تفسير سورة المائدة

جهود الإمام الغزالي في التفسير

تفسير سورة سورة المائدة من كتاب جهود الإمام الغزالي في التفسير
لمؤلفه أبو حامد الغزالي . المتوفي سنة 505 هـ

﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ ( ٢ ).
٣٢٦- ﴿ أحلت لكم بهيمة الأنعام ﴾ أي أكل البهيمة. [ المستصفى : ١/٣٤٧ و٢/١٨٨ ].
﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ ( ٣ ).
٣٢٧- صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى :﴿ وإذا حللتم فاصطادوا ﴾ [ نفسه : ١/٧٥ ].
﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾.
٣٢٨- وهو أمر جزم. ومعنى التعاون : الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان. [ الإحياء : ٢/٣٣٤ ].
﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.. ﴾ الآية ( ٤ ).
٣٢٩- ﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ﴾ أي الأكل.
٣٣٠- ﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ ليس بمجمل، وقال قوم من القدرية١ : هو مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم، وإنما يحرم ما يتعلق بالعين، وليس يدري ما ذلك الفعل، فيحرم من الميتة مسها أو أملها أو النظر إليها أو بيعها أو الانتفاع بها فهو مجل... وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع. [ نفسه : ١/٣٤٦ ].
٣٣١- نهى الله تعالى من لم يقو في الإسلام عن مخالطة الكفار، حتى قيل : كان أحد أسباب تحريم الخنزير ذلك، إذ كان أكثر أطعمة الكفار، فحرم ذلك ليكون مزجرة للمسلمين عن مواكلتهم التي كانا سببا للمخالطة. [ ميزان العمل : ٣٤٧ ].
٣٣٢- ﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ﴾ خصص بالتحريم اللحم والشحم والجلد، وسائر أجزائه مفهومه منه، فنزل في البيان منزلة قوله : " والخنزير " وحمل التخصيص فيه على عادة البيان، وهو : أن السابق إلى اللسان ما يعتد أكله وهو اللحم. [ شفاء الغليل : ١٠٩ ].
﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾.
٣٣٣- إن الحج- من بين أركان الإسلام ومبانيه- عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين، فيه أنزل الله عز وجل ﴿ اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾. [ الإحياء : ١/٢٨٥ ].
٣٣٤- قال بعض السلف : إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل عرفة، وهو أفضل يوم في الدنيا. وفيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان واقفا إذ نزل قوله تعالى عز وجل :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾. قال أهل الكتاب : لو نزلت هذه الآية علينا لجعلناها يوم عيد، فقال عمر رضي الله عنه :( أشهد لقد نزلت هذه الآية في يوم عيدين اثنين : يوم عرفة ويوم جمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة )٢. [ نفسه : ١/٢٨٧ ].
٣٣٥- قال العلماء قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى :﴿ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾. [ نفسه : ٤/١٥٦ ].
١ - القدرية : هم فرقة من المعتزلة يقولون بأن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها. انظر الملل والنحل للشهرستاني١/٤٣..
٢ - رواه البخاري في صحيحه. كتاب التفسير باب ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ الحديث رقم ٤٦٠٦..
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ﴾ ( ٧ ).
٣٣٦- يترتب الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبيب، فهو تنبيه على تعليل الحكم بالفعل الذي رتب عليه... كقوله جل من قائل :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ﴾ فدل ذلك على أن سبب الوضوء الصلاة. [ شفاء الغليل : ٢٧-٢٨ ].
٣٣٧- فإن قال قائل : قال الله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ وقد ذكرتم أن ترتيب الحكم على الفعل بفاء التعقيب مشعر بالتسبيب، وهذه الآية تدل على كون الصلاة سببا لوجوب الوضوء، والإجماع منعقد على أن الوضوء يجب بالحدث، وأن القائم إلى الصلاة - إذا كان متوضئا غير محدث- لا وضوء عليه، وهو إخراج للصلاة عن كونها سببا، وقد ذكرتم : أن أصل الإيماء في مثل ذلك صريح في أصل التعليل، وإن احتمل الإحالة إلى معنى فيتضمنه السبب، وليس هذا إحالة إلى معنى يتضمنه المذكور، بل هو قطع له عن سببه بالكلية ؟
فالجواب أن الوضوء إنما يجب للصلاة، لذلك لا يجب على المحدث أن يتوضأ قبل وجوب الصلاة عليه، فلا تخرج الصلاة عن كونها سببا، ولكنها سبب في حق المحدث لا في حق المتوضئ. ومعناه : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فاغسلوا وجوهكم.
والعلل المفهومة بالإيماء تحتمل التخصيص بالشرائط والمحال، وليس في تحصيصها بشرط دلت الدلالة عليه إبطال لها، وهذا كالتعليل بالسرقة في قوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾١ ثم خصص ذلك بالنصاب، ولم يكن إبطالا للتعليل، وتعرف الأدلة المخصصة للعلل بالمحال والشروط بما يعرف به تخصيص الألفاظ : من إجماع، ونص وقياس جلي وغيره، فقد نقل : بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يصلي بوضوء واحد )٢ فعلم أن الصلاة سبب لوجوب الوضوء على المحدث.
نعم : بقي على الناظر نظر في أن الحدث سبب الوجوب عند الصلاة، أو الصلاة في حق المحدث ؟ وأن الجاري منهما مجرى العلة والجاري مجرى المحل والشرط ماذا ؟
وعلى الأحوال كيف ما كان، فلابد من اعتبار الصلاة وإبقائه معتبرا في الحكم شرطا أو سببا، وفيه الوفاء بموجب الإيماء، لأن الشرط أيضا مؤثر في الحكم ولكن بواسطة العلة، فلم يكن التخصيص والترتيب بفاء التعقيب لغوا من الكلام بكل حال.
والأولى عندي أن يقال : الصلاة سبب لوجوب الوضوء، والحدث سبب لانتقاضه ! فالأحداث نواقض، والصلوات أسباب، ثم من توضأ للقيام للصلاة فهو ممتثل، له أن يؤدي به صلوات، ولا يتكرر عليه الخطاب بعدد آحاد الصلوات، ولكن معناه : إذا أردتم الصلاة فاغسلوا، أي جنس الصلاة، فما دام المصلي بهذه الطهارة فحكم امتثاله مستمر لا يتجدد عليه الأمر إلا إذا انفضت طهارته بحدث ظاهر ناقض، فعند ذلك ينقطع حكم الامتثال السابق، فإرادة الصلاة بعده والقيام إليها يوجب الوضوء. وقد قال قائلون : من أحدث قبل دخول وقت الصلاة وجبت عليه الطهارة وجوبا موسعا إلى وقت الصلاة، وقد قال آخرون : لا، بل ابتدأ الوجوب بدخول وقت الصلاة ولكن في حق المحدث وهذا هو الأولى.
وعلى الجملة : فالمفهوم من الإيماء تأثير الصلاة في الوجوب، وكيف ما فرض فلا ينقطع تأثيره بحال. [ نفسه : ٩٧ إلى ١٠٠ ].
٣٣٨- قول بعض أصحابنا في قوله تعالى :﴿ وأرجُلِكم ﴾٣ مكسورة اللام لقرب الجوار ردا على الشيعة إذ قالت : الواجب فيه المسح. [ المنخول من تعليقات الأصول : ٢٠٢ ]
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾.
٣٣٩- ﴿ أو لامستم النساء ﴾ حملهم أبو حنيفة- رضي الله عنه- على المجامعة وحمله الشافعي على الجس باليد. [ الوسيط في المذهب : ١/٤٠٩-٤١٠ ].
٣٤٠- لفظ اللمس يحمل في نقض الطهارة على اللمس باليد والجماع. [ المنخول من تعليقات الأصول : ١٤٧ ].
٣٤١- العجز عن استعمال الماء يبيح التيمم لقوله تعالى :﴿ فلم تجدوا ماء فتيمموا ﴾ [ الوسيط في المذهب : ١/٤٣١-٤٣٢ ].
١ - المائدة : ٣٨..
٢ - صحيح مسلم كتاب الطهارة ١/٢٣٢ حديث رقم ٢٧٧..
٣ - قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة..
﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ ( ٢٩ ).
٣٤٢- فرجع الأمر كله إلى التقوى. { منهاج العابدين إلى جنة رب العالمين : ١٢٥ ]
﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ ( ٣٤ ).
٣٤٣- معاد النفوس واحد، ومرجعها إليه بعد القبض، فإذا ظلم بعضها سرى الظلم في كلها، وهو معنى قوله تعالى :﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾. فإذا أوصلت إلى النفس برا وصدقة وخيرا وعدلا وإشفاقا، سرى ذلك إلى جميع النفوس بعض القبض فصار خيرا، فإذا وصل بهم كان ذلك خيرا للجميع، ألا ترى قول الرجل لامرأته : بعضك طالق، كيف يسري الطلاق في الكل ؟ إذ الطلاق لا يتبعض. [ سر العالمين وكشف ما في الدارين ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي رقم ٦ ص : ٢٦ ].
﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ﴾ ( ٤٠ ).
٣٤٤- ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ المراد بعض السارقين.
فإذا أردنا أن نجعل هذه كلية ضممنا إليها الأوصاف التي بان اعتبارها فيه، وقلنا مثلا : كل من سرق نصابا كاملا، من حرز مثله لا شبه له فيه قطع، هذا هو العادة.
والصواب عندنا في مراسيم جدل الفقه أن لا يفعل ذلك مهما وجد عموم لفظ، بل يتعلق بعموم اللفظ، ويطالب الخصم بالمخصص، وما يدعى من أن المخصوص قد تطرق إلى العموم، فليس مانعا من التمسك بالعموم على اصطلاح الفقهاء، وإذا اصطلحوا على هذا فالتمسك به أولى من إيراده في شكل، لأنهم ليسوا يقبلون تخصيص العلة.
ومهما قلت : كل من سرق نصابا كاملا من حرز مثله، قطع. منع الخصم وقال : أهملت وصفا ؛ وهو أن لا يكون المسروق رطبا. فما الذي عرفك أن هذا غير معتبر ؟
فلا ينبغي لك إلا أن تعود إلى العموم وتقول : هو الأصل، ومن زاد وصفا فعليه الدليل.
فإذن التمسك بالعموم أولى، إذا وجد. [ معيار العلم في المنطلق : ١٩٥-١٩٦ ]
٣٤٥- ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا ﴾ فإن السرقة مخيلة١ فإنها جريمة يليق بها العقوبة الزاجرة، وقوله تعالى :﴿ جزاء بما كسبا ﴾ إيماء، لأنا نعلم أنه لا يجازى لإسلامه، وحسن عبادته. وقوله تعالى :﴿ نكالا ﴾ كذلك إيماء إليه. [ المنخول من تعليقات الأصول : ٣٤٣ ].
٣٤٦- ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ﴾ فجعل السرقة علة للقطع. وسرقة ما دون النصاب سرقة وليس بعلة، ولا يعد ذلك نقضا ولا مناقضا، لأن مقصود الكلام التعرض للجهة والسبب لا للمحل الذي يعمل فيه السبب. [ شفاء الغليل : ٣٩٣-٣٩٤ ].
٣٤٧- يرتب الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبيب فهو تنبيه على الحكم بالفعل الذي رتب عليه، كقوله تعالى :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ فدل ذلك على أن القطع معلل بالسرقة، وأنها سببه. [ نفسه : ٢٧-٢٨ ].
٣٤٨- ﴿ والسارق والسارق ﴾ يعم كل مال وخرج ما دون النصاب بقوله :( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا }٢.
٣٤٩- ﴿ والسارق والسارقة ﴾ نزل في سرقة المجن٣ أو رداء صفوان. [ نفسه : ٢/٦٠ ].
٣٥٠- ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾.. فإنه كما فهم وجوب القطع على السارق وهو المنطوق به، فهم كون السرقة علة الحكم وكونه علة غير منطوق به، لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام. [ نفسه : ٢/١٨٩ ].
١ - يقال : شيء مخيل أي مشكل. ن اللسان (خيل)..
٢ - رواه أبو داود في سننه كتاب الحدود ٤/١٣٦ حديث رقم ٤٣٨٣ و ٤٣٨٤ وابن حبان في صحيحه. ن الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان ٦/٣١٦..
٣ - المجن : الترس من السلاح المتوقى بها. ن اللسان (ترس) و (جن)..
﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيّون ﴾ ( ٤٦ ).
٣٥١- المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما يشترك فيه النبيّون دون الأحكام المعرضة للنسخ، ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر، فلا حجة فيه. ثم يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام.
﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾.
٣٥٢- بعد ذكر التوراة وأحكامها :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ قلنا : المراد به ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله ﴾ مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة، أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم، أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون، وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية. [ نفسه : ١/٢٥٨ ].
﴿ يحبهم ويحبونه ﴾ ( ٥٦ ).
٣٥٣- قال الشيخ أبو سعيد الميهني١ رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى :﴿ يحبهم ويحبونه ﴾ فقال : بحق يحبهم، فإنه ليس يحب إلا نفسه، على معنى أنه الكل وأن ليس في الوجود غيره، فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته، فهو إذن لا يحب إلا نفسه. وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول، ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك في الأزل. فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له كما قال تعالى :( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )٢ فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه، فكل ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو في معنى حبه. [ الإحياء : ٤/٣٤٦ ].
١ - هو القدوة الزاهد شيخ خراسان، أبو سعيد فضل بن أبي الخير محمد بن أحمد الميهني الصوفي. حدث عن زاهر بن أحمد السرخسي وغيره، وروى عنه: الحسن بن أبي طاهر الحنبلي، وعبد الغفار بن محمد الشيروبي وآخرون. ت سنة ٤٤٠ هـ. ن سير أعلام النبلاء: ١٧/٦٢٢..
٢ - رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب التواضع حديث رقم ٦٥٠٢..
﴿ وعبد الطاغوت ﴾ ( ٦٢ ).
٣٥٤- المنهكون في الدنيا بلا التفات إلى العقبى إلا باللسان وحديث النفس، وهم الأكثرون، سموا في كتاب الله تعالى ﴿ وعبد الطاغوت ﴾ [ ميزان العمل : ٣٨٢ ].
﴿ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ ( ٦٥ ).
٣٥٥- بين أنهم أثموا بترك النهي [ الإحياء : ٢/٣٣٤ ]
٣٥٦- هذا غاية التشديد، إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر [ الإحياء : ٢/٣٣٤ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٩:٣٥٦- هذا غاية التشديد، إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر [ الإحياء : ٢/٣٣٤ ].
﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ ( ٨٤ ).
٣٥٧- اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات، والاقتصار على الضرورات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات، ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجيال، وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل، فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة طمعا في الآخرة، وأثنى الله عز وجل عليهم في كتابه فقال :﴿ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ﴾ [ نفسه : ١/٣١٤ ].
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفرته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفرة أيمانكم إذا حلفتم ﴾ ( ٩١ ).
٣٥٨- ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكم يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ تنبيه على أن للتعقيد تأثيرا في المؤاخذة. [ شفاء الغليل : ٤٩ ].
٣٥٩- قوله :﴿ فمن لم يجد ﴾ يرجع إلى الخصال الثلاثة. [ المستصفى : ٢/١٧٩ ].
٣٦٠- ﴿ تحرير رقبة ﴾ يعم المؤمنة وغير المؤمنة فيجوز تخصيص العموم، إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة، ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها، فلو استقر العموم وحصل القطع يكون العموم مرادا لكان نسخة ورفعه بالقياس وخبر الواحد ممتنعا [ نفسه : ١/١١٩ ].
٣٦١- التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول، وإن قرأ ابن مسعود ﴿ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ﴾ لأن هذه الزيادة لم تتواتر، فليست من القرآن، فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا، فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار. وقال أبو حنيفة : يجب ؛ لأنه لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا، والعمل يجب بالخبر الواحد. وهذا ضعيف، لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه، وهو وإن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا، لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به، وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له، لدليل قد دله عليه، واحتمل أن يكون خبرا، وما تردد أن يكون خبرا أو لا يكون، فلا يجوز العمل به، وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ نفسه : ١/١٠٢ ].
﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ ( ٩٣ ).
٣٦٢- ﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء ﴾ فإنه بيان لتعليل تحريم الخمر حتى يطرد في كل مسكر. [ نفسه : ٢/٢٨٩ ].
٣٦٣- نبه على فساد الخمر بقوله :﴿ أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ﴾ وهي من المضار والمحذورات في أمور الدنيا، وقد يقترن به أيضا مفسدة الدين. [ شفاء الغليل : ١٦١ ]
﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ ( ٩٥ ).
٣٦٤- قالوا : منازل التقوى ثلاثة : تقوى عن الشرك، وتقوى عن البدعة، وتقوى عن المعاصي الفرعية. ولقد ذكرها الله سبحانه في آية واحدة، وهي قوله تعالى :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ﴾.
التقوى الأولى : تقوى عن الشرك، والإيمان في مقابلته وهو التوحيد.
والتقوى الثانية : عن البدعة، والإيمان الذي ذكر معها إقرار بالسنة والجماعة.
التقوى الثالثة : عن المعاصي الفرعية، ولا إقرار في هذه المنزلة، فقابلها بالإحسان وهو الطاعة والاستقامة في الطاعة. هذا ما قاله العلماء في بيان معنى التقوى.
قلت : أنا وجدت التقوى بمعنى اجتناب فضول الحلال، وهو ما روي في الخبر المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي المتقون متقين، لتركهم ما لا بأس به حذرا عما به بأس )١.
فأحببت أن أجمع بين ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى، وبين ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون حدا جامعا ومعنى بالغا.
فأقول : التقوى هو اجتناب كل ما تخاف منه من ضرر في دينك، ألا ترى أنه يقال للمريض المحتمي إنه يتقي إذا اجتنب كل شيء يضره في بدنه من طعام أو شراب أو فاكهة أو غيرها.
ثم الذي يخاف منه الضرر في أمر الدين قسمان : محض الحرام ومحض المعصية، وفضول الحلال، وذلك لشره أمر النفس وطغيانها، وتمرد الهوى وعصيانه، فمن أراد أن يأمن الضرر في أمر دينه، اجتنب الخطر، فامتنع عن فضول الحلال حذرا أن يجره إلى محض الحرام، على ما قاله صلى الله عليه وسلم :( لتركهم ما لا بأس به حذرا مما به بأس )، يعني : لتركهم فضول الحلال حذرا عن الوقوع في الحرام. فالتقوى البالغة الجامعة اجتناب كل ما فيه ضرر لأمر الدين، وهو المعصية والفضول، هذا تفضيلها٢.
أما إذا أردنا تحديدها على موضوع علم الشرع فنقول :
حد التقوى الجامع : تنزيه القلب عن شر لم يسبق عنك مثله، بقوة العزم على تركه حتى يصير ذلك وقاية بينك وبين كل شر. [ منهاج العابدين : ١٢٩-١٣١ ]
١ -رواه ابن ماجة في باب الورع والتقوى ٢/ ١٤٠٩ بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس) حديث رقم ٤٢١٥..
٢ - أي هذا الذي ذكرناه هو تفصيل التقوى..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ﴾ ( ٩٧ ).
٣٦٥- أوجب المثل وحصره في النعم، فكان طلب الوصف-الذي تقع به المماثلة- واجبا بحكم النص. [ شفاء الغليل : ٣٥٨ ].
٣٦٦- ﴿ ومن قتله منكم متعمدا ﴾ في جزاء الصيد يجب على الخاطئ [ المستصفى : ٢/٢٠٣ ].
﴿ فاتقوا الله يا أولي الألباب ﴾ ( ١٠٢ ).
٣٦٧- هم ذوو العقول، واشتقاق العقل من العقال، والمعقل المنيع والقلعة على رأس الجبل لا تصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها وإحكامها. [ التبر المسبوك بنصيحة الملوك : ١١٧ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ ( ١٠٧ ).
٣٦٨- روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه- في خطبته : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأولونها على خلاف تأويلها. ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل، إلا أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده )١ [ كتاب الأربعين في أصول الدين : ٦٥ الإحياء : ٢/٢٥٠، و٢/٣٣٥، مع تغير في ألفاظ الحديث [ [... وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ).
١ - رواه الترمذي في صحيحه ٤/٣٢٢ أبواب التفسير حديث رقم ٥٠٥٠ وقال: حسن صحيح..
﴿ واتقوا الله واسمعوا ﴾ ( ١١٠ ).
٣٦٩- ربط السماع بالتقوى [ الإحياء : ٣/١٣ ].
﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾ ( ١١١ ).
٣٧٠- فيا لشدة يوم تذهب فيه عقول الأنبياء وتنمحي علومهم من شدة الهيبة ؛ إذ يقال لهم :﴿ ماذا أجبتم ﴾ وقد أرسلتم إلى الخلائق ؟ وكانوا قد عملوا فتدهش عقولهم، فلا يدرون بماذا يجيبون، فيقولون من شدة الهيبة. ﴿ لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ﴾ وهم في ذلك الوقت صادقون إذ طارت منهم العقول وانمحت العلوم إلى أن يقويهم الله تعالى [ نفسه : ٤/٥٥١ ].
﴿ إذا أيدتك بروح القدس ﴾ ( ١١٢ ).
٣٧١- التأييد : هو تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش من خارج، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ إذا أيدتك بروح القدس ﴾ [ ميزان العمل : ٣٠٣ ].
٣٧٢- أعلى طبقة في الامتداد : الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ثم من يليهم وذلك بحسب تهذيب النفس والعكوف على هذه الجنبة وهذا هو المعني بقوله تعالى :﴿ إذ أيدتك بروح القدس ﴾. [ معراج السالكين ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي رقم : ١ ص : ١٠٤ ]
﴿ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ﴾.
٣٧٣- معناه : تقدر، والخلق هو التقدير. [ المستصفى : ٢/١٣٩ ].
﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ( ١٢٠ ).
٣٧٤- فوض الأمر إلى المشيئة، وأخرج نفسه بالكلية من البين، لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات، فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان، فضلا عن التحقيق والاستيقان. [ الإحياء : ٤/١٨٠ ].
سورة المائدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.

ترتيبها المصحفي
5
نوعها
مدنية
ألفاظها
2837
ترتيب نزولها
112
العد المدني الأول
122
العد المدني الأخير
122
العد البصري
123
العد الكوفي
120
العد الشامي
122

* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ‌اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]  إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).

* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).

* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).

* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).


سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.

* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:

عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).

* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:

فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).

* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:

عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:

العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).

المواثيق والجزاء (٩-١٠).

البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).

ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).

فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).

سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).

جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).

عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).

التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).

حد السرقة (٣٨-٤٠).

تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).

رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).

القرآن (٤٨-٥٠).

المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).

الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).

سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).

لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).

عصمة الرسول (٦٧-٦٩).

طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).

لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).

مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).

النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).

اليمين وكفارتها (٨٩).

خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).

مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).

تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).

الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).

عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).

المائدة (١١٢-١١٥).

التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).

كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).

مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.

وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).