تفسير سورة المائدة

التفسير القيم

تفسير سورة سورة المائدة من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم.
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر. فكل إثم عدوان، إذ هو فعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به. فهو عدوان على أمره ونهيه. وكل عدوان إثم. فإنه يأثم به صاحبه، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان، بحسب متعلقهما.
فالإثم ما كان محرم الجنس، كالكذب والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك.
والعدوان: ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه. إما بأن يتعدى على ماله، أو بدنه، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه. وإذا قال فيه كلمة فيه أضعافها. فهذا كله عدوان وتعد للعدل.

[سورة المائدة (٥) : آية ٣]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها، وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذا الدار وفي دار القرار.
وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم، إذ هم القائمون به المقيمون له. وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمة حقا، وهم قابلوها.
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأمم.
وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء «أتممت» في مقابلة أَكْمَلْتُ و «عليكم» في مقابلة لَكُمْ و «نعمتي» في مقابلة دِينِكُمْ وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله ٥: ٣ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى: ٥: ٤١ أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وقال وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته تستلزم وجوده. فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقال وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟.
234
قيل: إن أريد بكونه مقدورا: سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له. فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار. وإن أريد بكونه مقدورا: القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل. فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك: أن القدرة نوعان: قدرة مصححة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف. وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له. وقدرة مقارنة للفعل، مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف. فلا يتوقف صحته وحسنه عليها.
فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته: مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا قيل: هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة؟.
قيل: خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي. ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له، لا يتخلف عنها. فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة؟.
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه. وقد عرفت جوابه. وبالله التوفيق.
قول الله تعالى: ٥: ٣ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
235
النعمة نعمتان: نعمة مطلقة ونعمة مقيدة. فالنعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها، ومن خصهم بها، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى، حيث يقول تعالى: ٤: ٦٩ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فأضاف الدين إليهم، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.
والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة يضاف إلى الرب، فيقال:
الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه ولهذا يقال في الدعاء: اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء.
ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة، مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم. وهم محل محض النعمة قابلين لها. ولهذا يقال
في الدعاء المأثور للمسلمين «واجعلهم مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها عليهم»
وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب النعمة.
واللفظتان- وإن تقاربتا وتواخيتا- فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل.
فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني، ويطلق على الأعيان والذوات، ولكن باعتبار صفاتها وخواصها، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد»
وقال عمر بن عبد العزيز «إن للإيمان حدودا وفرائض، وسننا وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان».
236
وأما الإتمام فيكون في الإيمان والمعاني، ونعم الله أعيان وأوصاف ومعان.
وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه. فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن. والمقصود: أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل: ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح، والنعمة الثانية: النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وبسطة الجاه، وكثرة الولد والزوجة الحسنة، وأمثال هذه. فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر، والمؤمن والكافر وإذا قيل: لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار، فهو حق.
فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر، ومآلها إلى العذاب والشقاء، فكأنها لم تكن نعمة، وإنما كانت بلية، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك. فقال تعالى: ٨٩: ١٥، ١٦ فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبار، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته بقدر فضلة أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
فإن قيل: كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله «فأكرمه» فأثبت له الإكرام، ثم أنكر عليه قوله «ربي أكرمن» وقال «كلا» أي ليس ذلك إكراما مني هو ابتلاء، فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه.
وقيل: الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من جنس النعمة
237
المطلقة والمقيدة، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.
وكذلك أيضا إذا قيل: إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة، ولكنه رد نعمة الله وبدّلها. فهو بمنزلة من أعطى مالا ليعيش به فرماه في البحر، كما قال ١٤: ٢٨ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وقال تعالى:
٤١: ١٧ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فهدايته إياهم نعمة منه عليهم، فبدلوا نعمة الله، وآثروا عليها الضلال.
فهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر نعمة أم لا؟.
وأكثر اختلاف الناس من جهتين.
إحداهما: اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الإطلاق والتفصيل.
238
سورة المائدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

إنَّ شأنَ هذه السورةِ عظيمٌ كشأنِ أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال؛ لِما اشتملت عليه من أحكامٍ كثيرة؛ فقد بُدِئت بالأمرِ بالوفاء بالعقود والالتزام بالمواثيق، واشتملت على ذِكْرِ المُحرَّمات من الأطعمة، وجاءت على ذكرِ عقوبة الحِرابةِ والسرقة، وغيرِها من الأحكام التي تُوضِّحُ المعاملاتِ بين الناس؛ استكمالًا لشرائعِ الله، كما ذكَرتْ قصَّةَ بني إسرائيل وطلَبِهم المائدةَ، وخُتِمتْ بالحوارِ الذي يَجري بين الله وبين عيسى عليه السلام لإقامةِ الحُجَّةِ على بني إسرائيلَ، ولعلَّ ما صحَّ في الحديثِ مِن أنَّ الدابَّةَ لم تستطِعْ تحمُّلَها وقتَ نزولِها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ وتشريعات.

ترتيبها المصحفي
5
نوعها
مدنية
ألفاظها
2837
ترتيب نزولها
112
العد المدني الأول
122
العد المدني الأخير
122
العد البصري
123
العد الكوفي
120
العد الشامي
122

* قوله تعالى: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39]:

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما: «أنَّ امرأةً سرَقتْ على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، فجاءَ بها الذين سرَقتْهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذه المرأةَ سرَقتْنا، قال قومُها: فنحن نَفدِيها - يعني أهلَها -، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اقطَعُوا يدَها»، فقالوا: نحن نَفدِيها بخَمْسِمائةِ دينارٍ، قال: «اقطَعُوا يدَها»، قال: فقُطِعتْ يدُها اليمنى، فقالت المرأةُ: هل لي مِن توبةٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «نَعم، أنتِ اليومَ مِن خطيئتِكِ كيَوْمَ ولَدَتْكِ أمُّكِ»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل في سورةِ المائدةِ: ﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعْدِ ظُلْمِهِۦ وَأَصْلَحَ﴾ [المائدة: 39] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه أحمد (٦٦٥٧).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «مُرَّ على النبيِّ ﷺ بيهوديٍّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعَاهم ﷺ، فقال: «هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قالوا: نَعم، فدعَا رجُلًا مِن علمائِهم، فقال: «أنشُدُك باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى؛ أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابِكم؟!»، قال: لا، ولولا أنَّك نشَدتَّني بهذا لم أُخبِرْك، نجدُه الرَّجْمَ، ولكنَّه كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشريفَ ترَكْناه، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليه الحدَّ، قلنا: تعالَوْا فَلْنجتمِعْ على شيءٍ نُقِيمُه على الشريفِ والوضيعِ، فجعَلْنا التَّحْميمَ والجَلْدَ مكانَ الرَّجْمِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه»، فأمَرَ به فرُجِمَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ‌اْلرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ اْلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي اْلْكُفْرِ﴾ [المائدة: 41]  إلى قولِه: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، يقولُ: ائتُوا محمَّدًا ﷺ، فإن أمَرَكم بالتَّحْميمِ والجَلْدِ فخُذُوه، وإن أفتاكم بالرَّجْمِ فاحذَرُوا؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلظَّٰلِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اْللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْفَٰسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؛ في الكفَّارِ كلُّها». أخرجه مسلم (١٧٠٠).

* قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «كنتُ ساقيَ القومِ في منزلِ أبي طَلْحةَ، وكان خَمْرُهم يومئذٍ الفَضِيخَ، فأمَرَ رسولُ اللهِ ﷺ مناديًا ينادي: ألَا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ، قال: فقال لي أبو طَلْحةَ: اخرُجْ، فأهرِقْها، فخرَجْتُ فهرَقْتُها، فجَرَتْ في سِكَكِ المدينةِ، فقال بعضُ القومِ: قد قُتِلَ قومٌ وهي في بطونِهم؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿لَيْسَ عَلَى اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اْلصَّٰلِحَٰتِ جُنَاحٞ فِيمَا طَعِمُوٓاْ﴾ [المائدة: 93] الآيةَ». أخرجه البخاري (٢٤٦٤).

* قوله تعالى: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «خطَبَ رسولُ اللهِ ﷺ خُطْبةً ما سَمِعْتُ مِثْلَها قطُّ، قال: «لو تَعلَمون ما أعلَمُ، لَضَحِكْتم قليلًا، ولَبَكَيْتم كثيرًا»، قال: فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ وجوهَهم، لهم خَنِينٌ، فقال رجُلٌ: مَن أبي؟ قال: فلانٌ؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]». أخرجه البخاري (٤٦٢١).

* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «خرَجَ رجُلٌ مِن بني سَهْمٍ مع تميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ، فقَدُوا جامًا مِن فِضَّةٍ مُخوَّصًا مِن ذهَبٍ، فأحلَفَهما رسولُ اللهِ ﷺ، ثم وُجِدَ الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابتَعْناه مِن تميمٍ وعَدِيٍّ، فقام رجُلانِ مِن أوليائِهِ، فحلَفَا لَشَهادتُنا أحَقُّ مِن شَهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصاحبِهم، قال: وفيهم نزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اْلْمَوْتُ﴾ [المائدة: 106]». أخرجه البخاري (٢٧٨٠).


سُمِّيتْ سورةُ (المائدةِ) بذلك؛ لاشتمالِها على قصَّةِ نزولِ (المائدة) على بني إسرائيلَ، كما أُطلِق عليها اسمُ سورةِ (العُقُودِ)؛ لافتتاحِها بهذا اللفظِ، ولكثرةِ ما فيها من أحكامٍ ومعاملات بين الناس.

* أنَّها تُعادِلُ - مع أخواتِها السَّبْعِ الطِّوال - التَّوراةَ:

عن واثلةَ بنِ الأسقَعِ اللَّيْثيِّ أبي فُسَيلةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوراةِ السَّبْعَ، وأُعطِيتُ مكانَ الزَّبُورِ المِئينَ، وأُعطِيتُ مكانَ الإنجيلِ المَثَانيَ، وفُضِّلْتُ بالمُفصَّلِ». أخرجه أحمد (١٦٩٨٢).

* لم تستطِعِ الدابَّةُ تحمُّلَ ثِقَلِها لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ:

فعن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ﷺ سورةُ المائدةِ وهو راكبٌ على راحلتِهِ، فلم تستطِعْ أن تَحمِلَهُ، فنزَلَ عنها». أخرجه أحمد (٦٦٤٣).

* مَن أخَذها مع السَّبْعِ الطِّوالِ عُدَّ حَبْرًا:

عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

اشتمَلتْ سورةُ (المائدةِ) على عِدَّةِ موضوعاتٍ على هذا الترتيبِ:

العهود والمواثيق مع أمَّة محمَّد عليه السلام (١-٨).

المواثيق والجزاء (٩-١٠).

البلاء وصرفُه عن المسلمين (١١).

ميثاقه مع اليهود والنصارى (١٢-١٦).

فساد عقيدة أهل الكتاب (١٧-١٩).

سُوء أدب اليهود (٢٠-٢٦).

جرائمُ وعقوبات (٢٧-٣٢).

عقوبة الحِرابة (٣٣-٣٤).

التقوى نجاة من النار (٣٥-٣٧).

حد السرقة (٣٨-٤٠).

تلاعُبُ أهل الكتاب بأحكام الله (٤١-٤٥).

رسالة عيسى عليه السلام (٤٦-٤٧).

القرآن (٤٨-٥٠).

المفاصَلة بين المسلمين وأهل الكتاب (٥١-٥٦).

الدِّين بين المستهزئين به والكارهين له (٥٧-٦٣).

سبُّ اليهود للمولى عز وجل (٦٤).

لو أنهم آمنوا (٦٥-٦٦).

عصمة الرسول (٦٧-٦٩).

طبيعة بني إسرائيل (٧٠-٧٧).

لعنة الأنبياء على الكفرة من بني إسرائيل (٧٨-٨١).

مَن يُوادُّ ويُعادي أهل الإيمان (٨٢-٨٦).

النهي عن الغلوِّ في الدِّين (٨٧-٨٨).

اليمين وكفارتها (٨٩).

خمس مُحرَّمات (٩٠-٩٦).

مِن نِعَم الله على عباده (٩٧-١٠٠).

تحريم السؤال عن ما يضر (١٠١-١٠٥).

الإشهاد والقَسَامة (١٠٦-١٠٨).

عيسى بين يَدَيِ الله تعالى في القيامة (١٠٩-١١١).

المائدة (١١٢-١١٥).

التبرؤ من التأليه (١١٦-١١٨).

كلمة الحق والختام (١١٩-١٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /290).

مِن أجلِّ مقاصدِ هذه السُّورة: إيضاحُ المعاملات بين الناس؛ لذا بدأت بالأمرِ بالوفاء بالعقود، فجاءت استكمالًا لشرائعِ الإسلام، ومِن مقاصدها بيانُ الحلال والحرام من المأكولات، وكذا حفظُ شعائرِ الله في الحجِّ والشهر الحرام، والنَّهي عن بعض المُحرَّمات من عوائدِ الجاهليَّة، وتبيين الكثير من الشرائع الأخرى.

وخُتِمتْ بمقصدٍ عظيم؛ وهو التذكيرُ بيومِ القيامة، وشَهادةُ الرُّسل على أُمَمهم، وشَهادة عيسى على النصارى، وتمجيد الله تعالى.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (6 /74).