تفسير سورة النّاس

الكشاف أو تفسير الزمخشري

تفسير سورة سورة الناس من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري.
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية، وقيل‏ :‏ مدنية، وآياتها ست.

سورة الناس
مكية، وقيل مدنية، وآياتها ٦ [نزلت بعد الفلق] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الناس (١١٤) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
قرئ: قل أعوذ، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، ونحوه. فخذ أربعة. فإن قلت: لم قيل «١» بِرَبِّ النَّاسِ مضافا إليهم خاصة؟ قلت: لأنّ الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس. فكأنه قيل، أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالى أمرهم.
فإن قلت: مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ ما هما من رب الناس؟ قلت: هما عطف بيان، كقولك:
سيرة أبى حفص عمر الفاروق. بين بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره:
رب الناس، كقوله اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إِلهِ النَّاسِ فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان. فإن قلت: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ قلت: لأنّ عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار الْوَسْواسِ اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال. والمراد به الشيطان، سمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه. أو أريد ذو الوسواس. والوسوسة: الصوت الخفي. ومنه: وسواس الحلي.
(١). قال محمود: «إن قلت: لم أضاف اسمه تعالى إليهم خاصة وهو رب كل شيء... الخ» قال أحمد: وفي التخصيص جرى على عادة الاستعطاف، فانه معه أتم. عاد كلامه قال: واله الناس عطف بيان لملك الناس. أو كلاهما عطف بيان للأول، والثاني أبين: لأن ملك الناس قد يطلق لغير الله تعالى، وأما إله الناس فلا يطلق إلا له عز وجل، فجعل غاية للبيان، وزبد البيان بتكرار ظاهر غير مضمر، والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا ما يسر الله من القول» وإنى أبرأ إلى الله تعالى من القوة والحول، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
823
والْخَنَّاسِ الذي عادته أن يخنس، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات «١» لما روى عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه الَّذِي يُوَسْوِسُ يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الْخَنَّاسِ ويبتدئ الَّذِي يُوَسْوِسُ على أحد هذين الوجهين مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان الذي يوسوس، على أن الشيطان ضربان: جنى وإنسى، كما قال شياطين الإنس والجن. وعن أبى ذرّ رضى الله عنه قال لرجل: هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون مِنَ متعلقا بيوسوس، ومعناه: ابتداء الغاية، أى:
يوسوس في صدورهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس، وقيل: من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة، واستدلوا بنفر ورجال: في سورة الجن. وما «٢» أحقه، لأن الجن سموا «جنا» لاجتنانهم، والناس «ناسا» لظهورهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سموا بشرا، ولو كان يقع الناس على القبيلين، وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع. وأجود منه أن يراد بالناس: الناسي، كقوله يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ كما قرئ مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ ثم يبين بالجنة والناس، لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل.
عن رسول الله ﷺ «لقد أنزلت علىّ سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما «٣» » يعنى المعوذتين. ويقال للمعوذتين: المقشقشتان.
(١). قوله «كالعواج والبتات» بائع العاج، وبائع البتوت: وهي ضرب من الثياب. (ع)
(٢). قوله «وما أحقه» في الصحاح: حققت الأمر: واحتققته: إذا تحققته وصرت منه على يقين. (ع) [.....]
(٣). لم أجده بهذا اللفظ. وأوله في مسلم بمعناه من حديث عقبة بن عامر رضى الله عنه «أن النبي ﷺ قال له. ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وآخره في ابن حبان من حديث عقبة بمعناه. وأيضا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «لأن يقرأ سورة أحب إلى الله ولا أبلغ من قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، فان استطعت أن لا تدعهما في صلاة فافعل».
824
قال عبد الله الفقير إليه: وأنا أعوذ بهما وبجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة، من كل ما يكلم الدين، ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم «١»، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخدّ لجلاله الأعظم الأكبر، مستشفعا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلا بالتوبة الممحصة للآثام، وبما عنيت به من مهاجرتى إليه ومجاورتي، ومرابطتى بمكة ومصابرتى، على تواكل من القوى، وتخاذل من الخطا، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين وعرق الجبين، في عمل الكشاف عن حقائقه، المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه. الملخص لنكته ولطائف نظمه، المنقر عن فقره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنة التي لا توجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه «٢» ومعانيه، مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول، ولو لم يكن في مضمونه إلا إيراد كل شيء على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأحبار، وجوهرة يتمنى العثور عليها غاصة البحار، وبما شرفني به ومجدنى، واختصني بكرامته وتوحدني: من ارتفاعه على يدي في مهبط بشاراته ونذره، ومتنزل آياته وسوره، من البلد الأمين بين ظهراني الحرم، وبين يدي البيت المحرم، حتى وقع التأويل، حيث وجد التنزيل: أن يهب لي خاتمة الخير، ويقينى مصارع السوء، ويتجاوز عن فرطاتى يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤس الأشهاد، ويحلني دار المقامة من فضله، بواسع طوله وسابغ نوله، إنه الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم.
(في نسخة ما نصه:) في أصل المصنف بخطه رحمه الله تعالى: وهذه النسخة هي نسخة الأصل الأولى التي نقلت من السواد، وهي أم الكشاف الحرمية المباركة المتمسح بها، المحقوقة أن تستنزل بها بركات السماء ويستمطر بها في السنة الشهباء، فرغت منها يد المصنف تجاه الكعبة في جناح داره السليمانية، التي على باب أجياد الموسومة بمدرسة العلامة: ضحوة يوم الاثنين لثالث والعشرين من ربيع الآخر في عام ثمانية وعشرين وخمسمائة، وهو حامد لله على باهر كرمه، ومصل على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(١). قوله «المسوط باللحم والدم» أى: المخلوط. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «من بدع ألفاظه» في الصحاح «شيء بدع» بالكسر: أى مبتدع. وفلان بدع في هذا الأمر، أى: بديع (ع)
825
سورة الناس
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الناس) من السُّوَر المكية، وتسمى مع سورة (الفَلَق) بـ(المُعوِّذتَينِ)، ومحورها يدور حول تعليمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الالتجاءَ إلى الله عز وجل؛ ليَحمِيَهم ويُعِيذَهم من شرِّ الخلق الظاهر والباطن، وقد أمَر صلى الله عليه وسلم بقراءتها في غير موضع: بعد كل صلاةٍ، وصباحًا ومساءً، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تأذى أحدٌ من أهلِ بيته قرأ عليه (المُعوِّذتَينِ)، وفيها الاستعاذة من الشيطان الذي يوسوس ليُفسِدَ الأعمال.

ترتيبها المصحفي
114
نوعها
مكية
ألفاظها
20
ترتيب نزولها
21
العد المدني الأول
6
العد المدني الأخير
6
العد البصري
6
العد الكوفي
6
العد الشامي
7

* سورة (النَّاس):

سُمِّيت سورة (النَّاس) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقول الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اْلنَّاسِ} [الناس: 1].

* وتُسمَّى مع سورة (الفَلَق) بـ(المُعوِّذتَينِ):

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يَتعوَّذُ مِن عينِ الجانِّ، وعينِ الإنسِ، فلمَّا نزَلتِ المُعوِّذتانِ، أخَذَ بهما، وترَكَ ما سِوى ذلك». أخرجه النسائي (٥٥٠٩).

* أمَر صلى الله عليه وسلم بقراءة (المُعوِّذتَينِ) بعد كل صلاة:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: «أمَرَني النبيُّ ﷺ أن أقرَأَ المُعوِّذاتِ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ». أخرجه أبو داود (١٥٢٣).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَرقِي أهلَه بـ(المُعوِّذات):

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا مَرِضَ أحدٌ مِن أهلِ بيتِه، نفَثَ عليه بالمُعوِّذاتِ...». أخرجه مسلم (٢١٩٢).

* وصفهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنْ لا مثيلَ لهن:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «ألَمْ ترَ آياتٍ أُنزِلتِ اللَّيلةَ لم يُرَ مِثْلُهنَّ قطُّ؟! {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اْلْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اْلنَّاسِ}». أخرجه مسلم (٨١٤).

قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم (المُعوِّذتَينِ) في غير موضع:

* في صلاة الفجر:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه: «أنَّ النبيَّ ﷺ أَمَّهم بالمُعوِّذتَينِ في صلاةِ الصُّبْحِ». أخرجه ابن حبان (١٨١٨).

* في الوتر:

عن عبدِ العزيزِ بن جُرَيجٍ، قال: «سألتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين: بأيِّ شيءٍ كان يُوتِرُ رسولُ اللهِ ﷺ؟ قالت: كان يَقرأُ في الركعةِ الأُولى بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، وفي الثانيةِ بـ{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، وفي الثالثةِ بـ{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، والمُعوِّذتَينِ». أخرجه أحمد (25906).

* قبل النوم:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوَى إلى فراشِه، جمَعَ كفَّيْهِ، ثم نفَثَ فيهما، وقرَأَ فيهما بـ {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اْلْفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اْلنَّاسِ}، ثمَّ يَمسَحُ بهما ما استطاعَ مِن جسدِه، يَفعَلُ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ». أخرجه ابن حبان (٥٥٤٤).

* أمَر صلى الله عليه وسلم بقراءة (المُعوِّذتَينِ) صباحًا ومساءً:

عن عبدِ اللهِ بن خُبَيبٍ رضي الله عنه، قال: «خرَجْنا في ليلةِ مطَرٍ وظُلْمةٍ شديدةٍ نطلُبُ رسولَ اللهِ ﷺ ليُصلِّيَ لنا، فأدرَكْناه، فقال: «أصلَّيْتم؟»، فلَمْ أقُلْ شيئًا، فقال: «قُلْ»، فلَمْ أقُلْ شيئًا، ثم قال: «قُلْ»، فلَمْ أقُلْ شيئًا، ثم قال: «قُلْ»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أقولُ؟ قال: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوِّذتَينِ حينَ تُمسِي وحينَ تُصبِحُ ثلاثَ مرَّاتٍ: تَكفِيك مِن كلِّ شيءٍ»». أخرجه أبو داود (٥٠٨٢).

* أمَر صلى الله عليه وسلم بقراءة (المُعوِّذتَينِ) بعد كل صلاة:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: «أمَرَني النبيُّ ﷺ أن أقرَأَ المُعوِّذاتِ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ». أخرجه أبو داود (١٥٢٣).

الاستعاذة بالله من شرِّ الخلق الباطن (١-٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /481).

إرشاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَتعوَّذَ من شرِّ الوسواس الذي يُفسِد الأعمالَ؛ فالله هو المُجِيرُ والحافظ من الشرور كلِّها.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /632)