ﰡ
السورة التي يذكر فيها المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)أصل العقد في الحبل ونحوه كالربط فاستُعير للعهد المؤكد ولا استعارة.
من ذلك قال الشاعر:
قَومٌ إِذَا عَقدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ | شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقهُ الَكَرَبَا |
والعقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين
العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركزه الله تعالى بمعرفته في الإنسان فيتوصل إليه، إما ببديهة العقل، وإما بأدق نظر، وعليه دل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية،
وضرب أوجبه الشرع: وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه - ﷺ -. فذلك ستة أضرب،
وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء، أو يلزم بالتزام الإنسان إياه،
فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب:
فالأول: واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقُربِ، نحو أن يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله،
والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه: كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك.
والثالث: مستحب ترك الوفاء به وهو ما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
الوفاء به، نحو: أن يقول علىَّ أن أقتل فلاناً المسلم، وذلك ستة في أربعة
وعشرين ضرباً من العقود.
فظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه
واجباً أو قربة، ومن المفسرين من حمل ذلك على حِلْفَ الجاهلية دون
والصحيح أن ذلك عام، وأن معنى قوله: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) أن
الإسلام قد بين ما يجب التزامه، وما لا يجب وإن ما كان يحتاج إليه في الجاهلية من المحالفة للحماية قد كفوا في الاسلام، فقد قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فبيَّن أن حماية بعضهم على بعض لازمة تحالفوا، أو لم يتحالفوا
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وذم المُخّل بذلك حيث قال:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وقوله: (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ فالبهيمة: ما لا نطق له من الحيوان كالعجماء، لكن اختص في المتعارف بما عدا السباع، والطير والأنعام، وأصلها في الإبل ثم استعملت في الأزواج الثمانية، إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في ذلك الخيل والبغال والحمير،
قيل: كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
وقيل: لما كانت الأنعام في أصل اللغة تقع على كل نعمة جرت مجرى
الصفات، أضيفت البهيمة إليها إضافة اليوم إلى الجمعة، كأنه قال البهيمة التي هي من جملة ما أنعم الله عليكم به.
وقيل: لما كان قد تقدم تحليل الله النعَّم في سورة الأنعام لأن سورة المائدة تأخر نزولها عن الأنعام فيما روي نبه بقوله:
فيكون لهذه الآية دالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام، وما في سورة الأنعام دال على تحليل الأنعام فقط، ويدل على ذلك قول من قال من السلف: بهيمة الأنعام هي بقر الوحش والظبي، لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حللاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب قيل: هو تنبيه أن المباحات محظورة على من ليس بمؤمن.
وقيل: بل ذلك تشريف لهم اعتباراً بالسياسات الدنيوية، لأن الملك
يخص بالخطاب الشريف الأمثل فالأمثل.
ولا تفرع بلفظ الخطاب على
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) وحكم الكتابيات
حكمهن، وقوله تعالى: (إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم) أي ذلك سوى ما حرمته
مما يتلى، واعتبر بعضهم لفظ الاستقبال، وقال أراد ما سيحرمه وذلك لمجهول بعد.
قال: فالآية مجمله، وليس كما ظن، فإن قوله: (مَا يُتلَى) تنبيه على
تلاوة القرآن على التأبيد، وقد يتناول ذلك ما تقدم.
ذكر الله إياه، وما ذكره في هذه الآية.
وقوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) معناه كلوا ذلك على أن لا يكون صيداً في حال الإحرام،
فالله يحكم ما يريد، وحكمه ماضٍ ومن رضي بحكمه استراح في نفسه، وهُدِي لرشده، ومن سخط نقد حكمه واكتسب بسخطه سخط الله وإمقاته.
قوله تعالىْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)
الشعر، كقولك عانه وكبده، يقال للحواس المشاعر، قال الحسن: شعائر
الله دينه وفرائضه، وقول عطاء: هي مناسك الحج، فأشار إلى نحو ما قال
الحسن.
وقوله: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي القتال فيه وقيل: هو تحريم
النسىء المذكور في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).
وعلى ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المبكر للجمعة كالمهدي بدنه، إلى أن قال ثم الذي يليه كالمهدي بيضة)، فجعل البيضة هدياً.
والقلائد ما يطوق به الهدي شعاراً له، وقيل: نبه بذلك على تحريم كل ما يحتص بالهدي فنص على أدناه الذي لا قدر له تنبيها على ما فوقه، كقوله تعالى: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)
وقيل: أراد به المقلدات فبين تحريم المقلَّد وغير المقلَّد
التمسك بشعائره، فقد كانوا مجتمعين مع المؤمنين في إقامة
المناسك فمن قال هذا قال الآية منسوخة لقوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
وعلى الأول خطاب للمسلمين لمراعاة أحكام الدين عاماً، أو أحكام الحج، ولا يكون فيه نسح،
وقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)
قيل: عنى الفضل الدنيوي المطلوب بالمكاسب المباحة.
وقيل: بل الفضل الأخروي.
وقول الشاعر:
جَرِيمَةُ نَاهضٍ في رَأسِ نَيْقٍ -
على طريق التشبيه. والتنبيه أن العقاب يرتكب بالجرائم، لا قبل أدائها
وعلى هذا المعنى قيل: فلان يجرم لأهله، وقوله تعالى: (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي لأجل أن صدوكم.
وقولهه: (أَن تَعتَدُوا) أي على أن تعتدوا، ونهى المسلمين عن الاعتداء على من ظلمهم فأبغضوهم لظلمهم إياهم، وقرأ إن صدوكم، ويكون في تقدير المستقبل.
إن قيل كيف قال هاهنا هذا، وقد قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) قيل الأمور به في قوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) إباحة المُجازاة للظالم بمثل فعله فسماه باسم الأول.
وقوله تعالى: (أَن تَعتَدُوا) نهى عما هو أكثر من المجازاة، أو حث على العفو، وقوله:
(شَنَئَانُ) إذا قرأ بفتح النون فمصدرٌ، نحو نَزوَان وطَيَران، وإذا قرأ
منهم.
وقيل: شَنْآن وشَنَآن. بمعنى وأكثر ما يقال في المصادر، والأوصاف
، والأفعال التعدية.
والتقوى في هذا الموضع اسم لغاية ما يبلغه الإنسان وهي
المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) فكأنه قال تعاونوا على أدنى المنازل من
الخير وأقصاها، وقيل: بل البِرُ أعلى المنزلتين فإنه ما اطمأن إليه القلب من غير أن ينكره بجهة أو سبب، والتقوى: اجتناب المآثم، فكأنه قيل تعاونوا على فعل الخير وترك الشر.
وقوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالإثم يتناول جنايات العبد بينه وبين الله وما بينه وبين العباد.
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
(الْمَيْتَةُ) هاهنا ما فارقته الروح من غير تذكيه مما له نفس سائله، وقد يقال: ذلك لما ليس له نفس سائله، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أحل لنا@ ميتتان ودمان)، (وَالدَّمُ) هاهنا هو
وتخصيص لحم الخنزير لا يقتضي تحليلَ شحمه وسائر ما فيه لأن ذلك نص على أفضل ما فيه ليدل على ما دونه.
وقال بعض الفقهاء: لا يجوز الانتفاع
أهل الصبي كأن الصبي يكبر الله فعلاً، وإن لم يكبِّره قولاً؛ لدلالته على
الآية، كتسبيح الشجر والمدر فعلاً وإن لم يكن تسبيحه قولاً، فحرم ما سُميَّ
عند ذبحه الأصنام، (وَالْمُنْخَنِقَةُ) ما وقع في حلقه ما خنقه حبلاً كان
أو غيره، (وَالْمَوْقُوذَةُ): المقتولة بضرب، يقال: وقذته
ضرباً، ويدخل فيه كل مقتول بغير ذكوه، فأما المرمي من الصيد بما يخرج بحدة فغير داخل في الموقوذة، بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام:
(إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب وخرق فكُل، فإن أصابه بعرض فلا يحل فإنه وقيذه).
سقوطها إلى أذاها.
(وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بالنطاح، ناطحة كانت أو منطوحة.
(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) مما افترسه سبع فمات.
وقوله: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) راجع إلى المنخنقة وما بعدها.
وإدراك ذكاته هو أن تؤخذ له عين تَطرف أو ذَنَبٌ يُحَّرك.
على ما روي عن أمير المؤمنين، والذكاة:
و (النُّصُبِ) حجر كانوا ينصبونه ويتقربون بالذبائح له، والاستقسام بالأزلام هو ما كانوا يفعلونه في الميسر، كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ).
فإن قيل ذكر (ما) في قوله (ما أهل) (وما ذبح)، وذكر هاهنا (أن تستقسموا) دون (ما)؟
قيل: لأن المحرَّم في الأول نفس المذبوح، والمحرم هاهنا الاستقسام فأما المذبوح على الشريطة المشترطة في الشرع فإنه وإن قسم بالأزلام لا يحرم عينه.
وقيل: الأزلام قداح تكتب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي فإذا أرادوا أمراً
والفسق والفجور: هما الخروج عن أمر الله
فالفسق من قولهم فسقت الرُطَبة من قشرها.
والفجور من فجر الماء،
وقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي أن لا يحققوا أن لا يمكنهم
أن ينسخوا ما أمرهم من دين الحق.
وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قيل: لما كان الإسلام شرع شيئاً منشئاً بيَّن تعالى بهذه الآية كماله، وقيل: إن الأديان الحق كلها جارية مجرى دين واحد وكان قبل الإسلام في الشيء بين إفراط وتفريط بالإضافة إلى شرعيتها، وذلك على حسب ما كان يقتضي حكمة الله في كل زمان فكمَّله الله تعالى بالنبي - ﷺ -، وجعله وسطاً مصوناً
عن الإفراط والتفريط، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
وكمله وتممه به كما قال عليه الصلاة والسلام: (بُعثت لأُتمم مكارم
الأخلاق).
وقال: (إن مثل الأنبياء كمثل بيت ترك بينه موضعُ لبنة فكنت اللبنة).
وهذا هو الذي اقتضى أن تكون شريعته مؤبدة لا نسخ ولا تغيير، فالأشياء في التغيير والتنقل ما لم تكمل فإذا كملت فتغيرها فساد لها، ولهذا قال: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ونبه بقوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
على أمرين: أحدهما: أن الإسلام هو الدين المرتضى على الإطلاق
لا تبديل له ولا تغيير، وسائر الأديان مثله كان مرتضى في وقت دون
وقت، وعلى وجه دون وجه، والقوم دون قوم، وهذا الدين بعد أن شُرعِ
مرتضًا في كل وقت، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في موسى: (لو كان حيا ما وسعه إلا اتباعي) ولأجل ذلك قال تعالى:
وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية. فقوله تعالى: (اليومَ) إشارة إلى زمان النبي - ﷺ -
أو إشارة إلى اليوم الذي أنزلت هذه السورة. فقد كان في النسىء في زمن
النبي - ﷺ - أيضاً إلى آخر أيامه، فحينئذ كمل وصار بحيث لا تغيير فيه ولا تبديل بنسخ ونسخ.
إن قيل: كمَّل الدين النبي - ﷺ -، وقد حكم تعالى أن دينه هو دين إبراهيم حيث قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا). قيل: ونبه تعالى أن هذا الدين الذي هو دين إبراهيم من
حيث أنهما داعيان إلى الحق ومشتركان في أصول الشريعة، لكن ما شُرِع على
فمن حيث إن هذا مؤيد ناسخ لفروع ما تقدم قال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ومن حيث إنه شارك دين إبراهيم في الأصول صار هو إياه، وهذا ظاهر
لمن عرف قوانين الكلام.
إن قيل: إن ذلك يقتضي أن يكون الأديان كلها
ناقصة، وأن يكون دينه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك اليوم ناقصاً.
قيل: الكامل والناقص من الأسماء المتضايفة التي تقال باعتبار بعضها بعض، فالصبي إذا اعتبر بالرجلِ فهو غير كامل، وإذا اعتبر بمن هو على سنه فهو كامل، إذا لم يكن مذموما فكذلك دين الأنبياء قبل النبي - ﷺ - إذا اعتبر بأهل زمانهم كان كاملاً، وإذا اعتبر بدين النبي - ﷺ - وزمانه لم يكن كاملاً وليس النقصان المستعمل هو النقص
المذموم فلفظة ناقص تستعمل على وجهين.
إن قيل: ما وجه فائدة قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
بعد قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟
قيل لما بين تعالى أنه أكمل دينهم بيَّن بعده أن ذلك الدين هو الإسلام
وقد رضيته كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ).
وقوله: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أضاف النعمة إلى نفسه تشريفاً لها.
وقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) منه أن الخشية في الحقيقة يجب أن تكون ممن
منه مبدأ النفع والضُر دون الوسائط فقد قيل: أعجز الناس من خشي من
وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي من ناله ضرورة ولم يجنف، أي: لم يمل لما تبين إثماً بل راعى الحقَّ وقصد دفع أذى الجوع. فالله تعالى لا يؤاخذه به فإنه كان غفوراً لذنوب عباده رحيماً بهم.
فهو أهل أن لا يؤاخذهم بما فسح لهم
فيه وعلى نحو هذه الآية دل قوله تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلا إِثمَ عَلَيه).
قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)
الطيب التام الذي يستلذ عاجلاً وآجلا، وذلك هو الحلال
الذي لا يُعْقِبُ إثما، وقوله:
قال بعضهم: هو معطوف على الطيبات وتقديره: صيدوا ما علمتم، والأول أجود، والجوارح: الصائدات الكاسبات من الكلاب والفهود ونحوها بالجرح بناب أو مخلب، ومنها قيل جَرَحَ فلان واجترح إذا اكتسب، والمكلَّب: المضرُّي على الصيد سواء أضرى كلباً أو غيره.
وبعض المفسرين خص ذلك بالكلب وكره صيد جوارح الطير إذا قتلت، وقال إن ذلك لا يستعمل فيه التكليب.
ومن شرط المعلَّم أنه إذا دُعِيَ أجاب وأن لا يأكل من الصيد ومتى
يؤكل منه، وإن أكل.
وقول النبي - ﷺ -: (إذا سميت فَكُلْ وإن أكل منه فلا
تأكل) يقتضي خلاف ما قالوه، ومعنى:
وظاهر الآية أن لا فرق
يكره الاصطياد بكلب المجوسي، وأجمعوا أنه إذا قدر على ذبح ما أمسكه
المُكلب فلم يذبح فلا يؤكل، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
قوله عز وجل: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)
يعني اليوم ما تقدم ذكره في قوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
وفي قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك إشارة إلى
عام الوداع.
(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عند الشافعى: - هم
وقال ابن عباس: فهم الصابئون.
وروي عن علي: أنه لا تحل ذبائح النصارى العرب.
وعند أبي حنيفة: أن ذلك يتناول أيضاً من يدخل بعد الإسلام في
أنهم منهم. ويعني بطعامهم ما يذبحونه ويتولون الصنْعةَ، ومما يملكونه، ولم
يحتج أن يشترط فيه رضا مالكه إذا لم يكن القصد إلى ذلك وقوله:
(وَطَعَامُكُم حِلٌّ لهُم) أي يجوز أن تطعموهم،
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي العفائف، وقال
: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ).
وكان ابن عمر رضي الله عنه: يكره التزوج بالكتابيات
وإذا سئل عن ذلك يقرأ هذه الآية قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) ويقول في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من الذين كانوا منهم فأسلموا كقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) وغيره
حمل قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) على أهل الأوثان والمجوس
وأكد ذلك بقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
والنكاح يقتضي المودة لقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).
وقال: من جوز التزوج منهن أن المودة المنهي عنها هى المودة الدينية، وأما المودة الزوجية فهي التبقية، وذلك غير محظور.
قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي بالدين الحق.
والحَبْطُ أصلهْ الحَبَطُ وهو داء يأخذ الإبل في أجوافها من كلأٍ يستوبله.
وقيل معناه: من
وقيل معناه: من لم يراع حقيقة الإيمان بالاعتقاد لم تنفعه أعماله.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
قال أصحاب أبي حنيفة: ظاهر الآية تقتضي أن لا يجب في
الوضوء النية، والقول بوجوبه يقتضي زيادة في النص والزيادة في النص تقتضي النسخ، ونسخ القرآن لا يجوز اتفاقاً بخبر الواحد والقياس فلا يصح إذاً إثبات النية، وقال بعض الشافعية: بل الآية تقتضي إيجاب النية لأن معنى
وقال بعضهم: الآية تقتضى الترتيب، لأن الفاء في قوله: (فَاغسلُوا)
تقتضي ترتيب غسل الوجه على القيام، فإذا ثبت ترتيب الوجه على القيام ثبت في غيره لأن أحداً لم يفصل، وليس ذلك بشىء فإن الفاء وإن كانت تقتضي الترتيب فإنما اقتضى ذلك في الجملة لا في البعض، ولم يقتضي ترتيب الأعضاء والمأمور بغسلها بعضاً على بعض، والأظهر أن الترتيب اقتضتاه قول النبي
- ﷺ -: (ابدأوا بما بدأ الله به) وفعله الذي فعله تبياناً للآية، وقد رنب ثم قال:
(هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)،
والمرفقان داخلان في الغسل بدلالة
من الأخبار سواء قرئ بالنصب أو بالجر، وذاك أنه إذا نُصِبَ فهو كقوله
فقال: (عمداً فعلت) وظاهر أول الآية أن كل صلاة تقتضي الطهارة لكن لما
شرط في البدل وهو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) عُلم أن ذلك شرط في المبدل أيضاً، ولأن الإجماع
على أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحصل حدث وقد استحب تجديد
الوضوء لكل صلاة من أجل ظاهر اللفظ، ولأن النبي - ﷺ - قال: (الوضوء على الوضوء نور على نور)،
وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بالوضوء).
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) والجنابة بإنزال الماء
أو بالتقاء الختانين، وقوله: (فَاطَّهَّرُوا) أي تطهروا فأدغم فسكن تاء
الفعل وأدخل عليه ألف الوصل.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) أي مَرَضاً يمنع من استعمال الماء (أَو عَلَى سَفَرٍ) أي سفراً يُعدم فيه الماء وظاهر اللفظ يقتضى قليل السفر وكثيره ولكن الأَخبار خصته.
الآية تقتضي أن لا يجوز التيمم إلا بعد عدم قليل الماء وكثيره، ومستعمله وغير
طَهُورًا) ولا خلاف أن ذلك يقتضى الماء المطلق، إلا عند الأصم، فإنه
أجاز التوضؤ بماء الورد وما يجري مجراه في الرقة،
وقوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي تراباً.
وقيل: وجه الأرض، وإن لم يكن عليه التراب، وقوله: (منهُ) يقتضي ما قاله الشافعي أنه يجب أن يعلق باليد منه
بسبخ، بدلالة قولَه: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)،
وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) منهم من اعتبر ذلك
في الدنيا، وقال: ظاهره يقتضي أنه لا يريد أن يتطهروا ويغتسل
مع الخوف على النفس من الشدة والضنى.
وقائل ذلك يقتضي بطلان قول من يوجب الغسل من الجنابة مع المرضى، ومنهم من
واعتبروا بالمال فإن ذلك ذريعة إلى تطهير نفوسكم، وما يفضى بكم إلى النعيم
المعد لكم، لتعلموا أنه لم يرد حرجاً بما أوجبه عليكم، فإنكم إذا اعتبرتم ذلك شكرتم الله على ما طلعكم وعلمتم أن ذلك ليس بحرج ومشقة حملكموها، ونحو ذلك قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يعني الطهارة من الذنوب، وقد
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من
وجهه وإذا غسل يده خرجت ذنوبه من يده) وذلك قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
وقد حُمل على ذلك قوله: (وَثِيَابكَ فَطَهِّر).
الميثاق: العهد المستوثق منه وميثاق الله تعالى: المأخوذ من عباده على أضرب: الأول: ما أخذه عليهم بالفطرة: وهو ما رَكَزَه فيهم من المعارف.
الثاني: ما أخذه عليهم بما أفادهم من العلوم المكتسبة.
الثالث: ما أخذه عليهم ببعثة الأنبياء وإلزامهم بالشرائع.
الرابع: ما يلزم بعضَهم عن بعض بما يجب عليهم
الوفاء به، وقد حمل الآية على كل ذلك.
وقوله: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا) تفسير الميثاق الذي أخذه، ووجهه ذكر النعمة. والميثاق بعد أصحاب الطهارة تذكير
قيل: لفظ الواحد في هذا الوضع أبلغ ففيه تنبيه أن في ذكر
نعمة واحدة شغل عظيم مع أن لفظ الواحد في نحوه يقتضي الجنس.
وذكر نعمته هو شكرها.
وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي يقوي الإنسان من
العقل والفكر والتخيل الغضب والشهوة.
وذكر الذات للمبالغة وعلى ذلك قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٥).
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)
وذلك يقتضي الشهادة لحقوق الناس كما قال الحسن: وعلى قومهم فبما يخالفون أمر الله فيه، كما قال غيره: ولأمر الله أنه حق. كما قال الزجاج. وقيل: معنى الشهادة الحضور أي كونوا في جميع ما يتحرونه مشاهدين لله. كما قال - ﷺ - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)،
وعدي قوله - ﷺ - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)
وقوله: (عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا) أي على ترك العدالة وذلك قريب من قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)
فالاعتداء قريب من قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) لكن قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) أبلغ.
وقوله: (هُوَ) أي العدل فأضمر المصدر لدلالة الفعل عليه كقولهم: -
من كذب كان شراً له أي الكذب شراً له،
إن قيل كيف قال: (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وأفعل إنما يقال في شيئين أُشْرِكا في معنى واحد لأحدهما مزية.
وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا هو من جملة العدالة.
فما معنى قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟
قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت، فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء، لا على ما عليه
من حقيقة الشيء في نفسه، قطعاً لكلامه وإظهار التبكية، فيقال لمن اعتقد مثلاً في
أفضل منه، فقال أَجزِم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله
تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد عُلِم أن لا خير فيما يشركون
بوجه والآية نزلت في يهود احتالوا النبي - ﷺ -.
وقيل: في قريش لما صدوا المسلمين. فأمر الله تعالى المسلمين ألا يتركوا معهم مع ذلك استعمال العدالة.
إن قيل: كيف تصور الظلم وقد أُبيح للمسلمين أن
يقتلوهم ويسبوهم ويسلبوهم وقيل: كل ذلك أُبيح لهم على وجه دون
وجه، متى أُخِل لمراعاة الحكم المسنون في شيء من ذلك، فهو ظلم
بل من فعل الإنسان بالكافر مع ما أمر أن يفعل به قصداً إلى
التشفي منه تحرياً لأمر الله، ففى ذلك تعدياً فأوجب الله تعالى تحري العدالة
مع كل محق، ومبطل وإقامة الشهادة بالحق في كل أمر، وبين الله أنه
تعالى عالم بما يتحرونه، ولا يخفى عليه خافية.
قوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
في قوله: (مَغْفِرَةٌ) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع مفعول وعد الله
وَجَدْنا الصَّالِحينَ لَهُمْ جَزاءا | وَجَناتٍ وَعَيْناً سَلْسَبيَلا |
موضعه قوله: (جَناتٍ) بالنصب والثاني أن مفعول وعد محذوف،
وقوله: (لَهُم مَّغفِرَةٌ) تفسير له وعلى كلا التقديرين لا يختلف المعنى.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٠)
ذلك استئناف كلامهم متضمن للوعيد بتضمن الآية الأولى للوعد.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
وروي: أن يهودياً انتهى إلى النبي - ﷺ - فسل سيفه
وقال من يصونك مني، فقال النبى - ﷺ -: الله، فشام سيفه وأذعن لى).
وذكر نعمة الله لشكره وقد تقدم ذلك ونبه بقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أنه
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٢)
النَّقْبُ كالثقْبِ لكن الثقب يقال لما قضى من الجانب الآخر والنَّقْب، قد يقال له ولغيره وباعتباره قيل: النقبة لأول ما يبدأ من الحرب وقيل لضرب من السراويل نقبةٌ، وكلب نقيبٌ مثقوب الحنجرة لئلا يرفع صوته.
والمناقب ما ينقب عنه من المفاخر والنقيب
كالعريف يقال نقب وعرف وهو الذي عنى أحوال الجيش.
قال أبو عبيدة: هو الضامن على القوم.
قال قتادة: هو الشاهد،
وقيل: هو فعيل في معنى مفعول وهو المختار، وذلك إشارة إلى
والمذكور في قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)
وأصل التعزير النصرة إما بأن لا يَظلم أولا يُظلم.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال بعضهم: - أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟
فقال: تمنعه من الظلم).
وتعزير السلطان عى بذلك كما سمي التأديب، وإقراض الله عبارة
عن كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمي ذلك قرضاً تلطفاً بعباده وأن
منه، وعلى ذلك: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)
والقرض: اسم للمقرض كالعطاء في كونه اسم للمُعْطى.
وقيل: هو موضوع موضع الإقراض، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)
(وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي ضمن نصرتكم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يتصل به قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ).
وقوله: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ).
جملتان فصل بهما بين الكلامين المتصلين على سبيل الاعتراض المؤكد للكلام،
وقال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) أي إن أديتم الفرائض ونصرتم الرسل
وأنفقتم في سبيل المكارم، تجوفي عن ذنوبكم ومكنتم من الجنة، ومن كفر بعد أخذ الميثاق فقد ضل عن الصراط المستقيم.
قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
قيل: مصدر كالخيانة، نحو عوفي عافية (والمؤتفكات بالخاطئة)، و (أهلكوا بالطاغية).
وقائله: بمعنى قيلولة. وقيل معناه: تطلع على جماعة خائنة، وقيل: على رجل خاص كقوله راوية وداعية ونابغة قال الشاعر:
حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بِالوفَاءِ وَلمْ تَكُنْ | للغَدرِخَائِنةَ مُغِل الأصبُعً |
قيل للإنسان حظان: حظ دنيوي، وحظ أخروي، فأشار بقوله (حظًّا) إلى الأخروي.
ونبه بقوله: (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) على أن الله قد ذكرهم ذلك بما وضع فيهم من العقل وبما أنزل عليهم من الكتب فنسوه أي تركوه، واستعارة لفظ النسيان لتركهم إياه مبالغة في ذمهم وتمام القصة عند قوله: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ثم استأنف على سبيل الذم لهم (وَلَا تَزَالُ تَطَّلعُ)
وقوله: (فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح) أمر بالعفو عما يضمرونه،
وقيل: أمر بالعفو عمن دخل في العهد.
وقال قتادة: ذلك منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).
قوله عز وجل: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
ذم النصارى بنقض الميثاق، كما ذم اليهود وجعل عقوبتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وأصل الغِرَا: من أغرا به أي لصق، وكيفية إيقاع الله الجداوة بينهم على ما تقدم من
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
أعاد بما يخفون من الكتاب إلى مثل إخفاء بنبوة النبي - ﷺ -، وحكم رجم الزاني، وأخذهم الرشى،
وقوله (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي يتجافى من إظهار كثير مما يخفونه، وبَّين في
هذه الآية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي: - النبوة والعقل والكتاب.
وذكر في الآية التانية ثلاث أحكام، يرجع كل واحد إلى نعمه مما تقدم.
فقوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) راجع إلى
التبعة ممن تحرى مرضاة الله.
قوله تعالى: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) راجع إلى قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ).
وقوله: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) راجع إلى قوله: (وَكِتَابٌ مُبِينٌ). كقوله: (هُدًى لِّلمُتَّقِينَ).
والسلام قيل هو: اسم الله تعالى نحو قوله: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ).
وقيل: هو السلامة نحو الخسار والخسارة
والضلال والضلالة.
سبل السلام هي المشار إليها بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ).
قوله عز وجل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وإن قيل: إن أحداً لم يقل الله هو المسيح، وإن قالوا:
يصح أن يقال: المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما يصح أن يقال: الإنسان هو حيوان وهو نبات لما كان مركباً منهما.
قالوا ولا يصح أن يقال اللاهوت هو المسيح، كما لا يصح أن يقال الحيوان هو الإنسان.
قيل: إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت،
وهو ما روي عن عمد بن كعب القرظي: أنه
لما رفع عيسى عليه الصلاة السلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا
ما تقولون في عيسى فقال أحدهم: أتعلمون أحداً يحيي الموتى إلا الله فقالوا
لا، فقال: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقالوا: لا.
فقال: أتعلمون أن أحداً يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله، قالوا: لا.
قال: فما الله إلا مَنْ هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه.
وهذا كذلك. الكريم زيدٌ أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
إن قيل: (فا) في قوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)
ذكر تعالى بذلك شيئين اقتضيا تكذيبهم. وذلك أنهم مقرون أن الله تعالى هو
سبب وجود عيسى وأمه. وأنه تعالى غاية الموجودات وسببها ومالكها ولا شيء هو سبب لوجود الله تعالى وأنه أهو مالك قادر على إهلاك كل ذلك، فنبه تعالى بقوله: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أنه لو ارتفع كل ذلك لصح
مع بقائه ولو تُوُهِمَ هو تعالى مرتفعاً لما صح وجودهم، وهذا أوضح دلالة أن
لا يصح فادعوه في عيسى ثَمَّ.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تنبيها أن الإنسان يحتاج إلى الابن ليتقوى به أيام حياته ويخلفه بعد وفاته، والله تعالى غني
عن ذلك إذ هو مالك السموات والأرض وما بينهما وموجودها.
وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) أي اعتقدوا اعتقاداً باطلاً عن ظن كاذب
لأن هذا هو حقيقة الكفر وقيل معناه جحدوا نعمة الله وهذا على اعتبار معنى
الكفر في الأصل.
ادعى كل واحد من اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه وقد رُوي أنهم قالوا ذلك قولاً حذرهم النبي عليه الصلاة والسلام نقمة الله، فقالوا: لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه وزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن وَلَدَكَ بكري من الولد، وأمَّا النصارى فقد قيل إنهم قالوا ذلك لِمَا حُكِي عن قول المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، ورُوي أنهم قالوا: ما اقتضى معناه هذا القول وإن لم يتفوهوا بذلك تفوهاً كقولك: فيمن يدعي تخصصاً بسلطان فلان يقول أنا يد السلطان ولسانه، قيل:
وكانوا يقولون إن غضب الله علينا كما يغضب الإنسان على ابنه وحبيبه.
فكذبهم الله فيما ادعوه من محبتهم له ومحبته لهم، فإن المحبة تقتضي ترك المخالفة ومن أحب الله لم يخالفه، ولهذا قال الشاعر:
تَعْصِي الإلَه وَأَنتَ تُظْهِرُ حُبَّه | هَذا مُحال فِى القِياسِ بَدِيعُ |
لَوكَانَ حُبُكَ صَادقاً لأطَعْتهُ | إِن المُحبَ لِمنْ أَحبَّ مُطِيعُ |
فقد رُوي أنه إذا أحب الله عبداً تعهده وأحسن إليه. رُوي عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله قال ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببتهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).
إن قيل: كيف احتج عليهم بهذا ولم يقولوا إنا لا نعذب بل قالوا: إنا لا نعذب إلا أياماً بقدر ما عبدنا فيه العجل؟
قيل: إنه إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الله إياهم، فكأنه قيل: فلم عذب من كان قبلكم الذين كانوا أمثالكم ثم قال: (بَل أَنتُم بَشَرٌ ممَّن خَلَق) أي نسبتكم إليه نسبة العبودية كسائر الناس وإنما يَفْضُل من يفضل بالتقوى، كما قال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
قوله: (أَن تَقُولُوا) أي كيلا تقولوا بيَّن الله لكم أن
تضلوا.
والفَترَة السكون والبطوء يقال فَتَرَ الشيء فُتُوراً.
عنها فعامة الناس يجهلون جزئيات مصالحهم وكلياتهم، وخاصتهم
يعرفون كلياتها دون جزئياتها، ولا يمكنهم أن يفرقوا الكليات.
على التحقيق إلا بعد انقضاء كثير من
عمرهم، فسَهَّل الله السبيل على جماعتهم من هدايتهم
إلى مصالحهم وعلى ذلك قوله:
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)
فبين أنه تعالى أزاح علتهم فيمن بعث إليهم من البشير والنذير
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٠)
قيل: ملوكاً أي أحرزوا من رزق المطامع الدنيوية،
وروي عن ابن عباس أنه قال: من كان له
وقيل: من له ما يستغني به عن تكلف
الأعمال فهو ملك. وقيل: جعلهم ملوكاً من حيث ملكوا أنفسهم
بالتخلص من القبط بعد أن استعبدوهم.
وقيل عنى بقوله: (مُّلُوكًا) أي جعلكم بالقوة التي آتاكم مستصلحين لذلك، فإن من له المعرفة بالسياسات الثلاث سياسة لنفسه وسياسة لداره وسياسة لضعفه فهو ملك وإن لم يتولى سياسة غيره.
فجعل النبوة فيهم خاصاً وجعل
الملوكية فيهم عاماً للمعنى الذي ذكرنا، وقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) ممن تقدمهم، وإنما قال ذلك بالإضافة إلى
الأديان فإن الله خلق الإنسان وجعل لهم ديناً ينشأُ حالاً فحالا، فكل يوم
هو في كمال، فدين موسى - عليه السلام - كان أكمل من دين من قبله، ودين عيسى - عليه السلام - أكمل من دين موسى، ودين محمد - ﷺ - أكمل الأديان إذْ كان به كمل كما
وقيل: أراد آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين مما عدا الإنسان،
فإن قيل: هذا لا يصح لأمرين أحدهما: أن يسقط تخصيص بني إسرائيل، والثاني: أنه لا يقال: لما عدا جنس العقلاء أحد قيل أما كون هذه النعمة على غير بني إسرائيل فليس يقتضي أن لا يخصصوا بالخطاب، فقد يقال لكل واحد ممن يتنبه على نعمة الله عليه أليس قد منَّ الله عليك بأن أعطاك يداً تبطش به، ولساناً تتكلم به، وليس يقتضي مشاركة غيره في هذه النعمة أن
لا يكون للمخاطب فائدة، وأما قولنا: وإن كان يختص به جنس العقلاء
فقد يقال ذلك لغيره إذا حمع بينه وبين جنس العقلاء كلفظة مَنْ في قوله
لما كان تفضيلاً لجملة منها العقلاء.
قوله عز وجل: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢)
الأرض المقدسة: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. وقال مجاهد: هي أرض الطور. وقال قتادة: هى الشام.
قيل: قال بعضهم: وهب الله ذلك لهم ثم حرمها عليهم لَمَّا تلقوا نعمته
بالرد والكفران.
وقيل: كتب لهم أنهم إن دخلوها فهي لهم.
وقيل: معنى (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي أوجبها عليكم.
إن قيل: فقد كان يجب أن يقول كتب الله عليكم على هذا؟
قيل: إنما ذكر لكم معنى لطيف وهو أنه نبه أنه أوجب عليهم وجوباً يستحقون به ثواباً يحصل لهم.
وذلك كقولك لمن يرى تأذياً بشيء أوجب فيقال: هذا لك لا عليك، تنبيهاً
على الغاية التي هي الثواب. وإذا قيل كتب عليه فليس اللفظ يقتضي
على الغاية التي هي الثواب بل يقتضي مجرد الإيجاب فذكر أنهم امتنعوا من
دخولها لكون قوم جبارين فيها، واشترطوا أن لا يدخلوها إلا أن يُخلُّوا
لهم.
وقولهم (وَإِنَّا لَن نَّدخُلَهَا) فقد قال بعضهم: إن ذلك ليس
الجبارين كانوا قوماً لهم بسطة في الجسم حتى أن رجلين من النقباء ذهبا
يتجسسان فرآهما رجل منهم في بستانه فجعلهما في الكم من الفواكه
ونثرهما بين يدي ملكهم فقال: أنتم تريدون قتالنا، ارجعا إلى قومكم
فأخبراهم بخبرنا.
وقال بعض الناس: الأرض المقدسة، عبارة عن الدين
الحق الذي رشحه الله لهم فامتنعوا من تحريه تفادياً من قوم كانوا على
ذلك الدين، كانوا يُسْتحقَرُون. وهذا بعيد على ما يقتضيه رد
الكلام.
قوله عز وجل: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
وقيل: من الذين كانوا يخافون من الجبارين فأنعم الله عليهما بالإسلام
فَأَمِنَهُماَ، وقيل: كان يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا وكانا من
النقباء. وبيَّنَا أن الله تعالى يُنزل النُّصرة بقدر الجُهد، وأنكم إذا
بذلتم من أنفسكم الاجتهاد في الدخول عليهم الباب وجدتم من الله
النصرة، ويجعل الغلبة لكم وأمراهم بالتوكل، فكأنه قال: إن كنتم
متوكلين على الله يكفكم على ما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
ذكر جهلهم وقلة معرفتهم بالله، وأنهم ما قدروا الله حق قدره حيث أُمروه أن يستصحبه إلى الجواب استصحاب الأشخاص وبكَّتَهم بامتناعهم من الدخول إماً جُبناً وإما قصداً إلى العصيان، وأيهما كان فمذموم.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (أَبَدًا) وقوله: (مَّا دَامُوا فِيهَا)؟
قيل: إن امتناعهم من دخولها لكون هؤلاء فيها، وإن اعتبار ذلك ليس في وقت دون وقت بل كل وقت، ما يدخلونها من كونهم فيها وروي أن المقداد قال للنبي - ﷺ -: (أما والله ما نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نُقْتل حيث شئت).
أظهر موسى شرَّ ما به وبيَّن عذره في غيره وأن ذلك لقلة انقيادهم له.
إن قيل: كيف يصح أن يقول لا أملك إلا نفسي، والإنسان في الحقيقة لا يملك نفسه وأخاه، إذا الملك هو التصرف في الشيء بالبيع والشراء؟
قيل: هذا سؤال من هو بعيد عن متصرفات كلامهم، بل عن معرفة
حقائق الأشياء، فإن الإنسان إذا انقاد له قواه فيما يَسُومُها من فعل
الخير، يقال: هو مالك لنفسه وإذا امتنعت عليه قواه، يقال: هو غير
مالك لها، وليس تصرف المِلِك والمَالك على وجه واحد.
وإعراب قوله: (وَأَخِى) محتمل له أربعة أوجه: الأول الرفع عطف على
الثاني: على الضمير في أملك،
الثالث: نصب على المضمر في (إنَّي)،
الرابع: نصب على قوله: (نفسِى).
وقوله: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا) أي بين مسكننا في الدنيا.
وقيل: بين منزلينا في الآخرة، ولم يقل بيننا وبينهم
بل قال: (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ليكون دعاؤه أبلغ
وأقرب إلى استعمال الأدب في مخاطبة الله تعالى، ولأنه من يجوز
أن يصلح منهم بعضهم، فيجب أن لا يعين، بل يذكر
الوصف الذي هوالفسق فيتعلق به الحكم، وذكر
الفسق دون الكفر إذ
قوله عز وجل: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦)
قال الربيع: حرم عليهم أربعين سنة، وقال الحسن وقتادة: بل
حُرم عليهم على التأبيد، وإنما كانوا يتيهون أربعين سنة.
فقوله: (أَربَعِينَ سَنَةً) يتعلق بقوله: (يَتِيهُونَ) على هذا،
وتحريم ذلك عليهم قيل: إنه كان
وقيل: منعوا منها من جهة إضلالهم عنها فإنهم كانوا إذا أمسوا ردهم الله بقوة إلهية إلى حيث ما ارتحلوا عنه فقوله: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) وأنهم ما خرجوا من التيه حتى مات هؤلاء
وانتقل أمرهم إلى أبنائهم.
وروي أن قدر الأرض التي تاهوا فيها ستة فراسخ.
وقد قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه، لأن ذلك
ومن لفظ التيه اشتق تَاه فلان وتَوَّهه.
(فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قيل: هو خطاب للنبي - ﷺ - خاصة تسلية له بأن المخالفة على الأنبياء عادة الفسقة في
كل زمان.
وقيل: بل هو من حملة ما خوطب به موسى وإن كان فيه
تسلية للنبي - ﷺ -.
قوله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
القربان اختص في المتعارف، بالذبيحة المتقرب بها.
وإن كان في الأصل عاماً في كل ما يتقرب، فهو فعلان كالعدوان
قيل: ابنا آدم كانا هابيل وقابيل، وكانا من قصتهما أن حواء ولدت مع كل واحد منهما بنتاً فالتي ولدت مع قابيل سميت إقليميا والتي مع هابيل لبوخ، ثم إن حواء قالت ليتزوج كل واحد منكما أخته المولودة مع أخيه وكانت إقليميا أحسن من لبوخ فقال هابيل سمعت وأطعت، وقال قابيل لا أرضى بل أريد إقليميا التي ولدت معي، وكان غرضه جمالها، فلما اختلفا قال لهما ليقرب كل واحد منكما قربان فمن قبل الله قربانه يتزوج إقليميا، وكان هابيل صاحب غنم وعَهِدَ إلى كبش أنتج فذبحه، وكان قابيل صاحب زرع وعَهِدَ إلى سيء من الفوم رديء فقربه فنزلت نار من السماء وأخذت الكبش وكان ذلك علامة قبول القربان.
ورد في الخبر: أن هذا الكبش حصنه الله في الجنة إلى أن فُدي به ذبيح إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: رعى في الجنة ثمانين خريفاً. وقيل: أربعين،
وقيل إن ذلك في
زمن إسرائيل، واستدل هذا القائل بقوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، والأول أصح، فقد روى مسروق عن عبد الله، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها).
والذي لم يُقبل منه القربان إما لكونه، على
سائر عباداته ولما قال أخوه حسداً (لَأَقتُلَنَّكَ) قال:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) حثاً له على التقوى، أي لا تقتلني فإنه إنما
لم يقبل منك لأنك لست بمتق، والله يتقبل من المتقين.
وفي الآية تعظيم أمر الحسد، وأنه يحمل الإنسان على أعظم الكبائر، وقد قيل: أثاني الشرور ثالثه الحرص والكبر والحسد فآدم (أولى) من الحرص وإبليس من الكبر وقابيل من الحسد.
قوله عز وجل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨)
قال ابن عباس: يعني إن بدأتني بالقتل لم أبدأ بقتلك، ولم يعنِ أني لا أمنعك عني، فمنع الإنسان القائل عن نفسه بقدر وسعه واجب.
وقيل: إن من تعرض لقتله فله أن يدفع عن
هذه الأمة عثمان، وقيل: قد كان حِينئذٍ يجب أن لا يدفع أحد عن
نفسه، كما روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: (من
لطم من ناحية يمينه فليُمكن من ناحية شماله)، وذلك عن الحسن
ومجاهد.
قوله عز وجل: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
أي بإثم قتلي وإثمك الذي كان منك فلم يتقبل لأجله قربانك.
إن قيل كيف جاز أن يريد لغيره أن يفعل الشر، وأن يكون
من أصحاب النار؟
قيل: أراد ذلك بشرط القتل أي أريد إن قتلتني أن تبوء بإثمي وإثمك وأن
تكون من أصحاب النار، وهذه الإرادة ليست بقبيحه.
بوأ أي سواء يرجع إليه كل واحد مثل رجوع الآخر ومنه فلان بوأ فلان
في القود.
قوله عز وجل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠)
قوله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) كقولهم أسمحت قرينته وانقادت نفسه، وسولت، يقال: طاعت نفسه، وطوعت وتطوعت، والنفس توصف تارة بأنها طوعت
فيما أمرت من الشر كهذه الآية، وتارة بأنها أمرت بالشر كقوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ونبه بقوله: (فَقَتَلَهُ) أنه تبع
ولهذا قال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ)،
وقال: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).
وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) إشارة إلى نحو قوله: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).
قال ابن عباس: أما في الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ،
وأما في الآخرة فأسخط ربه تعالى، وأمر به إلى النار.
قال قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
قال يُريهم من الإنس قابيل ومن الجن إبليس، فقد روى:
أنه لم يكن يدري قابيل كيف يقتل أخاه فأخذ يطعن رأسه فجاء إبليس
فقال خذ هذه الصخرة فأشدخه بها.
قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
غرابين تقاتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فتنبه قابيل لدفن أخيه،
ووجه ذلك أنه ما من صنعة يتعاطاها الإنسان بالتعلم إلا وقد سخر الله لمثل ذلك الصنعة حيوانا يتعاطاه، وجعل الله تعالى ذلك سبباً لتعلم الناس ذلك منه، فمن الحيوان ما يسبح ومنها ما يمشي ومن عادة الغراب دفن الأشياء فلما رأى قابيل ذلك تنبه لما يجب أن يفعل فاستصغر نفسه لقصوره عن معرفة
ما اهتدى إليه الغراب، فأخذ يتحسر، ويتولول وندم ندماً لا يثنيه
ولا يحد به كما قال الشاعر: -
َ.............. ومَا يُغْنِي مِنْ الْحَدَثَانِ لَيْتَ
وليست هذه الندامة بندامة التوبة.
الأجل: قطع الماء والآجل وقت مقطوع يقطع من وقته، والآجل نقيض العاجل وهو الذي جُعل له أجل ما، والأَجَلُ قطيع من الغنم، وذلك لقولهم الصُّرمة والقطعية والفرقة ونحوها مما اشتق من الأسماء المتضمنة لمعنى القطع. وأَجَّل فلان على فلان جنى عليهم جناية. أجله حضر.
قوله: (مِن أَجلِ ذَلِكَ) أي من جناية ذلك، وقيل: من سبب ذلك كقولهم من أجله وبَّين بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أنه كان من أول من سنَّ القتل.
وعنده شُرع هذا الحكم، وذلك كقولك من أجل ماعز شرع النبي - ﷺ - حكم الرجم، أي عنده شرع، وإنما خص بني إسرائيل
دون غيرهم لأن كتابهم أول كتاب بيَّن فيه فيه الأحكام.
ما يقتضي الاقتصاص أو فساد وذلك إلى نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: (كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان).
وقوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)
أعضاء الجسم الواحد إليه، صار الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعي في
إهلاكهم، كما أن الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعى في إهلاك
كله، صار قتل الواحد كقتل الناس، ولهذا جاء في التفسير أن المؤمنين
خصم للقاتل ولهذا قال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، وقال مجاهد: فلو قتل الناس جميعاً لم يرد
في جزاءه على جزاء قوله: (وَمَن أَحيَاهَا) أي من نجاها من الهلاك إمَّا
بالحماية عليها، وإمَّا بالعفو عنها إذا لزمها قِصاص يستحب منه العفو.
قال مجاهد: (مَنْ أَحْيَاهَا) أي من ترك قتلها.
قال الحسن: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا) أي من أضله عن طريق الهدى،
(وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي دعا مشركاً إلى الإيمان فهداه وأرشده
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). تنبيه أن الله لم يخلهم من بشير ونذير على عبادته في الأمم.
والإسراف: الإبعاد في الخروج عن الحق، وعن الاستقامة التي هي
العدالة في كل شيء هذا أصله، وإن تُعورف في الخروج عن العدالة في إنفاق
المال، وقد وصف قوم لوط بالإسراف لخروجهم عمَّا أبيح لهم إلى ما حُظر عليهم، فبيَّن تعالى أن كثيراً منهم بعد مجيء رسلهم بالبينات يخلون بالعدالة وما شرع
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
محاربة الله ورسوله: هو السعي في الأرض بالفساد، وسمي ذلك محاربة الله ومحاربة رسوله تعظيماً، والسعي في الأرض قيل: هو في الصحراء،
وقيل: هو في البلد أيضاً، وهو الأصح.
قال الحسن: الآية نزلت في المشركين المحاربين
والحكم مختص بهم، وقيل: نزلت في العُرَيْنيِّينَ، وذلك أن قوماً من عُرَيْنَة
وقيل: الآية في أهل العهد، وأكثر الفقهاء حملوا على المسلمين أيضاً،
وقد رُوي ذلك عن ابن عباس. وجعل غيره الحكم ترتباً، وقال من قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، وقتل فقط قيل لم يصلب. ومن أخذ المال
فقط قطع يده ورجله من خلاف يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يُقتل
ومن لم يأخذ المال وإنما يُخوَّفُ ينفى من الأرض، وذلك بأن يطلب.
وقيل: نفيه: طرده من بلد إلى بلد. روي ذلك
عن ابن الزبير وعن ابن عبد العزيز،
وقيل: الطلب، وقيل: القتل بعد القتل، ردعاً لغيره، ونبه على تعظيم
ما ارتكبه أنه يجمع عليه حد الدنيا، وعقوبة الآخرة.
قال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
الاستثناء راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب
الطريق فالتوبة قبل القدرة يُزيل ما عليه إن كان من حقوق الله،
وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
الوسيلة: القربة وهي دون الوصيلة،
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لكل من أظهر
الإيمان سواء كان في مبدئه، أو في وسطه، أو في منتهاه.
وتقوى الله: - هو الامتناع عن المحارم، وتحري الواجبات،
وابتغاء الوسيلة، كما قال عليه الصلاة السلام حكاية عن الله عز وجل:
والمجاهدة في سبيله: هو بذل الجهد فيما تقدم من إقامة الفرائض، وبيَّن
أنكم إذا فعلتم ذلك كنتم راجين للفلاح المذكور في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). والفلاح العام: هو البقاء بلا فناء، والغنى بلا فقر، والقدرة
بلا عجز والعزُّ بلا ذل. ونبه باختصاص لفظ الابتغاء على بذل الجهد.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
أي لو حصًّل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصداً
بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه لم ينفعه، وذلك حثٌّ على المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد.
وروى أنس عن النبي - ﷺ - أنه يقال
مفتدياً به، فيقول: - نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أهون من ذلك فأبيت) (١).
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ) الواو عطف، أو يكون بما بعد حال.
قوله عز وجل: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
أي يسألون أن يخرجوا منها، وذلك هو المذكور في قوله: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)، والمقيم الذي لا يزول ولا يتحول،
قال ابن عباس: كل شىء من أمر الدنيا يبلى ويفنى،
" يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ ".
قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) نبه بذلك على أنهم
يحتالون لذلك ولا ينفعهم.
قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
السارق: المتناول مال غيره مستتراً،
وقد يقال: للخائن سارق على التشبيه.
وقول - ﷺ -: (أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته) فعلى التشبيه.
واختلف في الآية، فمنهم من قال: هو مجمل كقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وإجماله
ومنهم من قال: هو غير مجمل من حيث إنه يتناول لكل سارق،
وما لم يُرِد منه فهو مخصص،
وقال بعضهم: الألف واللام في (السارق والسارقة) للعهد.
والآية واردة في سارق المِجَن، وامرأة سرقت، لكن الحكم عام من حيث إنه قد ثبت أن حكم الشريعة في الواحد حكمها في
الجماعة من شرطهم شرطه.
وقال بعضهم: هو للجنس، وبعضهم جعلها بمعنى الذي، وذلك يتضمن معنى الشرط ويكون مفيداً للعموم.
فاضربه، والوجه الرفع؛ لأن النَّصب مختار حيث لا معنى للشرط، نحو زيداً
فاضربه، فأما كل لفظ متضمن لمعنى الشرط فالرفعُ نحو قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، ونحو: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ).
إن قيل: لم قدم المذكر في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)
قيل: لأن السرقة أكثر ما يوجد بالرجال، والزنا أكثر ما يوجد سببه من النساء، بل توهمنا امتناع انقياد المرأة أصل وجود الزنا.
وبيَّن أن الله تعالى عزيز في انتقامه، حكيم في حكمه.
واختلف في قدر ما يقطع به، فروي عن عمر وعلي أنه يقطع في خمسة،
وعن أبي سعيد الخدري في أربعة، وعن أبي بكر في ثلاثة،
وعن ابن عباس في عشرة، وعن عائشة في ربع دينار،
وإليه ذهب الشافعى، ومالك والحسن في
يسرع إليه الفساد، أو ثياباً أوحديدا، أو قصباً، أو
زرنيجاً، ونَوْرَةَ، وقد روى: (ولا يقطع في ثمر ولا كثر)،
قُطِعَ، وأما قدر القطع من اليد فعند الخوارج من المنكب وعند غيرهم من
الرسغ.
وقد روى أبو هريرة: (أن النبي - ﷺ - قطع سارقاً من
الكوع).
الغرض، ولا يقطع إلا يمينها بدلالة قراءة ابن مسعود (فاقطعوا
أيمانهما) فذلك يؤخذ به حكماً، وإن لم يؤخذ به تلاوة.
وإنما ذكر الأيدي بلفظ الجمع، وتارة بلفظ الاثنين، وتارة بلفظ الواحد كقول الشاعر: -
فذكر في موضع مثنى، وفي موضع مجموعاً، وقال:
كلوا في بعض بطنكم تصحوا
فأتى بلفظ المفرد، ومتى كان شيئاً لاثنين يصح اشتراكهما في أحدهما
لا يصح أن يذكر إلا بلفظ التثنية، لئلا يشتبه نحو رأيت عبداكما، ولا يصح إذا أردت الاثنين أن يقول: عبدكما أو عبيدكما.
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد، ورُجىَ له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رُجيَّ له الغفران، ولم يسقط عنه الحد بدلالة ماروي ابن عمر: (أن امرأة سرقت على عهد رسول - ﷺ -، فأمر بقطعها، فقال قومها: نحن نفديها خمسمائة دينار، فقال: اقطعوها، فقطعوا يمناها، فقالت المرأة: - هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم، أنت اليوم في خطيئتك كيوم ولدتك أمك).
قوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
لما أمر بالتقوى، وابتغاء الوسيلة إليه بالجهاد في
سبيله، ودعاهم إلى الفلاح وبيَّن قبلُ ما يلزم المحاربين، وبعدُ ما يلزم
السُرَّاق، وذكر قبول توبتها، ذكر قدرته على تعذيب من يشاء، وغفران
لمن يشاء في الدنيا بما شرعه، وفي الآخرة بما قدره.
وقال ابن عباس: فيعذب من يشاء على الذنب الصغير،
ويغفر لمن يشاء على الذنب الكبير،
يعفوا الملوك عن الكبير... من الذنوب بفضلها
ولقدتُعاقِب في الصغير... وليس ذاك بجهلها
إلاليُعرف فضلها... ويخاف شدة ملكها
وإنما قال يعذب من يشاء فقدم ذكر العقوبة على الغفران، لأن القصد بما
تقدم الردع عن ارتكاب ما يقتضى عقوبة الدارين فكان تقديم ما يقتضي ذلك
أولى.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٤١)
إلى السيِّدين، سيد الأوس وسيد الخزرج، سعد بن معاذ، وسعد بن
عبادة، فاستشار قريظة أبا لبابة أننزل على حكم محمد؟ فأشار
إليهم بأنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زلت قدماي حتى علمت أني قد
خنت الله ورسوله، والآية عني بها أبو لبابة والمنافقون الذين وصفهم في قوله:
وقوله: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يكتسبونه عاجلاً شيئاً
بعد شيء، على خلاف ما قال فيه: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ).
وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
وقوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قائلون له، وقيل: سمَّاعون كلامك
لأجل أن يكذبوا عليك، ويسمعون ذلك لأجل قوم آخرين.
وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام النبي - ﷺ -، والقرآن، ويكذبون عليه.
وقوله في آل عمران: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).
وقوله: (هَذَا) أي الحكم الذي قلناه، وقيل: الدِّية.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله موضعه، وبيَّن أحكامه.
وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) قال الحسن: عذابه كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ).
وقال السدي: ضلالة. وقال الزجاج: فضحيته
وقوله: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي من الكفر عقوبة لهم،
وقيل: لم يحكم بطهارة قلوبهم.
والقولان مرادان على نحو ما تقدم من أمثال هذه الآية.
وذلك بخلاف من وصفهم بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣).
وقد قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
وقوله تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي يستحي منه من السبي والقتل والجلاء.
قوله عز وجل: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
السحت والمحق متقاربان معنى، لتقارب لفظيهما.
لكن السحت أبلغ إذ هو الاستئصال شيئاً فشيئاً يقال: سحته
السحت هاهنا بالرَّشوة تفسير العام بالخاص.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا الآمراء من السحت).
والمقصود من الآية مثل ما قاله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
وقيل: عنى بالسحت الربا، المذكور في قوله:
واختلف في قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، فقال: ابن عباس: -
نُسِخَ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فجعل حكم التخيير
منسوخاً بإيجاب الحكم بينهم.
وقال الشعبي: بل حكمه ثابت.
وقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) حث على
استعمال العدالة عند تولي
وإذا ترافعوا إليكم فاحكموا بينهم بما في كتابكم.
وقال بعضهم: التخيير قبل أن (يعقد) لهم الديَّة والجزية، والإيجاب (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) بعد عقد الدية لهم بالجزية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس قال: ويدل أن الآية نزلت في
بني قريظة والنَّضير ولم يكن لهم ذمه.
قوله عز وجل: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
أنكر الله تعالى تحكيمهم للنبي - ﷺ - وهم لا يؤمنون به وعندهم الحكم في التوراة، والمعنى هاتين الحالتين
وقوله (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصدقونك فيما تحكم به،
والواو واو حال.
وقوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)
الهدى والنور إشارة إلى معنى واحد، لكن الهدى يقال
اعتباراً بالأدلة المنصوبة، والنور اعتباراً بما يعين على معرفة الأدلة، تشبيهاً بنور البصر، ونور الشمس.
وقيل: الهدى إشارة إلى ما فيه من الحكم
الشرعي، والنور إشارة إلى ما فيه من الحكم العقلي،
وقد يُسمى كل واحد من المعقول والمشروع تارة نوراً وتارة هدى.
إن قيل: ما معنى قوله: (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) والنبي لا يكون غير مسلم؟
قيل: الإسلام هاهنا الإخلاص لله في التوكل عليه وتفويض الأمر إليه، نحو قوله:
وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
وقوله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).
وقوله: (اَلَّذِينَ أَسلَمُوا) صفة لهم على سبيل المدح لا على
سبيل التخصيص، أو بدل من قوله: (النَّبِيُّونَ)، واللام في قوله:
(لِلَّذِينَ هَادُوا) متعلق بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ)... للذين هادوا.
وقيل: متعلق بقوله: (فِيهَا هُدًى) ومعنى هادوا: أي تابوا
وقيل تقديره: يحكم بها النبيُّون الذين هادوا، والمعنى يحكم لهم وعليهم، لكن المعنى تذكيرهم عن داعيهم وعلى هذا قال بعضهم: يحكم فيهم، لأن قولك فيهم يتضمن معنى وعليهم،
وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) قيل: متعلق بالأحبار، أي العلماء بما استحفظوا، وقيل: متعلق بقوله: (يحكُمُ بِهَا) لأجل ما استحفظوا أي لما استُودِعوا، وقوله: (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي هم من جملة من قال فيهم: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)،
وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
يتعلق به الخوارج، وزعموا أن التارك
الكافر هاهنا جاحد للنعمة من الكفران لا من الكفر،
وقيل: الكفر يقال على ضربين: كفركبير، وهو المذكور في قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية.
وكفر صغير وهو المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام:
(من ترك الصلوات فقد كفر)، وعلى هذا قال ابن جريج: كُفر دون كُفر،
وقد استدل بهذه الآية أن النبي - ﷺ -
متعبد بأحكام من قبله.
أخبر تعالى بما أوجب عليه من القِصَاص.
واتفق الفقهاء: أن ذلك واجب علينا لوجوبه عليهم، لكن منهم
من قال: لم يكن في شريعتهم الدِّية، وقد جعلها في شريعتنا تخفيفاً على هذه الأمة،
وقوله: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يقتضي القَوَدُ فيه فقاءاً كان أو إذهاباً بضوئها.
ومن قال لا يُفعل من ذلك إلا الفقاء فليس بشىء، فالعين ليست بالعين في الحقيقة إذا لم تكن مبصرة بل بالأعضاء كلها إذا بطلت منفعتها خرجت عن أن تكون في
النفع.
واختلف الصحابة في عين الأعور، وهل يلزم فيه القَودُ ودِّية كاملة.
فمنهم من أوجب ذلك فيها لكونها سادَّة مسدَّ العينين.
والأنف يلزم فيها القصاص بالقطع.
وقال أبو حنيفة: إذا قطع الأنف من أصله فلا قصاص لأنه
لا يمكن اسشيفاؤه فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد.
وقوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) إيجاب للقصاص في سائر الجراحات،
وقرئ: (وَالعَينُ بِالعَينِ) بالرفع كقولك: إن زيداً منطلق، وعمروا ذاهب.
بالرفع فعلى الاستئناف،
وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) خطاب لولي القتيل وللجروح حثٌّ له على العفو، وذكر لفظ التصدق تنبيهاً على أن عفوه جار مجرى صدقةٍ يستحق بها ثواب، وتصير كفارةً له، وذكر هاهنا أن تارك الحكم بما أنزله ظالم، والظلم أعم من الكفر، لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرا.
وقوله عز وجل: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤٧)
قفيناه: بعثناه خلفه، يقفوه: أي يتبع قفاه، ومنه قافية الشعر، والقفي: الضيف الذي يبعث خلفه تكرمه له، والأثر: ما يظهر للحاسة، والإثار الاختيار، واستثاره اختاره لنفسه،
والهدى: يقال لما يستدل به، والموعظة لما يوعظ به، والفسق أعظم
الرطبة إذا خرجت عن طلعها.
إن قيل: لم كرر قوله: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَين يَدَيه مِنَ التَّورَاةِ)؟
قيل: يجوز أنه أراد بالأول مصدقاً لما بين يدي التوراة، وبالثاني نفس التوراة، فبين أن عيسى عليه الصلاة والسلام أتى بما يُصدق به موسى، وكتابه أتى بما يصدق كتاب موسى.
قوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قال أبو عبيدة: الحاذق في علمه، وقال ابن عيينه: أصله مُؤيمن فقلبت همزة هاء، كما قالوا: - أهرقت في قولهم أرقت، وقد قيل: همين يهمينه. وحقيقة المعنى أنه جعل هذا الكتاب حافظاً ومستولياً لسائر ما تقدم من كتبه يحكم عليها وهي لا حكم عليه، وينسخها وهي لا تنسخه، وصح على هذا: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)، يعني ما ننسخ من
والشرعة والشريعة: في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من (١) الدين الذي يوصل إلى الحياة الأبدية، كما سمى كتابه المهيمن على ما تقدم.
ومن أصله: أشرعت القِباء وشُرعت في الماء، وهم شرع.
والمنهاج: الطريق المستقيم، يقال: طريق نهج ومنهج.
إن قيل: ما الفرق بين الشرعة والمنهاج؟
قيل: قال بعضهم: الشرعة إشارة إلى الدين وهو الشرع، والمنهاج: إشارة إلى الدليل الذي يتوصل إلى معرفته والتخصيص به،
وقد رُوي عن ابن عباس أنه قحال: شرعةً ومنهاجاً: ديناً وسبيلا.
إن قيل: كيف قال: (لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرْعَةً وَمِنهَاجًا) فاقتضى ذلك أن
وقد نقل الآلوسي عن الراغب في تفسيره (٢ لم ١٥٣) قال: وقال الراغب سمي الدين شريعة تشبيهاً بشريعة الماء من حيث أن من شرع في ذلك في الحقيقة روى وتطهر، وأعني بالري ما قاله بعض الحكماء كنت أشرب الماء فلا أروى فلما عرفت الله رويت بلا شرب، وبالتطهر
ما قال تعالى: (وَيُطَهِّرَكم تَطهيرًا).
والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح،
والعطف باعتبار جمع الأوصاف.
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
فذكر أنه شرع لجميعهم شريعة واحدة.
قيل: الذي استوى فيه شريعة جُماعِه هو أصول الإيمان والإسلام، أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم والقرابين، فإن أصول هذه الأشياء لا ينفَّك منها شرع بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد به كل واحد من الأنبياء فروع العبادات من كيفياتها وكمياتها، فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل أمة، وعلى مقتضى الحكمة من الأزمنة المختلفة،
ووجه آخر: أن الشرائع إذا عتبرت بالشارع
وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦).
قوله عز وجل: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (٤٩)
قوله: (وَأَنِ احْكُمْ) فهو معطوف على معنى الكتاب، وقوله: (مُصَدِّقًا) إلى قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
وقيل: من الواجب أن احكم، والأول أوجه، لأنه لا يقع أن افعل إذا كان بعده أمر إلا من موقع المصدر.
ويتقارب فتله عن كذا.
(فِتْنَةٌ) ولكن فتنه يقال في الصرف عن الخير والشر، وفتله يقال في الصرف عن الخير.
إن قيل: لم قال: (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فخص البعض؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه عنى بذلك الكفر والنفاق الذي لا غفران فيه، لكن ذكر البعض منها يكون أردع للعباد.
والثاني: لأنه ذكر البعض للمبالغة تنبيها على أنه
إذا أصابهم ببعض الذنوب يقال في كلٍ أولى.
إن قيل: لما كرر (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)؟
قيل: قال بعضهم: إن ذلك في حكمين:
حكم في المحصن، وحكم قتيل كان فيهم، ففرق كل واحد منهما نهي عن
وقال بعضهم: - تقدير الكلام أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وبأن احكم
بما أنزل، وبأن لا تتبع الهوى، فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع الهوى فأخبر بإنزال ذلك أولاً، ثم أمر به أمراً مجزماً، وقدم الأمر على الإخبار عن الأمر به
تأكيداً، وتقدير الكلام: - قد أوجبت عليك الحكم بذلك، وترك إتباع الهوى فاحكم بذلك.
قوله عز وجل: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أنكر عليهم تحريهم الجاهلية وتركهم لحكم الله، ثم قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
تنبيها أن ذلك يعلمه الموقن،
وقوله: (لِقَوْمٍ) قيل: عند قوم،
إن قيل: كيف يكون حكم أحسن من حكم إذا كانا حقين؟
قد يحكم أحد الحاكمين بعلم يحكم الآخر بغلبة ظن، وكلاهما حسنان، والأول أحسن، وقد يجتهدان في حكمين وأحدهما أقرب إلى الحكم نحو اجتهاد داوود وسليمان.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
الاتخاذ الاعتماد هاهنا، وأصله افتعال من الأخذ، والأخذ حوز الشيء وذلك تارة بالتناول، وتارة بالاعتماد عليه، وتارة بالإهلاك نحو: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى).
الآية، نزلت في عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أُبي
وقيل: نزلت في أبي لبابة بن المنذر لما نصح لليهود وأشار بأنه الذبح،
وقال ابن عباس والحسن: إنها نزلت في نصارى بني تغلب
قال قوم إنهم كبني إسرائيل في جواز أكل ذبائحهم، لأنه قال: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
قوله عز وجل: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (٥٢)
وقيل: يسارعون في مرضاتهم،
والدائرة: دوران الأمر من قولهم والدهر بالإنسان دواري.
والدورة والدولة يتقاربان،
والفتح قيل فتح مكة، وقيل: بل نفعاً أتى من الله.
والأمر هاهنا واحد الأمور يأتي بأمر لا يعرفون سببه ووجه إلزامهم في ذلك أن الأمور ضربان: واجب، وممكن، وما وعد الله تعالى من نصرة المؤمنين فواجب كونه أي صادق الوجود. يقال: هب أن لك ليس من الواجب إما جعلتموه من الممكنات التي عسى أن تكون، فأخبر أن المنافقين يميلون إلى الكفار ويقولون لا نأمن أن تكون لهم دولة على أصحاب محمد - ﷺ -، وذلك لقلة إيمانهم بما ضمن الله من نصرة المؤمنين وقال تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) على ما فعلوه، ونبه أنه يأتيهم بذلك، فإن عسى منه واجب.
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (٥٣)
وقوله: (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي أبلغ الإيمان وأقصاها من قولهم جهد
في الأمر ونصبه على المصدر،
وقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يصح أن يكون معطوفاً على ما حكى عن الذين آمنوا، ويصح أن يكون استئناف كلام من الله على طريق الإخبار،
وعلى طريق الدعاء عليهم.
وإذا قرأ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فتقديره: عسى الله أن يأتي بالفتح، وأن يقول الذين آمنوا.
وقرأه أهل المدينة، يقول الذين آمنوا بغير الواو.
أحدهما: لما كان أكثر محاربتهم وغاراتهم وقت الصباح كثر عبارتهم عن التغيرات وعلى هذا قول الشاعر:
يَا راقداً الليلَ مسروراً بأوله | إن الحوادثَ قَدْ يَطرقنَ أسحاراً |
ونحو ذلك.
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
قرأ أهل المدينة من يرتدد وذلك لغة.
قوله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ليَني الجانب على المؤمنين،
وقيل: هى فيمن ارتد في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، وقيل: فيمن كانوا مع النبي - ﷺ -، والأظهر أنه فيهم وفي غيرهم، وأنه وعد تعالى أنه يحفظ دينهم بقوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويتحرى مرضاتهم ويتحروا مرضاته، وذلك كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩).
وقد تقدم حقيقة محبة الله للعباد ومحبتهم له، وجعل من حقيقة محبتهم لله أن وصفهم أنهم أذلةٍ على المؤمنين، أي متواضعين، فالتواضع الانقياد لما يورث رقة والتعزز على من يورث صعبة، وفي وصفهم بذلك وصف ينفي الجهل
عنهم، وحصول العلم لهم، وتهذيب أنفسهم فإن التواضع ثمرة العلم وتهذيب النفس، وقد تقدم أن الجهاد ضربان: مجاهدة الغير، وذلك إما
باللسان، وإما بالبنان، ومجاهدة النفس، وذلك بإصلاح القوة العلمية، وإصلاح القوة العملية.
المجاهد إمَّا مجاهد للنفس، وإمَّا لشياطين الإنس والجن،
قال بعضهم: - جهاد النفس أن لا نتركها تفتر عن الطاعة، وجهاد
الشيطان أن لا يجد منك فرصة فيأخذ منك حظاً، وجهادُ العَدُوَّان تدنوا من
صفة المسلمين.
قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) أي الجهاد في سبيل الله، وما ذكر
به القدم للذين يحبهم ويحبونه: (يُؤتِيهِ) أي المستحقين.
الولي والمولى: متقاربان، لكن الوليَّ من الأسماء المتضايفة، ويقتضي أن من واليته مواليك، وقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).
وقال في صرضع: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)، وقال: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا)
وقال: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ).
لما نهى عن موالاة الكافرين خاطب المؤمنين بأن لا يغتروا بهم، وأن يعلموا أنهم مواليهم الله ورسوله والمؤمنون، ثم وصف المؤمنين الذين يوالونهم، فقال: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) أي يوفون حقها، لا الذين وصفهم بقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) الآية.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تقديره: من يتول
غالب.
(وَهُم رَاكِعُونَ) قيل: أي خاشعون كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩).
وقيل: عنى ركوع الصلاة، وذلك نزل في علي - رضي الله عنه -، فإنه تصدق بخاتم وهو في الصلاة، فالراكع يريد به الركوع
الذي هو أحد أركان الصلاة.
واستدل بالخبر والآية على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها،
وفيه دلالة على أن الصدقة النافلة تسمى زكاة.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)
ونهاهم عن موالاة المتهكمين بدين الحق أي عن الاستعانة بالمشركين،
وقد روي أن قوماً من اليهود أتوه ليخرجوا معه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لا نستعين بمشرك)، وقد تقدم أن الاستعانة بهم لا تجوز على وجه يكونون هم الغالبون.
فأما أن يستخدموا في المهن، وما يورثهم المهانة لا العز فجائز.
قُرئ (وَالكُفَّارَ) بالنصب، معطوفاً على قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا)،
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تنبيه: أن من شرط الإيمان مضامة التقوى، ومن شرط التقوى الغضبَ لدين الله، وتركُ موالاة من اتخذ دينكم هزواً ولعباً، ومن لا يغضب لدينه فليس بمؤمن حقيقة.
وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) معطوف على قوله:
(اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا) وداخل في صلة الدين، ومن تمام
وصفهم كأنه قيل: اتخذوا دينكم هزواً ولعباً واتخذوا الصلاة هزواً ولعباً إذا ناديتم إلى الصلاة، وهذا تخصيص بعد العموم، أي يتخذون الدين جملةً هزواً
ولعباً، ويتخذون النداء إلى الصلاة كذلك، ونحوه قوله: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) و (مِن) في قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) للتبيين وإظهار ذلك من يفعل ذلك وليس هو التخصيص.
يقال: نَقِمَ ونَقَمَ عليه نِقْمةً إذا أنكر ما فعله وسَخِطَ عليه ولتضمين النقمة
السخط والإنكار استعمل في كل واحد منهما على الانفراد، والسبب في نزول هذه الآية أن قوماً من اليهود أتوْا النبي - ﷺ - فسألوه: عن من يؤمن بالله، فقال: (
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)
الآية، فلما سمعوا ذكر عيسى نقموا فأنزل الله ذلك تنبيها أنكم أنكرتم غير
منكر وهو إيماننا مع فسقكم، ومخرج هذا الكلام الإنكار لقول الشاعر:
وَمَا نَقَمُوا مِنْ بَني اميَّة إلا | أنهم يَحلُمُونَ إنْ غَضبُوا |
المثوبةُ في الخير كالعقوبةِ من الشر، واستعارتُها للعقوبة نحو قول الشاعر: -
... تَحيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجيعُ
وقول غيره:
تعليقها الإسراج والإحكام.
ذكر أن إيماننا بالله وما أُنزل إلينا إن كان شراً عندكم، فإني أنبئكم بما هو شرٌ عاقبةً عند الله منه وهو ممن أَبْعدَهم الله من رحمته وسخط عليهم ومسخهم القردة والخنازير
وقوله: (شَرٌّ مكَانًا) أي مُتَصرِفاً، وأضل عن الطريق المستقيم.
وقوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوف على قوله: (لَعَنَهُ اللَّهُ) أي من لعنه الله
وقرأ ابن مسعود (وَعَبَدُوا) رداً إلى المعنى وهو أجود.
وقُرئ وعبُد الطاغوت وعَبَدَ الطاغوت.
فمن قرأ عُبد فليس بوجه عند أهل العربية، لأنه ليس من
الطاغوت، كقولك جعلت زيداً أخاك أي حكمت بذلك وأما عَبُد فإما أنه
واحد وقع موقع الجمع، أو جعل جمع عابد نحو خدم، أو أصله عَبُد فسكن نحو عَضُدٌ وعَضْد.
قوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
أي يظهرون الإيمان ويدخلون كافرين، ويخرجون كافرين، تنبيها أنهم كاذبون فيما يظرون من الإيمان و (وَإِذَا) إشارة إلى قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
وإلى نحو قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
قوله عز وجل: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
كقوله في الحسنى: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
وحثٌّ لها، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
والإثم إشارة إلى نحو الذي قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وأكلهم السحت إلى قوله: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
الإثم أعم من العدوان، والعدوان أخص منه وأعم من
أكل السحت، وأكل السحت أخص منهما لأن كل أكل
السحت عدوان، وليس كل عدوان يكون أكلاً للسحت.
قوله عز وجل: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وإذا دخل على فعل مستقبل فللتخصيص.
والرباني منسوب إلى الرب وهو الذي تولى الله تربيته بالعلم،
قرأ عبادة: بزيادة الألف والنون فيه كقولهم: شعرانيٌ.
وقال بعضهم: الرباني ليس في كلامهم في الأصل.
والأحبار الذين يراعون الأعمال، وأصله من حَبْرتُ أي حسنت
وكان عبارة عن المحسنين.
قيل: الصنع أخص من العمل كما أن العمل أخص من الفعل، وذاك أن الفعل يقال فيما كان من الحيوان، وغير الحيوان وبقصد وعن غير قصد، والعمل لا يقال إلا ما كان من الحيوان وبقصد، والصنع لا يقال إلا ما كان من الإنسان بقصد واختيار وبعد فكر وتحري أحاده، ولهذا يقال: دخل رجل صانع أي حاذق، وثوب صنيع أي مجاد. فحيثما ذُكِّر كافتهم قال:
(لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ) وحيثما ذكر خاصتهم وحفظة العلم والعمل ذكر: (لَبِئسَ مَا كَاْنُواْ يَصنَعُونَ).
قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
قوله: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو بخيل ْممسمك، كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)
عذابنا، وقوله: (غُلَّتْ أَيدِيهِم) دعاء عليهم،
وقيل: هو خبر، والدعاء والخبرُ إذا كانا من الله واحد،
وقول من قال: لو كان هذا إخباراً لوجدوا لذلك، فلعمري إنهم قد وجدوا كذلك، فقد رُوي أن اليهود أبخل خلق الله،
وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) نِعَمه متكاثرة،
وتشبيه اليد على طريقة كلام العرب في استعارة هذه اللفظة.
وقد ذكر لفظ اليد في آيات.
وقيل: تتنيتها لأنه أراد عطية الدنيا والآخرة، وقيل: بل قصداً إلى ثوابه
وعقابه، وقيل: بل قصد إلى تكثير نعمه.
فالتثنية يعبر بها عن كل كثرة
وقوله: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي إنَفاقه على مقتضى الحكمة لا على حسب شهوتكم.
وقوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)
ما يسمعون من
الدواء الذي يوازي الصحة، والكافر والمنافق مريضان، كما قال: (فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ). فكما أن المريض لا يوافقه الغذاء بل يزيده مرضاً كذلك
المنافق يزداد بسماع القرآن طغياناً وكفراً.
وإلقاء العدواة بينهم هو تعريف لليهود قبح اتخاذ النصارى المسيح ربًّا، وتعريف النصارى قُبح نسبة اليهود المسيح إلى أما هو أقبح به.
ويدخل في ذلك معاداة النصارى بعضهم لبعض،
وقوله: (كُلَّمَا أَوقَدُواْ نَارًا لِّلحَربِ) أي إذا هموا بإثارة شر
أوقع الله بينهم منازعة تكف شرهم وتدفع شوكتهم، فمنازعتهم لبعض يورث فشلاً، كما قال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
وقال في الكفار:
وقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أي مساعاتهم
لطلب الإفساد فلا يعينهم الله، فإن الله لا يحب المفسدين، أي لا يعينهم
على تحريهم الفساد.
قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
التكفير: ستر الذنوب حتى تصير بمنزلة ما لم يُعْمَلْ، ويصح أَن يكونَ أصلُه
إزالة الكفر كقولهم: مرضت فلان وقدْيت عينه.
ذكر أنهم لو أصلحوا اعتقادهم وأفعالهم لغُفروا وأُثيبوا، كقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦)
إدخال الجنات، جعل جزاء توفية أحكام كتب الله سعة الرزق، وذلك أنهم
لما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وكتموا ما أنزل الله بسحت كانوا يحوزونه، بيَّن تعالى أن ذلك العَرَض بل أكثر منه وأطيب لم يكن ليفوتهم لَوْ وفوا كتب الله حقها.
والأكل من فوقهم إشارة إلى الثمار ومن تحت أرجلهم إلى الزروع.
وقيل: بل الإشارة بقوله: (مِنْ فَوْقِهِمْ) إلى المطر، وبقوله: (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إلى الثمار والحبوب جميعاً، كقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠).
وقيل: ذلك إشارة إلى أنهم كانوا ينالونها، قال: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) وعلى هذا:
وقوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)،
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وقوله: (مِّنهُم أمَّةٌ مقتَصِدَة) أي عادلة غير عَادِيَة ولا مقصره وهم الذين آمنوا بمحمد - ﷺ -، وذلك كقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ).
وقوله: (سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) نحو: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)
وقوله: (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).
قيل: السبب في نزول هذه الآية أن النبي - ﷺ - كان يهاب قريشاً، فأنزل الله ذلك.
فروي: (أن أعرابياً همَّ بقتل النبي - ﷺ - فسقط السيف من يده فجعل يضرب برأسه حتى انتثر دماغه).
إن قيل: كيف قال: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك كقوله: إن لم تبلغ فما بلغت.
قيل معناه: وإن لم تبلغ كل ما أُنزل إليك يكون في حكم من لم تبلغ شيئاً، تنبيها أن تقصيرك في بعض ما أمرت به يحبط عملك.
وقيل: عنى بقوله: (مَا أُنزِلَ إِلَيكَ) ما ذكره بعد هذه الآية.
وهو قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن ينالوك
شَدِّها، وعصمة الله للعبد حفظ سره بما يَردُ عليه من موارد الشر.
وقيل: معنى يعصمك من الناس أي من بينهم العصمة المختصة بالنبوة ونحو قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥).
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ليس يعني أنه لا يبذل لهم فعصمة الله وتوفيقه وتسديده مبذولة
لكل من رغب فيها وترشح لقَبُولها.
ولكن الكفر يمنع منه، فإنه يعانده وينافيه كمنافاة المتضاد.
واستدل بهذه الآية على أن النبي - ﷺ - لا يكتم شيئاً مما أنزل الله بخلاف ما قالت الرافضة: أنه قد كتم أشياء على سبيل التُّقية.
كتمانه، وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه
كتمانه.
قيل: إنه أفردهما بالذكر على سبيل التفصيل وخص ما أُنزل بالقرآن.
فإن قيل كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد عُلم أن القرآن قد نسخ
التوراة والإنجيل، ولا يصح إقامةُ جميعها؟
قيل: يجوز أنه عنى الإقرار بصحة ثلاثتها، ويجوز أنه أراد أحكام أصولها، فإن ثلاثتها تستوي في ذلك وإنما الاختلاف في الفروع
بسحب مصالح الأزمنة.
وقيل: أراد إقامة هذه الكتب بإظهار ما فيه
من وصف النبي - ﷺ - وتصديق بعضها بعضاً.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
الكلام؟
قيل في ذلك وجهان:
أحدهما: أن معنى قولِه: (إِنَّ آلَّذِينَءَامَنُوا): أظهروا الإيمان وأَمِنُوا من القتل والسبي وهم الموصوفون بقوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
وقوله: (مَنءَامَنَ مِنهُم) أي من يحقق الإيمان فبيَّن أن المُظهِر للإيمان، والذين ما داموا فيهم ممن ذكرهم، لا يسقط عنهم الخوف والحَزَن في الدارين ما لم يتحققوا بتصديق الله، والإيمان بالمعاد، والتحري لمصالح الأعمال والثاني مَنْ في قوله: (مَنءَامَنَ بِاَللَّه) راجع إلى قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) دون قوله: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا).
إن قيل: ما وجه قوله: (وَالصَّابِئُونَ) وقد ذكر النحويون أن المعطوف على اسم (إنَّ) قبل الخبر لا يصح فيه الرفع؟
قيل إن ذلك لا يصح منه الرفع إذا عطف على موضع إنَّ
كقول الشاعر:
.......... فَإنِّى وَقيَّارٌِ بهَا لَغَرِيبُ
وتقدير الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله لا خوف عليهم، واستغنى بخبر أحدهما عن مضمر
الآخر وعلى هذا قول الشاعر:
وإلا فاعْلَمُوا أنا وأنْتُم | بُغَاةٌ مَا بَقينَا فيِ شِقَاقِ |
والذين هادوا والصابئون.
قال الفراء: الرفع يصح بعد إنَّ ويصح في كل معطوف، ولا يتغير فيه الإعراب نحو الذي وإخوانه، وهذا وهذه.
قوله عز وجل: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (٧٠)
قد تقدم حقيقة أخذ الميثاق منهم، وأن ذلك بما ضمن عقولهم على ما دل عليه قوله:
وبعضه بما أَنزل إليهم من الآيات، وبعضه بالأيمان المؤكدة وكل ذلك مما ذكره المفسرون، وإنما قال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) فعطف
المستقبل على الماضي تنبيها على أن ذلك عادتهم ماضياً ومستقبلاً،
ونبه بقوله: (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ) أنهم يتبعون الهوى فيما يتحرونه، فلا
يستحقون جهداً وإنْ طابقو الحق إذ ليس لهم إلا سلوك سبيل الهوى، وأصل
الهوى: والهوا واحد وهو لا مِسَاك له، ومنه: (اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ)، وسُمى الدار هاوية لذلك.
قوله عز وجل: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (٧١)
الفتنةُ العذاب والبليَّةُ، وأصلها: إدخال الذهب والفضة النار
وقُرأ: (أَلَّا تَكُونُ) بالرفع والنصب. فالرفع على
تقدير أنه لا تكونُ فتنة وذلك أبلغ في ذمهم، وقد تقدم أن الظن والحسبان
يستعملان تارة فيما قوى في النفس وتارة لما ضعف، ومن ذكر بعدهما إن
المشددة والمخففة منهما فقصد إلى تقوية الاعتقاد ومن ذكر بعدهما أن الناصبة
للفعل فلضعف الاعتقاد، وارتفاع قوله: (كَثِيرٌ) على البدل من الضمير في
: (فَعَمُواْ وَصَمُّواْ) وعلى تقدير التفسير: أي العُميُ والصُم كثير منهم ثم
بين أنه تعالى لعلمه كاملاً بما يعملون بالمرصاد يحاربهم.
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢)
الذين قالوا إن المسيح ابن مريم هو الله، وبين أن المسيح نهاهم أن
يعتقدوا ذلك حيث قال: اعبدوا الله ربي وربكم وأنه بيَّن أن من يشرك
بالله يمنعه الجنة ويخلده النار فلا يجد ناصراً.
وأصل التحريم جعل الشيء ممنوعا منه إما بالحكم كتحريم الله الخمر وإما بالمنع القهري كتحريم الله الجنة على الكافر.
قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
أخبر عن النسطورية والمَلَكِية، فهم الذين يقولون أب وابن وروح القدس فيجعلون الله أحد الأقانيم الثلاثة، ومن أن الله هو واحد وهو سبب الموجودات، وهددهم إن لم ينتهوا يعذبون.
وذلك يقتضي أن يكون بعضٌ منهم كافرين.
وقد قال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) فحكم بكفر جميعهم قيل: إنما قال الذين كفروا منهم تنبيها أن العذاب يتوجه على من دام به الكفر ولم يقلع، ولهذا عقبه بقوله: (أَفَلَا يَتُوبُونَ).
إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ) فذكر المس، وذلك يقتضي بتقليل العذاب.
قيل: بل المس يقتضي مبالغة في وصف عذابهم، لأن المس يقتضي اللمس، وذلك أعم الحواس وأكثرها وجوداً إذ لا حيوان إلا وله اللمس، ولأنه أعرف الحواس عند الخاص والعام.
قوله عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
الصديقة الكثيرة الصدق، فقد قيل: إنها لم تكذب قط،
وقيل: لتصديقها جبريل لما قال:
الخلو: تعرِّي الزمان أو المكان مما فيه، أو تعرى الشيء من زمان ومكان. وإذا قيل: لا يخلوا الأمر من كذا، فمعناه لا يتعرى ولا ينفك،
احتج تعالى على من ادعى الربوبية لعيسى بما يزيل الشبهة في ذلك، وهو أن غاية ما لعيسى ﷺ كونه رسولا، ذا معجزات قد شاركه في مثلها غيره من الأنبياء كإبراهيم حيث أُلقي في النار فسلم منها، وموسى حيث أَلقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وفلق البحر له في تسع آيات، وأنه في كونه من غير أب لم يكن بأعجب من آدم الذي
كان من غير أب ولا أم، ونبه على قصوره عن آدم بكونه من أم، وأن كونها
صديقه لا يقتضي لها ولا لابنها الربوبية بل أكثر ما في ذلك أن يكونا من جملة
الصديقين، ثم نبه على بعضهما بافتقارهما إلى الطعام المقتضي لبعض الحاجة فكنى تعالى عن ذلك بأحسن كناية ثم عجب منهم بقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وإذا كان حالُهما لا يخفَى ومع
ذلك ينصرفون عن الحق وتفهمه.
قيل معنى: (يُؤْفَكُونَ): يصرفون
قوله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
إن قيل لم قال: (مَا لَا يَملِكُ) ولم يقل (مَن)، وقد قصد بذلك نفيُ إلاهية
عيسى، وكيف قال: (يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلَا نَفعًا) وقد كان عيسى
يملك ذلك وإن كان بتخليق الله إياه، ولمَ قدم الضر على النفع، ولم أتبع ذلك قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقد كان من حق المقابلة أن يُقال
والله هو الضار النافع؟
قيل: أما ذكر (مَا) فلكونه للجنس والنوع المقتضين لمعنى عام يقصد بذكره وأن ذلك يقتضي المشاركةَ والمشابهةَ، وتنزه الإلهية عن ذلك فأنكر تعالى بذكر ما ادعوه كل ما اقتضى مشابهةً ما، وإنما قال:
(لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لأنه لما كانت الإشارة على ثلاثة
قال المسلمون: لا يملك أحدٌ شيئاً غيرُ الله، وقالوا:
الأشياءُ في يد الناس عاريةٌ مستردة. وأما تقديم الضر على النفع؛ فلأن الإنسان يخدم غيره إما لدفع الضرر أو لجر النفع، والناس يراعون دفع الضرر قبل جر النفع، ولذلك كان الاحتراز من المَضَارةِ كلها واجباً وليس طلب المنافع كلها واجباً، فلذلك قدم هاهنا الضرر.
فإن قيل: فقد قاله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
فقدم ذكر النفع؟
قيل: تقدم النفع في هذا المكان أولى لأنه لما ذكر تحريهم عن أنفسهم فيما يجرون لها.
والإنسان يتحرى لنفسه النفع لا الضر، بيَّن أنهم لا يملكون ما يحبون
فلأنفسهم، بل لا يملكون أيضاً في حقيقة الضر فضلاً عن النفع.
وأما إتباعه بقوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) فهو أنه لما لم ينكروا أن الله مالك الضر والنفع، ولا أنه قادر على مجازاة من استحق المجازاة، بل أشركوا بينه وبين غيره عَقَّبه بما اقتضى معنى ملكه للضر والنفع، وقدرته على المجازاة وذكر أنه هو المجازي
ويعلمُه، وإدخال هو في قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أن هذا الحكم خاص له لا يشاركه فيه غيره، صار مقتضى الكلام أنه يملك النفع والضر وأنه يجازي كل أحد باستحقاقه.
قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)
الغلو: تجاوز الحد من قولهم غلا السهم وغلا السعر ويستعمل في الإفراط
دون التفريط، والخطاب قيل هو للنصارى حيث تجاوز القصد في عيسى
عليه الصلاة والسلام فادعوا له الربوبية.
وقيل: هو خطاب لهم ولليهود، فالنصارى غلوا في رفعه،
واليهود في وضعة،
وقوله: (غَيْرَ الْحَقِّ) انتصب بإضمار: (وَلَا تَقُولُواْ) كقوله: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وبيَّن أن الذي عليه قومهم هو من مقتضى الهوى فنهاهم عن اتباعهم فيه.
وإنما جمع الهوى تنبيهاً أنهم متفاوتون، والمراد في باطلهم،
إن قيل: لم كرر قوله: (ضَلُّوا)؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه أراد قد ضلوا عن سواء السبيل،
فلما فصل بينه وبين ما يتعلق به أُعيد ذكره، كقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ).
أعاد قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ).
الثاني: أنه أريد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، ضلوا كون ذلك تبيناً لما ضلوا عنه،
والثالث: أن الاشارة بقوله: (ضَلُّواْ مِن قَبلُ) إلى ضلالهم في شريعتهم قبل إتيان نبينا - ﷺ -،
والرابع: أن الإنسان قد يعتقد أن يُضل غيره وهو ضال بذلك، فبيَّن الله تعالى أن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم غيرهم إشارة إلى نحو قوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
والخامس: أن الله تعالى أرسل هاديين العقل والرسول، والعقل متقَدِّم على
الرسول من حيث أنه بالعقل يهتدي إلى معرفة الرسول، فقوله: (ضَلُّواْ)
إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل وضلوا عن سواء السبيل إلى ما أتى به النبي - ﷺ -.
قوله عز وجل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
الاعتداء والتعدي والعدوان خروج عما حَدَّ ورسم،
إن قيل: على أي وجه لعنوا على ألسنتهما؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنهم فعلوا ما استحقوا به اللعن
فلعناهم بأسمائهم، وذلك راجع إلى آبائهم، فقد روي أن
الثاني: أنهما قالا: من لم يفعل كذا فلعنة اللَّهِ عليه، فعصو، فصاروا ملعونين من هذا الوجه.
الثالث: أن الله تعالى لما أنزل على كل واحد منهما كتاباً اقتضى أن من خالفه فهو ملعون، فخالف هؤلاء، فصاروا من هذا الوجه ملعونين.
قوله عز وجل: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
التناهى: أن ينهى بعضهم بعضاً، والانتهاء الانزجار، وهو أبلغ من الانتهاء
قوله عز وجل: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (٨٠)
أى ترى كثيراً من الذين لعنوا موالين للكفار في محاداة الرسول - ﷺ - وذلك يجر إليهم سخطَ الله ويدخره لهم وبئس المدخر سخطه تعالى وما يثمر لهم الخلود في العذاب ونحو قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).
قوله عز وجل: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٨١)
النبي يجوز أن يكون إشارة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام
ويجوز أن يكون إشارة إلى نبيهم، ونبه أنهم لو آمنوا بمن ادعوا الإيمان به
لما فعلوا ما فعلوا، فإن دينهم لا يقتضي ما يرتكبونه ويفعلونه،
ويجوز أن يكون النبي إشارة إلى الجنس، أي الإيمان بالله وبالنبوة والكتاب، لا يقتضي ما يتحرونه من مولاة الكفار.
قيل الإشارة: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي أحبارهم وعلمائهم
وأماثلهم، فيشير إلى أن فسق هؤلاء هو الذي اقتضى أن يرتكب
جماعتهم ما يرتكبونه وذلك لما أنبا بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).
قوله عز وجل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
أصل العدواة المباعدة ومنه يعدي والعدا للمكان المتفاوت.
والقس والقسيس: العابد الكثير الذكر.
والرهبان جمع راهب كالركبان والفرسان جمع راكب وفارس،
بيَّن أنه كما بَيْن الأخيار تفاوت كذلك بين الأشرار تفاوت،
وكما أن من أتى من
عقابه أكثر، ولهذا جعل في الجنة درجات، وفي النار دركات، فالله لا يبخس عاملاً عمله. فلا يساوي بين من جحده وبين من يؤمن به ولا يكفر بأنبيائه، ولا بين من يجحد جميع أنبيائه، وبين من يجحد بعض أنبيائه فالمشركون به أبعد من الله من اليهود، واليهود أبعد من النصارى وإن أبعد الناس عن الإسلام اليهودُ والمشركون، أما اليهود فلأنهم بَعدُوا عن المسلمين بدرجتين إذ قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وأما المشركون فلأنهم بعُدوا بدرجات إذ قد جحدوا التوحيد والنبوات.
إن قيل فلم قدم ذكر اليهود والمشركون شرٌ منهم؟
قيل: لأن الآية المتقدمة في ذكرهم، والقصد كان إليهم، فكان
تقديمه لذلك أولى.
وبين أن أقرب الناس إليهم قوم ادعوا التنصر ليس ذلك إشارة إلى جماعة النصارى بل قوم منهم.
ولهذا قال: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
ويدل على ذلك ما روي في التفسير
منهم القسيسين والرهبان وأنهم يتحرون الحق ولا يستكبرون عن قبوله والضمير في (أنهم) راجع إلى القسيسين والرهبان، وقيل: راجع إلى المعنيين بالدين كلهم.
قوله عز وجل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
الفيض سيلان عن امتلاء وأفضا لسيلانه وفاضته دمعة إذا امتلأت العين ثم سالت، وعنه اسستعير خبر مستفيض، وأفاض القوم من عرفه، فذكر تعالى أنهم يبكون ويؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم من جملة من وصفهم بقوله:
ومعنى (فَاكْتُبْنَا) أي اجعلنا منهم وثبتنا في جملتهم.
قوله عز وجل: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
كأنه قيل لهم: لِمَ آمنتم به؟ فقالوا: ولم لا نؤمن أي نصدق بالله وبالحق الذي جاءنا.
وقوله: (وَنَطمَعُ) من جملة قوله: (وَمَا لَنَا)،
ويجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون في موضع الحال،
أي لما لا نؤمن طامعين في أن يجعلنا ربنا من الصالحين
وذلك إشارة إلى قوله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩).
قد تقدم ما هو تفسير لهذا ودلَّ قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أنهم محسنون واستحقوا ذلك تنبيهاً أن ذلك.... (١).
فإن قيل: فمن المحسنين من لا يجزى فهو الذي إساءته أكثر؟
قيل: المحسن المطلق هو الذي لا يستحق أن يوصف بضده ويكون وصفه بالحسن مطلقاً، ووصفه بالإساءة مقيداً، فأما من إساءته مُوَفيةٌ على إحسانه فلا يطلق عليه اسم الحسن.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
لما ذكر حال الذين قالوا: - إنا نصارى، وذكر أن منهم قسيسين ورهباناً فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات قد أحلَّها الله
وقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا)
لا تعتدوا إلى تناول المحظورات، وتكون الآية نهياً عن الطرفين في التفريط والإفراط وحملاً على القصر المذكور في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). ونحو ذلك من الآيات، وبيَّن أنه لا يحب المعتدين، أي
الاعتداء منافٍ لمرضاة الله،
فإن قيل: ولِمَ لمْ يقل والله يبغض المعتدين ليكون أبلغ؟
قيل: بل قوله: (لَا يُحِبُّ) أبلغ من وجه؛ لأن من المعتدين من
لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأنه لا يحبه، وهو من لم يكن اعتداءه كبيرة، وكل مبغض غير محبوب، وليس كل من لا يكون محبوباً علته مبغضاً. قال بعضهم: معنى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) أي لا تخلطوا مالكم من الحلال
بمغصوب، ولا تفعلوا فيه فعلاً يصير به حراماً، فتكونوا قد جعلتم الحلال
حراماً.
قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
الرزق: يقال لما جعل غِذَا، ويقال
قال بعضهم هذه الآية يقتضي أن الرزق يقع على الحرام
أيضاً لأنه خص فقال: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) فلولا أنه يتناولهما
لما كان لتخصيصه فائدة، وقال مُخالفة قوله: (حَلَالًا طَيِّبًا) انتصابه على أنه
حال مؤكدة كأنه قيل: كلوا مما رزقكم الله فهو حلال طيب،
وبيَّن أن الله الذي آمنتم به حثكم أن تتقوه فتمام الإيمان التقوى.
قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
واللغو في اليمين، روت عائشة أن رسول الله - ﷺ -
قال: (هو قول الرجل لا والله وبلى والله) موقوفاً عليها.
وقال بعضهم: - هو أن يحلف الرجل على معصيته بأن يفعلها فينبغي أن لا يفعلها قال وهذا لا كفارة فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على يمين فرأى أن غيرها خيراً منها فليركها، فإن تركها كفارتها) وقيل: بل لا إثم في تركها وعليه الكفارة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على شيء فرأى غيره خيراً فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) القَسَمُ ضربان: قسم على ماضي، وقسم على مستقبل،
فالماضي: إما لغو وإما غموس، ولا كفارة فيها عند أبي حنيفة.
وأما عند الشافعي ففي الغموس الكفارة دون اللغو.
الآخرة أي العقاب، والمؤاخذة بالكفارة عند أبي حنيفة مؤاخذة العقاب دون
الكفارة، واختلف في الكفارة على أوجه، أما في الإطعام فقد اختلف فيه:
هل الأولى أن يجمعوا على إطعامهم أو يدفع إليهم، فإذا جُمعوا عليه فهل يُطعَمون وجبه أو يطعمون غداءً وعشاء، وإذا أعطوا كم يعطون؟
قال الحسن: يعطي كل مسكين نصف صاع من بر.
وقال بعضهم: نصف صاع بر، وصاع من تمر.
قول مالك والشافعي، وقال سعيد بن جبير: مُدان، مدٌّ لطعامه، ومدٌّ
لإدامه، ولا خلاف أنْ الذكر والأنثى في ذلك سواء، وذُكِّر اللفظ (عَشَرَةَ)
تغليباً للمذكر،
وقوله: (مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم)
قيل: هو راجع إلى مرات الإطعام، وقيل: هو راجع إلى جنس الطعام، وقيل: راجع إلى قدر ما يطعمون إن أطعم أهله مُداً فمداً، وإن أطعمهم صاعاً فصاعا.
وقال مالَكْ: - يكسوا الرجل ثوباً والمرأة درعاً وخماراً، فذلك أقل ما يجزي فيه الصلاة.
قال الشافعي: يجزي منها قطعة من سراويل وعمامة ومُقْنَعَه.
وأما تحرير الرقبة
أسروا أسيرا شدَّقه إلى عنقه فإذا خُلِّيَ قيل: حرر رقبته، فصار ذلك عبارة عن العتق، وحقُّ المعتَق أن لا يكون به عيب يضر بعمله كالعمى والشلل.
فأما العور فإنه لا يضر، وقيل: يكره عتق المختل، ولا يجوز عتق الصبي
الصغير، قال سليمان بن موسى: الرقبة لا تقع إلا على الكبير، فأما الصغير
فيقال له النَسمَة، وقال إبراهيم: كل موضع في الشرع ذكر فيه رقبة
وقوله: (فَمَن لَّم يَجِد) أي لم يجد فضلاً عن قوت عياله في يومه وليلته، فإن له أن يكفر بالصيام.
وقال قوم: إذا لم يكن عنده مائتا درهم.
وأما الصوم فقد قيل: متتابعات، ولذا قرأ أُبيٌّ - رضي الله عنه -
(فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، واعتبر ذلك أبو حنيفة في الحكم،
وإن كانت التلاوة منسوخة.
وقال بعض الشافعية: قواه ذلك كفارة الحكم.
(إِذَا حَلَفتُم) يدل على
وقوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) أي أقلوا منها ولا تبذلوها لا للغوها، ولا ما يؤخذ بيمين اللغو، وإن لم يؤخذ به فقد يُودي بالإنسان إلى أن يتعود إكثار اليمين، وقيل معناه: إذا حلفتم فلا تنقضوها،
كقوله: (وَأَوفُواْ بِعَهدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّم) وقوله: (أَوفُواْ بِالعُقُودِ)
والصحيح أن الآية تتناول الأمرين - جميعاً
وعلى هذا قول الشاعر:
قَلِيلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمِينِه | وإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّت! |
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يحنث في يمينه ويكفر،
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يفعل، فاستوى فعله وتركه، فإن شاء حنث وكفَّر، وإن شاء حَفِظ اليمين.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي أعلام دينه، أحكامه الدنيوي والأخروي، رجاء أن يعرفوه حق المعرفة، فإذا عرفتموه وفعلتم ما أمرتم يكونون أقرب إلى أن توفوا حق شكره.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
النجس والرجس والرجز متقارب، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالفعل ولهذا فُسر بالإثم والسخط. والخمر بالاتفاق: عصير العنب المشتد، وقد يسمى نقيع البُسر والتمر خمراً،
بشير عن النبي - ﷺ - (إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً)
وهذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الخمر هاتين الثسجرتين من
النخل والعنب) فإنه لا يقتضي أن لا يكون من غيرهما، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (كلُ مسْكرٍ حرام)، يقتضي تحريم ذلك جميعاً، سواء أسكر
ومن شأنه أن يسكر؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الماضى والحال والمستقبل، وقد تقدم الكلام في تحريم الخمر في سورة البقرة.
الميسر الضرب
القمار كله منه أي حكمه حكمُه.
والأنصاب ما نصب للعبادة من الأوثان،
وقيل كان حجرا بين يدي الصنم يذبح عليه،
وعلى هذا قال الشاعر:
...... وَمَا هُرِيقَ عَلى الأَنْصابِ مِنْ جَسَدِ
والأزلام: قداح يكتب على بعضها افعل، وعلى بعضها لا تفعل،
أو يكتب عليها حسن أو مذموم، فكانوا إذا أرادوا أمراً ضربوه
واعتمدوه فيما يفعلونه،
وقوله: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من تربيته.
قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)
فأمَّا الأنصاب فإنها سبب الكفر المحض، وهذه العلة في الخمر تقتضي
مشاركة البُنية إياها.
إن قيل: الذي يصد عن ذكر الله هو شرب الكثير دون
القليل، فحسبه أن يكون هو المحرم؟
قيل: بل ذلك منهما فإن القليل داعٍ مَن شربه إلى الكثير، وشرب الكثير داعٍ إلى ذلك بلا واسطة.
وقوله: (فَهَل أَنتُم مُّنتَهُونَ) نهاية الردع والزجر.
روى أنه لما نزلت الآية الأولى قال: قد مات منا عدة، يشربون الخمر فما حالهم؟ فأنزل الله هذه الآية،
روى أنها نزلت: في قوم كانوا قد حرموا على أنفسهم المباحات،
وروى أن قدامة ابن مظعون شرب الخمر فأراد عمر أن
إن قيل ما الفرق بين الإيمان والتقوى والحسنى؟
قيل: الإيمان: - هو الإذعان للحق على سببيل التصديق له بالتبيين.
هذا وإن كان في المتعارف صار اسماً للتخصيص بشريعة نبينا - ﷺ -.
وبالتقوى: - جعل اليقين وقاية من السخط بالانتهاء عما نهى، والإتيان بما أمر.
والإحسان: تحري الأفعال الجميلة في الإيمان والتقوى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لما قيل له: ما الإحسان؟ فقال: (أن تحبد الله كأنك تراه) وثالثهما مرتبة وإن كان لكل واحد مراتب.
إن قيل ظاهر الآية يقتضى أن المؤمن المتقي المحسن يجوز له أن يتناول ما يريد تناوله والجناح عنه مرفوع، قيل: رفع الجناح عنه، لا لأنه
فيما أردته وارتكبته، يعني أنك مأمون الغاية أن يتعدى طورك،
فبين بالآية أن من صار بهذه المنزلة من الإيمان أحجم عن المحظور وعفي عنه، وعلى هذا قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية.
إن قيل: ما وجه تكرير ذكر الإيمان والتقوى؟
قيل في ذلك أوجه:
الأول: ليس من آمن واتقى فيما كان قد حرم عليه وقت إباحة الخمر وأدام الإيمان واستعمل التقوى، إلا أن في ترك شربه. ثم النهي في غير ذلك واستعمل الحسنى جناح فيما شربه من الخمر، وتعاطاه من الميسر، قبل أن يحرم ذلك.
الثاني: لا جناح في تناول المباح من آمن واتقى فيما مضى، وفي الحال وفي المستقبل، فأما من ترك ذلك في أحد الحالين، ولم يقلع بتوبة فله الإثم.
الثالث: أنه أراد استعمال الإنسان الإيمان والتقوى فيما بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس، وبينه وبين الله.
إما أن يكون الإنسان في أوله وأوسطه أو في منتهاه، وكذا الفسق ثلاث
منازل، كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) فبيَّن أن الإنسان إذا استوعب المنازل الثلاث فقد كمل
وصار بحيث لا يتناول إلا المباح فلا جناح عليه لذلك فيما طعم.
الخامس: أن للتقوى ثلاث منازل:
الأول: ترك المحرمات،
الثاني: ترك الشبهات،
الثالث: ترك بعض المحللات تهذيباً لنفسه، لا تحريماً ومن بلغ هذا
المبلغ فلا جناح عليه فيما يتناوله بعد ذلك،
وبيَّن بقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أن من فعل ذلك فقد صار محسناً،
وإذا صار محسناً صار لله محبوباً فإن الله يحب المحسنين.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
وقوله: (بِشىَءٍ منَ الصَّيدِ) قيل: - (مِن) للجنس أي بصيد البر دون البحر وصيد الإحلال دون الإحرام،
وقيل للتبيين لقوله: (فَاجتَنِبُواْ الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ)،
وقيل: للتبعيض أي من أجر الصيد ما يمكن اصطياده،
وقوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي ما كان مستأنساً منه،
وقيل: فراخ الطيور، وصغار الوحش والبيض،
فقد روي: (أنه أتى النبى - ﷺ - بيضتان
نعام أصابها محرم ثمنه، وما تناله، وما حكمه هي الممتنعات، ولم يعن الرماح فقط بل عناها وسائر الأسلحة، أي جعل تعالى ذلك ليكون ذريعة إلى ظهور أفعالكم وما يستحقون به الجزاء،
وقيل: إن قوله: (لَيَبلُوَنَّكمُ) أي يوجب الله تعالى ذلك عليكم لترضوا به
أنفسكم، وتتوصلوا إلى الامتناع عن محارمه الخفية، ليعلم بذلك كيف تضبطوا أنفسكم حتى لا يطلع عليكم غيركم وإنما يطلع عليه رب العزة، وذلك إشارة إلى خفيات القلوب والسرائر.
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي من تعدى في هذه الظواهر بعدما حظر عليه فيما ولا يراعي أمره فأولئك هم الذين يتعدون ويستحقون العذاب الأليم.
ذكر لفظ القتل دون الذبح والذكوة لأمرين:
أحدُهما: - أنه أعم الألفاظ في ذلك،
والثاني تنبيه أن ما يصيبه غير مذكي والصيد هاهنا
مخصوص في كل متوحش يؤكل لحمه عند أكثر الفقهاء،
بدلالة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم، الحيَّةُ والفأرة والعقرب والكلب العقور)،
وفي خبر آخر: (الذئب والفأرة والغراب والحدأة)،
واختلف في الصيد بتذكية المحرم هل يأكله حلال؟
فأجراه بعضهم: مجرى ذبح المجوسي والوثني،
وأجراه بعضهم: مجرى ذبح الشاة المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوب،
(وَأَنتُم حُرُمٌ)، أي مُحرمون - بحج أو غيره، أو داخلون
في الحرم، وأجمعوا أنه لم يرد أنهم في الشهر الحرام، وإن كان اللفظ
يحتمله، وقوله: (وَمَن قَتَلَهُ ومِنكُم مُّتَعَمِّدًا) فيه ثلاثة أقوال: -
الثاني: ما روي عن مجاهد أنه إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه
الجزاء، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه.
الثالث: وهو الأكثر أن عليه الكفارة، على كل حال وتخصيص العمْد بالذكر لقوله: (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ) وذلك تخصيص بالعامد دون المخطئ، وأكد ذلك بأن الأصول تقتضي المساواة بين العمْد والخطأ فيما يختص بإتلاف المال.
قد تقدم أن المثل يقع على الند الذي هو مماثلة في الجنس،
وعلى الشبه الذي مماثلة في الكيفية، وعلى المساواة التي هي
المماثلة في الكمية، وعلى المشاكلة التي هي المماثلة في الهيئة،
فلما كانت المماثلة لا تختص، صار اللفظ مشتركاً.
فاختلف فيه فاعتبر ابن عباس: المماثلة في الخِلْقَة،
وإليه ذهب سعيد بن جبير وقتادة ومالك والشافعي،
واعتبر عطاء ومجاهد المماثلة في القيمة،
وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقالوا: إن شاء اشترى بها طعاماً، فأعطى كل مسكين مُداً، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.
وفي الآية قراءتان: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) بالتنوين، (وجَزَآءُ مثلِ)
بالإضافة، فإذا قرأ بالتنوين فلأنه يجعل الجزاء اسماً لا يجازى به مثل أي مماثل
لما قتل.
وقوله: (مِنَ النَّعَمِ) في موضع الوصف للجزاء.
قيل: هو أجود من الإضافة فإن الواجب هو جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثل المقتول،
فإن قيل: المقتول ليس بمقتول فيكون له جزاء، وإذا أضيف جزاء إلى مثل، فذكر المثل هاهنا كما من نحو أنا أكرم مثلك وجعلنا أكرمك،
وقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) أي يجب أن يحكم بذلك عدلان،
وروى قبيصة بن جابر قال:
فأقبل على رجل إلى جنبه فنظرا في ذلك فأتيت صاحبي وقلت إن عمر لم يدر لم يحكم حتى جمع صاحباً له، فسمع ذلك عمر، فأقبل علىَّ ضرباً بالدِّرة، وقال أما سمعت (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) وهذا ابن عوف وأنا ابن الخطاب.
وقوله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)
قال الشافعي عنى عدل الهدي، وذاك أنه يقوِّم الهدي،
وقال أبو حنيفة: عنى عدل الصيد فإنه يُقوِّم الصيد،
وقوله (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) إخبار أنه لا يجوز نحر الهدي إلا في الحرم
، واختلف في الطعام، هل يجوز غير في الحرم؟
وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)
وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)
روي عن جماعة أنهم كانوا لا يحكمون على المحرم إذا أعاد
إلى القتل الصيد وكان إذا استفتوا يقولون: هل جنيت شيئاً قبل فإن قال:
نعم، لم يحكموا عليه، وإن قال: لا، حكموا عليه،
وقول فقهاء الأمصار أنه يحكم عليه بكل حال.
البحر: يتناول كلًّا مالحاً كان أو عذباً، في جدول كان أو في نهر.
قال تعالى: (وَمَا يَستَوِي البَحرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ)،
وقوله: (وَطَعَامُهُ) أي ما قذف به البحر ميتاً،
وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
فعلى الأول قال بعض العلماء: أكل المصيد على كل حال غير محظور.
يا رسول الله: أصبت حمار وحش وعندي فضله، فقال كلوا فنحن
حرم)،
وعلى الثاني قال بعضهم: الاصطياد محرم، فأما أكل ما يصيد غيره
فيجوز، واستدل على ذلك ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام:
(وقد سئل عن الصيد فقال: (حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوا أو يُصاد لكم).
أن ما اصطاد المحرم أو صيد له من صيد البحر غير محرم عليه،
قال الحسن (وَطَعَامُهُ) يعني البُر والشعير ونحوهما مما يتغذى بالماء،
وقيل: عنى ما مات فيه.
وعليه دل قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(الطهور ماؤه الحل ميتته).
وقيل: يتناول ذلك كل ما في البحر إلا ما استثناه السنة.
وقوله: (مَتَاعًا) مصدر مؤكد، كقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
بعد قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ).
قوله عز وجل: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
الكعبة: بيت مَرْبَع شبيهاً مكَعب ومنه قيل: كَعْبُ ثدي المرأة.
وقوله: (البَيتَ الحَرَامَ) يصح أن يكون بدلاً من قوله:
ثانياً، ويصح أن يجعل (البَيتَ الحَرَامَ) مفعولاً ثانياً، ويجعل (قِيامًا)
حالاً، والقيام، والقوام ما يُقوم به الأمر في معاشهم وصلاح أبدانهم،
ونقاء نفوسهم، ونبه تعالى أن الإنسان إذا تفكر فيها بيَّن الله لهم من يعظِّم
الكعبة أ. والشهر الحرام والهدي والقلائد.
فنبهه بذلك أن الله تعالى لإحاطة علمه بالأشياء قبل كونها ومعرفته لمصالح العباد جعل ذلك سبباً لعبادتهم لله تعالى،
قال الأصم: (قِيامًا لِّلنَّاسِ) أي: دائماً لهم لا يُنْسخ حكمه،
وقال الحسن: يعني بالشهر الحرام: الأشهر الحرم فأخرج اللفظ
مخرج الواحد،
فإن قيل ما فائدة قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد
قوله: (مَا فِى السَّموَات وَمَا فِى الأَرضِ)؟
قيل: إن لفظ قوله: يعلم إخبار عن المستقبل (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أن ليس علمه مقصور على ما تقدم، بل هو عالم الغيب والشهادة،
إن قيل: كيف جعل قياماً علة لعلمنا أن الله يعلم ما في السموات والأرض؟
ونبه أنه تعالى قيض إما باعث من خارج أو باعث من داخل على تحريم
القتال في الشهر الحرام، ولتعظيم الكعبة ليكون ذلك سبباً لمصالح الناس التي من تفكر فيها علم أن الله فعلَه لعلمه بالخفيات.
قوله عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
نبه بذلك أنه تعالى حيث سخر هذه الأمور وبينها دل ذلك أنه فعل ذلك لما أراده من عباده ليثيب المحسن ويعاقب المسىء، وذلك يقتضي أن يعلموا أنه يعاقب قوماً ويرحي قوماً كيفما تقتضيه حكمته.
قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩)
الرسول المبعوث في أمر وأصله السائر على رِسْلٍ، ومنه تَرَسَل في القراءة إذا أمر فيه بلا تكلف، والرِّسْلُ اللبن، وكأنه اسم
للمرسل من الضرع كقولهم البعض، والبعث، والبَلاَغُ: وصول المعنى
إلى المقصود به، والبَلاَغَةُ رابع يتصل به المعنى إلى النفس وفي هذا بَلاَغٌ كفاية يبلغ بها مقدار الحاجة، أي الرسول قد بلغ ما أمر وليس عليه أكثر من ذلك في أمر الرسالة ثم الله يتولى السرائر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أقضي بينكم بالظاهر ويتولى الله السرائر).
الخَبِيثُ: هو الباطل في الاعتقاد. والكذب هو المقال الطالح في الفعال، وأصله الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الذي تظهر ردأته في الاختيار ولهذا
قال الشاعر:
سَبَكْنَاهُ ونَحْسِبُهُ لُجَيْنَاِ | فَأبْدَى الكِيرُ عن خَبَثِ |
لا قدرة له بالمرأى، فبين الله تعالى الطيب وإن استقللتموه فخير من الخبيث، وإن استكثر قوة حتى يعجبكم كثرة، ونبه أن الاعتبار في الأشياء ليس بالقلة والكثرة وإنما ذلك بالجودة والرداءة، فالمحمود القليل خير من الذميم الكثير، ولهذا قيل: أقلل وأطب.
وقال: (قُل مَتَعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ)؟
قيل: استكثاره للخبيث هو على نظر المغترين بالدنيا،
واستقلاله هو على ما عليه حقيقة الأمر.
وقوله: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) ليس بخطاب للنبي - ﷺ - فقط بل هو خطاب لكل معتبر.
كقول الشاعر:
تَرَاهُ إذا مَاحَييتَهُ سَهْلاً | كَأنكَ تُعْطِيهِ الذي أَنت قَائِلُهُ |
أن التقوى هى التي تُبَلِّغ.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
أي ما فضل عن القوت، وتارة يقال لترك الشيء، قبل وجوبه كقوله عليه
الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق).
وتارة يقال لترك
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه خرج يوماً غضبان وجلس على المنبر فقال: (لا أُسأل عن شيء إلا أجبت، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال: في النار، وقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والله يعلم من آباؤنا)، فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنه كان في الحج لما قال سراقة بن جعشم له عليه الصلاة والسلام: - أفي كل عام فقال عليه الصلاة والسلام: (لو قلت نعم لوجبت) الخبر.
دون سؤال، وقوله: (أَشيَاَءَ) عند الكسائي بناها أفعال، قال: ولم
يصرف تشبيهاً بحمراء، وهذا يلزمه أن لا يصرف أنباء، وعند الأخفش
والفراء أنها أفعلاء، ويلزمهما أن يصغر على شيئان وقد امتنع من ذلك، وعند
قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنها) أي عن الأشياء المسؤول عنها، وقيل عن
المسألة، والقولان في التحقيق واحد.
إن قيل ما موضع قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنهَا) وما فائدة الإتيان بذلك؟
قيل هو وصف لقوله: (أَشيَاَءَ) كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها، أي لم يكلفكم السؤال عنها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل) أي لم أوجبها، وذاك لأن الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب: ضربٌ يجب السؤال عنه:
فقال: (قتلتموه، هلا سألتم عنه، شفاء العيي السؤال)،
وضربٌ يكره أو يحظر السؤال عنه، إياه توجه قوله عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء)، وضرب يحبون السؤال عنه والسكوت عنه، وهو ما يحب أن يحمدوا
لا يؤخذ به
ثم قال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أًي غفور عنكم ما سبق منكم حليم لا يبطش بكم فيما ارتكبتم.
قوله عز وجل: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢)
والطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام متقاربة
ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها، لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك، وفيما تطلبه بنفسك.
والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك،
فكل سؤال طلب، وليس كل طلب سؤالاً،
والسؤال يقال في الاستعطاف، فيقال سألت فلاناً كذا.
ويقال في الاستخبار، فيقال سألته عن كذا،
وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر،
وذلك أخص من السؤال، وكل استخبار سؤال،
وليس كل سؤال استخباراً.
والاستفهام طلب الإفهام وهو أخص من الاستخبار.
فإن قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار، وليس استفهام وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والاستعلام: طلب العلم فهو أخص من الاستفهام،
إذ ليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن، ويحتمل أن كل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما.
أحدهما: أنه استخبار، إشارة إلى نحو قوله لأصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله: (قَد سَأَلَهَا) وبين قوله: قد سأل عنها.
والثاني: أنه استعطاف إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى عليه الصلاة والسلام، والسائلين من صالح عليه الصلاة والسلام الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها،
وقوله: (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أي كفروا ولم يعترفوا،
أو يعني كفروا تشبيها.
قوله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
الجُعْلُ عام فيما يكون قولاً وحكماً، وفيما يكون عملاً وصنعاً،
ويكون تارة بمعنى صار، ولا يتعدى كقولك جعل فلان يقول كذا،
وتارة بمعنى صيَّر، ويتعدى إلى مفعولين كقولك: - جعلتُ الطين خزفاً، وجعلت زيداً عدلا، أي حكمت بذلك،
وتارة بمعنى فعل، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك هذه الآية،
وجعل بالجُعْل هو الحكم لإيجاد العين، فإن الله تعالى موجد هذه الأعيان، ولكنه غير حاكم فيها
حكموا بذلك، وحكمهم بذلك لافترائهم على الله، وافترائهم على الله من حيث أن أكثرهم لا يعقلون، فجعل علة حكمهم بذلك افتراءهم على الله، وجعل علة افترائهم على الله كون أكثرهم لا يعقلون.
إن قيل لما خص أكثرهم أنهم لا يعقلون؟
قيل: إنه إشارة بذلك إلى ديانتهم المقلدة دون الذين علموا بطلان
فعلهم لكن يمنعهم لرئاستهم أن يقلعوا عن ذلك مع معرفتهم ببطلانه.
ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أماثلهم الذين يتبعون العقل وإن كانوا يعلمون ببطلان ما يفعلون.
البحيرة: - الناقة المشقوقة الأُذن، وهي كل ناقة نتجت خمسة
أبطن من كانت الخلقة أنثى شقوا أذفا فلا يُجَزُّ لها وبر، ولا يذكر اسم الله
عليها إن ذكيت، وحُرم على النساء لبنها، وإن ماتت اشتركت الرجال والنسل في أكلها.
والسائبة: المسيبة وكان أحدهم ينذر، لأنه يخلص بناقته
أخاها، فيذبحونه لآلهتهم.
والحامي: الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، وكان يقال حمى ظهره، فيسيب ولا يركب.
قوله عز وجل: - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
قال أهل اللغة: أصل تعالي دعا إلى العلو، ثم استعمل في
كل مكان علوا كان أو سفلاً، وقيل: إن ذلك يقال اعتباراً بالعلو الذي هو
المرتبة الرفيعة، فإذا قيل تعالي كأنه قيل اطلب بفعلك هذا علواً وشرفاً كقولك لمن دعوته تفضل أي اطلب بذلك الفضل وانعم ونحو ذلك،
ثم كثُر وصار كأنه موضوع المجرد.
والمعنى إذا دعوا إلى الكتاب والسنة أعرضوا وزعموا أنهم
مكتفون بما شاهدوا عليه آبائهم كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).
الألف دخل للتعجب من جهلهم أي أو يكفهم ذلك، وإن كان آباوُهم
لا يعلمون، فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم،
وأشير بأنهم من جملة الفرقة الثالثة الذين وصفوا فيما رُوي:
(الناس عالم، وتعلم، وحائر نافر لا يطيع مرشداً).
وقال على رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم
على سبيل نحاه ونهج رعاع وأتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجاؤا إلى ركن وثيق فيمتنعوا).
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
قيل لا يضّركم ولا يَضِيركم من ضَارَه يُضِيَره يَضُورُه
وجُعِل جواباً.
ولا يضُّركم الأجود أن يكون رفعاً لا جواباً وإن جاز أن
يكون في موضع الجزم على الجواب على معنى أنكم إن أصلحتم أنفسكم، ولم يتحروا ما فيه فسادكم وإفساد غيركم، لم يضركم فلا يكونا كمن قبلهم
وليس في الآية حثٌّ على ترك النهي عن المنكر كما نقله قوم، فقد تقدم حث الله على ذلك في آيات كثيرة نحو قوله:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وقال حاكياً عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧).
ومدح القائلين بذلك فقال: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)،
ويدلك على
ومن الاهتداء إنكار المنكر.
وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: (إني أراكم تتناولون هذه الآية:
(عَلَيكُم أَنفُسَكُم) وقد عهدنا رسول الله - ﷺ - علمنا هذا على هذه الأمور وهو يقول: إن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمهم الله بعقابه)، وما بينكم وبين أن يعمهم بعقابه إلا أن تناولوا هذه الآية على غير تأويلها، وإنما المعنى لا تعتدوا بآبائكم واحفظوا أنفسكم أن تزِّل كما زلَّ غيركم، وإذا اهتديتم فليس عليكم من ضلال من خالفكم شيء. كقوله: (لَّيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم)،
قيل: وفيها حثٌّ على أن نظر الإنسان لنفسه أن يهذب نفسه
قبل أن يهذب غيره، وأن يعتبر حال نفسه قبل اعتبار حال غيره.
وعلى هذا: (قُوَاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا).
فأمر أن يبدأ بنفسه.
وقيل: إن ذاك إشارة إلى ترك النهي باليد واللسان، حيث يعلم أنه لا يغني ولا يجدي كما ورد في الخبر (إذا رأيتم هوى متبعا وإعجاب المرء بنفسه فعليكم أنفسكم).
ولا يضركم منهم شيء، وقيل: إن ذلك إشارة إلى وقت مخصوص.
فقد روي عن رسول الله - ﷺ -:
(ترك النهي إذا قدم كنيسة دمشق فجعل مسجداً، وإذا رأت الكاسيات العارية).
قيل: هذا كان في زمن الوليد بن عبد الملك، فهو الذي هدم الكنيسة وضمها إلى المسجد.
الواعظ وأنكر الموعوظ، وقيل: عنى بقوله: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم) أي
لا تعتد بهؤلاء فيما يفعلونه من الشر وتركن إليهم وتستمرئ لنفسك ما تستمرئ لغيرك. كما يفعله كثير من الناس في أنهم يأخذون برخصهم فيؤدي ذلك بهم إلى الهلاك، وهذا كقولهم: كل شاة تناط برجليها.
وقيل: إن ذلك توكيد لقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي عليكم في أسئلتكم بما يعود منافعه عليكم لا يضاركم ولا يضركم كقولهم: - الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كفيت.
وقيل: معناه عليك نفسك فاشغلها قبل أن تشغلك
فإن لم تصلحها أفسدتك.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)
به المقسم على تقدير فيقسمان، ويقولان: - تالله لا نشتري.
ويجوز أن يكون متعلق بيقسمان، فيكون قوله: (لَا نَشترِي) على تقدير: والله لا نشتري فهذا تقدير الآية.
فأما إعرابها: فقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم) يجوز أن يكون
مبتدأ وخبره قوله: (اثنانِ) كأنه قيل: شهادة بينكم شهادة اثنين.
وقيل: يكون (شهادة بينكم) مبتدأ وقوله: (اثنانِ) فاعل، ويرتفع به، ويستغني عن خبر الابتداء كقولهم: - قائم الزيدان.
وقوله: (إِذَا حَضَرَ) خبر، لقوله: (شَهَادَةُ)
وقوله: (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من قوله:
(إِذَا حَضَرَ) وقيل هو ظرف لقوله: (إِذَا حَضَرَ)، وحضور الموت:
وقوله: (أَوْ آخَرَانِ) ليس على التخيير، بل معناه: إنما يقبل الآخران في السفر خاصة، إذا عدم العدلان وأمَّا فيهما فقد اختلف في قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال بعض الفقهاء: إذا كان من غير قبيلتكم، ولم يعن من غير المسلمين، لأن شهادتهم لا تقبل علينا بوجه، ويقوي ذلك بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) وقال إنما يفعل بمن في قلبه استعظام الصلاة فينزجر عن اليمين مخافة العقوبة، وإلى هذا ذهب الحسن.
قوله: إنه أريد من غير قبيلتكم.
وقال بعضهم عنى من غير المسلمين، قال والقصة التي نزلت الآية في سببها
بنجران فخرج معهما مولى لعمرو بن العاص يقال له بديل، ومعه متاع.
فلما قدموا الشام مرض المولى وكان مسلماً فكتب وصيته ولم يعلم بذلك تميم
وعدي، وقدما المدينة، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص، وأخبراه بموت
بديل، فقال عمرو: ولقد توجه من عندنا بأكثر من هذا المتاعِ، فهل باع
شيئا، فقالا: لا، فمضى بهما إلى النبي - ﷺ - فأحلفهما أن بديلاً ما ترك غير هذا، ثم إن عمرو بن العاص ظهر على آنية فضة عند تميم، فقال هذه الآنية لي وهى مما كان مع بديل، فقالا: كنا اشتريناها منه، فقال عمرو: لقد سألتكما
وقد حكم أبو موسى في مثله بذلك، وقال هذا حكم ثابت غير منسوخ.
وقال بعضهم: - ذاك في الكافر في أول الإسلام ثم نسخ بآية
الشهادة، ولا يجوز الآن شهادة الذميّ على المسلم بوجه، وقد بيَّنت أن لا يمين على الشاهد بوجه، ولا يجوز الارتياب على الشاهد لمكان اليمين، ولا يجوز
(فَيُقسِمَانِ) ليس بإيجاب، وإنما هي أن يبتدئ الشاهد فيحلف من غير أن
يُحلًف، فذكر أنه لا يعرج على يمينه ولا يعتد به، وإنما كان منسوخاً أن لو
كان ذلك واجباً.
إن قيل: لما قال: (لَا نَشتَرِى بِهِ ثَمَنًا) والثمن هو الذي يُشْتَري به
لا يشتري هو؟
قيل: قد قال بعض أهل اللغة: - أراد ذا ثمن فحذف المضاف، وقيل: إن كل شراء بيع وليس كل بيع شراء، وذلك يختلف بالاعتقاد في الثمن والمثمن، ولهذا قيل: بعتُ واشتريت من الأضداد، فعلى هذا
كأنه جعل الثمن مصوراً بصورة البيع، فلهذا قيل ذلك وقد دل في موضع آخر: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
وقوله: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي للميت، ولو كان المشهود قريباً وذلك لما في طبع الإنسان من ميله إلى أقاربه، ومن هذا الوجه رد شهادة الأب للابن، والابن للأب، وأضاف
وقرأ
الشعبي: (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ) بالتنوين، وجعل الله مجروراً ومنصوبًا
على تقدير القسم.
قوله عز وجل: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
قوله: (الأولينِ) يحتمل إعرابه أوجهاً:
الأول: أن يكون مبتدأ وقوله: (فَآخَرَانِ) خبر.
وتقديره: إن عثر أنهما استحقا إثماً أي أن اطلع وقف على أن الشاهدين
هما الآخران من غير أن يحيفا في شهادتهما فاستحقا إثماً، فالأوليان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم أي من أهل الميت،
ويجوز أن يكون قوله: (فَآخَرَانِ) مبتدأ، و (الأَولَينِ) خبره،
ويجوز أن يكون قوله:
من قوله: (فَآخَرَانِ) أو من الضمير في قوله: (يَقُومَانِ) أو يكون
خبر ابتداء مضمر، فهذه ستة أوجه في إعرابه،
وقد أجاز أبو الحسن وجهاً سابعاً: وهو أن يكون: (الأَولَينِ) صفة لقوله: (فَآخَرَانِ) قال: ويجوز ذلك، وإن كان قوله: (فَآخَرَانِ) و (الأَولَينِ)
معرفة، لأن ذلك تعريفه للجنس، وقوله: (فَآخَرَانِ) قد وصف، والنكرة
الموصوفة قريبة من المعرفة بالألف واللام الدالة على الجنس،
ولهذا صح أن يوصف ما فيه الألف واللام بغيره مثل في نحو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
وحُكي: مرَرْتُ بالرجل مثلك، وذلك أنهما (الأَولَينِ) أي هما أولى من غيرهما، لأنهما أعرف بأحوال الميت، ولأنهما من المسلمين، فإن الخطاب من أول الآية مصروف إليهم،
ظاهره كقولهم: استحق على فلان مال، أي لزمه ووجب عليه الخروج
منه.
الثاني: أن يكون قوله: (عَلَى) بمنزلة (مَنْ) كقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي منهم.
الثالث: أن يكون بمنزلة في موضع (عَلَى) مقام (في) كما وضع (في) مكان (على) في قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخلِ).
وقرأ إسحاق (عليهما الأوليان)
الذي هو المستحق محذوف.
وقرأ: (مِنَ الَّذِينَ استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) الجمع، أي من الأولين الذين استحق عليهم، هذا المعنى فيكون
قوله: (الأَولَينِ) بدلاً من الذين.
وقرأ ابن سيرين: (مِنَ الَّذِين استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) تثنية الأول وليس ذلك بالوجه، فقد قال: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) فكيف يقول بعده الأولين.
قوله عز وجل: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨)
في نفسه، وإمَّا لخوفه أن تُردَّ أيمانه على الأوليان بعد أيمانهم فيحلفوا على جنايتهم فيُفضحوا، فيقيمون الشهادة على وجهها تفادياً من ذلك،
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) إما توحدون به فإنكم إن لم تتقوا ولم تسمعوا لصرتم فاسقين، فإذا فسقتم لم يهديكم الله، فالله لا يهدي القوم الفاسقين. إن قيل لم قال: (يَأتُواْ) فذكر بلفظ الجمع، وما تقدم هو تثنية؟
قيل: لأنه لم يعنهما فقط بل عنى الناس كلهم، أي ذلك أدنى أن يصير الناس هكذا.
قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
قيل تقدير الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية،
وإنما المعنى لا يهديهم إلى طريق الجنة في ذلكٍ اليوم.
وقيل: معناه اذكروا يوم، ويكون اليوم مفعول فعل مضمر لا ظرفاً،
لأنه لم يرد اذكروا في ذلك اليوم.
أنفسهم وذلك كذب؟
قيل: في ذلك أوجه: الأول: قال الحسن: من هَوْلِ
ذلك اليوم نَسُوْا كل ما عملوه،
فإن قيل: وكيف يصح ذلك، وقد قال: (وَلَا خَوفٌ عَلَيهِم)،
وقال: (لَا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ)؟
قيل: إن معنى لا يحزنهم ولا خوف عليهم أنه لا يصيبهم ما يقتضيه
الخوف، إلا أنه يعتريهم، وهذا كقولك لمن يرتعد خوفاً لا خوفاً عليك، أي
لا يحق خوفك.
الثاني: قال ابن عباس: لا علم لنا بالإضافة إلى علمك، وهذا
لمن استخبر من هو أعلم بالخبر منه، فيقول: لا علم لي.
التالث: أن السؤال يقع على ما اعتقده، لا ما أظهروه، وذلك لا علم للأنبياء به، إنما يعلمه المطلع.
الرابع: أن قوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) سؤال عن كل ما أجيبوا، لا عن بعضه، وهم عرفوا بعض ذلك، ولم يعرفوا أكثره، فقالوا: لا علم بكل ذلك
ووجه هذا السؤال توبيخ الكفار كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وعَلَّامُ: لمن كثر علمه، ولم يوالي بعلمه، وهو في هذا الموضع لهما.
قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
كأنه قيل: اذكر وقت ما قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك، يعني: اذكر يوم القيامة، وقيل تقديره: ماذا أجبتم إذ قال الله.
(وإِذ أَيَّدتُّكَ) فعلتُ من الأيدِ أي القوة، وقرأ (أَيَّدتُّكَ) وهو أفعلت منه، وقال الزجاج: يجوز أن يكون فاعلت منه نحو عاونت.
ومن نعمة الله على والدتك أن اصطفاها على نساء العالمين، وأن جعل لها النخل حيث قال:
وروح القدس: جبريل.
قيل: هو تقديسه وروحه هو نفخة فيها من روحه.
والكتاب قيل: عنى بالكتاب، وقيل: بل باسم كل كتاب أنزله تعالى، ثم خص التوراة والإنجيل تعظيماً لهما.
وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي تهدي الناس في حالة الصغر
والكبر بخلاف ما كان عامة الأنبياء والحكماء، وذكر الإذن في الأمور الإلهية التي خصه الله تعالى بها تنبيهاً أن ذلك لم يكن للآلهة فيه بل كان ذلك بإذنه ومن فضله عليه، وتخصيصه به، ولم يذكر في قوله: (وَإِذ عَلَّمتُكَ) وفي قوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ) فإن في هذين قد شارك المسيح غيره.
وكف بني إسرائيل عنه قد كان من بعضهم بالعصمة، ومن بعضهم بالحجة، ومن بعضهم
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فعلك سحر، وقرأ (إن هذا إلا ساحر) أي عيسى عليه الصلاة والسلام.
قوله عز وجل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (١١١)
الحواريون، روي أنهم كانوا قصارين، وروي أنهم كانوا صيادين.
وقد قال بعض المحققين: يعني أنهم سموا حواريين، أي كانوا يغسلون نفوس البشر عن النجاسات النفسية، ويعني أنهم صيادون أنهم يصيدون الناس عن
الباطل، ويجعلونهم في شبكة الحق، وقد شرح ذلك في كتاب (مكارم
الشريعة)، وسمي حاشية الرجل حوارية تشبيهاً بأصحاب عيسى عليه الصلاة
والسلام.
والوحي هنا قيل: هو على سبيل الإلهام، والتوفيق نحو:
الباهرة.
وقيل: على لسان نبيهم، فالوحي قد يقال في كل ذلك نحو:
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا) أي على لسان نبي.
وقوله: (وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) يعى بالإلهام.
وقوله: (فَأَوحَى إِلَيهِم أَن سَبِّحُواْ بُكرَةً وَعَشيًّا)
قال بعض الحكماء: كما أن كل ساكت ناطق من جهة الدلالة،
فكل دال على معنى من الله فهو وحي منه وعلى هذا قال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦).
وهذا معطوف على ما ذكر تعالى.
ومن نعمه عليه فهمه، وأشهد خطاب فهم لعيسى على سبيل الاستشهاد
منهم، والإسلام هاهنا أبلغ من الكتاب فإنه يقتضي الاستسلام المذكور في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١).
(إِذ) هاهنا لم يجعله معطوفاً، بل جعله داخلاً في فعله.
قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إليهم في وقت ما قالوا كذا،
واستفهامهم عن استطاعة الله، قيل: فيه أقوال:
الأول: أنهم قالوا ذلك قبل أن تستحكم معرفتهم بالله.
الثاني: قال الحسن: هل ترى أن يفعل، كقولك
القادر المتمكن هل يمكنك أن تفعل كذا، وهذه الاستطاعة على ما يقتضيه الرأي والحكمة، لا على ما يقتضيه القدرة، لأنه قد يقال: فلان لا يستطيع كذا وليس
الثالث: إن استطاع وأطاع يعني كقولهم استجاب وأجاب،
ومعنى: (هَل يستطيعُ) أي هل يستطيع أن يجيب، كقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي يجاب، وقرأ الكسائي (هَل تستطيعُ رَبَّكَ) ونصب
رَبَّكَ، يعني هل تستطيع سؤالِكَ ربِّكَ.
والمائدة قيل: أصله من ماد، المنكّر يميد إذا أمتك ذا نحوك.
وقيل: من ماد أعطاه، وامتاده، استعطاه،
قال: أبو عبيدة فلفظها فاعله، ومعناه مفعول نحو: (عيشةٍ راضِيَةٍ).
وقيل: بل هو معنى الفاعل، فوصف بذلك كما يقال: شجر ومطعمة، أيضاً يقال مائدة
تقلعوا عن السؤال بل ذكروا علة سؤالهم.
فقالوا نريد الأكل منها وأن يكون سببا لاطمئنان قلوبنا، كما قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فحينئذ سأل الله عيسى ذلك متضمن أن يتخذوا ذلك اليوم يوم عيد.
وقوله: (وَارزُقنَا) قيل ارزقناه، وقيل: ارزقنا شكره، فضمن الله
ذلك أن ينزلها بشرط أن من يكفر بها عذبه أعظم تعذيب.
قيل إنه أراد أن يمسخهم قردة وخنازير.
وقيل: بل عني عذاب الآخرة، المعنى بقوله: (وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أَكبَرُ)، فاختلفوا هل أنزل الله ذلك؟
فقال الحسن: - إن ذلك استفراض من الله تعالى، ووعد بشرط أنهم إن أرادوها بهذه
وقال غيره بل ذلك وعد من الله تعالى، ووعيد مقرون به لا يشترط في الوعد وقد أنزلها.
فمن قال بذلك، قال كانت تلك المائدة طعاماً من الأرز والسمك، وأن عيسى قال لهم: - صوموا كذا يوماً، ثم سألوه فصاموا، فأنزل الله سبعة أحوات، وسبعة أرغفة.
وقال ابن جبير: كان على المائدة كل شيء إلا اللحم، وأنزل الله
ذلك يوم الأحد فجعلوه عيداً.
وقيل: أكل منها أربعة آلاف رجل، وبقيت على حالتها، ثم كفر بها قوم فمسخهم الله قردة وخنازير.
وحمل بعض المتصوفة الآية على المثل والإشارة، وقال: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، وعلى هذا جعل النبي - ﷺ - القرآن مأدبه فقال: (القرآن مأدبة الله في أرضه).
ولم يكتسبوا الحالة التي تمكنهم الوقوف عليه، فقول عيسى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حثٌّ منه على اكتساب التقوى واستعمالها.
فيقول: إن حصلتم الإيمان وهو العلم الحقيقي، فاستعملوا التقوى فبها تنال هذه المنزلة.
ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
فلما ألحُّوا في السؤال سأل عيسى فقال: (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وقال وهذا كما سأل إبراهيم فقال:
الحالة، وكان منه حال ينافي الإيمان عذب أشد العذاب، فقد قيل: صغائر
العامة كبائر الأولياء، والقليل من ذنوبهم يعظم عقابه فإذا يعذب ما كان
من كفره عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فمن بلغ مبلغهم، ولم
يؤتوا بما أوتوا.
الله أعلم بالحقائق.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
إن قيل: (وَإِذ قَالَ) إخبار عما مضى، فمتى كان هذا السؤال؟
أحدهما: أدن ذلك إخباراً عما يكون يوم القيامة، فذكر لحظة الماضي تقريباً للفعل، وإخبار بأنه في حكم ما قد كان كما قال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ).
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) ونحو ذلك.
والثاني: أن ذلك قاله حين رفعه إلى السماء وجهة سؤاله مع علمه تعالى إن لم يكن من عيسى ذلك. وتبكيت للكَفْرةِ وتكذيب لهم.
إن قيل ما وجه قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وهم لم يتخذوهما من دونه، وإنما اتخذوهما معه وأيضاً فإن هذا متعين أنهما لو اتخذوهما إلهين معه لكان يجوز لأنك إذا قلت اتخذت فلاناً دوني صفياً فإنما أنكر إفراده باتخاذه.
أحدهما: أنكر اتخذتموهما معبودين، ولم يتخذوه معبوداً، وذلك أنهم لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يعبد معه غيره، فلهذا قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ).
والثاني: أن: (دُونِ) هاهنا للقاصر عن الشيء وهم
عبدوا المسيح وأمه فيما توصلا إلى عبادة الله. كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا: (مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى)، فكأنه قيل:
أنت قلت اتخذوني إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال سبحانك منزهين عن
ذلك، وأنكر أن يقول ما لا يحق أن يعلمه تعالى.
وبيَّن أنه علام الغيوب فيما خفى علمه عنا فيه.
إن قيل ما وجه قوله: (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فأثبت لله نفساً. ؟
قيل: النفس عبارة عن الذات، يقال: جاءني فلان بنفسه، وقيل عنى في معني مقابل النفس بالنفس.
وهذا كما روى (الريح من نفس الرحمن)، ونحو ذلك،
وقيل: القصد إلى نفي النفس عنه، فكأنه قال تعلم ما في نفسي ولا نفس لك، قصد إلى نفى التركيب
قال وعلى هذا قال الشاعر:
لا ترى الضبُّ بها يتحجر
قصداً إلى أن لا ضب ولا حجر هاهنا، فيكون من الضب الأحجار.
وقيل:
عئ تعلم ما أنا عليه، ولا أعلم ما أنت عليه.
وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)
قيل: إن بدل من الهاء، وقيل: إن بدل من (مَا)، وقيل: خبر ابتداء
والرقيب المطلع على الشيء الحافظ له.
إن قيل: كيف قال: (فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى) وقد قلتم إن عيسى
عليه الصلاة والسلام لم يقتل؟
معنى التوفي أخذ الشيء وأيضا وليس هو الموت، وإنما الموت بعض الذي يقتضيه لفظ التوفي، ألا ترى إلى قوله تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) فجعل
النائم متوفي، فقوله: توفاه ورفعه. بمعنى.
وقيل: إن الله تعالى نفى أنه صلب كما زعموا، فإنه تعالى رفعه ثم أماته، وبيّن في الجواب أنه كان يرقبهم ما دام فيهم، فلما توفي لم يخف عليه تعالى حالهم، وذلك مذكور على طريق التعظيم لا على طريق التعريف.
قوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
قيل: بل العباد يستعمل مع الله فيقال الناس عباد الله، ولا يقال عباد الأمير إلا على التشبيه، والعبيد يقال في الله، وفي غيره، ثم الناس كلهم يعبدون الله تسخيراً وقهراً، وإن لم يعبدوه طوعاً، فإنهم إذا عبدوا غيره على أنه
المنعم عليهم فهم يعبدون الله لأنه هو المنعم وعلى هذا: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣).
وقال تعالى: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
فإن قيل لو كانوا يعبدون الله بفعلهم لما داموا؟
قيل: إنما يدمون بقصدهم فيما يفعلونه، لأنهم يقصدون عبادة غير الله والإنسان مثاب ومعاقب بنيته، ولهذا قال: (إنما الأعمال بالنيات).
ولما قال لا يستحق الجمادات ويستحقها ثواباً استحقاق الإنسان والملائكة والجن.
إن قيل: كيف قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) وجواب الشرط
إنما يصح فيما يقع بوقوع الشرط، وقد علم أن هؤلاء عباده عذبهم أو لم يعذبهم.
قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، وتقديره: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك أي من
أمرتهم بعبادتك، تنبيها أنهم لم يعبدوك فاستحقوا عقابك،
(مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)؟
قيل: قال أبو العباس المبرد رحمه الله: " إن تغفر كذبهم عليّ حيث قالوا: عيسى أمرنا بذلك فإنهم عبادك أي شئت لعلمك بهم فالذي سأله العفو عنهم والغفران لهم فيما هو حق له ".
وقيل: إن هذا السؤال إنما هو كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على
كل مايريده وعلى مقتضى حكمه وحكمته.
تنبيه أنه تعالى جمع القدرة والحكمة، فهو قادر على أن يفعل أي المقتضين بإرادته لهذا قال: (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تنبيهاً أنه لا امتناع لأحد من عزه ولا اعتراض في حكمته، ولهذا قال أنت العزيز ولم يقل الغفور، وإلى هذا أشار الحسن رضي الله عنه حيث قال: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبعزتك ما كان منهم.
فإن قيل: فكيف قال (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالأليق أن يوضع الغفور قبل العزة هاهنا أولى فهي تنبيه أنك تجمع القدرة والحكمة، ولم يقصد إنزال الغفران للكفرة منهم وإلى نحو هذا قصد الشاعر في قوله:
أذْنَبْت ذَنْباً عَظيماً وأنت للعَفْوِ | فإن غَفَرْتَ تَفَضَلاً وإن جَزَيْتَهُ |