. وَأُطْلِقَ لَقَبُ حَبْرُ الْأُمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الرَّبَّانِيِّ عَلَى عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي عِنْدَ ذِكْرِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارِ أَنَّ الرَّبَّانِيِّينَ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ عِنْدَنَا، وَالْأَحْبَارَ عِنْدَهُمْ كَعُلَمَاءِ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الرَّبَّانِيُّونَ جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْحُكَمَاءُ الْبُصَرَاءُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِمْ. وَأَمَّا الْأَحْبَارُ فَإِنَّهُمْ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الْعَالِمُ الْمُحْكِمُ لِلشَّيْءِ. وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ، وَهُوَ إِلَى اللُّغَةِ أَقْرَبُ. وَالتَّوْرَاةُ مُؤَنَّثَةُ اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهَا الشَّرِيعَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِهَا بِسَبَبِ مَا أُودِعُوهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، وَطُلِبَ مِنْهُمْ حِفْظُهُ ; أَيْ طَلَبَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ - مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُ - أَنْ يَحْفَظُوهُ وَلَا يُضَيِّعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَنَاهِيكَ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ مُوسَى بِأَمْرِ اللهِ عَلَى شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ أَنْ يَحْفَظُوهَا وَلَا يَتَحَوَّلُوا عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْمِيثَاقِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَأَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ،
وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ، وَلَمْ يُوفُوا بِهِ،
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَصَّهُ مِنْ سِيرَةِ سَلَفِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الصَّالِحِ، بَعْدَ بَيَانِ سُوءِ سِيرَةِ الْخَلَفِ الَّذِينَ خَلَفُوا بَعْدَهُمْ، مُخَاطِبًا رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، لَا يَخَافُونَ اللهَ فِي الْكِتْمَانِ وَالتَّبْدِيلِ.
(فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَا لَا تُنْكِرُونَهُ كَمَا تُنْكِرُونَ غَيْرَهُ مِمَّا قَصَّهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ سِيرَةِ سَلَفِكُمْ، فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ فَتَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْكِتَابِ خَوْفًا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَرَجَاءً فِي بَعْضٍ، وَاخْشَوْنِي وَحْدِي، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِي (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) أَيْ لَا تَتْرُكُوا بَيَانَهَا، وَالْعَمَلَ وَالْإِفْتَاءَ وَالْحُكْمَ بِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنَافِعِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أَيْ وَكُلُّ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِهَوَاهُ أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَسْتَلْزِمُ
الْإِذْعَانَ، وَالْإِذْعَانُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ وَيُنَافِي الِاسْتِقْبَاحَ وَالتَّرْكَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَمُؤَيِّدَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثُمَّ جَاءَ بِمِثَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَقَالَ:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) أَيْ وَفَرَضْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ أَوْ تُقْتَلُ بِالنَّفْسِ إِذَا قَتَلَتْ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَّرَ الْجُمْهُورُ مَقْتُولَةٌ أَوْ مُقْتَصَّةٌ بِهَا، وَالْعَيْنَ تُفْقَأُ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ يُجْدَعُ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ تُصْلَمُ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ تُقْلَعُ بِالسِّنِّ ; أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ الْمُتَمَاثِلَةَ هِيَ كَالنَّفْسِ فِي كَوْنِ جَزَاءِ الْمُعْتَدِي عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ ;
(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: الْجُرُوحُ بِالرَّفْعِ أَيْضًا، وَالْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ ; أَيْ ذَوَاتَ قِصَاصٍ، تُعْتَبَرُ فِي جَزَائِهَا الْمُسَاوَاةُ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أَيْ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ حَقِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ عَفَا عَنِ الْجَانِي فَهَذَا التَّصَدُّقُ كَفَّارَةٌ لَهُ يُكَفِّرُ اللهُ بِهَا ذُنُوبَهُ وَيَعْفُو عَنْهُ كَمَا عَفَا عَنْ أَخِيهِ.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ بِصَدَدِ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ فَأَعْرَضَ عَمَّا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقِصَاصِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَكَمَ بِهَوَاهُ أَوْ بِحُكْمٍ غَيْرِ حُكْمِ اللهِ فَضَّلَهُ عَلَيْهِ - فَهُوَ مِنَ الظَّالِمِينَ حَتْمًا؛ إِذِ الْخُرُوجُ عَنِ الْقِصَاصِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَفْضِيلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَضْمِ حَقِّ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَظُلْمِهِ.
أَمَّا مِصْدَاقُ هَذَا الْقِصَاصِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي الْأَيْدِي، فَهُوَ فِي الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، فَفِيهِ بَعْدَ عِدَّةِ ذُنُوبٍ تُوجِبُ الْقَتْلَ مَا نَصُّهُ: (٢٣ وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْسًا بِنَفْسٍ ٢٤ وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَيَدًا بِيَدٍ، وَرِجْلًا بِرِجْلٍ ٢٥، وَكَيًّا بِكَيٍّ، وَجُرْحًا بِجُرْحٍ، وَرَضًّا بِرَضٍّ) يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ (٢٤) مِنْ سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ (١٧ وَإِذَا أَمَاتَ أَحَدٌ إِنْسَانًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ ١٨، وَمَنْ أَمَاتَ بَهِيمَةً يُعَوِّضُ عَنْهَا نَفْسًا بِنَفْسٍ ١٩ وَإِذَا أَحْدَثَ إِنْسَانٌ فِي قَرِيبِهِ عَيْبًا فَكَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ
٢٠ كَسْرٌ بِكَسْرٍ، وَعَيْنٌ بِعَيْنٍ، وَسِنٌّ بِسِنٍّ، كَمَا أَحْدَثَ عَيْبًا فِي الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ يُحْدَثُ فِيهِ) فَصَرَّحَ بِعُمُومِ الْقِصَاصِ بِالْمِثْلِ فَدَخَلَ فِيهِ الْأُذُنُ وَالْأَنْفُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَلَا أَذْكُرُ لَهُ نَقْلًا عَنِ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي وَعْظِ الْمَسِيحِ عَلَى الْجَبَلِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، أَنَّهُ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَالسِّنِّ بِالسِّنِّ، وَوَصَّى بِأَلَّا يُقَاوَمَ الشَّرُّ بِالشَّرِّ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْعَفْوِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ هُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْأَرْضِ انْتِقَامًا وَمُقَاوَمَةً لِلشَّرِّ بِأَضْعَافِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أَخْفَاهُمُ الزَّمَانُ فِي زَوَايَا بَعْضِ الْبِلَادِ.
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أَيْ وَبَعَثْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بَعْدَ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ، مُتَّبِعًا أَثَرَهُمْ، جَارِيًا عَلَى سُنَنِهِمْ، مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ أَوْ بِحَالِهِ، وَلَفْظُ قَفَّى مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَفَا، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، يُقَالُ: قَفَاهُ، وَقَفَا إِثْرَهُ يَقِفُوهُ، وَاقْتَفَاهُ: إِذَا اتَّبَعَهُ وَسَارَ وَرَاءَهُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَقَفَّاهُ بِهِ تَقْفِيَةً جَعَلَهُ يَقْفُوهُ، أَوْ يَقْفُو أَثَرَهُ. قَالَ تَعَالَى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ٢: ٨٧) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَقَفَّيْتُهُ وَقَفَيْتُهُ بِهِ وَقَفَّيْتُ بِهِ عَلَى أَثَرِهِ: إِذَا أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ قُفْيَةُ آبَائِهِ، وَقِفِيُّ أَشْيَاخِهِ، تِلْوَهُمْ. انْتَهَى. أَيْ يَتْلُوهُمْ، وَيَسِيرُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ. وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَشَرِيعَتُهُ هِيَ التَّوْرَاةُ، وَلَكِنَّ النَّصَارَى نَسَخُوهَا وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا اتِّبَاعًا لَبُولَسَ. عَلَى أَنَّهُمْ
فَجَعَلَهُ نَفْسَهُ هُدًى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلَعَلَّهُ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمَوَاعِظِ الْأَدَبِيَّةِ، وَزَلْزَلَةِ ذَلِكَ الْجُمُودِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الْمَادِّيِّ، وَزَعْزَعَةِ ذَلِكَ الْغُرُورِ الَّذِي كَانَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِيسِيُّونَ مِنَ الْيَهُودِ مَفْتُونِينَ بِهِ. وَخُصَّ هَذَا النَّوْعُ بِالْمُتَّقِينَ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ ; إِذْ لَا يَفُوتُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْكِتَابِ لِحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ وَعِنَايَتِهِمْ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ فِقْهُ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَمَعْرِفَةُ حِكْمَتِهَا وَالْمَقْصِدِ مِنْهَا، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ وَرَاءَ تِلْكَ التَّوْرَاةِ وَهَذَا الْإِنْجِيلِ هِدَايَةً أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَدِينًا أَعَمَّ وَأَشْمَلَ، وَهُوَ الَّذِي يَجِيءُ بِهِ النَّبِيُّ الْأَخِيرُ (الْبَارَقْلِيطُ) الْأَعْظَمُ، وَلَوْلَا زِلْزَالُ الْإِنْجِيلِ فِي جُمْلَتِهِ لِتِلْكَ التَّقَالِيدِ، وَزَعْزَعَتُهُ لِذَلِكَ الْغُرُورِ، وَأُنْسُ النَّاسِ بِمَا حُفِظَ مِنْ تَعَالِيمِهِ عِدَّةَ قُرُونٍ، لَمَا انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورِيَّةَ وَمِصْرَ وَبَيْنَ النَّهْرَيْنِ بِتِلْكَ السُّرْعَةِ.
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " وَلْيَحْكُمْ " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَهُوَ حِكَايَةٌ حُذِفَ مِنْهَا لَفْظُ الْقَوْلِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ وَقُلْنَا: لِيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) كَذَا وَكَذَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ " وَلِيَحْكُمَ " بِكَسْرِ اللَّامِ ; أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ يَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً) مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَعَطْفُ " وَلِيَحْكُمَ " عَلَيْهِ مَعَ إِظْهَارِ اللَّامِ لِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَمَا قَرَأْتَ وَفَسَّرْتَ لَا تَجِدُ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّصَارَى فِي الْقُرْآنِ بِالْحُكْمِ بِالْإِنْجِيلِ، كَمَا يَزْعُمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ بِمَا يُغَالِطُونَ بِهِ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِنْجِيلِ، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوهُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَحْثِ تَتِمَّةٌ.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) أَيْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، الَّذِينَ لَا يُعَدُّونَ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، أَوِ الْخَارِجُونَ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، الْمُتَجَاوِزُونَ لِأَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ.
(بَحْثٌ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَكَوْنِهِ كُفْرًا وَظُلْمًا وَفِسْقًا) الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ وَالْفِسْقُ كَلِمَاتٌ تَتَوَارَدُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرِدُ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرٍ (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢: ٢٥٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَا يُنَافِي دِينَ اللهِ الْحَقَّ، دُونَ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِنْكَارُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَيْسَ كُفْرًا فِي عُرْفِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ "، وَلَا إِطْلَاقِهِ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ فِي عُرْفِهِمْ، وَمَا كُلُّ ظُلْمٍ أَوْ فِسْقٍ يُعَدُّ كُفْرًا عِنْدَهُمْ، بَلْ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ ظُلْمًا أَوْ فِسْقًا ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْحُكْمُ الْقَاطِعُ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مَحَلًّا لِلْبَحْثِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَ مَنْ يُوَفِّقُ بَيْنَ عُرْفِهِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ نَرَاهُمْ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْوَالًا، مِنْهَا قَوْلُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَنَالَ هَذَا الْوَعِيدُ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَّا مِثْلَهُمْ، وَأَعْرَضَ عَنْ كِتَابِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَالْقُرْآنُ عِبْرَةٌ يَعْبُرُ بِهِ الْعَقْلُ مِنْ فَهْمِ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ حُذَيْفَةُ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ; أَنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، كَلَّا وَاللهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ (أَيْ سَيْرَ النَّعْلِ) عَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ.
(قَالَ) : وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ ; إِنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُلْوٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرٍّ فَهُوَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ "، قَالَ: فَقُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا، قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ: لَا بَلْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا، ثُمَّ لَقِيتُ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا،
قَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَزَلَ عَلَيْنَا، وَمَا نَزَلَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَهُوَ لَنَا وَلَهُمْ. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَسَأَلْتُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ سَعِيدٌ وَمِقْسَمٌ، قَالَ:
وَأَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ خَوَاتِمِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمْ، لَا أَنَّهَا فِي كِتَابِهِمْ ; إِذْ لَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ، وَالْأُولَيَانِ مِنْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى النَّصَارَى، لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهَا عَامَّةٌ، لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ الْكُفْرِ الْأَكْبَرِ فِي الْأُولَى، وَكَذَا الْأُخْرَيَانِ، إِذَا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ نَاشِئًا عَنِ اسْتِقْبَاحِهِ وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، وَتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ فِي الْأُولَى بِمَعُونَةِ سَبَبِ النُّزُولِ كَمَا رَأَيْتَ فِي تَصْوِيرِنَا لِلْمَعْنَى.
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ أَدْنَى تَأَمُّلٍ، تَظْهَرُ لَكَ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الْكُفْرِ فِي الْأُولَى، وَبِوَصْفِ الظُّلْمِ فِي الثَّانِيَةِ، وَبِوَصْفِ الْفُسُوقِ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْأَلْفَاظُ وَرَدَتْ بِمَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مُوَافِقَةً لِاصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ. فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى كَانَ الْكَلَامُ فِي التَّشْرِيعِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْتِزَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ الْعَمَلَ وَالْحُكْمَ بِهِ، وَالْوَصِيَّةَ بِحِفْظِهِ. وَخُتِمَ الْكَلَامُ بِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ مُعْرِضٍ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ، رَغْبَةً عَنْ هِدَايَتِهِ وَنُورِهِ، مُؤْثِرًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْكَافِرُ بِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ عَنْ جَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللهِ، وَهَذَا هُوَ الْعَاصِي بِتَرْكِ الْحُكْمِ، الَّذِي يَتَحَامَى أَهْلُ السُّنَّةِ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِ،
وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْإِيمَانِ وَتُرْجُمَانُ الدِّينِ، بَلْ فِي عِقَابِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَعْضَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ الظَّالِمُ فِي حُكْمِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ فِي بَيَانِ هِدَايَةِ الْإِنْجِيلِ، وَأَكْثَرُهَا مَوَاعِظُ وَآدَابٌ وَتَرْغِيبٌ فِي إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُطَابِقُ مُرَادَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ، لَا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ، مِمَّنْ خُوطِبُوا بِهَا، فَهُمُ الْفَاسِقُونَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مُحِيطِ تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدِ اسْتَحْدَثَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ نَحْوَ مَا اسْتَحْدَثَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَتَرَكُوا بِالْحُكْمِ بِهَا بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي كِتَابِهِ
وَلَكِنْ مَتَى وُجِدَ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ اقْتَضَى تَرْجِيحَهُ عَلَيْهِ كَنَصِّ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي بَابِ الضَّرُورَاتِ. وَقَدْ كَانَ مَوْلَوِيُّ نُورُ الدِّينِ مُفْتِي بِنْجَابَ مِنَ الْهِنْدِ، سَأَلَ شَيْخَنَا الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَسْئِلَةٍ، مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، فَحَوَّلَهَا إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ لِأُجِيبَ عَنْهَا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي أَمْثَالِهَا أَحْيَانًا، وَهَذَا نَصُّ جَوَابِي عَنْ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ، وَهُوَ الْفَتْوَى الْـ ٧٧ مِنْ فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ.
(الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ) (س ٧٧) وَمِنْهُ: أَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَخْدَمِ عِنْدَ الْإِنْكِلِيزِ الْحُكْمُ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَفِيهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؟ (ج) إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ مِنْ أَكْبَرِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْعَصْرِ؛ كَحُكْمِ الْمُؤَلِّفِينَ لِلْقَوَانِينِ وَوَاضِعِيهَا لِحُكُومَاتِهِمْ، وَحُكْمِ الْحَاكِمَيْنِ بِهَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَدَيِّنِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قُضَاةَ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالْقَانُونِ كُفَّارٌ ; أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وَيَسْتَلْزِمُ الْحُكْمُ بِتَكْفِيرِ الْقَاضِي الْحَاكِمِ بِالْقَانُونِ تَكْفِيرَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ الْوَاضِعِينَ لِلْقَوَانِينِ ; فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَلَّفُوهَا بِمَعَارِفِهِمْ، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ بِإِذْنِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُوَلُّونَ الْحُكَّامَ لِيَحْكُمُوا بِهَا، وَيَقُولُ الْحَاكِمُ مِنْ هَؤُلَاءِ: أَحْكُمُ بِاسْمِ الْأَمِيرِ فُلَانٍ ; لِأَنَّنِي نَائِبٌ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الْأَمِيرِ لَفْظَ (الشَّارِعِ).
أَمَّا ظَاهِرُ الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْمَشْهُورِينَ، بَلْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ، فَإِنَّ ظَاهِرَهَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُطْلَقًا؛ سَوَاءٌ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى أَمْ لَا، وَهَذَا لَا يُكَفِّرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى الْخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الْفُسَّاقَ بِالْمَعَاصِي، وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْآيَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْيَهُودِ، وَهُوَ
فِي السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكُفْرِ الْوَاقِعِ فِي إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقِلُ عَنِ الْمِلَّةِ، كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ مَعْرُوفٍ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مُنْكِرًا لَهُ أَوْ رَاغِبًا عَنْهُ لِاعْتِقَادِهِ بِأَنَّهُ ظُلْمٌ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُجَامِعُ الْإِيمَانَ وَالْإِذْعَانَ، وَلَعَمْرِي إِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْأُمَرَاءِ الْوَاضِعِينَ لِلْقَوَانِينِ أَشَدُّ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمْ أَعْسَرُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِي حَقِّهِمْ لَا يَظْهَرُ، وَإِنَّ الْعَقْلَ لَيَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ مُؤْمِنًا مُذْعِنًا لِدِينِ اللهِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كِتَابَهُ يَفْرِضُ عَلَيْهِ حُكْمًا، ثُمَّ هُوَ يُغَيِّرُهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَسْتَبْدِلُ بِهِ حُكْمًا آخَرَ بِإِرَادَتِهِ ; إِعْرَاضًا عَنْهُ، وَتَفْضِيلًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَيُعْتَدُّ مَعَ ذَلِكَ بِإِيمَانِهِ وَإِسْلَامِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْحَاكِمِ، أَنْ يُلْزِمُوهُ بِإِبْطَالِ مَا وَضَعَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللهِ، وَلَا يَكْتَفُوا بِعَدَمِ مُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ، وَمُشَايَعَتِهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا فَالدَّارُ لَا تُعْتَبَرُ دَارَ إِسْلَامٍ فِيمَا يَظْهَرُ، وَلِلْأَحْكَامِ فِيهَا حُكْمٌ آخَرُ، وَهَاهُنَا يَجِيءُ سُؤَالُ السَّائِلِ. وَقَبْلَ الْجَوَابِ عَنْهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَسْأَلَةٍ يَشْتَبِهُ الصَّوَابُ فِيهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ: إِذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمُ الْهِجْرَةُ؛ فَهَلِ الصَّوَابُ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَتَوَلَّوْا لَهُ عَمَلًا أَمْ لَا؟ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَمَلَ لِلْكَافِرِ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ الْمُسْلِمَ إِلَّا الْمُسْلِمُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِشَرِيعَتِهِ، وَقَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا الْعَادِلَةِ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي كُلِّ مَكَانٍ بِإِقَامَةِ مَا يَسْتَطِيعُ إِقَامَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَحُولَ دُونَ تَحَكُّمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا الْقَصْدِ يَجُوزُ لَهُ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إِلَّا إِذَا
مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ - وَالرِّبَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الرِّبَا فِيهَا، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ جَائِزَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمُنَاحَبَةِ (مُرَاهَنَةِ) أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ عَلَى أَنَّ الرُّومَ يَغْلِبُونَ الْفُرْسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، وَإِجَازَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. قَالَ فِي أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: " وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَذَكَرَهَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَقَالَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَقَدْ أُتِيَ بُسْرُ بْنُ أَرْطَأَةَ بِرَجُلٍ مِنَ الْغُزَاةِ قَدْ سَرَقَ مِجَنَّةً، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِيَ فِي الْغَزْوِ لَقَطَعْتُكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى النَّاسِ أَلَّا يَجْلِدُوا أَمِيرَ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ، وَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا، وَهُوَ غَازٍ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا ; لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرْكَ سَعْدٍ إِقَامَةَ حَدِّ السُّكْرِ عَلَى أَبِي مِحْجَنٍ فِي وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ عَلَّلَهُ تَعْلِيلًا آخَرَ، لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ ذِكْرِهِ، وَانْظُرْ تَعْلِيلَ عُمَرَ تَجِدْهُ يَصِحُّ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ.
فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْقَضَائِيَّةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا قِيلَ فِي إِقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحُدُودُ لَا تُقَامُ هُنَاكَ فَقَدْ عَادَتْ أَحْكَامُ الْعُقُوبَاتِ كُلُّهَا إِلَى التَّعْزِيرِ الَّذِي يُفَوَّضُ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَالْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ أَيْضًا، وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فِيهَا عَنِ الشَّارِعِ قَلِيلَةٌ جِدًّا، وَإِذَا رَجَعَتِ الْأَحْكَامُ هُنَاكَ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي تَحَرِّي الْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَجَزْنَا لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عِنْدَ الْحَرْبِيِّ فِي بِلَادِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ مِنَ الْحُكْمِ بِقَانُونِهِ لِأَجْلِ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَحِلًّا لِإِقَامَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِذَلِكَ تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ يُؤْمَنُ مَعَهَا مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَعَلَى مَنْ أَقَامَ أَنْ يَخْدِمَ الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيُقَوِّيَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِتَقْوِيَةِ نُفُوذِ الْإِسْلَامِ وَحِفْظِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ تَقَلُّدِ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ مُتَسَاهِلَةً قَرِيبَةً مِنَ الْعَدْلِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَالْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ قَوَانِينَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَقْرَبُ إِلَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تُفَوِّضُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ إِلَى اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِي الْهِنْدِ بِصِحَّةِ قَصْدٍ وَحُسْنِ نِيَّةٍ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَخْدُمَ الْمُسْلِمِينَ خِدْمَةً جَلِيلَةً، وَظَاهِرٌ أَنَّ تَرْكَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْغَيْرَةِ لِلْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ ; تَأَثُّمًا مِنَ الْعَمَلِ بِقَوَانِينِهَا، يُضَيِّعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُعْظَمَ مَصَالِحِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَمَا نُكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِنْدِ وَنَحْوِهَا وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْوَثَنِيِّينَ إِلَّا بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ أَعْمَالِ الْحُكُومَةِ، وَلَنَا الْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْأُورُبِّيُّونَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ; إِذْ يَتَوَسَّلُونَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى تَقَلُّدِ الْأَحْكَامِ، وَمَتَى تَقَلَّدُوهَا حَافَظُوا عَلَى مَصَالِحِ أَبْنَاءِ مِلَّتِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ صَارُوا أَصْحَابَ السِّيَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِيهَا، وَصَارَ حُكَّامُهَا الْأَوَّلُونَ آلَاتٍ فِي أَيْدِيهِمْ.
وَالظَّاهِرُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْلِمِ لِلْعَمَلِ فِي الْحُكُومَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي الْهِنْدِ (وَمِثْلِهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ) وَحُكْمَهُ بِقَانُونِهَا هُوَ رُخْصَةٌ تَدْخُلُ فِي قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَزِيمَةً يُقْصَدُ بِهَا تَأْيِيدُ الْإِسْلَامِ وَحِفْظُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. ذَلِكَ أَنْ تَعُدَّهُ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نُفِّذَ بِهَا حُكْمُ الْإِمَامِ الَّذِي فَقَدَ أَكْثَرَ شُرُوطَ الْإِمَامَةِ، وَالْقَاضِيَ الَّذِي فَقَدَ أَهَمَّ شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَجَمِيعُ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ حُكَّامُ ضَرُورَةٍ، وَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ تَقَلَّدَ الْعَمَلَ لِلْحَرْبِيِّ لِأَجْلِ أَنْ يَعِيشَ بِرَاتِبِهِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) : دَارُ الْحَرْبِ بِلَادُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُحَارِبُوا. وَكَانَتِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُعَاهِدْنَا عَلَى السِّلْمِ يُعَدُّ مُحَارِبًا.
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ؛ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى شَأْنُهُ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ ثُمَّ الْإِنْجِيلِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِيهَا مِنْ هُدًى وَنُورٍ، وَمَا حَتَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِقَامَتِهِمَا، وَمَا شَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِثْمِ تَرْكِ الْحُكْمِ بِهِمَا فَنَاسَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْزَالَهُ الْقُرْآنَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَمَكَانَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَكَوْنَ حِكْمَتِهِ تَعَالَى اقْتَضَتْ تَعَدُّدَ الشَّرَائِعِ وَمَنَاهِجِ الْهِدَايَةِ، فَتِلْكَ مُقَدِّمَاتٌ وَوَسِيلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ وَالنَّتِيجَةُ، قَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أَيْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ الْكَامِلَ الَّذِي أَكْمَلْنَا بِهِ الدِّينَ، فَكَانَ هُوَ الْجَدِيرَ بِأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَيْهِ مَعْنَى الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، هَذِهِ حِكْمَةُ التَّعْبِيرِ بِالْكِتَابِ بَعْدَ التَّعْبِيرِ عَنْ كِتَابِ مُوسَى بِاسْمِهِ الْخَاصِّ (التَّوْرَاةِ) وَعَنْ كِتَابِ عِيسَى بِاسْمِهِ الْخَاصِّ (الْإِنْجِيلِ) وَمِثْلُ هَذَا إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّبِيِّ، حَتَّى فِي كُتُبِهِمْ، وَقَوْلُهُ: (بِالْحَقِّ)... إِلَخْ، مَعْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِالْحَقِّ، مُؤَيَّدًا بِهِ، مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ، مُقَرِّرًا لَهُ، بِحَيْثُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى جِنْسِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْهَا وَشَهِيدٌ، بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ حَالِهَا فِي أَصْلِ إِنْزَالِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ خُوطِبُوا
بِهَا، مِنْ نِسْيَانِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا وَإِضَاعَتِهِ، وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا وَتَأْوِيلِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا، فَهُوَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهَا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) يَعْنِي أَمِينًا عَلَيْهِ، يَحْكُمُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيِّ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: شَهِيدًا عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ.
لِسَانُ الْعَرَبِ: وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " قَالَ: الْمُهَيْمِنُ (أَيْ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ) : الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنْشَدَ:
أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ | مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ |
(قَالَ) وَفِي الْمُهَيْمِنِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمَنُ. وَقَالَ الْكَسَائِيُّ: الْمُهَيْمِنُ: الشَّهِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّقِيبُ، يُقَالُ هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً: إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ، وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ وَقَبَّانًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: وَقَائِمًا عَلَى الْكُتُبِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِهِ، وَيَكُونُ لَهُ حَقُّ مُرَاقَبَتِهِ وَالْحُكْمُ فِي أَمْرِهِ بِحَقٍّ، كَمَا وَصَفَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ خِلَافَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْمُرَاقَبَةَ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ.
وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ فَهِمَ مِنْ هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهَا بِالْحِفْظِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُهَيْمِنِ: الشَّهِيدَ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَحَكَّمُوا فِي شَهَادَتِهِ كَمَا يَشَاءُونَ؟ أَمِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا قَالَهُ فِي شَأْنِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَأَهْلِهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ نَصُّ شَهَادَتِهِ لَهَا وَلَهُمْ أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ؟ وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَحَسْبُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا فِي كُلٍّ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَبْلَهَا إِنَّهُمْ " أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ "، وَقَالَ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) (٢: ١٣٦) الْآيَةَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُوَضِّحُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ - وَاللَّفْظُ لَهُ - مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ، وَوَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ; فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي " وَوَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ. وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ سُؤَالِهِمُ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الِاهْتِدَاءِ وَتَلَقِّي مَا يَرْوُونَهُ بِالْقَبُولِ لِأَجْلِ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ أَوْ لِتَفْصِيلِ بَعْضِ مَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ. وَسَبَبُهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لِنِسْيَانِهِمْ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَتَحْرِيفِهِمْ لِبَعْضِهِ، بَطَلَتِ الثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِمْ، فَالْمُصَدِّقُ لَهَا عُرْضَةٌ لِتَصْدِيقِ الْبَاطِلِ، وَالْمُكَذِّبُ لَهَا عُرْضَةٌ لِتَكْذِيبِ الْحَقِّ، إِذْ لَا يَتَيَسَّرُ لَنَا أَنْ نُمَيِّزَ فِيمَا عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمَحْفُوظِ السَّالِمِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَغَيْرِهِ، فَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا نُصَدِّقَهُمْ وَلَا نُكَذِّبَهُمْ إِلَّا إِذَا رَوَوْا شَيْئًا يُصَدِّقُهُ الْقُرْآنُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنَّا نُصَدِّقُ مَا صَدَّقَهُ، وَنُكَذِّبُ مَا كَذَّبَهُ ; لِأَنَّهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ، وَشَهِيدٌ عَلَيْهَا، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بِالْحَقِّ، وَحَفِظَهُ اللهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ بِتَوْفِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِحِفْظِهِ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ، وَسَيَحْفَظُهُ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١٥: ٩) وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَمْرٍ مُتَوَاتِرٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ.
(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْقُرْآنِ وَمَنْزِلَتَهُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِأَمْرِ الدِّينِ بَعْدَهَا، وَرَقِيبٌ وَشَهِيدٌ عَلَيْهَا، فَاحْكُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ، دُونَ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ شَرْعَكَ نَاسِخٌ لِشَرَائِعِهِمْ (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) أَيْ وَلَا تَتَّبِعْ مَا يَهْوُونَ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ وَيَخِفُّ احْتِمَالُهُ، مَائِلًا بِذَلِكَ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا رَيْبَ، وَلَوْ إِلَى مَا صَحَّ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ بِمَا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَعْلِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَبْلَهَا ; أَيْ لِكُلِّ رَسُولٍ
أَوْ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ أَوْ أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلْنَا شَرِيعَةً أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ إِقَامَةَ أَحْكَامِهَا، وَطَرِيقًا لِلْهِدَايَةِ فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ سُلُوكَهُ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِهَا ; لِأَنَّ الشَّرَائِعَ الْعَمَلِيَّةَ وَطُرُقَ التَّزْكِيَةِ الْأَدَبِيَّةِ تَخْتَلِفُ
وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ مَوْرِدُ الْمَاءِ مِنَ النَّهْرِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْعَرَبِ حَتَّى الْآنَ، وَهِيَ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكُلُّ مَا شَرَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ شَرِيعَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِشَرِيعَةِ الْمَاءِ شَرِيعَةٌ ; لِأَنَّهُ يَشْرَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ شَرَائِعَ ; لِشُرُوعِ أَهْلِهِ فِيهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَوْمِ إِذَا تَسَاوَوْا فِي الشَّيْءِ: هُمْ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الْمِنْهَاجُ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الطَّرِيقُ الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ مِنْهُ: هُوَ طَرِيقٌ نَهْجٌ وَمَنْهَجٌ بَيِّنٌ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: مَنْ يَكُ فِي شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ مَاءٌ رِوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَتِ الشَّرِيعَةُ شَرِيعَةً تَشْبِيهًا بِشَرِيعَةِ الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ شَرَعَ فِيهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ رُوِيَ وَتَطَهَّرَ، وَالْمُرَادُ الرِّيُّ الْمَعْنَوِيُّ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْمَاءَ سَبَبَ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ سَبَبَ الْحَيَاةِ الرُّوحِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
أَخْرَجَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) يَقُولُ سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ ; كَيْ يَعْلَمَ اللهُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَلَكِنَّ الدِّينَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الدِّينُ وَاحِدٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ " شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " سُنَّةً وَسَبِيلًا، وَظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَخَصُّ مِنَ الدِّينِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَايِنَةً لَهُ، وَأَنَّهَا الْأَحْكَامُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرُّسُلِ، وَيَنْسَخُ لَاحِقُهَا سَابِقَهَا، وَأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا يُوَافِقُ أَوْ يُقَارِبُ عُرْفَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمَ، لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا عَلَى الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، بَلْ يَخُصُّونَهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْقَضَاءِ، وَمَا يُتَخَاصَمُ فِيهِ إِلَى الْحُكَّامِ، دُونَ مَا يُدَانُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
وَلَا تَجِدُ هَذَا الْحَرْفَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الشُّورَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢: ١٣) وَقَوْلُهُ مِنْهَا: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢: ٢١) وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٤٥: ١٨) فَأَمَّا شَرْعُ الدِّينِ فَهُوَ وَضْعُهُ وَإِنْزَالُهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْرَعَ ; فَآيَتَا الشُّورَى تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ
وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا، لَيْسَ شَرْعًا لَنَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا) لِلِاخْتِصَاصِ الْحَصْرِيِّ أَمْ لَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِهِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (٤٢: ١٣) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (٦: ٩٠) الْآيَةَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَقَدْ بَيَّنَ مَا شَرَعَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ التَّوْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤٢: ١٣) فَهَذِهِ وَصِيَّةُ اللهِ إِلَى الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ ; فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ شَرَائِعِهِمْ، بَلْ حَظْرِ الِاخْتِلَافَ فِي الدِّينِ ; لِأَنَّ الدِّينَ نَزَلَ لِإِزَالَةِ الْخِلَافِ الضَّارِّ وَإِصْلَاحِ
الْأُمَّةِ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يَجْعَلُ الْإِصْلَاحَ إِفْسَادًا وَالدَّوَاءَ دَاءً ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٩٨: ٤) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٣: ١٠٥) وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ لَكَانَ مَعْنَاهَا أَنَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ لَنَا هُوَ عَيْنُ مَا شَرَعَهُ لِنُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا أَنَّنَا مُخَاطَبُونَ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ لِقَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ. وَكَوْنُ مَا شَرَعَهُ لَنَا هُوَ عَيْنَ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) وَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَهُ اللهُ لِقَوْمِ نُوحٍ هُوَ شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرِيعَتِنَا مَا يَنْسَخُهُ؟ وَهُوَ خَبَرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ إِذْ لَا عِلْمَ لَنَا بِمَا شَرَعَهُ تَعَالَى لِقَوْمِ نُوحٍ، وَكَلَامُ اللهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) فَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ هِدَايَتِهِ تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَمَلُ بِشَرَائِعِهِمُ الْعَمَلِيَّةِ ; لِعَدَمِ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِ إِنْ وُجِدَ، وَلِاخْتِلَافِهَا وَنَسْخِ بَعْضِهَا بَعْضًا. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ ; لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ
شَرَائِعِهِمْ، وَجُزْئِيَّاتِ أَعْمَالِهِمْ. كَلَّا، إِنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، هِدَايَةُ الْقُلُوبِ بِمَا وَفَّقَهَا اللهُ لَهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَحُبِّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَحَرِّيهِمَا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى ; فَهُمْ بِهَذَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، وَهَذَا هُدَاهُمْ وَصِرَاطُهُمْ، لَا أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا مَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ.
لَعَمْرِي إِنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاضِحٌ كَالصُّبْحِ، بَلْ هُوَ أَوْضَحُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقَلِّدِينَ جَرَوْا عَلَى سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ قَضَايَا مُسَلَّمَةً، وَيَلْتَمِسُونَ الدَّلَائِلَ لِإِثْبَاتِهَا وَإِبْطَالِ مَا خَالَفَهَا دَلِيلًا وَمَدْلُولًا، وَلَوْ بِالتَّمَحُّلِ وَالتَّأَوُّلِ وَالِاحْتِمَالِ ; فَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُمْ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، فَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ الْمُسَلَّمَ عِنْدَهُمْ وَلَوْ بَادِيَ الرَّأْيِ قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَهُ وَأَبْطَلَهُ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، أَوْ حَرَّفُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِدِينِنَا، وَخَتَمَ النَّبِيِّينَ بِنَبِيِّنَا، وَأَرْسَلَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ قَبْلَهُ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، وَشَرِيعَتُهُ هِيَ الشَّرِيعَةُ الدَّائِمَةُ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَلَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ السَّمْحَةَ صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، وَحِكْمَةُ نَسْخِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ عَدَمُ صَلَاحِيَتِهَا لِغَيْرِ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلدَّوَامِ فِي أَهْلِهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا جُمْلَةُ مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمَا يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِإِقَامَتِهِمَا ; فَشِدَّةُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْقِتَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْمَلَ بِهِ أُمَّةٌ، وَلِشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا، وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ وَكُلِّ مُعْتَدٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّرَائِعُ الْخَاصَّةُ الْمَوْقُوتَةُ، الَّتِي نَسَخَتْهَا شَرِيعَتُنَا لِإِكْمَالِ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَاحِدٌ فِي أُصُولِهِ وَمَقَاصِدِهِ،
وَهِيَ تَوْحِيدُ اللهِ وَتَنْزِيهُهُ وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمُوَافَقَتِهِ لِبَعْضِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ فِي كَوْنِهَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِشَرْعِهَا لَنَا، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَانِعًا، فَإِنَّمَا كُنَّا مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِنُزُولِهَا عَلَيْنَا، لَا بِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِمَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ بَعْدَ نُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الْمَدِينَةِ، حَتَّى فِي عَمَلِ الْبِرِّ الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ شَرِيعَتِنَا وَشَرِيعَتِهِمْ ; كَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ; إِذْ كَانَ يَصُومُهُ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُعَظِّمُونَهُ، أَوِ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ، قَالَ: " لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ، اجْتِهَادًا قَبْلَ نُزُولِ الْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ فِي مَكَّةَ. وَمَا قَالَ مَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، إِلَّا لِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْلِ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَبَيْنَ الشَّرِيعَةِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ اسْتِعْمَالَ الْمُتَرَادِفَاتِ، وَالتَّحْقِيقُ الْفَرْقُ - كَمَا قَالَ قَتَادَةَ - وَعَرَفْتَ تَفْصِيلَهُ.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) فَإِنَّ اللهَ سَمَّى الْإِسْلَامَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَامْتَنَّ عَلَى الْعَرَبِ بِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمِلَّةِ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣: ٩٥) وَقَالَ: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (٤: ١٢٥) وَقَالَ: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٦: ١٦١ - ١٦٣) فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَنِ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٦: ١٢٠ - ١٢٣) فَهَذِهِ هِيَ
مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَمَنْ قَبْلَهُ أَيْضًا، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أَيْ وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي سُلُوكِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، لَفَعَلَ بِأَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ، وَأَلْزَمَكُمْ حَالَةً وَاحِدَةً فِي أَخْلَاقِكُمْ وَأَطْوَارِ مَعِيشَتِكُمْ، بِحَيْثُ تَصْلُحُ لَهَا شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُونَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ الَّتِي يَقِفُ اسْتِعْدَادُهَا عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ ; كَالطَّيْرِ أَوِ النَّمْلِ أَوِ النَّحْلِ.
(وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ) أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، بَلْ جَعَلَكُمْ نَوْعًا مُمْتَازًا
يَرْتَقِي فِي أَطْوَارِ الْحَيَاةِ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، فَلَا تَصْلُحُ لَهُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَامِهِ وَجَمَاعَاتِهِ، وَآتَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ فِي الْفَهْمِ وَالْهِدَايَةِ فِي طَوْرِ طُفُولِيَّةِ النَّوْعِ وَغَلَبَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَفِي طَوْرِ تَمْيِيزِهِ وَغَلَبَةِ الْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ النَّوْعُ سِنَّ الرُّشْدِ وَمُسْتَوَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَامِ بِالْقُوَّةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفِعْلِ، خَتَمَ لَهُ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاهِجَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَجَعَلَ أَمْرَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ شُورَى بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ (لِيَبْلُوَكُمْ) أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ بِذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِاسْتِعْدَادِكُمْ (فِيمَا آتَاكُمْ) أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ، فَتَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي تَمْيِيزِكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فِي أَرْضِكُمْ، وَهُوَ كَوْنُكُمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ.
وَالْمَسِيحِيَّةُ يَهُودِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَرُوحَانِيَّةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهِيَ تَأْمُرُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُسَلِّمُوا أُمُورَهُمُ الْجَسَدِيَّةَ وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ لِلْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلْطَةِ وَالْحُكْمِ، مَهْمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ، وَأَنْ يَقْبَلُوا كُلَّ مَا يُسَامُونَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ، وَيَجْعَلُوا عِنَايَتَهُمْ كُلَّهَا بِالْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ، وَتَرْبِيَةِ الْعَوَاطِفِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ ; فَهِيَ تَرْبِيَةٌ لِلنَّوْعِ فِي طَوْرِ التَّمْيِيزِ عِنْدَمَا كَانَ كَالْغُلَامِ الْيَافِعِ الَّذِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ الْخَطَابِيَّاتُ وَالشِّعْرِيَّاتُ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامِيَّةُ فَهِيَ الْقَائِمَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ وَالِاسْتِقْلَالِ، الْمُحَقِّقَةُ لِمَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢: ١٤٣) وَقَوْلُهُ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣: ١١٠) فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسِ الِاسْتِقْلَالِ الْبَشَرِيِّ اللَّائِقِ بِسِنِّ الرُّشْدِ وَطَوْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتَابِهَا قَلِيلَةً، وَفُرِضَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ ; لِأَنَّ الرَّاشِدَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ، فَلَا يُقَيَّدُ إِلَّا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْقِلَهُ مِنَ
الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ، وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِ الْمِلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَنْ أَحَبَّ زِيَادَةَ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعْثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) (٢: ٢١٣) الْآيَةَ (رَاجِعْ ص٢٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) (٤٣: ٣٣) فِي (ص٨٢٧ م ١٥ مِنَ الْمَنَارِ) وَإِلَى فَصْلِ (الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَوِ الْإِسْلَامِ) مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ.
وَمِنْ فِقْهِ مَا حَقَّقْنَاهُ عُلِمَ أَنَّ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى بِإِكْمَالِ اللهِ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ، وَخَتْمِهِ النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلِ شَرِيعَتِهِ عَامَّةً دَائِمَةً، لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِبِنَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَسَاسِ الِاجْتِهَادِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، الَّذِينَ هُمْ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ فَقَدْ مَنَعَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى وَأَبْطَلَ مَزِيَّةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَجَعَلَهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَا أَشَدُّ جِنَايَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ عَلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ.
(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا أَنْ تَبْتَدِرُوا الْخَيْرَاتِ وَتُسَارِعُوا إِلَيْهَا ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ مِنْ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَاهِجِ الدِّينِ، فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَنْظُرُونَ مِنَ الدِّينِ وَالشَّرْعِ
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أَيْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فِيهِ حُكْمُ اللهِ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فِيهِ: أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ لِبَعْضِهِمْ وَقَبُولِ كَلَامِهِ، وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي ذَلِكَ وَرَاءَ الْحُكْمِ ; كَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَجَذْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ
الْحَقَّ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ ; أَيْ يَسْتَزِلُّوكَ بِاخْتِبَارِهِمْ إِيَّاكَ، وَيُنْزِلُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ لِتَحَكُمَ بِغَيْرِهِ. أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صُورِيَا، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ " مِنَ الْيَهُودِ ": اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ ; فَأَبَى ذَلِكَ وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) إِلَى قَوْلِهِ: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ إِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لَهُمْ، وَأَمْرُهُ بِالثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامِ حُكْمِ اللهِ وَعَدَمِ الِانْخِدَاعِ لِلْيَهُودِ، وَتَسْجِيلِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ فِتْنَتَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُوا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ تَحَاكُمِهِمْ إِلَيْكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَاضْطِرَابُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَاسْتِثْقَالُهُمْ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَتَحَاكُمُهُمْ إِلَيْكَ رَجَاءَ أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِمُخَادَعَتِكَ وَفِتْنَتِكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ، كُلُّ هَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ مِنْ فَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَرَوَابِطِ الِاجْتِمَاعِ لَا بُدَّ أَنْ تُنْتِجَ وُقُوعَ عَذَابٍ بِهِمْ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ هُنَا مَا حَلَّ بِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا بِغَدْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا، إِذَا كَانَ نُزُولُ الْآيَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نُزُولُ هَذَا السِّيَاقِ كُلِّهِ قَبْلَ نُزُولِ أَوَائِلَ السُّورَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمْ عَذَابٌ فِي
مِنْ دِينِهِمْ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى دِينِكَ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ صَارَ الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالتَّمَرُّدُ مِنْ صِفَاتِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " يَبْغُونَ " بِفِعْلِ الْغَيْبَةِ ; لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ " تَبْغُونَ " عَلَى الِالْتِفَاتِ لِمُخَاطَبَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ ; أَيْ أَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْهَوَى، وَتَرْجِيحَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ؟ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي خُصُومَةٍ مِمَّا كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ جَعْلِ دِيَةَ الْقُرَيْظِيِّ ضِعْفَيْ دِيَةِ النَّضِيرِيِّ لِمَكَانِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بِدِينِهِ، وَيُذْعِنُونَ لِشَرْعِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَجْمَعُ الْحُسْنَيَيْنِ؛ مُنْتَهَى الْعَدْلِ وَالْتِزَامِ الْحَقِّ مِنَ الْحَاكِمِ، وَمُنْتَهَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا تَفْضُلُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْقَوَانِينَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّ " اللَّامَ " هُنَا بِمَعْنَى " عِنْدَ " أَوْ لِلْبَيَانِ ; أَيْ إِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْمُوقِنِينَ، وَفِي نَظَرِهِمْ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَمَضْمُونُ الْآيَةِ أَنَّ مِمَّا يَنْبَغِي التَّعَجُّبُ مِنْهُ مِنْ مُنَكَرَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَائِرِ، وَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى حُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ، وَالْحَالُ أَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْعَدْلُ، الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَفْضِيلُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، الَّذِي يُمَكِّنُ الظَّالِمِينَ الْأَقْوِيَاءَ مِنِ اسْتِذْلَالِ أَوِ اسْتِئْصَالِ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ شَرُّ الْأَحْكَامِ الْمُخَرِّبُ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْسِدُ لِلنِّظَامِ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنْ يُوجَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْبَشَرِ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ خَيْرٌ مِنْ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ شَرْعِ اللهِ وَلَا قَوَاعِدَهُ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرُ مَا فِيهَا مِنْ
آرَاءِ أَفْرَادٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، فَهُمْ يَنْتَقِدُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِمَصَالِحِ النَّاسِ تَارَةً، وَلِأَهْوَائِهِمْ تَارَةً أُخْرَى، يَحْتَجُّونَ بِضَرْبٍ مِنَ الْجَهْلِ عَلَى ضَرْبٍ آخَرَ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: " وَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ صَارَ الْكُفَّارُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ صَالَحَهُمْ وَوَادَعَهُمْ عَلَى أَلَّا يُحَارِبُوهُ، وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا
يُوَالُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ، وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ آمِنُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَقِسْمٌ حَارَبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَقِسْمٌ تَارِكُوهُ فَلَمْ يُصَالِحُوهُ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ، بَلِ انْتَظَرُوا مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَعْدَائِهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ ظُهُورَهُ وَانْتِصَارَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ،
وَأَمَّا السَّبَبُ الْخَاصُّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهَاكَ مُلَخَّصُهُ: أَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ (زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ) وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَلَهُ مِنْ حِلْفِهِمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " أَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ "، قَالَ: وَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللهِ نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي الْمَائِدَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَوَالِيَ مِنَ الْيَهُودِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ وِلَايَةِ يَهُودَ، وَأَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: إِنِّي رَجُلٌ أَخَافُ الدَّوَائِرَ، لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ مَوَالِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ: " يَا أَبَا الْحُبَابِ! أَرَأَيْتَ الَّذِي نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وَلَاءِ يَهُودَ عَلَى عُبَادَةَ، فَهُوَ لَكَ دُونَهُ " قَالَ: إِذَنْ أَقْبَلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) إِلَى أَنْ بَلَغَ (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٥: ٦٧).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْآيَةِ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ؛
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوهُ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ، وَأَنَّ مَعْنَى جَعْلِهَا أَسْبَابًا لِنُزُولِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَظِمُهَا، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ النَّصْرِ وَالْمُظَاهَرَةِ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ ; إِذْ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلْ إِلَّا مَنْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ كَالْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ بِالْوِلَايَةِ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ دُونَ جُمْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ
وَغَيْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ لَهُمُ الْيَدَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَثَبَاتِ أَهْلِهِ. وَلَوْلَا هَذَا لَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، لَا لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَلَّا يُحَالِفَ أَهْلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ. كَيْفَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ؟ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي حَنَقٍ شَدِيدٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَسَدٍ لِلْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَا يُوثَقُ بِوَفَائِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ أَنْ يُوَالِيَ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الْمُعَادِينَ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُعَاهِدُونَهُمْ عَلَى التَّنَاصُرِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ إِذَا خُذِلَ الْمُسْلِمُونَ وَغُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ أَنَّ مُعَادَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانَتْ بِحَسَبِ جِنْسِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ، لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كِتَابَهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ.
هَذَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (٦٠: ١)... إِلَخْ. وَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمَّا كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَرْبِهِمْ
(١٠٩: ٦).
وَقَدْ جَعَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا - الْوِلَايَةَ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، وَدَعَّمُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِعَزْلِ كَاتِبِهِ النَّصْرَانِيِّ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ حَاوَلَ الْمُتَقَدِّمُونَ جَعْلَ النَّهْيِ خَاصًّا بِمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ مَعَ جَعْلِ الْوِلَايَةِ وِلَايَةَ النُّصْرَةِ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلَّيَا مَنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي التَّخْرِيبِ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ اللَّحَاقَ بِذَلِكَ الْيَهُودِيِّ، وَالْآخَرُ بِنَصْرَانِيٍّ بِالشَّامِ، وَلَمْ يَصِحَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّتُهُ، فَيَسْلَمَ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ، وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِخِلَافِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودَ أَوْ نَصَارَى جَزَعًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ " اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ: فَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا تُعَاشِرُوهُمْ
الْأُمُورِ، وَهُوَ خَطَأٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهُ لُغَةُ الْآيَةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَسِيَاقِهَا، كَمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَالْحَالَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَسَبَبُ وُقُوعِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ، اعْتِمَادُهُ عَلَى مِثْلِ الْكَشَّافِ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى تَفَاسِيرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرْسَخُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ قَدَمًا، وَأَدَقُّ فَهْمًا وَذَوْقًا ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ: " تَنْصُرُونَهُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونَهُمْ " وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَأَخَذَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَعْنَى الثَّانِي بِعِبَارَةٍ تَسْتَحِقُّ مِنَ النَّقْدِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ عِبَارَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَأَخْطَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إِيرَادِ حَدِيثِ " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ; فَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، أَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيرًا ; أَيْ رَوَوْهُ مُرْسَلًا، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا، وَقَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحُ الْمُرْسَلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ (أَيِ الدِّيَةِ) وَقَالَ: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، فَجَعَلَ لَهُمْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَسْقَطُوا نِصْفَ حَقِّهِمْ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَدَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَنْ نَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (٨: ٧٢) فَنَفَى تَعَالَى وِلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ ; إِذْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ يَنْفِيَ وِلَايَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَقَدْ كَانُوا مُحَارِبِينَ أَيْضًا - أَوْلَى. فَذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ وَضْعُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، إِنَّمَا
يُنَاسِبُهُ مَا قُلْنَا آنِفًا، فَهُوَ لَا يَدُلُّ - إِذَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ سِيقَ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ كَمَا قَالُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ، وَالنَّصَارَى بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ، لَا أَنَّ الْيَهُودَ أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مَنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ; إِذْ كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَقَضُوا مَا عَقَدَهُ الرَّسُولُ مَعَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ ; فَصَارَ الْجَمِيعُ حَرْبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِعُدْوَانٍ وَلَا قِتَالٍ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ السَّابِقَةِ.
ذَلِكَ لِمُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ.
(إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ، وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ؛ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُوَالِي أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَصَبُوا لَهُمُ الْحَرْبَ، وَيَنْصُرُهُمْ أَوْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ فَهُوَ ظَالِمٌ بِوَضْعِهِ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَلَنْ يَهْتَدِيَ مِثْلُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ أَبَدًا.
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) اتَّفَقَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ ; فَهُمُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ; أَيْ إِيمَانُهُمْ مُعْتَلٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ لَمْ يَصِلُوا فِيهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْيَقِينِ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ - زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ - ذَا ضِلْعٍ مَعَ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَمُتُّونَ إِلَى الْيَهُودِ بِالْوَلَاءِ وَالْعُهُودِ، وَيُسَارِعُونَ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي سَلَكُوهَا. كُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِتَوْثِيقِ وَلَائِهِمْ وَتَأْكِيدِهِ ابْتَدَرُوهَا، فَهُمْ يُسَارِعُونَ فِي أَعْمَالِ مُوَالَاتِهِمْ مُسَارَعَةَ الدَّاخِلِ فِي الشَّيْءِ، الثَّابِتِ عَلَيْهِ، الرَّاغِبِ فِيمَا يُزِيدُهُ تَمَكُّنًا وَثَبَاتًا ; وَلِهَذَا قَالَ: (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) وَلَمْ يَقُلْ يُسَارِعُونَ إِلَيْهِمْ، فَمَا عَذَرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرَدِّدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَقُولُونَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) أَيْ نَخْشَى أَنْ تَقَعَ بِنَا مُصِيبَةٌ كَبِيرَةٌ مِمَّا يَدُورُ بِهِ الزَّمَانُ، أَوْ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالدَّوَاهِي الَّتِي تُحِيطُ بِالْمَرْءِ إِحَاطَةَ الدَّائِرَةِ بِمَا فِيهَا. فَنَحْتَاجُ إِلَى نُصْرَتِهِمْ لَنَا، فَنَحْنُ نَتَّخِذُ لَنَا يَدًا عِنْدَهُمْ
بَعْضُ رِجَالِهَا الصَّادِقِينَ لَهَا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ مُضْطَرِّينَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِنُفُوذِ بَعْضِ هَذِهِ الدُّوَلِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَعْمَرَ الْأَجَانِبُ بِلَادَهُمْ بِأَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِعْمَارَ، وَأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَأَمْرُ مُنَافِقِيهِمْ أَظْهَرُ، يَتَقَرَّبُونَ إِلَى الْأَجَانِبِ بِمَا يَضُرُّ أُمَّتَهُمْ، حَتَّى فِيمَا لَمْ يُكَلِّفُوهُمْ إِيَّاهُ، وَيُسَمُّونَ هَذَا تَأْمِينًا لِمُسْتَقْبَلِهِمْ، وَاحْتِيَاطًا لِمَعِيشَتِهِمْ، وَلَوِ الْتَزَمُوا الصِّدْقَ فِي أَمْرِهِمْ كُلِّهِ، فَلَمْ يَلْقَوْا أُمَّتَهُمْ بِوَجْهٍ وَالْأَجَانِبَ بِوَجْهٍ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْرَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَصْلَحَةِ الْبِلَادِ وَمُدَارَاةِ الْأَجَانِبِ، وَلَكِنَّهُ النِّفَاقُ يَخْدَعُ صَاحِبَهُ بِمَا يَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ يَخْدَعُ بِهِ غَيْرَهُ وَيَسْلُكُ سَبِيلَ الْحَزْمِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِنِينَ عَلَى نَهْبِ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ، وَإِيدَاعِهِ فِي مَصَارِفِ أُورُبَّةَ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِهِ، إِذَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى دَوْلَتِهِمْ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى مُنَافِقِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ: (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) أَيْ فَالرَّجَاءُ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَصِدْقِهِ مَا وَعَدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يُعَادِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ; كَفَضِيحَتِهِمْ أَوِ الْإِيقَاعِ بِهِمْ، فَيُصْبِحُوا نَادِمِينَ عَلَى مَا كَتَمُوهُ وَأَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَتَوَقُّعِ الدَّائِرَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْفَتْحُ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِفَتْحِ الْبِلَادِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) (٧: ٨٩) وَقَوْلُهُ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) (٣٢: ٢٨) وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَتْحُ مَكَّةَ، الَّذِي كَانَ بِهِ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَالثِّقَةُ بِقُوَّتِهِ، وَإِنْجَازُ اللهِ وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ أَوَائِلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحَ بِلَادِ الْيَهُودِ فِي الْحِجَازِ كَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمِ الْأَمْرَ مِنْ عِنْدِهِ بِالْجِزْيَةِ تُضْرَبُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَنْقَطِعُ أَمَلُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَيَنْدَمُوا
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " وَيَقُولُ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطَفَ الْجُمَلِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَاذَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالنَّصْبِ، عَطَفَا عَلَى " يَأْتِي "؛ أَيْ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وَأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَئِذٍ: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُتَعَجِّبِينَ مِنْ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، مُجْتَهِدِينَ فِي تَوْكِيدِهَا، إِنَّهُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى دِينِكُمْ، وَمَعَكُمْ فِي حَرْبِكُمْ وَسِلْمِكُمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ " الَّتِي فَضَحَتْهُمْ: (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لِمَنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (٩: ٥٦) أَيْ فَهُمْ لِفَرَقِهِمْ وَخَوْفِهِمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٩: ٥٧) أَيْ يُسْرِعُونَ إِسْرَاعَ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ ; فِرَارًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتَوَارِيًا عَنْهُمْ، وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِمُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَوَدَّتِهِمُ السِّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إِذَا نَقَضُوا عَهْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوهُ ; يَجِدُونَ مِنْهُمْ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، أَوْ يُوقِعُونَ الْفَشَلَ وَالتَّخْذِيلَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) (٥٩: ١١، ١٢)... إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَتَكَلَّفُونَهَا نِفَاقًا ; لِيُقْنِعُوكُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْكُمْ ; كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْجِهَادِ مَعَكُمْ، فَخَسِرُوا مَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، لَوْ صَلَحَ حَالُهُمْ وَقَوِيَ إِيمَانُهُمْ بِهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ! وَمَا أَخْسَرَهَا! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْقِيبًا عَلَى قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; إِذْ كَانَتْ تَقِيَّةً، لَا تَقْوَى
فِيهَا وَلَا إِخْلَاصَ، وَبِخُسْرَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْفَضِيحَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ مَا هُوَ صَرِيحٌ، وَفِي " عَسَى " هُنَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلتَّحْقِيقِ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصْرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ تَتِمَّةِ السِّيَاقِ السَّابِقِ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَدُّ مِنْهُمْ كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ مُرْتَدِّينَ بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ أَخْفَوْا ذَلِكَ فَإِظْهَارُهُمْ لِلْإِيمَانِ نِفَاقٌ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ حَالَهُمْ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَقِيقَةً يَدْعَمُهَا بِخَبَرٍ مِنَ الْغَيْبِ، يُظْهِرُهُ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ ; وَهِيَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مَرْضَى الْقُلُوبِ لَا غَنَاءَ فِيهِمْ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي نَصْرِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ اللهُ
الدِّينَ وَيُؤَيِّدُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ، فَيَزِيدُهُمْ رُسُوخًا فِي الْحَقِّ، وَقُوَّةً عَلَى إِقَامَتِهِ، وَيُحِبُّونَهُ فَيُؤْثِرُونَ مَا يُحِبُّهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَقِ وَالْعَدْلِ وَإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى سَائِرِ مَحْبُوبَاتِهِمْ مَنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ، وَأَهْلٍ وَوَلَدٍ.
أَخْرَجَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ قَتَادَةَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا قَبَضَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ - أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الْبَحْرَيْنِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالُوا (أَيِ الْمُرْتَدُّونَ) : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي، وَاللهِ لَا نُغْصَبُ أَمْوَالَنَا، فَكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا لِهَذَا أَعْطَوْهَا وَزَادُوهَا، فَقَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُ، وَلَوْ مَنَعُوا عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللهُ وَرَسُولَهُ لَقَاتَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ اللهُ عِصَابَةً مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَاتَلَ عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَبَى وَقَتَلَ وَحَرَقَ بِالنِّيرَانِ أُنَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ - وَهِيَ الزَّكَاةُ - صَغَرَةً أَقْمِيَاءَ، فَأَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ حِطَّةٍ مُخْزِيَةٍ أَوْ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ ; فَاخْتَارُوا الْحِطَّةَ الْمُخْزِيَةَ، وَكَانَتْ
أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا، أَنَّ قَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ، وَأَنَّ قَتْلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَا أَصَابُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَالٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ فَهُوَ لَهُمْ حَلَالٌ، فَالْقَوْمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى هَذَا هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَرَوَوْا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمُ الْأَنْصَارُ ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الْفُرْسُ لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِي مَنَاقِبِ سَلْمَانَ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَ فِي خَيْبَرَ بِأَنْ يُعْطِيَ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّهُ اللهُ، ثُمَّ أَعْطَاهَا عَلِيًّا، وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلٍ، وَلَفْظُ الْقَوْمِ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْجَمَاعَةِ، وَغُلَاةُ
وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ: " إِنَّهُمْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ "، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: هُمْ أَهْلُ سَبَأٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: " هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ، ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ، ثُمَّ التُّجِيبِ ".
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، لِلْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: اللهُ تَعَالَى وَعَدَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِخَيْرٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْمُرْتَدِّينَ، وَرَأَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْوَعْدِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَلَوْ غَيْرَ الْمُرْتَدِّينَ، وَأَنَّ مَجِيءَ الْأَشْعَرِيِّينَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ كَانَ مَوْقِعُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ تَصْدُقُ فِي كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِهَا، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ هُمْ أَهْلُهَا بِالْأَوْلَى.
أَمَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ فَكَثِيرُونَ، وَقَاتَلَهُمْ كَثِيرُونَ، فَكَانَ
كُلُّ مُفَسِّرٍ يَذْكُرُ قَوْمًا مِمَّنْ حَارَبُوا الْمُرْتَدِينَ، وَيَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ لِمُرَجِّحٍ مَا، فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ وَالتَّارِيخِ أَنَّهُ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِرْقَةً ; ثَلَاثٌ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأُولَى) : بَنُو مُدْلِجٍ، وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْخِمَارِ ; وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، كَانَ كَاهِنًا تَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا عُمَّالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَإِلَى سَادَاتِ الْيَمَنِ، فَأَهْلَكَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ ; بَيَّتَهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ لَيْلَةَ قُتِلَ، فَسُّرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ، وَأَتَى خَبَرُهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
(الثَّانِيَةُ) : بَنُو حَنِيفَةَ قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ بْنِ حَبِيبٍ، تَنَبَّأَ وَكَتَبَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ. سَلَامٌ عَلَيْكَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. فَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَانِ لَهُ بِذَلِكَ، فَحِينَ قَرَأَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُسَائِلُنِي النَّاسُ عَنْ قَتْلِهِ | فَقُلْتُ ضَرَبْتُ وَهَذَا طَعَنَ |
وَارْتَدَّتْ سَبْعُ فِرَقٍ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ (١) : فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ. (٢) غَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ. (٣) بَنُو سُلَيْمٍ قَوْمُ الْفُجَاءَةِ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ. (٤) بَنُو يَرْبُوعَ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ. (٥) بَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ قَوْمُ سِجَاحَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الْكَاهِنَةِ،
تَنَبَّأَتْ، وَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُسَيْلِمَةَ فِي قِصَّةٍ شَهِيرَةٍ، وَصَحَّ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا. (٦) كِنْدَةُ قَوْمُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ. (٧) بَنُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ بِالْبَحْرَيْنِ، قَوْمُ الْحَطَمِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَفَى اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَارْتَدَّتْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُمْ غَسَّانُ قَوْمُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، تَنَصَّرَ وَلَحِقَ بِالشَّامِ، وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ، وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَحْبَارِ الشَّامِ لَمَّا لَحِقَ بِهِمْ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّ جَبَلَةَ وَرَدَ إِلَيَّ فِي سَرَاةِ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ، فَأَكْرَمْتُهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَطَافَ، فَوَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَلَطَمَهُ جَبَلَةَ فَهَشَّمَ أَنْفَهُ وَكَسَرَ ثَنَايَاهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: قَلَعَ عَيْنَهُ - فَاسْتَعْدَى الْفَزَارِيُّ عَلَى جَبَلَةَ إِلَيَّ، فَحَكَمْتُ إِمَّا بِالْعَفْوِ وَإِمَّا بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ: أَتَقْتَصُّ مِنِّي وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ؟ فَقُلْتُ: شَمَلَكَ وَإِيَّاهُ الْإِسْلَامُ، فَمَا تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالْعَافِيَةِ. فَسَأَلَ جَبَلَةُ التَّأْخِيرَ إِلَى الْغَدِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ رَكِبَ مَعَ بَنِي عَمِّهِ، وَلَحِقَ بِالشَّامِ مُرْتَدًّا، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَأَنْشَدَ:
تَنَصَّرْتُ بَعْدَ الْحَقِّ عَارًا لِلَطْمَةٍ | وَلَمْ يَكُ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ |
فَأَدْرَكَنِي مِنْهَا لِجَاجَ حَمِيَّةٍ | فَبِعْتُ لَهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ |
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي | صَبَرْتُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ |
يَدَاكَ يَدَا جُودٍ فَكَفٌّ مُقَيَّدَةٌ | وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ |
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنَّ يَدَ اللهِ نِعْمَتُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ أَوْ مُلْكُهُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ يَدَ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ
نَعَمْ، إِنَّ التَّثْنِيَةَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ (وَالْيَدَ وَالْيَدَيْنِ) لَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِهِمَا النِّعْمَةَ وَلَا الْقُوَّةَ وَلَا الْمِلْكَ؛ وَإِنَّمَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَنُكْتَةُ التَّثْنِيَةِ إِفَادَةُ سِعَةِ الْعَطَاءِ وَمُنْتَهَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَأْوِيلٌ وَلَا نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْبَارِئُ لِنَفْسِهِ مِنْ صِفَةِ الْيَدِ وَالْيَدَيْنِ وَالْأَيْدِي فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَا سَبَبُ ذُهُولِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ نُكْتَةِ التَّثْنِيَةِ إِلَّا تَوَجُّهُهُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَدَلِ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي كَانُوا قَدِ انْتَحَلُوهُ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ، وَمَتَى وَجَّهَ الْإِنْسَانُ هَمَّهُ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ مِنْهُ حِجَابٌ مَا عَنْ غَيْرِهِ، وَتَقْرِيرُ الْحَقِيقَةِ لِذَاتِهَا غَيْرُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُعَدُّونَ مِنْ خُصُومِهَا (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (٣٣: ٤) وَلِهَذَا غَلَطَ كَثِيرٌ مِنْ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي مَسَائِلَ خَالَفُوا فِيهَا الْمَذْهَبَ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُونَ تَأْيِيدَهُ، وَهَذِهِ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ، لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا.
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) الْخُطَّابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لَكَ وَمِنْ أَحْوَالِ سَلَفِهِمْ وَشُئُونِ كُتُبِهِمْ وَحَقَائِقِ تَارِيخِهِمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ وَالْآيَاتِ
عَلَى نُبُوَّتِكَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْذِبَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ ; لِأَنَّكَ لَوْلَا النُّبُوَّةُ وَالْوَحْيُ لَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ; لَا مِنْ مَاضِيهِ ; لِأَنَّكَ أُمِّيٌّ لَمْ تَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَمَا كُلُّ مَنْ قَرَأَهَا يَعْلَمُ كُلَّ مَا جِئْتَ بِهِ عَنْهُمْ، وَلَا مِنْ حَاضِرِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَفَايَا مَكْرِهِمْ وَأَسْرَارِ كَيْدِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لِتَجَاوُزِهِمُ الْحُدُودَ فِي الْكُفْرِ وَالْحَسَدِ لِلْعَرَبِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ لِأَنْفُسِهِمْ، لَا يَجْذِبُهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَوَاللهِ لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ طُغْيَانًا فِي بُغْضِكَ وَعَدَاوَتِكَ، وَكُفْرًا بِمَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى أَنْ تَرَكُوا الْقُرْآنَ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَدِينِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ زِيَادَةَ طُغْيَانِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ وَكُفْرِهِمْ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ ; فَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ الَّذِي تُفِيدُهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (وَلِيَزِيدَنَّ).
(وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (بَيْنَهُمْ) يَرْجِعُ إِلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَعَزَاهُ غَيْرُهُ إِلَى الْحَسَنِ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ، فَلَا نَعْرِفُ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ غَيْرَهُ، وَفِي تَفَاسِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَحْدَهُمْ. وَيُرَادُ بِالْمُلْقَى حِينَئِذٍ عَدَاوَةُ الْمَذَاهِبِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ ; لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْقَطِعُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ فَائِدَةٌ لِتَخْصِيصِ
النَّصَارَى فَهِيَ أَشَدُّ، وَإِنَّ دُوَلَهُمُ الْكُبْرَى تَسْتَعِدُّ دَائِمًا لِحَرْبٍ يَسْحَقُ بِهَا بَعْضُهَا بَعْضًا.
(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) الْحَرْبُ ضِدَّ السِّلْمِ، وَلَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقِتَالِ، بَلْ أَعَمَّ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحَارِبَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهُوَ يَصْدُقُ بِالْإِخْلَالِ بِالْأَمْنِ، وَالنَّهْبِ وَالسَّلْبِ، وَلَوْ بِغَيْرِ قَتْلٍ، وَيَصْدُقُ بِتَهْيِيجِ الْفِتَنِ، وَالْإِغْرَاءِ بِالْقِتَالِ. خَصَّ مُجَاهِدٌ الْحَرْبَ هُنَا بِحَرْبِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَسَنُ: بِاجْتِمَاعِ السِّفْلَةِ مِنَ الْأَقْوَامِ عَلَى قَتْلِ الْعَرَبِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللهُ وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَفَسَّرَهُ الرَّبِيعُ بِمَا كَانَ مِنْ مَفَاسِدِهِمُ الْمَاضِيَةِ الَّتِي أَغْرَتْ بِهَا الْبَابِلِيِّينَ وَالرُّومَ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ وَبَعْدَهَا، ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ إِيقَادَهُمْ لِنَارِ الْحَرْبِ هُوَ تَلَبُّسُهُمْ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوهَا بِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْذُلُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَخِيبُوا، وَلَا يَتِمَّ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّحْرِيضِ، وَإِمَّا أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَلِكَ عَامًّا، عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: كُلَّمَا أَرَادُوا مُحَارَبَةَ أَحَدٍ غُلِبُوا وَقُهِرُوا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ نَصْرٌ مِنَ اللهِ عَلَى أَحَدٍ قَطُّ - ثُمَّ قَالَ - وَقِيلَ كُلَّمَا حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُصِرَ عَلَيْهِمْ، انْتَهَى. وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ.
وَمِنَ الْمَفْصَّلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُغْرُونَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ سَعَى لِتَحْرِيضِ الرُّومِ عَلَى غَزْوِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُئْوِي أَعْدَاءَهُمْ وَيُسَاعِدُهُمْ ; كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانَ سَبَبُهُ الْحَسَدَ وَالْعَصَبِيَّةَ، وَتَوَقَّعَ الْأَحْبَارُ وَالرُّؤَسَاءُ إِزَالَةَ الْإِسْلَامِ لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ، مِنْ مَكَانَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ; إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْتَرِمُونَهُمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَإِنْ
لِمَا رَأَوْا عِنْدَ مُسْلِمِي الْعَرَبِ مِنَ الْعَدْلِ الْمُزِيلِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرُّومُ وَالْقُوطُ مِنَ الْجَوْرِ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَدَاوَةُ النَّصَارَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِلْإِسْلَامِ سِيَاسِيَّةً ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ عَلَى أَشُدِّهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومِ (الرُّومَانِ) الْمُسْتَعْمِرِينَ لِلْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْحِجَازِ ; كَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَكَانَ نَصَارَى الْبِلَادِ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيْلِ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا وَثِقُوا بِعَدْلِهِمْ لِمَا كَانُوا يُقَاسُونَ مِنْ ظُلْمِ الرُّومِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَهَذَا شَأْنُ النَّاسِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ أَبَدًا؛ يَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ مَصَالِحَهُمْ وَمَنَافِعَهُمْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَا ذُكِرَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُمْ أَوْ لِدِينِهِمْ، وَلْيَنْتَظِرَ الْقَارِئُ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لِلنَّصَارَى بِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ آيَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَتَحَتَّمَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ مِنَ السِّيَاسَةِ لَا مِنَ الدِّينِ.
(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِيمَا يَأْتُونَهُ، أَوْ عَلَى مَا يَأْتُونَهُ مِنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِيقَادِ نِيرَانِ الْحَرْبِ وَالْفِتَنِ وَالْقِتَالِ، مُصْلِحِينَ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، أَوْ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ، بَلْ كَانُوا يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ سَعْيَ فَسَادٍ، أَوْ لِأَجْلِ الْفَسَادِ، بِمُحَاوَلَةِ مَنْعِ اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْعَرَبِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنَ الْأُمِّيَّةِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الْوَثَنِيَّةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبِالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ ; حَسَدًا لَهُمْ، وَحُبًّا فِي دَوَامِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَصْلُحُ عَمَلُهُمْ، وَلَا يَنْجَحُ سَعْيُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مُضَادُّونَ لِحِكْمَتِهِ فِي صَلَاحِ النَّاسِ وَعُمْرَانِ الْبِلَادِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ اللهَ أَبْطَلَ كُلَّ مَا كَادَهُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهَا، وَصَلُحَتْ حَالُهَا بِالْإِسْلَامِ أَصْلَحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَعَمَّرُوا الْأَرْضَ فِي كُلِّ بِلَادٍ كَانَ لَهُمْ فِيهَا سُلْطَانٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَكَانُوا مُفْسِدِينَ بِالظُّلْمِ، وَمُخَرِّبِينَ لِلْبِلَادِ. فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَهُوَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، فَلَمَّا قَامَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ حَقَّ الْقِيَامِ، أَيَّدَهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ، وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ أَهْلُهَا مُفْسِدِينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ; لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا هِدَايَتَهُمَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، تَرَكُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَزَالَ مُلْكُهُمْ، وَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، وَقِسْ جَزَاءَ
الْآخِرَةِ عَلَى جَزَاءِ الدُّنْيَا، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُرَتَّبٌ بِحَسَبَ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى صَلَاحِ النُّفُوسِ، وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَعْمَالِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، قَالَ:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَاتَّقَوُا بِاتِّبَاعِهِ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا،
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إِقَامَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: الْعَمَلُ بِهِمَا عَلَى أَقْوَمِ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا؛ سَوَاءٌ فِيهِ عَمَلُ النَّفْسِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِذْعَانُ - وَعَمَلُ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ ; أَيْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلَيْنِ مِنْ قَبْلُ بِنُورِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ، الْمُبَشِّرَيْنِ بِالنَّبِيِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ أَبْنَاءِ أَخِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ ; كَمَا قَالَ مُوسَى: وَالْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ; كَمَا قَالَ عِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ). وَأَقَامُوا، بَعْدَ ذَلِكَ، مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَلَى لِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَتْ بِهِ كُتُبُهُمْ، وَهُوَ الْفُرْقَانُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، لَوْ أَقَامُوا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللهِ وَكُتُبِهِ، لَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّبَعِ لِذَلِكَ مَا يُهِمُّهُمْ مِنْ مَوَارِدِ الرِّزْقِ ; فَأَكَلُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الَّتِي تَنْتِجُ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ وَنَبَاتِ الْأَرْضِ، وَتَمَتَّعُوا بِمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ هَذَا النَّبِيَّ وَأُمَّتَهُ مِنْ سِعَةِ الْمُلْكِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ سَائِرَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ وَالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ الْأَخِيرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَحِكَمِ سُلَيْمَانَ، وَكُتُبِ دَانْيَالَ وَأَشْعَيَا وَغَيْرِهِمَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِي مُجَلَّدَاتِ الْمَنَارِ بَيَانٌ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ، وَإِقَامَةُ هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، فَلَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا عَزَاهُ الْمُؤَرِّخُونَ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْفَسَادِ، وَلَمَا عَانَدُوا النَّبِيَّ - الْمُبَشِّرَةُ بِهِ - ذَلِكَ الْعِنَادَ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوهَا، وَلَا تَدَبَّرُوهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا، وَبِدَعًا وَتَقَالِيدَ يَتَوَارَثُونَهَا ; فَهُمْ بَيْنَ غُلُوٍّ وَتَقْصِيرٍ، وَإِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ دَهْمَاءَهُمْ وَسَوَادَهُمُ الْأَعْظَمَ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَوَارِيخِهِمْ
وَتَوَارِيخِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ وَعَدْلِهِ تَمْحِيصُ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) أَيْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مُعْتَدِلَةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ. لَا تَغْلُو بِالْإِفْرَاطِ، وَلَا تُهْمِلُ بِالتَّقْصِيرِ. قِيلَ: هُمُ الْعُدُولُ فِي دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ، وَالْمُعْتَدِلُونَ لَا تَخْلُو مِنْهُمْ أُمَّةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي طَوْرِ صَلَاحِ الْأُمَّةِ وَارْتِقَائِهَا، وَيَقِلُّونَ فِي طَوْرِ فَسَادِهَا وَانْحِطَاطِهَا - وَهَلْ تَهْلَكُ الْأُمَمُ إِلَّا بِكَثْرَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَقِلَّةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ مَنَّ الْأَخْيَارِ - وَهَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي الْأُمَمِ هُمُ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى كُلِّ صَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ يَقُومُ بِهِ الْمُجَدِّدُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَمِنَ الْحُكَمَاءِ فِي عُصُورِهِمْ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِصْلَاحُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَهُ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا مَعَ إِخْوَانِهِمُ الْعَرَبِ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُوشِكُ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ " قُلْتُ: كَيْفَ، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، وَعَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا؟ فَقَالَ: " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ نُفَيْرٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ حِينَ تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ؟ " ثُمَّ قَرَأَ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: " وَذَلِكَ عِنْدَ ذَهَابِ الْعِلْمِ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ! إِنْ
كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ " انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَالشَّاهِدُ فِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهِدَايَتِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبْعَدَ مَا كَانُوا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ، مَعَ شِدَّةِ عَصَبِيَّتِهِمُ الْجِنْسِيَّةِ لَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، عَلَى أَنَّ عَصَبِيَّتَهُمُ الْجِنْسِيَّةَ لَهُ قَدْ ضَعُفَتْ أَيْضًا، وَاسْتَبْدَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِهَا جِنْسِيَّةَ اللُّغَةِ أَوِ الْوَطَنِ.
وَلَا يَمْنَعُنَا مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَانْقِطَاعِ السَّنَدِ، وَالْقَلْبِ وَالِاخْتِلَافِ ; لِأَنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ نُثْبِتَ بِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا شَرْعِيًّا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِمَا سِوَاهُ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ; لِأَنَّهُمَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، يَشْتَمِلَانِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنَّ أَهْلَهُمَا لَا يُقِيمُونَ ذَلِكَ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا قَائِمَةٌ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَثْبُتُ بِهِ الْعِبْرَةُ، وَلَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَدْ أَشَارَ الْحَافِظُ فِي تَرْجَمَةِ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ مِنَ الْإِصَابَةِ إِلَى مُخْرِجِيهِ، وَعَلَّلَهُ عِنْدَهُمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قُصُورُ مَا اكْتَفَى بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ.
(تَنْبِيهٌ) : إِنَّ الشَّهَادَةَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَهُ نَظَائِرُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧: ١٥٩) وَقَوْلِهِ:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلَيْلَةٍ | كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمُسَاوَيَا |
الْوَاسِعَةُ الْعِلْمِ بِأَخْلَاقِ الْبَشَرِ، الَّتِي لَهَا عِدَّةُ مُؤَلَّفَاتٍ فِي عُلُومِ التَّرْبِيَةِ، تَظُنُّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي عَرَفَ الْبَشَرُ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْبُعْدَاءِ عَنْهُمْ وَتَارِيخِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْ مِثْلَهُ سَلَفُهُمْ فِي عَصْرٍ مَا، فَهَلْ يُظَنُّ أَنَّ رَجُلًا أُمِّيًّا فِي الْحِجَازِ يَهْتَدِي بِغَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ إِلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا؟
(يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
وَرَوَتِ الشِّيعَةُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ النَّصُّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَشَجَّعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِوِلَايَةِ عَلِيٍّ فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقُولُوا: حَابَى ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ "، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ وَأَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوَالَاةِ عَلِيٍّ شَاعَ وَطَارَ فِي الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيَّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَكَانَ بِالْأَبْطَحِ، فَنَزَلَ وَعَقَلَ نَاقَتَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَرْتَنَا عَنِ اللهِ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَقَبِلْنَا مِنْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِهَذَا حَتَّى مَدَدْتَ بِضَبْعَيِ ابْنِ عَمِّكَ وَفَضَّلْتُهُ عَلَيْنَا وَقُلْتَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ " فَهَذَا مِنْكَ أَمْ مِنَ اللهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هُوَ أَمْرُ اللهِ "، فَوَلَّى الْحَارِثُ يُرِيدُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطَرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) فَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ عَلَى هَامَتِهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ) (٧٠: ١، ٢)... إِلَخْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَوْضُوعَةٌ، وَسُورَةُ الْمَعَارِجِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ (اللهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ) كَانَ تَذْكِيرًا بِقَوْلٍ قَالُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِبِضْعِ سِنِينَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ هَذَا كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الصَّحَابَةِ، وَالْأَبْطَحُ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَدِيرِ خُمٍّ إِلَى مَكَّةَ، بَلْ نَزَلَ فِيهِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
أَمَّا حَدِيثُ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِّيٌّ مَوْلَاهُ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ،
سَنَدُ مَنْ زَادَ فِيهِ: " اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ "... إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَذَكَرَ أُصُولَ الدِّينِ وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: " إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخْلِفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، اللهُ مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ "، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ لَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا لَكَ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَهُ تَبْرِئَةُ عَلِيٍّ مِمَّا كَانَ قَالَهُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَمَنِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ إِلَيْهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ قَدْ وَجَّهَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَجَّلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدْرِكَ مَعَهُ الْحَجَّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَسَا ذَلِكَ الرَّجُلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَوَجَدَ عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَانْتَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شَكْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ جَفْوَةً فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْكُو عَلِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلُ إِلَّا مَا يُرْضِي الْحَقَّ، خَطَبَ النَّاسَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، وَأَظْهَرَ رِضَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَوِلَايَتَهُ لَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاتِهِ. وَغَدِيرُ خُمٍّ: مَكَانٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، قَرِيبٌ مِنْ رَابِغٍ، عَلَى بُعْدِ مِيلَيْنِ مِنَ الْجُحْفَةِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ النَّاسَ فِيهِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدِ اتَّخَذَتْهُ الشِّيعَةُ عِيدًا عَلَى عَهْدِ بَنِي بُوَيْهِ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وِلَايَةِ السُّلْطَةِ، الَّتِي هِيَ الْإِمَامَةُ أَوِ الْخِلَافَةُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوِلَايَةِ فِيهِ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَوَدَّةِ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا فِي كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٥: ٥١) وَمَعْنَاهُ مَنْ كُنْتُ نَاصِرًا وَمُوَالِيًا لَهُ فَعَلِيٌّ نَاصِرُهُ وَمُوَالِيهِ، أَوْ مَنْ وَالَانِي وَنَصَرَنِي فَلْيُوَالِ عَلِيًّا وَيَنْصُرْهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْفُو أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ نَصَرَ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَوَالَاهُمْ. فَالْحَدِيثُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَاهُمْ مِثْلُهُ، بَلْ حُجَّةٌ لَهُ
عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَى مُعَاوِيَةَ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِمَامَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَصْرِهِ إِمَامًا وَمَأْمُومًا. وَلَوْ دَلَّ عَلَى الْإِمَامَةِ عِنْدَ الْخِطَابِ لَكَانَ إِمَامًا مَعَ وُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّيعَةُ لَا تَقُولُ بِذَلِكَ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ، لَا نُحِبُّ اسْتِقْصَاءَهَا وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهَا ; لِأَنَّهَا مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
ثُمَّ إِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِمَامَةِ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ لَتَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ، وَلَتَصَدَّى عَلِيٌّ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِالنَّصِّ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَحْسُنُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَا احْتَجَّ بِالْآيَةِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَأَنْصَارِهِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَلَا يَوْمَ الشُّورَى بَعْدَ عُمَرَ، وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي كَانَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّقِيَّةَ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ؛ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُضِعَتْ لَهَا الرِّوَايَاتُ، وَاسْتُنْبِطَتِ الدَّلَائِلُ بَعْدَ تَكَوُّنِ الْفِرَقِ، وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِلَافَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مِمَّا لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ عَلَى خَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَبْلِيغِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، لَقَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى تَبْلِيغِهِ فَشَهِدُوا، وَأَشْهَدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. دَعْ سِيَاقَ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ نَفْسَهَا لَا تَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّبْلِيغِ فِيهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ إِمَارَةَ عَلِيٍّ، فَإِنَّ جُمْلَةَ " وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ " الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي بَعْدَ جُمْلَةِ " بَلِّغْ " الْأَمْرِيَّةِ، وَجُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْعِصْمَةِ، وَجُمْلَةَ التَّذْيِيلِ التَّعْلِيلِيِّ بِنَفْيِ هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ،
لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ مَسْأَلَةَ الْإِمَارَةِ، فَتَأَمَّلِ الْآيَةَ فِي ذَاتِهَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَهْتَدِي بِهِ، نُوَالِي عَلِيًّا الْمُرْتَضَى، وَنُوَالِي مَنْ وَالَاهُمْ، وَنُعَادِي مَنْ عَادَاهُمْ، وَنَعُدُّ ذَلِكَ كَمُوَالَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ عِتْرَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْكِتَابَ وَالْعِتْرَةَ خَلِيفَتَا الرَّسُولِ، فَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ قِصَّةِ الْغَدِيرِ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ قَبِلْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي أَمْرٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ.
وَأَمَّا الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَلَوْلَاهُ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَبْلِيغَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ
قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كُلُّهُ - وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - أَوِ الْخَاصِّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى مَا سَبَقَ
مِنَ الِاحْتِمَالِ - بِأَنْ كَتَمْتَهُ، وَلَوْ مُؤَقَّتًا ; خَوْفًا مِنَ الْأَذَى بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أَيْ فَحَسْبُكَ جُرْمًا أَنَّكَ مَا بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ، وَلَا قُمْتَ بِمَا بُعِثْتَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ تَبْلِيغُ النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (٤٢: ٤٨) وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: وَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بِأَنْ كَتَمْتَ بَعْضَهُ، فَكَأَنَّكَ لَمْ تُبَلِّغْ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ ; لِأَنَّ كِتْمَانَ الْبَعْضِ كَكِتْمَانِ الْجَمِيعِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (٥: ٣٢) وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ: " رِسَالَاتِهِ " بِالْجَمْعِ.
فَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: إِفَادَةُ اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْوَحْيِ، الَّذِي كُلِّفَ الرَّسُولُ تَبْلِيغَهُ، لَكِنْ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْوَاقِعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ كُنْتَ كَأَنَّكَ مَا بَلَّغْتَ شَيْئًا مَا مِنْ مَسَائِلِ الرِّسَالَةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ. وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْوَجْهَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ تَرْكَ تَبْلِيغِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ تَرْكٌ لِتَبْلِيغِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِالْفِعْلِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، أَوْ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَارِكُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ كَتَارِكِ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَا يُعَارِضُ مَا
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ تَبْلِيغِ الرِّسَالَاتِ بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ بَعْدَ قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبٍ: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ) (٣٣: ٣٩) هَكَذَا قَرَأَ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ " رِسَالَاتِ " بِالْجَمْعِ، وَإِنَّمَا قُرِئَ بِالْإِفْرَادِ فِي الشَّوَاذِّ، وَجَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، وَالِاسْتِشْهَادُ بِآيَةِ
الْأَحْزَابِ أَنْسَبُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ; لِأَنَّ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ هُوَ أَشَدُّ مَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَعَلِّقًا بِشَخْصِهِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (٣٣: ٣٧) حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: " لَوْ كَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ ".
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَصَمَ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ كِتْمَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَتْ حِكْمَةُ الرِّسَالَةِ بِعَدَمِ ثِقَةِ النَّاسِ بِالتَّبْلِيغِ، فَمَا حِكْمَةُ التَّصْرِيحِ مَعَ هَذَا بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ وَتَأْكِيدِهِ بِجَعْلِ كِتْمَانِ بَعْضِهِ كَكِتْمَانِهِ كُلِّهِ؟
قُلْتُ: حِكْمَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَامُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّ التَّبْلِيغَ حَتْمٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ، وَلَوْ مُؤَقَّتًا بِتَأْخِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ عَنْ وَقْتِهِ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ ; إِذْ كَانَ يَجُوزُ - لَوْلَا هَذَا النَّصُّ - أَنْ يَكُونَ مِنِ اجْتِهَادِ الرَّسُولِ تَأْخِيرُ بَعْضِ الْوَحْيِ إِلَى أَنْ يَقْوَى اسْتِعْدَادُ النَّاسِ لِقَبُولِهِ، وَلَا يَحْمِلَهُمْ سَمَاعُهُ عَلَى رَدِّهِ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ لِأَجْلِهِ، وَحِكْمَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَعْرِفُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالنَّصِّ، فَلَا يُعْذَرُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا بِاخْتِلَافِ الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُؤَيِّدُهُ تَأْخِيرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِذْنَ لِمَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بِتَطْلِيقِ زَيْنَبَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا قَضَى بِتَزْوِيجِهَا لَهُ - وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ طِبَاعَهُمَا لَا تَتَّفِقُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى طَلَاقِهَا - إِلَّا لِيَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيُبْطِلُ بِذَلِكَ جَرِيمَةَ التَّبَنِّي، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبَاطِلِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ ابْنِهِ ; لِأَنَّهُ تَبَنَّى زَيْدًا قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَلَمَّا لَمْ يُؤَقِّتِ اللهُ تَعَالَى وَقْتًا لِتَطْلِيقِ
بِزَوَاجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ، بَعْدَ تَطْلِيقِ زِيدٍ لَهَا، وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ، وَكَوْنِهِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ خَشْيَةً مِنْ قَوْلِ النَّاسِ أَوْ فِعْلِهِمْ ; لِأَجْلِ هَذَا بَيَّنَ اللهُ عَقِبَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ سُنَّتَهُ فِي عَدَمِ الْحَرَجِ عَلَى الرُّسُلِ، وَفِي تَبْلِيغِهِمْ رِسَالَاتِ اللهِ، وَكَوْنِهِمْ يَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا سِوَاهُ (رَاجِعْ آيَةَ ٣٨ و٣٩ مِنْهَا).
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ - فَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْآرَاءِ فِي جَوَازِ كِتْمَانِ بَعْضِ الْوَحْيِ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَوِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ غَيْرِ الْوَحْيِ عَنْ كُلِّ النَّاسِ أَوْ عَنْ جُمْهُورِهِمْ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ثَبَتَ فِي مَعْنَاهَا تَأْوِيلًا يَتَّفِقُ مَعَ آرَائِهِمْ، فَكَيْفَ لَوْ لَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ؟ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ مِنْ سُؤَالِ بَعْضِ النَّاسِ عَلِيًّا الْمُرْتَضَى: هَلْ خَصَّهُمُ الرَّسُولُ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ؟ يَعْنِي أَهْلَ الْبَيْتِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ أَبِي جُحَيْفَةَ لَعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ عَلِيٌّ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
(قَالَ السَّائِلُ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَلَّا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنَ الْوَحْيِ، وَكَذَا مَا فِي الصَّحِيفَةِ، وَهُوَ الْعَقْلُ ; أَيْ دِيَةُ الْقَتْلِ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ... إِلَخْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ سَبَبَ سُؤَالِ عَلِيٍّ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ غُلَاةِ الشِّيعَةِ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، أَوْ يَبُثُّونَ فِي النَّاسِ أَنَّ عِنْدَ عَلِيٍّ وَآلِ بَيْتِهِ مِنَ الْوَحْيِ، مَا خَصَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ النَّاسِ. وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازُ الْكِتْمَانِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا يُوحِيهِ اللهُ لِلرُّسُلِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ، لَا يَأْذَنُهُمْ بِتَبْلِيغِهِ لِأَحَدٍ، وَمِنْهُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِتَبْلِيغِهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمِنْهُ مَا يَخُصُّ بِهِ مَنْ يَرَاهُمْ أَهْلًا لَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْ هُنَا أَخَذَ مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ قِسْمَانِ: ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ ; فَالظَّاهِرُ عَامٌ، وَالْبَاطِنُ خَاصٌّ. وَلِبَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ سَبَحٌ طَوِيلٌ فِي
بَحْرِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ.
وَأَمَّا الْمُتَصَوِّفَةُ فَقَدْ رَاجَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضَ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ; لِضَعْفِهِمْ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَاسْتَمْسَكُوا بِالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَأَخَذُوا بِظَوَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْوِيِّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ ; فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ مِنِّي هَذَا الْبُلْعُومُ " يُشِيرُ إِلَى عُنُقِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ يَنْقَطِعُ بُلْعُومُهُ ; وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ، فَجَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا فِي الْوِعَاءِ الْآخَرِ مِنْ وِعَاءَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ لِشُيُوخِهِمْ سَنَدًا فِي تَلَقِّي عِلْمِ الْبَاطِنِ، يَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَعْنِي بِمَا كَتَمَ مِنَ الْحَدِيثِ أَحَادِيثَ الْفِتَنِ، وَمَا يَكُونُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى أَيْدِي أُغَيْلِمَةٍ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنْقِذَهُ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، وَقَدْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَفِي سَنَةِ سِتِّينَ وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فَعَلِمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنْ إِمَارَتِهِ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يَرَ أَيَّامَهَا السُّودَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أُغَيْلِمَةِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ لَفَعَلْتُ "، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ ; كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَخْبَارَ الْفِتَنِ وَأُمَرَاءِ الْجَوْرِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَكْتُمُهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا، خَوْفًا مِنِ انْتِقَامِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَمَّا كِتْمَانُ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَيْفَ يَكْتُمُهُ؟ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) (٢: ١٥٩) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحِيمُ) وَقَوْلَهُ: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ٣: ١٨٧)... إِلَخْ.
وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ: " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ "، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ حَسَنَةٌ وَصَحِيحَةٌ، وَالْوَعِيدُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عَلَى الْكِتْمَانِ مُطْلَقًا.
وَالْحُقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَهُ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنْ عَلْمِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْتَازُ أَحَدٌ فِي عَلَمِ الدِّينِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِفَهْمِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ كَسْبِيٌّ يُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بَعْدَ السُّنَّةِ وَآثَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ
وَقَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانٌ لَهُ وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْهُ. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا فِي التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَنَارِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّقْلَ فِي ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالَ: جَمِيعُ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. ذَكَرَهُ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْبَيَانِ. وَمَنْ أَجْدَرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَهْمِ الْوَهْبِيِّ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِإِنْزَالِهِ إِلَيْهِ، وَبِبَيَانِهِ لِلنَّاسِ؟ وَتَقَدَّمَ إِيضَاحُ هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَكَابِرَ الصُّوفِيَّةِ مَا لَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقُرْآنِ يَنْبُوعَ عُلُومِ الدِّينِ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهِ يَنْبُوعَ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ كُلِّهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فَنُوَفِّيهِ حَقَّهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (٦: ٣٨) وَمَا فِي مَعْنَاهُ.
(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ بِضْعَةِ رِجَالٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ فِي مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَرَكَ الْحَرَسَ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ أَوَّلَ النَّاسِ اهْتِمَامًا بِحِرَاسَتِهِ، وَحَرَسَهُ الْعَبَّاسُ أَيْضًا، وَمِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ، وَكَانَ يُرْسِلُ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي، لَا حَاجَةَ لِي إِلَى مَنْ
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) فَهُوَ تَذْيِيلٌ تَعْلِيلِيٌّ لِلْعِصْمَةِ ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى لَا يَهْدِي أُولَئِكَ النَّاسَ، الَّذِينَ هُمْ بِصَدَدِ إِيذَائِكَ عَلَى التَّبْلِيغِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، إِلَى مَا يَهُمُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَكُونُونَ خَائِبِينَ، وَتَتِمُّ كَلِمَاتُ اللهِ تَعَالَى
حَتَّى يَكْمُلَ بِهَا الدِّينُ.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ (قُلْ) لِأَهْلِ الْكِتَابِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ الِانْتِسَابُ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيِّينَ (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) فِيمَا دُعِيَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَفِيمَا بَشَّرَا بِهِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْمَسِيحُ بِرُوحِ الْحَقِّ، وَبِالْبَارَقْلِيطِ (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) عَلَى لِسَانِهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، عَلَى حَسَبِ سُنَّتِهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مَا أُنْزِلَ عَلَى سَائِرِ أَنْبِيَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ مِثْلُهُ فِي آيَةِ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ وَلَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ فَنُعِيدُهُ، إِلَّا أَنَّ ذَاكَ حِكَايَةٌ مَاضِيَةٌ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْحَالِ الْحَاضِرَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الزَّمَنَيْنِ قَائِمَةٌ ; فَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ لِتِلْكَ الْكُتُبِ قَبْلَ هَذَا الْخِطَابِ، وَلَا فِي وَقْتِهِ، وَلَا كَانَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُقِيمُوهَا فِي عَهْدِهِ، كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُقِيمُوهَا الْآنَ، فَهَذَا تَعْجِيزٌ لَهُمْ وَتَفْنِيدٌ لِدَعْوَاهُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ اتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِاتِّبَاعِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ السَّابِقِينَ، وَلَا يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ بِسَلَامَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنَ التَّحْرِيفِ. وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ الْآنَ لِدُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْأَمْرِيكَانِ وَالْأَلْمَانِ وَالْإِنْكِلِيزِ: يَا أَيُّهَا الدَّاعُونَ لَنَا إِلَى اتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، نَحْنُ لَا نَعْتَدُّ بِكُمْ، وَلَا نَرَى أَنَّكُمْ عَلَى إِيمَانٍ وَثِقَةٍ بِدِينِكُمْ، وَصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ فِي
الْخِيَاطِ، وَلَا تَهْتَمُّوا بِرِزْقِ الْغَدِ... إِلَخْ. وَنَحْنُ نَرَاكُمْ عَلَى نَقِيضِ كُلِّ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ ; فَأَنْتُمْ لَا تَخْضَعُونَ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مَيَّزْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَاسْتَعْلَيْتُمْ عَلَى الشَّرَائِعِ وَالْحُكَّامِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَإِذَا اعْتُدِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ تُجَرِّدُونَ سُيُوفَ دَوْلَتِكُمْ، وَتُصَوِّبُونَ مَدَافِعَهَا عَلَى بِلَادِ الْمُعْتَدِي وَدَوْلَتِهِ، لَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ ; حَتَّى تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بِأَضْعَافِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْكُمْ، وَلَا هَمَّ لِأُمَمِكُمْ وَدُوَلِكُمْ إِلَّا امْتِلَاكُ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ وَزَيَّنَتِهِ وَنَعِيمِهِ، وَتَسْخِيرِ غَيْرِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ لِخِدْمَتِكُمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِسَحْقِ مَنْ يُنَافِسُكُمْ فِي مَجْدِ هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي ; لِعَدَمِ اهْتِمَامِكُمْ بِمَجْدِ الْمَلَكُوتِ الْبَاقِي. فَنَحْنُ لَا نُصَدِّقُ بِأَنَّكُمْ تَدِينُونَ اللهَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهَا، حَتَّى تُقِيمُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَهَلْ يَعُدُّ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ لَهُمُ اعْتِرَافًا مِنَّا بِسَلَامَةِ كُتُبِهِمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؟ أَمْ يَفْهَمُونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ لِأَجْلِ الْإِلْزَامِ؟ نَعَمْ، يَفْهَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَهَادَةٌ لِلتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالسَّلَامَةِ مِنَ التَّحْرِيفِ!
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْقَسَمِ، الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ فِي أَوَّلِهَا، تُثْبِتُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَزِيدُهُمُ الْقُرْآنُ، الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِلَّا طُغْيَانًا فِي فَسَادِهِمْ وَكُفْرًا عَلَى كُفْرِهِمْ ; ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى إِيمَانٍ صَحِيحٍ بِاللهِ وَلَا بِالرُّسُلِ، وَلَا عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مِمَّا تَهْدِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْكُتُبُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى تَقَالِيدَ وَثَنِيَّةٍ، وَعَصَبِيَّةٍ جِنْسِيَّةٍ، وَعَادَاتٍ وَأَعْمَالٍ رَدِيَّةٍ، فَهُمْ لِهَذَا لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْقُرْآنِ نَظَرَ إِنْصَافٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمُ الْحَقِّ مَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ ; لِيَعْلَمُوا أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ ; فَمَا سَبَقَ بَدْءٌ وَهَذَا إِتْمَامٌ، بَلْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْعُدْوَانِ، وَهَذَا سَبَبُ زِيَادَةِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ. وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْكَثِيرِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَمْ تَحْجُبْهُمْ عَنْ نُورِ الْحَقِّ تِلْكَ التَّقَالِيدُ، فَهُمُ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ ; فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ هُوَ النَّبِيُّ الْأَخِيرُ، الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ، فَيُسَارِعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، عَلَى حَسَبِ حَظِّهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَسَلَامَةِ الْوِجْدَانِ.
(فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ تَمَكَّنَ الْكُفْرُ مِنْهُمْ، وَصَارَ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ، وَهَذِهِ نُكْتَةُ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَحَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ مُؤْمِنِي قَوْمِكَ وَمِنْهُمْ ; كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْأَسَى: الْحُزْنُ، وَأَصْلُهُ إِتْبَاعُ الْفَائِتِ بِالْغَمِّ.
وَالْعِبْرَةُ لِلْمُسْلِمِ فِي الْآيَةِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ حَتَّى يُقِيمُوا الْقُرْآنَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فِيهِ، وَيَهْتَدُوا بِهِدَايَتِهِ ; فَحُجَّةُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا تِلْكَ التَّقَالِيدَ الَّتِي صَدَّتْهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا كَانَ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْرِيفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَأَلَّا يَقْبَلَ مِنَّا مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِنَا أَوْلَى. وَالنَّاسُ عَنْ هَذَا غَافِلُونَ، وَبِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمَذَاهِبِ رَاضُونَ، وَبِهَدْيِ أَئِمَّتِهَا لَا يَقْتَدُونَ، وَإِلَى حِكْمَةِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ لَا يَنْظُرُونَ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (٥٨: ١٨) وَلَمَّا كَانَ الِانْتِسَابُ إِلَى الدِّينِ لَا يُفِيدُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِإِقَامَةِ كِتَابِ الدِّينِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَّةِ، أُصُولَ الدِّينِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ إِقَامَةِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، فَقَالَ:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بَيَانُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يُقِيمُوا دِينَ اللهِ، وَمَا كَلَّفَهُمُ اللهُ إِيَّاهُ، لَا وَسَائِلَهُ وَلَا مَقَاصِدَهُ، فَلَا هُمْ حَفِظُوا نُصُوصَ الْكُتُبِ كُلَّهَا، وَلَا هُمْ تَرَكُوا مَا عِنْدَهُمْ
مِنْهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلَا هُمْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمِ الصَّالِحُ، وَلَا هُمْ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، كَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، اللهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ كَانَ مَخْبُوءًا فِي طَيَّاتِ الزَّمَانِ، أَوْ شِعَافِ الْجِبَالِ وَزَوَايَا الْبُلْدَانِ، كَانُوا يُعَذَّبُونَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُرْمَوْنَ بِالزَّنْدَقَةِ أَوِ الْهَرْطَقَةِ لِرَفْضِهِمْ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ لَيْسَ فِي تِلْكَ، وَهُوَ رَفْعُ كَلِمَةِ " الصَّابِئِينَ " وَتَقْدِيمُهَا عَلَى كَلِمَةِ النَّصَارَى ; فَأَمَّا الرَّفْعُ فَفِي إِعْرَابِهِ وُجُوهٌ ; أَشْهَرُهَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: " وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ " أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، وَقَدْ أَجَازَ كُوفُيُّو النَّحْوِيِّينَ هَذَا، وَعَدُّوهُ مِنَ الْفَصِيحِ إِذَا كَانَ اسْمُ إِنَّ مَبْنِيًّا، كَمَا هُوَ هُنَا، وَكَقَوْلِكَ: إِنَّكَ وَزَيْدٌ صَدِيقَانِ. وَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَهُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ وَالْإِعْرَابُ صِنَاعَةٌ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى ضَبْطِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَفَهْمِهِ، وَالْعُمْدَةُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا السَّمَاعُ مِنْ أَهْلِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالسَّمَاعِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَصِيحٌ، وَلَكِنْ مَا نُكْتَتُهُ؟ النُّكْتَةُ الَّتِي كَانَ بِهَا رَفْعُ الصَّابِئِينَ فَصِيحًا هَاهُنَا عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَسَقَ عَطْفِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْمَنْصُوبِ هِيَ تَنْبِيهُ الذِّهْنِ إِلَى أَنَّ الصَّابِئِينَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَعْلِيقِ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّحِيحِ، اللَّذَيْنِ تَتَزَكَّى بِهِمَا النُّفُوسُ، وَتَسْتَعِدُّ لِإِرْثِ الْفِرْدَوْسِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْرُوفٍ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ الصَّابِئُونَ غَيْرَ مَظِنَّةٍ لِإِشْرَاكِهِمْ فِي الْحُكْمِ مَعَ أَهْلِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، حَسُنَ فِي شَرْعِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُنَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ. فَمِثْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ لَا يُعَدُّ فَصِيحًا إِلَّا فِي هَذَا التَّعْبِيرِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِمَا تَغَيَّرَ إِعْرَابُهُ وَأُخْرِجَ عَمَّا يُمَاثِلُهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ تُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا. فَإِذَا قُلْتَ: " إِنَّ زَيْدًا وَعَمْرًا - وَكَذَا بَكْرٌ - أَوْ بَكْرٌ كَذَلِكَ - قَادِرُونَ عَلَى مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ " لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَلِيغًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَكْرٌ فِي مَظِنَّةِ الْعَجْزِ عَنْ مُنَاظَرَةِ خَالِدٍ، وَأَرَدْتَ أَنْ تُنَبِّهَ عَلَى خَطَأِ هَذَا الظَّنِّ، وَعَلَى كَوْنِ بَكْرٍ يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو.
وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، تَدْخُلُ فِي بَلَاغَةِ النُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ؛ وَهِيَ أَنَّ مَا يُرَادُ تَنْبِيهُ السَّمْعِ أَوِ اللَّحْظِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ أَوِ الْجُمَلِ يُمَيَّزُ عَلَى غَيْرِهِ، إِمَّا بِتَغْيِيرِ نَسَقِ الْإِعْرَابِ فِي مِثْلِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مُطْلَقًا، وَإِمَّا بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْخَطَابَةِ، وَإِمَّا بِكِبَرِ الْحُرُوفِ، أَوْ تَغْيِيرِ لَوْنِ الْحِبْرِ، أَوْ وَضْعِ الْخُطُوطِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمُتُونَ الْمَشْرُوحَةَ بِحِبْرٍ أَحْمَرَ، وَفِي الطَّبْعِ يَضَعُونَ الْخُطُوطَ فَوْقَ الْكَلَامِ الَّذِي يُمَيِّزُونَهُ ; كَآيَاتِ
وَقَدْ تَجَرَّأَ بَعْضُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى دَعْوَى وُجُودِ الْغَلَطِ النَّحْوِيِّ فِي الْقُرْآنِ! وَعَدَّ رَفْعَ الصَّابِئِينَ هُنَا مِنْ هَذَا الْغَلَطِ! وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ السَّخْفِ وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الْجُرْأَةُ مِنَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِ مَعَ جَهْلٍ أَوْ تَجَاهُلِ أَنَّ النَّحْوَ اسْتُنْبِطَ مِنَ اللُّغَةِ، وَلَمْ تُسْتَنْبَطِ اللُّغَةُ مِنْهُ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ إِذَا قَصُرَتْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِبَعْضِ مَا ثَبَتَ عَنِ الْعَرَبِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِيهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ عَنِ الْعَرَبِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْعَرَبِ الْغَلَطُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَلَكِنْ قَدْ يَغْلَطُونَ فِي الْمَعَانِي، وَلَمْ تُوجَدْ لُغَةٌ مِنْ لُغَاتِ الْبَشَرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَتَرَقَّى اللُّغَاتُ وَتَتَّسِعُ بِالتَّدْرِيجِ، وَلَمْ يَكُنِ التَّجْدِيدُ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَمُرَكَّبَاتِهَا، وَالتَّصَرُّفُ فِي أَسَالِيبِهَا وَمُشْتَقَّاتِهَا بِالتَّشَاوُرِ وَالتَّوَاطُؤِ بَيْنَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ مِنْهَا - إِلَّا مَا يَحْصُلُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَإِنَّمَا كَانَ التَّصَرُّفُ وَالتَّجْدِيدُ مِنْ عَمَلِ الْأَفْرَادِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَشْتَهِرُونَ بِالْفَصَاحَةِ ; كَالْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ ضَعِيفَ الْعَقْلِ أَوْ قَوِيَّ التَّعَصُّبِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَنَهَاهُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ رِوَايَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعَرَبُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِحْسَانِ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِقْرَارِ الْأَنْدِيَةِ الْأَدَبِيَّةِ (الْأَكَادِمِيَّاتِ) الْآنَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَنْهَاهُ مِثْلُ ذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ أَيِّ بَدَوِيٍّ مِنْ صَعَالِيكِ الْعَرَبِ، وَلَوْ بِرِوَايَةِ الْآحَادِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ يُعِدُّ ذَلِكَ الْمُتَعَصِّبُ الْأَعْمَى مُبْتَكَرَاتِ مِثْلِ شِكْسِبِيرَ فِي الْإِنْكِلِيزِيَّةِ وَفِيكْتُورْ هِيغُو بِالْفَرَنْسِيَّةِ مِنَ اللَّحْنِ وَالْغَلَطِ فِيهَا؟
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّابِئِينَ هُنَا عَلَى النَّصَارَى فَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا هُنَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يَرَى أَنَّ نُكْتَتَهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ بِالتَّرَقِّي مِنَ الْجَدِيرِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ - إِذَا صَحَّ إِيمَانُهُ وَدُعِّمَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ - إِلَى الْأَجْدَرِ بِذَلِكَ، وَيَجْعَلُ النَّصَارَى أَقْرَبَهَا إِلَى الْقَبُولِ، وَيَلِيهِمْ عِنْدَهُ الصَّابِئُونَ فَالْيَهُودُ فَالْمُنَافِقُونَ. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ النُّكْتَةِ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
بَدَأَ اللهُ تَعَالَى السِّيَاقَ الطَّوِيلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعَثَ النُّقَبَاءَ فِيهِمْ، ثُمَّ أَعَادَ التَّذْكِيرَ بِهِ فِي أَوَاخِرِهِ هُنَا، فَذَكَرَهُ وَذَكَرَ مَعَهُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ لَهُمْ فَقَالَ:
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمِيثَاقَ هُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ، وَأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فَرَاجِعِ الْآيَةَ الْـ ١٣ (ص٢٣٢ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ نَقَضُوا الْمِيثَاقَ كَمَا تَبَيَّنَ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَأَوَاخِرِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُعَامَلَتُهُمْ لِلرُّسُلِ
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أَيْ وَظَنُّوا ظَنًّا تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ كَالْعِلْمِ فِي قُوَّتِهِ أَنَّهُ لَا تُوجَدُ وَلَا تَقَعُ لَهُمْ فِتْنَةٌ بِمَا فَعَلُوا مِنَ الْفَسَادِ. وَالْفِتْنَةُ: الِاخْتِبَارُ بِالشَّدَائِدِ ; كَتَسَلُّطِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالتَّخْرِيبِ وَالِاضْطِهَادِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْقَحْطُ
وَالْجَوَائِحُ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُجْمِلَ هُنَا هُوَ مَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، الَّتِي تُسَمَّى سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (١٧: ٤) إِلَى قَوْلِهِ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) الْآيَةَ. فَالْفَسَادُ مَرَّتَيْنِ هُنَاكَ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أَيْ فَعَمُوا عَنِ آيَاتِ اللهِ فِي كُتُبِهِ، الدَّالَّةِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلْأُمَمِ الْمُفْسِدَةِ الظَّالِمَةِ، وَعَنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الْمُصَدِّقَةِ لَهَا، وَصَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الرُّسُلُ وَأَنْذَرُوهُمْ بِهَا عِقَابَ اللهِ لِمَنْ نَقَضَ مِيثَاقَهُ، وَخَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ، فَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَظَلَمَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ، فَلَمَّا عَمُوا وَصَمُّوا، وَانْهَمَكُوا فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، سَلَّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْبَابِلِيِّينَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَأَحْرَقُوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ " عَمُوا وَصَمُّوا " أَوْ هُوَ الْفَاعِلُ وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَزْدِ الَّتِي يُعَبِّرُ النُّحَاةُ بِكَلِمَةِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ " أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ "، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَمَى الْبَصِيرَةِ وَالْخَتْمَ عَلَى السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ عَامًّا مُسْتَغْرِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ الْكَثِيرُ الْغَالِبُ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) بَيَانُ حِكْمَةِ هَذَا التَّدْقِيقِ فِي الْقُرْآنِ بِنِسْبَةِ الْفَسَادِ لِلْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ فِي الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ اللهُ الْأُمَمَ بِالذُّنُوبِ إِذَا كَثُرَتْ وَشَاعَتْ فِيهَا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْغَالِبِ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الصَّلَاحِ أَوِ الْفَسَادِ الْعَامِّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨: ٢٥) وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَعِلَّتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَحِكْمَتُهُ بَاهِرَةٌ.
(وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) الْآنَ مِنَ الْكَيْدِ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ ; فَاتِّبَاعُ الْهَوَى قَدْ
أَعْمَاهُمْ وَأَصَابَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، فَتَرَكَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ النُّورِ وَالْهُدَى، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّونَ فِي بِشَارَاتِهِمْ بِهِ، وَلَا يَسْمَعُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَسَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا عَاقَبَهُمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، فَجَعَلُوا (يَعْمَلُونَ) بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِهِ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ أَعْمَالِهِمْ فِي مَاضِيهِمْ، وَتَمْثِيلُهَا لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ، كَمَا قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وَمَا قُلْنَاهُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ هَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ الْمُهِمِّ الَّذِي يُرَادُ التَّذْكِيرُ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِجَعْلِ الزَّمَنِ الْحَاضِرِ مِرْآةً لِلزَّمَنِ الْغَابِرِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْحُسْنُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُطَلَقَةِ الْمُبْهَمَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ وَيَعْقُوبَ قَرَءُوا " أَنْ لَا تَكُونَ "، وَالْأَصْلُ حِينَئِذٍ: وَحَسِبُوا أَنَّهُ - أَيِ الْحَالَ وَالشَّأْنَ - لَا تَكُونُ فِتْنَةٌ ; فَخُفِّفَتْ أَنَّ الْمُشَدَّدَةُ، وَحُذِفَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ الْمُتَّصِلِ، وَأُشْرِبَ الْحُسْبَانُ مَعْنَى الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْيَهُودِ إِلَى بَيَانِ حَالِ النَّصَارَى فِي دِينِهِمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أَكَّدَ تَعَالَى بِالْقَسَمِ كُفْرَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ النَّصَارَى ; إِذْ غَلَوْا فِي إِطْرَاءِ نَبِيِّهِمُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غُلُوًّا ضَاهَوْا بِهِ غُلُوَّ الْيَهُودِ فِي الْكُفْرِ بِهِ وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ الصِّدِّيقَةِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، ثُمَّ صَارَ هُوَ الْعَقِيدَةَ الشَّائِعَةَ فِيهِمْ،
(وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ لَهُمْ ضِدَّ مَا يَقُولُونَ ; أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، فَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَدَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، أَنْ يَعْبُدُوا
اللهَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ، وَلَا يَزَالُ أَمْرُهُ هَذَا مَحْفُوظًا عِنْدَهُمْ فِيمَا حَفِظُوا مِنْ إِنْجِيلِهِ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، الَّتِي كُتِبَتْ لِبَيَانِ بَعْضِ سِيرَتِهِ وَتَارِيخِهِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَنَاجِيلَ ; فَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا مِنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَصُّهُ: " ٧: ٣ وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ ; أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ "، فَدِينُ الْمَسِيحِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، وَهُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةً عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (٥: ١١٧).
(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ، بِبَيَانِ أَنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ الثَّابِتَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا مَا مِنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نِدًّا لَهُ، أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ، أَوْ يَدْعُوهُ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ زُلْفًى، فَيَتَّخِذُهُ شَفِيعًا، زَاعِمًا أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى أَوْ عِلْمِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَخَصَّصَتْهُ إِرَادَتُهُ فِي الْأَزَلِ، مَنْ يُشْرِكُ هَذَا الشِّرْكَ وَنَحْوَهُ فَإِنَّ اللهَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ قَدْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَبِمُقْتَضَى دِينِهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ مَأْوَى وَلَا مَلْجَأُ يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا النَّارُ، دَارُ الْعَذَابِ وَالْهَوَانِ، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالشِّرْكِ مِنْ نَصِيرٍ يَنْصُرُهُمْ، وَلَا شَفِيعٍ يُنْقِذُهُمْ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ٢١: ٢٨) فَالنَّافِعُ رِضَاهُ (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) (٣٩: ٧) وَشَرُّ أَنْوَاعِهِ الشِّرْكُ. وَنُكْتَةُ جَمْعِ الْأَنْصَارِ مَعَ كَوْنِ النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ هِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ النَّصَارَى كَانُوا يَتَّكِلُونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّسُلِ وَالْقِدِّيسِينَ ; إِذْ كَانَتْ وَثَنِيَّةُ الشَّفَاعَةِ قَدْ فَشَتْ فِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ.
قَبْلَ افْتِرَاقِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ، كَانُوا فِيمَا بَلَغْنَا يَقُولُونَ: الْإِلَهُ الْقَدِيمُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ ; أَبًا وَالِدًا غَيْرَ مَوْلُودٍ، وَابْنًا مَوْلُودًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَزَوْجًا مُتَتَبِّعَةً بَيْنَهُمَا اهـ. فَكَانَ هُوَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ يَرَوْنَ - بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَالِ نَصَارَى زَمَنِهِمْ، وَمَا يَرْوُونَ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ - أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِنَ النَّصَارَى أَنَّ إِلَهَهُمْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُمْ غَيْرُ الْفِرْقَةِ الَّتِي تَقُولُ مِنْهُمْ: إِنِ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنَّ ثَمَّ فَرِقَّةٌ ثَالِثَةٌ تَقُولُ: إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ اللهَ، وَلَا ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا النَّصَارَى الْمُتَأَخِّرُونَ فَالَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْهُمْ وَعَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالثَّلَاثَةِ الْأَقَانِيمِ، وَبِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، فَالْآبُ عَيْنُ الِابْنِ، وَعَيْنُ رُوحِ الْقُدُسِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ الِابْنُ كَانَ عَيْنُ الْآبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ أَيْضًا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ بَعْضَ مُتَأَخِّرِي الْمُفَسِّرِينَ يَنْقُلُونَ أَقْوَالَ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَيُقِرُّونَهَا وَلَا يَبْحَثُونَ عَنْ حَالِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، وَلَا يَشْرَحُونَ حَقِيقَةَ عَقِيدَتِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وَكَوْنِ النَّصَارَى أَخَذُوهَا عَنْ قُدَمَاءَ الْوَثَنِيِّينَ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) (٤: ١٧١) فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، رَاجِعْ (ص٧١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا قُبَيْلَهَا عَقِيدَةَ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ، رَاجِعْ (ص٢٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ) ثُمَّ بَيَّنَّا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٧ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص٢٥٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ).
قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) أَيْ قَالُوا هَذَا بِلَا رَوِيَّةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَلَا اثْنَانِ، وَلَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لَا يُوجَدُ إِلَهٌ مَا إِلَّا إِلَهٌ مُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَهُوَ " اللهُ " الَّذِي لَا تَرْكِيبَ فِي ذَاتِهِ، وَلَا تَعَدُّدَ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَشَدُّ تَأْكِيدًا لِنَفْيِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ مِنْ عِبَارَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ (مِنْ) بَعْدَ (مَا) تُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ النَّفْيِ وَشُمُولِهِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُتَعَدِّدِ وَكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، فَلَيْسَ ثَمَّ تَعْدَادُ ذَوَاتٍ وَأَعْيَانٍ، وَلَا تَعَدُّدُ أَجْنَاسٍ أَوْ أَنْوَاعٍ، وَلَا تَعَدُّدَ جُزْئِيَّاتٍ أَوْ أَجْزَاءٍ، وَالنَّصَارَى قَدِ اقْتَبَسُوا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوهَا، وَعُقَلَاؤُهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى التَّفَصِّي مِنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرُوهَا، بَعْدَ هَذِهِ الشُّهْرَةِ تَبْطُلُ ثِقَةُ الْعَامَّةِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ كُلِّهَا. كَمَا قَالَ أَحَدُ عُقَلَاءِ الْقُسُوسِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ مِنَ الشُّبَّانِ السُّورِيِّينَ.
وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ لَا تُعْقَلُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَاوِلُ تَأْنِيسَ النُّفُوسِ بِهَا، بِضَرْبِ أَمْثِلَةٍ لَا تَصْدُقُ عَلَيْهَا ; كَكَوْنِ الشَّمْسِ مُرَكَّبَةً مِنَ الْجِرْمِ الْمُشْتَعِلِ وَالنُّورِ وَالْحَرَارَةِ، قَالَ الشَّيْخُ نَاصِيفٌ الْيَازِجِيُّ:
" نُقِلَ أَنَّهُ تَنَصَّرَ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ، وَعَلَّمَهُمْ بَعْضُ الْقِسِّيسِينَ الْعَقَائِدَ الضَّرُورِيَّةَ، سِيَّمَا عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ. وَكَانُوا فِي خِدْمَتِهِ، فَجَاءَ مُحِبٌّ مِنْ أَحِبَّاءِ هَذَا الْقِسِّيسِ، وَسَأَلَهُ عَمَّنْ تَنَصَّرَ، فَقَالَ: ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ تَنَصَّرُوا، فَسَأَلَهُ هَذَا الْمُحِبُّ: هَلْ تَعَلَّمُوا شَيْئًا مِنَ الْعَقَائِدِ الضَّرُورِيَّةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَطَلَبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُرِيَ مُحِبَّهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ فَقَالَ: إِنَّكَ عَلَّمْتَنِي أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ ; أَحَدُهُمُ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ، وَالثَّانِي الَّذِي تُوُلِّدَ مِنْ بَطْنِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَالثَّالِثُ الَّذِي نَزَلَ فِي صُورَةِ الْحَمَامَةِ عَلَى الْإِلَهِ الثَّانِي بَعْدَ مَا صَارَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَغَضِبَ الْقِسِّيسُ وَطَرَدَهُ، وَقَالَ هَذَا مَجْهُولٌ، ثُمَّ طَلَبَ الْآخَرَ مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنَّكَ عَلَّمْتَنِي أَنَّ الْآلِهَةَ كَانُوا ثَلَاثَةً، وَصُلِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ; فَالْبَاقِي إِلَهَانِ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْقِسِّيسُ أَيْضًا وَطَرْدَهُ، ثُمَّ طَلَبَ الثَّالِثَ، وَكَانَ ذَكِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلَيْنِ، وَحَرِيصًا فِي حِفْظِ الْعَقَائِدِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ حَفِظْتُ مَا عَلَّمْتَنِي حِفْظًا جَيِّدًا، وَفَهِمْتُ فَهْمًا كَامِلًا بِفَضْلِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ أَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَالثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَصُلِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَمَاتَ ; فَمَاتَ الْكُلُّ لِأَجْلِ الِاتِّحَادِ، وَلَا إِلَهَ الْآنَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ نَفْيُ الِاتِّحَادَ.
أَقُولُ: لَا تَقْصِيرَ لِلْمَسْئُولِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ يَخْبِطُ فِيهَا الْجُهَلَاءُ هَكَذَا، وَيَتَحَيَّرُ عُلَمَاؤُهُمْ، وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّا نَعْتَقِدُ وَلَا نَفْهَمُ، وَيَعْجَزُونَ عَنْ تَصْوِيرِهَا وَبَيَانِهَا اهـ.
(وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لِيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ وَيَتْرُكُوهُ، وَيَعْتَصِمُوا بِعُرْوَةِ التَّوْحِيدِ الْوُثْقَى وَيَعْتَقِدُوهُ، فَوَاللهِ لَيُصِيبَنَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ عَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ فِي الْآخِرَةِ، فَوَضَعَ (الَّذِينَ كَفَرُوا) مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ; لِيُثْبِتَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ كُفْرٌ بِاللهِ، وَأَنَّ الْكُفْرَ سَبَبُ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَا يَمَسُّ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً بِالتَّثْلِيثِ أَوْ غَيْرِهِ، دُونَ مَنْ تَابَ وَأَنَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى ; إِذْ لَيْسَ عَذَابُ الْآخِرَةِ كَعَذَابِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذْنِبُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ.
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) قَدْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ إِذَا سَمِعَ مَا تَقَدَّمَ: إِذَا كَانَ التَّثْلِيثُ أَمْرًا بَاطِلًا، لَا حَقِّيَّةَ لَهُ، وَكَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، وَلَا تَرْكِيبَ مِنْ أُصُولٍ وَلَا أَقَانِيمَ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ بِذَاتٍ وَلَا صِفَةٍ، فَمَا بَالُ الْمَسِيحِ، وَمَا شَأْنُهُ؟ هَلْ يُعَدُّ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَمْتَازُ عَلَيْهَا بِالذَّاتِ وَلَا بِالصِّفَاتِ؟ وَهَلْ تُعَدُّ أُمُّهُ كَسَائِرِ النِّسَاءِ؟ أَجَابَ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، الَّتِي يُورِدُهَا مَنْ أَكْبَرُوا الْمَسِيحَ أَنْ يَكُونَ بَشَرًا ; فَبَدَأَ بِذِكْرِ خُصُوصِيَّتِهِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، ثُمَّ ثَنَّى بِبَيَانِ حَقِيقَتِهِ الَّتِي يُشَارِكُ بِهَا كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِمْ. أَمَّا الْخُصُوصِيَّةُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، قَدْ خَلَتْ وَمَضَتْ مَنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى مِثْلَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ. فَبِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ امْتَازَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ الرُّسُلُ
عَلَى جَمَاهِيرِ النَّاسِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَهِيَ صِدِّيقَةٌ مِنْ فُضْلَيَاتِ النِّسَاءِ، فَمَرْتَبَتُهَا فِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ تَلِي مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُمَا الشَّخْصِيَّةُ وَالنَّوْعِيَّةُ فَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِحَقِيقَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِهِمَا وَجِنْسِهِمَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ، وَكُلُّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى مَا يُقِيمُ بِنْيَتَهُ وَيَمُدُّ حَيَاتَهُ ; لِئَلَّا يَنْحَلَّ بَدَنُهُ وَتَضْعُفَ قُوَاهُ، فَيَهْلَكَ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ أَكْلُ الطَّعَامِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْفَضَلَاتِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مُمْكِنٌ، مُسَاوٍ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْمَخْلُوقَةِ فِي حَاجَتِهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا خَالِقًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَبًّا مَعْبُودًا، وَأَنَّ مِنْ سَفَهِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَاحْتِقَارِهِ لِجِنْسِهِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي مَاهِيَّتِهِ وَمُشَخِّصَاتِهِ بِمَزِيَّةٍ عَرَضِيَّةٍ لَهَا، فَيَجْعَلَ نَفْسَهُ لَهَا عَبْدًا، وَيُسَمِّيَ مَا يُفْتَتَنُ بِخُصُوصِيَّتِهِ مِنْهَا إِلَهًا أَوْ رَبًّا.
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيِ انْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوْ أَيُّهَا السَّامِعُ، نَظَرَ عَقْلٍ وَفِكْرٍ، كَيْفَ نُبَيِّنُ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ فِي الْمَسِيحِ
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ
خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الْبُرْهَانَ مِنْ حَالِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ عَلَى بُطْلَانِ كَوْنِهِ إِلَهًا، وَبَيَّنَ مَا يُشَارِكَانِ بِهِ أَشْرَفَ الْبَشَرِ مِنَ الْمَزِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَمَا يُشَارِكَانِ بِهِ سَائِرَ الْبَشَرِ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْعَامَّةِ. وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالتَّعْجِيبِ مِنْ بُعْدِ التَّفَاوُتِ مَا بَيْنَ قُوَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي حَجَّهُمْ بِهَا، وَشِدَّةِ انْصِرَافِهِمْ عَنْهَا، ثُمَّ لَقَّنَ نَبِيَهُ حُجَّةً أُخْرَى يُورِدُهَا فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَتَبْكِيتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا فَائِدَةَ فِي عِبَادَتِهِ، فَقَالَ: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ، أَتَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ - أَيْ مُتَجَاوِزِينَ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ - مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا تَخْشَوْنَ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ بِهِ إِذَا تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ، وَتَرْجُونَ أَنْ يَدْفَعَهُ
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَشَدِّ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ بِتَعْظِيمِ الْأَنْبِيَاءِ فَوْقَ مَا يَجِبُ، وَكَانَ إِيذَاءُ الْيَهُودِ لَهُ وَسَعْيُهُمْ لِقَتْلِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْجُمُودِ عَلَى تَقَالِيدِ الدِّينِ الصُّورِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فِيهِ، وَكَانَ هَذَا الْغُلُوُّ هُوَ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى قَتْلِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا قَالَ تَعَالَى:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). الْغُلُوُّ: الْإِفْرَاطُ وَتَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الْأَمْرِ - فَإِذَا كَانَ فِي الدِّينِ، فَهُوَ تُجَاوِزُ حَدِّ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَى مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ; كَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَرْبَابًا يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ لَهُمْ، فَوْقَ سُنَنِ اللهِ
فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الْكَسْبِيَّةِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ، فَيُدْعَوْنَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى أَوْ مَعَ اللهِ تَعَالَى. سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، أَمْ لَا، وَكَشَرْعِ عِبَادَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ ; كَالطَّيِّبَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْقُسُوسُ وَالرُّهْبَانُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُمْ ; مُبَالَغَةً فِي التَّنَسُّكِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللهِ، أَمْ كَانَ رِيَاءً وَسُمْعَةً - نَهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ عَنْ هَذَا الْغُلُوِّ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَعَنِ التَّقْلِيدِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ ضَلَالَتِهِمْ. فَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ قَدْ ضَلُّوا بِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ سُنَّةَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَكُلُّ أُولَئِكَ كَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَمْ يَكُونُوا مُفْرِطِينَ وَلَا مُفَرِّطِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا لِلشِّرْكِ وَالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مُنْكِرِينَ، فَهَذَا التَّثْلِيثُ، وَهَذِهِ الطُّقُوسُ الْكَنِيسِيَّةُ الشَّدِيدَةُ الْمُسْتَحْدَثَةُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ابْتَدَعَهَا قَوْمٌ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَضَلُّوا بِهَا، وَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ فِي بِدَعِهِمْ وَضَلَالِهِمْ.
وَأَمَّا الضَّلَالُ الثَّانِي، الَّذِي خُتِمَتْ بِهِ الْآيَةُ، فَقَدْ فُسِّرَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فُسِّرَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ هُوَ سَوَاءُ السَّبِيلِ ; أَيْ وَسَطُهُ الَّذِي لَا غُلُوَّ فِيهِ، وَلَا تَفْرِيطَ ; لِتَحْتِيمِهِ الِاتِّبَاعَ، وَتَحْرِيمِهِ الِابْتِدَاعَ وَالتَّقْلِيدَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ الْأَوَّلُ ضَلَالَ الِابْتِدَاعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ، وَالضَّلَالُ الثَّانِي جَهْلَ حَقِيقَةِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ، وَكَوْنَهُ وَسَطًا بَيْنَ أَطْرَافٍ مَذْمُومَةٍ؛ كَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ، وَاتِّبَاعِ الْوَحْيِ بَيْنَ الِابْتِدَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَالسَّخَاءِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ... إِلَخْ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ غَلَبَ عَلَى غُلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ الضَّلَالُ وَالْإِضْلَالُ، وَآثَرَ أَكْثَرُهُمْ
رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ، أَوِ الْعَاصِينَ الْمُعْتَدِينَ عَامَّةً، وَالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مِنَ اللهِ الَّذِي اسْتَمَرَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ عِصْيَانَهُمْ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعْتِدَاءَهُمُ الْمُمْتَدُّ الْمُسْتَمِرُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ ذِكْرُهُ - ذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَسَبَبَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ مُنْكَرٍ مَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مَهْمَا اشْتَدَّ قُبْحُهَا وَعَظُمَ ضَرَرُهَا، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الدِّينِ وَسِيَاجُ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا تُرِكَ تَجَرَّأَ الْفُسَّاقُ عَلَى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَمَتَى صَارَ الدَّهْمَاءُ يَرَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَسْمَعُونَهَا بِآذَانِهِمْ، تَزُولُ وَحْشَتُهَا وَقُبْحُهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يَتَجَرَّأُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. فَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِهِمْ إِخْبَارٌ بِفُشُوِّ الْمُنْكَرَاتِ فِيهِمْ، وَانْتِشَارِ مَفَاسِدِهَا بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْلُولِ، وَلَوْلَا اسْتِمْرَارُ وُقُوعِ الْمُنْكَرَاتِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّنَاهِي شَأْنًا مِنْ شُئُونِ الْقَوْمِ، وَدَأْبًا مِنْ دُءُوبِهِمْ.
(وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي تَفْسِيرِ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ٣: ١٠٤) الْآيَةَ، فَلْيُرَاجِعْ فِي (ص٢٢ ج٤ ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى).
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) هَذَا تَأْكِيدٌ قَسَمِيٌّ لِذَمِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مِنِ اقْتِرَافِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهَا، وَالرِّضَاءِ بِهَا، وَكَفَى بِذَلِكَ إِفْسَادًا.
ذَلِكَ شَأْنُهُمْ وَدَأْبُهُمِ الَّذِي مَرَدُوا وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ، بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ; عِبْرَةً لَهُمْ، حَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَيَحِلَّ بِهِمْ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ ; فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرْبَ
اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إِلَى قَوْلِهِ: (فَاسِقُونَ) ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ السِّيرَةِ الرَّاسِخَةِ، فَقَالَ: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ تَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ، كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَأَنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِّسَالَةِ، وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ لَا يُوَحِّدُونَ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ، وَلَا بِرُسُلِهِ مِثْلُكَ، فَكَيْفَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَيْكَ، لَوْلَا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ، وَسَخَطُ اللهِ عَلَيْهِمْ؟ (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هَذَا ذَمٌّ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِعَمَلِ الْيَهُودِ الَّذِي قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ; لِيَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي أَوْجَبَ سَخَطِ اللهِ عَلَيْهِمْ. فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ ذَلِكَ السَّخَطُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ، وَلَيْسَ أَمَامَهُمْ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَبِئْسَ شَيْئًا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، فَسَيُجْزَوْنَ بِهِ شَرَّ الْجَزَاءِ (وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) فَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ، لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا ; لِأَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِنَّمَا تَكُونُ بِرِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا مَا أَوْجَبَ سَخَطَهُ.
(وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) أَيْ وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْكَافِرِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَهُوَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، لَمَا اتَّخَذُوا أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ وَأَنْصَارًا ; لِأَنَّ الْعَقِيدَةَ الدِّينِيَّةَ كَانَتْ تُبْعِدُهُمْ عَنْهُمْ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ. وَفِي الْعِبَارَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ:
لَوْ كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، مَا اتَّخَذَهُمُ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ ; أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّوْجِيهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِلَّةٌ إِلَّا اتِّفَاقَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى حَرْبِ الرَّسُولِ وَإِبْطَالِ دَعْوَتِهِ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ تَوَلَّاهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ
فَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا ; لِلِاشْتِرَاكِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أَيْ خَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، مُنْسَلُّونَ مِنْهُ انْسِلَالَ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَالْقَلِيلُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي سِيرَةِ الْأُمَّةِ وَأَعْمَالِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).
خَتَمَ اللهُ هَذَا السِّيَاقَ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ شَأْنِهِمْ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا حَالَتَهُمُ النَّفْسِيَّةَ فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَدَرَجَةِ قُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُمْ، وَكَذَا حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) الْعَدَاوَةُ: بَغْضَاءُ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْمَوَدَّةُ: مَحَبَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِالْمَحَبَّةِ مُطْلَقًا، وَفِي
التَّوْكِيدِ فِي آخِرِهَا، وَفِي الْخِطَابِ بِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لِكُلِّ مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، وَفِي " النَّاسِ " الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَهُودُ الْحِجَازِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ مَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا صِدْقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا لَاقَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ قَدْ كَانَ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَا سِيَّمَا مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَرَ مِنَ الْعَدَاوَةِ مِثْلَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ، بَلْ رَأَى مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ أَحْسَنَ الْمَوَدَّةِ بِحِمَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُشْرِكِيهَا الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ; لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الشُّعُوبِ، كَانَ النَّصَارَى مِنْهُمْ أَحْسَنَهُمْ رَدًّا; فَهِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ فِي الشَّامِ حَاوَلَ إِقْنَاعَ رَعِيَّتِهِ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمَّ يَقْبَلُوا لِجُمُودِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ الْجَدِيدِ، اكْتَفَى بِالرَّدِّ الْحَسَنِ، وَالْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ رَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا، وَأَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً حَسَنَةً، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ وَالشَّامُ عَرَفَ أَهْلُهَا مَزِيَّةَ الْإِسْلَامِ، دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَكَانَ الْقِبْطُ أَسْرَعَ لَهُ قَبُولًا.
وَقَدْ كَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ٧٩: ٢٥) فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلَا يَعْتَبِرُ بِكَ غَيْرُكَ، فَقَالَ (الْمُقَوْقِسُ) : إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَقَالَ حَاطِبٌ: نَدْعُوكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَافِي بِهِ اللهُ فَقْدَ سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ دَعَا النَّاسَ
فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الْإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ أُمُّتُهُ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنَّا نَأْمُرُكَ بِهِ (أَيْ هُوَ الْإِسْلَامُ عَيْنُهُ) فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَسُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ عُمَانَ جَيْفَرِ بْنِ الْجُلَنْدَى وَأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ الْجُلَنْدَى، فَإِنَّ عَمْرًا عَمَدَ أَوَّلًا إِلَى عَبْدٍ ; لِأَنَّهُ أَحْلُمُ الرَّجُلَيْنِ وَأَمْيَلُهُمَا خُلُقًا، فَبَلَّغَهُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدٌ: يَا عَمْرُو، إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ؟ (قَالَ عَمْرٌو) قُلْتُ: مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللهُ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ: فَمَتَى تَبِعْتَهُ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَسَأَلَنِي: أَيْنَ كَانَ إِسْلَامُكَ؟ قُلْتُ: عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ؟ فَقُلْتُ: أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ، قَالَ: وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ تَبِعُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: انْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحُ مِنَ الْكَذِبِ، قُلْتُ: مَا كَذَبْتُ وَمَا نَسْتَحِلُّهُ فِي دِينِنَا، قَالَ: مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ النَّجَاشِيِّ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّجَاشِيُّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا وَاللهِ لَوْ سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتُهُ، فَبَلَغَ هِرَقْلَ قَوْلُهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَنَّاقُ أَخُوهُ: أَتَدَعُ عَبْدَكَ لَا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا وَيَدِينُ بِدِينِ غَيْرِكَ دِينًا مُحْدَثًا؟ قَالَ هِرَقْلُ: رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ وَاللهِ لَوْلَا الضَّنُّ بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ، قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو، قُلْتُ: وَاللهِ صَدَقْتُكَ، قَالَ عَبْدٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَعَنِ الزِّنَا وَعَنِ الْخَمْرِ وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ، قَالَ: مَا أَحْسَنَ
هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَنُصَدِّقَ بِهِ، وَلَكِنَّ أَخِي يَضِنُّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ ذَنَبًا، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ (وَقَدْ أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ بَعْدُ).
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ أَنَّ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ كَانُوا فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَقْرَبَ قَبُولًا لِلْإِسْلَامِ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ مُلُوكِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَمَا كَانَ تَوَقُّفُهُ إِلَّا ضَنَّا بِمُلْكِهِ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ (أَصْحَمَةَ) مَلِكَ الْحَبَشَةِ قَدْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ بِطَانَتُهُ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْحَبَشَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْنِ الْمُسْلِمُونَ بِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كَمَا فَعَلُوا فِي مِصْرَ وَالشَّامِ مَثَلًا وَهَذَا بَحْثٌ تَارِيخِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا، وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " عَزَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى أَبِي
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأَوْا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوَدَّةِ النَّصَارَى وَقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا رَأَوْا مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ بُعْدُ النَّصَارَى عَنْهُمْ، وَقُرْبُ الْيَهُودِ مِنْهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعًا، وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَبَى تَرْكَ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ بَعِيدٍ، لَا يَعْنِي بِعَدَاوَةِ أَهْلِهَا وَمُقَاوَمَتِهِمْ كَمَا يُعْنَى الْقَرِيبُ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ مُوَاجَهَةً وَمُشَافَهَةً، وَلِذَلِكَ كَانَ الْيَهُودُ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ يَعْطِفُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفَتْحِ وَيَرْغَبُونَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى نَصَارَى الرُّومِ وَالْقُوطِ، ثُمَّ صَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْحُرُوبِ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ; لِسَلَفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَاعِدَةُ لِهَذَا الرَّأْيِ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْمَوَدَّةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ أَثَرَ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالسِّيَادَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَلَا دَخْلَ لِطَبِيعَةِ الدِّينِ فِيهَا، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِمَا يُثِيرُهُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَمَا بَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْنِ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ مُسْلِمِي الْهِنْدِ وَمُشْرِكِيهَا; لِتَعَارُضِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ فِيهَا، فَعِلَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ خَارِجِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا جِنْسِيَّةٌ.
هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي جُمْلَتِهِ لَا تَفْصِيلِهِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمُتَّفِقِينَ فِيهِ، فَقَدْ حَارَبَ نَصَارَى الْبَلْقَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا حَارَبُوا الْعُثْمَانِيِّينَ، بَلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنَ النَّصَارَى يُحَارِبُ الْآنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; كَالْإِنْجِلِيزِ وَالْأَلْمَانِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ هُنَا مَعْنًى أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَعَمَّ لَا خَاصًّا بِالتَّنَازُعِ.
وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَاوَةِ الْمُعَادِينَ وَمَوَدَّةِ الْمُوَادِّينَ هِيَ الْحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَتَرْبِيَتِهِمُ الْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ سَبَبِ مَوَدَّةِ النَّصَارَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَرْكِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْيَهُودِ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ.
شِنْشِتَهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا إِلَّا لِمَصْلَحَتِهِمْ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا، وَالْخَوْفَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا: الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا.
فَتِلْكَ كَانَتْ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ الْغَالِبَةَ لَا أَخْلَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّتَيْنِ كَافَّةً، فَفِي كُلِّ قَوْمٍ خَبِيثُونَ وَطَيِّبُونَ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧: ١٥٩) وَلَكِنَّ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ نَفْسَهَا تُرَبِّي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَةَ الْجِنْسِيَّةَ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَكُلُّ أَحْكَامِهَا وَنُصُوصِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ:
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ: الْمُرَادُ مِنْهَا تَرْبِيَةُ أَمَةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ إِنْقَاذِهَا مِنَ اسْتِعْبَادِ أَشَدِّ الْوَثَنِيِّينَ بَطْشًا، وَأَضَرِّهُمْ بِالِاسْتِبْدَادِ وَهِيَ أُمَّةُ الْفَرَاعِنَةِ وَلَوْ أَذِنَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ يُخَالِطُوا الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ مِنْ مَفَاسِدَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ بِتَرْبِيَةِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى فِي أَخْلَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَفَاسِدِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْيَهُودِ إِلَى الْآنِ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اضْطِهَادِ الْأُمَمِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَدَمِ نَفْعِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُمْ، إِلَّا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ دَفْعَ ضَرَرٍ، وَتَجَرُّدُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ عَنْ إِيثَارِ أَحَدٍ غَرِيبٌ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ لَكَفَى، وَكَانَ شُبْهَةً عَظِيمَةً عَلَى كَوْنِ دِينِهِمْ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (٢: ١٠٥).
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ سَهْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً لَا دَائِمَةً، فَكَانَتْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى تَكْوِينِ أُمَّةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ، وَكَانَ الْمُصْلِحُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَاهَدُونَ أَهْلَهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ بِالْإِصْلَاحِ الْمَعْنَوِيِّ، كَإِلَهِيَّاتِ زَبُورِ دَاوُدَ، وَأَدَبِيَّاتِ حُكْمِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ; حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَى الْقَوْمِ الْمَادِّيَّةُ وَتُفْسِدَهُمُ الْأَثَرَةُ، ثُمَّ جَاءَ مُصْلِحُ إِسْرَائِيلَ الْأَعْظَمُ عِيسَى الْمَسِيحُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، فَقَابَلَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْمَادِّيَّةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الرُّوحَانِيَّةِ، وَمُبَالَغَتَهُمْ فِي الْأَثَرَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيثَارِ الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ النَّصَارَى بِإِنْكَارِ الذَّاتِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَقَاصِدِهَا، فَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ السِّيَادَةَ وَالْغِنَى، وَذَمَّ التَّمَتُّعَ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا، وَأَمَرَ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيذَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْهِيدًا لِإِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى دِينَهُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، فَيَجْمَعُ لِلْبَشَرِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لَا بِالْإِحْسَانِ فَقَطْ.
فَمَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ إِصْلَاحُ الْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ ظَلُّوا عَلَى جُمُودِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ، وَكَانُوا أَشَدَّ عَدَاوَةً لِهَذَا النَّبِيِّ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِمَّنْ أَثَّرَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ وَكَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ
أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ، فَكَانُوا أَقْرَبَ مَوَدَّةً لَهُمْ، وَكَانُوا أَسْرَعَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (٧: ١٥٧)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِطَبِيعَةِ دِينِ كُلٍّ مِنْهُمَا - وِفَاقًا لِتَعْلِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثْرَةُ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ النَّصَارَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِلَّةِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ الْيَهُودِ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ، وَلَوْلَا إِهْمَالُهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِبْرَازَهُ بِصُورَتِهِ الصَّحِيحَةِ لِلْأَنَامِ، وَلَوْلَا فَسَادُ حُكُومَاتِهِمْ وَعَجْزُ رِجَالِهِمْ فِي السِّيَاسَةِ، وَتَخَلُّفُهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ، وَلَوْلَا بُلُوغُ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيهِ أَوْجَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَسَبْقُ أُمَمِهِمْ فِي حَلَبَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالثَّرْوَةِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ لِنَصَارَى الشَّرْقِ وَجَذْبُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَاعْتِزَازُ هَؤُلَاءِ بِهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ أَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ عَنْهُمْ، وَجَعْلُ الدِّينِ فِيهَا مِنَ الْمُقَوِّمَاتِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ تُرَبَّى عَلَى أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهَا كَمَا تُحَافِظُ عَلَى لُغَتِهَا، فَلَا تَسْتَبْدِلُ بِهَا غَيْرَهَا وَإِنَّ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَسَالِيبِهَا وَلَوْلَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ الدُّنْيَوِيِّ بَيْنَ دُوَلِنَا وَدُوَلِهِمْ، لَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَكَانَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَتَمَّ وَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَعَمَّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِصْلَاحٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إِصْلَاحٌ فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَادَوُا النَّصْرَانِيَّةَ كَانُوا أَحْذَرَ مِمَّنْ صَلَحُوا بِهَا بِعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ جَرَى مَعَ الْبَشَرِ عَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ، إِلَى أَنْ بَلَغَ سِنَّ الْكَمَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ سَبَبَ مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ تَعَالِيمُ دِينِهِمْ وَتَقَالِيدُهُ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيهِمْ، وَإِنْ نَزَلَ فِي طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ فَبِمَاذَا تُجِيبُ عَنِ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ الَّتِي أَوْقَدَ النَّصَارَى نَارَهَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا مِنَ الْيَهُودِ وَلَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى؟ فَإِنَّ عِنْدِي جَوَابَيْنِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَوْ جَوَابًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدِّينِ الْقَرِيبِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، بَلِ الَّذِي هُوَ إِصْلَاحٌ فِيهَا وَإِكْمَالٌ لَهَا كَمَا قَرَّرْنَا، لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّلِيبِينَ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ صُورَةً فِي مُخَيِّلَاتِهِمْ غَيْرَ صُورَتِهِمُ الصَّحِيحَةِ الَّتِي طَبَعَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، صُورَةً وَثَنِيَّةً وَحْشِيَّةً مُشَوَّهَةً أَقْبَحَ التَّشْوِيهِ، مُنْعَكِسَةً عَنِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنْشِئُهَا بُطْرُسُ الرَّاهِبُ وَأَمْثَالُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَوْمٌ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مُثِيرُو الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَدَعَوْا إِلَى قِتَالِهِمْ لَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ عَدَاءٍ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ بُعْدُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ، أَوْ جَهَالَةٍ وَسُوءِ فَهْمٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا، وَأَمْرُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ دُوَلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَلَا يَنْسُبُهُ إِلَى طَبِيعَةِ دِينِهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُكَابِرٌ، فَالدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ كَانَتْ قَدْ فَتَحَتْ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ، فَلَمَّا دَالَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ تَأَثَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ السَّاسَةُ الْبَلْقَانِيُّونَ قَدْ هَاجُوا شُعُوبَهُمْ عَلَى قِتَالِهَا بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَالْمَسِيحِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ كَذَّبَ اللهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمُ الْمَسِيحِيَّةَ بِإِيقَادِهِمْ نَارَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، فَمَا زَالَ أَئِمَّةُ السِّيَاسَةِ الْمُضِلُّونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَتَّخِذُونَ الدِّينَ أُخْدُوعَةً يَخْدَعُونَ بِهَا الْعَامَّةَ لِتَأْيِيدِ سِيَاسَتِهِمْ، حَتَّى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودِيَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّهَا دِيَانَةُ تَوْحِيدٍ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ تَثْلِيثٍ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَسَاسُ دِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَلِذَلِكَ يَغْفِرُ اللهُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الشِّرْكَ.
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ الدَّخِيلَةَ فِي الْمَسِيحِيَّةِ لَمَّا كَانَتْ لَا تُفْهَمُ وَلَا تُعْقَلُ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا بِبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ الْأَعْظَمُ فِي تَقْرِيبِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْ ضِدِّهِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ. وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مَا لَا نَرَى مِثْلَهُ بَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَمَا ضَعُفَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ فِي بَلَدٍ إِلَّا بِفِتَنِ السِّيَاسَةِ، وَعَصَبِيَّاتِ أَهْلِ الرِّيَاسَةِ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مُثِيرِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، أَوْ إِرْضَاءً لِرُؤَسَائِهِمْ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الرُّهْبَانَ جَمْعُ رَاهِبٍ (كَرُكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ) وَهُوَ الْمُتَبَتِّلُ الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ وَحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ التَّنَعُّمِ بِالزَّوجِ وَالْوَلَدِ
وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى فِي عَهْدِهِ كَالْحَوَارِيِّينَ وَقَوْلًا آخَرَ: الْمُرَادُ بِهِمْ جَمَاعَةُ النَّجَاشِيِّ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرَ الْجُزْءِ السَّادِسِ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ لَا تُرَاعَى فِيهَا الْمَعَانِي، وَيَبْدَأُ الْجُزْءُ السَّابِعُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أَيْ وَإِذَا سَمِعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُكْمِلَ بِهِ الدِّينُ، وَبُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، تَرَى أَيُّهَا النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، أَيْ تَمْتَلِئُ دَمْعًا حَتَّى يَتَدَفَّقَ الدَّمْعُ مِنْ جَوَانِبِهَا لِكَثْرَتِهِ، أَوْ حَتَّى كَأَنَّ الْأَعْيُنَ ذَابَتْ وَصَارَتْ دَمْعًا جَارِيًا، ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَا مَنَعَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، قَوْلُهُ: (مِنَ الْحَقِّ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (مِمَّا عَرَفُوا) (وِقِيلَ: إِنَّ " مِنْ " فِيهِ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ إِنَّ أَعْيُنَهُمْ فَاضَتْ عَبْرَةً وَدُمُوعًا، عِبْرَةً مِنْهُمْ وَخُشُوعًا، لِمَعْرِفَتِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ، إِذْ سَمِعُوا بَعْضَ الْآيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَيْفَ لَوْ عَرَفُوا الْحَقَّ كُلَّهُ بِسَمَاعِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْبَيَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَالَّذِي يَسْمَعُ فِي النَّجَاشِيِّ وَجَمَاعَتِهِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَهُوَ بَيَانُ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ وَالِاسْتِعْبَارُ، وَالدُّمُوعُ الْغِزَارُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا يَكُونُ مِنْ مَقَالِهِمْ، بَعْدَ بَيَانِ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِمْ فَقَالَ: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أَيْ: يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ يُرِيدُونَ بِهِ إِنْشَاءَ الْإِيمَانِ، وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمْ وَيَكْتُبَهُمْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ تَعَالَى كَالرُّسُلِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ كُتُبِهِمْ، أَوْ مِمَّا يَتَنَاقَلُونَهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، أَنَّ النَّبِيَّ الْأَخِيرَ الَّذِي يُكْمِلُ اللهُ بِهِ الدِّينَ يَكُونُ مُتَّبِعُوهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ بِدُخُولِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ يُكْتَبُونَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَذَكَرَ اللهُ الْأُمَّةَ
الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُبْطِلِينَ لِكَوْنِهَا مَظْهَرًا لِلدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَحَدُوهُ أَوْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الشُّهَدَاءِ فِي تَفْسِيرِ (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢: ١٤٣) فِي (ص ٥ج ٣ط الْهَيْئَةِ) (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) (٤: ٦٩) فِي (ص ١٩٧ ج٥ ط الْهَيْئَةِ).
(وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ). هَذَا تَتِمَّةُ قَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ وَبِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ عَلَى لِسَانِ هَذَا الرَّسُولِ، بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ، وَالْحَالُ أَنَّنَا نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ صَلُحَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ، وَالْعِبَادَاتِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الَّذِينَ رَأَيْنَا أَثَرَ صَلَاحِهِمْ بِأَعْيُنِنَا بَعْدَ مَا كَانَ فَسَادُهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مَا كَانَ؟ أَيْ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ بَعْدَ تَحْقِيقِ مُوجِبِهِ، وَقِيَامِ سَبَبِهِ، فَسَرُّوا الْقَوْمَ الصَّالِحِينَ بِأَصْحَابِ الرَّسُولِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ آمَنَ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَكُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى طَرِيقِهِمْ يُعَدُّ مِنْهُمْ وَيُحْشَرُ مَعَهُمْ.
(فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِمُ الَّذِي عَبَّرُوا بِهِ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ فِي دَارِ النَّعِيمِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ يُخَلَّدُونَ فِيهَا، فَلَا هِيَ تُسْلَبُ مِنْهُمْ وَلَا هُمْ يَرْغَبُونَ عَنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا، وَذَلِكَ النَّوْعُ مِنَ الثَّوَابِ جَزَاءُ جَمِيعِ الْمُحْسِنِينَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ، الدُّورَ وَالْقُصُورَ وَالنَّعِيمَ الرُّوحَانِيَّ وَالرِّضْوَانَ الْإِلَهِيَّ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ الْكَلَامُ وَيُحِيطَ بِهِ الْوَصْفُ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الْعَالَمِ فِي حَقِيقَتِهِ وَخَوَاصِّهِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٢: ١٧).
وَهُنَاكَ مَا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرِ:
أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ:
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللهُ بِهِ النَّصَارَى قَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ آمَنُوا إِذْ جَاءَتْهُمْ مُهَاجِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ لَهُمْ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالُوا: " بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمَرِيَّ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ فَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ فِيهِمْ: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) إِلَى قَوْلِهِ: (مَعَ الشَّاهِدِينَ).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) قَالَ: هُمْ رُسُلُ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ أَرْسَلَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا اخْتَارَهُمْ مَنْ قَوْمِهِ الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ فِي الْفِقْهِ وَالسِّنِّ، وَفِي لَفْظٍ: بَعَثَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ " يس " فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) الْآيَةَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ أَيْضًا: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٢٨: ٥٢) إِلَى قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (٢٨: ٥٤).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ، كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا بَرَّايِينَ يَعْنِي مَلَّاحِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ آمَنُوا وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا
رَجَعْتُمْ إِلَى أَرْضِكُمُ انْتَقَلْتُمْ عَنْ دِينِكُمْ " فَقَالُوا: لَنْ نَنْقَلِبَ عَنْ دِينِنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةٌ قِسِّيسِينَ وَخَمْسَةٌ رُهْبَانًا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ فَلَمَّا لَقُوهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بَكَوْا وَآمَنُوا وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَخَافُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَبَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي رَهْطٍ مِنْهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ
سَبَقُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ فِينَا رَجُلٌ سَفَّهَ عُقُولَ قُرَيْشٍ وَأَحْلَامَهَا زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْكَ رَهْطًا لِيُفْسِدُوا عَلَيْكَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ، قَالَ: إِنْ جَاءُونِي نَظَرْتُ فِيمَا يَقُولُونَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا إِلَى بَابِ النَّجَاشِيِّ قَالُوا: اسْتَأْذِنْ لِأَوْلِيَاءِ اللهِ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، فَمَرْحَبًا بِأَوْلِيَاءِ اللهِ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَلَّمُوا، فَقَالَ الرَّهْطُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَمْ تَرَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّا صَدَقْنَاكَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُحَيُّوكَ بِتَحِيَّتِكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِي؟ قَالُوا: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ
هَذَا وَإِنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ أَمْثَالِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِتَعَدُّدِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا كَانَ أَقْوَى سَنَدًا.
ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرَةً وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مُطَوَّلَةً عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سَبَبِ إِسْلَامِهِ، مُلَخَّصُهَا أَنَّهُ كَانَ مَجُوسِيًّا وَظَفِرَ بِبَعْضِ عُبَّادِ النَّصَارَى الْمُنْقَطِعِينَ فِي بَعْضِ الْجِبَالِ وَسَافَرَ مَعَهُمْ مِنْ بِلَادِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَهُنَاكَ اتَّصَلُوا بِعُبَّادٍ مِثْلِهُمْ وَلَقُوا رَجُلًا كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْعِبَادَةِ فِي كَهْفٍ عَظَّمُوهُ كَثِيرًا، وَوَعَظَهُمْ هُوَ وَعْظًا بَلِيغًا، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ عِيسَى كَانَ رَسُولًا لِلَّهِ وَعَبْدًا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْكَهْفِ إِلَّا يَوْمَ الْأَحَدِ، ثُمَّ سَافَرَ الْعَابِدُ وَسَافَرَ مَعَهُ سَلْمَانُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُنَاكَ
شَفَى الله عَلَى يَدِهِ مُقْعَدًا، وَقَدْ وَعَظَ سَلْمَانَ قَبْلَ فِرَاقِهِ فَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَبِعْثَةَ نَبِيٍّ مِنْ تِهَامَةَ صِفَاتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ وَأَوْصَاهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِدْرَاكَهُ، فَلَقِيَ رَكْبًا مِنَ الْحِجَازِ حَمَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعُوهُ فِيهَا، وَلَمَّا لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى الْعَلَامَاتِ فِيهِ آمَنَ وَكَاتَبَ وَسَاعَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَالِ عَلَى شِرَاءِ نَفْسِهِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ صَحِبَهُمْ، وَالرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ وَحَمْلُ الْآيَاتِ عَلَيْهَا بِعِيدٌ.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ مَا أَثَابَ بِهِ أُولَئِكَ النَّصَارَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ جَزَاءُ جَمِيعِ الْمُحْسِنِينَ عِنْدَهُ الَّذِينَ آمَنُوا كَإِيمَانِهِمْ
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِنَا وَصِدْقِ رَسُولِنَا فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنَّا (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ هُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ النَّارِ الْعَظِيمَةِ الْمُلَازِمُونَ لَهَا، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوَى سِوَاهَا أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).
بَدَأَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ، وَمِنْهَا حِلُّ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجُ مِنْهُمْ، وَأَحْكَامُ الطَّهَارَةِ وَالْعَدْلُ، وَلَوْ فِي الْأَعْدَاءِ الْمُبْغِضِينَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ الطَّوِيلِ فِي بَيَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَمُحَاجَّتِهِمْ، فَكَانَ أَوْفَى وَأَتَمَّ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَالْوُعُودِ وَالْعِظَاتِ بَيَّنَّا مُنَاسَبَتُهَا لَهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ عَوْدٌ إِلَى أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالنُّسُكِ الَّتِي بُدِئَتْ بِهَا السُّورَةُ، وَيَتْلُوهَا الْعَوْدُ إِلَى مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَلِمْتَ، فَمَجْمُوعُ آيَاتِ السُّورَةِ، فِي هَذَيْنِ الْمَوْضُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ آيَاتُ الْأَحْكَامِ كُلُّهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَتُجْعَلُ الْآيَاتُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي بَاقِيهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكْمَةِ مَزْجِ الْمَسَائِلِ وَالْمَوْضُوعَاتِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَثَانِي تُتْلَى دَائِمًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، لَا كِتَابًا فَنِّيًّا وَلَا قَانُونًا يُتَّخَذُ لِأَجْلِ مُرَاجَعَةِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَعَانِي فِي بَابٍ مُعَيَّنٍ.
عَلَى أَنَّ فِي نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِ آيِهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ مَا يُدْهِشُ أَصْحَابَ الْأَفْهَامِ الدَّقِيقَةِ بِحُسْنِهِ وَتَنَاسُقِهِ، كَمَا تَرَى فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبِلَهَا مُبَاشَرَةً، زَائِدًا عَلَى مَا عَلِمْتَ آنِفًا مِنْ مُنَاسَبَتِهَا لِمَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا.
ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَذَكَرَ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَرْغَبَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ وَيَظُنَّ الْمَيَّالُونَ لِلتَّقَشُّفِ وَالزُّهْدِ أَنَّهَا مَرْتَبَةُ كَمَالِ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِتَحْرِيمِ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ طَبْعًا مِنَ اللُّحُومِ وَالْأَدْهَانِ وَالنِّسَاءِ، إِمَّا دَائِمًا كَامْتِنَاعِ الرُّهْبَانِ مِنْ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) أَيْ لَا تُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ بِأَنْ تَتَعَمَّدُوا تَرْكَ التَّمَتُّعِ بِهَا تَنَسُّكًا وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، وَلَا تَعْتَدُوا فِيهَا بِتَجَاوُزِ حَدِّ الِاعْتِدَالِ إِلَى الْإِسْرَافِ الضَّارِّ بِالْجَسَدِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ وَالرَّيِّ فَهُوَ تَفْرِيطٌ، أَوْ تَجَاوُزُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ النَّفْسِيَّةِ، كَجَعْلِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا أَكْبَرَ هَمِّكُمْ، أَوْ شَاغِلًا لَكُمْ عَنْ مَعَانِي الْأُمُورِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لَكُمْ وَلِأُمَّتِكُمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٧: ٣١) أَوْ وَلَا تَعْتَدُوهَا هِيَ أَيِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، بِتَجَاوُزِهَا إِلَى الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ، فَالِاعْتِدَاءُ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ: الِاعْتِدَاءُ فِي الشَّيْءِ نَفْسِهِ، وَاعْتِدَاءٌ هُوَ يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ
حَذَفَ الْمَفْعُولَ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يَقُلْ فَلَا تَعْتَدُوا فِيهَا أَوْ فَلَا تَعْتَدُوهَا كَمَا قَالَ: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا) (٢: ٢٢٩) لِيَشْمَلَ الْأَمْرَيْنِ، اعْتِدَاءُ الطَّيِّبَاتِ نَفْسِهَا إِلَى الْخَبَائِثِ، وَالِاعْتِدَاءُ فِيهَا بِالْإِسْرَافِ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، ثُمَّ عَلَّلَ النَّهْيَ بِمَا يُنَفِّرُ عَنْهُ فَقَالَ:.
(إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ شَرِيعَتِهِ، وَسُنَنِ فِطْرَتِهِ وَلَوْ بِقَصْدِ عِبَادَتِهِ، وَتَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتُ الْمُحَلَّلَةُ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ، مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ بِيَمِينٍ وَلَا نَذْرٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْتِزَامٍ وَكَلَاهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَالِالْتِزَامُ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ رِيَاضَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا بِالْحِرْمَانِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِرْضَاءِ بَادِرَةِ غَضَبٍ، بِإِغَاظَةِ زَوْجَةٍ أَوْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ، كَمَنْ يَحْلِفُ بِاللهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ (وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ) أَوْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْحَلِفِ وَالنَّذْرِ مِنَ الْمُؤَكَّدَاتِ، وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ مَنْ يَقُولُ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَفِي الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتِهَا خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَأَمَّا تَرْكُ الطَّيِّبَاتِ الْبَتَّةَ كَمَا تُتْرَكُ الْمُحَرَّمَاتُ وَلَوْ بِغَيْرِ نَذْرٍ وَلَا يَمِينٍ تَنَسُّكًا وَتَعَبُّدًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا، فَهُوَ مَحَلُّ شُبْهَةٍ فُتِنَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُبَّادِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، فَكَانَ مِنْ بِدَعِهِمُ التَّرْكِيَّةِ، الَّتِي تُضَاهِي بِدَعَهُمُ الْعَمَلِيَّةَ، وَقَدِ اتَّبَعُوا فِيهَا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ; كَعِبَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرُهْبَانِ النَّصَارَى، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوهَا عَنْ بَعْضِ الْوَثَنِيِّينَ; كَالْبَرَاهِمَةِ الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ جَمِيعَ اللُّحُومِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ النَّفْسَ لَا تَزْكُو وَلَا تَكْمُلُ إِلَّا بِحِرْمَانِ الْجَسَدِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَقَهْرِ الْإِرَادَةِ بِمَشَاقِّ الرِّيَاضَاتِ، وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الزِّينَةَ كَمَا يُحَرِّمُونَ النِّعْمَةَ، فَيَعِيشُونَ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ وَلَا يَسْتَعْلِمُونَ الْأَوَانِيَ لِأَطْعِمَتِهِمْ;
بِكَيْفِيَّةٍ يُرَى بِهَا بَاطِنُ فَخْذِهِ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي قِلَّةِ السَّتْرِ سَوَاءٌ، فَتَرَى النِّسَاءَ فِي أَسْوَاقِ الْمُدُنِ مَكْشُوفَاتِ الْبُطُونِ وَالظُّهُورِ وَالسُّوقِ وَالْأَفْخَاذِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَضَعُ عَلَى عَاتِقِهَا مِلْحَفَةً تَسْتُرُ شَطْرَ بَدَنِهَا الْأَعْلَى وَيَبْقَى الْجَانِبُ الْآخَرُ مَكْشُوفًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ وَتَعْذِيبَ النَّفْسِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ قُدَمَاءَ الْهُنُودِ فَالْيُونَانِ، وَقَلَّدَهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ عَلَى تَفَصِّيهِمْ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الشَّدِيدَةِ الْوَطْأَةِ، وَعَلَى إِبَاحَةِ مُقَدَّسِهِمْ وَإِمَامِهِمْ بُولَسَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا يُؤْكَلُ وَمَا يُشْرَبُ، إِلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ وَمَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ، قَدْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهَا مَا لَمْ تُحَرِّمْهُ الْكُتُبُ الْمُقَدَّسَةُ عِنْدَهُمْ، وَعَلَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ.
ثُمَّ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَالْمُرْسَلِينَ بِالْإِصْلَاحِ الْأَعْظَمِ، فَأَبَاحَ لِلْبَشَرِ عَلَى لِسَانِهِ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْبَدَنِ حَقَّهُ وَالرُّوحَ حَقَّهَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ الْبَشَرِيُّ، فَكَانَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِذَلِكَ أُمَّةً وَسَطًا صَالِحَةً لِلشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَأَنْ تَكُونَ حُجَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ جَدِيرَةً بِالْبَحْثِ عَنْ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِ، وَتَسْخِيرِهِ قُوَى الْأَرْضِ وَالْجَوَّ لِلتَّمَتُّعِ بِنِعَمِ اللهِ فِيهَا مَعَ الشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا قَصَّرَتْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ انْقَطَعَتْ مِنَ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ سَلَفُهَا شَرْطًا وَاسِعًا فِيهِ.
وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْمُبَالَغَةِ وَالْغُلُوِّ فِي دَأْبِ الْبَشَرِ وَشِنْشِنَتِهِمْ فِي كُلِّ شُئُونِهِمْ، مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَيُوجَدُ مَنْ يَمِيلُ إِلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ، كَمَا يُوجَدُ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّفْرِيطِ، اسْتَشَارَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَالنِّسَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَرَكَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِشَارَةٍ، اشْتِغَالًا عَنْهَا بِصِيَامِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فِي تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ، وَالْمِنَّةِ بِحِلِّ الطَّيِّبَاتِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَحْسَنَ الْبَيَانِ.
وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْغُلُوِّ فِي هَذَا الدِّينِ، الَّذِينَ تَرَكُوا هِدَايَتَهُ السَّمْحَةَ إِلَى تَشْدِيدِ الْغَابِرِينَ،
وَصَارُوا يَعُدُّونَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الزِّرْقِ خَاصَّةً بِالْكَافِرِينَ، حَتَّى كَأَنَّ الْمُشَارِكَ لَهُمْ فِيهَا خَارِجٌ
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ والطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي، وَإِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي اللَّحْمَ ".
فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قَالَ: " نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا تَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ). قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالنِّسَاءَ وَهَمَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْطَعَ ذَكَرَهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: " أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنَامُ وَأَقُومُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ".
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: أَرَادَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَرَهَّبُوا فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، فَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ " قَالَ: وَنَزَلَتْ فِيهِمْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللهُ لَكُمْ) قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَيَتَزَهَّدُوا، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَضُوا النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا الصَّوَامِعَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ النِّسَاءِ وَاللَّحْمِ وَلَا اتِّخَاذِ الصَّوَامِعِ " وَخُبِّرْنَا: " أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ لَا أَنَامُ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ النَّهَارَ فَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمُ اتَّفَقْتُمْ عَلَى كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ قَالَ: لَكِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآتِيَ النِّسَاءَ; فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَكَانَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَرْفِ الْأَوَّلِ: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ فَلَيْسَ مَنْ أُمَّتِكَ وَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: " إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ يَوْمًا فَذَكَّرَ النَّاسَ، ثُمَّ قَامَ وَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى التَّخْوِيفِ، فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا عَشْرَةً; مِنْهُمْ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ: مَا حَقُّنَا إِنْ لَمْ نُحْدِثْ عَمَلًا؟ فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَنَحْنُ نُحَرِّمُ، فَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ اللَّحْمِ وَالْوَدَكِ وَأَنْ يَأْكُلَ بِالنَّهَارِ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النَّوْمَ، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمُ النِّسَاءَ، فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَكَانَ لَا يَدْنُو مِنْ أَهْلِهِ وَلَا يَدْنُونَ مِنْهُ، فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ عَائِشَةَ وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْحَوْلَاءُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا لَكِ يَا حَوْلَاءُ مُتَغَيِّرَةَ اللَّوْنِ لَا تَمْتَشِطِينَ وَلَا تَتَطَيَّبِينَ؟ فَقَالَتْ: وَكَيْفَ أَتَطَيَّبُ وَأَمْتَشِطُ وَمَا وَقَعَ عَلَيَّ زَوْجِي، وَلَا رَفَعَ عَنِّي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَجَعَلْنَ يَضْحَكْنَ مِنْ كَلَامِهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ يَضْحَكْنَ فَقَالَ: مَا يُضْحِكُكُنَّ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ الْحَوْلَاءُ سَأَلْتُهَا عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنِّي زَوْجِي ثَوْبًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: مَا بَالُكَ يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ لِلَّهِ لِكَيْ أَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا رَجَعْتَ فَوَاقَعْتَ أَهْلَكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: أَفْطِرْ قَالَ فَأَفْطَرَ وَأَتَى أَهْلَهُ، فَرَجَعَتِ الْحَوْلَاءُ إِلَى عَائِشَةَ وَقَدِ اكْتَحَلَتْ وَامْتَشَطَتْ وَتَطَيَّبَتْ فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: مَا بَالُكِ يَا حَوْلَاءُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ أَتَاهَا أَمْسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالنَّوْمَ؟ أَلَا إِنِّي أَنَامُ وَأَقُومُ وَأُفْطِرُ وَأَصُومُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، فَنَزَلَتْ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) يَقُولُ لِعُثْمَانَ: " لَا تَجُبَّ نَفْسَكَ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الِاعْتِدَاءُ " وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكَفِّرُوا أَيْمَانَهُمْ فَقَالَ: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَرَادَ رِجَالٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَنْ يَتَبَتَّلُوا وَيُخْصُوا أَنْفُسَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَعَلِيَّ بْنَ
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ " أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعِمُوا ضَيْفَهُمُ انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي؟ هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ، قَالَ الضَّيْفُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهُ وَقَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَصَبْتَ " فَأَنْزَلَ اللهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: " آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَرَأْي أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ قَالَتْ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، قَالَ: فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ ".
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ; صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ قُلْتُ:
نَقَلْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَرَكْنَا بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِي مَعْنَاهَا،
وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ الْمَوْقُوفُ وَالْمَرْفُوعُ وَالصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ، وَمَجْمُوعُهَا حُجَّةٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: عَنِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ التَّقَشُّفِ، وَتَعَمُّدِ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَكَذَا اللِّبَاسِ الْحَسَنِ، فَكَيْفَ تَرَكُوا مَا زَعَمْتَ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ مِنْ إِعْطَاءِ الْبَدَنِ حَقَّهُ كَإِعْطَاءِ الرُّوحِ حَقَّهَا بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْ أَهْلِ الْيَسَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَهْلُ الْإِقْفَارِ حَالُهُمْ مَعْلُومٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) (٦٥: ٧) الْآيَةَ. وَأَمَّا الْخُلَفَاءُ الثَّلَاثَةُ فَكَانُوا يَتَعَمَّدُونَ التَّقَشُّفَ لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِعُمَّالِهِمْ وَلِسَائِرِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْمَفْرُوضُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي بَيْتِ الْمَالِ قَدْرَ الْمَفْرُوضِ لِأَوْسَاطِ الْمُهَاجِرِينَ، لَا لِأَعْلَامِهِمْ، كَآلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِأَدْنَاهُمْ كَالْمَوَالِي وَلَا حُجَّةَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ، فَالصُّوفِيَّةُ وَالزُّهَّادُ يَتَّبِعُونَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مُقْتَضَى الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَنْ يَكُنِ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ السَّعَةِ وَالتَّرَفِ يَجْمَعُونَ مَا نُقِلَ عَنْ مُوسِرِي السَّلَفِ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً لِإِسْرَافِهِمْ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢: ١٤٣) وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْوَسَطُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (٢٥: ٦٧).
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا) هَذَا تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ بِضِدِّ مُقْتَضَى النَّهْيِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ حَالَ كَوْنِهِ حَلَالًا فِي نَفْسِهِ، غَيْرَ دَاخِلٍ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ بِأَنْوَاعِهَا وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَحَلَالًا فِي طَرِيقَةِ كَسْبِهِ وَتَنَاوُلِهِ، بِأَلَّا يَكُونَ رِبًا أَوْ سُحْتًا أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الرِّزْقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا مُلِكَ مِلْكًا صَحِيحًا، لَا كُلَّ مَا انْتَفَعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ وَحَالُ كَوْنِهِ مُسْتَلَذًّا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِفَسَادٍ طَرَأَ عَلَيْهِ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ التَّمَتُّعُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الشُّرْبُ مِمَّا كَانَ حَلَالًا غَيْرَ مُسْكِرٍ وَلَا ضَارٍّ، طَيِّبًا غَيْرَ مُسْتَقْذَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِفَسَادِهِ أَوْ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ
هُوَ الْغَالِبُ
الْأَمْرُ هَهُنَا لِلْوُجُوبِ لَا لِلْإِبَاحَةِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ الْمُفِيدِ لِلْإِبَاحَةِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (٥: ٢) وَإِنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ امْتِثَالَ النَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِعْلًا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِتَحْرِيمِهَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَحْرِيمَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ بِالِاعْتِقَادِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا عَمْدًا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا، أَوْ إِضْعَافِهَا لِلْجَسَدِ تَوَهُّمًا أَنَّ إِضْعَافَهُ يُقَوِّي الرُّوحَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ; كَمَنْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِنَذْرِ لَجَاجٍ أَوْ يَمِينٍ، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا لَا يَزَالُ يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، دَعْ مَا كَانَتْ تُحَرِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ أَوْ نَسْلِهَا تَكْرِيمًا لَهَا لِكَثْرَةِ نِتَاجِهَا، أَوْ تَعْظِيمًا لِصَنَمٍ تُسَيِّبُهَا لَهُ، كَمَا تَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَحِكْمَةُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَقْبَلُوا نِعَمَهُ وَيَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا أَنْعَمَ بِهَا لِأَجْلِهِ وَيَشْكُرُوا لَهُ ذَلِكَ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يَجْنُوا عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَيَمْنَعُوهَا حُقُوقَهَا، وَأَنْ يَجْنُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ فَغَلَوْا فِيهَا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، كَمَا يَكْرَهُ لَهُمْ أَنْ يُفَرِّطُوا فِيهَا بِاسْتِبَاحَةِ مَا حَرَّمَهُ أَوْ تَرْكِ مَا فَرَضَهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ حَتَّى صَرَّحَ بِالْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى غَايَةَ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٢: ١٧٢) وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ قَارَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ خِطَابِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٣: ٥١) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (٢: ١٧٢) " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ مِنَ الْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟ " رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ تَعْرِيضٌ بِالْعُبَّادِ وَأَهْلِ السِّيَاحَةِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ رُوحَ الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفُ وَالشُّعُوثَةُ، حَتَّى إِنَّهُمْ عَلَى تَقَشُّفِهِمْ مَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الْحَلَالَ، كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ التَّقَشُّفَ وَتَعْذِيبَ النَّفْسِ يُبِيحَانِ لَهُمْ مَا عَدَاهُمَا فَيَكُونُونَ أَهْلًا لِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَلَالُ مَيْلًا إِلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الْبَرْهَمِيِّ، بَلْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَرَنَتِ الْحَلَالَ بِالطَّيِّبِ فَجَعَلُوا الطَّيِّبَ تَأْكِيدًا لِلْحَلَالِ.
فَعُلِمَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ أَنَّ امْتِنَاعَ امْرِئٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي رَزَقَهُ إِيَّاهَا مَعَ الدَّاعِيَةِ الْفِطْرِيَّةِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إِثْمٌ يَجْنِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَسْتَحِقُّ بِهِ عِقَابَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ بِزِيَادَتِهِ فِي دِينِ اللهِ قُرُبَاتٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِضَاعَةِ بَعْضِ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِ اللهِ كَإِضَاعَةِ حُقُوقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِيَالِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا انْتَصَبَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، فَكَانَ سَبَبًا لِغُلُوِّ بَعْضِ النَّاسِ فِي الدِّينِ وَتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ مَا أَحَلَّهُ اللهُ تَعَالَى.
وَالتَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ تَشْرِيعٌ: وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَمَنِ انْتَحَلَهُ لِنَفْسِهِ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ أَوْ كَالْمُدَّعِي لَهَا، وَمَنِ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ رَبًّا، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١) وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي التَّفْسِيرِ.
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فِي الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ، فَلَا تَفْتَاتُوا عَلَيْهِ فِي تَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ، وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ فِيمَا أَحَلَّ وَلَا فِيمَا حَرَّمَ، فَإِنَّ اتِّقَاءَ سَخَطِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ إِيمَانِكُمْ بِهِ، وَمِنَ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ الْإِسْرَافُ
فِيهَا، فَإِنَّهُ قَالَ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٧: ٣١) فَمَنْ جَعَلَ شَهْوَةَ بَطْنِهِ أَكْبَرَ هَمِّهِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ بَالَغَ فِي الشِّبَعِ وَعَرَّضَ مَعِدَتَهُ وَأَمْعَاءَهُ لِلتُّخَمِ فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَنْ أَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِذُلِّ الدَّيْنِ أَوْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَمَا كَانَ الْمُسْرِفُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ أَوْسَعُ مَعْنًى وَأَعَمُّ فَائِدَةً مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ حُقُوقِ الرُّوحِ وَحُقُوقِ الْجَسَدِ، وَبِهِ يُدْفَعُ إِشْكَالُ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ يُنَافِي التَّزْكِيَةَ وَإِنِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ، وَكَمْ أَفْضَى التَّوَسُّعُ فِي الْمُبَاحَاتِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ؟ وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ لِأَهْلِ النَّارِ (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (٤٦: ٢٠) فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَطْلُوبًا شَرْعًا؟ وَكَيْفَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَمْرِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِاقْتِضَاءِ الطَّبْعِ؟
لَا نُنْكِرُ مَعَ هَذَا أَنَّ مَنْعَ النَّفْسِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ أَحْيَانًا مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى
تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ، وَحَسْبُنَا مِنْهُ مَا شَرَعَ اللهُ لَنَا مِنَ الصِّيَامِ، وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ التَّقْوَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ لَنَا أَنَّ حِكْمَةَ الصِّيَامِ وَسَبَبَ شَرْعِهِ كَوْنُهُ مَرْجُوًّا لِتَحْصِيلِ مَلَكَةَ التَّقْوَى إِذْ قَالَ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢: ١٨٣) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَالصِّيَامُ رِيَاضَةٌ بَدَنِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَجَمَعَ بَيْنَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا بِقَصْدِ التَّرْبِيَةِ، وَبَيْنَ تَمَتُّعِهَا بِهَا تَوَسُّلًا إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَالْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ، أَمَّا مَا قِيلَ مِنَ اسْتِغْنَاءِ النَّاسِ بِدَاعِيَةِ الطَّبْعِ عَنْ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهَذَا التَّمَتُّعِ، فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِمَا أَحْدَثَهُ حُبُّ الْغُلُوِّ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْجِنَايَةِ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأُمَمِهِمْ بِتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَالنِّسَاءِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا التَّمَتُّعَ الْجَسَدِيَّ وَلَوْ بِالْحَرَامِ، فَلَمْ يُعْطُوا إِنْسَانِيَّتَهُمْ حَقَّهَا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْوَى اللهِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (٤٧: ١٢).
فَتَبَيَّنَ مِمَّا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَدْيَ الْقُرْآنِ فِي الطَّيِّبَاتِ أَيِ الْمُسْتَلَذَّاتِ هُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهَا مَعَ الِاعْتِدَالِ وَالْتِزَامِ الْحَلَالِ، كَهَدْيهِ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْرِفُ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيُقَصِّرُ بَعْضٌ، وَالِاعْتِدَالُ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ
لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ الْمُسْرِفِ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ مُتَّبِعُ هَدْيِ الدِّينِ فِي إِسْرَافِهِ، وَقُصَارَى مَا يَعْتَذِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا عُذِلَ وَعِيبَ عَلَيْهِ إِسْرَافُهُ شَرْعًا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ
حَدَّ مَا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُعْتَدِلُ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ بِإِقَامَةِ سُنَّةِ الْفِطْرَةِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ جَسَدِهِ وَنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَشَكَرَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ بِاسْتِعْمَالِهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَقَلَّمَا يَفْطُنُ النَّاسُ لِذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَعُدُّهُ بِهِ كَامِلَ الدِّينِ مُعْتَصِمًا بِالْفَضِيلَةِ، فَهِيَ فَضِيلَةٌ لَا رِيَاءٌ فِيهَا وَلَا سُمْعَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُفْرِطُونَ بِتَعَمُّدِ التَّقَشُّفِ هُمُ الَّذِينَ كَثِيرًا مَا يَغْتَرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِهِمْ، فَهُمْ عَلَى انْحِرَافِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الدِّينِ يَدَّعُونَ أَوْ يُدَّعَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ.
أَعْوَزَ هَؤُلَاءِ النَّصَّ عَلَى دَعْوَى كَوْنِ الْغُلُوِّ فِي التَّقَشُّفِ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَلَّقُوا بِبَعْضِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مِنْ سِيرَةِ فُقَرَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ فِي السُّنَّةِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهَا لِإِجْمَالِهَا وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ وَقَائِعُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا يَفْعَلُهُ؟
عَقَدَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَائِهِ كِتَابًا سَمَّاهُ (كِتَابَ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ) شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَشَهْوَةِ الْفَرْجِ، وَطَرِيقَتُهُ أَنْ يَبْدَأَ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ بِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ فَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَنَرَاهُ لَمْ يَجِدْ آيَةً يَبْدَأُ بِهَا مَوْضُوعَ (بَيَانِ فَضِيلَةِ الْجُوعِ وَذَمِّ التَّشَبُّعِ) فَبَدَأَهُ بِأَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا لَا يَعْرِفُ الْمُحَدِّثُونَ لَهُ أَصْلًا قَطُّ، وَبَعْضُهَا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ فَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا نَذْكُرُهُ غَيْرَ مُسْنَدٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ:
(١) جَاهِدُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ فَإِنَّ الْأَجْرَ فِي ذَلِكَ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مَنْ جُوعٍ وَعَطَشٍ، (٢) لَا يَدْخُلُ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ. (٣) قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ مَنْ قَلَّ مَطْعَمُهُ وَضَحِكُهُ وَرَضِيَ بِمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ. (٤) سَيِّدُ الْأَعْمَالِ الْجُوعُ، وَذُلُّ النَّفْسِ لِبْسُ الصُّوفِ، (٥) الْبَسُوا وَاشْرَبُوا وَكُلُوا فِي أَنْصَافِ الْبُطُونِ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ. (٦) الْفِكْرُ نِصْفُ الْعِبَادَةِ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ هِيَ الْعِبَادَةُ، (٧) أَفْضَلُكُمْ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَطْوَلُكُمْ جُوعًا وَتَفَكُّرًا،
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْإِحْيَاءِ: عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا، وَأَقَرَّهُ الْمُرْتَضَى الزُّبَيْدِيُّ شَارِحُ الْإِحْيَاءِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ مِنَ الْمَرْوِيَّاتِ فِي كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الطَّوِيلُ فِي وَصْفِ الزُّهَّادِ الَّذِي أَوَّلَهُ عِنْدَهُ: " إِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ طَالَ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ وَحُزْنُهُ فِي الدُّنْيَا، الْأَحْفِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ (وَمِنْهُ) أَكَلُوا الْعَلَقَ، وَلَبِسُوا الْخِرَقَ، شُعْثًا غُبْرًا، يَرَاهُمُ النَّاسُ فَيَظُنُّونَ أَنَّ بِهِمْ دَاءً، وَمَا بِهِمْ دَاءٌ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ خُولِطُوا فَذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ وَمَا ذَهَبَتْ عُقُولُهُمْ، (وِفِي آخِرِهِ) وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَأْتِيَكَ بِالْمَوْتِ وَبَطْنُكُ جَائِعٌ وَكَبِدُكَ ظَمْآنُ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تُدْرِكُ أَشْرَفَ الْمَنَازِلِ وَتَحِلُّ مَعَ النَّبِيِّينَ " إِلَخْ، فَهَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَفِي إِسْنَادِهِ حَبَّانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبَلَةَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَكْثَرُ رِجَالِهِ مَجْهُولُونَ، وَأُسْلُوبُهُ بَعِيدٌ مِنْ أُسْلُوبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْكُتُبِ أَطْوَلُ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَفِي الْأَوْصَافِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَمْ يُورَدْ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا مِنَ الصِّحَاحِ إِلَّا حَدِيثُ " الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ " هُوَ فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ " يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ " إِلَخْ، وَلَهُ قِصَّةٌ حَمَلَتِ الطَّحَاوِيَّ وَابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِكَافِرٍ وَاحِدٍ لَا عَامٌّ، وَلِغَيْرِهِمَا فِيهِ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ، مِنْهَا أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي هَمِّ الْكَافِرِ بِالتَّمَتُّعِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ " مَا شَبِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا " وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، فَتَارَةً يَأْكُلُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ كَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَالدَّجَاجِ، وَتَارَةً يَأْكُلُ أَخْشَنَهُ كَخُبْزِ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ أَوْ بِالزَّيْتِ أَوِ الْخَلِّ، وَتَارَةً يَجُوعُ وَتَارَةً يَشْبَعُ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ، وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ يَهُمُّهُ أَمْرُ الطَّعَامِ، إِنَّمَا كَانَ يَعْنِي بِأَمْرِ الشَّرَابِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الشَّمَائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ " كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ " وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: " أَنَّهُ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا (بِضَمِّ السِّينِ) عَيْنٌ أَوْ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ الْقُرَاحُ وَالْمَاءُ الْمُحَلَّى بِالْعَسَلِ أَوْ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَاللَّحْمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَا عَلَيْهَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ... قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا، فَقَرَأْتُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ تُحَرِّمَ هَذَا الَّذِي أَحَلَّ اللهُ لَكَ وَأَشْبَاهَهُ، تُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِكَ وَلَا تُحَرِّمُهُ، فَهَذَا اللَّغْوُ الَّذِي لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ، فَإِنْ مِتَّ عَلَيْهِ أُوخِذْتَ بِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) أَنْ تَتْرُكَهُ وَتُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِكَ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) قَالَ: مَا أَقَمْتَ عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) (قَالَ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ يَقُولُ أَحَدَهُمَا: وَاللهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللهِ لَا أَشْتَرِيهِ بِكَذَا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ كَلَامَهُ بِالْحَلِفِ: وَاللهِ لَتَجِيئَنَّ وَاللهِ لَتَأْكُلَنَّ، وَاللهِ لَتَشْرَبَنَّ وَنَحْوَ هَذَا، لَا يُرِيدُ بِهِ يَمِينًا لَا يَتَعَمَّدُ بِهِ حَلِفًا، فَهُوَ
لَغْوُ الْيَمِينِ لَيْسَ لَهُ كَفَّارَةٌ.
أَوْرَدَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَأَصَحُّ مِنْهُ وَأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِهِ مَا أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحَيْهِمَا والْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ وَأَشْهَرِ مُصَنَّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: " أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وَكَلَّا وَاللهِ
الصَّحِيحُ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ اللُّغَةُ فِي تَفْسِيرِ (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) هُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَعَلَيْهِ جَرَيْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْأَقْوَالَ الْمَأْثُورَةَ فِي اللَّغْوِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَبَدَأَ بِالْقَوْلِ الرَّاجِحِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، (قَالَ) : وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ وَهُوَ فِي الْهَزْلِ: وَفِي الْمَعْصِيَةِ: وَقِيلَ: عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ فِي الْغَضَبِ، وَقِيلَ: فِي النِّسْيَانِ، وَقِيلَ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).
قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) أَيْ بِمَا صَمَّمْتُمْ عَلَيْهِ مِنْهَا وَقَصَدْتُمُوهُ، انْتَهَى، فَهُوَ قَدْ صَحَّحَ مَا صَحَّحَهُ بِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ إِذَا تُرِكَتِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ وَنُظِرَ إِلَى الْمُتَبَادَرِ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَاللَّغْوُ فِي الْأَقْوَالِ كَالْعَبَثِ فِي الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ بِقَصْدٍ مِنَ الْقَائِلِ أَوِ الْفَاعِلِ إِلَى غَرَضٍ لَهُ مِنْهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّغْوُ، الْكَلَامُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُورَدُ لَا عَنْ رَوِيَّةٍ وَفِكْرٍ، فَيَجْرِي مَجْرَى اللَّغَا، وَهُوَ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ وَنَحْوَهَا مِنَ الطُّيُورِ
إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْهُ اللَّغْوُ فِي الْأَيْمَانِ، أَيْ مَا لَا عَقْدٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَا يَجْرِي وَصْلًا لِلْكَلَامِ بِضَرْبٍ مِنَ الْعَادَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَةَ الْآيَةِ وَبَيْتَ الْفَرَزْدَقِ الْآتِي:
وَقَالَ فِي مَادَّةِ (عَقَدَ) : الْعَقْدُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ الشَّيْءِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ كَعُقْدَةِ الْحَبْلِ وَعَقْدِ الْبِنَاءِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْمَعَانِي نَحْوَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْعَهْدِ وَغَيْرِهِمَا، فَيُقَالُ عَاقَدْتُهُ وَعَقَدْتُهُ، وَتَعَاقَدْنَا وَعَقَدَتْ يَمِينُهُ، قَالَ: (عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وَقُرِئَ (عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وَقَالَ: (بِمَا عَقَدْتُمُ الْأَيْمَانَ) وَقُرِئَ (بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) اه.
وَأَقُولُ: التَّشْدِيدُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَالتَّخْفِيفُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ (عَاقَدْتُمْ) مِنَ الْمُعَاقَدَةِ، وَكِتَابَةُ الْكُلِّ فِي الْمُصْحَفِ وَاحِدٌ وَهَكَذَا " عَقَدْتُمْ " بِدُونِ أَلِفٍ.
وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ " بِمَا عَقَدْتُمْ " مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَعْقِيدِكُمُ الْأَيْمَانَ وَهُوَ تَوْثِيقُهَا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَكَانَ عِنْدَهُ الْفَرَزْدَقُ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ دَعْنِي أُجِبْ عَنْكَ فَقَالَ:
وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِقَوْلٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ.
كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي مُقَابَلَةِ نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّغْوِ (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٢: ٢٢٥) وَذَلِكَ بِأَنْ يَحُلَّ الْيَمِينَ وَيَنْقُضَهَا بِتَعَمُّدِ الْحِنْثِ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا بِمَا يُشْبِهُ الْعَقْدَ وَالْإِبْرَامِ، وَكَثِيرًا مَا سَمِعْتُ الْعَوَامِّ فِي بَلَدِنَا يَقُولُونَ فِي الْحَلِفِ " وَاللهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَعَقْدِ الْيَمِينِ " لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا يَمِينٌ مُتَعَمَّدَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلَيْسَ لَغْوًا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ، وَهُمْ لَا يُحَرِّكُونَ بِهِ الْهَاءَ بَلْ يَنْطِقُونَ بِهَا سَاكِنَةً، فَهَذِهِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَأْثَمُ مَنْ يَحْنَثُ بِهَا وَيَحْتَاجُ إِلَى الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الْكَفَّارَةُ صِفَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، ثُمَّ صَارَتْ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ اسْمًا لِأَعْمَالٍ تُكَفِّرُ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ، أَيْ تُغَطِّيهَا وَتُخْفِيهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَالَّذِي يُكَفِّرُ عَقْدَ الْيَمِينِ إِذَا نُقِضَ أَوْ أُرِيدَ نَقْضُهُ بِالْحِنْثِ بِهِ أَحَدُ هَذِهِ الْمَبَرَّاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَأَدْنَاهَا إِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَجْبَةً وَاحِدَةً لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ غَالِبِ الطَّعَامِ الَّذِي تُطْعِمُونَ بِهِ أَهْلَ بَيْتِكُمْ لَا مِنْ أَدْنَاهُ الَّذِي تَتَقَشَّفُونَ بِهِ أَحْيَانًا، وَلَا مِنْ أَعْلَاهُ الَّذِي تَتَوَسَّعُونَ بِهِ أَحْيَانًا كَطَعَامِ الْعِيدِ وَمَا تُكْرِمُونَ بِهِ مَنْ تَدْعُونَ أَوْ تُضَيِّفُونَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ كَكَثْرَةِ الْأَلْوَانِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَقَبَةِ (الْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ) فَمَنْ كَانَ أَكْثَرُ طَعَامِ أَهْلِهِ خُبْزَ الْبُرِّ وَأَكْثَرُ إِدَامِهِ اللَّحْمَ بِالْخُضَرِ أَوْ دُونَهُ فَلَا يُجْزِئُهُ مَا دَوْنَهُ مِمَّا يَأْكُلُونَهُ قَلِيلًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ إِذْ طَسِيَتْ أَنْفُسُهُمْ (أَيْ قَرِفَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِ الدَّسَمِ) لِيَعُودَ إِلَيْهَا نَشَاطُهَا وَلَكِنَّ الْأَعْلَى يُجْزِئُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسَطِ وَزِيَادَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ هُوَ الْمُرَادَ بِالْأَوْسَطِ، أَيَّ نَوْعٍ يَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ طَعَامِ أَهْلِيكُمْ، وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْأَوْسَطَ بِالْأَمْثَلِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ بِالْأَعْدَلِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: مِنْ عُسْرِهِمْ وَيُسْرِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ:
قَالَ: وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْأَوْسَطَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَعَامِ الْبَلَدِ إِلَى طَعَامِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْكَفَّارَةُ فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتَ دُونٍ وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أَيِ الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْأَوْسَطَ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الثَّرِيدُ بِالْمَرَقِ وَقَلِيلٌ مِنَ اللَّحْمِ، أَوِ الْخُبْزُ مَعَ الْمُلُوخِيَّةِ أَوِ الرُّزُّ أَوِ الْعَدَسُ مِنْ أَوْسَطِ الطَّعَامِ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ لِهَذَا الْعَهْدِ، وَكَانَ التَّمْرُ أَوْسَطَ طَعَامِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِهِ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ وَاجِبٌ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ إِطْعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَهِيَ اللِّبَاسُ، وَهِيَ فَوْقَ الْإِطْعَامِ وَدُونَ الْعِتْقِ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مِمَّا تَكْسُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ مِنْ أَوْسَطِهِ، فَيُجْزِئُ إِذَنْ كُلُّ مَا يُسَمَّى كِسْوَةً وَأَدْنَاهُ مَا يَلْبَسُهُ الْمَسَاكِينُ عَادَةً هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ كَالطَّعَامِ، فَيُجْزِئُ فِي مِصْرَ الْقَمِيصُ السَّابِغُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ (الْجَلَابِيَّةَ) مَعَ السَّرَاوِيلِ أَوْ بِدُونِهِ، فَهُوَ كَالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ أَوِ الْعَبَاءَةِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْعَبَاءَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَا يُجْزِئُ مَا يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ كُمَّةٍ أَوْ طَرْبُوشٍ أَوْ عِمَامَةٍ، وَلَا مَا يَلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ مِنَ الْأَحْذِيَةِ وَالْجَوَارِبِ، وَلَا نَحْوَ مِنْدِيلٍ أَوْ مِشْنَقَةٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى إِجْرَاءِ كُلِّ مَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِيهِ كِسَاءَ كَذَا، أَوْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْكِسْوَةِ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قَوْلِهِ: (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) قَالَ: لَوْ أَنَّ وَفْدًا قَدِمُوا عَلَى أَمِيرِكُمْ وَكَسَاهُمْ قَلَنْسُوَةً قَلَنْسُوَةً قُلْتُمْ: قَدْ كُسُوا، وَلَكِنَّ هَذَا أَثَرٌ وَاهٍ جِدًّا لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ مَتْرُوكٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَفِيهِ بَحْثٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ إِضَافَةَ الْكِسْوَةِ إِلَى الْمَسَاكِينِ كَإِضَافَةِ الْإِطْعَامِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ
كَانَ يَكْفِي فِي الْإِطْعَامِ تَمْرَةٌ أَوْ تُفَّاحَةٌ لِأَنَّهُ يُقَالُ لُغَةً: أَطْعَمُهُ تَمْرَةً أَوْ تُفَّاحَةً يَكْفِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْكِسْوَةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي مِثْلُهُ وَإِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي لَفْظِ الْكِسْوَةِ هَلْ هُوَ مَصْدَرٌ كَالْإِطْعَامِ أَوِ اسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ، وَالْمُرَادُ لَا يَخْتَلِفُ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي خَيَّرَ اللهُ النَّاسَ فِيهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي، فَالْإِطْعَامُ أَدْنَاهَا وَالْكِسْوَةُ أَوْسَطُهَا وَالْإِعْتَاقُ أَعْلَاهَا كَمَا قُلْنَا وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْبَدَاهَةِ، فَلَوْ أُرِيدَ مِنَ الْكِسْوَةِ مَا يَشْتَمِلُ الْقَلَنْسُوَةَ وَالْعِمَامَةَ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرَقِّي وَلَمْ يَظْهَرْ لِجَعْلِ الْكِسْوَةِ بَعْدَ الْإِطْعَامِ وَقَبْلَ الْإِعْتَاقِ نُكْتَةً.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْوَاجِبَ ثَوْبَانِ، وَرُوِيَ الثَّانِي عَنْ أَبِي مُوسَى
وَأَمَّا تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ أَعْلَى الثَّلَاثَةِ فَمَعْنَاهُ إِعْتَاقُ الرَّقِيقِ، فَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْقِنَّ حُرًّا، وَالرَّقَبَةُ فِي الْأَصْلِ: الْعُضْوُ الَّذِي بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الرَّأْسِ عَنِ الْجُمْلَةِ وَغَلَبَ هَذَا فِي الْأَنْعَامِ، وَبِلَفْظِ الظَّهْرِ عَنِ الْمَرْكُوبِ، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ الرَّقَبَةِ فِي الْمَمْلُوكِ وَالْأَسِيرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْعِ فِي مَقَامِ التَّحْرِيرِ (الْعِتْقِ) وَفَكِّ الْأَسْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَكُّ رَقَبَةٍ) (٩٠: ١٣) وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ سَبَبَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَالْأَسِيرِ بِكَلِمَةِ الرَّقَبَةِ هُوَ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْخُضُوعِ، فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّيِّدِ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ عَادَةً، وَإِنَّمَا تَنْكِيسُهُ بِحَرَكَةِ الرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ
الْأَسِيرُ مَعَ مَنْ يَأْسِرُهُ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الْأَسْرَى، وَإِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ يَحْنِي رَقَبَتَهُ إِذْعَانًا لِأَمْرِهِ، وَيُقَالُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ: فُلَانٌ لَا يَرْفَعُ بِهَذَا الْأَمْرِ رَأْسًا، أَوْ لَا يَرْفَعُ زَيْدٌ رَأَسَهُ أَمَامَ عَمْرٍو، وَلَوْ أُطْلِقَ لَفْظُ الرَّقَبَةِ عَلَى الْحُرِّ الْمُطْلَقِ لَقُلْتُ: إِنَّ وَجْهَهُ كَوْنُ قَطْعِ الرَّقَبَةِ يُزِيلُ الْحَيَاةَ فَعَبَّرَ بِهَا عَنِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ يَزُولُ بِقَطْعِهَا، وَعَلَّلَ الِاسْتِعْمَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِشَرَفِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّقَبَةِ الْمُجْزِئَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يُشْتَرَطُ فَيُجْزِئُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُشْتَرَطُ ذَلِكَ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، إِذْ قَالَ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (٤: ٩٢) كَمَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) (٢: ٢٨٢) عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٦٥: ٢) وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً بِأَهْلِ عِبَادَتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَالِ الزَّكَاةِ وَذَبَائِحِ النُّسُكِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ الْمَسَاكِينُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ نَعَمْ إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ حَتَّى عَلَى الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ مُسْتَحَبَّةٌ،
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتَهُمْ أَوْ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ أَدْنَى مَا يَكَفِّرُ بِهِ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا لِمَرَضٍ نَوَى الصِّيَامَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رُجِيَ لَهُ عَفْوُ اللهِ بِحُسْنِ نِيَّتِهِ وَصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَطِيعَ مَنْ يَجِدُ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ
يَعُولُ، وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ: مَنْ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ: مَنْ عِنْدَهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَعَنِ الْحَسَنِ: مَنْ عِنْدَهُ دِرْهَمَانِ وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مُتَتَابِعَةً لِقِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ فِي الْآيَةِ، وَأَجَازَ غَيْرَهُمُ التَّفَرُّقَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَيْسَ قُرْآنًا، وَلَمْ تَصِحَّ هُنَا حَدِيثًا فَيُقَالُ إِنَّهَا كَتَفْسِيرٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ.
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) بِاللهِ أَوْ بِأَحَدِ أَسْمَائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ فَحَنِثْتُمْ أَوْ أَرَدْتُمُ الْحِنْثَ وَقِيلَ: (إِذَا) هُنَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلَا يُقَدَّرُ لَهَا جَوَابٌ، وَتَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ جَائِزٌ وَسَيَأْتِي دَلِيلُهُ مِنَ السُّنَّةِ.
(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) فَلَا تَبْذُلُوهَا فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَلَا تُكْثِرُوا مِنَ الْأَيْمَانِ الصَّادِقَةِ فَضْلًا عَنِ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ، وَهُوَ وَجْهٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) (٢: ٢٢٤) وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذَا حَلَفْتُمْ فَلَا تَنْسَوْا مَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَحْنَثُوا فِيهِ إِلَّا لضَّرُورَةٍ عَارِضَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ الْبَدِيعِ، وَعَلَى نَحْوِهِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَأَعْلَامَ دِينِهِ لِيَعِدَكُمْ وَيُؤَهِّلَكُمْ بِذَلِكَ إِلَى شُكْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَكُونَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ عَنْهُ.
مَبَاحِثٌ فِي الْأَيْمَانِ.
(لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وِصِفَاتِهِ).
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَيَا عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ " أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ (أي تَتَّخِذُونَ لِلَّهِ أَنْدَادًا) وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ وَتَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ
يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ، أَيْ لِبَيَانِ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الرَّبِّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْخِطَابِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعٌ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ لِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ " فَقَدْ أَشْرَكَ " وَرَوَى بِهِمَا وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كَانَ أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْحَلِفُ بِعِزَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، قَالُوا وَمُرَادُهُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ، إِذِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَقِيلَ: حَرَامٌ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، بَلْ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ " فَقَدْ كَفَرَ " كَالَّذِينِ يَحْلِفُونَ بِمَنْ يَعْتَقِدُونَ عَظَمَتَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَيَلْتَزِمُونَ الْبِرَّ بِقَسَمِهِمْ بِهِمْ وَيُخَالِفُونَ عَاقِبَةَ الْحِنْثِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْلِفُ بِاللهِ كَاذِبًا وَلَا يَحْلِفُ بِالْبَدَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَوَلِّي وَأَمْثَالِهِمَا كَاذِبًا، وَالثَّانِي حَرَامٌ، وَالثَّالِثُ مِنْهُ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ مَا فِيهِ شِبْهُ تَعْظِيمٍ دِينِيٍّ، وَمِنْهُ الْمُبَاحُ وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ وَقَدْ سُئِلْنَا عَنْ حُكْمِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ فَأَفْتَيْنَا بِمَا نَصُّهُ (ص٨٥٨ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ).
صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَنَقَلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مَا يَشْمَلُ التَّحْرِيمَ وَالْكَرَاهَةَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فَقَالُوا: إِذَا تَضَمَّنَ الْحَلِفُ تَعْظِيمَ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا يُعَظَّمُ اللهُ
تَعَالَى كَانَ حَرَامًا وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، أَقُولُ: وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللهِ حَلِفًا يَلْتَزِمُ بِهِ فِعْلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْبِرَّ بِهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ هَذَا الِالْتِزَامَ خَاصًّا بِالْحَلِفِ بِهِ أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ شَارِعًا لِشَيْءٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَبِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ الْحَقِيقِيِّ وَبَيْنَ مَا يَجِيءُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ مِنْ تَأْكِيدِ الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ قَالُوا بِمِثْلِ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ " فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ عِدَّةَ أَجْوِبَةٍ مِنْهَا نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَقَعُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَحْتَوِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ دُونِ قَصْدٍ لِلْقَسَمِ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقِّ مَنْ قَصَدَ حَقِيقَةَ الْحَلِفِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا:
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ "، وَفِي لَفْظٍ " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ: " لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ، عَنْهُ أَيْضًا " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللهِ " رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَصْرٌ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ والْبَيْهَقِيِّ مَرْفُوعًا: " لَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ".
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَلَا سِيَّمَا مَا وَرَدَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ مِنْهَا صَرَيْحَةٌ فِي حَظْرِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَيَدْخُلُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمُومِ " غَيْرِ اللهِ تَعَالَى " وَالْكَعْبَةِ وَسَائِرِ مَا هُوَ مُعَظَّمٌ شَرْعًا تَعْظِيمًا يَلِيقُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَظَّمَ شَيْءٌ
كَمَا يُعَظَّمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا سِيَّمَا التَّعْظِيمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَقَدْ كَانَ غُلُوُّ النَّاسِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ سَبَبًا لِهَدْمِ الدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ وَاسْتِبْدَالِ الْوَثَنِيَّةِ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ الِاعْتِدَالَ فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
(٢ جَوَازُ الْحِنْثِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالتَّكْفِيرِ قَبْلَهُ).
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ " وَفِي لَفْظٍ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا هُوَ مَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِمْ تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي بَعْضِهَا تَأْخِيرُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ " فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " نَصٌّ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ بَلْ ظَاهِرُهَا وُجُوبُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْلَا الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْكَفَّارَةِ لَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَيَنْقَسِمُ الْحَلِفُ بِاعْتِبَارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى أَقْسَامٍ:
(١) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكٍ حَرَامٍ، فَهَذِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا كَلَّفَهُ اللهُ إِيَّاهُ فَيَحْرُمُ الْحِنْثُ وَيَكُونُ إِثْمُهُ مُضَاعَفًا.
(٢) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَعْصِيَةٌ، وَمِنْهُ الْحَلِفُ عَلَى إِيذَاءِ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقِهِمَا أَوْ مَنْعِ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ الْوَاجِبَ لَهُ.
(٣) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلٍ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكٍ مَكْرُوهٍ، فَهَذَا طَاعَةٌ فَيُنْدُبُ لَهُ الْوَفَاءُ وَيُكْرَهُ الْحِنْثُ، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ كَمَا قَالُوا فِي النَّذْرِ.
(٤) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْحِنْثُ وَيُكْرَهُ التَّمَادِي كَذَا قَالُوا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَالْحِنْثِ مُطْلَقًا أَوْ بِالتَّفْصِيلِ الْآتِي فِيمَا بَعْدُ.
(٥) أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ مُبَاحٍ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: فَإِنْ كَانَ يَتَجَاذَبُهُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَيِّبًا وَلَا يَلْبَسُ نَاعِمًا فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّمَادِيَ أَوْلَى (أَيْ مِنَ الْحِنْثِ) لِأَنَّهُ قَالَ أَيْ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ " إِلَخِ اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ نَهْيِ الْقُرْآنِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ آيَةَ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ وَرَدَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحِنْثَ وَاجِبٌ إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ جِنْسٍ مِنَ الْمُبَاحِ كَالطَّيِّبِ مِنَ الطَّعَامِ، دُونَ مَا إِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ كَالطَّعَامِ الَّذِي فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ مَثَلًا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْرِيعِ بِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ كَمَا فَعَلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ، وَكُفْرٍ بِنِعَمِ اللهِ، وَالثَّانِي أَمْرٌ عَارِضٌ لَا يُشْبِهُ التَّشْرِيعَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحِنْثِ فَائِدَةٌ كَمُجَامَلَةِ الضَّيْفِ أَوْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْأَهْلِ فَالظَّاهِرُ الْمُسْتَجَابُ الْحِنْثُ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي تَحْرِيمِهِ الطَّعَامَ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لِأَجْلِ الضَّيْفِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ عَاتَبَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ لَهُ فِي وَاقِعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ فَرَضَ لَهُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِهِمْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ يُسَمَّى يَمِينًا وَمِثْلُهُ النَّذْرُ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِهِ فِعْلَ شَيْءٍ، أَوْ تَرْكَهُ.
رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا مَبَاحِثَ
وَقَوَاعِدَ فِي الْأَيْمَانِ مُفَصَّلَةً أَحْسَنَ تَفْصِيلٍ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَمِنْ أَخْصَرِهَا قَوْلُهُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي (ص٨٥) :.
" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ يَمِينًا مِنَ الْأَيْمَانِ فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
(الْأَوَّلُ) مَا لَيْسَ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْآبَاءِ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ يَمِينٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالنَّهْيُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِمْ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ".
(وَالثَّانِي) الْيَمِينُ بِاللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاللهِ لَأَفْعَلَنَّ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
(وَالثَّالِثُ) أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِاللهِ، مَقْصُودُ الْحَالِفِ بِهَا تَعْظِيمُ الْخَالِقِ لَا الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالْحَلِفِ بِالنَّذْرِ وَالْحَرَامِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوِ الْحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللهِ، أَوِ الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُهُ، أَوْ إِنْ فَعَلْتُهُ فَنِسَائِي طَوَالِقٌ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَكُلُّ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: إِذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا عَلَّقَهُ وَحَلَفَ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ يُجْزِئُهُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يُلْزِمُهُ مَا حَلَفَ بِهِ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُوَافِقُ لِلْأَقْوَالِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) وَقَالَ تَعَالَى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (٦٦: ٢) وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلِفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فَإِذَا قَالَ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَا أَفْعَلُ
كَذَا، أَوِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، فَإِنْ كَفَّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَهُوَ أَحْسَنُ.
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْعِتْقِ، أَوْ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، إِذَا أَطْعَمَهُمْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ جَرْيَةً مِنَ الْجِرَايَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي بَلَدِهِ، مِثْلَ أَنْ يُطْعِمَ ثَمَانِ
(٤ مَدَارِكُ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ الْكَفَّارَةِ مِنَ الطَّعَامِ).
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ جَعَلَ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرًا بِالشَّرْعِ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ مُقَدَّرًا بِالْعُرْفِ، وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ يُقَدَّرُ بِالشَّرْعِ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ: يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مَنْ بُرٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ: يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ رُبْعَ صَاعِ بُرٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: يَكْفِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ. أَقُولُ: وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ (وَالْمُدُّ حَفْنَةٌ مِنْ كَفَّيْ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ) فَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا يُوجِبُ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ شَرْعِيٌّ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْتُ، وَإِنَّمَا
اسْتُنْبِطَ مِنَ الْآثَارِ وَالْعَمَلِ الْمَرْوِيِّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ.
قَالَ: " وَالْقَوْلُ الثَّانِي مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ، فَيُطْعِمُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ يُجْزِئُ فِي الْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ: أَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَّفِرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا.
" وَالْمَنْقُولُ مِنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ: خُبْزٌ وَلَبَنٌ، خُبْزٌ وَسَمْنٌ، وَخُبْزٌ وَتَمْرٌ، وَالْأَعْلَى: خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَالِاعْتِبَارُ، وَهُوَ
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْإِدَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُهُ عَلَى مَنْ يُطْعِمُهُ أَهْلَهُ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الرِّخَصِ وَالْغَلَاءِ وَالْإِعْسَارِ وَالْإِيسَارِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ خَبْزًا أَوْ أُدُمًا مَنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ، فَإِنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ وَلَمْ يُوجِبِ التَّمْلِيكَ وَرَدَّ مَا احْتُجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّمْلِيكِ بِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ لَا التَّمْلِيكَ وَلَا التَّصَرُّفَ وَلَمْ يُقَدِّرْ لِلْمِسْكِينِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا فَيُقَالُ إِنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي عَشَائِهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللهُ التَّمْلِيكَ فِي صَدَقَةِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِلَامِ الْمِلْكِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِذَا مَلَكَ الْمِسْكِينُ مُدًّا مِنَ الْبُرِّ أَوْ غَيْرِهِ فَرُبَّمَا بَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ شَيْئًا لَا يُؤْكَلُ فَلَا يَكُونُ الْمُكَفِّرُ مُطْعِمًا لَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى انْتَهَى ". بِالْمَعْنَى.
(٥ أَمْرُ الْأَيْمَانِ يُبْنَى عَلَى الْعُرْفِ وَالنِّيَّةِ).
أَمْرُ الْأَيْمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ بَيْنَ النَّاسِ بِالْإِجْمَاعِ لَا عَلَى مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ وَاصْطِلَاحَاتِ الشَّرْعِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللهُ لَحْمًا طَرِيًّا إِلَّا إِنْ نَوَاهُ أَوْ كَانَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّحْمِ فِي عُرْفِ قَوْمِهِ، وَمِنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَنَوَى مَعْنًى مَجَازِيًّا غَيْرَ الظَّاهِرِ فَالْعِبْرَةُ بِنِيَّتِهِ لَا بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَحْلِفُهُ غَيْرُهُ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ فَالْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْحَلِفِ لَا الْحَالِفِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْأَيْمَانِ فِي الْقَاضِي فَائِدَةٌ.
رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ " وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ " الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلَفِ " وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِ الْمُحَلِّفُ هُوَ الْحَاكِمُ، وَلَفْظُ " صَاحِبِكَ " فِي الْحَدِيثِ يَرُدُّ هَذَا التَّخْصِيصَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَاكِمُ أَوِ الْغَرِيمُ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَمِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ حَقٌّ بِيَمِينِهِ لَهُ نِيَّتُهُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ حَلَفَ مُتَبِرِّعًا أَوْ بِاسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ لَهُ، وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْحُقُوقِ
وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَالصَّابِرَةُ وَالَّتِي يُهْضَمُ بِهَا الْحَقُّ أَوْ يُقْصَدُ بِهَا الْخِيَانَةُ وَالْغِشُّ لَا يُكَفِّرُهَا عِتْقٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صِيَامٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالِاسْتِقَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (١٦: ٩٤) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا قَالَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ: أَوْ مَالَ ذِمِّيٍّ وَنَحْوُهُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْإِطْلَاقِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي الشَّيْخِ " خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ ".
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (٢: ٢١٩) أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ بِالتَّدْرِيجِ، وَصَدَّرْنَا الْكَلَامَ هُنَاكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّحَّاسِ فِي نَاسِخِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ " أَنَّهُ نَادَمَ رَجُلًا فَعَارَضَهُ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ فَشَجَّهُ فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحَوْا جَعَلَ يَرَى الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ بِي هَذَا أَخِي فُلَانٌ وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ وَاللهِ لَوْ كَانَ رَءُوفًا رَحِيمًا مَا صَنَعَ بِي هَذَا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إِلَى قَوْلِهِ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الْآيَةَ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى: " اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَلَّ عَلَى دُعَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ النِّسَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ دُعِيَ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا ".
وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِهَا حَتَّى إِنَّهَا لَوْ حُرِّمَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ تَحْرِيمُهَا صَارِفًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُدْمِنِينَ لَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ فَيَرَوْنَهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ الْجَمِيلَةِ، فَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَبَالَغِ حِكْمَتِهِ أَنْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فِيهَا مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ، لِيَتْرُكَهَا مَنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ فِتْنَتُهَا مِنْ نَفْسِهِ،
هَذِهِ الْحَالِ زَمَنًا قَوِيَ فِيهِ الدِّينُ، وَرَسَخَ الْيَقِينُ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ الَّتِي ظَهَرَ لَهُمْ بِهَا إِثْمُ الْخَمْرِ وَضَرَرُهَا، وَمِنْهُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِمَا نَزَلَتْ فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٢: ٢١٩) شَرِبَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وَتَرَكَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: (إِثْمٌ كَبِيرٌ) مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (٤: ٤٣) فَتَرَكَهَا قَوْمٌ وَشَرِبَهَا قَوْمٌ يَتْرُكُونَهَا بِالنَّهَارِ حِينَ الصَّلَاةِ وَيَشْرَبُونَهَا بِاللَّيْلِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الْآيَةَ قَالَ عُمَرُ: " أَقُرِنَتَ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَتَرَكَهَا النَّاسُ، وَوَقَعَ فِي صُدُورِ أُنَاسٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهَا، فَجَعَلَ قَوْمٌ يَمُرُّ بِالرِّوَايَةِ مِنَ الْخَمْرِ فَتُخْرَقُ فَيَمُرُّ بِهَا أَصْحَابُهَا فَيَقُولُونَ: قَدْ كُنَّا نُكْرِمُكِ عَنْ هَذَا الْمَصْرَعِ، وَقَالُوا: مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْخَمْرِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَلْقَى صَاحَبَهُ فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي شَيْئًا، فَيَقُولُ صَاحِبُهُ: لَعَلَّكَ تَذْكُرُ الْخَمْرَ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي مِثْلَ مَا فِي نَفْسِكَ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ قَومٌ وَاجْتَمَعُوا فِيهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَكَلَّمُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ (أَيْ حَاضِرٌ) وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ (أَيْ قُرَآنٌ) فَأَتَوْا رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعَدُّوا لَهُ حُجَّةً فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ أَلَيْسُوا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: أَلَيْسُوا قَدْ مَضَوْا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَحُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَهُ؟ فَقَالَ: قَدْ سَمِعَ اللهُ مَا قُلْتُمْ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا، وَنَزَلَ فِي الَّذِينَ ذَكَرُوا حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهُ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الْآيَةَ، وَلِأَصْحَابِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَمَا كَانَ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمِنْهُ حَدِيثٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَآثَارٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) الْخَمْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: شَرْعِيَّةٌ
فَقَطْ
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رَدَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ وَأَخْصَرِهِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مَنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِلصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا يُسْكِرُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا وَلَمْ يَشْكُلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى إِتْلَافِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَنِ الْإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَفْصِلُوا وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرٌ وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرٌ، وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرٌ وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرٌ وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرٌ " وَرَوَى أَيْضًا " أَنَّهُ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ (أَيْ عُمَرَ) مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ اهـ.
وَقَدْ تَعَقَّبَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لَا اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا التَّعْقِيبُ ضَعِيفٌ لَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْكِرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ شَرْعًا، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَيْسَ اسْمًا لِعَمَلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ الشَّرْعِ فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةً مِنَ اللُّغَةِ تَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الشَّرَابِ يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بِالْإِسْكَارِ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَعْرُوفَةٌ عَنْهُمْ قَبْلَ نُزُولِ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ سَأَلُوهُ عَنِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَلَا الْخَلَفِ وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدٍ أَنَّهُ سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَمْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً وَأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ بِأَنَّ فِيهَا إِثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا أُلْحِقَ بِهَا فِي التَّحْرِيمِ
بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ لِلْخَمْرِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ كَمَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَوَدُّ لَوْ يَجِدُ مَخْرَجًا مِنْ تَحْرِيمِهَا كَمَا وُجِدَ الْمَخْرَجُ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا إِثْمًا مَعَ تَصْرِيحِ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْإِثْمِ،
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَإِنَّ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ، مَا فِيهَا مِنْ شَرَابِ الْعِنَبِ شَيْءٌ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَسُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ (هو زَوْجُ أُمِّ أَنَسٍ) حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فَأَتَى آتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؟ فَقَالُوا: حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ، فَقَالُوا: يَا أَنَسُ اسْكُبْ مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ، فَوَاللهِ مَا عَادُوا فِيهَا، وَمَا هِيَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْبُسْرُ، وَهِيَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ " هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَزَادَ أَنَسٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: " أَبَا دُجَانَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ " وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّهُ كَانَ يَسْقِيهِمُ الْفَضِيخَ، وَهُوَ شَرَابُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ يُفْضَخَانِ أَيْ يُشْدَخَانِ وَيُنْبَذَانِ فِي الْمَاءِ، فَإِذَا اشْتَدَّ وَاخْتَمَرَ كَانَ خَمْرًا وَكَانَ هَذَا أَكْثَرَ خَمْرِ الْمَدِينَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَنَسٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ " كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلَّا الْفَضِيخَ - الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ - فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي، فَقَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ: فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَهَرَقْتُهَا " الْحَدِيثَ.
نَعَمْ قَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ " وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَانْقِطَاعِهِ وَفِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ،
وَبَيَّنَ النَّسَائِيُّ عِلَلَهُ وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَمَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يُسْكِرَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا مُحَرَّمَةٌ لِذَاتِهَا بِالنَّصِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْبُسْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الْإِسْكَارُ كَالنَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يَشْتَدَّ وَلَمْ يُخَمَّرْ، وَهُوَ مَا يُنْبَذُ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فِي الْمَاءِ حَتَّى يَنْضَحَ وَيَحْلُوَ مَاؤُهُ فَشُرْبُهُ حَلَالٌ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَنْبِذَةَ يُسْرِعُ إِلَيْهَا الِاخْتِمَارُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ كَالْحَارَّةِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ ".
وَقَدْ غَلِطَ ابْنُ سِيدَهْ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعَيْنِ: الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا أَسْكَرَ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي زَمَنِ تَدْوِينِ اللُّغَةِ، فَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لِكَثْرَتِهَا وَجَوْدَتِهَا، وَنَقْلُ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ بَيَانَ مَعْنَى الْخَمْرِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصَحُّ مِنْ نَقْلِ جَمِيعِ اللُّغَوِيِّينَ لِلُّغَةِ.
وَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَنِ اطَّلَعَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَنَحْوِهَا تَفَصِّيًا مِنْهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الْكَثِيرِ مِنْهَا حَمَلُوا إِطْلَاقَ لِفَظِ الْخَمْرِ فِيهَا عَلَى الْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ عَلَى مَجَازِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: " لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُبْهَمَةٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ قَالَهَا وَبِأَيِّ مُنَاسَبَةٍ قَالَهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ ذَكَرَ خَمْرَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خُمُورُ أَهْلِهَا مِنَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ فِي الْغَالِبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ بِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَعْضُهَا حَتَّى عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَإِلَّا كَانَتْ مُتَعَارِضَةً، وَلَمَّا كَانَتِ الْعِبَارَةُ مُحْتَمِلَةً لِعِدَّةِ وُجُوهٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى مَا قَالُوهُ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَارَضَهَا بِحَمْلِ مَا خَالَفَهَا عَلَى الْمَجَازِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِ عُمَرَ فِي خُطْبَتِهِ: " وَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ خَمْرَةِ الْعِنَبِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ إِلَخْ؟ أَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ مَا يُشْبِهُ الْخَمْرَ فِي
أَطَلْنَا هَذِهِ الْإِطَالَةَ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي النَّاسِ مِنْ عَهْدٍ بَعِيدٍ مِصْدَاقُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنِ اسْتِحْلَالِ أُنَاسٍ لِشُرْبِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَقَدِ اخْتَرَعَ النَّاسُ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ الْخُمُورِ أَشَدَّ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ ضَرَرًا فِي الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، وَأَشَدَّ إِيقَاعًا فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَدًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا قَطْعًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ مِنْهُ فَقَطْ يُجَرِّئُ النَّاسَ عَلَى شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ تِلْكَ السُّمُومِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقَلِيلُ يَدْعُو إِلَى الْكَثِيرِ، فَالْإِدْمَانِ فَالْإِهْلَاكِ، فَفِي هَذَا الْقَوْلِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَيْسَ فِي تَضْعِيفِهِ وَتَرْجِيحِ قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ وَسَدُّ ذَرَائِعِ شُرُورٍ كَثِيرَةٍ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقِمَارُ بِالْقِدَاحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا نَقَلَ لِسَانُ الْعَرَبِ عَنْ عَطَاءٍ ثُمَّ غَلَبَ فِي كُلِّ مُقَامَرَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَقْوَالَ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص ٢٥٨ وَمَا بَعْدَهَا ج٢ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ مَعْنَى الْقِدَاحِ الَّتِي كَانُوا يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَهِيَ
الْأَزْلَامُ وَالْأَقْلَامُ وَالسِّهَامُ، وَلِذَلِكَ عُدْنَا إِلَى بَيَانِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِدَاحِ الْعَشْرِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ بِهَا وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ لِلتَّفَاؤُلِ وَالتَّشَاؤُمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (ص ١٢٢ وَمَا بَعْدَهَا ج٦ط الْهَيْئَةِ).
كُلُّ قِمَارٍ مَيْسِرٌ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ إِلَّا مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْمُرَاهَنَةِ فِي السِّبَاقِ وَالرِّمَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ورُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْقِمَارِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالْجَوْزِ، وَرُوِيَ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: " حَتَّى الْكِعَابُ وَالْجَوْزُ وَالْبَيْضُ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمَيْسِرُ هُوَ الْقِمَارُ، كَانُوا يَتَقَامَرُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: كَانَ مَيْسِرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ (أَيْ مِنْ مَيْسِرِهِمْ) ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ " اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَرْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ " وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ الْكِعَابَ بِالنَّرْدِ، وَأَقُولُ:
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ " " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي تَشْبِيهِ اللَّعِبِ بِهِ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُقَامَرَةَ بِهِ كَالْمُقَامَرَةِ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا عَلَى لَحْمِ الْأَنْعَامِ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَامِرُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ " مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ " وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فِي الشِّطْرَنْجِ إِنَّهُ مِنَ النَّرْدِ وَأَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّهُ مِنَ الْمَيْسِرِ
قَالَ: وَنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى:
أَقُولُ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا وَجْهَ مَا وَرَدَ فِي النَّرْدِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِالطَّاوِلَةِ) مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ لَعِبِ الْقِمَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّشْبِيهُ الَّذِي بَيَّنَّا حِكْمَتَهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ الشِّطْرَنْجَ حَرَّمَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قِمَارًا، وَمَنْ كَرِهَهُ لِكَوْنِهِ مَدْعَاةَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ لَاعِبِيهِ يُفْرِطُونَ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَسَنَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ بَيَانًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ حِجَارَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ قَرَابِينَهُمْ عِنْدَهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا، وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (ص١٢١، ١٢٣ ج٦ط الْهَيْئَةِ).
وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ قِدَاحٌ أَيْ قِطَعٌ رَقِيقَةٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السِّهَامِ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَجْلِ التَّفَاؤُلِ أَوِ التَّشَاؤُمِ، وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهَا وَطَرِيقَةَ الِاسْتِقْسَامِ بِهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ (ص١٢٢ ١٢٧ ج٦ط الْهَيْئَةِ) وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ خُرَافَةِ الِاسْتِقْسَامِ وَسُنَّةِ الِاسْتِخَارَةِ فَيُرَاجَعُ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا الرِّجْسُ فَهُوَ الْمُسْتَقْذَرُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا اسْتُقْذِرَ مِنْ عَمَلٍ، فَبَالَغَ اللهُ فِي ذَمِّ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَسَمَّاهَا رِجْسًا أَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي تِسْعِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعٌ يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الْقَذَارَةِ الْحِسِّيَّةِ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ٦: ١٤٥) قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَيْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْ مَا ذُكِرَ رِجْسٌ، وَمِثْلُهُ: (وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ٣٦: ٣٤، ٣٥) ;
فِيها خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ. |
فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا بِالْمَأْثَمِ وَهُوَ مَا كَانَ ضَارًّا، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَرَرَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرِّجْسُ الشَّيْءُ الْقَذِرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَجِسٌ، وَرِجَالٌ أَرْجَاسٌ، قَالَ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَالرِّجْسُ يَكُونُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبْعِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِمَّا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تَعَافُ طَبْعًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا، وَالرِّجْسُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ رِجْسٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَعَلَى ذَلِكَ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (٢: ٢١٩) لِأَنَّ كُلَّ مَا يُوَفَّى إِثْمُهُ عَلَى نَفْعِهِ فَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَجَنُّبَهُ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ رِجْسًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشِّرْكَ بِالْعَقْلِ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (٩: ١٢٥) إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) نَصٌّ فِي كَوْنِ الرِّجْسِ مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) (٢٢: ٣٠) وَكَانَتِ الْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَوْثَانِ وَأَمَّا رِجْسُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَبَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ نَجِسَةَ الْعَيْنِ فَتَكَلَّفُوا كُلَّ التَّكَلُّفِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَخَبَرُ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ هَذَا لَمَا كَانَ مُفِيدًا لِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ نَجَاسَةً حِسِّيَّةً، فَإِنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ مَا كَانَ شَدِيدَ الْقَذَارَةِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ قَذِرَةَ الْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (رِجْسٌ) خَبَرٌ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ كَمَا قُلْنَا تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ الْعِبَارَةِ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ يُوَافِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) وَأَمَّا إِفْرَادُهُ مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ مُتَعَدِّدٍ فَلِأَنَّهُ مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٩: ٢٨) أَوْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا تَقْدِيرُهُ أَنَّ تَعَاطِيَ مَا ذَكَرَهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) تَفْسِيرٌ وَإِيضَاحٌ لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ رِجْسًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا مِنَ الْأَعْمَالِ
بَنِي آدَمَ ابْتِدَاعَهَا وَإِيجَادَهَا، ثُمَّ هُوَ يُوَسْوِسُ لَهُمْ بِأَنْ يَعْكُفُوا عَلَيْهَا، وَيُزَيِّنُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّرَرِ بِهِمْ.
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاجْتَنِبُوا هَذَا الرِّجْسَ كُلَّهُ أَوْ فَاجْتَنِبُوا مَا ذُكِرَ كُلَّهُ، أَيِ ابْعُدُوا عَنْهُ وَكُونُوا فِي جَانِبٍ غَيْرِ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، رَجَاءَ أَنْ تُفْلِحُوا وَتَفُوزُوا بِمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِكُمْ، وَتَحْلِيَتِهَا، بِذِكْرِ رَبِّكِمْ، وَمُرَاعَاةِ سَلَامَةِ أَبْدَانِكُمْ وَالتَّوَادِّ وَالتَّآخِي فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَتَعَاطِي مَا ذَكَرَ يَصُدُّ عَنْ ذَلِكَ وَيَحُولُ دُونَهُ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) بَيَّنَ حَظَّ الشَّيْطَانِ مِنَ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ دُونَ مَا قَرَنَ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، لِأَنَّ بَيَانَ تَحْرِيمِهِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ (أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْهَا) تَحْرِيمُ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَكَوْنُ ذَلِكَ فِسْقًا، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَرَكُوهُمَا; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ طَهَّرَهُمُ التَّوْحِيدُ مِنْ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ كُلِّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ: " أَقُرِنْتِ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ وَهُمَا مِنَ الْخُرَافَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَزِمَهُمَا مَعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَهُمَا مِنَ الرَّذَائِلِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ رِجْسِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ شَيْءٌ مِنْهُ بِأَهْلِ الْحَنِيفِيَّةِ.
وَالْعَدَاوَةُ ضَرْبٌ مِنَ التَّجَاوُزِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ (عَدَا يَعْدُو) وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَقِّ إِلَى الْإِيذَاءِ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: وَالْعَادِي الظَّالِمُ، يُقَالُ: لَا أَشْمَتَ اللهُ بِكَ عَادِيكَ، أَيْ عَدُّوَكَ الظَّالِمَ لَكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْلُ الْعَرَبِ فُلَانٌ عَدُوُّ فُلَانٍ: مَعْنَاهُ فُلَانٌ يَعْدُو عَلَى فُلَانٍ بِالْمَكْرُوهِ وَيَظْلِمُهُ اهـ. وَقَالُوا أَيْضًا: الْعَدُوُّ ضِدُّ الصَّدِيقِ وَضِدُّ الْوَلِيِّ أَيِ الْمُوَالِي، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ سَيِّئَةٌ عَمَلِيَّةٌ، وَالْبَغْضَاءَ انْفِعَالٌ فِي الْقَلْبِ وَأَثَرٌ فِي النَّفْسِ فَهُوَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ، فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ يَجْتَمِعَانِ وَيُوجَدُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ.
أَمَّا كَوْنُ الْخَمْرِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى الْأَصْدِقَاءِ مِنْهُمْ
فَمَعْرُوفٌ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ، وَعِلَّتُهُ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يَسْكَرُ فَيَفْقِدُ الْعَقْلَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِنْسَانَ أَيْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي تَسُوءُ النَّاسَ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حُبُّ الْفَخْرِ الْكَاذِبِ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهِ الْغَضَبُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ مُحِبِّي الْخَمْرِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِلشُّرْبِ، فَقَلَّمَا تَكُونُ رَذَائِلُهُمْ قَاصِرَةً عَلَيْهِمْ، غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَنْ يَشْرَبُ
وَإِنَّ حَوَادِثَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ الَّتِي يُثِيرُهَا السُّكْرُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْعُدْوَانِ وَالسَّلْبِ، وَالْفِسْقِ وَالْفُحْشِ، وَمِنْ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ، وَخِيَانَةِ الْحُكُومَاتِ وَالْأَوْطَانِ، قَدْ سَارَتْ بِأَخْبَارِهَا الرُّكْبَانُ، وَمَا زَالَتْ حَدِيثَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ مَثَارٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَيْضًا وَلَكِنْ بَيْنَ الْمُتَقَامِرِينَ، فَإِنْ تَعَدَّاهُمْ فَإِلَى الشَّامِتِينَ وَالْعَائِبِينَ، وَمَنْ تَضِيعُ عَلَيْهِمْ حُقُوقُهُمْ مِنَ الدَّائِنِينَ وَغَيْرِ الدَّائِنِينَ، وَإِنَّ
الْمُقَامِرَ لَيُفَرِّطُ فِي حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْوَلَدِ، حَتَّى يُوشِكَ أَنْ يَمْقُتَهُ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَفِيهِ بِإِزَاءِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ الْإِجْحَافُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَغْلُوبًا فِي الْقِمَارِ مَرَّةً دَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّجَاجِ فِيهِ عَنْ رَجَاءِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَارَ غَالِبًا فِيهِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَلَّا يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَلَّا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ، وَإِلَى أَنْ يُقَامِرَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ! ! وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ فَقِيرًا مِسْكِينًا وَيَصِيرُ مِنْ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا غَالِبِينَ لَهُ، اهـ.
وَأَمَّا كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَفْسَدَتُهَا الدِّينِيَّةُ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِهِمَا مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ مَفْسَدَتُهَا الِاجْتِمَاعِيَّةُ لِأَنَّ كُلَّ سَكْرَةٍ مِنْ سَكَرَاتِ الْخَمْرِ، وَكُلَّ مَرَّةٍ مِنْ لَعِبِ الْقِمَارِ، تَصُدُّ السَّكْرَانَ وَاللَّاعِبَ وَتَصْرِفُهُ
عَلَى أَنَّ الْمُقَامِرَ إِذَا تَذَكَّرَ الصَّلَاةَ أَوْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ بِهَا، وَتَرَكَ اللَّعِبَ لِأَجْلِ أَدَائِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُؤَدِّي مِنْهَا إِلَّا الْحَرَكَاتِ الْبَدَنِيَّةَ بِدُونِ أَدْنَى تَدَبُّرٍ أَوْ خُشُوعٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى اللَّعِبِ، نَعَمْ إِنَّهُ قَدْ يَأْتِي بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ تَامَّةً فَيَفْضُلُ السَّكْرَانَ بِهَذَا إِذْ لَا يَكَادُ يَأْتِي مِنْهُ ضَبْطُ أَفْعَالِهَا، وَلَكِنَّ السَّكْرَانَ قَدْ يَفْضُلُهُ بِأَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَقْلٍ، فَكَمْ مِنْ سَكْرَانٍ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى وَيَذْكُرُ ذُنُوبَهُ حَتَّى سُكْرَهُ وَيَبْكِي، وَيَدْعُو
اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، لَقِيتُ مَرَّةً سَكْرَانًا فِي أَحَدِ شَوَارِعِ الْقَاهِرَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ يُقَبِّلُ يَدِي وَيَبْكِي وَيَقُولُ: ادْعُ اللهَ لِي أَنْ يَتُوبَ عَلَيَّ مِنَ السُّكْرِ وَيَغْفِرَ لِي، أَنْتَ ابْنُ الرَّسُولِ، وَدُعَاؤُكَ مَقْبُولٌ، وَأَمْثَالُ هَذَا الْكَلَامِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ وَمَا يَفْعَلُ، فَهُوَ بِالْأَوْلَى لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ الْمُقَامِرِ الَّذِي يَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَدَبَّرُ الْقُرْآنَ، وَلَا يَخْشَعُ لِلرَّحْمَنِ، وَهُوَ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ قَادِرٌ عَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ، وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ وَلَا يُفِيدُ مِثْلَ هَذَا الْمُصَلِّي السَّاهِي عَنْ صَلَاتِهِ إِفْتَاءُ الْفُقَهَاءِ بِصِحَّتِهَا، إِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُهَا وَفُرُوضُهَا، فَمَا كُلُّ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الرُّسُومِ بِمَقْبُولٍ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (١٠٧: ٤، ٥).
قَدْ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عِلَّتَيْنِ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِحْدَاهُمَا اجْتِمَاعِيَّةٌ وَالْأُخْرَى دِينِيَّةٌ تَصْدُقُ عَلَى الْأَلْعَابِ الَّتِي اشْتَدَّ وُلُوعُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِهَا; كَالشِّطْرَنْجِ فَالظَّاهِرُ أَنْ تُعَدَّ بِذَلِكَ مُحَرَّمَةً كَالْمَيْسِرِ; لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ؟ قَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ تَفْسِيرِهِ (رُوحِ الْمَعَانِي) : وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِمَّنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ اللَّجَاجِ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ وَالْغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى
وَأَقُولُ: إِنَّ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ إِذَا كَانَ عَلَى مَالٍ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْسِرِ وَكَانَ مُحَرَّمًا بِالنَّصِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ كَوْنُهُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، مُوقِعًا فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، صَادًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، بِأَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَ مَنْ يَلْعَبُ بِهِ دَائِمًا أَوْ فِي الْغَالِبِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا وَإِنَّنَا نَعْرِفُ مِنْ لَاعِبِي الشِّطْرَنْجِ مَنْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَيُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ اللَّجَاجِ وَالْحَلِفِ الْبَاطِلِ، وَأَمَّا الْغَفْلَةُ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الشِّطْرَنْجِ وَحْدَهُ، بَلْ كُلِّ لَعِبٍ وَكُلِّ عَمَلٍ فَهُوَ يَشْغَلُ صَاحِبَهُ فِي أَثْنَائِهِ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ فِيمَا عَدَاهُ إِلَّا قَلِيلًا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ، كَلَعِبِ
الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمِمَّا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ اللَّعِبُ; لَعِبُ الْحَبَشَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنَّمَا عِيبَ الشِّطْرَنْجُ مِنْ أَنَّهُ أَشَدُّ الْأَلْعَابِ إِغْرَاءً بِإِضَاعَةِ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ، وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ كَرِهَهُ لِأَجْلِ هَذَا، وَنَحْمَدُ اللهَ الَّذِي عَافَانَا مِنَ اللَّعِبِ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، كَمَا نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا أَنْ عَافَانَا مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ.
وَلَمَّا بَيَّنَ جَلَّ جَلَالُهُ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَحِكْمَتَهُ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالِانْتِهَاءِ، قَالَ الْكَشَّافُ: مِنْ أَبْلَغِ مَا يَنْهَى بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ قَبْلُ قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالْمَوَانِعِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ مُنْتَهُونَ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنْ لَمْ تُوعَظُوا وَلَمْ تُزْجَرُوا؟.
قَالَ هَذَا بَعْدَ بَيَانِ مَا أَكَّدَ اللهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ سَبْعَةِ وُجُوهٍ وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ الْمُؤَكِّدَاتِ بِأَوْضَحَ مِمَّا بَيَّنُوهَا بِهِ وَأَوْسَعَ فَنَقُولُ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ رِجْسًا، وَكَلِمَةُ الرِّجْسِ تَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَى الْقُبْحِ وَالْخُبْثِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَتْ عَلَى الْأَوْثَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهِيَ أَسْوَأُ مَفْهُومًا مِنْ كَلِمَةِ الْخَبِيثِ وَقَدْ عُلِمَ مِنْ عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّ اللهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: " الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ " وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَكَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ " إِلَخْ، وَلَيْسَ فِيهِ تَرَكُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ عَلَّمَ السُّيُوطِيُّ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي جَامِعِهِ بِالصِّحَّةِ.
(ثَالِثُهَا) أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْوَثَنِيَّةِ وَخُرَافَاتِ الشِّرْكِ وَقَدْ أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا حَدِيثَ " مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ صَدُوقٌ يُخْطِئُ، ضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ.
(رَابِعُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، لِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الشُّرُورِ وَالطُّغْيَانُ
وَهَلْ يَكُونُ عَمَلُ الشَّيْطَانِ إِلَّا مُوجِبًا لِسَخَطِ الرَّحْمَنِ.
(خَامِسُهَا) أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِتَرْكِهِمَا مِنْ مَادَّةِ الِاجْتِنَابِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّرْكِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالتَّرْكِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَتْرُوكِ بِأَنْ يَكُونَ التَّارِكُ فِي جَانِبٍ بَعِيدٍ عَنْ جَانِبِ الْمَتْرُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِذَلِكَ نَرَى الْقُرْآنَ لَمْ يُعَبِّرْ بِالِاجْتِنَابِ إِلَّا عَنْ تَرْكِ الشِّرْكِ وَالطَّاغُوتِ الَّذِي يَشْمَلُ الشِّرْكَ وَالْأَوْثَانَ وَسَائِرَ مَصَادِرِ الطُّغْيَانِ، وَتَرْكِ الْكَبَائِرِ عَامَّةً، وَقَوْلِ الزُّورِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكْبَرِهَا، قَالَ تَعَالَى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٢٢: ٣٠) وَقَالَ: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١٦: ٣٦) كَمَا قَالَ: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا) (٣٩: ١٧) وَقَالَ: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) (٥٣: ٣٢).
(سَادِسُهَا) أَنَّهُ جَعَلَ اجْتِنَابَهُمَا مَعَدًّا لِلْفَلَاحِ، وَمَرْجَاةً لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَهُمَا مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْخَيْبَةِ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. (سَابِعُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا مَثَارًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهُمَا شَرُّ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَعَاصِي فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَنْفُسِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ وَأُمَّ الْفَوَاحِشِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ امْرَأَةً فَاسِقَةً رَاوَدَتْ رَجُلًا صَالِحًا عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فَسَقَتْهُ الْخَمْرَ فَزَنَى بِهَا، وَأَغْرَتْهُ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ، حَكَوْا هَذِهِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُسَّاقِ فِي مِصْرَ: إِنَّهُ لَوْلَا السُّكْرُ لَقَلَّ أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْبَغَايَا الْعُمُومِيَّاتِ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ هَاتَيْنِ مَفْسَدَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ، لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ غَيْرُ الْبَغْضَاءِ فَيَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ.
(تَاسِعُهَا وَعَاشِرُهَا) أَنَّهُ جَعَلَهُمَا صَادَّيْنِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَهُمَا رُوحُ الدِّينِ وَعِمَادُهُ، وَزَادُ الْمُؤْمِنِ وَعَتَادُهُ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الصَّدَّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ غَيْرُ الصَّدِّ عَنِ الصَّلَاةِ.
(حَادِي عَشَرَهَا) الْأَمْرُ بِالِانْتِهَاءِ عَنْهَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَقْرُونِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَهَلْ
(ثَانِي عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أَيْ أَطِيعُوا اللهَ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ اجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا تَجْتَنِبُونَ الْأَنْصَابَ
وَالْأَزْلَامَ أَوْ أَشَدَّ اجْتِنَابًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَطِيعُوا الرَّسُولَ فِيمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا نَزَّلَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ " وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
(ثَالِثَ عَشَرَهَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَاحْذَرُوا) أَيِ احْذَرُوا عِصْيَانَهُمَا أَوْ مَا يُصِيبُكُمْ إِذَا خَالَفْتُمْ أَمْرَهُمَا مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا يَضُرُّكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، قَالَ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٤: ٦٣).
(رَابِعَ عَشَرَهَا) الْإِنْذَارُ وَالتَّهْدِيدُ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) أَيْ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَعْرَضْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ دِينَنَا وَشَرْعَنَا، وَقَدْ بَلَّغَهُ وَأَبَانَهُ وَقَرَنَ حُكْمَهُ بِأَحْكَامِهِ وَعَلَيْنَا نَحْنُ الْحِسَابُ وَالْعِقَابُ وَسَتَرَوْنَهُ فِي إِبَّانِهِ، كَمَا قَالَ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (١٣: ٤٠) وَإِنَّمَا الْحِسَابُ لِأَجْلِ الْجَزَاءِ.
لَمْ يُؤَكَّدْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ هَذَا التَّأْكِيدِ لَا قَرِيبًا مِنْهُ، وَحِكْمَتُهُ شِدَّةُ افْتِتَانِ النَّاسِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَذَا الْمَيْسِرُ، وَتَأَوُّلُهُمْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي تُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ، كَمَا أَوَّلَتِ الْيَهُودُ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَغَيْرِهِ، وَكَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ شُرْبَ بَعْضِ الْخُمُورِ بِتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، إِذْ قَالُوا هَذَا نَبِيذٌ لَا يُسْكِرُ إِلَّا الْكَثِيرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَحَلَّ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ خَمْرٌ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ شُرْبِهِ إِلَّا السُّكْرُ.
بَلْ تَجَرَّأَ بَعْضُ غُلَاةِ الْفُسَّاقِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ اللهَ قَالَ: (فَاجْتَنِبُوهُ) وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّمْتُهُ فَاتْرُكُوهُ، وَقَالَ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وَلَمْ يَقُلْ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَنَا هَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ فَقُلْنَا: لَا، ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتْنَا وَيَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) (٧: ٥١) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغُلُوَّ قَلَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِيمَانِ فَمَا قَالَهُ تَعَالَى أَبْلَغُ مِنْ تَحْرِيمِهِ مِمَّا قَالُوا.
أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ قَالُوا انْتَهَيْنَا رَبَّنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: انْتَهَيْنَا أَكَّدُوا الِاسْتِجَابَةَ
وَالطَّاعَةَ كَمَا أَكَّدَ عَلَيْهِمُ التَّحْرِيمَ، وَكَانَ فِيهِمُ الْمُدْمِنُونَ لِلْخَمْرِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُهَا،
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَامَ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ اللهَ يُعَرِّضُ عَنِ الْخَمْرِ تَعْرِيضًا لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ سَيَنْزِلُ فِيهَا أَمْرٌ " أَيْ قَاطِعٌ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَنْزَلَ إِلَيَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْهَا ".
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِ اللهَ عَرَّضَ بِالْخَمْرِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلِيَنْتَفِعْ بِهِ، فَلَمْ نَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ، قَالَ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فَسَفَكُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبَّكُمْ يُقَدِّمُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ النِّسَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ رَبَّكُمْ يُقَرِّبُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ " ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ فَحُرِّمَتِ الْخَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) (٢: ٢١٩) الْآيَةَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَشْرَبُهَا لِمَنَافِعِهَا وَقَالَ آخَرُونَ: لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ فِيهِ إِثْمٌ ثُمَّ نَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى) (٤: ٣٤) الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَشْرَبُهَا وَنَجْلِسُ فِي بُيُوتِنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الْآيَةَ، فَنَهَاهُمْ فَانْتَهَوْا، وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " إِنَّ اللهَ قَدْ
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ الْآيَاتِ، وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَقَالَ فِي آيَةِ النِّسَاءِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا، أَيْ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأُولَى تَحْرِيمٌ ظَنِيٌّ، وَالثَّانِيةَ تَحْرِيمٌ قَطْعِيٌّ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، وَالثَّالِثَةَ قَطْعِيٌّ مُسْتَغْرِقٌ لِكُلِّ زَمَنٍ ".
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَغَيْرُهَا فِي التَّصْرِيحِ بِالْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَدُلُّ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصُّحْبَةَ كَافَّةً فَهِمُوا مِنْ آيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ تَحْرِيمًا بَاتًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْكِرَ شَارِبَهُ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِيهَا بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ تَعْرِيضًا، فَجَعَلَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ تَصْرِيحًا أَوْ أَنَّ آيَتِي الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ كَانَتَا مُقَدِّمَةً لِتَحْرِيمِهَا أَوْ مُفِيدَتَيْنِ لَهُ إِفَادَةً ظَنِّيَّةً، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ أَهْرَقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخُمُورِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَكَانَ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا مِنْ خَمْرِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ الَّذِي يَكْثُرُ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ بِتَأَوُّلٍ وَلَا رُخْصَةٍ.
نَعَمْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ، وَقَدْ سَأَلُوا عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حُكْمُهَا إِذَا صَارَ يُسْكِرُ كَثِيرُهَا أَوْ مُطْلَقًا، قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعِ وَهُوَ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرِ، وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنِ الْجِعَةِ " رَوَاهُ دَاوُدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَالْجِعَةُ بِكَسْرٍ فَفَتَحٍ نَبِيذُ الشَّعِيرِ وَتُسَمَّى بِالْإِفْرِنْجِيَّةِ " بِيرَا ".
وَالْأَصْلُ فِي النَّبِيذِ أَنْ يُنْقَعَ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَنْضَحَ، فَيُشْرَبَ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يُتْرَكَ لِيَخْتَمِرَ وَيَصِيرَ سَكَرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَزِيدَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيَسْقِي الْخَادِمَ أَوْ يُهَرَاقُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، أَيْ يَصِيرُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَظِنَّةَ الْإِسْكَارِ، فَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا النَّبِيذُ غَالِبًا وَفِي آخِرِهَا كَانَ يَحْتَاطُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَشْرَبُهُ، بَلْ وَلَا يَسْقِيهِ الْخَادِمَ أَوْ يُرِيقُهُ لِئَلَّا يَخْتَمِرَ وَيَشْتَدَّ فَيَصِيرَ خَمْرًا، وَالْعِبْرَةُ بِالْإِسْكَارِ وَعَدَمِهِ.
(فَائِدَةٌ تَتْبَعُهَا قَاعِدَةٌ) عُلِمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَتَرَكَهَا، وَلَكِنَّ عُشَّاقَهَا وَجَدُوا مِنْهَا مَخْرَجًا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْذُرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا فِيهِ، وَقَدْ يُجِيزُهُ لَهُ إِذَا كَانَ قَاصِرًا عَلَيْهِ " أَجْنَبَ رَجُلٌ فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَبْتَ " وَ " أَجْنَبَ آخَرُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَهُ لَهُ كَالْأَوَّلِ، قَالَ لَهُ مَا قَالَ لِلْأَوَّلِ: أَصَبْتَ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَجَازَ عَمَلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِذْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ وَصَلَّى إِمَامًا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ بِالْجَنَابَةِ وَفَقْدِ الْمَاءَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِنْ تِلْكَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي كَلَّفَهُ جَمِيعَ النَّاسِ هُوَ مَا كَانَ نَصًّا صَرِيحًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِرَاقَةَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ الصَّرِيحَةُ بِذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعْرِيضِ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ التَّصْرِيحِ، إِلَّا أَنَّ التَّعْرِيضَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَهِمَهُ خَاصَّةً، وَالتَّصْرِيحُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ سَبَبَ مَا كَانَ مِنْ تَسَاهُلِ السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَعَدَمِ تَضْلِيلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِهِ، وَتَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِهِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ لَا يُعَدُّ شَرْعًا يُعَامَلُ النَّاسُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ مَنْ ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ مِنْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَإِنَّ فِي تَعْرِيضِ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثُ تَتِمَّةً فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١)
الطَّعَامُ مَا يُؤْكَلُ، وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ) مَا يُدْرَكُ بِذَوْقِ الْفَمِ مِنْ حَلَاوَةٍ وَمَرَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا يُقَالُ: طَعِمَ (كَعَلِمَ وَغَنِمَ) فُلَانٌ بِمَعْنَى أَكَلَ الطَّعَامَ وَطَعِمَ الشَّيْءَ يَطْعَمُهُ ذَاقَ طَعْمَهُ أَوْ ذَاقَهُ فَوَجَدَ طَعْمَهُ مِنْهُ، اسْتُعْمِلَ فِي ذَوْقِ طَعَامِ الشَّيْءِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ
يُؤْخَذُ قَلِيلٌ مِنْهُ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) (٣٣: ٥٣) أَيْ أَكَلْتُمْ، وَمِنَ الثَّانِي: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) (٢: ٢٤٩) أَيْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ مَائِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الطَّعْمُ بِالْفَتْحِ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ، يُقَالُ: طَعْمُهُ مُرٌّ أَوْ حُلْوٌ، وَقَالَ طَعِمَ يَطْعَمُ طُعْمًا (بِالضَّمِّ) فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ أَوْ ذَاقَ مِثْلَ غَنِمَ يَغْنَمُ غُنْمًا فَهُوَ غَانِمٌ فَالطُّعْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
فَأَمَّا بَنُو عَامِرٍ بِالنِّسَارِ | غَدَاةَ لَقُونَا فَكَانُوا نَعَامًا |
نَعَامًا بِخَطْمَةِ صُعْرِ الْخُدُو | دِ، لَا تَطْعَمُ الْمَاءَ إِلَّا صِيَامًا |
فَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ | وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا. |
وَقَالَ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ (أَيْ طَعِمَ الْمَاءَ) بِمَعْنَى شَرِبَهُ وَاتَّخَذَهُ طَعَامًا فَقَبِيحٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْمَقَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: " زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ " فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَذِّي بِخِلَافِ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَلَا يَخْدِشُ هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ
بَلَّ الْمَنَابِرَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ وَهَلٍ | وَاسْتَطْعَمَ الْمَاءَ لَمَّا جَدَّ فِي الْهَرَبِ |
وَأَلْحَنُ النَّاسِ كُلِّ النَّاسِ قَاطِبَةً | وَكَانَ يُولَعُ بِالتَّشْدِيقِ فِي الْخُطَبِ |
أَقُولُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَلَى تَشْبِيهِ مَائِهَا بِالْغِذَاءِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا كَلَامُ خَالِدٍ فَهُوَ لَحْنٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَذِيقُونِي طَعْمَ الْمَاءِ مُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ أَوْ إِرَادَةِ تَرْطِيبِ اللِّسَانِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُجَفِّفُ
الرِّيقَ، لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " طَعِمَ " فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الشُّرْبِ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِالتَّبَعِ لِمَعْنَى الْأَكْلِ تَغْلِيبًا لَهُ، فَيُجْعَلَ " طَعِمُوا " هُنَا بِمَعْنَى أَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، كَتَغْلِيبِ الْأَكْلِ فِي كُلِّ اسْتِعْمَالٍ فِي مِثْلِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا هُدِيَ إِلَى هَذَا الْإِيضَاحِ بِهَذَا التَّدْقِيقِ.
وَالْجُنَاحُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ مُؤَاخَذَةٌ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا | جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مَنْ تِرْبِهَا قَبْلُ. |
أَعَلَينَا جُنَاحُ كِندَةَ أَنْ يَغْـ | نَمَ غَازِيهُمُ وَمِنَّا الْجَزَاءُ |
وَمَعْنَى الْآيِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ وَالشَّاهِدِينَ وَالْغَائِبِينَ (جُنَاحٌ) إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ (فِيمَا طَعِمُوا) أَكَلُوا مِنَ الْمَيْسِرِ أَوْ شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ فِيمَا مَضَى قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ثُمَّ حُرِّمَ (إِذَا مَا اتَّقَوْا) أَيْ إِذَا هُمُ اتَّقَوْا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَمِنْهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الْمُبَاحِ (وَآمَنُوا) بِمَا كَانَ قَدْ نَزَّلَهُ اللهُ تَعَالَى (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الَّتِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ (ثُمَّ اتَّقَوْا) مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ (وَآمَنُوا) بِمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (٩: ١٢٤، ١٢٥)
عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا صِقَالُ الْقُلُوبِ وَزَيْتُهَا الَّذِي يَمُدُّ نُورَ الْإِيمَانِ.
وَطَالَمَا اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ اشْتِرَاطَ مَا اشْتَرَطَتْهُ الْآيَةُ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ مِنَ التَّقْوَى الْمُثَلَّثَةِ وَالْإِيمَانِ الْمُثَنَّى وَالْإِحْسَانِ الْمُوَحَّدِ، وَطَالَمَا ضَرَبُوا فِي بَيْدَاءِ التَّأْوِيلِ وَاسْتِنْبَاطِ الْآرَاءِ، وَطَالَمَا رَدَّ بَعْضُهُمْ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدًا بِعَمَلٍ عَمِلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) فَقِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ بِشَرْطِ رَفْعِ الْجُنَاحِ، بَلْ لِبَيَانِ حَالِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، أَمَّا تَكْرَارُ التَّقْوَى فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ أَوْ لِلْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مَنْ يُتَّقَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، أَوْ بَعْضُهَا لِلثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ.
وَغَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْهَا، وَبَيَانُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَازِمَةٌ لَهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُطَّرِدَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَهِيَ مُطَّرِدَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَنْقُصُ مِنْ دِينِ مَنْ صَدَّ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ وَمَنَاطُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِنَارَةِ الْقَلْبِ.
(ثَانِيهُمَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَرَّضَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ بِمَا يُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَاللَّبِيبُ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ مُقَصِّرًا فِي اجْتِهَادِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِيثَارِ الْهَوَى أَوِ الشَّهْوَةِ.
هَذَا وَجْهُ الشَّبَهِ، وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ عَنْهَا: أَنَّ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ، وَصَالِحُ عَمَلِهِ، وَعَمِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِحَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِي الظَّنِّيَّةِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ارْتَقَى إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ فَلَا يَحُولُ دُونَ تَزْكِيَةِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَصَقْلِهِ لِقَلْبِهِ،
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الدِّينِ أَوِ
الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ أَحْيَانًا، إِذْ يَكْفِي التَّحْرِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَارًّا فِي الْغَالِبِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ الضَّرَرُ فِي الْجِسْمِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ ضَرَرِهِ بِقُوَّةِ مِزَاجِهِ إِذَا هُوَ لَمْ يُسْرِفْ فِيهِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ نَقْصُ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِهِ الذَّاتِيِّ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَكَثْرَةِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الضَّرَرُ كَنُقْطَةٍ مِنَ الْقَذَرِ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْإِيمَانِ وَرُسُوخَ الدِّينِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ يُنَافِي الْإِقْدَامَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنَ اللَّمَمِ وَالْهَفَوَاتِ الَّتِي لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، فَالْجُنَاحُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَرُ الْكَبِيرُ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهَا لَيْسَ فِيمَا عَسَاهُ يُصِيبُ مُرْتَكِبُهَا مِنْ ضَرَرِهَا الذَّاتِيِّ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَتَخَلَّفُ أَوْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَوْ مَغْلُوبًا، بَلِ الْجُنَاحُ وَالْخَطَرُ الدِّينِيُّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى تَرْجِيحُ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ حَفِظَ اللهُ مِنْهُ مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، بَلْ حَفِظَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ الِاجْتِمَاعِيِّ الدُّنْيَوِيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْرِفُوا فِيهَا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُبْقِي لَهُمْ إِلَّا وَقْتًا ضَيِّقًا لِشُرْبِهَا، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَنْفَسَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ الصَّحَابَةِ عَامَّةً: كَانَ يَكَادُ الشِّقَاقُ يَقَعُ بَيْنَهُمْ كَمَا مَرَّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَغْلِبَهُ الْإِيمَانُ، فَكَانُوا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٧: ٢٠١) فَالْمَعْصِيَةُ لَا تُفْسِدُ الرُّوحَ إِلَّا إِذَا كَانَ فَاعِلُهَا غَيْرَ مَيَّالٍ بِحُرْمَةِ الشَّرْعِ، وَلَا يَكُونُ تَأْثِيرُهَا الذَّاتِيُّ قَوِيًّا إِلَّا بِالْإِسْرَافِ فِيهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَفَلْسَفَةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَنِ السَّبَبِ فِي سُوءِ تَأْثِيرِ الزِّنَا فِي إِفْسَادِ أَخْلَاقِ فُسَّاقِ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِذْلَالِ أَنْفُسِهِمْ وَإِضْعَافِ بَأْسِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي الْيَابَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا التَّأْثِيرِ، فَأَجَبْتُهُ عَلَى الْفَوْرِ: إِنَّ الْيَابَانِيِّينَ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِحُرْمَةِ الزِّنَا كَالْمِصْرِيِّينَ، فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ بَدَنِيٌّ، وَأَقَلُّهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَلَكِنْ
لَيْسَ لَهُ ضَرَرٌ رُوحِيٌّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ رُوحِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُونَ دِينًا وَعُرْفًا بِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ، فَهُمْ بِذَلِكَ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى دَنِيئَةِ الْفُحْشِ،
(شُبْهَةٌ لِعُشَّاقِ الْخَمْرِ وَدَحْضُهَا).
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَمَا تَكُونُ مُوقِعَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ قَالُوا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ عَمِلُوا " كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (٢: ١٤٣) لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) وَلَا شَكَّ أَنَّ (إِذَا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأَئِمَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: عَنْ كَلِمَةِ " إِذَا " لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي، فَجَوَابُهُ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ؟ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا "؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (الْصَوَابُ الْآيَةَ) وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمَّ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ: انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِحُرُوفِهِ.
وَأَقُولُ إِنَّ جَوَابَهُ ضَعِيفٌ فِيمَا أَقَرَّهُ وَفِيمَا رَدَّهُ إِلَّا نَقْلَ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ غَيْرَ دَقِيقٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ حَتَّى إِنَّ عِبَارَتَهُ نَفْسَهَا ضَعِيفَةٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى احْتِجَاجِ أَصْحَابِ هَذَا التَّحْرِيفِ:
(أَوْلًا) إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) إِلَخْ، لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ نَزَلَتِ
الْآيَةُ بِسَبَبِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمُ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عَهْدِهِمْ وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَهَمُّ فَائِدَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ خَاصَّةً.
(ثَانِيًا) إِنَّ قَوْلَ الْمُشْتَبِهِينَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الَّذِينَ مَاتُوا لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا " بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ لَا عَلَى نَفْيِ
(ثَالِثًا) لَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَأَخَذَ بِهِ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَهُمْ.
نَعَمْ إِنَّهُ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لَكَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ تَضْيِيقٌ وَإِعْنَاتٌ فِيمَا أَكَلُوا (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ أَوْ شَرِبُوا) مِنَ اللَّذَائِذِ كَمَا تَوَهَّمَ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي النُّسُكِ إِذَا كَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِعُرَى التَّقْوَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ مُتَحَلِّينَ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مُحْسِنِينَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ; كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إِنَّمَا الْجُنَاحُ الْحَرَجُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يُسْرِفُونَ فِيهِمَا، وَيَجْعَلُونَهَا أَكْبَرَ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَلَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُمَا، فَالْعِبْرَةُ فِي الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ فَذَلِكَ هُوَ النُّسُكُ كُلُّهُ، لَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَعْذِيبِ النُّفُوسِ وَإِرْهَاقِهَا، وَلَعَلَّ شَيْخَنَا لَوْ فَسَّرَ الْآيَةَ لَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَأَنَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا إِذَا صَحَّ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ
فَحْوَى الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي الدِّينِ هُوَ التَّقْوَى لَا أَمْرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُحَرَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا لِضَرَرِهِ.
وَإِذَا لَمْ يُرَاعَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِثْمٌ فِيمَا يَشْرَبُونَ مِنَ الْخَمْرِ " بَعْدَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا وَتَأْكِيدِهِ بِمَا فِي سِيَاقِ آيَاتِ التَّحْرِيمِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (طَعِمُوا) لَا مَدْلُولَ لَهُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فِي الْمَاضِي أَوْ تَذَوُّقُ كُلِّ مَا لَهُ طَعْمٌ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ يُقَدَّمُ لِلْفَمِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَيْضًا، وَلَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ مُتَّصِلًا بِالتَّحْرِيمِ الْمُؤَكَّدِ، أَوْ تَخْصِيصًا لَهُ بِغَيْرِ أَهْلِ التَّقْوَى الْكَامِلَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَلَا يَتَّفِقُ مَعَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ إِذَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْعِلْمِيَّةِ تُفِيدُ التَّكْرَارَ الَّذِي يَعُمُّ الْمُسْتَقْبَلَ، بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّمَا وَقَعَ كَانَ حُكْمُهُ كَذَا فَلِمَ
قُلْتُ: إِنَّ الطُّعْمَ فِي اللُّغَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ الْقَلِيلِ وَلَا الْكَثِيرِ بَلْ عَلَى ذَوْقِ الْمَشْرُوبِ بِمُقَدَّمِ الْفَمِ، أَوْ إِدْرَاكِ طَعْمِهِ مِنْ ذَوْقِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا حَرَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَرَى الْفَرْقَ الْجَلِيَّ بَيْنَ الشُّرْبِ الْكَثِيرِ وَالشُّرْبِ الْقَلِيلِ وَبَيْنَ طَعَامِ الْمَاءِ بِتَذَوُّقِهِ فِي قِصَّةِ طَالُوتَ: (قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) (٢: ٢٤٩) فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الِابْتِلَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: الْأُولَى الْبَرَاءَةُ مِمَّنْ شَرِبَ حَتَّى رَوِيَ وَالثَّانِيَةُ الِاتِّحَادُ التَّامُّ بِمَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَهُ الْبَتَّةَ، وَالثَّالِثَةُ بَيْنَ بَيْنَ، وَهِيَ لِمَنْ أَخَذَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَكَسَرَ بِهَا سُورَ الظَّمَأِ وَلَمْ يَكْرَعْ فَيَرْوِهِ، هَذَا مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص: ٣٨٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ٢ط الْهَيْئَةِ) وَهُوَ مَا تُغَطِّيهِ
اللُّغَةُ وَجَرَى عَلَيْهِ جَهَابِذَتُهَا فِي تَفْسِيرِ اللَّفْظِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَأَبُو السُّعُودِ وَالرَّازِيُّ والْآلُوسِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) اسْتَثْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ خَلَطَ، وَأَدْخَلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهَا، تَبَعًا لِلرِّوَايَاتِ أَوْ لِاصْطِلَاحَاتِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَحْنَثُ بِهِ مَنْ حَلِفَ أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَثَلًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ مَعْنَى طَعِمُوا فَلَا فَائِدَةَ مِنْ إِبَاحَةِ تَذَوُّقِ طَعْمِ الْخَمْرِ بِمُقَدِّمِ الْفَمِ لِأَحَدٍ، فَيَكُونُ لَغْوًا يُنَزَّهُ كِتَابُ اللهِ عَنْهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ نَصُّهَا: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ أَوْ مَا لَا يُسْكِرُ وَلَا يَضُرُّ مِنَ الْخَمْرِ إِذْ مَا اتَّقَوْا إِلَخْ، وَلَكِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِفَهْمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ خُوطِبُوا بِهَا أَوَّلًا مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ بَلْ صَحَّ عَنْهُمْ ضِدُّهُ.
رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ " الْفَرَقُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا مِكْيَالٌ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا، وَقِيلَ: إِنَّ سَاكِنَ الرَّاءِ مِكْيَالٌ آخَرُ يَسَعُ ١٢٠ رَطْلًا، وَرُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا أَبُو عُثْمَانَ عُمَرُ أَوْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ قَاضِي مَرْوٍ التَّابِعِيُّ، فَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ، وَنُقِلَ فِي أَصْلِهِ تَوْثِيقُهُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حِبَّانَ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ " وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ " وَأَكْثَرُ رِجَالِ هَذَا الْحَدِيثِ قَدِ احْتَجَّ بِهِمُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِيهِمُ الضِّحَاكُ بْنُ عُثْمَانَ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَيْخُ
النَّسَائِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمَّارٍ نَزِيلُ الْمَوْصِلِ، قَالَ الْحَافِظُ فِي تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ: ثِقَةٌ حَافِظٌ فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعُونٌ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ مِثْلِ الْعَيْنِيِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَحْرِيمُ قَلِيلِ كُلِّ مُسْكِرٍ وَكَثِيرِهِ صَحَّ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْحَافِظُ النَّسَائِيُّ بَعْدَ رِوَايَةِ حَدِيثِ سَعْدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُخَادِعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَحْلِيلِهِمْ آخِرَ الشَّرْبَةِ وَتَحْلِيلِهِمْ مَا تَقَدَّمَهَا الَّذِي يُشْرَبُ فِي الْفَرَقِ قَبْلَهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ السُّكْرَ بِكُلِّيَّتِهِ لَا يَحْدُثُ عَنِ الشَّرْبَةِ الْآخِرَةِ دُونَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ بَعْدَهَا وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ اه. أَيْ أَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا يَشْرَبُ لَا مِنَ الشَّرْبَةِ الَّتِي تَعْقُبُهَا النَّشْوَةُ.
(شُبْهَةٌ أُخْرَى عَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ وَعِلَّةِ تَحْرِيمِهِ).
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَسَادُ قَوْلِهِ مَنْ عَسَاهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَمْرِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وَجُودًا وَعَدَمًا، وَمَتَى فُقِدَتِ الْعِلَّةُ كَانَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ: أَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ وَأَنَّ قَاعِدَةَ سَدِّ ذَرَائِعَ الْفَسَادِ الثَّابِتَةِ فِي الشَّرِيعَةِ تَقْتَضِي مَنْعَ قَلِيلٍ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِكَثِيرِهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الدُّنْيَا مَا يُشَابِهُهُمَا فِي ذَلِكَ.
بَيِّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ التَّعْلِيلَ لِكَوْنِ قَلِيلِ الْخَمْرِ يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهَا كَذَلِكَ الْمَيْسِرِ وَكَونِ مُتَعَاطِيهِمَا قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِمَا (ص٢٦٧ وَمَا بَعْدَهَا ج٢ط الْهَيْئَةِ) وَلِهَذَا يَقِلُّ أَنْ يَتُوبَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ وَازِعِ الدِّينِ أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ يُعَارِضُهُ تَأْثِيرُ سُمِّ الْخَمْرِ الَّذِي يُسَمَّى لُغَةً " الْغَوْلَ " بِالْفَتْحِ وَاصْطِلَاحًا الْكُحُولَ فِي الْعَصَبِ الدَّاعِي بِطَبْعٍ إِلَى مُعَاوَدَةِ الشُّرْبِ، وَهُوَ أَلَمٌ يَسْكُنُ بِالشُّرْبِ مُؤَقَّتًا ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ أَوْ أَشَدَّ.
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ | وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا. |
وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ تَكُونَ قُوَّةُ تَأْثِيرِ الدِّينِ عَلَى أَشُدِّهَا وَأَكْمَلِهَا فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٥٧: ١٦) وَلِهَذَا تَرَكَ جُمْهُورُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَمْرَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ وَلَكِنْ بَقِيَ مِنَ الْمُدْمِنِينَ مَنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى احْتِمَالِ آلَامِ الْخِمَارِ وَمَا يَعْتَرِي الشَّارِبَ بَعْدَ تَنَبُّهِ الْعَصَبِ بِنَشْوَةِ السُّكْرِ، مِنَ الْفُتُورِ وَالْخُمُودِ الدَّاعِي إِلَى طَلَبِ ذَلِكَ التَّنْبِيهِ، فَكَانَ أَفْرَادٌ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ فَيُجْلَدُونَ وَيُضْرَبُونَ بِالْجَرِيدِ وَكَذَا بِالنِّعَالِ، ثُمَّ يَعُودُونَ رَاضِينَ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدُّ الَّذِي يُحَدُّونَهُ، أَوِ التَّعْزِيرُ الَّذِي يُعَزَّرُونَهُ، مُطَهِّرًا مِنَ الذَّنْبِ الدِّينِيِّ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لَا يُبَالُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَحَمَّلُوا فِي سَبِيلِ الْخَمْرِ مِنْ إِيذَاءٍ وَإِهَانَةٍ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدْمِنِينَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَمَّا أَبْلَى فِي وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ مَا أَبْلَى، وَكَانَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدِهِ، وَتَرَكَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِقَامَةَ الْحَدِّ
تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سَعْدٌ عِقَابَهُ مُحَابَاةً كَمَا ظَنَّ بَلْ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي حَالِ الْغَزْوِ، وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالتَّعْزِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عِقَابَ السُّكْرِ تَعْزِيرٌ وَأَنَّ سَعْدًا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْكِ تَعْزِيرِ أَبِي مِحْجَنٍ بَعْدَ أَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ مَا أَبْلَى، وَلَا مُطَهِّرَ مِنَ الذَّنْبِ أَقْوَى مِنْ هَذَا. وَهَلْ يُوجَدُ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشَابِهُونَ أَبَا مَحْجَنٍ فِي قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَقُوَّةِ عَزِيمَتِهِ فِي دِينِهِ؟
(بَعْضُ الْعِبَرِ فِي الْخَمْرِ).
مِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ الَّذِي يَسْتَبِيحُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ دِينًا، وَيَسْتَحْسِنُونَهُ أَدَبًا وَمَدَنِيَّةً، وَيَصْنَعُونَ مِنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً يَرْبَحُونَ مِنْهُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّاتٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخُمُورِ وَالسَّعْيِ لِإِبْطَالِهَا، وَأَقْوَى هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ نُفُوذًا وَتَأْثِيرًا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ وَمِنْ عَجَائِبِ وَقَائِعِ تَقْلِيدِ مُتَفَرْنِجِي الْمُسْلِمِينَ لِلْإِفْرِنْجِ مَيْلُ بَعْضِهِمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ وَتَأْلِيفِ الْفُرُوعِ لَهَا فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا، وَمَا أَجْدَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْمَتْبُوعِينَ.
وَمِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ فِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعُدُّونَ مِنْ مَنَافِعَ الْخَمْرِ الْحَمَاسَةَ فِي الْحَرْبِ وَقُوَّةَ الْإِقْدَامِ فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ السُّكْرَ يُضْعِفُ الْجُنُودَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْحَرْبِ وَاحْتِمَالِ أَثْقَالِهَا، فَقَرَّرَتْ بَعْضُ الدُّوَلِ إِبْطَالَ الْخُمُورِ الْوَطَنِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الرَّوَاجِ فِي بِلَادِهَا - وَأَكْثَرُ انْتِفَاعِهَا الْمَالِيِّ مِنْهَا - مُدَّةَ الْحَرْبِ، وَلَعَلَّ الدُّوَلَ كُلَّهَا تُجْمِعُ عَلَى هَذَا بَعْدُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَزَالُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ يَتَمَلْمَلُونَ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْخَمْرِ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
(٤١: ٥٣).
(اسْتِدْرَاكَانِ)
الِاسْتِدْرَاكُ الْأَوَّلُ: الْخَمْرُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يُخَمَّرُ تَخْمِيرًا، وَنَوْعٌ يُقَطَّرُ تَقْطِيرًا، وَأَقْوَى الْخُمُورِ سُمًّا وَأَشَدُّهَا ضَرَرًا مَا كَانَتْ مُقَطَّرَةً، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْأَشْرِبَةِ الرُّوحِيَّةِ وَهَذَا مِنْ مُرَجِّحَاتِ اخْتِيَارِنَا لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ مُخَامَرَتُهَا الْعَقْلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص٢٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج٢ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُرَجِّحُ الثَّانِي كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ لِإِمَامٍ مِنْ أَفْصَحِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مِمَّا اسْتَنْبَطَهُ الْمُوَلَّدُونَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ نَقْلَهُ أَصَحُّ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ وَكُتُبِ السُّنَنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا طُبِخَ مِنَ الْعَصِيرِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ أَوْ بَعْدَهُ، هَلْ يُسَمَّى خَمْرًا أَمْ لَا؟ كَمَا اشْتَبَهَ عَلَى الْكَثِيرِينَ أَمْرُ النَّبِيذِ، مِنَ الْمَطْبُوخِ الطِّلَاءِ وَهُوَ الدِّبْسُ، وَيُسَمَّى الْمُثَلَّثُ إِذِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَغْلِيَ الْعَصِيرُ حَتَّى يَبْقَى ثُلُثُهُ، وَمِنْهُ الْبَاذَقُ وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخٍ حَتَّى صَارَ شَدِيدًا، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ وَسَمَّاهُ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَإِنَّهُ مُسْكِرٌ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الطَّبْخِ مُسْكِرٌ فَلَا يُزِيلُ الطَّبْخُ الْقَلِيلُ إِسْكَارَهُ، أَوْ يَتْرُكُ فِيهِ الْمَاءَ بَعْدَ طَبْخِهِ فَيَخْتَمِرُ كَمَا يَخْتَمِرُ الْعَسَلُ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالدِّبْسِ، وَلَوْ جَاءَ الْإِسْكَارُ مِنْ طَرِيقَةِ الطَّبْخِ لَكَانَ نَوْعًا ثَالِثًا مِنَ الْخَمْرِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْبَاذَقِ فَقَالَ: " سَبَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ " أَيْ إِنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا يُسْكِرُ مِنَ الشَّرَابِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَسْمَاءِ، فَالْعَسَلُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ يُمْزَجُ بِالْمَاءِ وَيُتْرَكُ حَتَّى يَخْتَمِرَ وَيُسْكِرَ
فَيَصِيرَ خَمْرًا وَكُلٌّ مِنْ عَصْرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ الزَّبِيبِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ، فَإِذَا اخْتَمَرَ وَصَارَ مُسْكِرًا حَرُمَ قَطْعًا وَسُمِّيَ خَمْرًا، لَا عَصِيرًا وَلَا نَبِيذًا، وَمَتَى عُلِمَ أَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا حَرُمَ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لَا قَبْلَ ذَلِكَ.
عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: " إِنَّ الْخَمْرَ هُوَ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ " إِطْلَاقًا لِمَا هُوَ الْغَالِبُ أَوِ الْأَهَمُّ فِي عَصْرِ تَدْوِينِ اللُّغَةِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ وَلَا تَسْمِيَتُهُمْ لِبَعْضِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهَا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى أَنْ يُطْلِقُوا اسْمَ الْخَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، فَهَذَا ابْنُ سِيدَهْ نَقَلَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقَ فِي الْمُخَصَّصِ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الْعَيْنِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَطَالَ فِي بَيَانِ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ بِحَسَبِ صِفَاتِهَا، ثُمَّ عَقَدَ بَابًا لِلْأَنْبِذَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالْحَبِّ وَالْعَسَلِ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ:
" أَبُو حَنِيفَةَ (أَيِ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ) : فَأَمَّا خُمُورُ الْحُبُوبِ فَمَا اتُّخِذَ مِنَ الْحِنْطَةِ فَهُوَ الْمِزْرُ، وَمَا اتُّخِذَ مِنَ الشَّعِيرِ فَهُوَ الْجِعَةُ، وَمِنَ الذُّرَةِ السُّكْرُكَةُ والسُّقْرُقَةُ عَجَمِيٌّ، أَبُو عُبَيْدٍ: الْغُبَيْرَاءُ السُّكْرُكَةُ إِلَى أَنْ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْبِتْعُ ضَرْبٌ مِنْ شَرَابِ الْعَسَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا " أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ فِي بَابِ الْخَمْرِ: " أَبُو عَلِيٍّ عَنِ الْعَسْكَرِيِّ: الْبِتْعُ: الْخَمْرُ يَمَانِيَةٌ، وَقَدْ بَتَعْنَا بَتْعًا خَمَّرْنَا خَمْرًا، الْبَتَّاعُ الْخَمَّارُ " اه.
(الِاسْتِدْرَاكُ الثَّانِي) يَحْتَجُّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ هِيَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ تُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ مُسَلَّمَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ، وَفِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ (مِنَ الْكُوفِيِّينَ) لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ الَّذِينَ لَا خِلَافَ فِي إِجْمَاعِهِمْ هُمُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ كِبَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِهِمْ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ
نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَمْرِ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، أَيْ خَالَطَهُ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِ إِدْرَاكَهُ وَحُكْمَهُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْمُخَامِرُ، وَمَنْ قَالَ: خَامَرَهُ غَطَّاهُ; فَقَدْ رَاعَى أَصْلَ مَعْنَى خَمَرَ الشَّيْءَ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ قَوْلَهَ هَذَا، وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَفْسِيرٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ بِرَأْيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ بِاعْتِبَارِ فَهْمِهِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قُلْنَا: إِذَا كَانَ هَذَا مَا فَهِمَهُ هَذَا الْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِيهِ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ لِنَصٍّ شَرْعِيٍّ تَفْسِيرًا أَصَحَّ وَأَقْوَى مِنْ تَفْسِيرٍ يُصَرِّحُ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِنْبَرِ الرَّسُولِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَعَامَّتِهِمْ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعٌ مُسْتَنِدٌ أَىْ دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ؟ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ خَمْرًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُقِرِّينَ بِدَلِيلِهِ وَبِالْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذِ السُّكُوتِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ مُجْتَهَدِي عَصْرِهِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُمْ مُوَافَقَةٌ لَهُ وَلَا إِنْكَارٌ وَإِنَّ إِقْرَارَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ الْقَوْلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْقَلَ وَيَشِيعَ، وَأَنْ يُرَاجِعَهُ فِيهِ الْبَعِيدُ إِذَا بَلَغَهُ كَالْقَرِيبِ، وَلَوْ رَاجَعَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ لَعَادَ إِلَى ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ مَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مَا كَانَ أَرَادَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَحْدِيدِ الْمَهْرِ، ثُمَّ إِنَّ إِجْمَاعَهُمُ الْعَمَلِيَّ عَلَى تَرْكِ جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ مُنْذُ نَزَلَتِ الْآيَةُ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا إِجْمَاعًا فَلَا سَبِيلَ إِلَى ثَبَاتِ إِجْمَاعِ قَوْلِيٍّ قَطُّ.
وَأَمَّا مِنْ جَاءَ بَعْدَ الْمُخَالِفِ الْأَوَّلِ وَبَلَغَهُ خِلَافُهُ فَشَبْهَتُهُ أَقْوَى عِنْدَ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، فَالْكَلَامُ مَعَهُمْ لَغْوٌ مَا لَمْ يُحْكِمُوا الدَّلِيلَ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٤: ٥٩) الْآيَةَ، فَإِنْ رَضُوا بِهِ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا صَحَّ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِمْ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " وَلَفْظُ الْمُسْكِرِ اسْمُ جِنْسٍ.
(تَشْدِيدُ السُّنَّةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ).
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ " زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا ".
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَشْرَبُهُ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا يَشْرَبُهَا فِيهَا وَإِنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَدَخَلَهَا، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ شَيْئًا فَجُوزِيَ بِحِرْمَانِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِشُرْبِهَا، لِأَنَّهُ رَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ غَيْرُ مُذْعِنٍ لَهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ " فَلَمْ يُسْقَهَا " ظَاهِرَةٌ فِي رَدِّهِ.
ورُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " وَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ وَلَفْظُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ " وَهَذَا يَرُدُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ حِكَايَتِهِ كَغَيْرِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُقَدَّمُ الْخَمْرُ عَلَى السَّرِقَةِ، قِيلَ: هَذَا فِي الْمُسْتَحَلِّ، وَقِيلَ: النَّفْيُ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ: وَقِيلَ: وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ مُرْتَكِبَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ مُدَّةَ
مُلَابَسَتِهِ لَهَا وَقَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا، وَحَقَّقَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ مُرْتَكِبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْقِيَهَا " وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جِبْرِيلَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ " لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَى لَهُ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
(حِكْمَةُ تَشْدِيدِ الْإِسْلَامِ فِي الْخَمْرِ دُونَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ).
(وَرَدُّ شُبْهَةٍ عَلَى تَحْرِيمِهَا).
إِذَا قِيلَ: إِنَّ دِينَ اللهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْحِكْمَةِ مِنْهُ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الرُّسُلِ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بَعْضُ الشَّرَائِعِ فِي أَمْرَيْنِ أَصْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَحْوَالِ الشُّعُوبِ وَالْأَجْيَالِ، (وَثَانِيهُمَا) : مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ سَيْرِ أُمُورِ الْبَشَرِ كُلِّهَا عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي التَّدْرِيجِيِّ الَّذِي مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبِلَهُ، بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى دِينَهُ الْعَامَّ، بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قُلْتُ: إِنَّ فِي الْخَمْرِ مِنَ الضَّرَرِ الذَّاتِيِّ، مَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا وَمَا ذَكَرْتُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا هَذِهِ شُبْهَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحَدَّثَ بِهَا الْمُحِبُّونَ لَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى حِلِّ مَا دُونُ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِمَّا سِوَى خَمْرَةِ الْعِنَبِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ قَاصِرًا عَلَيْهَا تَعَبُّدًا، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَقْدِ الْفَرِيدِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِتَدْوِينِ أَخْبَارِ الْفُسَّاقِ وَالْمُجَّانِ
وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَلَا يَدْفَعُهَا جَوَابُكَ عَنْهَا، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهُ فَلَمْ يَسْكَرْ بِهِ، فَمَا قَوْلُكَ فِي ذَلِكَ؟
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ نَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ حَاوَلَ إِثْبَاتَ أَنَّ شُرْبَ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنَ الْخُمُورِ كُلِّهَا حَلَالٌ إِلَّا مَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّنَا إِذَا سَلَّمْنَا مَا يَنْقُلُونَهُ فِي الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّ الْخَمْرِ وَعَدَمِ التَّشْدِيدِ إِلَّا فِي السُّكْرِ، نَقُولُ (أَوَّلًا) إِنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَهَّدَ الْأَنْبِيَاءُ لَهُ مِنْ قَبْلُ بِتَقْبِيحِ السُّكْرِ وَذَمِّهِ، وَلَمْ يُشَدِّدُوا فِي سَدِّ ذَرِيعَتِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ لِمَا كَانَ مِنَ افْتِتَانِ الْبَشَرِ بِهَا وَمَنَافِعِهِمْ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ عَهْدِهِ. (وَثَانِيًا) إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا أَكْمَلَ دِينَهُ الْعَامَّ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ سَيَدْخُلُونَ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ تَتَضَاعَفُ فِيهِ مَفَاسِدُ السُّكْرِ، وَأَنَّ مَصْلَحَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ أَنْ يَتَسَلَّحَ الْمُؤْمِنُونَ بِأَقْوَى السِّلَاحِ الْأَدَبِيِّ لِاتِّقَاءِ شُرُورِ مَا يُسْتَحْدَثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ الْفَتْكِ بِالْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ فِي صُوَرِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهَا.
وَهَاكَ بَعْضُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ كُتُبِهِمْ فِي ذَمِّهَا:
جَاءَ فِي نُبُوَّةِ أَشْعَيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ (٥: ١١ وَيْلٌ لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحًا يَتَّبِعُونَ الْمُسْكِرَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْقِمَّةِ تُلْهِبُهُمُ الْخَمْرُ ١٢ وَصَارَ الْعُودُ وَالرَّبَابُ وَالدُّفُّ وَالنَّاسُ وَالْخَمْرُ وَلَائِمَهُمْ، وَإِلَى فِعْلِ الرَّبِّ يَنْظُرُونَ، وَعَمَلِ يَدَيْهِ لَا يَرَوْنَ ١٣ لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ وَعَامَّتُهُ يَابِسَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ ١٤ لِذَلِكَ
وَسَعَّتِ الْهَاوِيَةُ نَفْسَهَا وَفَغَرَتْ فَاهَهَا بِلَا حَدٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ تِلْكَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ (٢٨: ١ وَيْلٌ لِإِكْلِيلِ فَخْرِ سُكَارَى أَفْرَايِمْ وَلِلزَّهْرِ الذَّابِلِ جَمَالُ بَهَائِهِ الَّذِي عَلَى رَأْسِ وَادِي سَمَائِنِ الْمَضْرُوبِينَ بِالْخَمْرِ إِلَى أَنْ قَالَ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ ضَلُّوا بِالْخَمْرِ وَتَاهُوا بِالْمُسْكِرِ، الْكَاهِنُ وَالنَّبِيُّ تَرَنَّحَا بِالْمُسْكِرِ، ابْتَلَعَتْهُمَا الْخَمْرُ، تَاهَا مِنَ الْمُسْكِرِ، ضَلَّا فِي الرُّؤْيَا) وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُوحًى إِلَيْهِ.
وَمِنْ شَوَاهِدَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بُولُسَ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ أَفْسِسْ (٥: ١٨ وَلَا تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلَاعَةُ) وَنَهْيُهُ عَنْ مُخَالَطَةِ السِّكِّيرِ (١ كو ٥: ١١) وَجَزَاهُ بِأَنَّ السِّكِّيرِينَ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ (غلاه: ٢١و ١ كو ٦: ٩، ١٠).
أَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا الْإِسْلَامِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي سِيرَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَبَعْدَهُ، فَإِذَا اشْتَبَهَ فِي وَصْلِهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَامًا وَقَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَفَلَا أَبِيعُهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا: قَالَ: أَفَلَا أُكَارِمُ بِهَا الْيَهُودَ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ أَنْ يُكَارِمَ بِهَا الْيَهُودَ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: شِنَّهَا عَلَى الْبَطْحَاءِ " وَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ لَهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحُّ هَكَذَا، وَلَكِنَّ لَهُ أَصْلًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ (أَيِ الرَّجُلُ) إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا سَارَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنِ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ فَفَتَحَ الْمَزَادَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا " وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ صَاحِبَ الْمُنْتَقَى أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الشَّوْكَانِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى سَنَدِهِ.
وَمَا رُوِيَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ وَمِنْ كَوْنِهِ شَمَّهُ أَوَّلًا (وَقِيلَ ذَاقَهُ) فَقَطَّبَ وَأَمَرَ بِأَنْ يُزَادَ فِيهِ الْمَاءُ فَهُوَ إِنْ صَحَّ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ مُسْكِرًا وَلَا عَلَى كَوْنِهِ شَرِبَ مِنْهُ كَانَ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْمَفْتُونِينَ بِالنَّبِيذِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الرِّوَايَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَعَلَى إِسْقَائِهِ لِلْحُجَّاجِ جَهْرًا فِي الْحَرَمِ وَهَذَا زَعْمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ مَنْقُوصٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا رُبَّمَا تَوَاتَرَ مِنْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْدَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّمَا يُفَسِّرُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَذِنَ لَهُمْ بِالِانْتِبَاذِ فِي الْأَسْقِيَةِ (أَيْ قِرَبِ الْجِلْدِ) قَالَ: " فَإِنِ اشْتَدَّ فَاكْسَرُوهُ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَأَهْرِيقُوهُ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ إِذَا اشْتَدَّ فِي الْأَسْقِيَةِ فَقَالَ: " صُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: أَهْرِيقُوهُ... الْحَدِيثَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ يُفَسِّرُ لَنَا أَمْرَهُ بِكَسْرِ مَا فِي سِقَايَةِ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ إِذْ شَمَّهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ بَدَا فِيهِ التَّغَيُّرُ وَقَرُبَ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إِدَاوَةِ عُمَرَ فَسَكِرَ، فَجَلَدَهُ وَقَالَ: جَلَدْنَاكَ لِلسُّكْرِ، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ.
(التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ).
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ لِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوِيدٍ الْجُعْفِيِّ فِي الْخَمْرِ سَيَأْتِي وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ " نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ يَعْنِي السُّمَّ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الشَّامِيِّينَ كَمَا هُنَا، ضَعِيفٌ فِي الْحِجَازِيِّينَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعُرَنِيِّينَ بِالتَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ دَوَاءٍ مِنَ الْحَلَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَامِ، وَقَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّد عَبْده: يُشْتَرَطُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ أَلَّا يَقْصِدَ الْمُتَدَاوِي بِهَا اللَّذَّةَ وَالنَّشْوَةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ مَا يُحَدِّدُهُ الطَّبِيبُ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الْآتِيَيْنِ:
(السُّؤَالُ) هَلْ يَحِلُّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِذَا ظُنَّ نَفْعُهَا بِخَبَرِ طَبِيبٍ أَخْذًا مِنْ آيَةِ (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢: ٧٨) وَمِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ؟ وَإِذَا جَوَّزْتُمْ فَمَاذَا تَرَوْنَ فِي حَدِيثِ " إِنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَ بِدَوَاءٍ " أَوْ كَمَا وَرَدَ؟
(الْجَوَابُ) التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ لِمَنْ ظَنَّ نَفْعَهَا شَيْءٌ وَالِاضْطِرَارُ إِلَى شُرْبِهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٦: ١١٩) يَنْفِي الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ (أَيْ كَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَكَادَ يَخْتَنِقُ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ سِوَى الْخَمْرِ وَمِثْلُهُ مَنْ دَنَقَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَادَ يَهْلِكُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ بَرْدًا سِوَى جَرْعَةٍ أَوْ كُوبٍ مِنْ خَمْرٍ.
الْقَلْبِ وَدَفْعِ الْخَطَرِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلَاجِ لَا يَكَادُ يَكُونُ شُرْبًا لِلْخَمْرِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُقَطٌ قَلِيلَةً لَا تُسْكِرُ، وَأَمَّا التَّدَاوِي الْمُعْتَادُ بِالْخَمْرِ لِمَنْ يَظُنُّ نَفْعَهَا وَلَوْ بِإِخْبَارِ الطَّبِيبِ كَتَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ أَوِ الدَّمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نَسْمَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِلُ " إِنَّهُ لَيْسَ بِدَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَبَبُهُ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ عَنِ الْخَمْرِ وَكَانَ يَصْنَعُهَا فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَهُ، وَقَوْلُهُ: " وَلَكِنَّهُ دَاءٌ " وَهُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ الْمُسْكِرَةَ مِنَ الْخَمْرِ سُمٌّ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَمُوتُ بِهَا فِي كُلِّ عَامٍ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَالسُّمُومُ قَدْ تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّدَاوِي بِهَا لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي أَعْصَابِهِمْ سُمُّهَا، فَتَصِيرَ مَطْلُوبَةً عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ التَّدَاوِي بِهَا، فَيَتَضَرَّرُونَ بِسُمِّهَا، فَلَا يَغْتَرَّنَّ مُسْلِمٌ بِأَمْرِ أَحَدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّدَاوِي بِهَا لِمِثْلِ مَا يَصِفُونَهَا لَهُ عَادَةً وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اه.
هَذَا مَا أَجْبَنَا بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَنَزِيدُ فِي إِيضَاحِهِ بِالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَاعْتِبَارِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ إِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، أَيْ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنْوَاعَهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتْوَى آنِفًا، (وَلَيْسَ مِنْهُ مِثْلُ الزِّنَا كَمَا لَا يَخْفَى) وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِهِمْ: " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ " وَإِذَا وَصَلَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ إِلَيْهِ بِشَهَادَةِ الثِّقَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ قَاعِدَةُ " الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقُولُ الطَّبِيبُ حَتَّى إِذَا حَدَّدَهُ بِالنُّقَطِ امْتَنَعَ زِيَادَةُ نُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَقَدْ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ كَرُؤْيَةِ الطَّبِيبِ لِعَوْرَاتِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي فَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَى هَذَا جَائِزٌ مُطْلَقًا أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدُ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَتَدَاوِي الْعُرَنِيِّينَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَجِسٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
دَوَاءً فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَاعِدَةِ وَلَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ مُبَاشَرَةً لِغَيْرِ اضْطِرَارٍ، أَمَّا دُخُولُ نُقَطٍ مِنَ الْخَمْرِ فِي عِلَاجٍ مُرَكَّبٍ تَكُونُ أَجْزَاءُ الْخَمْرِ فِيهِ مَغْلُوبَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُسْكِرَ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَالْقَلِيلِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ.
ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْإِحْصَاءِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ الْإِفْرِنْجُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُبْتَلَوْنَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِهَا إِلَّا بِإِغْرَاءِ الْقُرَنَاءِ وَالْمُعَاشِرِينَ وَالْأَصْحَابِ، وَأَنَّهُمْ يَحْتَسُونَهَا فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ إِلَّا كُرْهًا، لِبَشَاعَةِ طَعْمِهَا وَلِاعْتِقَادِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى عَمَلٍ مُنْكَرٍ أَوْ ضَارٍّ وَلَكِنَّ غَرِيزَةَ التَّقْلِيدِ فِي الْإِنْسَانِ وَضَعْفَ إِرَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْعُشَرَاءِ وَالْخِلَّانِ، هُمَا اللَّذَانِ يُمَهِّدَانِ السَّبِيلَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
أَمَّا الشُّبْهَةُ الَّتِي يُرَجِّحُ بِهِ الْعَالِمُونَ بِضَرَرِ الْخَمْرِ دَاعِيَتَيِ التَّقْلِيدِ وَمُوَاتَاةِ الْعُشَرَاءِ أَوَّلًا وَطَاعَةِ غُولِ الْخَمْرِ آخِرًا عَلَى دَاعِيَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ، فَهِيَ ظَنُّهُ أَنَّ الضَّرَرَ الْمُتَيَقَّنَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ فِي الشُّرْبِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي السُّكْرِ، وَأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ إِمَّا أَنْ يَنْفَعَ وَإِمَّا أَلَّا يَضُرَّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ النَّشْوَةِ وَالذُّهُولِ عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ وَمِنْ مُجَامَلَةِ الْإِخْوَانِ، لِتَوَهُّمِ ضَرَرٍ نَجَا مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَلَوْ سَأَلَ هَؤُلَاءِ الْمَخْدُوعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَأَسْرَفُوا فِي السُّكْرِ حَتَّى أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ صِحَّتَهُمْ وَعِفَّتَهُمْ وَبَيْتَهُمْ وَثَرْوَتَهُمْ: هَلْ كُنْتُمْ يَوْمًا بَدَأْتُمْ بِشُرْبِ الْإِثْمِ تَنْوُونَ الْإِسْرَافَ فِيهِ وَإِدْمَانِهِ؟ لَأَجَابَهُمْ جَمِيعُ مَنْ سَأَلُوهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا لَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَنْوِي أَنْ نَشْرَبَ الْقَلِيلَ، وَمَا كُنَّا لِنَعْلَمَ أَنَّ الْقَلِيلَ يَقْسِرُنَا عَلَى الْكَبِيرِ، وَيَرْمِينَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّاءِ الْوَبِيلِ حَتَّى لَا نَجِدَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ سَبِيلٍ; وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَعَلُّلِ شُرْبِ بَعْضِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْأَطِبَّاءِ لِلْخَمْرِ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ وَالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَهُمْ شُبَهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ لِذَاتِهَا وَأَنَّ
مَا عَدَاهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْحُسْوَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي تَعْقُبُهَا نَشْوَةُ الْمُسْكِرِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الشَّرَابِ بِالْفِعْلِ هُوَ الْحَرَامُ وَقَدْ بَيَّنَّا رَدَّ هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَأَنَّ لَفْظَ مُسْكِرٍ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَقْرُونًا بِكُلٍّ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كُلُّ مِقْدَارٍ مُسْكِرٍ بِالْفِعْلِ يُسَمَّى خَمْرًا، كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ شَمَّةٌ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَكَمَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَاقُضِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ لِزَيْدٍ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُسْكِرًا لِعَمْرٍو، وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يَبْحَثُ عَنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ حَتَّى الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْكِرِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنْ كَانَتْ وَقَائِعَ أَحْوَالٍ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَخْرَجًا عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَعَمَلِ أَهْلِ الدِّينِ مِنَ السَّلَفِ
وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُشِيرَ إِلَى تَعِلَّاتِ مَنْ يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ لِأَجْلِ السُّكْرِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَفَقَدَ فَاتَ زَمَنُ الَّذِينَ كَانُوا يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ بِتَرْكِ النَّبِيذِ الَّذِي هُوَ نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِمَا زَمَنًا يُسْكِرُ فِيهِ كَثِيرُهُ ثُمَّ قَلِيلُهُ وَيَشْرَبُونَهُ عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنْ سَكِرُوا أَحَالُوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْكَثْرَةِ أَوْ عَلَى جَوْرِ السُّقَاةِ عَلَيْهِمْ وَكَابَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ السُّكْرَ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُتْرَفِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، حَتَّى عُزِيَ إِلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَبَعْضِ رِجَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.
مَنِ اخْتَبَرَ حَالَ الْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الْآخِرَةِ، يَرَى بَيْنَهُمَا شَبَهًا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْوِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ يُذْكَرُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَيَكُونُ اطْمِئْنَانُهُمْ أَشَدَّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ وَيُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَمِنْهُمُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَالْمُتَفَقِّهَةُ يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا بِمَسْأَلَةِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ فِيمَا سَبَقَ، وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عَفْوِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ التَّعَوُّدِ وَالْإِدْمَانِ، كَمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ هُمْ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بَعْدَهُ عِنْدَمَا يَعْلَمُونَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَمَلِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ يُفْضِي إِلَى كَثِيرِهَا، وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْغَمَسَتْ فِي شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا.
فَالتُّكَأَةُ الْأَخِيرَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ أَهْلِ الدِّينِ هِيَ تُكَأَةُ أَكْثَرِ الْمُرْتَكِبِينَ لِسَائِرِ الْمَعَاصِي وَهِيَ الْغُرُورُ بِكَرَمِ اللهِ وَعَفْوِهِ، إِمَّا بِضَمِيمَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا سِيَّمَا مَا يُسَمَّى مِنْهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ، أَوْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَإِمَّا بِدُونِ ضَمِيمَةٍ، وَمِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ وَمِنْهَا مَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَمَا لَهُ أَصْلٌ قَيَّدُوهُ بِالصَّغَائِرِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ التَّوْبَةِ لَهُ، وَقَدْ فَنَّدْنَا جَهْلَ هَؤُلَاءِ وَغُرُورِهِمْ فِي مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ) :(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤: ١٧) (رَاجِعْ ص٢٦٨ وَمَا بَعْدَهَا ج٤ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (٤: ٣١)
تَكَثَّرْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الْمَعَاصِي | فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُورا |
تَعُضُّ نَدامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا | تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا |
وَرَجَوْتُ عَفْوَ اللهِ مُعْتَمِدًا | عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ مُحَمَّدِ الْمَبْعُوثِ. |
(تَوْضِيحٌ وَاسْتِدْرَاكٌ وَتَصْحِيحٌ).
فِي بَحْثِ عَدَمِ شُرْبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَمْرَ.
حَدِيثُ إِهْدَاءِ الْخَمْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْزُوُّ إِلَى الْحُمَيْدِيِّ فِي (ص٧٤) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِلَى مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَذَا الْبَغَوِيُّ عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ نَافِعِ بْنِ كَيْسَانَ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ: " أَنَّهُ كَانَ يَتَّجِرُ فِي الْخَمْرِ وَأَنَّهُ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي جِئْتُكَ (في الْإِصَابَةِ: جِئْتُ) بِشَرَابٍ جَيِّدٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا كَيْسَانُ إِنَّهَا حُرِّمَتْ بَعْدَكَ، قَالَ: أَفَأَبِيعُهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا حُرِّمَتْ وَحُرِّمَ ثَمَنُهَا " وَفِي تَوْثِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ وَتَضْعِيفُهُمَا مَقَالٌ مَعْرُوفٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَلَمَّا كَانَ عَامَ حُرِّمَتْ جَاءَ بِرَاوِيَةٍ فَقَالَ: " أَشَعَرْتَ أَنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فَنَهَاهُ ".
ذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْفَتْحِ وَقَالَ أَوَّلًا: إِنَّ فِي حَدِيثِ أَحْمَدَ الْأَوَّلِ
وَأَقُولُ: قَدِ اتَّضَحَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ تَمِيمًا هُوَ الَّذِي قَالُوا إِنَّهُ كَانَ يَهْدِي
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فِي كُلِّ عَامٍ دُونَ كَيْسَانَ، وَتَمِيمٌ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْفَتْحِ، فَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سَنَةً وَاحِدَةً كَانَتِ الْخَمْرُ مُحَرَّمَةً فِيهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، فَإِهْدَاؤُهُ الرَّاوِيَةَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَا قِيلَ مُتَعَذَّرٌ فَهَذَا حَدِيثٌ يَنْقُضُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، عَلَى فَرْضِ قُوَّةِ سَنَدِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَتْنًا وَسَنَدًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ لَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقْتَنُونَ الْخَمْرَ وَلَا يَدِينُونَ اللهَ بِحُرْمَتِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْرَبُونَهَا، وَقَدْ يَشْرَبُهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَيُقَدِّمُونَهَا لِلضُّيُوفِ، فَالِاقْتِنَاءُ لَا يَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي ص٧٤ يَعْزُوهُ إِلَى الْمُسْنَدِ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: " عَطَشَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَاسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ مِنَ السِّقَايَةِ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَصَبَّ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا " وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ رَاوِيَاهُ بِضَعْفِهِ، لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ يَمَانٍ انْفَرَدَ بِهِ دُونَ أَصْحَابِ سُفْيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ النَّسَائِيُّ: وَيَحْيَى بْنُ يَمَانٍ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لِسُوءِ حَفِظَهُ وَكَثْرَةِ خَطَئِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَدَيٍّ: عَامَّةٌ مَا يَرْوِيهِ غَيْرُهُ مَحْفُوظٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ إِلَّا أَنَّهُ يُخْطِئُ وَيُشَبَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَ سَرِيعَ الْحِفْظِ سَرِيعَ النِّسْيَانِ، كَانَ يَحْفَظُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ خَمْسَمِائَةِ حَدِيثٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الْمَذْكُورَ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُمْ يَنْفَرِدُ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ يَرْفَعُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَفِي مَعْنَى حَدِيثِ السِّقَايَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ " رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ نَبِيذٌ وَهُوَ عِنْدُ الرُّكْنِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَدْحَ فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا فَرَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَحْرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدْحَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَقَطَّبَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ أَيْضًا فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
بِحَدِيثِهِ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَ حِكَايَتِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: " اجْتَنَبَ كُلَّ شَيٍّ يَنِشُّ " وَقَالَ: " الْمُسْكِرُ قَلِيلُهُ حَرَامٌ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ " وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَجْهُولٌ مَرَّةَ وَخَبَرُهُ مُنْكَرٌ.
أَقُولُ: طَالَمَا دَسَّ الْمُتَلَاعِبُونَ بِالرِّوَايَاتِ أَسْمَاءَ الْمَجْهُولِينَ فِي الْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ لِيُرَوِّجُوا بِهَا مَا يَفْتَرُونَهُ فَأَبْطَلَ رِجَالُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دَسِيسَتَهُمْ وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ لِجَازَ الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ كَانَ قَدْ بَدَأَ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ فَكَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْكِرًا وَلَا يُمْكِنُ مُوَافَقَتُهُ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذَا.
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ نَحْوًا مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: " تَلَقَّتْ ثَقِيفٌ عُمَرَ بِشَرَابٍ فَدَعَا بِهِ فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَى فِيهِ كَرِهَهُ فَدَعَا بِهِ فَكَسَرَهُ بِالْمَاءِ فَقَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا " ثُمَّ رَوَى عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي قَدْ شَرِبَهُ عُمَرُ قَدْ تَخَلَّلَ (أَيْ صَارَ خَلًّا) وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْأَثَرَ فِي الْفَتْحِ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَفِيهِ أَنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ " وَقَالَ: قَالَ نَافِعٌ: وَاللهِ مَا قَطَّبَ عُمَرَ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِسْكَارِ حِينَ ذَاقَهُ، وَلَكِنَّهُ تَخَلَّلَ، وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ عُمَرُ قَدْ تَخَلَّلَ وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَنِ الْعُمَرِيِّ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَسَرَهُ بِالْمَاءِ لِشِدَّةِ حَلَاوَتِهِ، ثُمَّ جَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالَتَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَطَّبَ كَانَ لِحُمُوضَتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يُقَطِّبُ كَانَ لِحَلَاوَتِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ كَسْرِ النَّبِيذِ بِالْمَاءِ يَدُلُّ مَجْمُوعُهُ عَلَى أَنْ يُكْسَرَ إِذَا أَخَذَ فِي الِاشْتِدَادِ وَالتَّغَيُّرِ خَشْيَةَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا، فَأَمَّا إِذَا صَارَ مُسْكِرًا فَلَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا إِرَاقَتُهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، إِذْ لَا يُبَاحُ حِينَئِذٍ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ، وَلَوْ أُزِيلَ تَأْثِيرُهُ بِالْمَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالِاشْتِدَادِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ اشْتِدَادُ الْحُمُوضَةِ أَوِ الْحَلَاوَةِ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِثْلُهُ الِاغْتِلَامُ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا خَشِيتُمْ مِنْ نَبِيذٍ شِدَّتَهُ فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَشْتَدَّ " انْتَهَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الِاشْتِدَادِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّغَيُّرِ بِالْفِعْلِ عَنْ قُرْبِ وُقُوعِهِ وَإِرَادَتِهِ.
وَمِنَ الِاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ " اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا
تَسْكَرُوا " قَالَ النَّسَائِيُّ هَذِهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غَلَطَ فِيهِ أَبُو الْأَحْوَصِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ سِمَاكٍ تَابَعَهُ عَلَيْهِ وَسِمَاكٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَكَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ وَخَطَّأَهُ فِيهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ مَعْنَاهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ سَائِرَ النُّصُوصِ وَهُوَ الْإِذْنُ بِشُرْبِ النَّبِيذِ (النَّقِيعِ) إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَمِرْ فَيَصِيرُ مُسْكِرًا لِئَلَّا يُكْسَرَ بِهِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ وَفِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا عَلَى الْمُسْكِرِ بِالْفِعْلِ فَهُوَ تَحْرِيفٌ لِلُّغَةِ وَإِفْسَادٍ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ الصَّحَابَةَ بِأَنْ يَشْرَبُوا مِنَ الْمُسْكِرِ وَأَلَّا يَسْكَرُوا، هَلْ يَتَيَسَّرُ لِوَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَشْرَبَ مِنَ الْمُسْكِرِ وَلَا يَسْكَرَ؟
(عُقُوبَةُ شَارِبِ الْخَمْرِ).
ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مُجْتَمِعِينَ وَمُنْفَرِدِينَ " أَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِالشَّارِبِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُضْرَبُ بِالْأَيْدِي وَالْجَرِيدِ وَالثِّيَابِ وَالنِّعَالِ " وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجُلِدَ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ " مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدَّا فَيَمُوتُ وَأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ (أَيْ دَفَعْتُ دِيَتَهُ) وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ ".
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: " أَنَّ عُثْمَانَ أَتَى بِالْوَلِيدِ وَقَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: أَزِيدُكُمْ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخِرٌ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا، وَأَمَرَ بِجِلْدِهِ، فَجَلَدَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ " أَقُولُ: يَعْنِي الْأَرْبَعِينَ الَّذِي أَمَرَ بِهَا، وَقَوْلُهُ: " وَكُلٌّ سُنَّةٌ " مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ حَدَّ الْخَمْرِ; " لِأَنَّ ضَرْبَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُعَدُّ سُنَّةً مَحْدُودَةً لَهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا صَارَ سُنَّةً عَمَلِيَّةً لِجَرْيِ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعِقَابِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ الضَّرْبُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِهَانَةُ الشَّارِبِ وَتَنْفِيرُ النَّاسِ مِنَ الشُّرْبِ، وَإِنَّ ضَرْبَ الشَّارِبِ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ كَانَ اجْتِهَادًا مِنَ الْخُلَفَاءِ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا وَقَعَ
(فَائِدَةٌ فِي الْمَشْرُوعِ مِنَ الْمُسَابَقَةِ وَالرِّمَايَةِ).
ذَكَرْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَيْسِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ فِي الْمُسَابَقَةِ جَائِزٌ شَرْعًا، وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْهُ أَنَّ مُسَابَقَةَ الْخَيْلِ فِي مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْجَائِزِ، وَمَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا الْجَائِزُ شَرْعًا فَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَدِ اشْتُرِطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ السَّبَقُ بِفَتْحِ السِّينِ وَالْبَاءِ وَهُوَ الْجُعْلُ الَّذِي يَكُونُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ السَّابِقِ إِمَّا عَنِ الْإِمَامِ (أَيِ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ) وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِمَّا مِنْ أَحَدِ الْمُتَسَابِقِينَ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالُ السَّبَقِ مِنْ
كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِذَا دَخَلَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ اشْتَرَطَ أَيْضًا أَلَّا يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا، وَبِهَذِهِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ مِنْ مَعْنَى الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ، وَمَا اشْتَرَطَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ كَوْنِ الْمُسَابَقَةِ مَعْرُوفَةَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَكَوْنِ الْجُعْلِ وَالْمَسَافَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا مَعْلُومَيْنِ وَكَوْنِ الْفَرَسَيْنِ أَوِ الْأَفْرَاسِ مُعَيَّنَةً، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَرِطُهُ الْمُقَامِرُونَ أَيْضًا وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ.
رَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ بِالْخَيْلِ وَرَاهَنَ " وَفِي لَفْظٍ: " سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَأَعْطَى السَّابِقَ " وَرَوَى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقِيلَ لَهُ: أَكُنْتُمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاهِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللهِ لَقَدْ رَاهَنَ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سَبْحَةُ فَسَبَقَ النَّاسَ فَبَهَشَ لِذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمُ عَنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ " وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مَاجَهْ " أَوْ نَصْلٍ " صَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصْلِ السِّهَامُ، وَعَبَّرَ عَنِ السَّهْمِ بِحَدِيدَتِهِ الْجَارِحَةِ، يُقَاسُ عَلَى الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ الرَّمْيُ بِبُنْدُقِ الرَّصَاصِ وَقَذَائِفِ الْمَدَافِعِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ الْمُسَابَقَةَ عَلَى الْأَقْدَامِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا مِنَ الرِّيَاضَةِ الْقَوِيَّةِ لِلْأَبْدَانِ عَلَى الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ.
مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
بَيِّنًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٩٠) أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِآيَاتٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الطَّعَامِ وَأَحْكَامِ النُّسُكِ (وَمِنْهَا الصَّيْدُ فِي أَرْضِ الْحَرَامِ أَوْ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ) وَتَلَاهَا سِيَاقٌ طَوِيلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ إِلَخْ، وَنَقُولُ الْآنَ إِنَّ اللهَ جَلَّتْ آلَاؤُهُ نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَمِنَ الِاعْتِدَاءِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الْحَلَّالِ وَالطَّيِّبِ، وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ الْمُبَالِغِينَ فِي النُّسُكِ قَدْ حَلَفُوا عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ بَيَّنَ لَهُمْ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ، فَكَانَ هَذَا وَذَاكَ مُتَمِّمًا لِمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ أَحْكَامِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنَاسَبَ أَنْ يُتَمِّمَ أَحْكَامَ الصَّيْدِ فِي الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ أَيْضًا فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ مَا نَصُّهُ: وَوَجْهُ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٥: ٨٧) ثُمَّ اسْتَثْنَى الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مِنْ تِلْكَ فَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّيْدِ عَنِ الْمُحَلَّلَاتِ وَبَيَّنَ دُخُولَهُمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى وَمَا قُلْنَاهُ خَيْرٌ
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) الِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَالصَّيْدُ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُصْطَادُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا وَمِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّ الْوَحْشِيَّةِ لِتُؤْكَلَ، وَقِيلَ مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُ الْمَأْكُولِ لَحْمَهُ إِلَّا مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَمَا يَأْتِي وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي الصَّيْدِ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ التَّالِيَةِ الْخِلَافُ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ الْمُحْرِمُ عَنْ صَيْدِهِ وَوَصْفُ الصَّيْدِ
بِكَوْنِهِ تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالرِّمَاحُ يُرَادُ بِهِ كَثْرَتُهُ وَسُهُولَةُ أَخْذِهِ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِخْفَاءِ بِالتَّمَتُّعِ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ مَا يُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي صِغَارُهُ وَفِرَاخُهُ وَبِالرِّمَاحِ كِبَارُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ: فَكَانَ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
وَوَجْهُ الِابْتِلَاءِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ أَلَذُّ الطَّعَامِ وَأَطْيَبُهُ، وَنَاهِيكَ بِاسْتِطَابَتِهِ وَبِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ كَالسَّفَرِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، وَسُهُولَةِ تَنَاوُلِ اللَّذِيذِ تُغْرِي بِهِ، فَتَرْكُ مَا لَا يُنَالُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَالْخَوْفِ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا يُنَالُ بِسُهُولَةٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنَ الْعِصْمَةِ أَلَّا نَجِدَ، وَهَلْ يُعَدُّ تَرْكُ الزِّنَا مِمَّنْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِسَعْيٍ وَبَذْلِ مَالٍ وَتَوَقُّعِ فَضِيحَةٍ كَتَرْكِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ لَهُ إِذْ غَلَّقَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْأَبْوَابَ دُونَهُ وَقَالَتْ: هَيْتَ لَكَ؟
وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِأَنَّهُ سَيَخْتَبِرُكُمْ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّيْدِ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ يَسْهُلُ عَلَيْكُمْ أَخْذُ بَعْضِهِ بِأَيْدِيكُمْ وَبَعْضِهِ بِرِمَاحِكُمْ (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) أَيْ يَبْتَلِيكُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ لِيَعْلَمَ مَنْ يَخَافُهُ غَائِبًا عَنْ نَظَرِ النَّاسِ غَيْرَ مُرَاءٍ وَلَا خَائِفٍ مِنْ إِنْكَارِهِمْ، فَيَتْرُكُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وَيَخْتَارُ شَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى لَذَّةِ اللَّحْمِ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةً لَهُ فِي سِرِّهِ، أَوْ يَخَافُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يَقْتَضِي الطَّاعَةَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلِمَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِلْمَهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَاقِعِ الثَّابِتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ رِضَاهُ عَنْكُمْ وَإِثْبَاتُكُمْ عَلَيْهِ كَمَا يَعْلَمُ حَالَ مَنْ يَعْتَدِي فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَهُ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْ جَزَاءِ مَنْ يَخَافُهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ وَإِنْ كَانَ عَلَّامَ الْغُيُوبِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضُرُوبِ تَرْبِيَتِهِ لَكُمْ وَعِنَايَتِهِ بِتَزْكِيَتِكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى (رَاجِعْ ص٧ ج٢ وص١٤٢ ج٤ وَمَا بَعْدَهُمَا ط الْهَيْئَةِ).
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ فَمَنِ اعْتَدَى بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الصَّيْدِ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ الَّذِي أَخْبَرَكُمُ اللهُ بِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَلَهُ
عَذَابٌ شَدِيدٌ الْأَلَمِ فِي
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) هَذَا النِّدَاءُ تَوْطِئَةٌ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُعْتَدِي فِي الصَّيْدِ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا، سَبَقَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمَرَةٍ وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أَعَادَهُ هُنَا لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ أَنَّ الْحُرُمَ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حَرَامٍ وَهُوَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ.
(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) أَيْ وَمَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَاصِدٌ لِقَتْلِهِ فَجَزَاؤُهُ أَوْ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِنَ الْأَنْعَامِ مُمَاثِلٌ لِمَا قَتَلَهُ فِي هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ إِنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَفِي قِيمَتِهِ، وَقِيلَ: فِي قِيمَتِهِ مُطْلَقًا وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " فَجَزَاءٌ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَ " مِثْلُ " الرَّفْعِ وَالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ جَزَاءٍ إِلَى مِثْلِ وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ عَيْنُهُ، عَلَى حَدِّ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ خَاتَمِ فِضَّةٍ أَيْ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ جَزَاءُ الَّذِي قَتَلَهُ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ " فَجَزَاءٌ مِثْلَ مَا قَتَلَ " بِنَصْبِ مِثْلٍ بِمَعْنَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْزِيَ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ ثُمَّ أُضِيفَ كَمَا نَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زَيْدًا، ثُمَّ مِنْ ضَرْبِ زَيْدٍ اه.
قَتْلُ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ الصَّيْدَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ لِنَصِّ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ أَكْلَ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ مَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقِيلَ: يَحْرُمُ مُطْلَقًا عَمَلًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْآتِيَةِ، وَحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ عَنْ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ أَكَلُوا مِمَّا أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ مِنْ لَحْمِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الَّذِي صَادَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الصَّيْدِ الَّذِي نَهَتِ الْآيَةُ عَنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كُلُّ حَيَوَانٍ وَحْشِيٍّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَلَا جَزَاءَ فِي قَتْلِ الْأَهْلِيِّ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالْحَشَرَاتِ وَهِيَ كَبِيرَةٌ فِي مَذْهَبِهِ، وَمِنْهَا الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي وَرَدَ الْإِذْنُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِقَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَهِيَ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّعَمُّدِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعَمُّدُ وَقَالُوا: إِنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى جَزَاءِ الْمُتَعَمِّدِ وَسَكَتَ عَنْ جَزَاءِ الْمُخْطِئِ وَلَكِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِأَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ أَيْضًا، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ:
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ وَالْقَاصِدَ لِقَتْلِهِ مَعَ ذِكْرِهِ لِإِحْرَامِهِ وَعِلْمِهِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَا يَقْتُلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ نِسْيَانَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ نَرَ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا يَدُلُّ عَلَى تَغْرِيمِ الْمُخْطِئِ، وَلَا رِوَايَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً فِي كَوْنِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، إِلَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ بِذَلِكَ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعِينَ يُغَرِّمُونَ فِي الْخَطَأِ، وَمَا قَالَهُ الزَّهْرِيُّ أَصْرَحُ مِنْهُ، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ مِثْلُ هَذِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَلِذَلِكَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَتْلِ الْخَطَأِ لَا بِالرِّوَايَاتِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ حِكَايَةً لِلْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، فَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ كُلِّهِمْ صَرَّحُوا بِاشْتِرَاطِ الْعَمْدِ وَعِبَارَةُ طَاوُسٍ: لَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَصَابَ صَيْدًا خَطَأً، إِنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ عَمْدًا، وَاللهِ مَا قَالَ اللهُ إِلَّا " وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ اشْتِرَاطُ الْعَمْدِ لِلْقَتْلِ مَعَ نِسْيَانِ الْإِحْرَامِ، وَالرِّوَايَاتُ فِي الْخِلَافِ مُفَصَّلَةٌ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَغَيْرِهِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمْدِ مَذْهَبُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَقَدْ شَرَحَ الرَّازِيُّ اسْتِدْلَالَهُ بِالْآيَةِ شَرْحًا يُؤْذِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُجْتَهِدِينَ قَدِ اتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ لِإِقْرَارِ الصَّحَابَةِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِمْ لَهُ كَعَادَتِهِمْ فِيمَا يَرَوْنَهُ خَطَأً قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ عَرَضَ مَسْأَلَةَ تَغْرِيمِ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً عَنِ الصَّحَابَةِ وَأَقَرُّوهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا قَالَ الْحَكَمُ: " إِنَّهُ كَتَبَ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ
كَتَبَ " وَالظَّاهِرُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَنَصُّ كِتَابِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الرِّوَايَةِ، وَالْحَكَمُ الَّذِي رَوَى هَذَا الْأَثَرَ هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِهِ وَهُوَ عَلَى تَوْثِيقِ الْجَمَاعَةِ لَهُ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ثِقَةٌ ثَبْتٌ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ مَعْنَى حَدِيثِهِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى رِجَالِ السَّنَدِ إِلَيْهِ عِنْدَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَثَرَ عَنْهُ وَهُمُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِنَعْرِفَ دَرَجَةَ رِوَايَتِهِمْ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَسَيَأْتِي مَا صَحَّ مِنْ حُكْمِ عُمَرَ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَاجَعْتُ تَفْسِيرَ شَيْخِ الْمُفَسِّرِينَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، فَإِذَا بِهِ قَدْ أَوْرَدَ فِي رِوَايَتِهِ قَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعَمُّدِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَمْدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ مَعَ نِسْيَانِ قَاتِلِهِ لِإِحْرَامِهِ حَالَ قَتْلِهِ إِيَّاهُ، وَقَوْلَ مَنْ قَالُوا: إِنَّهُ الْعَمْدُ لِقَتْلِهِ مَعَ ذِكْرِ قَاتِلِهِ لِإِحْرَامِهِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَ مَنْ قَالُوا بِالْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ بِالْكِتَابِ وَفِي الْخَطَأِ بِالسُّنَّةِ أَوْ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ وَحِفْظِ حُرُمَاتِ اللهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ قَالَ:
" وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ قَتْلَ صَيْدِ الْبَرِّ عَلَى كُلِّ مُحْرِمٍ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ مَا دَامَ حَرَامًا بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ قَتَلَ مَا قَتَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ وَلَمْ
أَقُولُ: هَذَا هُوَ الِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ الْمُبَيِّنُ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ دُخُولُ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ مِنَ التَّفْصِيلِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " أَوْ قَاصِدًا غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ " ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَتْلِ الْخَطَأِ لَا الْعَمْدِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ صُورَةً مُعَيَّنَةً وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَ صَيْدٍ غَيْرِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِإِحْرَامِهِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّهُ مُنْتَهِكٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا إِذَا قَصَدَ رَمْيَهُ لِجَرْحِهِ لَا لِقَتْلِهِ، وَأَمَّا إِذَا رَمَى غَرَضًا لَا حَيَوَانًا أَوْ حَيَوَانًا يُبَاحُ قَتْلُهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَأَصَابَ سَهْمُهُ أَوْ رَصَاصُهُ صَيْدًا لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ مَثَلًا فَلَا جَزَاءَ فِيهِ فِي هَذَا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَسَيَأْتِي أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ أَشْرَكَ فِيهِ الْعَمْدَ بِالْخَطَأِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ بِالْخَطَأِ قَاتِلُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِنَا (كِتَابُ لَطِيفِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ) بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ ذِكْرِهِ لِأَنَّ قَصْدَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْإِبَانَةُ عَنْ تَأْوِيلِ التَّنْزِيلِ، وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ لِلْخَطَأِ ذِكْرٌ فَنَذْكُرُ أَحْكَامَهُ. اه.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِثْلِ الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ مِثْلِ الْمَقْتُولِ فِي خَلْقِهِ كَصُورَتِهِ وَفِعْلِهِ وَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَتَبِعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوَّلُ مُؤَيَّدٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُكْمِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، رَوَى أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبْعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا وَجَعَلَهُ مِنَ الصَّيْدِ " ; أَيْ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْأَجْلَحِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي الضَّبْعِ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ كَبْشٌ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، قَالَ: الْجَفْرَةُ الَّتِي قَدِ ارْتَعَتْ، وَالْأَجْلَحُ هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: صَدُوقٌ، قَالَ الْحَافِظُ
جَابِرٍ يَرْفَعُهُ وَكَذَلِكَ الْحَكَمُ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ وَصَحَّحَ وَقْفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الضَّبْعُ صَيْدٌ فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءٌ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَتُؤْكَلُ ".
أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ السِّنِّ فِي الْمُمَاثَلَةِ فَالْعَنَزُ بِالتَّحْرِيكِ أُنْثَى الْمَعِزِ كَالنَّعْجَةِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالْعَنَاقُ بِالْفَتْحِ الْأُنْثَى مَنْ وَلَدَ الْمَعِزِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا السَّنَةَ وَالْجَفْرَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ الَّتِي بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
(يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أَيْ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ وَكَوْنِهُ مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَوَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى حُكْمِ الْعَدْلَيْنِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ النَّعَمِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ بِأَنْوَاعِهَا وَبَيْنَ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ، مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَوَجْهُ حُكْمِ الْعَدْلَيْنِ إِذَا أَرَادَا أَنْ يَحْكُمَا بِمِثْلِ الْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ يَسْتَوْصِفَاهُ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَ ظَبْيًا صَغِيرًا حَكَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِ الضَّأْنِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ الَّذِي قَتَلَهُ فِي السِّنِّ وَالْجِسْمِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ كَبِيرًا حَكَمَا عَلَيْهِ مِنَ الضَّأْنِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ حَكَمَا عَلَيْهِ بِبَقَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَ كَبِيرًا فَكَبِيرٌ مِنَ الْبَقَرِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَصَغِيرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذَكَرًا فَمِثْلُهُ مِنْ ذُكُورِ الْبَقَرِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَمِثْلُهُ مِنَ الْبَقَرِ أُنْثَى، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عَمْرٌو وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى اللَّذَيْنِ قَتَلَا الظَّبْيَ، وَقَدْ رَوَاهَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً، وَقَدْ حَكَمَا بِشَاةٍ، وَسَيَأْتِي.
وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ فَيَحْكُمُ الْعَدْلَانِ فِيهِ بِالْقِيمَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ " فَجَزَاؤُهُ مِثْلَ مَا قَتَلَ مِنَ النِّعَمِ " وَفِي قَوْلِهِ: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (عَلَى كُلٍّ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ دَلِيلٌ) لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي مِثْلِ مَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ
ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) يَعْنِي أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ فِي غَيْرِ الْمِثْلِ عَدْلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَاتِلِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) لَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، (وَالثَّانِي) نَعَمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ هُوَ ابْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: قَتَلْتُ صَيْدًا وَأَنَا مُحْرِمٌ فَمَا تَرَى عَلَيَّ مِنَ الْجَزَاءِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَهُ: مَا تَرَى فِيمَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ؟ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَتَيْتُكَ وَأَنْتَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ وَأَنْتَ تَسْأَلُ غَيْرَكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا تُنْكِرُ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) شَاوَرْتُ صَاحِبِي إِذَا اتَّفَقْنَا عَلَى أَمْرٍ أَمَرْنَاكَ بِهِ " وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَيْمُونٍ وَالصِّدِّيقِ، وَمِثْلُهُ يُحْتَمَلُ هَهُنَا فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ الْحُكْمَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ لَمَّا رَآهُ أَعْرَابِيًّا جَاهِلًا، وَإِنَّمَا دَوَاءُ الْجَهْلِ التَّعَلُّمُ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُعْتَرِضُ مَنْسُوبًا إِلَى الْعِلْمِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَأَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: " خَرَجْنَا حُجَّاجًا فَكُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ أَقَدْنَا رَوَاحِلَنَا فَنَتَمَاشَى نَتَحَدَّثُ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ غَدَاةٍ إِذْ سَنَحَ لَنَا ظَبْيٌ أَوْ بَرِحَ، رَمَاهُ رَجُلٌ كَانَ مَعَنَا بِحَجَرٍ فَمَا أَخْطَأَ حَشَاهُ، فَرَكِبَ وَوَدَّعَهُ مَيِّتًا، قَالَ: فَعَظَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ خَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، قَالَ: وَإِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ، يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَالْتَفَتَ عُمَرُ إِلَى صَاحِبِهِ فَكَلَّمَهُ
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ تَعَمَّدْتُ رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْتُ قَتْلَهُ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا أَشْرَكْتَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، اعْمِدْ إِلَى شَاةٍ فَاذْبَحْهَا وَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَانْتَفَعْ بِإِهَابِهَا، قَالَ: فَقُمْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَيُّهَا الرَّجُلُ عَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَمَا دَرَى
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ طُرُقًا أُخْرَى لِأَثَرِ قَبِيصَةَ ثُمَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ الْبَجَلِيَّ قَالَ أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِكَ فَلْيَحْكُمَا عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَسَعْدًا فَحَكَمَا عَلِيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا رَمَى ظَبْيًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَتَى عُمَرَ لِيَحْكُمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: احْكُمْ مَعِي فَحَكَمَا فِيهِ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.
(ثُمَّ قَالَ) : وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَأْنَفُ الْحُكُومَةُ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ذَوَا عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ مَنْ قَبْلِهِ الصَّحَابَةُ؟ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عَدْلَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرْدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ لِلصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ حُكْمٌ أَمْ لَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْكِيمِ الْعَدْلَيْنِ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ الْقِيمَةَ، قَالُوا لِأَنَّ التَّقْوِيمَ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ الْمُمَاثَلَةِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قِيَمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ النَّاسِ فِي الْغَالِبِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي دَقَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ صُوَرِهَا وَطِبَاعِهَا وَبَيْنَ الْأَنْعَامِ عَلَى قِلَّتِهَا وَتَقَارُبِ صِفَاتِهَا، وَمَالَ الْآلُوسِيُّ إِلَى جَعْلِ كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مُحْتَاجًا إِلَى هَذَا الِاجْتِهَادِ مِنَ الْحَكَمَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ مَذْهَبِهِ الْأَوَّلِ وَمَذْهَبِهِ الثَّانِي إِذْ كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ صَارَ مُفْتِي الْحَنَفِيَّةَ.
(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِإِضَافَةِ (كَفَّارَةُ) إِلَى (طَعَامٍ) أَيْ كَفَّارَةُ طَعَامٍ لَا كَفَّارَةُ هَدْيٍ وَلَا صِيَامٍ، وَالْبَاقُونَ بِتَنْوِينِ (كَفَّارَةٌ)، أَيْ فَعَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مُتَعَمِّدٌ جَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مُمَاثِلٌ لَهُ أَوْ كَفَارَّةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ، أَوْ مَا يُعَادِلُ ذَلِكَ الطَّعَامَ مِنَ الصِّيَامِ، وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ الْمُعَادِلُ لِلشَّيْءِ الْمُسَاوِي لَهُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ كَالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَبِالْكَسْرِ الْمُعَادِلُ وَالْمُسَاوِي مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ كَالْغِرَارَتَيْنِ مِنَ الْأَحْمَالِ عَلَى جَانِبَيِ الْبَعِيرِ يُسَمَّى كُلٌّ مِنْهَا عِدْلًا، هَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ بِالْكَسْرِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَدْلَ الشَّيْءِ مَا عَادَلَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالصَّوْمِ
وَالْإِطْعَامِ وَعِدْلَهُ مَا عَدَلَ بِهِ فِي الْمِقْدَارِ، وَمِنْهُ عِدْلَا الْحِمْلِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عِدْلٌ بِالْآخَرِ حَتَّى اعْتَدَلَا، كَأَنَّ الْمَفْتُوحَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَكْسُورِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ كَالذَّبْحِ وَنَحْوِهِ، وَنَحْوِهِمَا الْحَمْلُ وَالْحِمْلُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (٢: ١٩٦) فَالنُّسُكُ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْهَدْيِ هُنَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ لَمَّا آذَتْهُ الْقَمْلُ، وَأَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ يَهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " فَعَلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يَعْدِلُ إِطْعَامَ مِسْكِينَيْنِ، وَأَنَّ إِطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ وَصِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَعْدِلُ ذَبْحَ شَاةٍ فِي النُّسُكِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِجَعْلِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُعَادَلَةً لِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قُلْنَا: إِنَّ الصِّيَامَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يُجْعَلْ مُسَاوِيًا لِلْإِطْعَامِ بَلْ تَخْفِيفًا عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطَعِ الْإِطْعَامَ وَإِلَّا لَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَنَّ صِيَامَ شَهْرَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، إِذْ فُرِضَ الْإِطْعَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا التَّخْيِيرِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ جَعَلَ كَفَّارَةَ الْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مُوَافِقٌ لِمَا
وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ بِالتَّرْتِيبِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ وَهُوَ يَرْوِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ، فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِنَّ قَتْلَ نَعَامَةٍ أَوْ حِمَارِ وَحْشٍ أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، وَالطَّعَامُ مَدٌّ مَدٌّ يُشْبِعُهُمْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ حُكِمَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ مِنَ النِّعَمِ، فَإِنْ وَجَدَ جَزَاءَهُ ذَبَحَهُ فَتصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءَهُ قُوِّمَ الْجَزَاءُ دَرَاهِمَ ثُمَّ قُوِّمَتِ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ صَاعٍ يَوْمًا.
ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً قُوِّمَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ طَعَامًا ثُمَّ صَامَ لِكُلِّ صَاعٍ يَوْمَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ صِيَامِ يَوْمٍ عَنْ كُلِّ صَاعٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ أَيْ مُدَّيْنِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ تِلْمِيذِهِ مُجَاهِدٍ وَأَنَّ رِوَايَةَ صِيَامِ يَوْمَيْنِ عَنْ كُلِّ صَاعٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا كَمَا سَبَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَنْهُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ كُلَّ مِسْكِينٍ يُطْعَمُ مُدًّا، وَعَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْحِجَازِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يُوجِبُونَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَمُدَّانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَطَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَتَكَلَّمَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَأَثْبَتَ بِدَقَائِقِ الْقِيَاسِ الَّتِي لَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إِلَّا مِثْلُهُ أَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ يَعْدِلُ طَعَامَ مُدٍّ، وَقَدْ عَقَدَ الرَّبِيعُ بَابًا خَاصًّا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأُمِّ كَمَا أَطَالَ فِي جَمِيعِ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَقْرُونَةً بِالشَّوَاهِدِ وَالدَّلَائِلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ الْإِطْعَامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَكَانُهُ مَكَانُ الْهَدِيِ أَيْ مَكَّةَ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ.
(لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ، وَفُسِّرَ الْوَبَالُ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ هُوَ مِنَ الْوَبْلِ وَالْوَابِلُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ الثَّقِيلُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَلِمُرَاعَاةِ الثِّقَلِ، قِيلَ لِلْأَمْرِ الَّذِي يُخَافُ ضَرَرُهُ وَبَالٌ، وَيُقَالُ: طَعَامٌ وَبِيلٌ، وَالذَّوْقُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِدْرَاكِ الْعَامِّ، غَيْرُ خَاصٍّ بِإِدْرَاكِ اللِّسَانِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْقُرْآنُ فِي إِدْرَاكِ أَلَمِ الْعَذَابِ
وَالْوَبَالِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي إِدْرَاكِ الطُّعُومِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) (٧: ٢٢) وَفِي قَوْلِهِ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) (٧٨: ٢٤، ٢٥) وَكُلُّ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُكْرَهُ وَيُذَمُّ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ وَالْعُقُوبَةَ مِنْ أَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا عَلَى النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَالِيَّةً أَوْ بَدَنِيَّةً.
(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ تَعَالَى بِمَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ أَوْ قَبْلَ الْجَزَاءِ، وَقِيلَ: عَمَّا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ وَيُطَهِّرُ نَفْسَ صَاحِبِهِ مِنَ الْأَدْرَانِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُبْقِي لَهَا أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ.
(وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ عَادَ إِلَى قَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أَنْ كَفَّرَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَزْجُرْهُ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ " وَاللهُ عَزِيزٌ " أَيْ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ فَلَا يَغْلِبُهُ الْعَاصِي، " ذُو انْتِقَامٍ " مِمَّنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ، وَالِانْتِقَامُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا يَمْنَعُ الْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الذَّنْبُ، فَإِنْ تَكَرَّرَ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابَ فِي الْآخِرَةِ، بِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ الِانْتِقَامَ هُنَا هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ خَطَأً وَهُوَ مُحْرِمٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِيهِ كُلَّمَا قَتَلَهُ، فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا يُحْكَمُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَ يُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِمُ اللهُ مِنْكَ، كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عُقُوبَتَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
الْمَائِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُلَازِمُ الْمَاءَ لِصَيْدِ طَعَامِهِ مِنْهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَى الْبَحْرِ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: وَمَنْ خُوطِبَ بِإِحْلَالِ صَيْدِ الْبَحْرِ وَطَعَامِهِ عَقَلَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُ مَا يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَحَلَّ كُلَّ مَا يَعِيشُ فِي مَائِهِ لِأَنَّ صَيْدَهُ، وَطَعَامَهُ عِنْدَنَا مَا أُلْقِيَ وَطَفَا عَلَيْهِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَلَا أَعْلَمُ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ يَكُونُ طَعَامُهُ مِنْ دَوَابَّ تَعِيشُ فِيهِ فَتُؤْخَذُ بِالْأَيْدِي مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَتَكَلُّفِ صَيْدِهِ فَكَانَ هَذَا دَاخِلًا فِي ظَاهِرِ جُمْلَةِ الْآيَةِ وَاللهُ أَعْلَمُ اه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ وَقَالَ: " مَا لَفَظَهُ مَيِّتًا فَهُوَ طَعَامُهُ " وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَذَفَ بِهِ مَيِّتًا، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: مَا حُسِرَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ: مَا لَفَظَ الْبَحْرُ فَهُوَ طَعَامُهُ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ فِي الْآيَةِ مَا لَا عَمَلَ لِلْإِنْسَانِ وَلَا كُلْفَةَ فِي اصْطِيَادِهِ كَالَّذِي يَطْفُو عَلَى وَجْهِهِ وَالَّذِي يُقْذَفُ بِهِ إِلَى السَّاحِلِ وَالَّذِي يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ فِي وَقْتِ الْجَزَاءِ أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى، لَا فَرْقَ بَيْنَ حَيِّهِ وَمَيِّتِهِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: صَيْدُ الطَّرِيِّ وَطَعَامُهُ الْمَالِحُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَأَخَذَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْلَا هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَكَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ عِنْدِي: أَحَلَّ لَكُمْ أَنْ تَصْطَادُوا مِنَ الْبَحْرِ وَأَنْ تَأْكُلُوا الطَّعَامَ الْمُتَّخَذَ مِنْ حَيَوَانِهِ سَوَاءٌ صِدْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ صَادَهُ لَكُمْ غَيْرُكُمْ أَوْ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ إِلَيْكُمْ. وَسَوَاءٌ كُنْتُمْ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (مَتَاعًا) فَمَعْنَاهُ لِأَجْلِ تَمَتُّعِكُمْ بِهِ أَوْ مَتَّعَكُمُ اللهُ بِهِ مَتَاعًا حَسَنًا، وَالسَّيَّارَةُ جَمَاعَةُ الْمُسَافِرِينَ وَيَتَزَوَّدُونَ مِنْهُ، فَهُوَ مَتَاعٌ لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ.
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) هَذَا أَعَمُّ مِنْ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، وَقِيلَ: يَشْمَلُ أَكْلَهُ وَإِنْ صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ فَمَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِإِعَانَتِهِ أَوْ إِذْنِهِ لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَثَلِهِ ثُمَّ أَهْدَى مِنْهُ الْمُحْرِمَ فَهُوَ حِلٌّ لَهُ، وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِنَّ هَذَا مَا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْكِتَابِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقَدْ أَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَمَنَعَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا، وَلِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَفْصِيلٌ فِيهِ لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: " كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ " وَأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنِّي إِنَّمَا صِدْتُهُ لَكَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ " وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَقَدِ اسْتَغْرَبُوا هَذَهِ الزِّيَادَةَ وَشَكُّوا فِي كَوْنِهَا مَحْفُوظَةً، لِمُخَالَفَتِهَا رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْجَمْعَ بِكَوْنِهِ أَكَلَ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِأَنَّهُ اصْطَادَهُ لَهُ وَامْتَنَعَ بِهِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَظْهَرُ الْجَمْعُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ أَوِ احْتَمَلَ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شُذُوذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: " خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارًا فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ، فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ وَأَنِّي إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ " وَاسْتَشْكَلُوهُ بِأَنَّهُ كَيْفَ جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ وَهُوَ مَعَهُمْ، وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَجْهُهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْرِ مَخَافَةَ الْعَدْوِ، فَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ لِتَعْبِيرِهِ عَنْ خُرُوجِهِ وَعَدَمِ إِحْرَامِهِ هُنَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ " أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ كِلَاهُمَا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ
(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فَلَا تُحِلُّوا مَا حَرَّمَهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَاقِبَكُمْ يَوْمَ تُحْشَرُونَ إِلَيْهِ، أَيْ تُجْمَعُونَ وَتُسَاقُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْحِسَابِ.
(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ السَّابِقِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَأُرِيدَ بِالْكَعْبَةِ هُنَالِكَ حَرَمُهَا وَجِوَارُهَا الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْمَنَاسِكُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَعْبَةَ وَأَرَادَ بِهَا عَيْنَهَا وَلِذَلِكَ بَيَّنَهَا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْهَدْيَ أَيْضًا.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الِاصْطِيَادَ عَلَى الْمُحْرِمِ، فَبَيَّنَ أَيْ هُنَا أَنَّ الْحَرَمَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِأَمْنِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ فَكَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لِأَمْنِ النَّاسِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اه.
(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) الْجَعْلُ هُنَا إِمَّا خِلْقِيٌّ تَكْوِينِيٌّ وَهُوَ التَّصْيِيرُ، وَإِمَّا أَمْرِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كُلٍّ مِنْهَا، (وَالْكَعْبَةُ) فِي اللُّغَةِ الْبَيْتُ الْمُكَعَّبُ أَيِ الْمُرَبَّعُ، وَقِيلَ:
الْمُرْتَفِعُ مِنْ كَعْبِ الرُّمْحِ وَهُوَ طَرَفُ الْأُنْبُوبِ النَّاشِزِ، أَوْ كَعْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ النَّاتِئُ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ، وَمِنْهُ كَعَّبَتِ الْجَارِيَةُ (الْبِنْتُ) وَكَعَّبَ ثَدْيُهَا يُكَعِّبُ إِذَا نَتَأَ وَارْتَفَعَ فَهِيَ كَاعِبٌ وَكَعَابٌ، وَثَدْيٌ كَاعِبٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ غَلَبَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج١) وَتَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ (ج٤) قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِتَرْبِيعِهَا، وَ (الْقِيَامُ) أَصْلُهُ الْقِوَامُ بِالْوَاوِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ
وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْجَعْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ الَّتِي هِيَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ قِيَامًا لِلنَّاسِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِجِوَارِهَا وَالَّذِينَ يَحُجُّونَهَا، أَيْ سَبَبًا لِقِيَامِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ بِإِيدَاعِ تَعْظِيمِهَا فِي الْقُلُوبِ، وَجَذْبِ الْأَفْئِدَةِ إِلَيْهَا، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ فِيهَا وَعَلَى مُجَاوَرِيهَا وَحُجَّابِهَا، وَتَسْخِيرِهِمْ لِجَلْبِ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْجَعْلُ الْخِلْقِيُّ التَّكْوِينِيُّ، وَيُؤَيِّدُهُ دُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (١٤: ٣٧) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا
مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (٢٨: ٥٧) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ٢٩: ٦٧).
وَالْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمُ الْمُهَذِّبِ لِأَخْلَاقِهِمُ الْمُزَكِّي لِأَنْفُسِهِمْ، بِمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الدِّينِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ رُوحِيَّةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ بَعْضِ حِكَمِهِ وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيدٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَمَا شَرَعَ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ الَّتِي تُطَهِّرُ فَاعِلَهَا مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَتُحَبِّبُ إِلَيْهِ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَيَتَّسِعُ بِهَا رِزْقُ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَهَذَا هُوَ الْجَعْلُ الْأَمْرِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، دَعْ مَا تَسْتَلْزِمُهُ كَثْرَةُ النَّاسِ هُنَاكَ مِنْ جَلْبِ الْأَرْزَاقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الَّتِي تَقُومُ بِهَا أُمُورُ الْمَعِيشَةِ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِيَامَ هُنَا بِقَوْلِهِ: قِيَامًا لِدِينِهِمْ وَمَعَالِمَ لِحَجِّهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: قِيَامُهَا أَنْ يَأْمَنَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِيهِمْ مُلُوكٌ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَرَبِ مُلُوكٌ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِهِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ كَذَلِكَ يَدْفَعُ اللهُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالْقَلَائِدِ، وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنَ عَمِّهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ نُسِخَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَعَلَ اللهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، لَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حِينَ يَلْقَوْنَهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ) قَالَ: حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ وَلَمْ يُقْرَبْ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ
لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ الْهَدْيَ مُقَلَّدًا وَهُوَ يَأْكُلُ الْعَصَبَ مِنَ الْجُوعِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَلَمْ يَقْرَبْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الْبَيْتَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعْرٍ فَأَحْمَتْهُ وَمَنَعَتْهُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا نَفَرَ (أَيْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ) تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنَ الْخَزِّ أَوْ مِنَ السَّمَرِ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ حَوَاجِزُ أَبْقَاهَا اللهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اه.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ جَعْلَ اللهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قِيَامًا لِلنَّاسِ هُوَ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ مَعًا، وَهُوَ عَامٌّ شَامِلٌ لِمَا تَقُومُ بِهِ وَتَتَحَقَّقُ مَصَالِحُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَشَامِلٌ لِزَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ لَهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْعَهْدَيْنِ صُورَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ فَفِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ التَّكْوِينِيُّ أَظْهَرَ وَالتَّشْرِيعِيُّ أَخْفَى، لِأَنَّهُمْ عَلَى إِضَاعَتِهِمْ لِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مَزَجُوهَا بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُرَافَاتِ الْوَضْعِيَّةِ، وَكَانَتْ آيَاتُ اللهِ تَعَالَى
(ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا مِنْهُ إِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ جَاهِلِيَّتِهَا وَغَفْلَتِهَا وَتَفَانِيهَا فِي الْغَزْوِ وَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْمَكَانِ، وَلِلْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ فِيهِ، وَلِلزَّمَنِ الَّذِي فِيهِ تُؤَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالُ هُنَالِكَ، مَنَعَهُمْ مِنَ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَانَ سَبَبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَقَدْ عَجَزَتْ جَمِيعُ أُمَمِهِمْ عَنِ الْحَضَارَةِ
وَالْمَدَنِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ بَلْهَ أُمَمِ الْبَدَاوَةِ عَنْ تَأْمِينِ النَّاسِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَزَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِمَا قِتَالٌ وَلَا قَتْلٌ وَلَا عُدْوَانٌ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ أَعْظَمَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مِنْ حُكْمِ الْحَجِّ بِالتَّفْصِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَالْفَوَائِدُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ قِيَامِ أَمْرِ النَّاسِ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، فَدَلَّ مَا ذَكَرَ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ قِيَامًا لِلنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ عِلْمٍ بِخَفَايَا الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَنِظَامِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، عَلَى أَنَّ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ مِنْ جَعْلِهِ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ سَبَبًا لِدَفْعِ الشَّقَاوَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَجَلْبَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْفَلَكِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهِمَا بِحُسْبَانٍ، وَفِي عِلْمِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، لَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الشُّبَهَاتِ مَا يَعْتَرِي السُّنَنَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَغْفَلُونَ عَنْهَا.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وَالْخَبِيثِ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُصْلِحِ وَالْمُفْسِدِ، وَالْمَظْلُومِ وَالظَّالِمِ، فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنَ الْجَزَاءِ بِالْحَقِّ، وَلَا يَمْلُكُ الْجَزَاءَ إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْعِقَابِ الشَّدِيدِ، وَعَلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِذَلِكَ قَالَ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ دَنَّسَ نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا سَلَفَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَلَا بِمَا يَعْمَلُهُ مِنَ السُّوءِ بِجَهَالَةٍ إِذَا بَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَلَا بِاللَّمَمِ، إِلَّا اجْتِنَابَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، بَلْ يَسْتُرُ ذَنْبَهُ وَيَمْحُوهُ فَيَضْمَحِلُّ فِي إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، كَمَا يَسْتُرُ الْقَذَرَ الْقَلِيلَ، وَيَضْمَحِلُّ بِمَا يَغْمُرُهُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَيَخُصُّهُ فَوْقَ ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ.
فَالْآيَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَهِيَ وَعِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ، وَوَعْدٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الْعِقَابِ وَتَأْخِيرِ ذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِقَابَ قَدْ يَنْتَهِي بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يَدُومُ، لِأَنَّ رَحْمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ غَضَبَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِذَلِكَ يَغْفِرُ كَثِيرًا مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢: ٣٠) وَأَعَادَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ ثَابِتَانِ لَهُ بِالْأَصَالَةِ.
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) هَذَا بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ فِي إِثْرِ بَيَانِ كَوْنِ الْجَزَاءِ بِيَدِ اللهِ الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ أَنَّ الرَّسُولَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولُ اللهِ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا تَبْلِيغُ رِسَالَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ، فَهُوَ لَا يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يُبْدِيهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَمَا يَكْتُمُونَهُ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَهْلًا لِحِسَابِهِمْ وَجَزَائِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ اللهُ وَحْدَهُ، وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْ مَعْبُودَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَالرَّجَاءِ فِيهَا، وَالْتِمَاسِ الْخَلَاصِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهَا، فَهُوَ يَقُولُ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ: " مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَالْبَيَانُ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ، فَبِذَلِكَ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، وَيَكُونُ مَنْ بَلَّغَهُمْ هُمُ الْمَسْئُولُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ مِنْ عَقَائِدِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ
فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، بِحَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ مِنْهَا، فَيَكُونُ جَزَاءَهُ حَقًّا وَعَدْلًا وَيَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ كَرَمًا مِنْهُ وَفَضْلًا (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
وَيُؤَيِّدُ تَفْسِيرَنَا هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (١٣: ٤٠) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٤٨ ٥١).
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَحَادِيثِ فَلَا تُنَاقِضُ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ فِي الْآخِرَةِ يُظْهِرُ اللهُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ بِحَسَبِ مَا فِي كِتَابِهِ تَكْرِيمًا لِلدَّاعِي الشَّفِيعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي عِلْمِ اللهِ وَلَا فِي إِرَادَتِهِ لِأَنَّ الْحَادِثَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَدِيمِ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥٧: ٣).
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْجَزَاءَ وَكَوْنَهُ مَنُوطًا بِالْأَعْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ مِنْ وَصْفِ الْأَعْمَالِ وَالْعَامِلِينَ لَهَا، فَأَثْبَتَ وُجُودَ حَقِيقَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا، وَهُمَا حَقِيقَةُ الطَّيِّبِ وَحَقِيقَةُ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ: لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ كَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ وَالْفَاسِدِ وَالصَّالِحِ، وَالْحَرَامِ وَالْحَلَالِ وَلَا مِنَ النَّاسِ كَالظَّالِمِ وَالْعَادِلِ وَالْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ وَالْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ يَلِيقُ بِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ جَزَاءٌ
وَمَكَانٌ يَسْتَحِقُّهُ بِحَسَبِ صِفَتِهِ (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ١٣٩) يَضَعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ تَقْدِيمِ الْخَبِيثِ فِي الذِّكْرِ كَوْنُ السِّيَاقِ لِلْإِهْتِمَامِ بِإِزَالَةِ شُبْهَةِ الْمُغْتَرِّينَ بِكَثْرَتِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الْخِطَابُ مِنَ الرَّسُولِ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ بَلَغَتْهُ دَعَوْتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ وَلَوْ أَعْجَبَكَ أَيُّهَا السَّامِعُ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ مِنَ النَّاسِ وَجَاهِهِمْ، أَوْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ لِسُهُولَةِ تَنَاوُلِهَا وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَأَكْلِ الرِّبَا وَالرَّشْوَةِ وَالْغُلُوِّ وَالْخِيَانَةِ، أَوْ لِدَعْوَى أَصْحَابِهَا أَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى
أَيْ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَلَا عِنْدَ اللهِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ كَثْرَةَ الْخَبِيثِ أَعْجَبَتْكَ وَغَرَّتْكَ فَصِرْتَ بَعِيدًا عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ كَرَاتِبِ الْحَاكِمِ الْعَادِلِ وَرِبْحِ التَّاجِرِ الصَّادِقِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْحَرَامِ كَالرَّشْوَةِ وَالْخِيَانَةِ، بِاعْتِبَارِ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَأَنَّ الْقَلِيلَ الْجَيِّدَ مِنَ الْغِذَاءِ أَوِ الْمَتَاعِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الرَّدِيءِ الَّذِي لَا يُغْنِي غِنَاءَهُ وَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ، بَلْ رُبَّمَا يَضُرُّ آكِلَهُ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ مَعِدَتَهُ.
كَذَلِكَ الْقَلِيلُ الطَّيِّبُ مِنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْخَبِيثِ، فَالْفِئَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ أَهْلِ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِيمَانِ تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ ذَوِي الْجُبْنِ وَالتَّخَاذُلِ وَالشِّرْكِ، وَإِنَّ أَفْرَادًا مَنْ أُولِي الْبَصِيرَةِ وَالرَّأْيِ، لَيَأْتُونَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْجَمَاعَاتُ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْخَرَقِ، وَالْعَالَمُ الْحَكِيمُ يُسَخَّرُ لِخِدْمَتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٩: ٩).
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْخَرُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِكَثْرَتِهِمْ وَيَعْتَزُّونَ بِهَا (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) (٣٤: ٣٥) فَضَرَبَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ مَثَلَ الْكَافِرِ الَّذِي فَاخَرَ الْمُؤْمِنَ بِقَوْلِهِ: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (١٨: ٣٤) وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا وَقَالَ لَهُمْ: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (٨: ١٩) ثُمَّ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَثْبِيتًا لَهُمْ حَتَّى لَا تُرَوِّعَهُمْ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) (٨: ٢٦) وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَهِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ لَا بِعَدَدِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِزَّةُ بِالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الصِّفَاتِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ وَالْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ مُطْلَقًا، قَالَ تَعَالَى تَعْقِيبًا عَلَى مَا أَثْبَتَهُ مِنْ تَفْضِيلِ الطَّيِّبِ عَلَى الْخَبِيثِ وَإِنْ كَثُرَ الْخَبِيثُ: (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أَيْ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أَصْحَابَ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَلَا تَغْتَرُّوا بِكَثْرَةِ الْمَالِ الْخَبِيثِ وَلَا بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ مِنَ الْخَبِيثِينَ، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَعَالَى هِيَ الَّتِي تَنْظِمُكُمْ فِي سِلْكِ الطَّيِّبِينَ، فَيُرْجَى لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، أَيْ فَائِزِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَإِنَّمَا خَصَّ أُولِي الْأَلْبَابِ بِالذِّكْرِ فِي عَجُزِ الْآيَةِ بَعْدَ مُخَاطَبَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي صَدْرِهَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَصِيرَةِ وَالرَّوِيَّةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا، بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي حَقِيقَتِهَا وَصِفَاتِهَا، فَلَا يُصِرُّونَ عَلَى الْغُرُورِ بِكَثْرَةِ الْخَبِيثِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ، وَأَمَّا الْأَغْرَارُ وَالْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يُمَرِّنُوا عُقُولَهُمْ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ فِي النَّظَرِ
ورُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبِيثِ هُنَا الْمُشْرِكُونَ وَبِالطَّيِّبِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " لَدِرْهَمٌ حَلَالٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَرَامٍ فَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا كِتَابَ اللهِ: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْضُ عُمَّالِهِ يَذْكُرُ أَنَّ الْخَرَاجَ قَدِ انْكَسَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: " إِنَّ اللهَ يَقُولُ: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَالْإِحْسَانِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فِي الظُّلْمِ وَالْفُجُورِ وَالْعُدْوَانِ فَافْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ).
فَهَذِهِ الْآيَةُ قَاعِدَةٌ فِي التَّشْرِيعِ وَبُرْهَانٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَأَصْلٌ لِلْأَدَبِ وَالتَّهْذِيبِ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ).
قَالَ الرَّازِيُّ: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ:
(الْأَوَّلُ) أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) صَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَخُذُوهُ وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ، وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ خُضْتُمْ فِيمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكُمْ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا يَثْقُلُ وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ.
(الثَّانِي) أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) وَهَذَا ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِلرِّسَالَةِ ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ بِمُعْجِزَاتٍ أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَمَا
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أَحْوَالٍ مَخْفِيَّةٍ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِنَصِّهِ وَضَعْفِ عِبَارَتِهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مُنَاسَبَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لِآيَةِ تَبْلِيغِ الرَّسُولِ لِلرِّسَالَةِ مُنَاسِبَةٌ خَاصَّةٌ قَرِيبَةٌ وَلَهُمَا مَوْقِعٌ مِنْ مَجْمُوعِ السُّورَةِ يَنْبَغِي تَذَكُّرُهُ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ: ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ آخَرُ مَا نَزَلْ مِنَ السُّوَرِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَسُورَةُ النَّصْرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ صَرَّحَ اللهُ تَعَالَى فِي أَوَائِلِهَا بِإِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَى
الْعَالَمِينَ، فَنَاسَبَ أَنْ يُصَرِّحَ فِيهَا بِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْبَلَاغِ الَّذِي كَمُلَ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُكْثِرُوا عَلَيْهِ مِنَ السُّؤَالِ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يَشُقُّ عَلَى الْأُمَّةِ احْتِمَالُهَا، فَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ أَنْ يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفُسُوقُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا، وَهُوَ مَعْصُومٌ مِنْ كِتْمَانِ شَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِتَبْلِيغِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَا النَّهْيِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ بِإِكْمَالِ الدِّينِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ؟ قُلْتُ: تِلْكَ سُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ مَسَائِلِ الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ مِنْ أَخْبَارٍ وَأَحْكَامٍ وَغَيْرِهِمَا لِمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ، وَهَاكَ أَقْوَى مَا وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ:
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ وَقَالَ فِيهَا: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ فُلَانٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا دُونَ الْحَائِطِ " أَخْرَجَاهُ (أَيِ الشَّيْخَانِ) مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ: (مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ، قَالَتْ: أَكُنْتَ تَأْمَنُ أَنَّ أُمَّكَ قَدْ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَضْبَانُ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، إِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ آبَاؤُنَا، قَالَ: فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَةَ " إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهُ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي جُمْلَتِهِ وَزَادَ كَلَامَ عُمَرَ " فَاعْفُ عَنَّا عَفَا اللهُ عَنْكَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ: فَيَوْمَئِذٍ قَالَ: وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " (ثُمَّ قَالَ) قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا، تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الْآيَةَ " وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ وَرْدَانَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا. اهـ.
أَقُولُ: مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَانَ ثِقَةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ التَّابِعِيُّ ثِقَةٌ فِيهِ تَشَيُّعٌ، رَوَى عَنِ الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ، وَلَكِنْ مَرَاسِيلُهُ ضَعِيفَةٌ.
وَقَدْ عَزَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا إِلَى أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَازِيًا إِيَّاهُ إِلَى عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمِ - قَالَ: وَصَحَّحَهُ - وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَذُكِرَ مِثْلُهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ مِنْ تَخْرِيجِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَفِيهِ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " إِلَخْ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " وَلَفَظُ مُسْلِمٍ " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافُهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".
قَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ تَبَعًا لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ (أَقُولُ: وَكَذَا النَّسَائِيُّ) مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمُ " الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُخْتَصَرًا فَزَادَ فِيهِ: فَنَزَلَتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) انْتَهَى وَأَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ هَذَا ثِقَةٌ، رَوَى عَنْهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
وَنَصُّ سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَالَ رَجُلٌ: فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثَةً فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ;
أَمَرْتُكُمْ بِالشَّيْءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِشَيْءٍ فَخُذُوا بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ " رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الْحَجِّ وَأَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: " كُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ، لَوَجَبَتْ ثُمَّ إِذَنْ لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تُطِيعُونَ وَلَكِنَّهُ حِجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ نَقَلَ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْحَجِّ كَانَ يَوْمَ خَطَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثْنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) قَالَ: " هِيَ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ كَذَا وَلَا كَذَا " قَالَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْآيَاتِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ)، قَالَ فَقَالَتْ: قَدْ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ بِخِلَافِ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا لَكَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: هِيهْ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ إِكْثَارِ السَّائِلِينَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، كَمَسْأَلَةِ ابْنِ حُذَافَةَ إِيَّاهُ مَنْ أَبَوْهُ، وَمَسْأَلَةِ سَائِلِهِ إِذَا قَالَ " إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ " أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَعَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَغَيْرُ بَعِيدٍ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَكِنَّ الْأَخْبَارَ الْمُتَظَاهِرَةَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِخِلَافِهِ، ذَكَرَ هُنَا الْقَوْلَ بِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي كَانَتْ فِيمَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنَ الَمَسَائِلِ الَّتِي كَرِهَ اللهُ لَهُمُ السُّؤَالَ عَنْهَا إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَفِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ صِحَاحٌ فَوَجَبَ تَرْجِيحُهَا، وَيُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ سَنَدِ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ ; لِأَنَّ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاوِيهَا عَنْهُ قَدْ ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ مَرَّةً: لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تُكُلِّمَ فِي سُوءِ حِفْظِهِ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِيهِ: مَرَّةً صَالِحٌ وَمَرَّةً ثِقَةٌ.
وَالطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النُّهَى فِي الْآيَةِ
يَشْمَلُ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَكُلَّ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَانَ سَبَبًا حَقِيقِيًّا، بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَيَشْمَلُهُ عُمُومُهَا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الرُّوَاةِ بِمَعْنَاهُ فَيَجِيءُ مَنْطُوقُهُ مُتَعَارِضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا، وَأَبْعَدُ مَا قِيلَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ: " فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: سَلُونِي " فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ لِهَذَا الْإِحْفَاءِ وَالْإِغْضَابِ الَّذِي آذَوْا بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ مَا شَرَطَ فِي النَّهْيِ وَمَا عَلَّلَ بِهِ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ لِلرِّوَايَاتِ وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا يَأْتِي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (أَشْيَاءَ) اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعٌ لِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَهِيَ أَهَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَشْمَلُ السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهَا ذِكْرُ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَدَقَائِقِ التَّكَالِيفِ، يَلِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ أَوِ الْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَغْرَاضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُهَا سَبَبًا لِلْمَسَاءَةِ، إِمَّا بِشِدَّةِ التَّكَالِيفِ وَكَثْرَتِهَا، وَإِمَّا بِظُهُورِ حَقَائِقَ تَفْضَحُ أَهْلَهَا، وَلَكِنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ " تَسْأَلُوا " يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ وَلَا تَسْأَلُوا غَيْرَ الرَّسُولِ عَنْ أَشْيَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُهَا مَسَاءَتَكُمْ، فَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الْفُضُولِ وَمَا لَا يُغْنِي الْمُؤْمِنَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ شَرْطَ " إِنْ " مِمَّا لَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ، وَالْجَزَاءُ تَابِعٌ لِلشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) دُونَ " إِذَا
أُبْدِيَتْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " دَالًّا عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ إِبْدَائِهَا وَكَوْنَهُ يَسُوءُ كَافٍ فِي وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا.
وَبِهَذَا سَقَطَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَمْثِلَةَ الْمَائِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْوَارِدَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ إِبْدَائِهَا يَسُوءُ السَّائِلِينَ عَنْهَا، بَلْ يَحْتَمِلُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسُرُّ، وَقَدْ كَانَ جَوَابُ مَنْ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ سَارًّا لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ إِذْ كَانَ جَوَابُهُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَعَنِ الْأُمَّةِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا فِي كُلِّ عَامٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سَائِلٍ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَلَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ،
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ " وَيْحَكَ مَاذَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ؟ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ " إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ: " وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَفَرْتُمْ، أَلَا إِنَّهُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَئِمَّةُ الْحَرَجِ " فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ احْتِمَالِ قَوْلِهِ: " نَعَمْ " كَانَ كَافِيًا فِي جَوَابِ تَرْكِ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي سُؤَالِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ عَنْ أَبِيهِ قَوْلُهُ لَهُ: " مَا رَأَيْتُ وَلَدًا أَعَقَّ مِنْكَ، أَتَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ؟ " وَسَيَأْتِي رَأْيُنَا فِي جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ حُذَافَةَ.
(وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أَيْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ جِنْسِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُهَا مِمَّا يَسُوؤُكُمْ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِهَا أَوْ حُكْمِهَا لِأَجْلِ فَهْمِ مَا نُزِّلَ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ يُبْدِيهِ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَبِنَحْوِ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَإِنَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ تَفْسِيرِ صَدْرِ الْآيَةِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا نَصُّهُ:
" يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِينِ نَهَاهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَسْأَلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ عَنْ فَرَائِضَ لَمْ يَفْرِضْهَا عَلَيْهِمْ، وَتَحْلِيلِ أُمُورٍ لَمْ يُحَلِّلْهَا لَهُمْ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ لَمْ يَحَرِّمْهَا عَلَيْهِمْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ السَّائِلُونَ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ رَسُولِي مِمَّا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ كِتَابًا وَلَا وَحْيًا لَا تَسْأَلُوا عَنْهُ،
فَإِنَّكُمْ إِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لَكُمْ تِبْيَانٌ بِوَحْيٍ وَتَنْزِيلٍ سَاءَكُمْ; لِأَنَّ التَّنْزِيلَ بِذَلِكَ إِذَا جَاءَكُمْ فَإِنَّمَا يَجِيئُكُمْ بِمَا فِيهِ امْتِحَانُكُمْ وَاخْتِبَارُكُمْ، إِمَّا بِإِيجَابِ عَمَلٍ عَلَيْكُمْ، وَلُزُومِ فَرْضٍ لَكُمْ، وَفِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشَقَّةٌ، وَلَوْمٌ وَمُؤْنَةٌ وَكُلْفَةٌ، وَإِمَّا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يَأْتِ بِتَحْرِيمِهِ وَحْيٌ كُنْتُمْ مِنَ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ فِي فُسْحَةٍ وَسَعَةٍ، وَإِمَّا بِتَحْلِيلِ مَا تَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ، وَفِي ذَلِكَ لَكُمْ مَسَاءَةٌ لِنَقْلِكُمْ عَمَّا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ حَقًّا إِلَى مَا كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ بَاطِلًا، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنْهَا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَبَعْدَ ابْتِدَائِكُمْ شَأْنَ أَمْرِهَا فِي كِتَابِي إِلَى رَسُولِي إِلَيْكُمْ بَيَّنَ عَلَيْكُمْ مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ مِنْ إِتْيَانِ كِتَابِي وَتَأْوِيلِ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي.
" وَذَلِكَ نَظِيرُ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا، ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ: " أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأْنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ يَنْزِلُ بِسُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مُجْمَلَةً فَسَأَلْتُمْ عَنْ بَيَانِهَا بُيِّنَتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ لِاحْتِيَاجِكُمْ إِلَيْهَا (عَفَا اللهُ عَنْهَا) أَيْ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ فَاسْكُتُوا أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا سَكَتَ عَنْهَا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا ".
أَقُولُ: أَمَّا حَدِيثُ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " وَفِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ: " دَعُونِي " فَهُوَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ وَسَبَبُهُ السُّؤَالُ عَنِ الْحَجِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ فَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ إِلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَلَا أَشَارَ إِلَى مَنْ خَرَّجَهُ، وَهُوَ فِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَأَوْرَدَهُ صَاحِبُ مِشْكَاةِ الْمَصَابِيحِ عَنْهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ: وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا ".
وَرُوِّينَاهُ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ عَنْهُ بِلَفْظِ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا " قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَانٍ فِي مَعْنَى الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ تَسْأَلُوا عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَعَهْدِ التَّشْرِيعِ يُظْهِرْهَا اللهُ لَكُمْ إِنْ كَانَتِ اعْتِقَادِيَّةً بِبَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ فِيهَا،
اللهُ إِلَيْكُمْ، وَيُقَيِّدُكُمْ بِقُيُودٍ أَنْتُمْ فِي غِنًى عَنْهَا وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا الْمَبْحَثِ قَرِيبًا عَقِبَ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
فَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي إِبْدَاءَهَا لَكُمْ، وَإِبْدَاؤُهَا يَقْتَضِي مَسَاءَتَكُمْ، فَيَجِبُ تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ.
وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ إِبْدَائِهَا أَنْ يَسُوءَ السَّائِلِينَ إِلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ فِي شَأْنِهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهِ إِجْمَالٌ وَأَرَدْتُمُ السُّؤَالَ عَنْ بَيَانِهِ لِيَظْهَرَ لَكُمْ ظُهُورًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، كَمَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ تَقَدَّمَ بَيَانَهُ بِالتَّفْصِيلِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا جَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ تِلْكَ بِشَرْطِهِ لَا عَلَى وُجُوبِهِ، فَالسُّؤَالُ عَمَّا ذُكِرَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بِإِطْلَاقٍ.
وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا تَشْرِيعًا جَدِيدًا، وَأَحْكَامًا تَزِيدُ فِي مَشَقَّةِ التَّكَالِيفِ، وَلَا يَظْهَرُ أَلْبَتَّةَ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لِمَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ إِجَابَةِ مُقْتَرَحِي الْآيَاتِ لِعِنَادِهِمْ وَمُشَاغَبَتِهِمْ، وَكَوْنِ الْإِجَابَةِ تَقْتَضِي هَلَاكَهُمْ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، كَمَا هِيَ سُنَّةٌ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ (فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّمَا هَذَا الْوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الِاقْتِرَاحَاتُ مِنَ الْكَافِرِينَ (قُلْنَا) : لَوْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فَهِمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ إِلَى مَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْآيَاتِ لَوُجِدَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقْتَرِحُ ذَلِكَ لِمَا لِلنُّفُوسِ مِنَ الشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَةِ الْآيَاتِ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا إِخْبَارًا عَنْ أَسْرَارٍ خَفِيَّةٍ وَأُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ، فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ كُلٌّ مِنَ الْجَوَابَيْنِ مِثْلَ ظُهُورِهِ فِي طَلَبِ الْأَحْكَامِ، وَلَا سِيَّمَا الْأَشْيَاءُ الشَّخْصِيَّةُ كَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ عَنْ أَبِيهِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ فَوَجْهُهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ زَمَنَ نُزُولِ الْقُرْآنِ هُوَ زَمَنُ بَيَانِ الْمُغَيَّبَاتِ وَإِظْهَارِهَا،
الْمُنَاسَبَةِ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَبُوكَ الشَّرْعِيُّ مَنْ وُلِدْتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ السُّؤَالِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (٢: ١٨٩) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج٢).
وَهَذَهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَقَدْ غَفَلَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِهِ كَالْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْأَحْكَامُ. وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ - دَعْ تَرْكَهُ وَعَدَمَهُ - يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الْمُرَادِ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِهِ تَرْكُهُ الِاجْتِهَادَ لِلنَّاسِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ كَسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ نَاقَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ غَايَةً فِي خَفَاءِ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ فَحِكْمَتُهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ إِبْدَاءِ الْجَوَابِ لِلسَّائِلِ الْمُؤْمِنِ رُبَّمَا كَانَ مُشَكِّكًا لَهُ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ أَبُو السُّعُودِ مَذْهَبًا غَرِيبًا فِي الْآيَةِ وَتَعْلِيلِ إِبْدَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا بِمَا يُوجِبُ الْمَسَاءَةَ فِي كُلِّ نَوْعَيْهَا، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَغُمُّهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لَا يُطِيقُونَهَا، وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَفْتَضِحُونَ بِظُهُورِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِبْدَائِهَا، كَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنِ التَّكَالِيفِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّشْدِيدِ لِإِسَاءَتِهِمُ الْأَدَبَ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ، وَتَجَاوُزِهِمْ عَمَّا يَلِيقُ بِشَأْنِهِمْ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ فِيهِ وَلَا تَعَرُّضٍ لِكَيْفِيَّتِهِ وَكِمِّيَّتِهِ. اهـ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ إِيرَادَاتٍ وَأَجَابَ عَنْهَا فَقَالَ:
(إِنْ قُلْتَ) : تِلْكَ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمَسَاءَةِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِإِيجَابِ الْمَسَرَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِيجَابَهَا لِلْأُولَى إِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ وَجُودُهَا فَهِيَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُهَا مُوجِبَةٌ لِلْأُخْرَى قَطْعًا، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الْحَيْثِيَّتَيْنِ مُحَقَّقَةً عِنْدَ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ مِنَ
السُّؤَالِ ظُهُورُهَا كَيْفَ كَانَتْ، بَلْ ظُهُورُهَا بِإِيجَابِهَا لِلْمَسَاءَةِ؟
(إِنْ قِيلَ) : الشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَسَاءَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْدَائِهَا أَلْبَتَّةَ كَمَا مَرَّ، فَلِمَ تَخَلَّفَ الْإِبْدَاءُ عَنِ السُّؤَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَجِّ حَيْثُ لَمْ يُفْرَضْ فِي كُلِّ عَامٍ؟
(قُلْنَا) : لِوُقُوعِ السُّؤَالِ وَوُرُودِ النَّهْيِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الشَّرْطِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ السُّؤَالُ الْوَاقِعُ بَعْدَ وُرُودِهِ، إِذْ هُوَ الْمُوجِبُ لِلتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ، وَلَا تَخَلُّفَ فِيهِ.
(إِنْ قِيلَ) : مَا ذَكَرْتَهُ إِنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إِذَا كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ كَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَهُ فَلَا يَكَادُ يَتَمَشَّى؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْدَاءُ هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مَرَدَّ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ السُّؤَالُ قَبْلَ النَّهْيِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَاقِعُ مَا يُوجِبُ الْمَسَرَّةَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ، فَيَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْدَاءُ لَا غَيْرُهُ، فَيَتَعَيَّنُ التَّخَلُّفُ حَتْمًا.
(قُلْنَا) : لَا احْتِمَالَ لِلتَّخَلُّفِ فَضْلًا عَنِ التَّعَيُّنِ، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ السُّؤَالُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَسَاءَةِ الْوَاقِعَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَبْلَ السُّؤَالِ، كَسُؤَالِ مَنْ قَالَ: أَيْنَ أَبِي؟ لَا عَمَّا يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاقِعٍ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِلْوُقُوعِ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْوُقُوعِ، اهـ.
وَحَاصِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ يَسُوؤُهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ دُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُرُّهُمْ أَوْ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلْمَسَرَّةِ وَالْمَسَاءَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ السُّؤَالِ قَلَّمَا يَقَعُ مِنْ أَحَدٍ وَأَنَّ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّشْدِيدِ، عُقُوبَةً لَهُ وَلِجَمِيعِ الْأُمَّةِ عَلَى إِسَاءَةِ أَدَبِهِ، وَإِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، غَيْرُ مُنْطَبِقٍ عَلَى عُمُومِ الرَّحْمَةِ وَيُسْرِ الشَّرْعِ، وَقَدْ غَفَلَ قَائِلُهُ عَفَا اللهُ عَنْهُ عِنْدَ كِتَابَتِهِ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُفَكِّرْ إِلَّا فِي ظَوَاهِرِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَلَا نَتَوَسَّعُ فِي بَسْطِ الِاعْتِرَاضِ
عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِتَقْرِيرِ الصَّوَابِ الَّذِي هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا) : مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ، وَنَقَلْنَا مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي نَهَيْتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا هِيَ مِمَّا عَفَا اللهُ عَنْهُ بِسُكُوتِهِ
(ثَانِيهُمَا) : أَنَّ مَعْنَاهُ عَفَا اللهُ عَمَّا كَانَ مِنْ مَسْأَلَتِكُمْ قَبْلَ النَّهْيِ فَلَا يُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ وَحِلْمِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ فِيمَا يُشَابِهُ هَذَا السِّيَاقَ: (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) (٥: ٩٥) وَقَوْلِهِ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) (٤: ٢٢، ٢٣) وَلَا مَانِعَ عِنْدَنَا يَمْنَعُنَا مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، فَإِنَّ كُلَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ وَالْكِنَائِيَّةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْهَا مُجْتَمِعَةً تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ مُنْفَرِدَةً مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ، كَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَعَانِي مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مُرَادَةً بَلْ يُرَجَّحُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِطُرُقِ التَّرْجِيحِ مِنْ لَفْظِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أَيْ قَدْ سَأَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْهَا أَوْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ أَيْ أَمْثَالَهَا قَوْمٌ مَنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بَعْدَ إِبْدَائِهَا لَهُمْ كَافِرِينَ بِهَا، فَإِنَّ الَّذِينَ أَكْثَرُوا السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا بُيِّنَ لَهُمْ مِنْهَا بَلْ فَسَقَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَرَكُوا شَرْعَهُ لِاسْتِثْقَالِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى اسْتِنْكَارِهِ وَاسْتِقْبَاحِهِ أَوْ إِلَى جُحُودِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَالَّذِينَ سَأَلُوا الْآيَاتِ كَقَوْمِ صَالِحٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ إِيَّاهَا بَلْ كَفَرُوا وَاسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَالْأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ كَالْآيَاتِ أَوْ مِنْهَا، وَقَدِ اقْتَصَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلُوهَا وَكَفَرُوا بِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهَا
الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ قَرَّرْنَاهُمَا آنِفًا وَاسْتَشْهَدَ لِلْأَوَّلِ بِمَسْأَلَةِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ لَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةً لِمَا قَبْلَهَا وَبَيَانًا لِسَبَبِ ذَلِكَ النَّهْيِ الْجَامِعِ لِلْمَعْنَيَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَجِّ مِنْ كَوْنِ فَرْضِهِ كُلَّ عَامٍ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا وَبَيَّنَاهُ وَلَمْ نَرَ أَحَدًا سَبَقَنَا إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا لَمْ نَرَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ.
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَسَّعُوا بِأَقْيِسَتِهِمْ دَائِرَةَ التَّكَالِيفِ وَانْتَهَوْا بِهَا إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكُومَاتِهِمْ لِلشَّرِيعَةِ بِجُمْلَتِهَا، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ انْتِقَادِهَا وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا، فَاتَّبَعُوا بِذَلِكَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ عَقْدِ فَصْلٍ خَاصٍّ فِي تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ.
كَوْنُ كَثْرَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى نُصُوصِ الشَّارِعِ وَالتَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُخِلًّا بِيُسْرِ الْإِسْلَامِ وَمُنَافِيًا لِمَقْصِدِهِ.
نَفْتَتِحُ هَذَا الْفَصْلَ بِمُقْدِمَاتٍ مِنَ الْمَسَائِلِ أَكْثَرُهُنَّ مَقَاصِدُ لَا وَسَائِلُ، يَتَجَلَّى بِهِنَّ الْمُرَادُ وَيَتَمَيَّزُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ.
(١) إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ دِينَهُ وَأَتَمَّ بِهِ نِعْمَتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ وَبِمَا قَامَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلَ الْقِيَامِ مِنْ بَيَانِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَنْزِيلِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَطْعِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفَصِّي الْقَوْلِ فِيهَا فِي تَفْسِيرِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٥: ٣) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
(٢) إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ قَدْ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ الْحَرَجَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سِيَاقِ آيَاتِ الصِّيَامِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النَّصَّيْنِ، وَسَيَأْتِي نَصٌّ آخَرُ فِي مَعْنَى نَصِّ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (٨٧: ٨) أَيِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَفْضُلَ
غَيْرَهَا بِالْيُسْرِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ: " لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا " وَجَعَلَ الدِّينَ عَيْنَ الْيُسْرِ مُبَالِغَةً فِي يُسْرِهِ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ " إِلَخْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحَبُّ الدِّينِ وَفِي لَفْظٍ: الْأَدْيَانِ إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَةِ أَحَدِ أَبْوَابِ الصَّحِيحِ تَعْلِيقًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ: (لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثٍ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ.
(٣) إِنَّ الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (٦: ٣٨) وَقَالَ: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (١٦: ٨٩) وَأَمَّا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ وَالْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِمَّا جَاءَ فِيهِ مُجْمَلًا، قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (٤٢: ٤٨) وَقَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَقَالَ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) (٤: ١٠٥).
وَنَقُولُ: لَا يَتَّجِهُ الْخِلَافُ إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْمَدَنِيَّةُ وَالسِّيَاسِيَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ فَقَدْ أُمِرَ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيهَا، وَكَانَ يَرَى الرَّأْيَ فَيَرْجِعُ عَنْهُ لِرَأْيِ أَصْحَابِهِ، وَعَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلَهَا بِرَأْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ
فِي غَزَوَاتِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَتَبُوكَ، وَلَا يَتَأَتَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ بِوَحْيٍ.
(٤) الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيمَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ تَلْقِيحِ النَّخْلِ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فَتَرَكَهُ بَعْضُهُمْ لِظَنِّهِ فَخَسِرَ مَوْسِمَهُ: " إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ " وَقَالَ أَيْضًا: " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " وَقَالَ أَيْضًا: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(٥) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ فَوَّضَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أُمُورَ دُنْيَاهُمُ الْفَرْدِيَّةَ وَالْمُشْتَرِكَةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، بِشَرْطِ أَلَّا تَجْنِيَ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَهَدْيِ شَرِيعَتِهِمْ فَجَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩) وَقَوْلِهِ: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (٤٥: ١٣) وَجَعَلَ أُمُورَ سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحُكُومَتِهَا شُورَى، إِذْ قَالَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِجَالُ الشُّورَى بِالتَّبَعِ لِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَأَرْشَدَ إِلَى رَدِّ أُمُورِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ وَالْإِدَارَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) وَتَفْسِيرَ: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣)
وَأَمَّا أَدِلَّةُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فَأَعْظَمُهَا وَأَظْهَرُهَا سِيرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالسِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ بِمُشَاوَرَةِ أُولِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ وَالْمَكَانَةِ الْمُحْتَرَمَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا إِذْنُهُ لِمُعَاذٍ عِنْدَ إِرْسَالِهِ إِلَى الْيَمَنِ
بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقَضَاءِ، وَحَدِيثُ: " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ تَابَعَاهُ عَلَيْهِ.
(٦) إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ لِتَكْمِيلِ الْبَشَرِ، فِي أُمُورِهِمُ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُورُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَتَمَّهَا اللهُ تَعَالَى وَأَكْمَلَهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهَا النُّصُوصُ، فَلَيْسَ لِبَشَرٍ بَعْدَ الرَّسُولِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا.
وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بَيَّنَ الْإِسْلَامُ أَهَمَّ أُصُولِهَا، وَمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ فُرُوعِهَا، وَكَانَ مِنْ إِعْجَازِ هَذَا الدِّينِ وَكَمَالِهِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ ذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَهْدِي أُولِي الْأَمْرِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ، بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّورَى وَالِاجْتِهَادِ.
(٧) مَنْ تَدَبَّرَ مَا تَقَدَّمَ تَظْهَرْ لَهُ حِكْمَةُ مَا كَانَ مِنْ كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَنِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا كَثْرَةَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّشْدِيدَ فِي الدِّينِ، أَوْ بَيَانَ أَحْكَامٍ دُنْيَوِيَّةٍ رُبَّمَا تُوَافِقُ ذَلِكَ الْعَصْرَ وَلَا تُوَافِقُ مَصَالِحَ الْبَشَرِ بَعْدَهُ، وَقَدْ
(٨) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَذُمُّونَ الْإِحْدَاثَ وَالِابْتِدَاعَ،
وَيُوصُونَ بِالِاعْتِصَامِ وَالِاتِّبَاعِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الرَّأْيِ وَالْقِيَامِ فِي الدِّينِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى وَيَتَحَامَوْنَهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا سُئِلُوا عَمَّا لَمْ يَقَعْ، وَلَكِنْ بَعْضُ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَأَكْثَرُوا مِنَ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ الْكَثِيرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا، فَجَاءَ بَعْضُ الْفُرُوعِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ مُخَالَفَةً بَيِّنَةً، وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُوَافِقٍ وَلَا مُخَالِفٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَسَكَتَ عَنْ بَيَانِهِ رَحْمَةً لَا نِسْيَانًا كَمَا وَرَدَ، وَقَدْ وَضَعُوا لِلِاسْتِنْبَاطِ أُصُولًا وَقَوَاعِدَ مِنْهَا الصَّحِيحُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَمِنْهَا مَا لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ تِلْكَ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَوْلِهِ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ بَدَدًا، وَسَلَكُوا إِلَيْهِ طَرَائِقَ قِدَدًا، فَكَثُرَتِ التَّكَالِيفُ حَتَّى تَعَسَّرَ تَعَلُّمُهَا، فَمَا الْقَوْلُ فِي عُسْرِ الْعَمَلِ بِهَا؟ فَتَسَلَّلَ مِنْهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، وَنَقَصَتْ مِنْ عَقْلِهَا الْحُكُومَاتُ، وَكَثُرَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَا الشُّبَهَاتُ، وَكَانَتْ فِي طَرِيقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ أَصْعَبُ الْعَقَبَاتِ، وَلَوْ سَلَكَ الْمُتَأَخِّرُونَ طَرِيقَ السَّلَفِ حَتَّى أَئِمَّةِ أَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ وَالرُّجُوعِ إِلَى صَحِيحِ الْمَأْثُورِ، وَرَدِّ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَاهُ.
(٩) إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ تَوْحِيدٍ وَاجْتِمَاعٍ، وَقَدْ نَهَى أَشَدَّ النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ قَالَ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (٣: ١٠٣) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (٣: ١٠٥) وَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٦: ١٥٩) وَقَالَ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠: ٣١، ٣٢) وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهَا مِنْهُ وَمِنَ السُّنَّةِ بِرَادِعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَمَا كَانَ التَّفَرُّقُ إِلَّا مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى دَخَلُوا جُحْرَ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلُوهُ قَبْلَهُمْ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلِّدُونَ وَأَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ الَّتِي كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسْبِيهَا فَقَالُوا بِالرَّأْي فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " وَقَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ بِالْحُسْنِ، وَنَقَلَ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ
مَرْفُوعٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
(١٠) مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ قَطُّ، أَمَّا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَفْتَتِنْ بِالْبِدَعِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي عَصْرِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَكَانَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَلَى الْحَقِّ، وَلَمَّا ضَعُفَ الْحَقُّ وَارْتَفَعَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ فِي الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَفُشُوِّ الْجَهْلِ بِتَقْلِيدِ الْجَمَاهِيرِ حَتَّى لِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، كَانَ يُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى الْحَقِّ مُقِيمَةٌ لِلسُّنَّةِ خَاذِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَلِغُرْبَةِ الْإِسْلَامِ صَارَ هَؤُلَاءِ غُرَبَاءَ فِي النَّاسِ، وَكَانُوا فِي اعْتِصَامِهِمْ بِالْحَقِّ وَفِي غُرْبَتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِصْدَاقًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَوْ خَلَتِ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَانْفَرَدَ بِتَعْلِيمِ الدِّينِ وَالتَّصْنِيفِ فِيهِ الْمُقَلِّدُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْمَذَاهِبِ، الَّذِينَ جَعَلُوا كَلَامَ مُقَلِّدِيهِمْ أَصْلًا فِي الدِّينِ، يَرُدُّونَ إِلَيْهِ أَوْ لِأَجْلِهِ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَيُضَعِّفُونَ الصَّحِيحَ وَيُصَحِّحُونَ السَّقِيمَ، لَعَمِيَتِ السَّبِيلَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى دِينِ اللهِ الْقَوِيمِ.
إِنَّمَا أَعْنِي بِأَهْلِ الْحَقِّ وَأَنْصَارِ السُّنَّةِ مَنْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَدَعَوْا إِلَيْهِ وَأَنْكَرُوا عَلَى مُخَالِفِيهِ وَقَرَّرُوهُ بِالتَّدْرِيسِ وَالتَّأْلِيفِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ "، وَفِي لَفْظٍ: " حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ " وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ زِيَادَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَبَاءِ وَهِيَ: " الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي " وَقَدْ وُجِدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَرَفُوا الْحَقَّ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ، وَلَا أَنْكَرُوا عَلَى مُخَالِفِيهِ
لِضَعْفٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، أَوْ خَوْفٍ عَلَى جَاهِهِمْ وَكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَ بَعْضَ الْحَقِّ وَلَمْ يُوَفَّقْ لِتَمْحِيصِهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ كُتُبًا خَلَطُوا فِيهَا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ أَنْصَارَ السُّنَّةِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ، مِنْهُمُ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ وَلَيِّنُ الْقَوْلِ وَخَشِنُهُ، وَالْمُبَالِغُ وَالْمُقْتَصِدُ، وَقَدْ فَضُلَتِ الْأَنْدَلُسُ الشَّرْقَ بَعْدَ خَيْرِ الْقُرُونِ بِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْهُمْ قَوِيِّ الْعَارِضَةِ شَدِيدِ الْمُعَارَضَةِ، بَلِيغِ الْعِبَارَةِ، بَالِغِ الْحُجَّةِ أَلَا وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ مُجَدِّدُ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ، أَلَّفَ كُتُبًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، هَدَمَ بِهَا الْقِيَاسَ، وَبَيَّنَ إِحَاطَةَ النُّصُوصِ بِالْأَحْكَامِ أَبْلَغَ بَيَانٍ،
لَمْ يَجِئْ بَعْدَ الْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ مَنْ يُسَامِيهِ أَوْ يُسَاوِيهِ فِي سَعَةِ عِلْمِهِ وَقُوَّةِ حُجَّتِهِ وَطُولِ بَاعِهِ وَحِفْظِهِ لِلسُّنَّةِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُجَدِّدُ الْقَرْنِ السَّابِعِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَدِ اسْتَفَادَ مَنْ كُتُبِ ابْنِ حَزْمٍ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا
وَحَرَّرَ مَا كَانَ مِنْ ضَعْفٍ فِيهَا، وَكَانَ عَلَى شِدَّتِهِ فِي الْحَقِّ مِثْلَهُ أَنْزَهَ مِنْهُ قَلَّمَا أَوْ أَكْثَرَ أَدَبًا مَعَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْقِيَاسَ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلنُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لَهَا بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِيمَا نَعْلَمُ.
وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَيِّمِ وَارِثَ عِلْمِ أُسْتَاذِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمُوَضِّحَهُ، وَكَانَ أَقْرَبَ مِنْ أُسْتَاذِهِ إِلَى اللِّينِ وَالرِّفْقِ بِالْمُبْطِلِينَ وَالْمُخْطِئِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَصَانِيفُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ، وَلَمْ يَلْقَ مِنَ الْمُقَاوَمَةِ وَالِاضْطِهَادِ مَا لَقِيَ أُسْتَاذُهُ بِتَعَصُّبِ مُقَلِّدَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ، وَجَهْلِ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ.
وَإِنَّ أَنْفَعَ مَا كُتِبَ بَعْدَهُمْ لِأَنْصَارِ السُّنَّةِ كِتَابُ (فَتْحِ الْبَارِي) شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ لِقَامُوسِ السُّنَّةِ الْمُحِيطِ الْحَافِظِ أَحْمَدَ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ شَيْخِ الْحُفَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ بِمِصْرَ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ يَخْدِمُ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ وَزُبْدَةِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْآدَابِ، وَمِنْ أَنْفَعِهَا فِي كُتُبِ فِقْهِ الْحَدِيثِ كِتَابُ (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) شَرْحِ مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ، وَمِنْ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ كِتَابُ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) كِلَاهُمَا لِلْإِمَامِ
فَهَؤُلَاءِ أَشْهَرُ أَعْلَامِ الْمُصْلِحِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ الَّذِينَ تُعَدُّ كُتُبُهُمْ أَعْظَمَ مَادَّةٍ لِلْإِصْلَاحِ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَمِنْ دُونِهِمْ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُفَّاظِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَكُلِّ قُطْرٍ، وَقَدِ اكْتَفَيْنَا بِذِكْرِ مَنِ اعْتَمَدْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي هَذَا الْبَحْثِ وَهِيَ أَمْتَعُ الْكُتُبِ فِيهِ، وَإِنَّ حُسْنَ اخْتِيَارِ الْكُتُبِ نِصْفُ الْعِلْمِ.
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَإِنَّنَا نَنْقُلُ لِلْقُرَّاءِ بَعْدَهُ مُلَخَّصَ مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي مَسْأَلَةِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ أَشْهَرِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا. ثُمَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْقِيَاسِ،
ثُمَّ خُلَاصَةَ مَا حَرَّرَهُ الْعَلَامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ كَلَامِ شَيْخِهِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ. ثُمَّ مَا اعْتَمَدَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ فِيهَا. ثُمَّ نَأْتِي بِخُلَاصَةِ الْخُلَاصَةِ الَّتِي عَقَدْنَا لَهَا هَذَا الْفَصْلَ.
(أَحَادِيثُ الْبُخَارِيِّ فِي كَرَاهَةِ السُّؤَالِ).
عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا فِي كِتَابِ الِاعْتِصَامِ عُنْوَانُهُ: بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَمِنْ تَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أَوْرَدَ فِيهِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ:
(أَوَّلُهَا) : حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوعًا: " إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: " إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا " إِلَخْ.
(الثَّانِي) : حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ فَفَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ. فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ ".
(الثَّالِثُ) : حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ وَهُوَ فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَنْسٍ فِي ذَلِكَ، (ص ١١٠ ط الْهَيْئَةِ).
(الرَّابِعُ) : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الَّذِي كَتَبَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَمَّا سَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ مَا
(الْخَامِسُ) : قَوْلُ عُمَرَ: " نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ " فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَسَبَبُهُ كَمَا أَخْرَجَهُ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَبِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) (٨٠: ٣١) فَقَالَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: " مَا بُيِّنَ لَكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِهِ وَمَا لَا فَدَعُوهُ " وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الْأَبَّ عِنْدَ عُمَرَ بِمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ أَيْ مِنَ النَّبَاتِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، قِيلَ: إِنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْهَا عُمَرُ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، كَمَا رُوِيَ بِسَنَدَيْنِ مُنْقَطِعَيْنِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ قُرَشِيَّةٍ أَوْ غَيْرُ حِجَازِيَّةٍ. وَلِذَلِكَ عَرَّفَهَا
ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
(السَّادِسُ وَالسَّابِعُ) : حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي سَبَبِ نُزُولِ (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) الْآيَةَ. (ص ١٠٧).
(الثَّامِنُ) : حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " وَرَوَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ فِي بَابِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ قَفَّى الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْبَابِ بَابَ الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَابَ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ، فَبَابَ إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، أَيْ مُبْتَدِعًا، فَبَابَ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ.
خُلَاصَةُ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبَابِ الَّذِي سَرَدْنَا أَحَادِيثَ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مَا نَصُّهُ:
" وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى حَدِيثِ سَعْدٍ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَقَالَ: سَنَدُهُ صَالِحٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: " مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ يَنْسَى شَيْئًا " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (١٩: ٦٤).
" وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَفَعَهُ: " إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ لَا تَبْحَثُوا عَنْهَا "،
" وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتٍ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، وَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْغَافِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَمَضَى فِي قِصَّةِ اللَّعَّانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا.
" وَلِمُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: " أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدِمَ وَافِدًا فَاسْتَمَرَّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لِيُحَصِّلَ الْمَسَائِلَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ صِفَةِ الْوَفْدِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْإِقَامَةِ فَيَصِيرَ مُهَاجِرًا، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ غَيْرُ الْأَعْرَابِ وُفُودًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ.
" وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) الْآيَةَ. كُنَّا قَدِ اتَّقَيْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْنَا أَعْرَابِيًّا فَرَشَوْنَاهُ بِرِدَاءٍ وَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
" وَلِأَبِي يَعْلَى عَنِ الْبَرَاءِ " أَنْ كَانَ لَتَأْتِي عَلِيَّ السَّنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّيْءِ فَأتَهَيَّبَ، وَإِنْ كُنَّا لِنَتَمَنَّى الْأَعْرَابَ؛ أَيْ قُدُومَهُمْ لِيَسْأَلُوا فَيَسْمَعُوا هُمْ أَجْوِبَةَ سُؤَالَاتِ الْأَعْرَابِ فَيَسْتَفِيدُوهَا ".
" وَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَسْئِلَةِ الصَّحَابَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا تَقَرَّرَ حُكْمُهُ أَوْ مَا لَهُمْ بِمَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ رَاهِنَةٌ، كَالسُّؤَالِ عَنِ الذَّبْحِ بِالْقَصَبِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ إِذَا أَمَرُوا بِغَيْرِ الطَّاعَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَالْأَسْئِلَةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، كَسُؤَالِهِمْ عَنِ الْكَلَالَةِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْيَتَامَى وَالْمَحِيضِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنَّ الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِالْآيَةِ فِي كَرَاهِيَةِ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ فَحَقُّهَا أَنْ تُجْتَنَبَ.
" وَقَدْ عَقَدَ الْإِمَامُ الدَّارِمِيُّ فِي أَوَائِلِ مُسْنَدِهِ لِذَلِكَ بَابًا، وَأَوْرَدَ فِيهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ: " لَا تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَلْعَنُ
" وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ رَفَعَهُ: " لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا لَمْ يَزَلْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ " وَهُمَا مُرْسَلَانِ يُقَوِّي بَعْضٌ بَعْضًا. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ أَشْيَاخِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: " لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا عَمَّا لَمْ يُنَزَّلْ " الْحَدِيثَ نَحْوَهُ.
" قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَلَى قَسْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَهَذَا مَطْلُوبٌ لَا مَكْرُوهٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. (ثَانِيهُمَا) : أَنْ يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ، فَيُفَرِّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ، مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا، فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَرَأَوْا أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ جِدًّا. فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا كَانَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى، وَلَا سِيَّمَا إِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِغْفَالُ التَّوَسُّعِ فِي بَيَانِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ.
" وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ الْبَحْثُ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مَعَ تَرْكِ كَيْفِيَّتِهَا. وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، وَعَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ، وَالْكَثِيرُ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ، فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا تُوُقِّعَ كَثْرَةُ الْبَحْثِ عَنْهُ فِي الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ
خَلَقَ اللهَ؟ " وَهُوَ ثَامِنُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ.
" وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مِثَالُ التَّنَطُّعِ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ بَعْدَ أَنْ يُفْتِيَ بِالْإِذْنِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ السِّلَعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ، هَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ قَبْلِ الْبَحْثِ عَنْ مَصِيرِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَيُجِيبُهُ بِالْجَوَازِ، فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ قَدْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ،
" وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ يَسُدُّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى يَفُوتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا، فَإِنَّهُ يَقِلُّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهُ أَوْ يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَاهَاةَ وَالْمُغَالَبَةَ فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ، وَهُوَ عَيْنُ الَّذِي كَرِهَهُ السَّلَفُ.
" وَمَنْ أَمْعَنَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللهِ مُحَافِظًا عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَصَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَعَنْ مَعَانِي السُّنَّةِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ.
" وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى حَدَّثَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَعَارَضَتْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَتَوَلَّدَتِ الْبَغْضَاءُ وَتَسَمُّوا خُصُومًا وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْوَسَطُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي " فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ " فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يَجُرُّ إِلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى. وَالْإِنْصَافُ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْفَهْمِ وَالتَّحْرِيرِ، فَتَشَاغُلُهُ بِذَلِكَ
أَوْلَى مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَتَشَاغُلُهُ بِالْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدَّى، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُصُورًا، فَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى ; لِعُسْرِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْعِلْمَ، لَأَوْشَكَ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِإِعْرَاضِهِ. وَالثَّانِي لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعِبَادَةَ فَاتَهُ الْأَمْرَانِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْأَوَّلِ لَهُ وَإِعْرَاضِهِ بِهِ عَنِ الثَّانِي وَاللهُ الْمُوَفِّقُ " انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ.
أَقُولُ: لِلَّهِ دَرُّ الْحَافِظِ، فَإِنَّهُ أَتَى بِخُلَاصَةِ الْآثَارِ وَصَفْوَةِ مَا فَسَّرَهَا بِهِ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْلَا عُمُومُ افْتِتَانِ الْجَمَاهِيرِ بِالْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَلْأَى بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنِ الْخَوْضِ فِي مِثْلِهَا، وَأَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِهَا لَاكْتَفَيْنَا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمَا حَرَّرَهُ الْحَافِظُ فِي الشَّرْحِ، وَقُلْنَا فِيهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ جُمُودِ الْجَمَاهِيرِ عَلَى التَّقْلِيدِ، لَا يُزَلْزِلُهُ هَذَا الْقَوْلُ الْوَجِيزُ الْمُخْتَصَرُ الْمُفِيدُ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ كُلِّ هَذَا الْبَلَاءِ فِي النَّاسِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْمُحَلَّى:
(مَسْأَلَةٌ) وَلَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ وَلَا بِالرَّأْيِ ; لِأَنَّ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِالرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَحَّ، فَمَنْ رَدَّ إِلَى قِيَاسٍ أَوْ إِلَى تَعْلِيلٍ يَدَّعِيهِ أَوْ إِلَى رَأْيٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْإِيمَانِ، وَرَدَّ إِلَى غَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ.
(قَالَ عَلِيٌّ) : وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (٦: ٣٨) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (١٦: ٨٩) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٥: ٣) إِبْطَالٌ لِلْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا مَا دَامَ يُوجَدُ نَصٌّ. وَقَدْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ فَصَحَّ أَنَّ النَّصَّ قَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ
الدِّينِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ بِأَحَدٍ إِلَى قِيَاسٍ وَلَا إِلَى رَأْيٍ وَلَا إِلَى رَأْيِ غَيْرِهِ.
وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ: هَلْ كُلُّ قِيَاسٍ قَاسَهُ قَائِسٌ حَقٌّ؟ أَمْ مِنْهُ حَقٌّ وَمِنْهُ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ قَالَ: كُلُّ قِيَاسٍ حَقٌّ أَحَالَ; لِأَنَّ الْمَقَايِيسَ تَتَعَارَضُ وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَقًّا مَعًا، وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ كَالْأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَإِنْ قَالَ: بَلْ مِنْهَا حَقٌّ وَمِنْهَا بَاطِلٌ قِيلَ لَهُ: فَعَرِّفْنَا بِمَاذَا يُعْرَفُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنَ الْفَاسِدِ؟ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ.
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ الصَّحِيحِ مِنَ الْقِيَاسِ مِنَ الْبَاطِلِ مِنْهُ فَقَدْ بَطَلَ كُلُّهُ، وَصَارَ دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ.
فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، سُئِلُوا: أَيْنَ وَجَدُوا ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ إِلَّا التَّعَجُّبَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)
وَلَا كَيْفَ نَقِيسُ؟ وَلَا عَلَى مَاذَا نَقِيسُ؟ هَذَا مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وِسْعِ أَحَدٍ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦).
فَإِنْ ذَكَرُوا أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ فِيهَا تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَأَنَّ اللهَ قَضَى وَحَكَمَ بِأَمْرِ كَذَا مِنْ أَجْلِ أَمْرِ كَذَا، قُلْنَا لَهُمْ: كُلُّ مَا قَالَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَهُو حَقٌّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ، وَهُوَ نَصٌّ بِهِ نَقُولُ، وَكَيْفَمَا تُرِيدُونَ أَنْتُمْ أَنْ تُشَبِّهُوهُ فِي الدِّينِ، وَأَنْ تُعَلِّقُوهُ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ اللهُ تَعَالَى، وَلَا رَسُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِفْكٌ، وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى بِهِ. وَهَذَا يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ تَمْوِيهَهُمْ بِذِكْرِ آيَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَ " أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ " وَ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٥: ٣٢) وَكُلِّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ مَوَّهُوا بِإِيرَادِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي (كِتَابِ الْإِحْكَامِ لِأُصُولِ الْأَحْكَامِ) وَفِي (كِتَابِ النُّكَتِ) وَفِي (كِتَابِ الدُّرَّةِ) وَ (كِتَابِ النَّبْذِ).
(قَالَ عَلِيٌّ) : وَقَدْ عَارَضْنَاهُمْ فِي كُلِّ قِيَاسٍ قَاسُوهُ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ أَوْ أَوْضَحَ مِنْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ لِنُرِيَهُمْ فَسَادَ الْقِيَاسِ جُمْلَةً، فَمَوَّهَ مِنْهُمْ مُمَوِّهُونَ. فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ دَابًا تُبْطِلُونَ الْقِيَاسَ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا مِنْكُمْ رُجُوعٌ إِلَى الْقِيَاسِ وَاحْتِجَاجٌ بِهِ، وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَجِّ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ لِيُبْطِلَ حُجَّةَ الْعَقْلِ، وَبِدَلِيلٍ مِنَ النَّظَرِ لِيُبْطِلَ بِهِ النَّظَرَ.
(قَالَ عَلِيٌّ) فَقُلْنَا: هَذَا شَغَبٌ يَسْهُلُ إِفْسَادُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَنَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ
بِالْقِيَاسِ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَمَعَاذَ اللهِ مِنْ هَذَا، لَكِنْ أَرَيْنَاكُمْ أَنَّ أَصْلَكُمُ الَّذِي أَتَيْتُمُوهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ يَشْهَدُ بِفَسَادِ قِيَاسَاتِكُمْ، وَلَا قَوْلَ أَظْهَرَ بَاطِلًا مِنْ قَوْلٍ أَكْذَبَ نَفْسَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هَذَا فَقَالَ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) (٥: ١٨) فَلَيْسَ هَذَا تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَلَكِنْ إِلْزَامًا لَهُمْ مَا يَفْسُدُ بِهِ قَوْلُهُمْ. وَلَسْنَا فِي ذَلِكَ كَمَنْ ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي إِبْطَالِ حُجَّةِ الْعَقْلِ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ; لِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُصَحِّحُ الْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا، فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُ مِنْ قُرْبٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ غَيْرُهَا، فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَحْتَجَّ قَطُّ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ نُصَحِّحُهُ، وَلَكِنَّا نُبْطِلُ الْقِيَاسَ بِالنُّصُوصِ وَبَرَاهِينِ الْعَقْلِ. ثُمَّ نُزِيدُ بَيَانًا فِي فَسَادِهِ مِنْهُ نَفْسِهِ بِأَنْ نَرَى تَنَاقُضَهُ جُمْلَةً فَقَطْ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي نُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَكُمْ نَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِهِ وَفَسَادِ قِيَاسِكُمُ الَّذِي
وَهُمْ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا وَلَا كُلُّ رَأْيٍ حَقًّا، فَقُلْنَا لَهُمْ: فَهَاتُوا حَدَّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالرَّأْيِ الصَّحِيحِ الَّذَيْنِ
يَتَمَيَّزَانِ بِهِ مِنَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ. وَهَاتُوا حَدَّ الْعِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تَقِيسُونَ إِلَّا عَلَيْهَا مِنَ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَلَجْلَجُوا.
(قَالَ عَلِيٌّ) : وَهَذَا مَكَانُ إِنْ زَمَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِلَى جَوَابٍ يُفْهَمُ سَبِيلٌ أَبَدًا، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ أَتَوْا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِنَصٍّ قُلْنَا: النَّصُّ حَقٌّ، وَالَّذِي تُرِيدُونَ أَنْتُمْ إِضَافَتَهُ إِلَى النَّصِّ بِآرَائِكُمْ بَاطِلٌ، وَفِي هَذَا خُولِفْتُمْ، وَهَكَذَا أَبَدًا.
فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ قِيلَ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِهِ. بُرْهَانُ كَذِبِهِمْ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى وُجُودِ حَدِيثٍ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ أَبَدًا، إِلَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَإِنَّ فِيهَا: " وَاعْرَفِ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسِ الْأُمُورَ " وَهَذِهِ رِسَالَةٌ لَمْ يَرْوِهَا إِلَّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ سَاقِطٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَبُوهُ أَسْقَطُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي السُّقُوطِ، فَكَيْفَ وَفِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا أَشْيَاءُ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ مِنْهَا قَوْلُهُ فِيهَا: " وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ " وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا، يَعْنِي جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ حَنْفِيَّهُمْ وَمَالِكِيَّهُمْ وَشَافِعِيَّهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً، فَقَوْلُهُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ كُلَّهُمْ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ حُجَّةٌ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ وَلَمْ يَصِحَّ؟
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٤: ٥٩) فَمِنَ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ هَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِمَّا إِلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ. هَذَا مَا لَا يَظُنُّهُ بِهِمْ ذُو عَقْلٍ.
فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ " وَصَحَّ عَنِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ " وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي فُتْيَا أَفْتَاهَا " إِنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ فَمَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ " وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ " وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ " وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ " وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " سَأَقُولُ فِيهَا بِجُهْدِ رَأْيِي ". وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ: " تَبْتَدِعُ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ; فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ " فَعَلَى هَذَا النَّحْوِ هُوَ كُلُّ رَأْيٍ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ وَلَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ إِشَارَةٌ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ تَوَرُّعٍ فَقَطْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ... وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي فِيهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو " لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إِلَّا الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ لَمْ يُسَمِّهِمْ عَنْ مُعَاذٍ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا إِسْنَادَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا فِي كُتُبِنَا الْمَذْكُورَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ، نَا ابْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، نَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، نَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، نَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إِمَّا فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ، وَإِمَّا حَرَامٌ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ،
(قَالَ عَلِيٌّ) : فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الدِّينِ أَوَّلِهَا عَنْ آخِرِهَا. فَفِيهِ أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ حَرَامًا وَلَا فَرْضًا، وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَأَنَّ مَا أَمَرَنَا (بِهِ) فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ مَا نَسْتَطِيعُ فَقَطْ، وَأَنْ نَفْعَلَ مَرَّةً
وَاحِدَةً نُؤَدِّي مَا أَلْزَمَنَا، وَلَا يَلْزَمُنَا تَكْرَارُهُ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِأَحَدٍ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ رَأْيٍ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَنَحْمَدُ اللهَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ الْقَوْلِ بِهِ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ. قُلْنَا: قَدْ أَوَجَدْنَاكُمُ الْبُرْهَانَ نَصًّا بِذَلِكَ بِأَلَّا تَرُدُّوا التَّنَازُعَ إِلَّا إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (٧: ٣) وَقَالَ تَعَالَى: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (١٦: ٧٤) وَالْقِيَاسُ ضَرْبُ أَمْثَالٍ فِي الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إِنْ عَارَضْتُمُ الرَّوَافِضَ بِمِثْلِ هَذَا فَقَالُوا لَكُمْ: لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ، وَلَا بِإِبْطَالِ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ، إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ نَصًّا. أَوْ قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَقَالَةٍ فِي تَقْلِيدِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، بِمَاذَا تَتَفَصُّونَ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللهِ تَعَالَى: إِنَّهُ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ أَوْ أَوْجَبَ إِلَّا بِنَصٍّ فَقَطْ، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ اهـ.
عَقَدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَصْلًا فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنُّصُوصِ، صَدَّرَهُ بِآيَاتٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٨: ٥٠) قَالَ: فَقَسَّمَ الْأَمْرَ إِلَى أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مِنَ الْهَوَى، وَقَفَّى عَلَى الْآيَاتِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَوَّلُهَا حَدِيثُ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: " إِنَّ اللهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ " وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ فَصْلًا بَلْ فَصْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا. فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " وَلِلْأَثَرِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا آخَرَ ذَكَرَ فِيهِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ إِفْتَاءِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَقَضَائِهِمْ بِالرَّأْيِ، كَقَوْلِ عُمَرَ لِكَاتِبِهِ: " قُلْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُبْنُ الْخَطَّابِ " وَقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ: " إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ " وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: " اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَلَّا يَبِعْنَ " وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللهِ إِنْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ وَإِلَّا فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مَا يُقْضَى بِهِ، جَمَعُوا لَهُ النَّاسَ أَوْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عُلَمَاءَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ فَقَدْ كَانَ الرُّؤَسَاءُ عُلَمَاءَ وَاسْتَشَارُوهُمْ، وَكَانَ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجْتَمِعُ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَمِنْهُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى شُرَيْحٍ: " إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَاكَ شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ
النَّاسُ، وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرَ، وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَمْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ عِنْدَ عَدَمِ
وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالصَّالِحِينَ هُوَ عَيْنُ مُرَادِ عُمَرَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي كِتَابِهِ إِلَى شُرَيْحٍ، كَالَّذِينِ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَقُولُ: هَذَا زُبْدَةُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ. وَكُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ إِلَّا رَأْيَ عُثْمَانَ فِي إِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ وَلَا حُجَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ تَرَكَهُ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِيهِ شَرْعًا. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ لَيْسَ بِرَأْيِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ سُنَّتُهُمُ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا، وَاهْتَدَى بِهِمْ فِيهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا صَحِيحًا. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ تَرَكُوا جَمْعَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِشَارَتِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ مَذَاهِبِهِمْ. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَا فِي أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ أَحْكَامٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَمَا فَعَلَ الْمُؤَلِّفُونَ فِي الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ فِي الْأَقْضِيَةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَهِيَ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ أَمْرَهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ بِشَرْطِهِ.
الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرَّأْيِ وَإِنْكَارِهِ.
ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَصْلًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرَّأْيِ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ فَقَالَ:
" وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنِ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ. وَهَذَا إِنَّمَا يُتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَنَقُولُ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ:
الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٍ. وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا، فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا وَرَآهُ فِي الْيَقَظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا رَأَيًا لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ وَلَكِنَّهُمْ خَصَّوْهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فَكٍّ وَتَأَمُّلٍ،
" وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ. وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا السَّلَفُ، فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ وَمَنَعُوا مِنَ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ.
" وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ، بَلْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الْقِيَاسِ فَقَالَ لِي: عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ. كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَضْبُطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ حِفْظِهِ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَبْغُوا بِالْعُدُولِ إِلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢: ١٧٣) فَالْبَاغِي الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُذَكَّى، وَالْعَادِي الَّذِي يَتَعَدَّى قَدَرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّأْيَ الْبَاطِلَ أَنْوَاعٌ قَالَ:
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) : الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنُّصُوصِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَتَقْلِيدٍ.
(النَّوْعُ الثَّانِي) : هُوَ الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالْخَرْصِ وَالظَّنِّ مَعَ التَّفْرِيطِ وَالتَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ وَفَهْمِهَا وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا. فَإِنَّ مَنْ جَهِلَهَا وَقَاسَ بِرَأْيهِ فِيمَا سُئِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ جَامِعٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَلْحَقَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ قَدْرٍ فَارِقٍ يَرَاهُ بَيْنَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الْبَاطِلِ.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ) : الرَّأْيُ الْمُتَضَمِّنُ تَعْطِيلَ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِالْمَقَايِيسِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي وَضَعَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ إِلَخْ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ) : الرَّأْيُ الَّذِي أُحْدِثَتْ بِهِ الْبِدَعُ وَغُيِّرَتْ بِهِ السُّنَنُ، وَعَمَّ بِهِ الْبَلَاءُ، وَتَرَبَّى عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهِ الْكَبِيرُ.
(النَّوْعُ الْخَامِسُ) : مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ الْقَوْلُ فِي شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ، وَرَدُّ الْفُرُوعِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ قِيَاسًا دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا إِلَخْ.
(أَقُولُ) : ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي هَذَا تَعْطِيلَ السُّنَنِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الرَّأْيِ وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي نَهْيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، وَعَنْ عَضْلِ الْمَسَائِلِ، وَعَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا عَنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
(آثَارُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِياسِ).
ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ لِآثَارِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَبَيَانِ كَوْنِ الْقَائِلِينَ بِهِ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَجْعَلَهُ النَّاسُ دِينًا يُدَانُ بِهِ وَشَرْعًا مُتَّبَعًا لِلْأُمَّةِ، وَكَوْنُ الْمُتَعَصِّبِينَ لَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمُ انْحَرَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ وَخَالَفُوا مَذْهَبَهُمْ غُلُوًّا فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَعْنَبِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسْتُ فَرَأَيْتُهُ يَبْكِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ - قَعْنَبٍ وَمَا لِيَ لَا أَبْكِي؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِالْبُكَاءِ مِنِّي؟ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ أَفْتَيْتُ فِيهَا بِالرَّأْيِ سَوْطًا، وَقَدْ كَانَتْ لِي السَّعَةُ فِيمَا قَدْ سُبِقْتُ إِلَيْهِ، وَلَيْتَنِي لَمْ أُفْتِ بِالرَّأْيِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: مَثَلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ مَثَلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولِجَ حَتَّى بَرِئَ فَأَعْقَلَ مَا يَكُونُ قَدْ هَاجَ. وَمِنْهُ تَقْدِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا فِي مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخْذُ بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثِ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ، وَحَدِيثِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَحَدِيثِ جَعْلِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَالْحَدِيثِ فِي اشْتِرَاطِ الْمِصْرِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ضَعِيفَةٌ وَقَدْ قَدَّمَهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَقَدْ نَهَى جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي دِينِ اللهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنْوَاعَ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
(أَوَّلُهَا) : رَأْيُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
(ثَانِيهَا) : الرَّأْيُ الَّذِي يُفَسِّرُ النُّصُوصَ. وَيُبَيِّنُ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَيُقَرِّرُهَا وَيُوَضِّحُ مَحَاسِنَهَا، وَيُسَهِّلُ طَرِيقَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ الشَّوَاهِدَ مِمَّا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الرَّأْيِ فِي التَّفْسِيرِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: " وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي؟ " وَحَدِيثِ: " مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".
وَأَجَابَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ ذَلِكَ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الرَّأْيَ نَوْعَانِ: رَأْيٌ مُجَرَّدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ; فَهَذَا الَّذِي أَعَاذَ اللهُ الصَّحَابَةَ مِنْهُ، وَرَأْيٌ مُسْتَنِدٌ إِلَى اسْتِدْلَالٍ وَاسْتِنْبَاطٍ مِنَ النَّصِّ أَوْ مِنْ نَصٍّ آخَرَ مَعَهُ، فَهَذَا مِنْ أَلْطَفِ فَهْمِ النُّصُوصِ وَأَدَقِّهِ. وَمَثَّلَ لَهُ بِتَفْسِيرِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْكَلَالَةَ بِأَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ أَتَمَّ الْبَيَانَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْكَلَالَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، قَوْلَ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ غَيْرَ مَا فِي كِتَابِ اللهِ قَالَ: " إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ ".
(ثَالِثُهَا) : رَأْيُ جَمَاعَةِ الشُّورَى، وَقَدْ فَصَّلْتُ الْقَوْلَ فِيهِ بِمَا لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ فِيمَا أَعْلَمُ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ.
(رَابِعُهَا) : الِاجْتِهَادُ الَّذِي أَجَازَهُ الصَّحَابَةُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا مَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْهُ، وَفِي حُكْمِهِ مَا قَضَى بِهِ الرَّاشِدُونَ، وَشَرْطُ هَذَا الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْمُعَامَلَاتِ، لَا فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَسَيُعَادُ الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لِهَذَا النَّوْعِ بِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ وَشَرَحَهُ شَرْحًا طَوِيلًا، وَابْنُ حَزْمٍ يُنْكِرُ هَذَا الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِيمَا عُدَّ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَكَرَ طَائِفَةً مِنْ أَقْيِسَةِ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى التَّوَسُّعِ فِي مَعْنَى الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ لَا تَنْطَبِقُ تِلْكَ الْأَمْثِلَةُ
(فَصْلٌ) قَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ فُصُولٍ فِي الْقِيَاسِ نَافِعَةٍ وَأُصُولٍ جَامِعَةٍ فِي تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا تَقْرُبُ مِنْهَا، فَلْنَذْكُرْ مَعَ ذَلِكَ مَا قَابَلَهَا مِنَ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْوَحْيَيْنِ.
(مِثَالُ الْقِيَاسِ الْبَاطِلِ).
ثُمَّ إِنَّهُ أَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَرْدِ الْأَمْثِلَةِ الْكَثِيرَةِ لِلْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَزَادَ هُوَ إِنْكَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ وَأُسَامَةَ مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي الْحُلَّتَيْنِ الْحَرِيرِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَهْدَاهُمَا إِلَيْهِمَا إِذْ لَبِسَهَا أُسَامَةُ قِيَاسًا لِلُّبْسِ عَلَى التَّمَلُّكِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ، وَرَدَّهَا عُمَرُ قِيَاسًا لِتَمَلُّكِهَا عَلَى لُبْسِهَا الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ. (قَالَ) : فَأُسَامَةُ أَبَاحَ وَعُمَرُ حَرَّمَ قِيَاسًا، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ
وَقَالَ لِعُمَرَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا " وَقَالَ لِأُسَامَةَ: " إِنِّي لَمْ أَبْعَثْهَا إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ بِعَثْتُهَا إِلَيْكَ لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا لِنِسَائِكَ " وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ فَقَاسَا قِيَاسًا أَخْطَئَا فِيهِ، فَأَحَدُهُمْ قَاسَ اللُّبْسَ عَلَى الْمِلْكِ، وَعُمَرُ قَاسَ التَّمَلُّكَ عَلَى اللُّبْسِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ مِنَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَبَاحَهُ مِنَ التَّمَلُّكِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اللُّبْسِ، وَهَذَا عَيْنُ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ " اهـ.
أَقُولُ: وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ يَمْنَعْ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ كُلِّ اسْتِعْمَالٍ لِلْحَرِيرِ عَلَى اللُّبْسِ، وَمِنْ قِيَاسِ كُلِّ اسْتِعْمَالٍ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَكْلِ فِي صِحَافِهِمَا وَالشُّرْبِ مِنْ آنِيَتِهِمَا. وَهَكَذَا شَأْنُهُمْ فِي أَمْثِلَةِ ذَلِكَ.
ثُمَّ عَقَدَ فَصَلَيْنِ فِي ذَمِّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِلْقِيَاسِ وَإِبْطَالِهِمْ لَهُ، وَفَصْلًا فِي تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَاقُضِهَا، وَفَصْلًا آخَرَ فِي فَسَادِ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانِهِ وَتَنَاقُضِ أَهْلِهِ فِيهِ وَاضْطِرَابِهِمْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَذَكَرَ أَنْوَاعَ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةَ عِنْدَ غُلَاتِهِمْ كَفُقَهَاءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَهِيَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ وَالشُّبْهَةِ وَالطَّرْدِ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَقْيِسَتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَاضْطِرَابِهِمْ فِي التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَجَلِّ الْفُصُولِ وَأَطْوَلِهَا، وَفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي جَمَعُوا
(الْحُكْمُ بَيْنَ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَمُنْكِرِيهِ).
بَعْدَ أَنْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَسْطِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ تَصَدَّى لِبَيَانِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِإِثْبَاتِ الْقِيَاسِ الْمُوَافِقِ لِلنُّصُوصِ وَإِبْطَالِ الْقِيَاسِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَمَهَّدَ لِذَلِكَ تَمْهِيدًا مُفِيدًا بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعٌ لِمَسْأَلَةِ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَالْأَسْبَابِ، وَقَدِ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى غُلَاةٍ فِي النَّفْيِ وَغُلَاةٍ فِي الْإِثْبَاتِ وَمُعْتَدِلِينَ فِيهِ قَالَ:
وَسَبَبُ ذَلِكَ خَفَاءُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى وَالْمَذْهَبِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فِي الْمَذَاهِبِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْأَدْيَانِ، وَعَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَالْفُقَهَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ
وَالْأَسْبَابِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَأَمْرِهِ (أَيْ وَشَرْعِهِ) وَإِثْبَاتِ لَامِ التَّعْلِيلِ وَفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّرْعِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ " ثُمَّ قَالَ:
" وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَمَا انْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، انْقَسَمُوا فِي فَرْعِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ أَنْكَرَتْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ بِهِ وَأَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ وَالْمُنَاسَبَاتِ. وَالْفِرْقَتَانِ أَخْلَتَا النُّصُوصَ عَلَى تَنَاوُلِهَا لِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا أَحَالَتَا عَلَى الْقِيَاسِ. ثُمَّ قَالَ غُلَاتُهُمْ: أَحَالَتْ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ مُتَوَسِّطُوهُمْ: بَلْ أَحَالَتْ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهَا إِلَّا بِهِ.
خَطَأُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ بِإِطْلَاقٍ:
" وَالصَّوَابُ وَرَاءَ مَا عَلَيْهِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ. وَهُوَ أَنَّ النُّصُوصَ مُحِيطَةٌ بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَمْ يُحِلْنَا اللهُ وَلَا رَسُولُهُ عَلَى رَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، بَلْ قَدْ بَيَّنَ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا وَالنُّصُوصُ كَافِيَةٌ وَافِيَةٌ بِهَا، وَالْقِيَاسُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلنُّصُوصِ، فَهُمَا دَلِيلَانِ لِلْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ تَخْفَى دَلَالَةُ النَّصِّ وَلَا يَبْلُغُ الْعَالِمَ فَيَعْدِلُ إِلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ قَدْ يَظْهَرُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَيَكُونُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَقَدْ يَظْهَرُ مُخَالِفًا لَهُ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ قَدْ تَخْفَى مُوَافَقَتُهُ أَوْ مُخَالَفَتُهُ.
وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْحَقِّ فَاضْطَرُّوا
بَيَانُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ:
(الْخَطَأُ الْأَوَّلُ) : رَدُّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَلَا سِيَّمَا الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي يَجْرِي النَّصُّ عَلَيْهَا مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ لَعَنَ عَبْدَ اللهِ حِمَارًا عَلَى كَثْرَةِ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ: " لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا تَلْعَنُوا كُلَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ: " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٦: ١٤٥) نَهَى عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرَّةِ: " لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ نَهَى لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ. وَإِذَا قَالَ: لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ نَهَى لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
(الْخَطَأُ الثَّانِي) : تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمُ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ إِيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (١٧: ٢٣) ضَرْبًا وَلَا سَبًّا وَلَا إِهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ (أُفٍّ) فَقَصَرُوا فِي فَهْمِ الْكُتَّابِ كَمَا قَصَرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ.
(الْخَطَأُ الثَّالِثُ) : تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَجَزْمُهُمْ بِمُوجِبِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ، وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ
أَقُولُ: وَهَهُنَا أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ هَذَهِ الْأَقْسَامِ وَأَمْثِلَتِهَا ثُمَّ قَالَ:
(الْخَطَأُ الرَّابِعُ) : لَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلَّهَا عَلَى الْبُطْلَانِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ
أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوِطِهُمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ، إِلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَأْثِيمَ إِلَّا مَا أَثَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ.
فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَّعَهُ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهُوَ عَفْوٌ حَتَّى يُحَرِّمَهَا، وَلِهَذَا نَعَى اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَعَنْ تَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ، فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا، فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ كُلِّهَا. فَقَالَ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) (١٧: ٣٤) وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٥: ١) وَقَالَ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (٢٣: ٨) وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (٢: ١٧٧) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (٦١: ٢، ٣) وَقَالَ: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٣: ٧٦) وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (٨: ٥٨) وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ اهـ.
(أَقُولُ) : ثُمَّ إِنَّهُ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ وَفِيهَا
بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ، فَذَهَبَ ثُمَّ عَادَ فَأَسْلَمَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَأَبِي حَسَلٍ اللَّذَيْنِ أَخَذَهُمَا الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يُطْلِقُوهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا عَلَيْهِمَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَيَنْصَرِفَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُقَاتِلَانِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ قُبَيْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا أَخْبَرَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ: " انْصَرَفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ " فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا بِالْقِتَالِ مَعَهُ. وَقَدِ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الشُّرُوطِ فِي تَفْسِيرِ: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٥: ١) مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ.
(بَيَانُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ).
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ:
(فَصْلٌ) وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَنُوا بِالنُّصُوصِ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهَا وَافِيَةً بِالْأَحْكَامِ وَلَا شَامِلَةً لَهَا، وَغُلَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَفِ بِعُشْرِ مِعْشَارِهَا فَوَسَّعُوا طُرُقَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَقَالُوا بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَعَلَّقُوا الْأَحْكَامَ بِأَوْصَافٍ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَهَا بِهَا، وَاسْتَنْبَطُوا عِلَلًا لَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ اضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ عَارَضُوا بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، ثُمَّ اضْطَرَبُوا فَتَارَةً يُقَدِّمُونَ الْقِيَاسَ وَتَارَةً يُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّصِّ الْمَشْهُورِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَنَّهَا شُرِعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَكَانَ خَطَؤُهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ.
" الْأَوَّلُ: ظَنُّهُمْ قُصُورَ النُّصُوصِ عَنْ بَيَانِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ.
" الثَّانِي: مُعَارَضَةُ كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
" الثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْمِيزَانِ وَالْقِيَاسِ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدْلَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ.
" الرَّابِعُ: اعْتِبَارُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا لَمْ يُعْلَمِ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهَا، وَإِلْغَاؤُهُمْ عِلَلًا وَأَوْصَافًا اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
" الْخَامِسُ: تَنَاقُضُهُمْ فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَنَحْنُ نَعْقِدُ هَاهُنَا ثَلَاثَةَ فُصُولٍ: " الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ شُمُولِ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهَا عَنِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
" الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ (أَنَّ) أَحْكَامَ الشَّرْعِ كُلَّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ " وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْمِيزَانَ وَالْقِيَاسَ الصَّحِيحَ. وَهَذِهِ الْفُصُولُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهَمِّ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَبِهَا يَتَبَيَّنُ لِلْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِقْدَارُ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتُهَا وَهُنَيَّتُهَا وَسَعَتُهَا وَفَضْلُهَا وَشَرَفُهَا عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ عَامُّ الرِّسَالَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، فَرِسَالَتُهُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَدَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، فَكَمَا لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ عَنْ رِسَالَتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ حُكْمٌ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ عَنْهُ وَعَنْ بَيَانِهِ لَهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا لَا نُوَفِّي هَذِهِ الْفُصُولَ حَقَّهَا وَلَا نُقَارِبُ، وَأَنَّهَا أَجَلُّ مِنْ عُلُومِنَا، وَفَوْقَ إِدْرَاكِنَا، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ وَنُشِيرُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى مَا نَفْتَحُ أَبْوَابَهَا وَنَنْهَجُ طُرُقَهَا وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ " اهـ.
أَقُولُ: إِنَّنَا لَمْ نَجِدْ فِي الْكِتَابِ إِلَّا فَصَلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا، الْأَوَّلُ فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كُلِّهَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالْمِيزَانِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْمُوَافِقَةِ لِعُقُولِ الْبَشَرِ وَمَصَالِحِهِمْ، وَلَا نَدْرِي أَسَقَطَ الْفَصْلُ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ سُقُوطَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؟ أَمْ أَغْفَلَ كِتَابَتَهُ بَعْدَ الْوَعْدِ بِهِ نِسْيَانًا لِلْوَعْدِ وَاكْتِفَاءً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَكَوْنِ مَنْ يُعْتَدُّ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَرَبِيعَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَمْ يُثْبِتُوا حُكْمًا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَّا إِذَا كَانُوا غَيْرَ عَالِمِينَ بِالنَّصِّ أَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ لَمْ يَفْهَمُوا الْحُكْمَ مِنْهُ.
(شُمُولُ النُّصُوصِ لِلْأَحْكَامِ وَتَفَاوُتُ الْأَفْهَامِ فِيهَا).
وَقَدْ صُدِّرَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ بِمُقَدِّمَةٍ نَفِيسَةٍ فِي نَوْعَيِ الدَّلَالَةِ وَتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ فِي النُّصُوصِ فَقَالَ:
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ) فِي شُمُولِ النُّصُوصِ وَإِغْنَائِهَا عَنِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ: أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ وَإِضَافِيَّةٌ. فَالْحَقِيقَةُ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَالْإِضَافِيَّةُ تَابِعَةٌ لِفَهْمِ السَّامِعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ وَصَفَاءِ ذِهْنِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَرَاتِبَهَا، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِحَسَبِ تَبَانِي السَّامِعِينَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَحْفَظَ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَكْثَرَهُمْ رِوَايَةً لَهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَفْقَهَ مِنْهُمَا، بَلْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَفْقَهُ مِنْهُمَا وَمِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ.
وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي فَهْمِهِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ: " وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ " شُمُولَ لَفْظِهِ لِحَسَنِ الثَّوْبِ وَحَسَنِ الْفِعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ.
" وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ " أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إِذَا احْتَضَرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللهِ وَاللهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتَضَرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ.
" وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إِذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)
(٨٤: ٨) مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابَ الْمُنَاقِشَةِ.
" وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (٤: ١٢٣) أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْمَرَضِ وَالنَّصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
" وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٦: ٨٢) أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) مَعَ أَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِعْطَائِهِ حَقَّهُ مِنَ التَّأَمُّلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بَلْ قَالَ: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) وَلُبْسُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ: تَغْطِيَتُهُ بِهِ وَإِحَاطَتُهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَلَا يُغَطِّي الْإِيمَانَ وَيُحِيطُ بِهِ وَيَلْبَسُهُ إِلَّا الْكُفْرُ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢: ٨٢) فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ لَا تُحِيطُ بِالْمُؤْمِنِ أَبَدًا، فَإِنَّ
" وَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَاعْتَرَفَ عُمَرُ بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا، وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ.
" وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظُهُورَهُمْ، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ.
" وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْجَنَّةِ وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ مِنْ كَوْنِهَا رِجْسًا.
وَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) (٤: ٢٠) جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ.
وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (٤٦: ١٥) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (٢: ٢٣٣) أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ حَتَّى ذَكَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ.
وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا " قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ (ذَلِكَ) فَأَقَرَّ بِهِ: وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) (٥: ٩٣) رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَمْرِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لِفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ، فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ مَا.
وَقَدْ فَهِمَ مِنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) انْغِمَاسَ
وَقَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٥: ١٠٥) وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ " فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا.
وَأَشْكَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمْ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ
عَنْهُ مِنَ الْيَهُودِ هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ عَنِ السَّاكِتِينَ: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) (٧: ١٦٤) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَةً وَفَرِحَ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: " مَا تَقُولُونَ فِي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (١١٠: ١) السُّورَةَ قَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ أَنْتَ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ الْفَهِمَ وَأَلْطَفِهِ وَلَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعَلِّقِ الِاسْتِغْفَارَ بِعِلْمِهِ، بَلْ عَلَّقَهُ بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ نِعْمَةِ فَتْحِهِ عَلَى رَسُولِهِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلِاسْتِغْفَارِ، فَعَلِمَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِغْفَارِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُضُورُ الْأَجَلِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عَبْدِهِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَلْقَى رَبَّهُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَيَقْدَمَ عَلَيْهِ مَسْرُورًا رَاضِيًا مَرْضِيًّا عَنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (أَيْضًا) (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَائِمًا فَعُلِمَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّسْبِيحِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَمْرٌ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ الَّتِي
مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ " فَعُلِمَ أَنَّ التَّوْبَةَ مَشْرُوعَةٌ عَقِيبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَأَمَرَ رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِيبَ تَوْفِيَتِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا، فَكَأَنَّ التَّبْلِيغَ عِبَادَةٌ قَدْ أَكْمَلَهَا وَأَدَّاهَا فَشَرَعَ لَهُ الِاسْتِغْفَارَ عَقِيبَهَا.
وَالْمَقْصُودُ تَفَاوَتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهِمَ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشْرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إِيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إِلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيُفْهَمُ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ. وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) مَعَ قَوْلِهِ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَمَا فَهِمَ الصِّدِّيقُ مِنْ آيَةِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَأَسْقَطَ الْإِخْوَةَ بِالْجَدِّ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِلَى هَذَا الْفَهْمِ حَيْثُ سَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ السُّؤَالَ فِيهَا مِرَارًا فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى عُمَرَ قَوْلُهُ: (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) (٤: ١٧٦) الْآيَةَ فَدَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ الْمُرَادَ مِنْهَا، وَهِيَ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ، فَإِنَّهُ وَرِثَ فِيهَا وَلَدُ الْأُمِّ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْكَلَالَةَ فِيهَا مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَإِنْ عَلَا " انْتَهَتِ الْمُقَدِّمَةُ.
أَقُولُ: ثُمَّ إِنَّهُ أَوْرَدَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ عِدَّةَ مَسَائِلَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ، وَهِيَ سِتُّ مَسَائِلَ فِي أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ وَقَدْ وَضَّحَ فِيهَا إِغْنَاءَ النَّصِّ عَنِ الْقِيَاسِ أَتَمَّ الْإِيضَاحَ.
مِثَالُ النُّصُوصِ الْكُلِّيَّةِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْقِيَاسِ:
ثُمَّ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ عِدَّةَ نُصُوصٍ كُلِّيَّةٍ يُغْنِي كُلٌّ مِنْهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَدَامَ اللهُ النَّفْعَ بِعِلْمِهِ
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ " عَنْ إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْقِيَاسِ فِي الِاسْمِ أَوْ فِي الْحُكْمِ كَمَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنِ الِاسْتِدْلَالَ بِالنَّصِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) (٦٦: ٢) فِي تَنَاوُلِهِ لِكُلِّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إِلَّا بِنَصٍّ وَإِجْمَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) (٥: ٨٩) فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ فَهَذَا كَفَّارَتُهَا، وَقَدْ أَدْخَلَتِ الصَّحَابَةُ فِي هَذَا النَّصِّ الْحَلِفَ بِالْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحَلِفِ بِأَحَبِّ الْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْهُمْ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَدْخَلَتْ فِيهِ الْحَلِفَ بِالْبَغِيضِ إِلَى اللهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ تَحْكِيمُ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِعُمُومِهِ حَتَّى يَثْبُتَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ إِجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا عَلَى خِلَافِهِ، فَالْأُمَّةُ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ أَلْبَتَّةَ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " فِي إِبْطَالِ كُلِّ عَقْدٍ نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ وَأَنَّهُ لَغْوٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ نِكَاحًا كَانَ أَوْ طَلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ إِجْمَاعًا مَعْلُومًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ مِنَ الْعُقُودِ صَحِيحٌ لَازِمٌ مُعْتَدٌّ بِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ، فَهِيَ لَا تُجْمِعُ عَلَى خَطَأٍ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (٦: ١١٩) مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ " فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيِّنِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهَا، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَصَّلَ لَنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، فَمَا كَانَ مِنْ
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَرَامًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهُ مُفَصَّلًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَحْرِيمُ مَا عَفَا عَنْهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ ".
لَا شَيْءَ فِي الشَّرْعِ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ:
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ كَوْنِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مُوَافِقَةً لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُوَافِقِ لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ فَقَالَ:
(الْفَصْلُ الثَّانِي) فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَأَنَّ مَا يُظَنُّ مُخَالَفَتُهُ لِلْقِيَاسِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ فِيهِ وَلَا بُدَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ كَوْنُهُ مِنَ الشَّرْعِ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ
" إِنَّ أَصْلَ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَهُوَ مِنَ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌّ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ أَيْضًا لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَحَيْثُ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِحُكْمٍ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ
بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ بِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنَ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ. لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِ قِيَاسٍ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفٍ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، وَلَكِنْ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
(أَقُولُ) : ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ خَطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بَيَانًا كَافِيًا شَافِيًا فِي عِدَّةِ فُصُولٍ ظَهَرَ بِهِ بُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ فُقَهَاءِ الْقِيَاسِ وَأُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ فَوَائِدَ نَفِيسَةً، مِنْهَا انْعِقَادُ الْعُقُودِ بِأَيِّ لَفْظٍ عَرَّفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا، وَأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحِدَّ لِأَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا، لَا النِّكَاحِ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ كَالصَّرِيحِ، وَمِنْهَا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَبُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا فُقَهَاءُ الْقِيَاسِ فِيهَا، وَمِنْهُ يُعْلَمُ يُسْرُ الشَّرِيعَةِ وَسَعَتُهَا وَمُوَافَقَتُهَا لِلْعَدْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْإِسْهَابِ الَّذِي لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْكِتَابِ. وَفِي جَوَابِهِ أَوْ أَجْوِبَتِهِ هَذِهِ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِهَا وَبَيَانِ مُوَافَقَتِهَا لِلْعَقْلِ وَمَصَالِحِ الْبَشَرِ وَمِنْ خَطَأِ غُلَاةِ الْقِيَاسِيِّينَ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ طُلَّابِ عِلْمِ الشَّرْعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
نَذْكُرُ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَبِيلِ النَّمُوذَجِ، وَهِيَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ: إِنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ بَيْعَ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَهَذَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلِينَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ أَطَالَ فِي رَدِّ هَذَا بِمَا بَيَّنَ بِهِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِجُمَلٍ وَجِيزَةٍ.
(الرِّبَا: مَوْضُوعُهُ وَعِلَّتُهُ وَحِكْمَتُهُ).
(١) قَالَ: " الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ، وَخَفِيٌّ. فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلُ قَصْدًا وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةً..
" فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ، تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ " إِلَخْ.
(أَقُولُ) : وَهَذَا الرِّبَا الْجَاهِلِيُّ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالْوَعِيدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّهُ هُوَ الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ وَعَنْ
الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ إِلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْكَمَالِ، أَيْ أَنَّ الرِّبَا التَّامَّ الْكَامِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ (قَالَ) : فَإِنَّ رِبَا الْفَضْلِ إِنَّمَا سُمِّيَ رِبًا تَجَوُّزًا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَقْصِدِ عَلَى الْوَسِيلَةِ، وَهُوَ نَحْوٌ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الْآتِي.
وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ إِطْلَاقِ اسْمِ الزِّنَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ. وَإِنَّمَا حَرَّمَ هَذَا النَّظَرَ وَالْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَرِبَا الْفَضْلِ.
(قَالَ) : وَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ " وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِي إِيضَاحِ ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِحٌ.
(٢) بَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَعْيَانٍ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، ثُمَّ قَالَ: فَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهَا مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَيْ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْقَمْحِ بِالْقَمْحِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُمْ جَوَّزُوهُ وَتَنَازَعُوا فِيمَا عَدَاهَا، فَطَائِفَةٌ قَصَرَتِ التَّحْرِيمَ عَلَيْهَا، وَأَقْدَمُ مَنْ يَرْوِي هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ (هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ) فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالْقِيَاسِ، قَالَ: لِأَنَّ عِلَلَ الْقِيَاسَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا ضَعِيفَةٌ، وَإِذَا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عِلَّةٌ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ.
(٣) بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ. فَأَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ مَكِيلًا وَمَوْزُونًا فَيَجْرِي الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى أَنَّ عِلَّتَهُ كَوْنُهُ طَعَامًا، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فَيَجْرِي عَلَى كُلِّ مَا يُطْعَمُ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ كَوْنُهَا قُوتَ النَّاسِ، وَعِبَارَةُ
مَا يُدَّخَرُ. وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَالْعِلَّةُ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ الْوَزْنُ، فَيَجْرِي الرِّبَا عَلَى هَذَا فِي كُلِّ مَوْزُونٍ وَكُلِّ مَكِيلٍ مِنَ الْمَعَادِنِ كَغَيْرِهَا، وَهَذَا أَوْسَعُ الْأَقْوَالِ وَأَشَدُّهَا فِي الرِّبَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الثَّمَنِيَّةُ؛ أَيْ كَوْنُهَا مِعْيَارَ الْأَثْمَانِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كُلِّهَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ، ثُمَّ أَوْرَدَ الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَوَّلُهَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنَ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إِلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا، فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النَّسَاءِ، وَالْعِلَّةُ إِذَا انْتُقِضَتْ مِنْ دُونِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا إِلَى آخَرِ مَا قَالَهُ.
(٤) بَنَى ابْنُ الْقَيِّمِ بَيَانَ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى الرَّاجِحِ الْمُخْتَارِ مِنْ تَعْلِيلٍ حَصَرَهُ فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ، وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، بَلْ هَذَا التَّضْيِيقُ عَلَى الْعِبَادِ لَا يُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ، وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهِ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَيُرَاجَعُ هُنَاكَ وَفِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ.
(٥) بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ شَرْعًا إِلَّا لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَمَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ بَيْعِ الْحِلْيَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنُقُودٍ مِنْهُمَا تَزِيدُ عَلَى وَزْنِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَازِ بِأَدِلَّةٍ مَنْقُولَةٍ وَمَعْقُولَةٍ أَيْضًا، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى جَوَازِ رِبَا الْفَضْلِ لِلْمُصْلِحَةِ الرَّاجِحَةِ بِإِبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْعَرَايَا، وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِهِ إِبَاحَةَ نَظَرِ الْخَاطِبِ وَالطَّبِيبِ وَالشَّاهِدِ إِلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْظُرُ كُلَّ عُضْوٍ تَتَوَقَّفُ
مُعَالَجَتُهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَكَذَا لَمْسُهُ وَإِبَاحَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِمَنْعِ الْحَكَّةِ أَوِ الْقَمْلِ، وَالْأَمْثِلَةُ وَالشَّوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.
وَالْغَرَضُ مِمَّا لَخَّصْنَاهُ هُنَا بَيَانُ فَضِيلَةِ الْمَذْهَبِ الْوَسَطِ بَيْنَ مَذْهَبَيْ نَفْيِ الْقِيَاسِ أَلْبَتَّةَ وَالتَّوَسُّعِ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ الْبَعِيدَةِ. فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ أَهْلَ قُطْرٍ لَا قُوتَ لَهُمْ
(فِإِنْ قِيلَ) : إِنَّ الْمُعْتَدِلِينَ فِي الْقِيَاسِ مِنْ أَهْلِ الْأَثَرِ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِالْعِلَّةِ الثَّابِتَةِ عَنِ الشَّارِعِ بِالنَّصِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (٦: ١٤٥) أَيْ خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (٧: ١٥٧) وَلَا نَصَّ عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا (قُلْنَا) : إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالنَّصِّ هُنَا مَا ثَبَتَ بِالْمَنْطُوقِ أَوِ الْمَفْهُومِ أَوِ الْقَرِينَةِ الْوَاضِحَةِ، كَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِهِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعْلُومًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ أَوِ الْبَدَاهَةِ، أَوْ بِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ كَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ. وَالْأَجْنَاسُ السِّتَّةُ الَّتِي وَرَدَ الْحَدِيثُ بِجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالذِّكْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى فِيهَا اقْتَضَاهُ، وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا أَوْ عَبَثًا يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ، فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ؟ ! وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنًى تَمْتَازُ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْأَطْعِمَةِ إِلَّا كَوْنَهَا تَقُودُ النَّاسَ الَّتِي هِيَ مِعْيَارُ مُعَامَلَاتِهِمْ وَمُبَادَلَاتِهِمْ، وَأَغْذِيَتِهِمِ الرَّئِيسِيَّةِ وَأُصُولِ أَقْوَاتِهِمْ، وَأَمَّا كَوْنُهَا تُوزَنُ أَوْ تُكَالُ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهَا الْعَامَّةِ، كَكَوْنِهَا تُنْقَلُ وَتُحْمَلُ وَتُنْظَرُ وَتُلْمَسُ
وَتُبَاعُ وَتُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مَقْصُودَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا عَبَّرَ عَنِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُحْصَرُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِعِلَّتِهِ، بَلْ كَانَ الْبَيَانُ الصَّحِيحُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُفْهَمُ بِهِ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْبِيرِ، كَأَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَحُكْمُهُ كَذَا، وَمَا قَرَّرْنَاهُ وَاضِحٌ جِدًّا وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. فَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ أَكَابِرَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا أَوْسَعَ عِلْمًا وَفَهْمًا لِلنُّصُوصِ مِنْ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءِ بِشَهَادَةِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ قَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا هُوَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوُضُوحِ أَوْ أَشَدُّ. وَالْبَشَرُ عُرْضَةٌ لِلْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ، وَإِنَّ مَنْ أَنْهَضَ الْحُجَجَ عَلَى بُطْلَانِ الْتِزَامِ تَقْلِيدِ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَا ظَهَرَ كَالشَّمْسِ مِنْ خَطَأِ أَكَابِرِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، إِمَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَإِمَّا بِتَنَكُّبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ.
وَلَمْ أَرَ مَثَلًا لِجَعْلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عِلَّةً لِلرِّبَا أَظْهَرَ مِنْ جَعْلِ " الدُّخُولِ فِي جَوْفٍ " عِلَّةً
وَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ زَادَتْ أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ إِكْمَالِ الدِّينِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا الشَّارِعُ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا عَنْهَا رَحْمَةً بِنَا مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ، وَإِنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعْنِتَنَا.
(ما حَقَّقَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِياسِ) :
بَيِّنَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) الْخِلَافَ فِي الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ: هَلْ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ، هَلْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ فِي شُرُوطِهِ وَدَلَائِلُهُ، هَلْ هِيَ سَمْعِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ؟ وَانْقِسَامَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِلَى
فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يَقُولُ: لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَفَرِيقٌ يَسْتَدِلُّ عَلَى نَفْيِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ وَبِالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: " وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقِيَاسِ بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ; فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ يَكْفِيهِمْ، وَإِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَقَدْ جَاءُوا بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ فَلَا نَطُولُ بِذِكْرِهَا، وَجَاءُوا بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ فَقَالُوا: دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ".
ثُمَّ أَوْرَدَ مَا قَالُوهُ وَبَحَثَ فِيهِ الْإِمَامُ النِّحْرِيرُ مُلْتَزِمًا قَوَاعِدَ الْأُصُولِ وَآدَابَ الْمُنَاظَرَةِ، فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي مُبْتَدِئِينَ بِأَدِلَّتِهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ.
اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقِيَاسِ:
(الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الْمَحْصُولِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ رَدَّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ مِنْ وُجُوهٍ، وَبَحَثَ فِيمَا اخْتَارَهُ مِنْ كَوْنِ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِي الْمُجَاوَزَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى كَوْنِ الْآيَةِ غَيْرَ حُجَّةٍ لِلْقِيَاسِيِّينِ فَقَالَ: " وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ لَا بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تُضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ، وَمَنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَقَدْ شَغَلَ الْحَيِّزَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ".
(الدَّلِيلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٥: ٩٥)
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ غَايَةَ مَا فِي آيَةِ الْجَزَاءِ هِيَ الْمَجِيءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ وَكَوْنِهِ مَثَلًا لَهُ مَوْكُولٌ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَمُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ. وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِيجَابُ تَحَرِّي الصَّوَابِ فِي أَمْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ.
(الدَّلِيلُ الرَّابِعُ) : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: قَالُوا:
أُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الدَّلِيلِ مِنَ الْمَدْلُولِ بِالنَّظَرِ فِيمَا يُفِيدُهُ مِنَ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ أَوِ الْإِطْلَاقِ أَوِ التَّقْيِيدِ أَوِ الْإِجْمَالِ أَوِ التَّبْيِينِ فِي نَفْسِ النُّصُوصِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ طَرِيقًا إِلَى اسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنْهُ. وَلَوْ سَلَّمْنَا انْدِرَاجَ الْقِيَاسِ تَحْتَ مُسَمَّى الِاسْتِنْبَاطِ لَكَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ وَقِيَاسِ الْفَحْوَى وَنَحْوَهُ، لَا بِمَا كَانَ مُلْحَقًا بِمَسْلَكٍ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ رَأْيٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الشَّرْعِ بِمَا أَذِنَ اللهُ بِهِ، بَلْ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ لَيْسُوا هُمْ عُلَمَاءَ الْفِقْهِ الْمَعْرُوفِ وَأُصُولِهِ، بَلْ هُمْ أُولُو الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ. فَرَاجِعْهُ فِي مَحَلِّهِ.
(الدَّلِيلُ الْخَامِسُ) : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (٢: ٢٦) قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَمَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ أَجْوَزُ. وَاعْتَمَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي رَدِّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قَلْبَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِبَيَانِ أَنَّ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَكُلُّ مَا يَضْرِبُهُ مِنْ مَثَلٍ وَمَا يُثْبِتُهُ مِنْ تَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَأَمَّا مَنْ لَا يَخْلُو مِنَ النَّقْصِ وَالْجَهْلِ فَلَا نَقْطَعُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا نَظُنُّهُ لِمَا فِي فَاعِلِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ تَقْرِيرَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ هَفْوَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْهَفَوَاتِ، بَلْ سَقْطَةٌ مَنْ أَقْبَحِ السَّقَطَاتِ، فَإِنَّهُ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مِنَ الْمَوْضُوعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَاسِ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَجَعْلِهِ أَحَقَّ بِالتَّشْرِيعِ وَأَجْدَرَ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ مِنْ سِيَاقِهِ الَّذِي اخْتَصَرْنَاهُ، فَيُرَاجَعُ فِي كِتَابِهِ.
(الدَّلِيلُ السَّادِسُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣٦: ٧٩)
بِالْأَثَرِ السَّابِقِ عَلَى الْأَثَرِ اللَّاحِقِ وَكَونُ الْمُؤَثِّرِ فِيهِمَا وَاحِدًا، وَذَلِكَ غَيْرُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ إِدْرَاجُ فَرْعٍ تَحْتَ أَصْلٍ لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا.
(الدَّلِيلُ السَّابِعُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (١٦: ٩٠) وَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ (قَالَ) : وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ التَّسْوِيَةُ، وَالْقِيَاسَ هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَثَلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ كَوْنِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْفَارِقِ فِيهَا، لَا فِي الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الرَّأْيِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ الزَّائِفَةِ، وَخَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ اهـ.
أَقُولُ: أَخْطَأَ الشَّوْكَانِيُّ هَهُنَا وَأَصَابَ - أَصَابَ فِيمَا رَمَى إِلَيْهِ مَنْ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَجْعَلُ كُلَّ مَا يُوزَنُ فِي حُكْمِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكُلَّ مَا يُكَالُ فِي حُكْمِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ، وَيَجْعَلُ مُسْبِرَ الْجِرَاحِ مُفْطِرًا لِلصَّائِمِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَأَخْطَأَ مُرَادُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ إِذْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَا كَتَبَهُ هُوَ ثُمَّ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عَيْنُ مَا سَلَّمَ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِ مَذْهَبِهِمَا فِيهِ.
الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ:
ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى حُجَّةِ الْقِيَاسِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَدَأَ الْكَلَامَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ، إِذْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو " فِي الْقَضَاءِ بِمَا لَا يَجِدُهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَضْعِيفُ ابْنِ حَزْمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ يَطُولُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِمَّا تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ وَعَنْ سَائِرِ أَدِلَّتِهِمْ بَعْدَ تَلْخِيصِهَا بِمَا نَصَّهُ:
" وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي الطَّلَبِ لِلْحُكْمِ مِنَ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي " بَعْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْخَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا الرَّدِّ بِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَا بُدَّ
الْقِيَاسَ، فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ حَجَّةً لِإِثْبَاتِهِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ فِي الْأَشْيَاءِ أَوِ الْحَظْرِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّمَسُّكِ بِالْمَصَالِحِ أَوِ التَّمَسُّكِ بِالِاحْتِيَاطِ.
" وَعَلَى تَسْلِيمِ دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْمُرَادُ الْقِيَاسَاتُ الَّتِي يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، كَالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي قَطَعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْقِيَاسَاتِ لَا الْقِيَاسَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسَالِكِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إِلَّا مُجَرَّدُ الْخَيَالَاتِ الْمُخْتَلَّةِ وَالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ. وَأَيْضًا فَعَلَى التَّسْلِيمِ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِذْ ذَاكَ لَمْ تَكْمُلْ فَيُمْكِنُ عَدَمُ وِجْدَانِ الدَّلِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَيَّامِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ كَمُلَ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وَلَا مَعْنًى لِلْإِكْمَالِ إِلَّا وَفَاءُ النُّصُوصِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّرْعِ إِمَّا بِالنَّصِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَوْ بِانْدِرَاجِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الشَّامِلَةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (٦: ٣٨) وَقَوْلُهُ: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (٦: ٥٩).
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقِيَاسَاتِ كَقَوْلِهِ: " أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى " وَقَوْلُهُ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ فَقَالَ: " أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ " وَقَالَ لِمَنْ أَنْكَرَ وَلَدَهُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أَسْوَدَ: " هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مَنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزْعَةُ عِرْقٍ، قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزْعَةُ عِرْقٍ " وَقَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ " وَقَالَ: " يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قِيَاسَاتٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى صَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ صَادِرَةٌ عَنِ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا جَاءَنَا بِهِ عَنْهُ: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (٥٣: ٤) وَيَقُولُ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ:
(اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ) :
" وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقِيَاسِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ: وَقَدْ بَلَغَ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ. وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِجَمَاهِيرِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُولِ: مَسْلَكُ الْإِجْمَاعِ هُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عِنْدِي أَنَّ الْمُعْتَمَدَ اشْتِهَارُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ إِلَّا عِنْدَ شُذُوذِ مُتَأَخِّرِينَ. قَالَ: وَهَذَا أَقْوَى الْأَدِلَّةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِ هَذَا الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا جَاءُونَا بِرِوَايَاتٍ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَحْصُورِينَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لِجَمِيعِهِمْ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَقْطَارِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ لِمَا قَالَهُ الْبَعْضُ كَمَا ذَلِكَ مَعْرُوفٌ؟.
" وَبَيَانُهُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأُمٍّ وَإِخْوَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ، وَهَكَذَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ مِنْهُ فَظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَلَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقِيَاسَاتِ الَّتِي وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهَا وَالَّتِي قَطَعَ فِيهَا بِنَفْيِ الْفَارِقِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ كَثِيرٌ
مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَأَثْبَتُوهُ بِمَسَالِكَ تَتَقَطَّعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ، وَتُسَافِرُ فِيهَا الْأَذْهَانُ حَتَّى تَبْلُغَ إِلَى مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَتَتَغَلْغَلَ فِيهَا الْعُقُولُ حَتَّى تَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ فِي وُرُودٍ وَلَا صَدْرٍ، وَلَا مِنَ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا " وَجَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ، وَبِمَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُصَحِّحُ دَلَالَتَهُ وَيُؤَيِّدُ بَرَاهِينَهُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَا، وَتَقَرَّرَ لَدَيْكَ جَمِيعُ مَا قَرَّرْنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَأْخُوذَ بِهِ هُوَ مَا وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ عَلَى اصْطِلَاحِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ قِيَاسًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ لَمْ يَقُولُوا بِإِهْدَارِ كُلِّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ أَوْ مَقْطُوعًا فِيهِ بِنَفِيِ الْفَارِقِ، بَلْ جَعَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ مَشْمُولًا بِهِ مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، وَبِهَذَا يَهُونُ عَلَيْكَ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ عِنْدَكَ مَا اسْتَعْظَمُوهُ، وَيَقْرُبُ لَدَيْكَ مَا بَعَّدُوهُ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ صَارَ لَفْظِيًّا، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَافَ الْمَعْنَوِيَّ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَقَدْ قَدَّمَنَا لَكَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ تَطْوِيلَ ذُيُولِ الْبَحْثِ بِذِكْرِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنْهَضَ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِخْبَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهَا دِينَهَا، وَبِمَا أَخْبَرَهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَهَا عَلَى الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا.
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ صَحِيحٍ وَفَهْمٍ صَالِحٍ أَنَّ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُطْلَقَاتِهِمَا وَخُصُوصِ نُصُوصِهِمَا مَا يَفِي بِكُلِّ حَادِثَةٍ تَحْدُثُ، وَيَقُومُ بِبَيَانِ كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ اهـ.
ثُمَّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى النَّصِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ مَا نَصُّهُ:
" وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَخْذُ بِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي النَّافُونَ لِلْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيًّا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ مَا اسْتَعْظَمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ قَاضٍ بِالْعُمُومِ " اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَعُدُّ كُلَّ تَعْلِيلٍ فِي النُّصُوصِ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ، فَيَجْرِي كُلُّ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مَجْرَى أَفْرَادِ الْعَامِّ فِي حُكْمِهِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَنُوطُونَ الْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ الْمَنْصُوصَةِ حَقِيقِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، سَوَاءٌ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِالنَّصِّ أَوْ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ
(بَحْثٌ فِي الْتِزَامِ النُّصُوصِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فِي الْمُعَامَلَاتِ).
تَمْهِيدٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ:
كَانَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَشَدِّ عُلَمَاءِ السَّلَفِ تَشْدِيدًا فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَدْقِيقًا فِي إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ فِي الدِّينِ، حَتَّى إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مَهْدِيٍّ - وَنَاهِيكَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ - وَضْعَ رِدَائِهِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحَرِّ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَأَنْكَرَ عَلَى مَنِ اسْتَشَارَهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ وَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمْرَهُ بِالْإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا أَلَحَّ الرَّجُلُ قَالَ لَهُ: " لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ " فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ قَدْ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٤: ٦٣) وَمِنْ أَجَلِّ كَلَامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الدِّينَ وَفِي رِوَايَةٍ: الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا اهـ.
نَقَلَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ الشَّاطِبِيُّ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ (ص: ١٦٧ ج١ و١٩٨ ج٢) وَقَالَ فِي ص: ٣١٠ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ: وَلِذَلِكَ الْتَزَمَ مَالِكٌ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَإِنْ ظَهَرَتْ لِبَادِيَ الرَّأْيِ، وُقُوفًا مَعَ مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ فِي إِزَالَةِ الْأَخْبَاثِ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ إِلَى مُطْلَقِ النَّظَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا غَيْرُهُ حَتَّى اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَهُ عِنْدَهُ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ حَتَّى يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ التَّكْبِيرِ
" وَدَوَرَانُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ أَنْ تَصَوَّرَ لِقِلَّةِ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنُدُوِرِهِ، بِخِلَافِ قِسْمِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الظَّاهِرِ لِلْعُقُولِ. فَإِنَّهُ اسْتَرْسَلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْمُدِلِّ الْعَرِيقِ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْمَصْلَحِيَّةِ، نَعَمْ مَعَ مُرَاعَاةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهُ، وَلَا يُنَاقِضَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ اهـ.
(أَقُولُ) : إِنَّ الْعَلَّامَةَ الشَّاطِبِيَّ قَدْ حَرَّرَ بَحْثَ الْبِدَعِ وَأَطَالَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالْحَثِّ عَلَى الْتِزَامِ السُّنَّةِ فِي كِتَابِهِ (الِاعْتِصَامِ) بِمَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَى مِثْلِهِ - بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَعِلْمِنَا - سَابِقٌ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُنَا لَاحِقٌ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْبِدَعِ وَبَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ تَفْرِقَةً وَاضِحَةً بَيِّنَةً، وَأَثْبَتَ أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَقُولُ بِهَا عَلَى تَشَدُّدِهِ فِي نَصْرِ السُّنَّةِ، وَمُبَالَغَتِهِ فِي مُقَاوَمَةِ الْبِدَعِ، حَتَّى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُبْغِضُ مَالِكًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: إِذَا رَأَيْتَ الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ.
الْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ صَحِيحًا عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ جَعَلَ الْقَوْلَ بِهَا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ لِلْقِيَاسِ، فَأَدْخَلُوهَا فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُنَاسَبَةَ أَوِ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ. وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، فَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِهَا، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُونَ فِي اسْمِهَا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ لِمَالِكٍ تَرْجِيحًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَيَلِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُو غَيْرُهُمَا عَنِ اعْتِبَارِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لِهَذَيْنِ تَرْجِيحًا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ; لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ وَيَقْعُدُونَ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِشَرْطِ الْمُلَاءَمَةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْأُصُولِ.
وَقَدْ قَسَّمَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْمُنَاسِبَ إِلَى مَا عُلِمَ اعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، وَمَا عُلِمَ إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَمَا لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ وَلَا إِلْغَاؤُهُ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ بِالِاعْتِبَارِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ، فَيُعَدُّ مِنْ وَسَائِلِهَا وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْمَصَالِحِ
مَا حَرَّرَهُ الطُّوفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ:
(أَقُولُ) : لَمْ أَرَ فِي كَلَامِ عُلَمَاءِ الْمَشَارِقَةِ مَنْ أَطْنَبَ فِي بَحْثِ الْمَصَالِحِ مِثْلَ الْإِمَامِ نَجْمِ الدِّينِ الطُّوفِيِّ الْحَنْبَلِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٧١٦ وَلَا فِي كَلَامِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ مِثْلَ الْعَلَّامَةِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ الشَّاطِبِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٧٩٠.
أَمَّا الطُّوفِيُّ فَإِنَّهُ وَفَّى الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنَ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا وَمَالِكٌ مُرْسَلًا وَحَسَّنُوهُ) وَقَدْ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ يَقْتَضِي رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَالْمَفَاسِدِ نَفْيًا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَفْصِيلِيَّةٍ وَإِجْمَالِيَّةٍ، وَبِإِجْمَاعٍ مَا عَدَا الْجَامِدِينَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ، وَجَعَلَ مَدَارَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَدَعَّمَ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى جَعَلَ رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ مُقَدَّمَةً عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَقَالَ: وَإِنْ خَالَفَهَا وَجَبَ تَقْدِيمُ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ لَهُمَا، لَا بِطْرِيقِ الِافْتِئَاتِ عَلَيْهِمَا وَالتَّعْطِيلِ لَهُمَا.
وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ الطُّوفِيُّ فِي رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ هُوَ أَدَقُّ وَأَوْسَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَأَدِلَّتُهُ أَقْوَى، وَقَدْ صَرَّحَ هُوَ بِذَلِكَ فَقَالَ:
" وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا مُسْتَفِيدِينَ لَهَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ هِيَ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ، بَلْ هِيَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ التَّعْوِيلُ عَلَى النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَبَاقِي الْأَحْكَامِ " اهـ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ:
" وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، دُونَ الْعِبَادَاتِ وَشَبَهِهَا; لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ حَقٌّ لِلشَّارِعِ خَاصٌّ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَقِّهِ كَمًّا وَكَيْفًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَيَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ عَلَى مَا رَسَمَ لَهُ، وَلِأَنَّ غُلَامَ أَحَدِنَا لَا يُعَدُّ مُطِيعًا خَادِمًا لَهُ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ مَا رَسَمَ سَيِّدُهُ وَفَعَلَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرْضِيهِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلِهَذَا لَمَّا تَعَبَّدَتِ الْفَلَاسِفَةُ بِعُقُولِهِمْ وَرَفَضُوا
بِخِلَافِ حُقُوقِ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَإِنَّ أَحْكَامَهَا سِيَاسِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِهِمْ، وَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةَ وَعَلَى تَحْصِيلِهَا الْمُعَوَّلُ.
" وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الشَّرْعَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِمْ فَلْتُؤْخَذْ مِنْ أَدِلَّتِهِ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَهِيَ أَقْوَاهَا وَأَخَصُّهَا فَلْنُقَدِّمْهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ.
" ثُمَّ إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَخْفَى مَصَالِحُهَا عَنْ مَجَارِي الْعُقُولِ وَالْعَادَاتِ. وَأَمَّا مَصْلَحَةُ سِيَاسَةِ الْمُكَلَّفِينَ فِي حُقُوقِهِمْ فَهِيَ مَعْلُومَةٌ لَهُمْ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْعَقْلِ. فَإِذَا رَأَيْنَا الشَّرْعَ مُتَقَاعِدًا عَنْ إِفَادَتِهَا عَلِمْنَا أَنَّا أَحَلْنَا فِي تَحْصِيلِهَا عَلَى رِعَايَتِهَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا. وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى سِيَاقِهِ بِرُمَّتِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْمُجَلَّدِ التَّاسِعِ مِنَ الْمَنَارِ (ص ٧٤٥ - ٧٧٠).
مَا حَرَّرَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ:
وَأَمَّا الشَّاطِبِيُّ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْبَابَ الثَّامِنَ مِنْ كِتَابِهِ الِاعْتِصَامِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ؛ فَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قِيَاسٍ صَحِيحٍ أَوْ إِلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فَقَدْ وَافَقَ الشَّاطِبِيُّ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى عَدِّهَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ، وَوَضَّحَهَا بِعَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:
(١) اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ الَّتِي سُمِّيَ مَجْمُوعُهَا الْمُصْحَفَ.
(٢) اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، كَذَا قَالَ.
(٣) قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَقَوْلُ عَلِيٍّ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) فِي ذَلِكَ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ.
(٤) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الضَّرْبِ فِي التُّهَمِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنَ السِّجْنِ فِي التُّهَمِ، مَعَ أَنَّ السِّجْنَ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ.
(٥) مَا قَرَّرَهُ وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ جَوَازِ وَضْعِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ضَرَائِبَ وَإِعَانَاتٍ مُؤَقَّتَةً عِنْدَ الضَّرُورَةِ ; لِتَكْثِيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمَلِكِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَفِي بِذَلِكَ.
(٦) اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِقَابِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ بِأَخْذِ الْمَالِ.
(٧) الزِّيَادَةُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ إِذَا تَوَالَتْ ضَرُورَةُ الْأَكْلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ فِي الْمَجَاعَاتِ، أَوْ عَمَّ الْحَرَامُ بَلَدًا أَوْ قُطْرًا فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، فَحِينَئِذٍ لَا يُنْظَرُ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنَ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ حَلَالًا. هَذَا مُلَخَّصُ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ، وَعَزَى الْقَوْلَ بِهِ إِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَحَالَ فِي بَسْطِهِ عَلَى الْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ; أَيْ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ.
(٩) إِقَامَةُ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ (خَلِيفَةٍ) غَيْرِ مُجْتَهِدٍ فِي الشَّرْعِ إِذَا فُقِدَ الْمُجْتَهِدُ. قَالَ: " إِنَّ الْعُلَمَاءَ نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا لِمَنْ نَالَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَيْضًا أَوْ كَادُوا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ رُقِّيَ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا فُرِضَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ وَافْتَقَرُوا إِلَى إِمَامٍ يُقَدِّمُونَهُ; لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ وَتَسْكِينِ ثَوْرَةِ الثَّائِرِينَ وَالْحِيَاطَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْثَلِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَتَّجِهُ إِلَّا عَلَى فَرْضِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا بَحْثٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ هُوَ لَا يَتَّسِعُ لِتَحْقِيقِ مَسْأَلَةِ الْمِثَالِ الْمَفْرُوضَةِ أَيْضًا.
(١٠) بَيْعَةُ مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ ابْتِدَاءً أَوِ اسْتَدَامَتُهَا بَعْدَ وُجُودِ الْكُفْءِ لَهَا كَالْقُرَشِيِّ الْمُجْتَهِدِ... إِلَخْ; خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ وَتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ مُبَايَعَةَ ابْنِ عُمَرَ لِيَزِيدَ وَلِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى كَوْنِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، وَأَخْذَهُمَا الْمُلْكَ بِالسَّيْفِ لَا بِاخْتِيَارِ الْأُمَّةِ، وَنَهْيَ مَالِكٍ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبْحَاثٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ; فَلَا تُؤْخَذُ عَلَى إِطْلَاقِهَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحَارِبِينَ (الْبُغَاةِ) قَوْلٌ وَجِيزٌ فِيهَا،
وَإِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا; مِنْهُ أَنَّ تَحْرِيرَهَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمُصَنَّفٍ خَاصٍّ، وَمِنْهُ أَنَّ الرَّأْيَ الْغَالِبَ عَلَى الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَائِرِينَ ; كَمَا فَعَلَتِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ إِذْ كَوَّنَتْ قُوَّةً خَرَجَتْ بِهَا عَلَى سُلْطَانِهَا عَبْدِ الْحَمِيدِ فَسَلَبَتِ السُّلْطَةَ مِنْهُ، وَخَلَعَتْهُ بِفَتْوَى مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فِيهَا.
وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الشَّاطِبِيُّ لِمَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ بَعْضَهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَوِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ يَجْمَعُهُ كُلَّهُ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ كِتَابَتِهِ، وَاتِّخَاذُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُتَّابَ لَهُ يَكْتُبُونَ بِأَمْرِهِ كُلَّ مَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَسَبَبُ عَدَمِ جَمْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ فِي الْمُصْحَفِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِطَالَةِ الْفِكْرَةِ، وَهُوَ احْتِمَالُ الْمَزِيدِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَجِدَ شُبْهَةً
وَالْحَقُّ الْجَلِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّ مَسَائِلَ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى الْحُكَّامِ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ حَدِيثُ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " بِالتَّبَعِ لِآيَاتِ رَفْعِ الْمَضَارَّةِ فِي الْإِرْثِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَيْ رَفْعُ الضَّرَرِ الْفَرْدِيِّ وَالْمُشْتَرِكِ، وَمِنْهُ أُخِذَتْ قَاعِدَةُ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا عُلِمَ مِنْ نُصُوصِ الشَّارِعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَأَمْثِلَةُ هَذَا فِي أَعْمَالِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَالِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، عَلَى أَنَّ جَمَاهِيرَ الْفُقَهَاءِ يُصَرِّحُونَ دَائِمًا بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، فَقَوَاعِدُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَكْثَرُهَا يَدُورُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
إِنَّمَا فَرَّ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ تَقْرِيرًا صَرِيحًا مَعَ اعْتِبَارِهِمْ كُلِّهِمْ لَهُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ خَوْفًا مِنِ اتِّخَاذِ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ إِيَّاهُ حُجَّةً لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرْضَاءِ اسْتِبْدَادِهِمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ، فَرَأَوْا أَنْ يَتَّقُوا ذَلِكَ بِإِرْجَاعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ
إِلَى النُّصُوصِ وَلَوْ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْخَفِيَّةِ، فَجَعَلُوا مَسْأَلَةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ أَدَقِّ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَلِمَ يَنُوطُوهَا بِاجْتِهَادِ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. وَهَذَا الْخَوْفُ فِي مَحَلِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَقِ الْأُمَّةَ مِنْ أَهْوَاءِ الْحُكَّامِ كَمَا يَنْبَغِي، إِذْ كَانَ يُوجَدُ فِي عَهْدِ كُلِّ ظَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ مَنْ يُمَهِّدُ لَهُ الطَّرِيقَ وَلَوْ لِبَعْضِ مَا يُرِيدُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَالطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِحِفْظِ الْحَقِّ وَإِقَامَةِ مِيزَانِ الْعَدْلِ: هِيَ رَفْعُ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ عَلَى الْأَسَاسِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَقَوْلِهِ: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤: ٥٩) كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْمَصَالِحِ وَلَا بِالتَّضْيِيقِ فِي تَفْرِيعِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا. فَإِذَا نِيطَ ذَلِكَ بِأُولِي الْأَمْرِ أَيْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الْإِمَامَ (الْخَلِيفَةَ) وَيَكُونُونَ أَهْلَ الشُّورَى لَهُ وَيَكُونُ هُوَ مُقَيَّدًا بِمَا يُقَرِّرُونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُخْشَى مِنْ جَعْلِ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ ذَرِيعَةً لِلْمَفَاسِدِ مَا يُخْشَى مِنْهُ فِي حَالِ إِقْرَارِ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ التَّضْيِيقِ فِي مَسَالِكِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ. وَإِنَّمَا مَثَارُ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا أَنْ يُوَسَّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. وَأَنْ يُقَرَّ عَلَى الْمُلْكِ كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، وَيَرْضَى بِتَقْلِيدِهِ كُلُّ جَائِرٍ جَاهِلٍ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَضَاعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ.
عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الدِّينِيَّةَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ: الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ الدِّينِيَّانِ، تُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ السُّنَّةِ لَهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يُنْظَرُ فِي دَلَائِلِهِ، وَيُرَجَّحُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِيهِ إِلَى الشُّذُوذِ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِحْدَاثُ عِبَادَةٍ جَدِيدَةٍ أَوِ الْإِتْيَانُ بِعِبَادَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَا بِقِيَاسٍ وَلَا بِدَعْوَى إِجْمَاعٍ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالنَّظَرِيَّاتِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ بِكِتَابِهِ وَبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَانَا عَنِ السُّؤَالِ الْمُقْتَضِي لِزِيَادَةِ
التَّكَالِيفِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ مُرَاغِمًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ أَوْ طَاعِنًا فِي بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ زَاعِمًا أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْهُ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالدِّينِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ نَصٌّ مُحْكَمٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لُغَةً، وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ بِمَوْضُوعِهِ أَوِ الْعَامَّةِ كَنَفْيِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٦: ١١٩) وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهَا.
الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ صَحِيحٌ بِعُمُومِهِ أَوْ تَعْلِيلِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَوْ عَمِلَ بِهَا جُمْهُورُهُمْ، وَعُرِفَ شُذُوذُ مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ فِي هَذَا عَيْنُ الْوَاجِبِ فِيمَا قَبْلَهُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ.
الثَّالِثُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ تَكْلِيفِيٌّ غَيْرُ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ، أَوْ حَدِيثٌ غَيْرُ وَاهٍ وَلَا صَحِيحٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ أَوْ صَرَاحَةِ دَلَالَتِهِ. فَمِثْلُ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَيُعْذَرُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَعِيبُهُ وَلَا يَنْتَقِدُهُ، كَمَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدُهُمْ مُخَالِفَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ لَا إِمَامًا وَلَا مُقْتَدِيًا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ تَحْرِيمَهَا وَبَعْضُهُمْ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا، فَعَمِلَ كُلٌّ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا يَسْتَنْبِطُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ وَأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّفُهُ تَقْلِيدًا لِمَنِ اسْتَنْبَطَهُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَشْهَرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَأَنْ يَأْخُذَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَأْخَذَهُ وَظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَا لِآرَاءِ النَّاسِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (٧: ٣).
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يَنْظُرَ أُولُو الْأَمْرِ وَيَتَشَاوَرُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ النَّقْلِ، وَمِنْ حَيْثُ طَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ أَلْحَقُوهُ بِهِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَإِلَّا كَانَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
الرَّابِعُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ غَيْرُ وَارِدٍ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَادَاتِ
الْخَامِسُ: مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِيهِ مَا يَقْتَضِي فِعْلًا وَلَا تَرْكًا فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْهُ رَحْمَةً مِنْهُ وَتَخْفِيفًا عَلَى عِبَادِهِ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُكَلِّفَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ أَوْ تَرْكَ شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ مَا أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا خَاصٌّ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا وَمَشْرُوطٌ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: " لَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " وَأَمَّا أَمْرُ الدِّينِ فَقَدْ تَمَّ وَكَمُلَ. وَهُوَ تَعَالَى شَارِعُ الدِّينِ كَمَا قَالَ: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (٤٢: ١٣) إِلَخْ. وَكَمَا قَالَ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (٤٥: ١٨) وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَلِّغُ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (٤٢: ٤٨) وَمُبِيِّنُهُ كَمَا قَالَ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤) فَلَيْسَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ عَلَى أَحَدٍ فِي أَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَدْلُولِ النُّصُوصِ وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهَا، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ أَوِ ادُّعِيَ لَهُ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَوْ جُعِلَ شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوِ اتَّخَذَ رَبًّا مِنْ دُونِهِ (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢: ٢١).
وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ حَتَّى إِنَّ فِيمَا أَثْبَتْنَاهُ هُنَا
تَكْرَارًا وَإِعَادَةً لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ " وَفِي الْإِعَادَةِ إِفَادَةٌ " كَمَا قِيلَ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْأُسْلُوبُ وَتَنَوَّعَ التَّعْبِيرُ.
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
وَجْهُ اتِّصَالِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِمَا قَبْلَهُمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى فِي السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُمَا عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَعَنِ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ تَرْكًا لِمُبَاحٍ يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالْحَلِفِ بِاسْمِ اللهِ تَنَسُّكًا وَتَعَبُّدًا مَعَ اعْتِقَادِ إِبَاحَتِهِ فِي نَفْسِهِ، لَا شَرْعًا يُدْعَى إِلَيْهِ وَيُعْتَقَدُ وُجُوبُهُ وَبَيَّنَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْأَنْصَابَ وَالْأَزْلَامَ، وَصَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَبَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ، نَهَى أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا لَمْ يَكُنْ حَرَّمَهُ، أَوْ شَرْعِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ شَرَعَهُ، بِأَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا وَفَضْلًا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ أَوْرَدَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ ضَلَالَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمَا شَرَعُوهُ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا قَلَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جَهْلِهِمْ، مَعَ بَيَانِ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَكَوْنِهِ يُنَافِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ فَقَالَ:
(مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) هَذِهِ أَرْبَعَةُ نُعُوتٍ لِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَرَّمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى أَنْفُسِهَا.
(فَالْبَحِيرَةُ) : فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي يُبْحِرُونَ أُذُنَهَا أَيْ يَشُقُّونَهَا شَقًّا وَاسِعًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بِهَا ذَلِكَ إِذَا أُنْتِجَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ وَكَانَ الْخَامِسُ أُنْثَى كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِذَا وَلَدَتْ عَشَرَةَ أَبْطُنٍ، يَفْعَلُونَهُ لِيَكُونَ عَلَامَةً عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا أَوْ
رُكُوبِهَا أَوِ الْحَمْلِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (بَحَرَ) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ: " كُلُّ مَكَانٍ وَاسِعٍ جَامِعٍ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ " ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ عِدَّةَ كَلِمَاتٍ فِيهَا مَعْنَى السَّعَةِ.
(وَالسَّائِبَةُ) : النَّاقَةُ الَّتِي تُسَيَّبُ بِنَذْرِهَا لِآلِهَتِهِمْ فَتَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَا يُجَزُّ صُوفُهَا وَلَا يُحْلَبُ لَبَنُهَا إِلَّا لِضَيْفٍ، فَهِيَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَابَ الْفَرَسُ
(وَالْوَصِيلَةُ) : الشَّاةُ الَّتِي تَصِلُ أُنْثَى بِأُنْثَى فِي النِّتَاجِ وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي وَصَلَتْ أَخَاهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إِذَا وَلَدَتْ لَهُ شَاتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَا يَذْبَحُونَ أَخَاهَا مِنْ أَجْلِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نُتِجَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ فَإِنْ كَانَ السَّابِعُ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ اسْتَحْيَوْهُمَا، وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا.
(وَالْحَامِي) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْحِمَايَةِ، وَهُوَ فَحْلُ الضِّرَابِ أَيِ التَّلْقِيحِ، قِيلَ: إِذَا أَتَمَّ ضِرَابَ عَشَرَةِ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ، وَتَرَكُوهُ لَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ تَمْيِيزًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا تَرَى، وَأَقْوَاهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:
الْبَحِيرَةُ: الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ " قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْوَصِيلَةُ: النَّاقَةُ الْبِكْرُ تُبَكِّرُ فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ ثُمَّ تُثَنِّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ إِنْ وَصَلَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، وَالْحَامِي: فَحْلُ الْإِبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَّعُوهُ (أَيْ تَرَكُوهُ) لِلطَّوَاغِيتِ وَأَعْفَوْهُ مِنَ الْحَمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ الْحَامِي.
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَقِيَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَحْثِ وَمَنِ ابْتَدَعَهُ لِلْعَرَبِ وَغَيَّرَ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا ابْتَدَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ.
أَمَّا مَعْنَى الْجُمْلَةِ: فَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لَهُمْ تَحْرِيمَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَأَخَوَاتِهِمَا أَيْ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بِزَعْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ أَسْنَدُوا تَحْرِيمَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً أَوِ ادِّعَاءً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (٦: ١٤٨) أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ مِنَّا فَفَعَلْنَاهُ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ أَمْ لَمْ يُسْنِدُوهُ إِلَيْهِ. أَمَّا كَوْنُ إِسْنَادِ تَحْرِيمِهِ إِلَيْهِ بِالتَّصْرِيحِ
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أَيْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ دُونَ الْعَبَثِ وَالْخُرَافَاتِ وَإِلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهَا وَالْمُبَيِّنِ لِمُجْمَلِهَا فَاتَّبِعُوهُ فِيهَا، قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) أَيْ أَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَا يَكْفِي الْأَفْرَادَ وَالْأُمَمَ وَمَا لَا يَكْفِي بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَأَيْنَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْجُهَلَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَبَّطُونَ فِي وَثَنِيَّةٍ وَخُرَافَاتٍ، وَوَأْدِ بَنَاتٍ، وَعُدْوَانٍ مُسْتَمِرٍّ، وَقِتَالٍ مُسْتَمِرٍّ، وَعَدَاوَةٍ وَبَغْضَاءَ، وَظُلْمٍ لِلْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، عَلَى مَا أُوتُوا مِنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ، وَعَزِيمَةٍ وَدَهَاءٍ، وَحَزْمٍ وَمُضَاءٍ، وَعِزَّةٍ وَإِبَاءٍ، وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارٍ وَآرَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، وَالْخُلَفَاءَ
هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَةُ الْمُشَابِهَةُ لَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (٢: ١٧٠) هُمَا أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنَ الْآيَاتِ فِي بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ التَّقْلِيدَ خِلَافُ مُقْتَضَى حُكْمِ الْعَقْلِ وَدَلَائِلِ الْعِلْمِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَلَكِنَّ خَلَفَنَا الطَّالِحَ رَجَعُوا إِلَيْهِ خِلَافًا لِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ، حَتَّى عَادُوا وَهُمْ فِي حِجْرِ الْإِسْلَامِ، شَرًّا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ فِي حِجْرِ الْأَصْنَامِ.
(فَصْلٌ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ وَشُبُهَاتِ أَهْلِهِ).
الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِي الدِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَأَقْوَالُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا تَقَرَّرَتْ بِدْعَةُ التَّقْلِيدِ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعُ، أَيْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي وَصَفَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا خَيْرُ الْقُرُونِ،
وَشَرُّ التَّقْلِيدِ مَا فَرَّقَ الْأُمَّةَ شِيَعًا وَجَعَلَ الِاخْتِلَافَ فِي الدِّينِ عِنْدَهَا دِينًا بِانْتِسَابِ كُلِّ شِيعَةٍ وَطَائِفَةٍ إِلَى رَجُلٍ يَلْتَزِمُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَالَ مَنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَإِنْ خَالَفَتْ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. هَذَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُتَفَرِّقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يَرُدَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لَا إِلَى أَقْوَالِ النَّاسِ غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ، وَجَعَلَ وَظِيفَةَ الْكِتَابِ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ إِلَّا الْبَغْيَ وَالضَّلَالَ.
ثُمَّ إِنَّ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِالدِّينِ وَطَالَبَ بِالدَّلِيلِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْقَوْلِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (١٠: ٦٨) السُّلْطَانُ: الْبُرْهَانُ. وَالتَّقْلِيدُ لَيْسَ بِعِلْمٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ وَتَنَاقُضَ أَهْلِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ، وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا مَا حَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّوْكَانِيُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ فِي مَبْحَثِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِهِ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) : اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ: هَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ، وَادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ. قَالَ: وَنَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ. وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَدِدْتُ أَنِّي ضُرِبْتُ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ
وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا (الْقُولَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ) فَلَا نُطَوِّلُ الْمَقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ
الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدِّ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ. فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَا عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بَعْدَ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ، وَقَالَ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ.
(وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ) : التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ; وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ النَّاسِ لَا الْمُقَلِّدِينَ! فَيَاللهِ الْعَجَبُ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْأَكْثَرِ، وَجَعَلَ الْحُجَّةَ لَهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ! فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمُ أَلْبَتَّةَ وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ وَلَا سَمِعُوا بِهِ، بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللهِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إِلَّا السُّؤَالَ عَنْ حُكْمِ اللهِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ كَمَا زَعَمُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ.
فَوُجُودُ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مُنْذُ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا أَنَّ الْمَنْعَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا. وَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ خَاصَّةً فَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَقْصِدِ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَقْوَالِ الْمُقَلِّدِينَ فِي شَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِمْ إِجْمَاعٌ.
" وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فَضْلًا عَمَّنْ أَوْجَبَهُ بِحُجَّةٍ يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهَا قَطُّ، وَلَمْ نُؤْمَرْ بِرَدِّ شَرَائِعِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى آرَاءِ الرِّجَالِ، بَلْ أُمِرْنَا بِمَا قَالَهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٤: ٥٩) أَيْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ مَنْ يُرْسِلُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ.
" وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اسْتِبْعَادِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُقَصِّرُونَ نُصُوصَ الشَّرْعِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلتَّقْلِيدِ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوهُ، فَهَهُنَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ، وَهِيَ سُؤَالُ الْجَاهِلِ لِلْعَالَمِ عَنِ الشَّرْعِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ، لَا عَنْ رَأْيِهِ الْبَحْتِ، وَاجْتِهَادِهِ الْمَحْضِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ عَمَلُ الْمُقَصِّرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ أَهْلَ هَذِهِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَمَّ اللهُ تَعَالَى الْمُقَلِّدِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (٤٣: ٢٢، ٢٣)، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (٩: ٣١)، (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ) (٣٣: ٦٧) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَ الْبَحْثِ عَلَى التَّمَامِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى الرِّسَالَةِ الَّتِي قَدَّمْتُ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْمُؤَلَّفِ الَّذِي سَمَّيْتُهُ " أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ ".
" وَمَا أَحْسَنَ مَا حَكَاهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ: هَلْ
ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدُ. وَإِنْ قَالَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ؟ فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ; لِأَنَّ مُعَلِّمِي مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ. قِيلَ لَهُ: تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِكَ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْ مُعَلِّمِكَ، كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنْ مَنَّ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ " انْتَهَى.
(قُلْتُ) : تَتْمِيمًا لِهَذَا الْكَلَامِ، وَعِنْدَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مَنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ الْمُرْسَلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ وَلَا فِعْلَهُ وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
(وَاعْلَمْ) : أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنْ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ; وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ عَرَفْتَ حَالَ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بالرَّأْيِ لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ عَنْ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِيمَا كَلَّفَهُ اللهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى لَادَّعَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ اهـ.
هَذَا مَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَإِنَّنَا سَنَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بُطْلَانَ التَّقْلِيدِ وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ فِي فَهْمِهِ لِلدِّينِ وَرَأْيِهِ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ، أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِصِيغَةِ الْإِغْرَاءِ بِأَنْ يَهْتَمُّوا بِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُعَدُّ رُشْدًا وَهُدًى، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا أَصْلَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَامُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمٍ وَتَعْلِيمٍ وَعَمَلٍ وَإِرْشَادٍ، فَلَا يَضُرُّهُمْ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ عَنْ مَحَجَّةِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ، وَعَنْ صِرَاطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْفِسْقِ وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أَيِ الْزَمُوا إِصْلَاحَ أَنْفُسِكُمْ، وَتَزْكِيَتَهَا بِمَا شَرَّعَ اللهُ لَكُمْ، لَا يَضُرُّكُمْ ضَلَالُ غَيْرِكُمْ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِذْ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَمِنْ أُصُولِ الْهِدَايَةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِذَنْ لَا تَكُونُونَ مُهْتَدِينَ إِلَّا إِذَا بَلَغْتُمْ دَعْوَةَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَعَلِمْتُمِ الْجَاهِلِينَ مَا أَعْطَاكُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَأَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَالْعِلْمَ كَمَا كَتَمَهُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَنَهُمُ اللهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ وَلِسَانِ نَبِيِّكُمْ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أَيْ إِلَيْهِ وَحْدَهُ رُجُوعُكُمْ وَرُجُوعُ مَنْ ضَلَّ عَمَّا اهْتَدَيْتُمْ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُكُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَجْزِيكُمْ بِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ يَعْنِي ابْنَ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسٌ
قَالَ: " قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ قَالَ:
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَارِثَةَ اللَّخْمِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ: " مَا تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ كَعَمَلِكُمْ " قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَ غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ: " يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِزَمَانِهَا إِنَّهَا الْيَوْمَ مَقْبُولَةٌ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانُهَا تَأْمُرُونَ فَيَصْنَعُ بِكُمْ كَذَا وَكَذَا أَوْ قَالَ فَلَا يَقْبَلُ مِنْكُمْ، فَحِينَئِذٍ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ.
وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) الْآيَةَ قَالَ: " كَانُوا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَبْدِ اللهِ: أَلَا أَقُومُ فَآمُرُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَالَ آخَرُ إِلَى جَنْبِهِ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةَ. قَالَ: فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَهْ لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ حَيْثُ أُنْزِلَ وَمِنْهُ آيٌ قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عِقَالٍ، قَالَ: " قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: لَوْ جَلَسْتَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَمْ تَأْمُرْ وَلَمْ تَنْهَ; فَإِنَّ اللهَ قَالَ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَا لِأَصْحَابِي لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَكُنَّا نَحْنُ الشُّهُودَ وَأَنْتُمُ الْغُيَّبَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَقْوَامٍ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِنَا إِنْ قَالُوا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ ".
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَبُو عَاصِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ جَلِيدٌ فِي الْعَيْنِ شَدِيدُ اللِّسَانِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفَرٌ سِتَّةٌ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَسْرَعَ فِيهِ،
وَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ لَا يَأْلُو، وَكُلُّهُمْ بَغِيضٌ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ دَنَاءَةً إِلَّا الْخَيْرَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَأَيُّ دَنَاءَةٍ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالشِّرْكِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَسْتُ إِيَّاكَ أَسْأَلُ إِنَّمَا أَسْأَلُ الشَّيْخَ، فَأَعَادَ عَلَى عَبْدِ اللهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَعَلَّكَ تَرَى لَا أَبَا لَكَ أَنِّي سَآمُرُكَ أَنْ تَذْهَبَ فَتَقْتُلَهُمْ! عِظْهُمْ وَانْهَهُمْ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الْآيَةَ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي مَازِنٍ قَالَ: " انْطَلَقْتُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا قَوْمٌ جُلُوسٌ فَقَرَأَ أَحَدُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْيَوْمَ ".
وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا ابْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: " كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَتَذَكَّرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقُلْتُ أَنَا: أَلَيْسَ اللهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ؟ فَأَقْبَلُوا عَلَيَّ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، وَقَالُوا: تَنْزِعُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَا تَعْرِفُهَا وَلَا تَدْرِي مَا تَأْوِيلُهَا فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَكَلَّمْتُ. وَأَقْبَلُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَلَمَّا حَضَرَ قِيَامُهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، وَإِنَّكَ
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَالَ: تَلَا الْحَسَنُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِهَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، مَا كَانَ مُؤْمِنٌ فِيمَا مَضَى وَلَا مُؤْمِنٌ فِيمَا بَقِيَ إِلَّا وَإِلَى جَنْبِهِ مُنَافِقٌ يَكْرَهُ عَمَلَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِذَا أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَا يَضُرُّكَ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَذَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ: إِذَا هُدِمَتْ كَنِيسَةُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجُعِلَتْ مَسْجِدًا وَظَهَرَ لُبْسُ الْعَصَبِ فَحِينَئِذٍ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ اهـ.
أَقُولُ: عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا بِمُجَرَّدِ إِصْلَاحِهِ لِنَفْسِهِ إِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِإِصْلَاحِ غَيْرِهِ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا فَرْضٌ لَازِمٌ دَائِمٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ فَرِيضَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَسْقُطُ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ فَسَادًا لَا يُرْجَى مَعَهُ تَأْثِيرُ الْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ، أَوْ فَمَاذَا يَخْشَى أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِيذَاءِ الْوَاعِظِ الْمُرْشِدِ، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِقُوَّةِ رِوَايَتِهِ، وَسَائِرِ أَدِلَّتِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنَّهُ يَنَالُ أَذًى إِذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ
حِينَئِذٍ فَضِيلَةً لَا فَرِيضَةً، وَهَذَا إِذَا رُجِّحَ أَنَّ
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَصْرِيحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَحْكَامًا لَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهَا إِلَّا بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، أَيْ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ كَآيَاتِ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، وَكَثِيرًا مَا نُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِنَا مَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُهُ فِي عَصْرِنَا، كَمَا بَيَّنَ مَنْ قَبْلَنَا مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُصُورِهِمْ، وَلَا غَرْوَ فَقَدْ وُصِفَ الْقُرْآنُ فِي الْآثَارِ بِأَنَّهُ لَا تَنْتَهِي عَجَائِبُهُ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
جَاءَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَعْنَاهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مَا نَصُّهُ:
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّحَّاسُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدَ جَامًا مِنْ فِضَّةٍ بِالذَّهَبِ فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللهِ مَا كَتَمْتُمَاهَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا، ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقِيلَ: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا بِاللهِ: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، وَأَخَذَ الْجَامَ، وَفِيهِ نَزَلَتْ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " كَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءٍ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ يَتَّجِرَانِ إِلَى مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُطِيلَانِ الْإِقَامَةَ بِهَا، فَلَمَّا هَاجَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَّلَا مَتْجَرَهُمَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَخَرَجُوا جَمِيعًا تُجَّارًا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ اشْتَكَى بُدَيْلٌ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ وَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ فَأَخَذَا مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ حَجَرَاهُ كَمَا كَانَ وَقَدِمَا الْمَدِينَةَ عَلَى أَهْلِهِ فَدَفَعَا مَتَاعَهُ، فَفَتَحَ أَهْلُهُ مَتَاعَهُ فَوَجَدُوا كِتَابَهُ وَعَهْدَهُ وَمَا خَرَجَ بِهِ وَفَقَدُوا شَيْئًا فَسَأَلُوهُمَا عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي قَبَضْنَا لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْنَا. فَقَالُوا لَهُمَا: هَذَا كِتَابُهُ بِيَدِهِ. قَالُوا: مَا كَتَمْنَا لَهُ شَيْئًا فَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) هَذَا لِمَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فَهَذَا لِمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُ اللهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمَيْنِ، فَإِنِ ارْتِيبَ بِشَهَادَتِهِمَا اسْتَحْلَفَا بِاللهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا اشْتَرَيْنَا بِشَهَادَتِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا، فَإِنِ اطَّلَعَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا فِي شَهَادَتِهِمَا قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَحَلَفَا بِاللهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) يَقُولُ: إِنِ اطَّلَعَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَيْنِ كَذَبَا قَامَ الْأَوْلِيَاءُ فَحَلَفَا أَنَّهُمَا كَذَبَا (ذَلِكَ أَدْنَى) أَنْ يَأْتِيَ الْكَافِرَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) فَتُتْرَكَ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ وَيُحْكَمَ بِشَهَادَةِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الْمُسْلِمِينَ إِقْسَامٌ، إِنَّمَا الْإِقْسَامُ إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قَالَ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَفِي قَوْلِهِ: (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) يَقُولُ: يَحْلِفَانِ بِاللهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَفِي قَوْلِهِ: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : قَالَ: " مَا مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قَدْ جَاءَ عَلَى شَيْءٍ جَاءَ عَلَى إِدْلَالِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَئِنْ أَنَا لَمْ أُخْبِرْكُمْ بِهَا لَأَنَا أَجْهَلُ مِنَ الَّذِي يَتْرُكُ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، هَذَا رَجُلٌ خَرَجَ مُسَافِرًا وَمَعَهُ مَالٌ فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتَهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَرَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَدَّى فَسَبِيلُ مَا أَدَّى، وَإِنْ هُوَ جَحَدَ اسْتُحْلِفَ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ دُبُرَ صَلَاةٍ: إِنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ إِلَيَّ وَمَا غَيَّبْتُ شَيْئًا، فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ فَإِذَا أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَا الْكِتَابِ فَشَهِدَا عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَوْمُ عَلَيْهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ
مَا لَهُمْ جُعِلَتْ أَيْمَانُ الْوَرَثَةِ مَعَ شَهَادَتِهِمْ ثُمَّ اقْتَطَعُوا حَقَّهُ فَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ: (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) انْتَهَى مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَفِيهِ غَلَطٌ وَتَحْرِيفٌ مِنَ الطَّبْعِ لَا سِيَّمَا أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتَفْسِيرِ بَعْضِهَا مِنْ قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ.
وَأَمَّا وَجْهُ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً فَقَدْ قَالَ الرَّازِيُّ فِيهِ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أَمَرَ بِحِفْظِ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) انْتَهَى وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ لَا يَصِحُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَ الْكَلَامَ عَلَى لَازِمِ مَعْنَاهُ. وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَّرَنَا فِي آخِرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِأَنَّ مَرْجِعَنَا إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يُحَاسِبُنَا وَيُجَازِينَا نَاسَبَ أَنْ يُرْشِدَنَا فِي أَثَرِ ذَلِكَ إِلَى الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِلَى الْعِنَايَةِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَضِيعَ.
وَأَمَّا مُفْرَدَاتُهَا الَّتِي يَحْسُنُ التَّذْكِيرَ بِمَعْنَاهُ قَبْلَ تَفْسِيرِ النَّظْمِ الْكَرِيمِ. فَمِنْهَا (الشَّهَادَةُ) وَهِيَ كَالشُّهُودِ: حُضُورُ الشَّيْءِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِ بِالْبَصَرِ أَوِ الْبَصِيرَةِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: لَكِنَّ الشُّهُودَ بِالْحُضُورِ الْمُجَرَّدِ أَوْلَى، وَالشَّهَادَةَ مَعَ الشَّهَادَةِ أَوْلَى... وَالشَّهَادَةُ قَوْلٌ صَادِرٌ عَنْ عِلْمٍ حَصَلَ بِمُشَاهِدَةِ بَصِيرَةٍ أَوْ بَصَرٍ. وَ " شَهِدْتُ " يُقَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ وَبِلَفْظِهِ تُقَامُ الشَّهَادَةُ، وَيُقَالُ " أَشْهَدُ بِكَذَا " وَلَا يَرْضَى مِنَ الشَّاهِدِ أَنْ يَقُولَ " أَعْلَمُ " بَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ " أَشْهَدُ "، وَالثَّانِي: يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ فَيَقُولُ " أَشْهَدُ بِاللهِ
وَلِقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي.
انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالشَّيْءِ.
(وَالْبَيِّنُ) أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ يُفِيدُ صِلَةَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ أَوِ الْأَشْيَاءِ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ حَالٍ أَوْ عَمَلٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْلِ وَالْفُرْقَةِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: " ذَاتُ الْبَيْنِ " لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (٨: ١) أَيْ مَا بَيْنَكُمْ مِنْ عَدَاوَةٍ أَوْ فَسَادٍ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ مُتَّصِلٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ.
وَمِنْهَا (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ سَافَرْتُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمِنْهَا (تَحْبِسُونَهُمَا)
وَهُوَ مِنَ الْحَبْسِ بِمَعْنَى إِمْسَاكِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ مِنَ الِانْبِعَاثِ، وَالْحَبْسُ مَصْنَعُ الْمَاءِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ الْجَرَيَانِ. وَمِنْهَا (عُثِرَ) وَهُوَ مِنَ الْعُثُورِ عَلَى الشَّيْءِ بِمَعْنَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ طَلَبٍ لَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ حُسْبَانٍ، وَأَعْثَرَهُ عَلَيْهِ أَوْقَفَهُ عَلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ مِنْ عَثَرَ (كَقَعَدَ) عِثَارًا وَعُثُورًا إِذَا سَقَطَ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْآيَاتِ وَتَفْسِيرُ نَظْمِهَا فَنُبَيِّنُهُ بِمَا يَلِي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أَيْ حُكْمُ مَا يَقَعُ بَيْنَكُمْ مِنَ الشَّهَادَةِ أَوْ كَيْفِيَّتُهُ إِذَا نَزَلَتْ بِأَحَدِكُمْ أَسْبَابُ الْمَوَتِ وَمُقَدِّمَاتُهُ وَأَرَادَ حِينَئِذٍ أَنْ يُوصِيَ هُوَ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ... إِلَخْ. أَوِ الشَّهَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ بَيْنَكُمْ فِي ذَلِكَ هِيَ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ذَوِي الْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُشْهِدَهُمَا الْمُوصِي عَلَى وَصِيَّتِهِ سَوَاءٌ ائْتَمَنَهُمَا عَلَى مَا يُوصِي بِهِ، كَمَا فِي وَاقِعَةِ سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى إِشْهَادِهِ إِيَّاهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِذَلِكَ، وَمِنْ إِيجَازِ الْآيَةِ أَنَّ عِبَارَتَهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مَنْ أَقَارِبِكُمْ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أَيْ أَوْ شَهَادَةُ شَهِيدَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْأَجَانِبِ إِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَنَزَلَتْ بِكُمْ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ وَأَرَدْتُمُ الْإِيصَاءَ. وَفِي الْكَلَامِ تَأْكِيدٌ شَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ وَلِلْإِشْهَادِ عَلَيْهَا (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَنَّ السَّامِعَ لِمَا تَقَدَّمَ يَقُولُ: وَكَيْفَ يَشْهَدَانِ؟ فَأُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ، أَيْ تُمْسِكُونَ الشَّهِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ أُشْهِدَا عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعَصْرِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ عَدِيًّا وَتَمِيمًا فِيهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ جَرَى عَلَيْهِ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ فِيهِ هُوَ الْمُعْتَادَ الْمَعْرُوفَ وَلِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَقْعُدُ فِيهِ الْحُكَّامُ لِلْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ فِي الْمَظَالِمِ، وَالدَّعَاوَى لِاعْتِدَالِهِ وَاجْتِمَاعِ
أَوْ لِأَنَّهَا تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَتَحَرَّى الْمُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ فَيَكُونُ جَدِيرًا بِالصِّدْقِ مَنْ يَكُونُ قَرِيبَ عَهْدٍ بِهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمُرَادُ الظُّهْرُ أَوِ الْعَصْرُ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّهِيدَيْنِ إِذَا كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ صَلَاةُ أَهْلِ دِينِهِمَا أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ آنِفًا (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أَيْ فَيُقْسِمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِنْ شَكَكْتُمْ فِي صِدْقِهِمَا فِيمَا يُقِرَّانِ بِهِ، أَيْ وَتَسْتَقْسِمُونَهُمَا فَيُقْسِمَانِ، وَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَاءُ لِلْجَزَاءِ أَيْ تَحْبِسُونَهُمَا فَيُقْدِمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَى الْقَسَمِ. قِيلَ: هَذَا خَاصٌّ بِالشُّهُودِ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا اتُّهِمُوا، أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَقِيلَ: عَامٌّ وَقَدْ نُسِخَ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْآيَاتِ: قَالَ الرَّازِيُّ: وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يُصَرِّحَا فِي قَسَمِهِمَا بِقَوْلِهِمَا: (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أَيْ: لَا نَشْتَرِي بِيَمِينِ اللهِ ثَمَنًا، أَيْ لَا نَجْعَلُ يَمِينَ اللهِ كَالسِّلْعَةِ الَّتِي تُبْذَلُ لِأَجْلِ ثَمَنٍ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَ الْمُقْسَمُ لَهُ مِنْ أَقَارِبِنَا، وَصَحَّ إِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُقْسَمِ لِأَجْلِهِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (٦: ١٥٢) وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٤: ١٣٥) وَالْمُرَادُ أَنْ يَقُولَ الْمُقْسِمُ: إِنَّهُ يُشْهِدُ اللهَ بِالْقِسْطِ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ ثَمَنٌ يَبْتَغِيهِ لِنَفْسِهِ، وَلَا مُرَاعَاةُ قَرِيبٍ لَهُ إِنْ فَرَضَ أَنَّ لَهُ نَفْعًا فِي إِقْرَارِهِ وَقَسَمِهِ، أَيْ وَلَوِ اجْتَمَعَتِ الْمَنْفَعَتَانِ كِلْتَاهُمَا (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) وَيَقُولَانِ فِي قَسَمِهِمَا أَيْضًا: وَلَا نَكْتُمُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِأَنْ تُقَامَ لَهُ أَوِ الْمُؤَكَّدَةَ بِالْحَلِفِ بِهِ (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (٦٥: ٢)، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) أَيْ إِنَّا إِذَا اشْتَرَيْنَا بِالْقَسَمِ ثَمَنًا أَوْ رَاعَيْنَا بِهِ قَرِيبًا بِأَنْ كَذَبْنَا فِيهِ لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِنَا أَوْ مَنْفَعَةِ قَرَابَةٍ لَنَا، أَوْ كَتَمْنَا شَهَادَةَ اللهِ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا، بِأَنْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْحَقِّ وَكَتَمْنَا بَعْضًا لَمِنَ الْمُتَحَمِّلِينَ لِلْإِثْمِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِيهِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِجَزَائِهِ. وَالْإِثْمُ فِي الْأَصْلِ: مَا يَقْعُدُ بِصَاحِبِهِ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مِنْ مَعْصِيَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا التَّعْبِيرُ أَبْلَغُ مِنْ " إِنَّا إِذَا لَآثِمُونَ ".
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " اسْتُحِقَّ " بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِ التَّاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ
وَالْمَعْنَى: فَإِنِ اتَّفَقَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَنِ الشَّهِيدَيْنِ الْمُقْسِمَيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا بِالْكَذِبِ أَوِ الْكِتْمَانِ فِي الشَّهَادَةِ أَوْ بِالْخِيَانَةِ وَكِتْمَانِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ فِي حَالَةٍ ائْتَمَنَهُمَا عَلَيْهَا كَمَا ظَهَرَ فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ فَالْوَاجِبُ أَوْ فَالَّذِي يُعْمَلُ لِإِحْقَاقِ الْحَقِّ هُوَ أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَقُومَ رَجُلَانِ آخَرَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ الْوَارِثِينَ لَهُ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ ذَلِكَ الْإِثْمُ بِالْإِجْرَامِ عَلَيْهِمْ وَالْخِيَانَةِ لَهُمْ، وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ الْوَارِثَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا هُمَا الْأَوْلَيَيْنِ بِالْمَيِّتِ، أَيِ الْأَقْرَبَيْنِ إِلَيْهِ الْأَحَقَّيْنِ بِإِرْثِهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ كَمَا تُفِيدُهُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْهُمْ، كَمَا تُفِيدُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (الَأَوَّلِينَ) وَهُوَ صِفَةٌ لِلَّذِينِ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى عَلَى طَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَقْرَبُ الْوَرَثَةِ إِلَى الْمَيِّتِ. وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى مَا إِذَا مَنَعَ مَانِعٌ مِنْ إِقْسَامِ أَقْرَبِ الْوَرَثَةِ، أَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي حَلِفٍ غَيْرِهِ مِنْهُمْ لِامْتِيَازِهِ بِالسِّنِّ أَوِ الْفَضِيلَةِ، هَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْأَوْلَيَيْنِ الْأَوْلَيَانِ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْأَوْلَيَانِ بِالْقَسَمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَيْ أَجْدَرُ الْوَرَثَةِ بِالْيَمِينِ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الْمَيِّتِ أَوْ لِعِلْمِهِمَا أَوْ لِفَضْلِهِمَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ وَبِهَا يَقْرَأُ أَهْلُ بِلَادِنَا فَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا: إِنَّ " الْأَوْلَيَانِ " فِيهَا فَاعِلٌ اسْتَحَقَّ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ بِأَمْرِ الْمَيِّتِ مِنْهُمْ مَا أَوْصَى بِهِ أَوْ مَا تَرَكَهُ أَوْ نَدَبَهُمَا لِلشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُمَا الْوَصِيَّانِ قَالَ: وَوَجْهُهُ
أَنَّ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمَا هُمَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا بِسَبَبِ أَنَّ الْمَيِّتَ عَيَّنَهُمَا لِلْوِصَايَةِ، وَلَمَّا خَانَا فِي مَالِ الْوَرَثَةِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَرَثَةَ قَدِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ، أَيْ خَانَ فِي مَالِهِمُ الْأَوْلَيَانِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ " الْأَوَّلَانِ " وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ اهـ.
أَقُولُ: الْوَجْهُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا " الْأَوْلَيَانِ " بِالْيَمِينِ فِي الْأَصْلِ; لِأَنَّهُمَا مُنْكِرَانِ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَكَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّا عَلَيْهِمُ الْإِثْمَ فَوُضِعَ الْمُظْهَرُ وَهُوَ " الْأَوْلَيَانِ " مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا الْإِثْمَ بِمَا ظَهَرَ مِنْ حِنْثِهِمَا اقْتَضَى رَدَّهَا أَيِ الْيَمِينَ إِلَى الْوَرَثَةِ (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا) أَيْ يَحْلِفَانِ عَلَى أَنَّ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ خِيَانَةِ الشَّهِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى وَصِيَّةِ مَيِّتِهِمَا أَحَقُّ وَأَصْدَقُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا بِمَا كَانَا
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حِكْمَةَ شَرْعِهِ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَهَذِهِ الْأَيْمَانِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الثِّقَةِ وَالِائْتِمَانِ، فَقَالَ:
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْقِيَامَ عَلَى مَشْهَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِقْسَامَهُ تِلْكَ الْأَيْمَانَ الْمُغَلَّظَةَ أَقْرَبُ الْوَسَائِلِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الشُّهَدَاءُ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا بِلَا تَغْيِيرٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَرَهْبَةً مِنْ عَذَابِهِ، وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ، أَوْ خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ الَّتِي تَعْقُبُ اسْتِحْقَاقَهُمَا الْإِثْمَ فِي الشَّهَادَةِ بِرَدِّ أَيْمَانٍ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ تَكُونُ مُبْطِلَةً لَهَا، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ خَوْفُ اللهِ وَتَعْظِيمُهُ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يَخُونَ لِضَعْفِ دِينِهِ يَمْنَعْهُ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ.
(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أَيْ وَاتَّقَوُا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَمَانَةِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَاسْمَعُوا سَمْعَ إِجَابَةٍ وَقَبُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ
وَسَائِرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَتَّقُوا وَتَسْمِعُوا كُنْتُمْ فَاسِقِينَ عَنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى مَحْرُومِينَ مِنْ هِدَايَتِهِ مُسْتَحِقِّينَ لِعِقَابِهِ.
(إِيضَاحٌ لِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ وَبَلَاغَتِهَا وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا).
قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ إِعْرَابًا وَنَظْمًا وَحُكْمًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْبَسِيطِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذِهِ الْآيَةُ أَعْضَلُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ " اهـ.
وَأَوْرَدَ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي عِبَارَةَ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ دُونَ رِوَايَةِ الْوَاحِدِيِّ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ نَقَلَ مِثْلَهَا عَنِ السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَعَنِ الطَّبَرَسِيِّ فِي الْآيَتَيْنِ لَا الثَّانِيَةِ فَقَطْ وَقَالَ: إِنَّ الطَّبَرَسِيَّ افْتَخَرَ بِمَا أَتَى فِيهِ وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ.
أَقُولُ: نَحْنُ لَا يُرَوِّعُنَا مَا يَرَاهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الصُّعُوبَةِ فِي إِعْرَابِ بَعْضِ الْآيَاتِ أَوْ فِي حُكْمِهَا; لِأَنَّ لَهُمْ مَذَاهِبَ فِي النَّحْوِ وَالْفِقْهِ يُزَيِّنُونَ بِهَا الْقُرْآنَ فَلَا يَفْهَمُونَهُ إِلَّا مِنْهَا. وَالْقُرْآنُ فَوْقَ النَّحْوِ وَالْفِقْهِ وَالْمَذَاهِبِ كُلِّهَا، فَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مَقْبُولٌ وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ مَرْذُولٌ، وَإِنَّمَا يُهِمُّنَا مَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِيهِ فَهُوَ الْعَوْنُ الْأَكْبَرُ
وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ اضْطَرَبُوا فِي عِدَّةِ أَحْكَامٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لِمَجِيئِهَا مُخَالِفَةً لِأَقْيِسَتِهِمْ وَلِمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِثُبُوتِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا حَلِفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ، وَمِنْهَا شَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا الْعَمَلُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَقَدِ اجْتَهَدُوا فِي تَخْرِيجِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ عَلَى الثَّابِتِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا. حَتَّى ادَّعَوْا فِي بَعْضِهَا النَّسْخَ. وَرَوَوْهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ لَمْ يَصِحَّ، فَلِهَذَا
رَأَيْنَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ بِمَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِالِاخْتِصَارِ أَنْ نَفْصِلَ مَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَحْكَامِ; لِيَظْهَرَ حَتَّى لِلضَّعِيفِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ، وَمَا جَنَتْهُ الْمَذَاهِبُ النَّحْوِيَّةُ وَالْفِقْهِيَّةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ مَا قَالَ فِي الْآيَتَيْنِ أَشْهَرُهُمْ بِسَعَةِ الِاطِّلَاعِ أَوْ بِالدِّقَّةِ وَالذَّكَاءِ.
أَمَّا دَعْوَى النَّسْخِ، فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا سَلَفَ وَمِمَّا سَيَأْتِي قَرِيبًا مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ:
" وَمِنَ الشَّوَاهِدِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ بِدُقُوقَا قَالَ: فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا الْكُوفَةَ بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ فَأَحْلَفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ بِاللهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا وَأَنَّهَا لِوَصِيَّةِ الرَّجُلِ وَتَرِكَتِهِ قَالَ فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ الْأَزْرَقِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا مُوسَى قَضَى بِهِ. وَهَذَانِ إِسْنَادَانِ صَحِيحَانِ إِلَى الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَوْلُهُ: " هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الظَّاهِرُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ قِصَّةَ تَمِيمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِسْلَامَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ مُتَأَخِّرًا يَحْتَاجُ مُدَّعِي نَسْخِهِ إِلَى دَلِيلٍ فَاصِلٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَاللهُ أَعْلَمُ ".
" قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْعِلْجَيْنِ حِينَ انْتَهِي بِهِمَا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي دَارِهِ فَفَتَحَ الصَّحِيفَةَ، فَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَيِّتِ وَخَوَّفُوهُمَا فَأَرَادَ أَبُو مُوسَى أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَلَكِنِ اسْتَحْلِفْهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا، فَيُوقَفُ الرَّجُلَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي
دِينِهِمَا فَيَحْلِفَانِ بِاللهِ (لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) أَنَّ صَاحِبَهُمَا لَبِهَذَا أَوْصَى وَأَنَّ هَذِهِ لَتَرِكَتُهُ. فَيَقُولُ لَهُمَا الْإِمَامُ أَيِ الْحَاكِمُ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَا: إِنَّكُمَا إِنْ كَتَمْتُمَا أَوْ خُنْتُمَا فَضَحْتُكُمَا فِي قَوْمِكُمَا وَلَمْ تَجُزْ لَكُمَا شَهَادَةٌ وَعَاقَبْتُكُمَا. فَإِذَا قَالَ لَهُمَا ذَلِكَ فَإِنَّ (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: " وَلَمْ تَجُزْ لَكُمَا شَهَادَةٌ " فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي لِبَحْثِ دَعْوَى النَّسْخِ وَاسْتِشْكَالِ الْفُقَهَاءِ مَزِيدُ بَيَانٍ قَرِيبًا.
وَأَمَّا الْفَوَائِدُ وَالْأَحْكَامُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْآيَتَانِ بِإِيجَازِهِمَا، فَهَاكَ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنْهَا:
(١) الْحَثُّ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَتَأْكِيدُ أَمْرِهَا وَعَدَمُ التَّهَاوُنِ فِيهَا بِشَوَاغِلِ السَّفَرِ وَإِنْ قُصِرَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ وَأُبِيحَ فِيهِ الْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ.
(٢) الْإِشْهَادُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ; لِيَكُونَ أَمْرُهَا أَثْبَتَ وَالرَّجَاءُ فِي تَنْفِيذِهَا أَقْوَى، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَكْتُبُونَ وَصِيَّتَهُمْ وَلَا يُشْهِدُونَ أَحَدًا عَلَيْهَا; فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ سَبَبًا لِضَيَاعِهَا.
(٣) أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ أَنْ يُخْتَارَ الشَّاهِدَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْثُوقِ بِعَدَالَتِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَيْضًا; وَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ مِنْ وُجُودِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى شَرْحِهَا.
(٤) أَنَّ إِشْهَادَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَصِيَّةِ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ ; فَإِنْ وَجَبَتِ الْوَصِيَّةُ وَجَبَ بِشَرْطِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مَنْدُوبٌ; لِأَنَّ مَقْصِدَ الشَّارِعِ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَصِيَّةِ لَا يُتْرَكُ أَلْبَتَّةَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ إِقَامَتُهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ; إِذِ الْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ. وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ لَا مَقَامَ التَّعَبُّدِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيمَانُ. وَلَا مَقَامَ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ لِلْأَدْيَانِ وَأَهْلِ الْأَدْيَانِ.
(٥) أَنَّ الشَّهَادَةَ تَشْمَلُ مَا يَقُولُهُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ فِي الْقَضِيَّةِ أَوْ إِنْكَارٍ وَنَفْيٍ لِلْمُدَّعِي بِهِ أَوْ إِثْبَاتٍ.
(٦) شَرْعِيَّةُ اخْتِيَارِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي قُلُوبِ الشُّهُودِ وَمُقْسِمِي الْأَيْمَانِ
وَيُرْجَى أَنْ يَصْدُقُوا وَيَبَرُّوا فِيهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَعْلِيلِ الْقَسَمِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ الْمَكَانِ
وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: الْأَيْمَانُ تُغَلَّظُ فِي الدِّمَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْمَالِ إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَيَحْلِفُ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ. وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي أَشْرَفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ: يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ الْحَلِفُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْوَى اهـ.
هَذِهِ الْعِبَارَةُ تَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّعَصُّبِ فَلَا يُقَالُ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْآيَةَ إِلَّا إِذَا أَجَازَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمَنْطُوقِهَا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ نَفْسِهِ.
(٧) التَّغْلِيظُ عَلَى الْحَالِفِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَقُولَ فِيهِ مَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ رَادِعًا لِلْحَالِفِ عَنِ الْكَذِبِ كَالْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْآيَةِ، وَأَشَدُّ مِنْهَا مَا وَرَدَ فِي شَهَادَةِ اللِّعَانِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى هَذَا أَصْحَابُ الْجَمْعِيَّاتِ السِّيَاسِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ، فَاخْتَرَعُوا أَيْمَانًا وَأَقْسَامًا قَدْ يَتَحَامَى أَفْسَقُ النَّاسِ وَأَجْرَؤُهُمْ عَلَى الْإِجْرَامِ أَنْ يَحْنَثَ بِهَا وَقَدْ
بَيَّنَّا مَا يَجِبُ الْبِرُّ بِهِ وَمَا يَجِبُ الْحِنْثُ بِهِ مِنَ الْأَيْمَانِ وَسَائِرِ مُهِمَّاتِ أَحْكَامِهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ كَفَّارَتِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
(٨) أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَخْبَارِ النَّاسِ وَشَهَادَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ أَخْبَارٌ مُؤَكَّدَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ عِلْمٍ صَحِيحٍ أَنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً مُصَدَّقَةً; وَلِهَذَا شَرَطَ فِي حُكْمِ تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ الِارْتِيَابَ فِي خَبَرِهِمَا. وَصَدَّرَ هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ; إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي وُقُوعِهَا أَنْ يَكُونَ شَاذًّا.
(١٠) شَرْعِيَّةُ تَحْلِيفِ الشُّهُودِ إِذَا ارْتَابَ الْحُكَّامُ أَوِ الْخُصُومُ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ فِي أَكْثَرِ الْأُمَمِ، بَلْ تُحَتِّمُهُ قَوَانِينُهَا الْوَضْعِيَّةُ بِاطِّرَادٍ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَسَيَأْتِي بَحْثُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ.
(١١، ١٢) شَرْعِيَّةُ ائْتِمَانِ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَالِ، وَشَرْعِيَّةُ تَحْلِيفِ الْمُؤْتَمَنِ وَالْعَمَلِ بِيَمِينِهِ.
(١٣) شَرْعِيَّةُ رَدِّ الْيَمِينِ إِلَى مَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ضَيَاعِ حَقٍّ لَهُ بِيَمِينٍ صَارَ حَالِفُهَا خَصْمًا لَهُ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ شَهَادَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَقْسَامُهُمَا، فَإِذَا شَهِدَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالزِّنَا تِلْكَ الشَّهَادَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي سُورَةِ النُّورِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقَسَمِ الْمُغَلَّظِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ مَعَ الْيَمِينِ إِلَى زَوْجِهِ الَّتِي رَمَاهَا بِذَلِكَ، فَإِذَا شَهِدَتْ بِاللهِ مِثْلَ شَهَادَتِهِ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ وَبُرِّئَتْ مِنَ التُّهْمَةِ فِي شَرْعِ اللهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِ اللهِ. وَمِنْهُ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ فِي الدِّمَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ آلْمُدَّعُونَ ذَوُو الْقَتِيلِ، أَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ذَوُو الْمُتَّهَمِ بِالْقَتْلِ؟ وَأَيًّا مَا كَانَ الْبَادِئُونَ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تُرَدُّ إِلَى الْآخَرِينَ.
(١٤) إِذَا احْتِيجَ إِلَى قِيَامِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لِمَيِّتٍ بِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَالَّذِي يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْهُمْ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنْ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ. وَمِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ إِبْهَامُ الْأَوَّلِينَ بِالْقَسَمِ
فِي الْآيَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْوَقَائِعِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَصْحَابُ الْأَوْلَوِيَّةِ بِلَا نِزَاعٍ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ الْأَوْلَى.
(١٥) صِحَّةُ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْعَمَلُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَخَّرْنَاهُ لِيَتَّصِلَ بِمَا نُوَضِّحُهُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي.
كُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ، فَتَأَمَّلْ جَمْعَهُمَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ عَلَى إِيجَازِهِمَا وَإِيضَاحِهِمَا لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِهِمَا بِالذَّاتِ.
فَصْلٌ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
هَذَا بَحْثٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ أَنْ نُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الِاسْتِقْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِشْهَادِ وَالِاسْتِشْهَادِ مِنْهَا الْمُطْلَقُ وَمِنْهَا الْمُقَيَّدُ. قَالَ تَعَالَى فِي اللَّاتِي يَأْتِينَ
فَإِذَا تَأَمَّلْنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ آيَتَيِ الْمَائِدَةِ اللَّتَيْنِ نَحْنُ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهِمَا وَبَحَثْنَا عَنْ حِكْمَةِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ، نَرَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَزَّ اشْتَرَطَ فِي الِاسْتِشْهَادِ أَوِ الْإِشْهَادِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ الْمُؤْمِنَاتِ الشَّخْصِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْإِشْهَادُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ، وَلَا فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ جَلِيٌّ وَاضِحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ وَهِيَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) فَظَاهِرُ
اللَّفْظِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّجَالُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ لِأَجْلِ بَيَانِ تَقْدِيمِ صِنْفِ الرِّجَالِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنْ شَهَادَةِ الصِّنْفَيْنِ، وَأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ رُوعِيَ فِيهَا الْوَاقِعُ أَوِ الْغَالِبُ بِقَرِينَةِ وَصْفِ الْمُقَابِلِ بِقَوْلِهِ: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) إِذْ لَمْ يَقُلْ: " مِنْ شُهَدَائِكُمْ " أَوْ " مِنْ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ " تَمَّ بِقَرِينَةِ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا.
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُشْهِدَ فِي الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَجَاءَ فِي كُلِّ نَصٍّ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ تَقَارَبَتْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣) وَإِنَّمَا يَدُلُّ مَجْمُوعُ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ أَوِ الْكَمَالَ فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مِنْ عُدُولِ الْمُؤْمِنِينَ لِلثِّقَةِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْخِيَانَةِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا مِمَّنْ لَا ثِقَةَ بِأَيْمَانِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، وَأَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَبُيُوتِهِمْ إِذْ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ سِوَاهُمْ أَنْ يَعْرِفَهَا، وَلِوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا; وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ الطَّلَاقِ: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَوُرُودُ نَصِّ الْقُرْآنِ فِيمَنْ يَقْذِفُ امْرَأَةً بِأَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَأَلَّا تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ أَبَدًا.
وَدُونَكَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَمَا لَخَّصَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَنَقَلَهُ الشَّوْكَانِيُّ عَنْهُ فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) فِي شَرْحِ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ السَّهْمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ قَالَ:
" وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارُ، وَالْمَعْنَى (مِنْكُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أَيْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِظَاهِرِهَا، فَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا يُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى بَعْضٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَبِإِيمَائِهَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، ثُمَّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَبَقِيَتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ عَلَى حَالِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى التَّعَقُّبِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ التَّعَقُّبَ هُوَ بِاعْتِبَارِ مَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بِاعْتِبَارِ اسْتِدْلَالِهِ.
" وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ، وَأَخَذُوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ الْبَابِ، فَإِنَّ سِيَاقَهُ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ.
" وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْغَيْرِ غَيْرُ الْعَشِيرَةِ، وَالْمَعْنَى مِنْكُمْ أَيْ مِنْ عَشِيرَتِكُمْ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ
وَاعْتَرَضَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ، فَلَوْ قُلْتَ جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ صَحَّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْتَ جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي; لِأَنَّ قَوْلَهُ آخَرَانِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِفَةُ رَجُلَانِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فَرَجُلَانِ اثْنَانِ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ.
" وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنَ الْفَاسِقِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ، حَتَّى صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ وَجَمْعٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مُحْكَمَةٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنِ اتُّهِمَا اسْتُحْلِفَا. أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ عَمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَاقَ الْحَافِظُ الْحَدِيثَ وَقَالَ: إِنْ حُكْمَهُ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ حُجَّةً، وَذَكَرَ رَدَّ الطَّبَرِيِّ وَالرَّازِيِّ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ:
" وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ قَالُوا: وَقَدْ سَمَّى اللهُ الْيَمِينَ شَهَادَةً فِي آيَةِ اللِّعَانِ، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ بِاللهِ، وَأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَمِينَ عَلَيْهِ إِنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، قَالُوا: فَالْمُرَادُ
بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ: (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ) أَيْ يَحْلِفَانِ، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُمَا حَلَفَا عَلَى الْإِثْمِ رَجَعَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدٌ وَلَا عَدَالَةٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَقَدِ اشْتُرِطَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَوِيَ حَمْلُهَا عَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ.
" وَأَمَّا اعْتِلَالُ مَنِ اعْتَلَّ فِي رَدِّهَا بِأَنَّ الْآيَةَ تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْأُصُولَ لِمَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْفَتْحِ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الَّذِي لَيْسَ بِذِمِّيٍّ فَقَدْ حَكَى فِي الْبَحْرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا انْتَهَى. وَأَقُولُ: مَا أَوْرَدَهُ الشَّوْكَانِيُّ مِنْ دَعْوَى صَاحِبِ الْبَحْرِ مِنْ أَئِمَّةِ الزَّيْدِيَّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ مُطْلَقًا مَرْدُودٌ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاخْتَارَ أَنَّ " غَيْرِكُمْ " يَدْخُلُ فِيهِ الْمَجُوسُ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَأَهْلُ كُلِّ دِينٍ.
سَعَةُ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَضْيِيقُ الْفُقَهَاءِ:
وَبَقِيَ هَهُنَا بَحْثٌ مُهِمٌّ، وَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي غَيْرِهَا أَوْسَعُ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ السُّنَّةِ، وَكُلُّ مَا فِي الْفِقْهِ مِنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّقْيِيدِ فَهُوَ مِنَ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُصَنِّفِينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَأَوْلَى الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ كِبَارُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ حُكَّامِ الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْقَضَايَا الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ عَلَى سَوَاءٍ، فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ وَلِمَاذَا لَمْ يَأْخُذُوا بِظَاهِرِ آيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَعُدُّوهَا شَارِعَةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِشْهَادِ الْمُسْلِمِينَ الْعُدُولِ عَلَيْهِ لِحِكْمَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي بَيَانِ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ آيَاتِ الشَّهَادَةِ؟ أَوْ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنَ الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً يُعْرَفُ بِهَا الْحَقُّ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ بَيَانُهُ عَلَى شَهَادَةِ شُهَدَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَثِقُ الْحَاكِمُ بِصِدْقِهِمْ وَصِحَّةِ شَهَادَتِهِمْ؟.
الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يُعْلَمُ بِالنَّظَرِ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَبِمَعْرِفَةِ
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ لَهُ مِنَ الْقُرْآنِ مَأْخَذَيْنِ:
(الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ) : جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) مُقَيِّدًا لِلْإِطْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَبْحَاثٌ.
(أَحَدُهَا) : أَنَّهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَفَقِّهُونَ عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِذَا اتَّفَقَا فَالْخِلَافُ فِي عَدَمِ الْحَمْلِ ضَعِيفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْحَمْلِ، وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ كَمَسَائِلِ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْيَتَامَى وَالْبَيْعِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَذَا عِتْقُ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَاتِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ. فَالْخِلَافُ فِي الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ قَوِيٌّ وَالْأَقْوَالُ فِيهِ مُتَعَدِّدَةٌ. فَلِمَ اتَّفَقَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهَا عَلَى مَنْعِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مُطْلَقًا أَوْ فِيمَا عَدَا الْوَصِيَّةَ أَوِ الطِّبَّ؟.
(ثَانِيهَا) : أَنَّ الْإِشْهَادَ الِاخْتِيَارِيَّ غَيْرُ الشَّهَادَةِ. فَالْأَمْرُ بِاخْتِيَارِ أَفْضَلِ النَّاسِ إِيمَانًا وَعَدَالَةً لِلْإِشْهَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِشَهَادَةِ مَنْ دُونَهُمْ فِي الْفَضِيلَةِ. فَإِنَّ الشَّهَادَةَ بَيِّنَةٌ. وَالْبَيِّنَةُ كُلُّ مَا يُتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ أَطَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا وَإِيضَاحِهِ فِي كِتَابِ (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ).
(ثَالِثُهَا) : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) فِيهِ تَوْسِعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي
الْإِشْهَادِ وَنَحْنُ إِلَى التَّوْسِعَةِ فِي الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا أَحْوَجُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِنَايَاتِ وَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ قَدْ تَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمِعُوا وَرَأَوْا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ; لِأَنَّ دِينَهُمْ يُحَرِّمُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ. فَلِمَاذَا نُضَيِّعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْحُقُوقِ الَّتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِشَهَادَتِهِمْ إِذَا تَجَرَّأَ الَّذِينَ أَنْكَرُوهَا عَلَى الْيَمِينِ كَمَا تَجَرَّءُوا عَلَى الْكَذِبِ بِالْإِنْكَارِ؟
(الْمَأْخَذُ الثَّانِي) : أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ نُشْهِدَ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنَّا مَعْشَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ بَدِيهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَدْلَ، يَتَحَرَّى الصِّدْقَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ، وَنَحْنُ نَشْتَرِطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الْأَمْرَيْنِ. وَنَرَى أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ صَادِقًا عَدْلًا. وَإِذَا كَانَ فَقْدُ الْعَدَالَةِ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا فَفَقْدُ الْإِيمَانِ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِشَرْعٍ لَهُ يُحَرِّمُ الْكَذِبَ كَافٍ لِتَحْقِيقِ الْمَقْصِدِ الَّذِي تَتَوَخَّوْنَهُ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَهَذَا مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمِلَلِ، وَقَوْلُكُمْ: إِنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ صَادِقًا وَلَا عَدْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ، وَلَا مِنْ سِيرَةِ الْبَشَرِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَقْلِ
وَأَمَّا سِيرَةُ الْبَشَرِ الْمَعْلُومَةُ بِنَقْلِ الْمُؤَرَّخَيْنِ وَبِسُنَنِ اللهِ فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَطِبَاعِهِمُ الَّتِي هِيَ الْقَانُونُ الْعَقْلِيُّ لِمَنْ يُرِيدُ الْحُكْمَ الصَّحِيحَ عَلَيْهِمْ فَهِيَ مُؤَيِّدَةٌ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ الْعَادِلِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (٧: ١٠٢) وَقَوْلِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ. وَهُوَ خَاصٌّ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي طَوْرِ الْفَسَادِ وَضَعْفِ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ، الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْمِلَلِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فَنَنْتَقِلُ إِذًا إِلَى بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي نَرَاهَا هِيَ السَّبَبَ الِاجْتِمَاعِيَّ الْحَقِيقِيَّ لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَنَقُولُ:
[الثَّانِي] : حَالُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ غَيْرِهِمْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ:
إِنَّ حَالَةَ الْأُمَمِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْأَدَبِيَّةَ لَهَا شَأْنٌ كَبِيرٌ فِي تَطْبِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ (تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ) وَمَنْ عَرَفَ التَّارِيخَ وَفِقْهَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مِنْهُ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْقَهُ سَبَبَ إِعْرَاضِ الْفُقَهَاءِ وَالْحُكَّامِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَأَحَقُّ مَا يَجِبُ فِقْهُهُ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ أَرْبَعٌ يَنْبَغِي التَّأَمُّلُ فِيهَا بِعَيْنِ الْعَقْلِ وَالْإِنْصَافِ.
(الْأُولَى) : مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِلْإِسْلَامِ مِنَ الِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْحَقِّ
(الثَّانِيَةُ) : مَا كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ الَّتِي فَتَحُوا بِلَادَهَا، وَأَقَامُوا شَرِيعَتَهُمْ فِيهَا مِنْ ضَعْفِ وَازِعِ الدِّينِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ مُؤَرِّخُو الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ وَجَعَلُوهُ أَوَّلَ الْأَسْبَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ لِسُرْعَةِ الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ فِي الْخَافِقَيْنِ.
(الثَّالِثَةُ) : مَا جَرَى عَلَيْهِ الْفَاتِحُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِمْ فِي الِاسْتِقْلَالِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ; إِذْ كَانُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ بِأَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ فِي الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ مَعَ هَذَا أَلَّا يُشْهِدُوهُمْ عَلَى قَضَايَا
أَنْفُسِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَحْوَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ.
(الرَّابِعَةُ) : تَأْثِيرُ عِزَّةِ السُّلْطَانِ وَعَهْدِ الْفَتْحِ الَّذِي كَانَتِ الْأَحْكَامُ فِيهِ أَشْبَهَ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْآنَ بِالْأَحْكَامِ الْعَسْكَرِيَّةِ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَحْكَامِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ فِي أَيَّامِ الْحَرْبِ، بَلْ فِي الْمُسْتَعْمَرَاتِ الَّتِي طَالَ عَلَيْهَا عَهْدُ الْفَتْحِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْفَتْحَ. يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ أَشَدَّ أَحْكَامِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ مِنْ أَحْكَامِ أَرْقَى أُمَمِ الْمَدَنِيَّةِ مِنْ دُونِهِمْ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ أَنَّ الْغَالِبَ قَلَّمَا يَرَى شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِ الْمَغْلُوبِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ يَرَى قَلِيلَهَا الضَّئِيلَ الْخَفِيَّ؟ وَالْجَمَاعَاتُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ كَالْأَفْرَادِ فِي نَظَرِ كُلٍّ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِعَيْنِ الرِّضَا وَإِلَى مُخَالِفِهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ فُضْلَيَاتِ نِسَاءِ سِوِيسَرَةَ دِينًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا رَاقَبَتْ أَحْوَالَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَسِيرَتَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً إِذْ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى مَدَرَسَةِ (جِنِيفْ) لِتَلَقِّي آدَابِ اللُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، وَكَلَّمَتْهُ مِرَارًا فِي مَسَائِلِ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّرْبِيَةِ وَكَانَتْ بَارِعَةً وَمُصَنِّفَةً فِيهِمَا فَأَعْجَبَهَا رَأْيُهُ، كَمَا أَعْجَبَهَا فَضْلُهُ وَهَدْيُهُ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ قَبْلَ أَنْ عَرَفْتُكَ أَنَّ الْقَدَاسَةَ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِيِّينَ.
فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذُكِرَ تَجَلَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي صَدَّتِ الْحُكَّامَ وَالْفُقَهَاءَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَتَعَجَّبَ مِنْ سَعَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، الَّتِي يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُونَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَمُوَافَقَةِ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَتَرَاهُمْ يَنْسُبُونَ إِلَى الْقُرْآنِ كُلَّ مَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ آرَائِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَامِلِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا يَجِبُ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، بَلْ لَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ فِي هَدْيِهِمْ. كَمَا اتَّبَعُوا سَلَفَهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ بَلْ لَكَانُوا أَشَدَّ اتِّبَاعًا لَهُمْ. بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ هِدَايَتِهِ لِهَذَا الزَّمَانِ كَغَيْرِهِ، وَكَوْنِهَا أَرْقَى مِنْ كُلِّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِنْ نِظَامٍ وَأَحْكَامٍ، وَهَذَا مِنْ أَجْلِ مُعْجِزَاتِهِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَزْمَانِ.
قَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ عَدُّوا الْآيَتَيْنِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِمُخَالَفَةِ مَذَاهِبِهِمْ لَهُمَا مُخْطِئُونَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْمَذَاهِبِ إِلَيْهِمَا لَا تَأْوِيلُهُمَا لِتُوَافِقَا الْمَذَاهِبَ. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَشْكَلُوا إِعْرَابَ جُمْلَةٍ مِنَ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَدُّوا لِأَجْلِهَا الْآيَةَ أَوِ الْآيَاتِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ احْتِمَالُ التَّرْكِيبِ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ بِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدُّدِ الْقِرَاءَاتِ، مَعَ اعْتِيَادِهِمْ تَقْدِيمَ الْإِعْرَابِ عَلَى الْمَعْنَى وَجَعْلَهُ هُوَ الْمُبَيِّنَ لَهُ، وَقَدِ اسْتَحْسَنَّا بَعْدَ إِيضَاحِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ بِمَا تَقَدَّمَ أَنْ نَذْكُرَ مُلَخَّصَ مَا قِيلَ فِي إِعْرَابِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ نَقْلًا عَنْ (رُوحِ الْبَيَانِ) الَّذِي يَلْتَزِمُ تَحْقِيقَ الْمَبَاحِثِ النَّحْوِيَّةِ فِي الْآيَاتِ، عَسَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ الْقَارِئُ بِهِ عَنْ مُرَاجَعَةِ تَفْسِيرٍ آخَرَ، وَنَبْدَأُ بِجَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ مَبْدَأُ مَا اسْتَشْكَلُوهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
(فَآخَرَانِ) أَيْ فَرَجُلَانِ آخَرَانِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) وَالْفَاءُ جَزَائِيَّةٌ وَهِيَ إِحْدَى مُسَوِّغَاتِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ وَلَا مَحْذُورَ فِي الْفَصْلِ بِالْخَبَرِ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَصِفَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ فَالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ، وَجُمْلَةُ يَقُومَانِ صِفَتُهُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ أُخْرَى. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرٍ (يَقُومَانِ) وَقِيلَ: هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ. وَمَا بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ صِفَتُهُ وَضَمِيرُ (مَقَامَهُمَا) فِي جَمِيعِ الْأَوْجُهِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّذِينِ اسْتَحَقَّا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَقَامِهِمَا مَقَامَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ الَّتِي تَوَلَّيَاهَا وَلَمْ يُؤَدِّيَاهَا كَمَا هِيَ بَلْ هُوَ مَقَامُ الْحَبْسِ وَالتَّحْلِيفِ. وَ " اسْتَحَقَّ " بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ وَبِهَا قَرَأَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَفَاعِلُهُ (الْأَوْلَيَانِ) وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُصُولِ أَهْلُ الْمَيِّتِ، وَمِنَ الْأَوْلَيَيْنِ الْأَقْرَبَانِ إِلَيْهِ الْوَارِثَانِ لَهُ الْأَحَقَّانِ بِالشَّهَادَةِ لِقُرْبِهِمَا وَاطِّلَاعِهِمَا، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ الْآخَرَانِ الْقَائِمَانِ مَقَامَ اللَّذَيْنِ اسْتَحَقَّا إِثْمًا، إِلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ الْمُظْهَرُ مَقَامَ ضَمِيرِهِمَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى وَصْفِهِمَا بِهَذَا الْوَصْفِ، وَمَفْعُولُ " اسْتَحَقَّ " مَحْذُوفٌ
وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُجَرِّدَهُمَا لِلْقِيَامِ بِالشَّهَادَةِ لِيُظْهِرُوا بِهِمَا كَذِبَ الْكَاذِبِينَ، وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَصِيَّتَهُمَا، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا لَهُمْ وَتَرِكَتَهُمْ. وَقَالَ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلِيَاءِ الْوَصِيَّانِ اللَّذَانِ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمَا، وَسَبَبُ أَوْلَوِيَّتِهِمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ عَيَّنَهُمَا لِلْوَصِيَّةِ، فَمَعْنَى " اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ " خَانَ فِي مَالِهِمْ وَجَنَى عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّانِ اللَّذَانِ
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
فَإِنَّهُ يُؤَوَّلُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. وَهَذَا أُوِّلِ فِيهِ النَّكِرَةُ بِالْمَعْرِفَةِ، أَوْ جُعِلَتْ فِي حُكْمِهَا لِلْوَصْفِ، وَيُمْكِنُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ يَجْعَلَ الْأَوْلَيَانِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمَا كَالنَّكِرَةِ، وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ " اسْتَحَقَّ " وَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ انْتِدَابَ الْأَوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ لِلشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ إِثْمَ الْأَوْلَيَيْنِ كَمَا قِيلَ، وَهُوَ تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى قُلِبَتْ أَلِفُهُ يَاءً عِنْدَهَا، وَفِي عَلَى فِي " عَلَيْهِمْ " أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى فِي، وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا بِمَعْنَى مِنْ، وَفَسَّرَ اسْتَحَقَّ بِطَلَبِ الْحَقِّ
وَبِحَقٍّ وَغَلَبٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ " اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ " بِبِنَاءٍ اسْتَحَقَّ لِلْمَفْعُولِ وَالْأَوَّلِينَ جَمْعُ أَوَّلٍ الْمُقَابِلِ لِلْآخِرِ وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الَّذِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَمَعْنَى الْأَوَّلِيَّةِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْأَجَانِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لِدُخُولِهِمْ فِي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وَقَرَأَ الْحَسَنُ " الْأَوَّلَانِ " بِالرَّفْعِ وَهُوَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْأَوْلَيَانِ، وَقُرِئَ " الْأَوَّلَيْنِ " بِالتَّثْنِيَةِ وَالنَّصْبِ، وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ " الْأَوْلَيَيْنِ " بِيَاءَيْنِ، تَثْنِيَةُ أَوْلَى مَنْصُوبًا، وَقَرَأَ " الْأَوْلَيْنِ " بِسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ أَوْلَى كَأَعْلَيْنِ، وَإِعْرَابُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ اهـ.
نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) قِيلَ: إِنَّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ مِنْ آخِرِ جُمْلَةٍ مِمَّا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ فِي الْآخِرَةِ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَمَا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أَقْوَامُهُمْ أَوْ لَا يَهْدِيهِمْ يَوْمَئِذٍ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وَاتَّقُوا اللهَ) أَوْ بِقَوْلِهِ: (وَاسْمَعُوا) أَيْ وَاتَّقُوا عِقَابَ اللهِ يَوْمَ جَمْعِهِ الرُّسُلَ أَوْ وَاسْمَعُوا يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ. أَيْ خَبَرَهُ وَمَا يَكُونُ فِيهِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَالْمَعْنَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ وَيَسْأَلُهُمْ يَكُونُ مِنَ الْأَهْوَالِ مَا لَا يَفِي بِبَيَانِهِ مَقَالٌ، أَوِ الْمَعْنَى وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتُمْ؟ وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَظْهَرُ، وَلَهُ فِي التَّنْزِيلِ
نَظَائِرُ. وَالْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ تَوْبِيخُ أُمَمِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى أَيُّ إِجَابَةٍ أَجَبْتُمْ، أَإِجَابَةُ إِيمَانٍ وَإِقْرَارٍ أَمْ إِجَابَةُ كُفْرٍ وَاسْتِكْبَارٍ؟ فَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ نَوْعِ الْإِجَابَةِ لَا عَنِ الْجَوَابِ مَاذَا كَانَ، وَإِلَّا لَقُرِنَ بِالْبَاءِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ بِمَاذَا أَجَبْتُمْ. وَهَذَا السُّؤَالُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبِيلِ سُؤَالِ الْمَوْءُودَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٨١: ٨، ٩) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَجْهٌ إِلَى الشَّاهِدِ دُونَ الْمُتَّهَمِ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بَعْدَ التَّفْوِيضِ الْآتِي، أَوْ عَقِبَ سُؤَالٍ غَيْرِ هَذَا، وَيَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى الْأُمَمَ فِي مَوْقِفٍ آخَرَ أَوْ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا هُوَ شَأْنُ قُضَاةِ التَّحْقِيقِ فِي سُؤَالِ الْخَصْمِ وَالشُّهُودِ لِتَحَقُّقِ شَرَائِطِ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ، قَالَ تَعَالَى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (٧: ٦، ٧).
وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى يَسْأَلُ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، وَكَانَ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ بِذَلِكَ يَكُونُ جَوَابُهُمْ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالسُّؤَالِ التَّبَرُّؤَ مِنَ الْعِلْمِ وَتَفْوِيضَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِمَّا لِنُقْصَانِ عِلْمِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا لِمَا يُفَاجِئُهُمْ مِنْ فَزَعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ هَوْلِهِ أَوْ ذُهُولِهِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
التَّأْنِيثِ. قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَ وَلَدَهُ مِنَ الطُّوفَانِ: (فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١١: ٤٦) وَقَالَ لِخَاتَمِ رُسُلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٩: ١٠١).
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الرُّسُلَ أَرَادُوا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ حَالِ أُمَمِهِمْ إِلَّا الظَّنُّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ حَالِهِمْ لَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ (قَالَ) فَالْأَنْبِيَاءُ قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا أَلْبَتَّةَ بِأَحْوَالِهِمْ إِنَّمَا الْحَاصِلُ عِنْدَنَا مِنْ أَحْوَالِهِمْ هُوَ الظَّنُّ، وَالظَّنُّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الدُّنْيَا; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الظَّنِّ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَلَا الْتِفَاتَ فِيهَا إِلَى الظَّنِّ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ فِي الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) (٢: ٣٢) وَلَمْ يَذْكُرُوا أَلْبَتَّةَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ بُنِيَ عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِي تَفْسِيرِ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ، وَالصَّوَابُ مَا بَيَّنَاهُ قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ يَعْلَمُونَ كَثِيرًا مِنَ الْحَقَائِقِ عِلْمًا يَقِينِيًّا، كَاسْتِكْبَارِ الْمُجْرِمِينَ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ إِذْ أَخْبَرَهُمُ اللهُ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعَانِدِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَاشِفُ النَّبِيَّ بِحَالِهِمْ وَيَمْثُلُونَ لَهُ فِي النَّارِ كَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ صَادِقُونَ فِي إِيمَانِهِمْ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ ضُعَفَاءُ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِالظَّوَاهِرِ يَقْبَلُ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِالْإِيمَانِ فِي الْبَاطِنِ مَعَ الْجُحُودِ فِي الظَّاهِرِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَحْوَالِ أُمَمِهِمْ ظَنًّا
ذَكَرَ اللهُ سُؤَالَ الرُّسُلِ وَجَوَابَهُمْ بِالْإِجْمَالِ ثُمَّ بَيَّنَ بِالتَّفْصِيلِ سُؤَالَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ التَّبْلِيغِ وَجَوَابِهِ عَنِ السُّؤَالِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ حَاجَّتْهُمْ
هَذِهِ السُّورَةُ فِيمَا يَقُولُونَ فِي رَسُولِهِمْ أَوْسَعَ الِاحْتِجَاجِ، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانَ فِي إِثْرِ الْبُرْهَانِ، وَقَدَّمَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَا خَاطَبَ بِهِ هَذَا الرَّسُولَ مِنْ بَيَانِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَآيَاتِهِ لَهُ الَّتِي كَانَتْ مَنْشَأَ افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِ فَقَالَ:
(إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ) بَدَلٌ مِنْ " يَوْمَ يَجْمَعُ " وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) أَيْ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِالْمَاضِي، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُوَبِّخُ الْكَفَرَةَ يَوْمَئِذٍ بِسُؤَالِ الرُّسُلِ عَنْ إِجَابَتِهِمْ وَتَعْدِيلِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، فَكَذَّبَتْهُمْ طَائِفَةٌ وَسَمَوْهُمْ سَحَرَةً، وَغَلَا آخَرُونَ وَاتَّخَذُوهُمْ آلِهَةً. أَوْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ " اذْكُرْ " اهـ.
وَالنِّعْمَةُ تُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا وَاسْمًا لِمَا حَصَلَ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُضَافُ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ وَالْمَعْنَى: اذْكُرْ إِنْعَامِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ، وَقْتَ تَأْيِيدِي إِيَّاكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ إِلَخْ. أَوِ اذْكُرْ نِعَمِي حَالَ كَوْنِهَا وَاقِعَةً عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ أَيْ قَوَّيْتُكَ شَيْئًا فَشَيْئًا بِرُوحِ الْقُدُسِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّتُكَ، وَتَبْرَأُ مِنْ تُهْمَةِ الْفَاحِشَةِ وَالِدَتُكَ، حَالَ كَوْنِكَ تُكَلِّمُ النَّاسِ فِي الْمَهْدِ بِمَا يُبَرِّئُهَا مِنْ قَوْلِ الْآثِمِينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا غُلَامٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ يَكُونُ أَبًا لَهُ، وَكَهْلًا حِينَ بَعَثْتُ فِيهِمْ رُسُلًا تُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِمَا ضَلُّوا بِهِ عَنِ الْحُجَّةِ، فَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ هُوَ قَوْلُهُ: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١٩: ٣٠) إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ.
وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ مَلَكُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ الرُّسُلَ بِالتَّعْلِيمِ الْإِلَهِيِّ وَالتَّثْبِيتِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ أَنْ يَضْعُفُوا فِيهَا. قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٦: ١٠٢). وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (٨: ١٢).
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) أَيْ وَنِعْمَتِي عَلَيْكَ إِذْ عَلَّمْتُكَ قِرَاءَةَ الْكِتَابِ أَيْ مَا يُكْتَبُ أَوِ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ، أَيْ وَفَّقْتُكَ لِتَعَلُّمِهَا، وَالْحِكْمَةَ.. وَهِيَ
الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالْعِبْرَةِ وَالْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) قَرَأَ نَافِعٌ هُنَا وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ " فَتَكُونُ طَائِرًا " وَالطَّائِرُ وَاحِدُ الطَّيْرِ كَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ وَالْجُمْهُورُ: " فَتَكُونُ طَيْرًا " قِيلَ: هُوَ جَمْعٌ، وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعٍ، وَأَجَازَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقُطْرُبُ إِطْلَاقَ طَيْرٍ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ كَمَا وَجَّهَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَلَفَظُ الطَّيْرِ مُؤَنَّثٌ بِمَعْنَى جَمَاعَةٍ. وَالْخَلْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ؛ أَيْ جَعْلُ الشَّيْءِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ. يُقَالُ: خَلَقَ الْإِسْكَافِيُّ النَّعْلَ ثُمَّ فَرَاهُ، أَيْ عَيَّنَ شَكْلَهُ وَمِقْدَارَهُ، ثُمَّ قَطَعَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ، وَبَعْ | ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لْا يَفْرِي |
وَاسْتَدْرَكْنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى دَلَالَةِ آيَةِ الْمَائِدَةِ هَذِهِ عَلَى وُقُوعِهَا مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِذَلِكَ، وَبَيَّنَّا سِرَّ ذَلِكَ وَحِكْمَتَهُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ قُوَّةُ رُوحَانِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا يَبْعُدُ كِتْمَانُ الْيَهُودِ لِهَذِهِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ رَآهَا بَعْضُهُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَعَدَّهُ مِنَ السِّحْرِ اعْتِقَادًا أَوْ مُكَابَرَةً وَخَافَ أَنْ تَجْذِبَ قَوْمَهُ إِلَى الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بِإِذْنِي)
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُعْطَ هَذِهِ الْقُوَّةَ دَائِمًا بِحَيْثُ جُعِلَ السَّبَبُ الرُّوحِيُّ فِيهَا كَالْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْمُطَّرِدَةِ، بَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَغَيْرِهَا لَا تَقَعُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ وَتَأْيِيدٍ مِنْ لَدُنْهِ، وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ عَنْ فِعْلٍ مَضَى هِيَ تَصْوِيرُ ذَلِكَ الْمَاضِي وَتَمْثِيلُهُ حَاضِرًا فِي الذِّهْنِ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ، لَا لِإِفَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ مَضَى وَالْكَلَامُ تَذْكِيرٌ بِهِ كَمَا وَقَعَ إِذْ وَقَعَ.
(وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) عَطَفَ التَّذْكِيرَ بِإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً فَلَمْ يَبْدَأْ بِإِذْ، وَبُدِئَ بِهَا لِلتَّذْكِيرِ بِإِخْرَاجِ الْمَوْتَى، فَكَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وَلَعَلَّ نُكْتَةَ ذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ مِنْ جِنْسِ
لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ قُلْتُ لِيُؤْمِنُوا إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَلَمَّا قَالَ هَذَا: صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ " لِعَازَرَ هَلُمَّ خَارِجًا " فَخَرَجَ الْمَيِّتُ إِلَخْ. وَمَلَاحِدَةُ أُورُبَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِعَازَرَ تَمَاوَتَ بِإِذْنِ الْمَسِيحِ وَالتَّوَاطُؤِ مَعَهُ... وَقَدْ كَذَبُوا أَخْزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَنْقُلِ النَّصَارَى عَنْهُ أَنَّهُ أَحْيَا أَمْوَاتًا كَانُوا تَحْتَ التُّرَابِ بَعْدَ الْبِلَى كَمَا نُقِلَ عَنْ دَانْيَالَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَتَكْرَارُ كَلِمَةِ الْإِذْنِ بِتَقْيِيدِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ بِهَا يُفِيدُ أَنَّهُ مَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ الْخَاصَّةِ وَقُدْرَتِهِ. وَالْإِذْنُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِإِجَازَةِ الشَّيْءِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِهِ وَكَذَا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَالتَّيْسِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢: ١٠٢) وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِإِجَازَتِهِ أَوْ أَمْرِهِ، وَمِثْلُهُ بَلْ أَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلَهُ: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) (٣: ١٦٦) أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ.
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حِينَ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ فَلَمْ أُمَكِّنْهُمْ مِنْ قَتْلِكَ وَصَلْبِكَ وَقَدْ أَرَادُوا ذَلِكَ وَقْتَ تَكْذِيبِ كُفَّارِهِمْ إِيَّاكَ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سِحْرًا ظَاهِرًا، لَا مِنْ جِنْسِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهَا
تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ عِنَادٍ وَمُكَابَرَةٍ ادَّعَوْا بِهِمَا أَنَّ السِّحْرَ صَنْعَةٌ لَهُ يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ غَرِيبٍ يَجِيءُ بِهِ.
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حِينَ أَلْهَمْتُ الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَقَدْ كَذَّبَكَ جُمْهُورُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلْتُهُمْ أَنْصَارًا لَكَ يُؤَيِّدُونَ حُجَّتَكَ وَيَنْشُرُونَ دَعْوَتَكَ. وَالْوَحْيُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْإِشَارَةُ السَّرِيعَةُ الْخَفِيَّةُ، أَوِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ وُجِدَ هَذَا التِّلِغْرَافُ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ لَسَمَّوْا خَبَرَهُ وَحْيًا، وَالْمِصْرِيُّونَ يُسَمُّونَهُ حَتَّى فِي الرَّسْمِيَّاتِ إِشَارَةً، وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يُلْقِيهِ اللهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْإِلْهَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) (١٦: ٦٨) وَقَوْلِهِ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) (٢٨: ٧) وَهَكَذَا أَلْقَى اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْحَوَارِيِّينَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ هُوَ مَا أَنْزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ.
وَالْحَوَارِيُّونَ جَمْعُ حَوَارِيٍّ وَهُوَ مَنْ خَلُصَ لَكَ، وَأَخْلَصَ سِرًّا وَجَهْرًا فِي مَوَدَّتِكَ وَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ اللَّوْنِ، وَالْحَوَارِيَّاتُ مِنَ النِّسَاءِ النَّقِيَّاتُ الْأَلْوَانِ وَالْجُلُودِ لِبَيَاضِهِنَّ قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْأَعْرَابُ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ حَوَارِيَّاتٍ لِبَيَاضِهِنَّ وَتَبَاعُدِهِنَّ مِنْ قَشَفِ الْأَعْرَابِ بِنَظَافَتِهِنَّ قَالَ:
فَقُلْتُ إِنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ | إِذا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلَابِيبِ |
قَوْمٌ تَخَالَجَهُمْ زَهْوٌ بِسَيِّدِهِمْ | وَالْعَبْدُ يُزْهَى عَلَى مِقْدَارِ مَوْلَاهُ. |
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إِلَى كُلٍّ مِنَ النَّعِيمَيْنِ الْجُثْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ اللَّذَيْنِ يَحْصُلَانِ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلثَّانِي فَقَطْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ وَرَدَ فِي إِثْرِ إِطْلَاقِ الْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَحْدَهَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ غَيْرَ الْآيَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا، وَفِي إِثْرِ إِطْلَاقِ الْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ مَعَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ كَمَا تَرَاهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الدُّخَانِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْحَدِيدِ وَالصَّفِّ وَالتَّغَابُنِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَغْفِرَةِ فِيهَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ. فَنَسْأَلُ اللهَ الْكَرِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَوْزِ الْعَظِيمِ، بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَتَوْفِيقِنَا لِأَسْبَابِ مَرْضَاتِهِ.
ثُمَّ خَتَمَ جَلَّ جَلَالُهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً وَمُنَاسِبٌ لِأَنْ يَكُونَ خِتَامًا لِمَجْمُوعِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَمَّا بَيَّنَ مَا لِأَهْلِ الصِّدْقِ عِنْدَهُ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَقِّ فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ، بَيَّنَ عَقِبَهُ سَعَةَ مُلْكِهِ وَعُمُومَ قُدْرَتِهِ الدَّالِّينَ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً، وَبَسْطِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ أَقْوَالِ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمْ خَاصَّةً، وَسَائِرُهَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مَعَ النَّصِّ عَلَى إِكْمَالِ الدِّينِ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى وَحْدَةِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ لِلْأُمَمِ وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْ ذَيْنِكَ الْقِسْمَيْنِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ قَدْ تَكَرَّرَ فِيهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَقَفَّى عَلَيْهِمَا بِذِكْرِ جَمْعِ اللهِ تَعَالَى لِلرُّسُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسُؤَالِهِمْ عَنِ التَّبْلِيغِ، وَجَوَابِ أَحَدِهِمُ الدَّالِّ عَلَى شَهَادَتِهِمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِالْحَقِّ، وَتَفْوِيضِ أَمْرِهِمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
لَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ كَمَا ذَكَرَ نَاسَبَ أَنْ نَخْتِمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِبَيَانِ كَوْنِ الْمُلْكِ كُلِّهِ وَالْقُدْرَةِ كُلِّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَقَدِ اخْتِيرَتْ كَلِمَةُ " مَا " فِي قَوْلِهِ " وَمَا فِيهِنَّ " عَلَى " مَنْ " الْخَاصَّةِ بِمَنْ يَعْقِلُ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْلِكَ; لِأَنَّ مَدْلُولَهَا أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَلِلْإِشَارَةِ
وَأَمُّهُ اللَّذَانِ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَتَضَمَّنُ الْحَصْرُ التَّعْرِيضَ بِعِبَادَتِهِمَا، وَبِالِاتِّكَالِ عَلَى شَفَاعَتِهِمَا، إِذِ الْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمَا مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢١: ٢٦ ٢٩). صَدَقَ اللهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
خُلَاصَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ
انْفَرَدَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِعِدَّةِ مَسَائِلَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَبِتَفْصِيلِ عِدَّةِ أَحْكَامٍ أُجْمِلَتْ فِي غَيْرِهَا إِجْمَالًا، وَأَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ شُئُونِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُحَاجَّتِهِمْ، وَنَحْنُ نُذَكِّرُ قَارِئَ تَفْسِيرِنَا بِخُلَاصَتِهَا مُرَاعِينَ مُنَاسَبَةَ بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِبَعْضٍ لَا عَلَى تَرْتِيبِ وُرُودِهَا فِي السُّورَةِ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ).
(١) أَهَمُّ الْأُصُولِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا السُّورَةُ، بَيَانُ إِكْمَالِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ دِينَهَمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ [رَاجِعْ ص ١٢٨ ١٣٩ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(٢) النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسُوءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أُبْدِيَتْ لَهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ التَّكَالِيفِ مَثَلًا [رَاجِعْ ص ١٠١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ].
وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَلَازِمَتَيْنِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ دِينِيٍّ مِنَ اعْتِقَادٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً وَلَمْ تَمْضِ بِهِ السُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ، بِحَيْثُ يُطَالَبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُسْأَلُونَ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مَعَ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا مَا دَلَّ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ دَلَالَةً غَيْرَ صَرِيحَةٍ وَمِنْهُ أَكْثَرُ مَا اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ فِي دَلَالَتِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْهُ الْحُكْمَ لَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
(٣) بَيَانُ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الْكَامِلَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْهِدَايَةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ بَاطِلٌ لَا يَقْبَلُهُ اللهُ تَعَالَى، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ ١٠٤ [رَاجِعْ ص ١٧٢ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ] وَتَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
(٤) بَيَانُ أَنَّ أُصُولَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ هِيَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
(٥) وَحْدَةُ الدِّينِ وَاخْتِلَافُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْهَجِهِمْ فِيهِ.
(٦) هَيْمَنَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ [رَاجِعْ ص ٣٣٩ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(٧) بَيَانُ عُمُومِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ وَكَوْنِهِ لَا يُكَلَّفُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ رَسُولًا إِلَّا التَّبْلِيغَ. وَأَنَّ مِنْ حُجَجِ رِسَالَتِهِ أَنَّهُ بَيَّنَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مَنْ كُتُبِهِمْ وَهُوَ قِسْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) مَا ضَاعَ مِنْهُ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمُبَيَّنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ بِإِنْزَالِهِ فِيهَا. (وثَانِيهِمَا) مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ مَعَ وُجُودِهِ فِي الْكِتَابِ كَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّا كُلًّا مِنَ الْقِسْمَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَوْلَا أَنَّ مُحَمَّدًا الْأُمِّيَّ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ.
(٨) عِصْمَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَضُرُّوهُ أَوْ يَقْدِرُوا عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا، فَكَمْ حَاوَلُوا قَتْلَهُ فَأَعْيَاهُمْ وَأَعْجَزَهُمْ [رَاجِعْ ص ٣٩١، ٣٩٢ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(٩) بَيَانُ أَنَّ اللهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِصْلَاحَ أَنْفُسِهِمْ أَفْرَادِهَا وَجَمَاعَتِهَا. وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ ضَلَّ مِنَ النَّاسِ إِذَا هُمُ اسْتَقَامُوا عَلَى صِرَاطِ الْهِدَايَةِ، أَيْ لَا يَضرُّهُمْ ضَلَالُهُ فِي دُنْيَاهُمْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَجْعَلُ لَهُ سَبِيلًا عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِكْرَاهَ النَّاسِ عَلَى الْهُدَى وَالْحَقِّ، وَلَا أَنْ يَخْلُقُوا
لَهُمُ الْهِدَايَةَ خَلْقًا، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ.
(١٠) تَأْكِيدُ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِمَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ لَعْنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَتَعْلِيلِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ.
(١١) نَفْيُ الْحَرَجِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. [رَاجِعْ ص ٢١٤، ٢٢٣ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(١٢) تَحْرِيمُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ وَلَوْ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَتَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالْإِسْرَافِ فِي الطَّيِّبَاتِ. [رَاجِعْ ص ٤٠٥ ج ٦، ١٦ ٢٨ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ].
(١٣) قَاعِدَةُ إِبَاحَةِ الِاضْطِرَارِ لِلْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ فِيمَا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ كَالطَّعَامِ وَمِنْهُ أَخَذَ الْفُقَهَاءُ قَوْلَهُمْ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ [رَاجِعْ ص ١٣٩ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(١٥) تَحْرِيمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَى قَوْمٍ بِسَبَبِ بُغْضِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَلَا يَكُونُوا كَأَهْلِ السِّيَاسَةِ الْمَدَنِيَّةِ. [رَاجِعْ ص ١٠٦، ١٠٧، ٢٢٧ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(١٦) وُجُوبُ الشَّهَادَةِ بِالْقَسَمِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ غَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لِلْأَعْدَاءِ عَلَى الْأَصْدِقَاءِ، وَتَأْكِيدُ وُجُوبِ الْعَدْلِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ. [رَاجِعْ ص ٢٢٦، ٣٢٦، ٣٤١، ٣٤٨ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
(١٧) الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ الَّتِي يَتَعَاقَدُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ. وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ أَمْرَ الْعُقُودِ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ بِهَا إِلَى عُرْفِهِمْ وَمُوَاضَعَاتِهِمْ; لِأَنَّهَا مِنْ مَصَالِحِهِمُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَلَمْ يُقَيِّدْهُمْ فِي أَحْكَامِهَا وَشُرُوطِهَا بِقُيُودٍ دَائِمَةٍ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ وَالْعُرْفُ، كَتَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ، فَكُلُّ عَقْدٍ يَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ النَّاسُ لَمْ يُحِلَّ حَرَامًا وَلَمْ يُحَرِّمْ حَلَالًا مِمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَلَوِ اقْتِضَاءً فَهُوَ جَائِزٌ.
(١٨) إِيجَابُ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْهُ تَأْلِيفُ الْجَمَاعَاتِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَتَحْرِيمُ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
(١٩) بَيَانُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَهُوَ جَعْلٌ تَكْوِينِيٌّ بِاعْتِبَارٍ وَشَرْعِيٌّ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ الْوَاسِعِ الْمُحِيطِ بِالْأَشْيَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.
(٢٠) النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكَافِرِينَ وَبَيَانُ أَنَّ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقِ وَمَرَضِ الْقَلْبِ
(٢١) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مَعَ بَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُطَهِّرَ النَّاسَ وَيُزَكِّيَهُمْ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا. وَشُمُولُ الطِّهَارَةِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ لِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الطَّهَارَةِ كُلَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ عَشْرَةَ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَحَرَّى بِأَدَاءِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْحِكْمَةُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الطَّهَارَةِ مَذْمُومَةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَصِّ الشَّرْعِ وَمَقْصِدِهِ.
(٢٢) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ حَلَالِ الطَّعَامِ وَحَرَامِهِ وَبَيَانُ مَا حُرِّمَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ كَالْمَيْتَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَالْخِنْزِيرِ وَمَا حُرِّمَ لِسَبَبٍ دِينِيٍّ كَالَّذِي يُذْبَحُ لِلْأَصْنَامِ.
(٢٣) تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهُوَ كُلُّ مُسْكِرٍ، وَالْمَيْسِرِ وَهُوَ الْقِمَارُ، وَمِنْهُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْمُضَارَبَاتِ.
(٢٤) أَحْكَامُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ.
(٢٥) تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ وَأَوَاخِرِهَا.
(٢٦) حُدُودُ الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِّ كَسُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ بِشَرْطِهِ.
(٢٧) أَحْكَامُ الْأَيْمَانِ وَكَفَّارَتُهَا وَأَيْمَانُ الْأُمَنَاءِ وَالشُّهُودِ.
(٢٨) تَأْكِيدُ أَمْرِ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَأَحْكَامُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَفِي قَضَايَاهَا وَشَهَادَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِشْهَادِ، وَإِنَّنَا بَعْدَ الْإِطَالَةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ فِيهَا لَخَّصْنَا مَسَائِلَهَا فِي ١٥ مَسْأَلَةً.
(٢٩) الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ تَدْخُلُ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ صَلَاحَ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْتِزَامِهَا، وَإِنَّمَا يُرْجَى بِتَكْرَارِ الْأَمْرِ بِهَا فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ.
(٣٠) بَيَانُ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا حَكَاهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَوْلِ الْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَقْرُونًا بِتَعْلِيلِهِ وَدَلِيلِهِ، وَكَوْنِ النَّافِعِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ الصِّدْقُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ أَهْلِهِ.
(مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِجَاجِ وَالْأَحْكَامِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ).
مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَامَّةً وَمِنْهُ مَا هُوَ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ خَاصَّةً. فَمِنَ الْمُشْتَرَكِ: وَصْفُهُمْ بِالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّعَصُّبِ الضَّارِّ، وَبِاتِّبَاعِهِمْ أَهْوَاءَ مَنْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبِالْغَرُورِ فِي دِينِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَبِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ نَقَضُوا مِيثَاقَ رَبِّهِمْ وَنَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذَكَّرَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَنَّدَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمُ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ بِمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا وَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ
وَهِيَ أَنَّهُمْ بَشْرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اللهُ، لَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَذَوَاتِهِمْ; لِأَنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَمْتَازُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْعُلُومِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي هِدَايَتِهِمْ.
وَذَكَرَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلْقَاءَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِذُنُوبِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ كَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْحَضُ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَدَعَاهُمْ كَافَّةً لِلْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ دِينِهِمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ، وَدَحَضَ مَا زَادُوا فِيهِ بِالْبُرْهَانِ، وَبَيَّنَ بَعْضَ مَا كَانُوا يُخْفُونَ أَوْ يَجْهَلُونَ مِنْهُ أَحْسَنَ بَيَانٍ.
وَوَصَفَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَحْسَنَ وَصْفٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِ التَّوْرَاةِ قِصَّةَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، وَمِنْ أَحْكَامِهَا عُقُوبَاتُ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَالْجُرُوحِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَيْنِ أُنْزِلَا نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَقَامُوهُمَا لَكَانُوا فِي أَحْسَنِ حَالٍ، وَلَسَارَعُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُصَدِّقًا لِأَصْلِهِمَا، وَمُبَيِّنًا لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا، وَمُكَمِّلًا لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا، عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي النُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ، الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ فِي الْبَشَرِ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الْإِسْلَامَ هُزُؤًا وَلَعِبًا فِي جُمْلَتِهِ وَفِي صَلَاتِهِ، وَوَالَوْا عَلَيْهِ الْمُنَاصِبِينَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً نَعْيًا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا لِسُوءِ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِيثَاقَ اللهِ الَّذِي
ذَلِكَ كُلِّهِ بِاللَّعْنِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَبِالْغَضَبِ وَالْمَسْخِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الَّتِي غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ وَقَبْلَهُ تُثْبِتُهَا تَوَارِيخُهُمْ وَتَوَارِيخُ غَيْرِهِمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةً فِيهِمْ وَلَا شَامِلَةً لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ، فَقَدْ أَنْصَفَهُمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهُمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (٥: ٦٦) وَبَيَّنَّا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَا كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسَاعَدَةِ الْيَهُودِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ لِعَدْلِهِمْ فِيهِمُ عَلَى النَّصَارَى الظَّالِمِينَ لَهُمْ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي النَّصَارَى خَاصَّةً أَنَّهُمْ نَسُوا كَالْيَهُودِ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِبَرَاءَةِ الْمَسِيحِ مِنْهَا وَمِنْ مُنْتَحِلِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْمَسِيحِ وَأَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرَوْحٌ مِنْهُ، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَحَالَ حَوَارِيِّيهِ وَتَلَامِيذِهِ فِي الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (٥: ٨٢) فَلْيُرَاجَعْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ السَّابِعِ.
وَجُمْلَةُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ تَشْهَدُ لِنَفْسِهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ، عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَيْسَتْ مُوَافِقَةً لَهَا وَلَهُمْ مُوَافَقَةَ النَّاقِلِ لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْكُمُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ وَفِي كُتُبِهِمْ حُكْمَ الْمُهَيْمِنِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ
لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ وَضْعِ الْبَشَرِ لَشَرَعَ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَا سِيَّمَا الَّذِينَ نَاصَبُوا الْإِسْلَامَ بِالْعَدَاءِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِأَشَدِّ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَاهَا. وَلَكِنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، أَمَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِمُعَامَلَتِهِمْ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَحَكَمَ بِحِلِّ مُؤَاكَلَتِهِمْ، وَتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي شَرَعَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ الْفُضْلَى لَهُمْ نَزَلَتْ بَعْدَ إِظْهَارِ الْيَهُودِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مُنْتَهَى الْعَدَاوَةِ وَالْغَدْرِ، وَبَعْدَ أَنْ نَاصَبُوهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ الْحَرْبَ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، وَاكْتِسَابَ مَوَدَّتِهِمْ [رَاجِعْ ص ١٦١، ١٦٢ ج ٦ ط الْهَيْئَةِ].
وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى السُّورَةَ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهَا كُلَّهَا،
كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ آيَةٍ مِنْهَا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَبَعْضُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ " حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ لِي: يَا جُبَيْرُ تَقْرَأُ الْمَائِدَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّهَا آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ والْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ " آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَالْفَتْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ السُّوَرِ بِرُمَّتِهَا وَمِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ كُلٌّ يَرْوِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ).
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ وَفَّقَنِي اللهُ تَعَالَى لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعِ الْآخَرِ سَنَةَ ١٣٣٤ هـ وَكُنْتُ بَدَأْتُ بِتَفْسِيرِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ مِنْ سَنَةِ ١٣٣١ وَسَبَبُ هَذَا الْبُطْءِ أَنَّنِي أَكْتُبُ التَّفْسِيرَ لِيُنْشَرَ فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ فَتَارَةً أُفَسِّرُ فِي الْجُزْءِ مِنْهُ بِضْعَ آيَاتٍ، وَتَارَةً أُفَسِّرُ آيَةً وَاحِدَةً فِي عِدَّةِ أَجْزَاءٍ وَقَدْ يَمُرُّ شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا أَكْتُبُ فِي التَّفْسِيرِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَنْعِ الْعَوَائِقِ وَالْمُبَارَكَةِ فِي الْوَقْتِ وَأَنْ يُؤَيِّدَنِي فِيهِ بِرُوحٍ مِنْ عِنْدِهِ).
أَمْرَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى
(وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ، وَآيَاتُهَا ١٦٥ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَيْهِ مُصْحَفُ الْحُكُومَةِ الْمِصْرِيَّةِ وَفُلُوجَلَ و١٦٦ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ و١٦٧ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ).
هِيَ مَكِّيَّةٌ قِيلَ: إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) (١١١) فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْمَدِينَةِ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فَنَزَلَ فِيهِمْ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٩١) الْآيَتَيْنِ رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ
الْكَلْبِيِّ وَسُفْيَانَ وَقِيلَ: هُمَا (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) (١٥١) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَمَا قَبْلَهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ فِي مُحَاجَّةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ، وَأَمَّا (قُلْ تَعَالَوْا) الْآيَتَيْنِ فَمَعْنَاهُمَا مِنْ مَوْضُوعِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَهُمْ مُتَّصِلَتَانِ بِمَا بَعْدَهُمَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ الثَّالِثةَ بَعْدَهُمَا مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ النَّحَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا وَقِيلَ: إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا وَ (قُلْ تَعَالَوْا) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا: وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ كُلِّهَا.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: اسْتَثْنَى مِنْهَا تِسْعَ آيَاتٍ وَلَا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ، خُصُوصًا مَعَ مَا قَدْ وَرَدَ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً (قُلْتُ) قَدْ صَحَّ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِاسْتِثْنَاءِ (قُلْ تَعَالَوْا) الْآيَاتِ الثَّلَاثَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْبَوَاقِي (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) (٢١، ٩٣) الْآيَتَيْنِ، نَزَلَتَا فِي مُسَيْلِمَةَ. وَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) (٢٠) وَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (١١٤) اهـ.
أَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ كَانَتْ تَصْدُقُ عَلَى وَقَائِعَ تَحْدُثُ بَعْدَ نُزُولِهَا أَوْ قَبْلَهُ لِلِاسْتِشْهَادِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الْوَاقِعَةِ مِنْهَا، فَيَظُنُّ مَنْ سَمِعَهَا حِينَئِذٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْ قَبْلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ الصَّحَابَةُ: إِنَّ آيَةَ كَذَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْأَمْرِ أَوْ حُكْمِهِ أَوْ دَالَّةً عَلَيْهِ، فَيَظُنُّ الرَّاوِي عَنْهُ أَنَّهَا عِنْدَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالصَّحَابِيُّ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ. وَقَدْ نَقَلَ السُّيُوطِيُّ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَالزَّرْكَشِيِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا مِنَ الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ. وَلَمَّا كَانَ وُجُودُ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ أَوْ آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ خِلَافَ الْأَصْلِ، فَالْمُخْتَارُ عَدَمُ قَبُولِ الْقَوْلِ بِهِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةِ السَّنَدِ صَرِيحَةِ
وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي نُزُولِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَخْرَجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَفِي الْإِتْقَانِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبِيدٍ والطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، وَفِي كُلِّ رِوَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا نَزَلَتْ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَّا أَثَرَ مُجَاهِدٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مَلَكٍ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: فَهَذِهِ شَوَاهِدُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ رَوَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَقَالَ: وَلَمْ نَرَ لَهُ إِسْنَادًا صَحِيحًا، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُخَالِفُهُ، فَرُوِيَ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً بَلْ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا فَقِيلَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى آخَرِينَ أَخْرَجُوهُ أَيْضًا عَمَّنْ ذَكَرَ وَعَنْ أَنَسٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ وَأَبِي جُحَيْفَةَ وَعَلِيٍّ الْمُرْتَضَى، فَكَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا مَجَالَ فِيهِ لِلرَّأْيِ فَتَكُونُ اجْتِهَادِيَّةً، وَلَا لِلْهَوَى فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً، وَلَا لِغَلَطِ الرُّوَاةِ فَتَكُونُ مَعْلُولَةً لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ صَحِيحٌ.
وَنَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُنَاقِضِ لِتِلْكَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِنُزُولِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ " وَإِنَّمَا مُرَادُ ابْنِ الصَّلَاحِ بِذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنَ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَرِوَايَةُ نُزُولِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَرْجَحُ بِمُوَافَقَتِهَا لِلْأَصْلِ وَبِكَوْنِهَا مُثْبَتَةً، وَرِوَايَاتُ الِاسْتِثْنَاءِ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَاسْتَثْنَى كَابْنِ عَبَّاسٍ (وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ) وَإِذْ كَانَ مَا صَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ مِنَ اسْتِثْنَاءِ ثَلَاثِ آيَاتٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ النَّحَّاسِ عَنْهُ فِي نَاسِخِهِ فَقَدِ انْحَلَّ الْإِشْكَالُ، فَإِنَّ نَصَّ عِبَارَتِهِ: سُورَةُ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ) إِلَى تَمَامِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ اهـ. فَقَدْ صَحَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ إِذًا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الطَّوِيلَةَ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا نَصٌّ تَوْقِيفِيٌّ عُرِفَ أَصْلُهُ الْمَرْفُوعُ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِيهِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ، وَإِنَّمَا رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ رَأْيِهِ أَوْ رَأْيِ مَنْ رَوَى هُوَ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَرْوِيًّا عَنْهُ بِالْمَعْنَى وَيَكُونُ بَعْضُ
وَقَدْ مَالَ السَّيِّدُ الْآلُوسِيُّ فِي رُوحِ الْمَعَانِي إِلَى الْقَوْلِ بِضَعْفِ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَوْلِ بِنُزُولِهَا جُمْلَةً وَأَنَّهُ اسْتَشْكَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ آيَاتِهَا: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ؟ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى ضَعْفِ حِكَايَةِ الْإِمَامِ الِاتِّفَاقَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ الْإِشْكَالُ (أَوَّلًا) بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبَبًا، وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي زُهَاءِ عَشْرٍ مِنْ آيَاتِهَا. (وَثَانِيًا) أَنَّ مَا قِيلَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ بَعْضُهُ لَا يَصِحُّ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ تِلْكَ الْآيَاتِ مُتَفَرِّقَةً، وَإِنَّمَا قَالُوا إِنَّ آيَةَ كَذَا نَزَلَتْ فِي كَذَا أَوْ فِي قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ، فَإِذَا صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَالْأَقْوَالِ مُبَيِّنَةً حُكْمَ اللهِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي نُزُولَهَا دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ السُّورَةِ قَالَ الْأُصُولِيُّونَ: هَذِهِ السُّورَةُ اخْتُصَّتْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهَا
شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَإِبْطَالِ مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ وَالْمُلْحِدِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالرِّفْعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْزَالُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ قَدْ تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ أَنْ يُنْزِلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْرَ حَاجَتِهِمْ وَبِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ، وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي. اهـ.
وَمُرَادُهُ بِالْأُصُولِ عَقَائِدُ الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى طَرِيقَةِ
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا:
مَنْ نَظَرَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ كُلِّهَا فِي الْمُصْحَفِ يَرَى أَنَّهُ قَدْ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقِصَرُ فِي الْجُمْلَةِ، وَمِنْ حِكْمَتِهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَوْنًا عَلَى تِلَاوَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَالنَّاسُ يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَتِهِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ إِلَى الْمِئِينَ فَالْمَثَانِي فَالْمُفَصَّلِ أَنْفَى لِلْمَلَلِ وَأَدْعَى إِلَى النَّشَاطِ، وَيَبْدَءُونَ بِحِفْظِهِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الطِّوَالِ وَالْمِئِينَ وَالْمُفَصَّلِ تَقْدِيمًا لِسُوَرٍ قَصِيرَةٍ عَلَى سُورٍ أَطْوَلَ مِنْهَا، وَمِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ إِنَّهُ قَدْ رُوعِيَ التَّنَاسُبُ فِي مَعَانِي السُّوَرِ، مَعَ التَّنَاسُبِ فِي الصُّوَرِ، أَيْ مِقْدَارِ الطُّولِ وَالْقِصَرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ أَرْبَعٌ السُّوَرُ الطُّولَى، وَهِيَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ الَّتِي لَا يُرَاعَى مُنَاسَبَتُهَا لِمَا بَعْدَهَا وَحْدَهُ; إِذْ هِيَ فَاتِحَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَهَذِهِ السُّوَرُ الْأَرْبَعُ مَدَنِيَّةٌ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّنَاسُبِ فِي التَّرْتِيبِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُنَّ سُورَتَا الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ الْمَكِّيَّتَانِ، وَبَعْدَهُمَا سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ الْمَدَنِيِّتَانِ، وَيَقَعَانِ فِي أَوَائِلِ الرُّبُعِ الثَّانِي مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ سُوَرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلُّهُ مَكِّيٌّ، وَسُوَرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ أَيْضًا إِلَّا سُورَةَ النُّورِ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَإِلَّا سُورَةَ الْحَجِّ فَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَالتَّحْقِيقُ إِنَّهَا مُخْتَلِطَةٌ، وَأَمَّا الرُّبُعُ الرَّابِعُ فَهُوَ مُخْتَلِطٌ وَأَكْثَرُهُ سُوَرُ الْمُفَصَّلِ الَّتِي تُقْرَأُ كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي بَيَانُ مُنَاسِبَةِ جَعْلِ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ الْمَدَنِيَّةِ الْأُولَى وَقَبْلَ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا ثُمَّ مُنَاسِبَةِ الْأَنْعَامِ لِلْمَائِدَةِ خَاصَّةً.
سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِأُصُولِ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعِهِ، فَفِيهَا بَيَانُ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَبَيَانُ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَبَيَانُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَةِ الْقُرْآنِ، وَمُحَاجَّةِ الْجَمِيعِ وَبَيَانُ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ
الْكِتَابِ وَيَتَّبِعُ شَرِيعَتَهُ جَمِيعُ أَنْبِيَائِهِمْ حَتَّى عِيسَى الْمَسِيحُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلَمَّا تَمَّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهَا مَا يُتِمُّ مَا أَجْمَلَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَلَا سِيَّمَا أَحْكَامَ الْقَتَّالِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَكَانَ قَدْ فَصَّلَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فَكَانَتْ سُورَتَا الْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ هُمَا الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِذَلِكَ وَبِهِمَا يَتِمُّ ثُلُثُ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ عُلِمَ بِمَا شَرَحْنَاهُ أَنَّ رُكْنَ الْمُنَاسَبَةِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ سُورَتَيِ الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ أَنَّ الْمَائِدَةَ مُعْظَمُهَا فِي مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَنْعَامِ مُعْظَمُهَا بَلْ كُلُّهَا فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنَ التَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ قَدْ ذَكَرَتْ أَحْكَامَ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ اللهِ وَالذَّبَائِحِ بِالْإِجْمَالِ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ ذَكَرَتْ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ وَهِيَ قَدْ أُنْزِلَتْ أَخِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا فِي الْمَائِدَةِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
هَذَا مَا أَرَاهُ مِنْ وُجُوهِ التَّنَاسُبِ فِي الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي شَرَعْتُ فِي تَفْسِيرِهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مُطْلَقًا. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ تَصَفُّحِ آيَاتِ السُّورَةِ فَرَأَيْتُ فِي رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ:
" وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهَا لِآخِرِ الْمَائِدَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِالْحَمْدِ وَتِلْكَ اخْتُتِمَتْ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣٩: ٧٥) وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ فِي وَجْهِ الْمُنَاسِبَةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ.
لِظَرْفِ الزَّمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، ثُمَّ خَلْقَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالْمَوْتِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ مِنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَلْقِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ النَّيِّرَيْنِ وَالنُّجُومِ وَفَلْقِ الْإِصْبَاحِ وَفَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ بِأَنْوَاعِهَا وَإِنْشَاءِ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرِ مَعْرُوشَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا فِيهِنَّ.
" وَذَكَرَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَجْهًا آخَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٥: ٨٧) إِلَخْ. وَذَكَرَ جَلَّ شَأْنُهُ بَعْدَهُ (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) إِلَخْ. فَأَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ تَعَالَى افْتِرَاءً عَلَى اللهِ عَزَّ شَأْنُهُ، وَكَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ تَحْذِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحَرِّمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيُشَابِهُوا الْكُفَّارَ فِي صُنْعِهِمْ، وَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ سَاقَ جَلَّ جَلَالُهُ هَذِهِ السُّورَةَ لِبَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي صُنْعِهِمْ فَأَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْيَنِ وَالنَّمَطِ الْأَكْمَلِ، ثُمَّ جَادَلَهُمْ فِيهِ وَأَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى بُطْلَانِهِ وَعَارَضَهُمْ وَنَاقَضَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ، فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ شَرْحًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ السُّورَةُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَتَفْصِيلًا وَبَسْطًا وَإِتْمَامًا وَإِطْنَابًا، وَافْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْخَلْقِ وَالْمُلْكِ; لِأَنَّ الْخَالِقَ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مُلْكِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ إِبَاحَةً وَمَنْعًا وَتَحْرِيمًا وَتَحْلِيلًا، فَيَجِبُ أَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ.
" وَلِهَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا اعْتِلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ بِالْفَاتِحَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَبِالْبَقَرَةِ لِشَرْحِهَا إِجْمَالَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢: ٢١) وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: (الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩) وَبِآلِ عِمْرَانَ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهَا لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: (وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (٣: ١٤) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (٣: ١٨٥) إِلَخْ. وَبِالنِّسَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهَا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ وَالتَّقْبِيحِ لِمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَتْلِ الْبَنَاتِ، وَبِالْمَائِدَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَطْعِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا.
" وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ قُطْبُ هَذِهِ السُّورَةِ دَائِرًا عَلَى إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ كُلَّ قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ نَاسَبَتْ تِلْكَ
سورة المائدة
إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.
ترتيبها المصحفي
5نوعها
مدنيةألفاظها
2837ترتيب نزولها
112العد المدني الأول
122العد المدني الأخير
122العد البصري
123العد الكوفي
120العد الشامي
122* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:
عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).
* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41] إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).
* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).
* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).
* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).
سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.
* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:
عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).
* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:
فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).
* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:
عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:
العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).
المواثيق والجزاء (٩-١٠).
البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).
ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).
فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).
سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).
جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).
عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).
التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).
حد السرقة (٣٨-٤٠).
تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).
رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).
القرآن (٤٨-٥٠).
المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).
الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).
سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).
لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).
عصمة الرسول (٦٧-٦٩).
طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).
لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).
مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).
النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).
اليمين وكفارتها (٨٩).
خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).
مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).
تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).
الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).
عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).
المائدة (١١٢-١١٥).
التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).
كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).
مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.
وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).