معنى المراودة: طلب الْفِعْل، وَالْمرَاد هَاهُنَا: هُوَ الدُّعَاء إِلَى الْفَاحِشَة. وَقَوله:
يَعْنِي: أطبقت الْأَبْوَاب واستوثقت مِنْهَا، وَيُقَال: إِنَّهَا غلقت سَبْعَة أَبْوَاب. وَقَوله:
مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وعَلى هَذَا أَكثر الْمُفَسّرين. وَقيل: مَعْنَاهُ: تعال أَنا لَك. وقريء: " هيت لَك " أَي: تهيأت لَك. وَأنكر الْكسَائي هَذِه الْقِرَاءَة. قَالَ الشَّاعِر فِي قَوْله هيت:
(أبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخا الْعرَاق إِذا أَتَيْنَا) (أَن الْعرَاق وَأَهله عنق إِلَيْك فهيت هيتا)
20
﴿نَفسه وغلقت الْأَبْوَاب وَقَالَت هيت لَك قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه﴾
وَقَوله:
﴿قَالَ معَاذ الله﴾ مَعْنَاهُ: قَالَ: أعوذ بِاللَّه أَي: أَعْتَصِم بِهِ إِنَّه رَبِّي.
[و] الْأَكْثَرُونَ أَنه أَرَادَ بِهِ الْعَزِيز؛ وَمَعْنَاهُ: إِنَّه سَيِّدي. وَقَوله:
﴿إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي﴾ أَي: أكْرم مثواي. وَقَوله:
﴿إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ﴾ أَنه لَا يسْعد الزناة وَلَا العصاة.
21
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا﴾ [الْآيَة]، الْهم: هُوَ المقاربة من الْفِعْل من غير دُخُول فِيهِ. وَقَوله:
﴿وَلَقَد هَمت بِهِ﴾ همها: هُوَ عزمها على الْمعْصِيَة وَالزِّنَا، وَأما هم يُوسُف: فَاعْلَم أَنه قد ثَبت عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن قَوْله
﴿وهم بهَا﴾ قَالَ: جلس مِنْهَا مجْلِس الخاتن وَحل هِمْيَانه. رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة، وَعَطَاء وَغَيرهمَا. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: حل سراويله وَجعل يعالج ثِيَابه. وَهَذَا قَول أَكثر الْمُتَقَدِّمين؛ مِنْهُم: سعيد بن جُبَير، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَالضَّحَّاك وَغَيرهم.
[و] قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: وَقد أنكر قوم هَذَا القَوْل؛ وَالْقَوْل مَا قَالَه متقدمو هَذِه الْأمة وهم كَانُوا أعلم بِاللَّه أَن يَقُولُوا فِي الْأَنْبِيَاء من غير علم. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي، وَزعم بعض الْمُتَأَخِّرين أَن الْهم (كَانَ مِنْهَا) : هُوَ الْعَزِيمَة على الْمعْصِيَة، وَأما الْهم مِنْهُ: كَانَ خاطر الْقلب وَشدَّة الْمحبَّة بالشهوة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة قَالَت لَهُ: مَا أحسن عَيْنَيْك، فَقَالَ: هِيَ أول مَا تسيل من وَجْهي فِي قَبْرِي، فَقَالَت: مَا أحسن شعرك، فَقَالَ: هُوَ أول مَا ينشر فِي قَبْرِي، فَقَالَت إِن فرَاش الْحَرِير مَبْسُوط فَقُمْ فَاقْض حَاجَتي، فَقَالَ: إِذا يذهب نَصِيبي من الْجنَّة، فَقَالَت: إِن الجنينة عطشة فَقُمْ فاسقها، فَقَالَ: إِن الْمِفْتَاح بيد غَيْرِي، قَالَ: فجَاء
21
الشَّيْطَان وَدخل بَينهمَا وَأخذ يحنكه وحنكها حَتَّى هَمت بِهِ وهم بهَا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى تدارك عَبده وَنبيه بالبرهان الَّذِي ذكره. وَقَالَ قطرب: معنى قَوْله:
﴿وهم بهَا﴾ أَي: وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه.
وَأنكر سَائِر النُّحَاة عَلَيْهِ هَذَا القَوْل، وَقَالُوا إِن الْعَرَب لَا تُؤخر لَوْلَا عَن الْفِعْل، وَإِنَّمَا كَلَام الْعَرَب هُوَ التَّقْدِيم فَحسب، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: لَوْلَا كَذَا لفَعَلت كَذَا، وَلَا يَقُولُونَ، فعلت كَذَا لَوْلَا كَذَا. وَقَالَ بَعضهم: " وهم بهَا " أَي: بضربها وَدفعهَا عَن نَفسه، وَهُوَ تَأْوِيل بعيد. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: يحْتَمل أَن ذَلِك الْقدر الَّذِي فعله يُوسُف من الْهم كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة من الصَّغَائِر يجوز على الْأَنْبِيَاء. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن الله تَعَالَى لم يذكر ذنُوب الْأَنْبِيَاء فِي الْقُرْآن ليعيرهم بهَا؛ وَلَكِن ذكرهَا ليبين موقع النِّعْمَة عَلَيْهِم بِالْعَفو، وَلِئَلَّا ييأس أحد من رَحمته وَقيل: إِنَّه ابْتَلَاهُم بِالذنُوبِ ليتفرد بِالطَّهَارَةِ والعزة، ويلقاه جَمِيع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة على انكسار الْمعْصِيَة. وَقَوله:
﴿لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه﴾ أَكثر أهل التَّفْسِير: أَنه رأى يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ [صَكه] فِي صَدره وَهُوَ يَقُول لَهُ: أتعمل عمل السُّفَهَاء وَأَنت فِي ديوَان الْأَنْبِيَاء؟ !
وروى لَيْث، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته فَرَأى كفا بِلَا معصم وَلَا عضد مَكْتُوب عَلَيْهَا::
﴿وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين﴾ فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد، فَظهر ذَلِك الْكَفّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا:
﴿وَلَا تقربُوا الزِّنَا إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا﴾ فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد فَرَأى ذَلِك الْكَفّ أَيْضا مَكْتُوبًا عَلَيْهَا:
﴿وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله﴾ فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد؛ فَقَالَ الله لجبريل: أدْرك عَبدِي قبل أَن يواقع الْخَطِيئَة، فجَاء ومسحه بجناحه حَتَّى خرجت شَهْوَته من أنامله.
22
﴿كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين (٢٤) واستبقا الْبَاب﴾
وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: معنى الْبُرْهَان: أَنه كَانَ فِي الْبَيْت صنم فَقَامَتْ الْمَرْأَة وسترته بِثَوْب، فَقَالَ لَهَا يُوسُف: لم فعلت هَذَا؟ فَقَالَت: استحييت مِنْهُ أَن يراني وَأَنا أواقع الْمعْصِيَة، فَقَالَ يُوسُف: أَنا أَحَق أَن أستحي من رَبِّي، وهرب.
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: الْبُرْهَان: هُوَ أَن الله تَعَالَى أخطر بقلب يُوسُف حُرْمَة الزِّنَا، وَشدَّة الْعقُوبَة عَلَيْهِ، فهرب وَترك. وَأورد النقاش أَنه لما قرب مِنْهَا رأى شَعْرَة بَيْضَاء فِي أنفها فعافها وَتركهَا. وَهَذَا قَول بعيد؛ وَالأَصَح من هَذِه الْأَقْوَال: الأول.
وَقد رُوِيَ أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ لما تمثل لَهُ صك فِي صَدره وَقَالَ: يَا يُوسُف أَنْت قبل أَن تَزني كالطير فِي جو السَّمَاء [وَلَا تطاق]، فَإِذا زَنَيْت فَأَنت كالطير يسْقط وَيَمُوت، وَأَنت قبل أَن تَزني كالثور لَا يُطَاق، فَإِذا زَنَيْت صرت كالثور يهْلك فَيدْخل النَّمْل فِي (أصُول) قرنه.
وَقَوله:
﴿كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء﴾ السوء: هُوَ الثَّنَاء الْقَبِيح، والفحشاء: هُوَ مواقعة الزِّنَا. فَإِن قيل: هَذَا دَلِيل على أَنه لم يهم بِالزِّنَا وَلم يَقْصِدهُ، قُلْنَا: لَا، هَذَا بعد الْهم. فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ فِي أثْنَاء السُّورَة:
﴿ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ﴾ ؟ قُلْنَا: قد ثَبت عَن النَّبِي: " أَن يُوسُف لما قَالَ هَذَا، قَالَ لَهُ جِبْرِيل: وَلَا حِين هَمَمْت؟ فَقَالَ: وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء ".
قَوْله:
﴿إِنَّه من عبادنَا المخلصين﴾ قرئَ: " المخلَصين " و " المخلِصين " وَمعنى المخلِص: هُوَ الَّذِي يخلص الطَّاعَة لله، وَمعنى المخلَص: هُوَ الَّذِي أخلصه الله وَاخْتَارَهُ.
23
﴿وقدت قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لدا الْبَاب قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم (٢٥) قَالَ هِيَ راودتني عَن نَفسِي وَشهد شَاهد من أَهلهَا إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين (٢٦) وَإِن كَانَ قَمِيصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين (٢٧) فَلَمَّا رأى قَمِيصه قد من دبر قَالَ إِنَّه من كيدكن إِن﴾
24
قَوْله تَعَالَى: ﴿ [واستبقا] الْبَاب﴾ رُوِيَ أَن يُوسُف بَادر الْبَاب ليفتح وَيخرج، وَالْمَرْأَة بادرت الْبَاب لتمسك الْبَاب فَلَا يخرج يُوسُف، فَسبق يُوسُف وأدركته الْمَرْأَة وَأخذت بِثَوْبِهِ وشقته من دبر؛ وَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وقدت قَمِيصه من دبر﴾ أَي: شقَّتْ. وَقَوله: ﴿وألفيا سَيِّدهَا لدا الْبَاب﴾ يَعْنِي: وجدا زوج الْمَرْأَة عِنْد الْبَاب فبادرت الْمَرْأَة ﴿قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا﴾ ثمَّ خَافت عَلَيْهِ أَن يقتل فَقَالَت: ﴿إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم﴾ ضرب بالسياط، فَلَمَّا سمع يُوسُف مقالتها
﴿قَالَ هِيَ راودتني عَن نَفسِي﴾ يَعْنِي: هِيَ طلبت مني الْفَاحِشَة. وَقَوله: ﴿وَشهد شَاهد من أَهلهَا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الشَّاهِد كَانَ صَبيا فِي المهد قَالَ هَذَا القَوْل، وَهَذَا قَول أبي هُرَيْرَة وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: " تكلم ثَلَاثَة من الصّبيان فِي المهد: عِيسَى ابْن مَرْيَم صلوَات الله عَلَيْهِ (وَصَاحب) جريج وَشَاهد يُوسُف " وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الشَّاهِد كَانَ رجلا حكيما من قَرَابَات الْمَرْأَة وَكَانَ قَائِما مَعَ زَوجهَا فَسمع الجلبة من وَرَاء الْبَاب وَرَأى شقّ الْقَمِيص فَقَالَ القَوْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين﴾ الْآيَة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦: فلما سمع يوسف مقالتها ( قال هي راودتني عن نفسي ) يعني : هي طلبت مني الفاحشة. وقوله :( وشهد شاهد من أهلها ) فيه قولان : أحدهما : أن الشاهد كان صبيا في المهد قال هذا القول، وهذا قول أبي هريرة وسعيد بن جبير والضحاك، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس. قال أبو هريرة :«تكلم ثلاثة من الصبيان في المهد : عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ( وصاحب ) ( ) جريج وشاهد يوسف » والقول الثاني أن الشاهد كان رجلا حكيما من قرابات المرأة وكان قائما مع زوجها فسمع الجلبة من وراء الباب ورأى شق القميص فقال القول وهو قوله تعالى :( إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين... ) الآية.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا رأى قَمِيصه قد من دبر﴾ عرف أَن الذَّنب لَهَا ﴿قَالَ إِنَّه من كيدكن إِن كيدكن عَظِيم﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قَلِيل الحمية والغيرة، ثمَّ قَالَ ليوسف:
﴿يُوسُف أعرض عَن هَذَا﴾ يَعْنِي: لَا تذكر هَذَا حَتَّى يشيع، ثمَّ قَالَ للْمَرْأَة:
﴿واستغفري لذنبك﴾ توبي إِلَى الله تَعَالَى
﴿إِنَّك كنت من الخاطئين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
24
﴿كيدكن عَظِيم (٢٨) يُوسُف أعرض عَن هَذَا واستغفري لذنبك إِنَّك كنت من الخاطئين (٢٩) وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه قد شغفها حبا إِنَّا﴾
25
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه﴾ الْمَدِينَة هَاهُنَا: مَدِينَة مصر، وَقيل: إِنَّهَا مَدِينَة عين شمس.
وَأما النسْوَة قَالُوا: هن خمس نسْوَة: امْرَأَة حَاجِب الْملك، وَامْرَأَة صَاحب الدَّوَابّ، وَامْرَأَة صَاحب الطَّعَام، وَامْرَأَة صَاحب الشَّرَاب، وَامْرَأَة صَاحب السجْن. وَقَالَ بَعضهم: هن نسْوَة من أَشْرَاف نسْوَة مصر.
وَقَوله:
﴿امْرَأَة الْعَزِيز﴾ قيل الْعَزِيز: هُوَ الْمُمْتَنع بقدرته عَن أَن يضام فِي أمره. وَقَوله:
﴿تراود فتاها عَن نَفسه﴾ فتاها هَاهُنَا بِمَعْنى: عَبدهَا، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا تطلب من عَبدهَا [أَن] يرتكب الْفَاحِشَة. وَقَوله
﴿قد شغفها حبا﴾ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهَا - أَنه قَالَ: " شغفها حبا " أَي: غلبها. وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: " شغفها حبا " أَي: دخل الْحبّ فِي شغَاف قَلبهَا، وشغاف الْقلب: دَاخل الْقلب. وَقيل: شغَاف الْقلب: جلدَة الْقلب؛ كَأَن الْحبّ خرق الْجلْدَة وَأصَاب الْقلب وَغلب عَلَيْهِ. وَقيل: شغَاف الْقلب: [سويداء] الْقلب. وَقيل: حَبَّة الْقلب. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا [وجد] إِلَّا دون وجد وجدته أصَاب شغَاف الْقلب فالقلب مشغف)
قرئَ فِي الشاذ: (شعفها) حبا " وَمَعْنَاهُ: ذهب الْحبّ بهَا كل مَذْهَب، وَمِنْه: شعف الْجبَال أَي: رءوسها.
وَقَوله:
﴿إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين﴾ أَي: فِي خطأ ظَاهر. وَيُقَال: فِي ضلال مُبين يَعْنِي: أَنَّهَا تركت مَا يكون عَلَيْهِ أَمْثَالهَا من السّتْر والعفاف.
25
﴿لنراها فِي ضلال مُبين (٣٠) فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن أرْسلت إلَيْهِنَّ وأعتدت لَهُنَّ متكأ وآتت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا وَقَالَت اخْرُج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رأينه أكبرنه وقطعن أَيْدِيهنَّ﴾
26
قَوْله:
﴿فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن﴾ أَي: بتدبيرهن. وَقد رُوِيَ أَنَّهَا أفشت إلَيْهِنَّ سرها واستكتمتهن فأفشين ذَلِك؛ فَلهَذَا سَمَّاهُ مكرا. وَقَوله:
﴿وَأرْسلت إلَيْهِنَّ﴾ أَي: دعتهن. وَقَوله:
﴿وأعتدت لَهُنَّ مُتكئا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: المتكأ يتكئون على الوسائد. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا " وَهَذَا مِمَّا اخْتَارَهُ الله تَعَالَى لَهُ من التَّوَاضُع، وَأما الجبارون والعظماء فقد اعتادوا الْأكل متكئين. وَقيل: " وأعتدت لَهُنَّ مُتكئا " أَي: طَعَاما وَشَرَابًا واتكاء.
وقرىء فِي الشاذ: " وأعتدت لَهُنَّ متكا " والمتك: هُوَ الأترج. ذكره ابْن عَبَّاس وَمُجاهد. وَقيل: إِنَّه البزماورد. أوردهُ الضَّحَّاك. وَقيل: هُوَ كل مَا يحز بالسكين. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا دعت أَرْبَعِينَ امْرَأَة من أَشْرَاف [نسَاء] مصر وزينت بَيْتا بألوان الْفَوَاكِه والوسائد وفرشت الْبسط. وَقَوله:
﴿وآتت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا﴾ أَي: وأعطت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا؛ وَقد كَانُوا يَأْكُلُون اللَّحْم جزا بالسكين؛ وَالسّنة هُوَ النهش.
وَقَوله:
﴿وَقَالَت اخْرُج عَلَيْهِنَّ﴾ أمرت يُوسُف بِأَن يخرج عَلَيْهِنَّ فَخرج وَقد أخذن السكاكين ليقطعن الْمَأْكُول. وَقَوله:
﴿فَلَمَّا رأينه أكبرنه﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أعظمنه. وَالْآخر: حضن. قَالَ الشَّاعِر:
(نأتي النِّسَاء لَدَى أطهارهن وَلَا نأتي النِّسَاء إِذا أكبرن إكبارا)
يَعْنِي: إِذا حضن. وَالْأولَى هُوَ الأول. وَأنكر أَبُو عُبَيْدَة أَن يكون " أكبرن " بِمَعْنى:
26
﴿وقلن حاش لله مَا هَذَا بشرا إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم (٣١) قَالَت فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ﴾ حضن.
وَقَوله
﴿وقطعن أَيْدِيهنَّ﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن هَذَا خدش وجرح بِلَا إبانة. وَقَالَ بَعضهم: إنَّهُنَّ قطعن أَيْدِيهنَّ على (تَحْقِيق) قطع الْيَد جملَة. وَالْأول أصح. يُقَال: قطع فلَان يَده إِذا خدشها وجرحها.
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهُنَّ بهتن وَذَهَبت عقولهن [و] قطعن أَيْدِيهنَّ وَلم يعلمن بذلك حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاء مِنْهُنَّ وَقَوله:
﴿وقلن حاش الله﴾ وقرىء: " حاشا لله " وَمَعْنَاهُ: [معَاذ] الله أَن يكون
﴿مَا هَذَا بشرا﴾ وَمَعْنَاهُ: بشرا مثل سَائِر الْبشر. وقرىء: " مَا هَذَا مُشْتَريا " أَي: بِعَبْد مشترى. وَقَوله:
﴿إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم﴾ يَعْنِي: ملك كريم على ربه. وَقد روى أنس، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أعطي يُوسُف شطر الْحسن ". وَعَن ابْن إِسْحَاق - صَاحب الْمعَانِي - قَالَ: ذهب يُوسُف وَأمه بِثُلثي الْحسن.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، عَن النَّبِي فِي قصَّة الْمِعْرَاج " أَنه رأى يُوسُف فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، قَالَ: فَرَأَيْت وَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر ". وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا مَشى فِي سِكَك مصر رئي لوجهه ضوء على الجدران. وَرُوِيَ أَنه لما ملك، وَكَانَ إِذا دخلت عَلَيْهِ امْرَأَة غطى وَجهه لِئَلَّا تفتتن بِهِ.
27
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَت فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ﴾ الْمَلَامَة هُوَ الْوَصْف بالقبيح على وَجه التحقير، وَمعنى قَوْلهَا " فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ " أَن هَذَا هُوَ الَّذِي لمتنني فِيهِ،
27
﴿وَلَقَد راودته عَن نَفسه فاستعصم وَلَئِن لم يفعل مَا آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (٣٢) قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب﴾ ثمَّ صرحت بِمَا فعلت (وَقَالَت) :
﴿وَلَقَد راودته عَن نَفسه﴾ وَإِنَّمَا صرحت بذلك لِأَنَّهَا علمت أَنه لَا ملامة عَلَيْهَا مِنْهُنَّ بعد ذَلِك وَقد أصابهن مَا أصابهن من رُؤْيَته. وَقَوله تَعَالَى:
﴿فاستعصم﴾ أَي: امْتنع. وَقَوله:
﴿وَلَئِن لم يفعل مَا آمره ليسجنن﴾ يَعْنِي: ليعاقبن بِالْحَبْسِ. وَقَوله:
﴿وليكونا من الصاغرين﴾ أَي: (لَيَكُونن) من المستحقرين والمستذلين. وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن أُولَئِكَ النسْوَة عشقنه وَمَاتَتْ جمَاعَة مِنْهُنَّ من عشقه.
28
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ﴾ وقرىء فِي الشاذ: " رب السجْن " وَهُوَ الْحَبْس، والسجن مَوضِع الْحَبْس
﴿مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ يُقَال: لَو لم يقل هَذَا لم يبتل بالسجن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق "، وَالْأولَى بِالْمَرْءِ أَن يسْأَل الله الْعَافِيَة.
وَقَوله:
﴿مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الدُّعَاء كَانَ مِنْهَا خَاصَّة؛ لكنه أضَاف إِلَى جَمِيع النسْوَة خُرُوجًا من التَّصْرِيح إِلَى التَّعْرِيض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُنَّ جَمِيعًا دعينه إِلَى أَنْفسهنَّ.
وَقَوله:
﴿وَإِلَّا تصرف عني كيدهن﴾ مَعْنَاهُ: وَإِلَّا تصرف عَنى شرهن
﴿أصب إلَيْهِنَّ﴾ أَي: أمل إلَيْهِنَّ. قَالَ الشَّاعِر:
(حَتَّى مَتى تصبو ورأسك أشمط أظننت أَن الْمَوْت بِاسْمِك يغلط)
وَقَوله:
﴿وأكن من الْجَاهِلين﴾ هَذَا دَلِيل على أَن الْمُؤمن إِذا ارْتكب ذَنبا يرتكب عَن جَهَالَة، وَقيل مَعْنَاهُ: وأكن من المذمومين كَمَا يذم الْإِنْسَان بِفعل مَا يقدم عَلَيْهِ جَاهِلا.
28
﴿إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين (٣٣) فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (٣٤) ثمَّ بدا لَهُنَّ من بعد مَا رَأَوْا الْآيَات ليسجننه حَتَّى حِين (٣٥) وَدخل مَعَه السجْن فتيَان قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أحمل فَوق﴾
29
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَاب لَهُ ربه﴾ أَي: أجَاب لَهُ ربه. وَقَوله: ﴿فصرف عَنهُ كيدهن﴾ أَي: شرهن ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: ﴿ثمَّ بدا لَهُم﴾ أَي: ظهر لَهُم. وَقَوله: ﴿من بعد مَا رَأَوْا الْآيَات﴾ هَاهُنَا شقّ الْقَمِيص، وَكَلَام الطِّفْل، وجز النِّسَاء أَيْدِيهنَّ بالسكاكين، وَذَهَاب عقولهن بِمَا رأين من جماله. وَقَوله: ﴿ليسجننه حَتَّى حِين﴾ أَي: ليحبسنه إِلَى مُدَّة. قَالَ عَطاء: إِلَى حِين: إِلَى أَن تَنْقَطِع مقَالَة النَّاس.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَدخل مَعَه السجْن فتيَان﴾ فِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة قَالَت لزَوجهَا: قد فضحني هَذَا الْغُلَام العبراني (فِي النَّاس)، فإمَّا أَن تَأذن [لي] أخرج وأعتذر من النَّاس، وَإِمَّا أَن تحبسه، فحبسه، وَلما حبس حبس الْملك بعد ذَلِك رجلَيْنِ من خاصته؛ أَحدهمَا: صَاحب طَعَامه، وَالْآخر: صَاحب شرابه، وَيُقَال: كَانَ يُسمى أَحدهمَا: سرهم، وَالْآخر: شرهم. وَكَانَ سَبَب حبسهما: أَن الْملك اتهمَ صَاحب الطَّعَام [أَنه] : قصد سمه، وَظن أَيْضا أَن صَاحب الشَّرَاب مالأه على ذَلِك؛ وَكَانَ الْملك هُوَ الْوَلِيد بن مَرْوَان العمليقي، وَقيل غير هَذَا الِاسْم.
وَقَوله:
﴿قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا﴾ وَرُوِيَ أَن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - لما دخل السجْن جعل يَدْعُو إِلَى الله وينشر علمه، فَرَأى هذَيْن الرجلَيْن وهما مهمومان فَسَأَلَهُمَا عَن شَأْنهمَا فذكرا أَنَّهُمَا صاحبا الْملك، وَأَن الْملك حبسهما، وَقد رَأيا رُؤْيا وَقد غمهما ذَلِك، فَقَالَ لَهما: قصا عَليّ مَا رَأَيْتُمَا، فقصا عَلَيْهِ رؤياهما؛ وَهَذَا معنى قَوْله:
﴿قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا﴾ . وَفِي الْقِصَّة: أَنه قَالَ: رَأَيْت حبلة عَلَيْهَا ثَلَاثَة عناقيد فجنيتهن وعصرتهن خمرًا وسقيت مِنْهُ الْملك.
29
﴿رَأْسِي خبْزًا تَأْكُل الطير مِنْهُ نبئنا بتأويله إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه إِلَّا نبأتكما بتأويله قبل أَن يأتيكما ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي إِنِّي تركت مِلَّة﴾
وَقَوله:
﴿أعصر خمرًا﴾ الْعَصْر: هُوَ الِاعْتِمَاد بِالْيَدِ على مَا فِيهِ مائية ليحلب عَنهُ المَاء. وَقَوله
﴿خمرًا﴾ : قيل: عنبا، قيل: هَذَا بلغَة عمان، قَالَ الْمُعْتَمِر: لقِيت أَعْرَابِيًا مَعَه سلة فِيهَا [عِنَب] فَقلت: مَا مَعَك؟ قَالَ: الْخمر. وَقَالَ الشَّاعِر:
(يُنَازعنِي بِهِ ندمان صدق
(شواء) الطير وَالْعِنَب الحقينا)
وَأَرَادَ بالعنب: الْخمر. وَيُقَال: معنى قَوْله:
﴿أعصر خمرًا﴾ أَي: عِنَب خمر. وَيُقَال: معنى قَوْله:
﴿أعصر خمرًا﴾ أَي: عنبا؛ سَمَّاهُ خمرًا باسم مَا يؤول إِلَيْهِ؛ تَقول الْعَرَب: فلَان يعصر الدبس ويطبخ الْآجر يَعْنِي: يعصر الْعِنَب للدبس، ويطبخ اللَّبن للآجر، قَالَ الشَّاعِر:
(الْحَمد لله الْجَلِيل المنان صَار الثَّرِيد فِي رُءُوس العيدان)
وَقَوله:
﴿وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أحمل فَوق رَأْسِي خبْزًا تَأْكُل الطير مِنْهُ﴾ رُوِيَ أَن الآخر قَالَ: إِنِّي أَرَانِي كَأَنِّي أحمل ثَلَاث سلال من الْخبز على رَأْسِي وسباع الطير ينهش مِنْهُ.
وَقَوله:
﴿نبئنا بتأويله إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ﴾ قَالَ: كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِذا مرض فِي السجْن مَرِيض عَاده وَقَامَ عَلَيْهِ، وَإِذا افْتقر إِنْسَان جمع لَهُ شَيْئا، وَإِذا رأى مَظْلُوما نَصره، وَإِذا رأى حَزينًا سلاه، وَكَانَ مَعَ هَذَا يقوم اللَّيْل كُله بِالصَّلَاةِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي:
﴿إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ﴾ يَعْنِي: من الْمُحْسِنِينَ لعبارة الرُّؤْيَا، وَالْإِحْسَان بِمَعْنى الْعلم؛ يُقَال: فلَان يحسن كَذَا، أَي: يُعلمهُ.
30
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ لَا يأتيكما طَعَام﴾ الْآيَة، بَدَأَ يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ - قبل تَعْبِير الرُّؤْيَا بِإِظْهَار المعجزة وَالدُّعَاء إِلَى تَوْحِيد الله؛ فَقَوله: {لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه
30
﴿قوم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وهم بِالآخِرَة هم كافرون (٣٧) وَاتَّبَعت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب مَا كَانَ لنا أَن نشْرك بِاللَّه من شَيْء ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى﴾ إِلَّا نبأتكما بتأويله قبل أَن يأتيكما) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَا تدعوان بِطَعَام من منازلكما إِلَّا نبأتكما بِقَدرِهِ ولونه وطعمه وَالْوَقْت الَّذِي يصل إلَيْكُمَا فِيهِ قبل أَن يصل إلَيْكُمَا؛ وَهَذِه المعجزة مثل معْجزَة عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَوله:
﴿وأنبئكم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ﴾ .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ من رسم الْملك إِذا أَرَادَ أَن يقتل إنْسَانا يبْعَث إِلَيْهِ بِطَعَام مَعْرُوف عِنْدهم، وَإِذا أَرَادَ أَن يكرم إنْسَانا بعث إِلَيْهِ بِطَعَام مَعْرُوف عِنْدهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه﴾ .
وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه فِي الْمَنَام إِلَّا نبأتكما بتأويله فِي الْيَقَظَة، فَقَالُوا: من أَيْن لَك ذَلِك، أتتكهن أم تتنجم؟ فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِن مِمَّا عَلمنِي رَبِّي. فَهَذَا معنى قَوْله
﴿ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي﴾ . وَقَوله:
﴿إِنِّي تركت مِلَّة قوم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وهم بِالآخِرَة هم كافرون﴾ ظَاهر.
31
ثمَّ قَالَ: ﴿وَاتَّبَعت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب﴾ أظهر أَنه نَبِي وَأَنه من ولد الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: ﴿مَا كَانَ لنا أَن نشْرك بِاللَّه من شَيْء﴾ مَعْنَاهُ: أَن الله قد عصمنا من الْإِشْرَاك بِهِ. وَقَوله: ﴿ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى النَّاس﴾ يَعْنِي بِهِ: مَا أَقَامَ من الدَّلِيل وَبَين من الْهدى. وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
ثمَّ زَاد فِي الدّلَالَة على التَّوْحِيد فَقَالَ:
﴿يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون﴾ وسماهما: صَاحِبي السجْن؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي السجْن، وَقَوله
﴿أأرباب متفرقون﴾ أَي: أَمْلَاك متباينون هَذَا [من] ذهب، وَهَذَا من فضَّة، وَهَذَا من نُحَاس، وَهَذَا من خشب، وَقيل: هَذَا أَعلَى، وَهَذَا أَوسط، وَهَذَا أدنى، وَقَوله:
﴿خير أم الله الْوَاحِد القهار﴾ الْوَاحِد الْغَالِب على كل شَيْء، وَالْمرَاد، نفي الْخَيْرِيَّة مِنْهُم أصلا، وَقد ذكرنَا
31
﴿النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (٣٨) يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون خير أم الله الْوَاحِد القهار (٣٩) مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن الحكم إِلَّا لله أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (٤٠) يَا صَاحِبي السجْن أما أَحَدكُمَا فيسقي ربه خمرًا وَأما الآخر﴾ من قبل ثمَّ زَاد وَقَالَ:
32
﴿مَا تَعْبدُونَ من دونه﴾ أَي: من دون الله ﴿إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم﴾ يَعْنِي: هَذِه الْأَصْنَام أَسمَاء مُجَرّدَة خَالِيَة عَن الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان﴾ أَي: حجَّة ﴿إِن الحكم إِلَّا لله﴾ مَا الحكم إِلَّا الله ﴿أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه﴾ ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: ﴿ذَلِك الدّين الْقيم﴾ أَي: الطَّرِيق الْمُسْتَقيم ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْقِصَّة: أَن صَاحب السجْن لما سمع مِنْهُ مَا سمع، وَرَأى مِنْهُ مَا رأى أحبه حبا شَدِيدا وَجعله على أهل السجْن، وَكَذَلِكَ أهل السجْن أحبوه حَتَّى كَانَ الرجل يخلى من السجْن فَيَعُود إِلَيْهِ، فَروِيَ أَن صَاحب السجْن قَالَ لَهُ: أَنا أحبك فَقَالَ: أنْشدك الله أَن تحبني - يَعْنِي: أَن لَا تحبني - فَإِن من أَحبَّنِي يوقعني فِي الْبلَاء، أحبتني عَمَّتي فَوَقَعت فِي بلَاء، وأحبني وَالِدي فألقيت فِي الْجب، وأحبتني امْرَأَة الْعَزِيز فحبست. وَرُوِيَ أَن صَاحِبي الْملك قَالَا لَهُ هَذِه الْمقَالة فأجابهما بِهَذَا.
قَوْله:
﴿يَا صَاحِبي السجْن أما أَحَدكُمَا فيسقي ربه خمرًا﴾ رُوِيَ أَنه قَالَ لصَاحب الشَّرَاب: أما تَأْوِيل رُؤْيَاك: فَإنَّك تدعى بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَترد إِلَى منزلتك من الْملك.
وَقَوله:
﴿وَأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رَأسه﴾ قَالَ: وَأما أَنْت يَا صَاحب الطَّعَام فَتُدْعَى بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتصلب وتأكل الطير من رَأسك؛ فَروِيَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا قَالَا: كذبنَا مَا رَأينَا شَيْئا، فَقَالَ:
﴿قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان﴾ يَعْنِي: فرغ من الْأَمر وَمَا قلت كَائِن؛ رَأَيْتُمَا أَو لم ترياه. وَقَالَ أَبُو مجلز: الَّذِي قَالَ لَهُ: أَنا لم أر شَيْئا هُوَ صَاحب الطَّعَام خَاصَّة. وَقد رُوِيَ أَنَّهُمَا قد رَأيا مَا قَالَا حَقِيقَة. قَوْله:
﴿قضي الْأَمر﴾ تتميم الْكَلَام.
32
﴿فيصلب فتأكل الطير من رَأسه قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان (٤١) وَقَالَ للَّذي ظن أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْد رَبك فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين﴾
33
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ للَّذي ظن أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا﴾ مَعْنَاهُ: أَنه (أَيقَن) أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا
﴿اذْكُرْنِي عِنْد رَبك﴾ أَي: عِنْد سيدك، فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُ: قل للْملك: إِن فِي السجْن رجلا مَظْلُوما قد طَال حَبسه. وَقَوله:
﴿فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه﴾ الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَاهُ: فأنسى يُوسُف الشَّيْطَان ذكر ربه حَتَّى اسْتَغَاثَ بمخلوق مثله، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشَّيْطَان أنسى الرجل الَّذِي خلي من السجْن ذكر يُوسُف لسَيِّده.
وَقَوله:
﴿فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين﴾ الْأَكْثَرُونَ: على أَن بضع سِنِين هَاهُنَا: سبع سِنِين وَقد كَانَ لبث من قبل خمس سِنِين؛ فَمَكثَ فِيهِ [اثْنَتَيْ عشرَة] سنة. وَقَالَ الْأَخْفَش: الْبضْع: من الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: من ثَلَاث إِلَى التسع؛ فَروِيَ: أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قل يَا يُوسُف من حببك إِلَى أَبِيك؟ فَقَالَ: أَنْت يَا رب، فَقَالَ: من خلصك من الْجب؟ قَالَ: أَنْت يَا رب، قَالَ: من صرف عَنْك السوء والفحشاء؟ قَالَ: أَنْت يَا رب، قَالَ: فَمَا استحييت مني أَن استعنت بمخلوق؟
﴿وَعِزَّتِي لأطيلن مكثك فِي السجْن. وَرُوِيَ أَنه قَالَ: يَا رب بِحَق آبَائِي اغْفِر لي ذَنبي، فجَاء جِبْرِيل وَقَالَ لَهُ: وَأي حق لآبائك عَليّ؟﴾ أما جدك إِبْرَاهِيم: فقد جعلت النَّار عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَأما إِسْمَاعِيل: ففديته بكبش عَظِيم، وَأما أَبوك يَعْقُوب: (فأعطيته) اثْنَي عشر ابْنا وَأخذت مِنْهُم وَاحِدًا، فَمَا زَالَ يبكي حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيناهُ وَجعل يشكوني، فَقَالَ يُوسُف: إلهي بمنك الْقَدِيم وفضلك الْعَظِيم وأياديك الْكَثِيرَة اغْفِر لي ذَنبي، فغفر لَهُ. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: دخل جِبْرِيل على
33
(
﴿٤٢) وَقَالَ الْملك إِنِّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي رءياي إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون (٤٣) قَالُوا﴾ يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي السجْن، فَقَالَ لَهُ: يُوسُف، يَا أَخ الْمُنْذرين مَا تعْمل بَين المذنبين؟ فَقَالَ [لَهُ] جِبْرِيل: يَا طيب ابْن الطيبين يَقُول لَك رَبك: أما (استحييت) مني أَن استعنت بمخلوق مثلك؟ ! وَعِزَّتِي لأطيلن حَبسك، فَقَالَ لَهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: أهوَ رَاض عني؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: إِذا لَا أُبَالِي. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لجبريل: مَا بلغ حزن أبي يَعْقُوب؟ فَقَالَ: حزن سبعين ثَكْلَى، فَقَالَ: وَكَيف أجره؟ فَقَالَ: أجر مائَة شَهِيد.
34
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ الْملك إِنِّي أرى سبع بقرات سمان [يأكلهن سبع عجاف] ﴾ الْملك هَاهُنَا: ملك مصر، وَالْملك هُوَ الْقَادِر الْوَاسِع الْمَقْدُور فِيمَا يرجع إِلَى السياسة وَالتَّدْبِير. وَقَوله:
﴿إِنِّي أرى﴾ مَعْنَاهُ: إِنِّي أرى فِي الْمَنَام. وَقَوله:
﴿بقرات﴾ : الْبَقر: حَيَوَان مَعْرُوف يصلح للكراب، وَمِنْه (الْمثل) : الكراب على الْبَقر؛ لِأَنَّهُ أقوم بِهِ.
وَقَوله:
﴿سمان﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَرُوِيَ أَن الْملك رأى سبع بقرات سمان خرجن من الْبَحْر كأسمن مَا يكون من الْبَقر، ثمَّ خرج عَقِيبه سبع بقرات عجاف فِي غَايَة الهزال والعجف، ثمَّ إِن الْعِجَاف ابتلعت السمان وأكلتها حَتَّى لم يتَبَيَّن على الْعِجَاف مِنْهَا شَيْء، ثمَّ رأى [
﴿وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات﴾ أَي:] سبع سنبلات يابسة التوت على الْخضر حَتَّى غلبت عَلَيْهَا فَلم يبْق من خضرتها شَيْء. وَقَوله:
﴿يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي رُؤْيَايَ إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون﴾ الرُّؤْيَا (هُوَ) مَا يتخيله الْإِنْسَان فِي الْمَنَام، وَقد بَينا أَن النَّبِي قَالَ فِي الرُّؤْيَا الصادقة: " تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن " وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ:
34
﴿أضغاث أَحْلَام وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين (٤٤) وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وادكر﴾ " إِذا تقَارب الزَّمَان لم تكد رُؤْيا الْمُؤمن تكذب " وَله مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن تقَارب الزَّمَان هُوَ اسْتِوَاء اللَّيْل وَالنَّهَار؛ والطباع عِنْد اسْتِوَاء اللَّيْل وَالنَّهَار أصح؛ فالرؤيا أصدق. وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن تقَارب الزَّمَان هُوَ تقَارب السَّاعَة. وَقد رُوِيَ فِي بَدْء وَحي النَّبِي: " أَنه كَانَ إِذا رأى الرُّؤْيَا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ".
وَقَوله:
﴿إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون﴾ يُقَال: عبرت الرُّؤْيَا: إِذا فسرتها، وَالتَّعْبِير هُوَ التَّفْسِير هَاهُنَا.
35
قَوْله تَعَالَى ﴿قَالُوا أضغاث أَحْلَام﴾ الضغث: كل مَا قبض عَلَيْهِ من الأخلاط من الْحَشِيش وَغَيره. وَمعنى الْآيَة: رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: أضغاث أَحْلَام أَي: أخلاط أَحْلَام. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أهاويل أَحْلَام، وَقيل: أباطيل أَحْلَام. وَقَوله: ﴿وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين﴾ (وَمَعْنَاهُ) : وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام (الَّتِي) وصفتها هَذِه بعالمين.
قَوْله:
﴿وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وادكر بعد أمة﴾ أَي: مُدَّة، [و] فِي الْقِصَّة: أَن الْملك جمع السَّحَرَة والكهنة والمعبرين وقص عَلَيْهِم رُؤْيَاهُ، فَلَمَّا عجزوا عَن تعبيرها اهتم هما شَدِيدا، فَتذكر الْغُلَام الساقي حَال يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد كَانَ فجىء بقوله، فجثى بَين يَدي الْملك وَقَالَ: إِن فِي السجْن رجلا مَحْبُوسًا وَهُوَ يعبر الرُّؤْيَا، وَذكر قصَّته؛ فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وَاذْكُر بعد أمة﴾ وَالْأمة هَاهُنَا بِمَعْنى الْحِين؛ وَقد بَينا أَنه حبس سبع سِنِين بعد مَا عبر رُؤْيا صَاحب الْملك. وَعَن وهب
35
﴿بعد أمة أَنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (٤٥) يُوسُف أَيهَا الصّديق أَفْتِنَا فِي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ (٤٦) قَالَ تزرعون سبع سِنِين دأبا فَمَا حصدتم فذروه فِي سنبله إِلَّا قَلِيلا﴾ بن مُنَبّه قَالَ: مكث يُوسُف فِي السجْن سبع سِنِين، وَمكث أَيُّوب فِي الْبلَاء سبع سِنِين. وقرىء فِي الشاذ: " وادكر بعد أمة " بِالْهَاءِ؛ وَمَعْنَاهُ: بعد نِسْيَان. وَقَوله:
﴿أَنا أنبئكم بتأويله﴾ مَعْنَاهُ: أَنا آتيكم بتأويله
﴿فأرسلون﴾ يَعْنِي: أَرْسلنِي أَيهَا الْملك إِلَيْهِ.
36
وَقَوله: ﴿يُوسُف أَيهَا الصّديق﴾ فِي الْآيَة اخْتِصَار، وَمَعْنَاهُ: أَن الْملك أرْسلهُ إِلَى يُوسُف، وَهُوَ قَالَ: يُوسُف أَيهَا الصّديق، وَالصديق: (الْكثير للصدق). وَقَوله: ﴿أَفْتِنَا﴾ مَعْنَاهُ: أجبنا ﴿فِي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات﴾ هَذَا ذكر تقصيص الرجل رُؤْيا الْملك على يُوسُف.
وَقَوله: ﴿لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ تَأْوِيل الرُّؤْيَا. وَالثَّانِي [مَعْنَاهُ] : لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ منزلتك ودرجتك فِي الْعلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ تزرعون سبع سِنِين دأبا﴾ هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر؛ وَمَعْنَاهُ: ازرعوا سبع سِنِين، يَعْنِي: على عادتكم؛ والدأب: الْعَادة. وَقَوله ﴿فَمَا حصدتم﴾ الْحَصاد مَعْلُوم. وَقَوله: ﴿فذروه فِي سنبله﴾ أَمرهم أَن يتْركُوا الْحِنْطَة فِي السنابل ليَكُون أبقى على الزَّمَان. وَقَوله: ﴿إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ يَعْنِي: مِمَّا تدرسون وتأكلون؛ فَكَأَنَّهُ أَمرهم أَن يحفظوا الْأَكْثَر ويأكلوا بِقدر الْحَاجة.
وَقَوله:
﴿ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد يأكلن﴾ سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على النَّاس. وَقَوله:
﴿يأكلن مَا قدمتم لَهُنَّ﴾ مَعْنَاهُ: (يفنين) ويهلكن
36
﴿مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد يأكلن مَا قدمتم لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تحصنون (٤٨) ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس وَفِيه يعصرون (٤٩) وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي﴾ مَا قدمتم لَهُنَّ، وَهَذَا على طَرِيق التَّوَسُّع وَالْمجَاز؛ فَإِن السنين لَا تَأْكُل شَيْئا، وَإِن الْقَوْم فِي السنين يَأْكُلُون. وَقَوله:
﴿إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تحصنون﴾ يَعْنِي: تحرزون؛ وَمَعْنَاهُ: تحرزون للبذر.
37
وَقَوله:
﴿ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس﴾ الغياث هَاهُنَا: هُوَ الخصب وَالسعَة. وَقَوله
﴿وَفِيه يعصرون﴾ قرىء بقراءتين: " يعصرون " و " تعصرون " وَمَعْنَاهُ: يعصرون الزَّيْت من الزَّيْتُون، وَمن الْعِنَب الْعصير، وَمن السمسم الدّهن. هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد.
وَقيل: يعصرون: ينجون. قَالَ الشَّاعِر: (وصاديا يستغيث غير مغاث وَلَقَد كَانَ عصرة المنجود)
وَلَقَد كَانَ عصرة المنجود يَعْنِي: المنجاة. وَقيل: يعصرون: ينزل عَلَيْهِم الْمَطَر من السَّحَاب، قَالَ الله تَعَالَى
﴿وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا﴾ .
قَوْله تَعَالَى
﴿وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ﴾ فِي الْآيَة اخْتِصَار أَيْضا فَإِن الرجل رَجَعَ إِلَى الْملك وقص عَلَيْهِ تَأْوِيل الرُّؤْيَا ثمَّ قَالَ الْملك: ائْتُونِي بِهِ. وَقَوله: (
﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ﴾ ارْجع إِلَى رَبك) إِلَى سيدك
﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي﴾ أَي: مَا حَال النسْوَة اللَّاتِي
﴿قطعن أَيْدِيهنَّ﴾ على مَا بَينا من قبل، وَلم يُصَرح بِذكر امْرَأَة الْعَزِيز أدبا واحتراما. وَقَوله:
﴿إِن رَبِّي بكيدهن عليم﴾ أَي: بحيلهن ومكرهن عليم.
وَاعْلَم أَنه قد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَو لَبِثت فِي السجْن مثل مَا لبث يُوسُف ثمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لَأَجَبْت " وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ: " رحم الله أخي يُوسُف؛ لقد كَانَ ذَا حلم وأناة، وَلَو كنت مَكَانَهُ ثمَّ دعيت لَبَادَرت ".
37
﴿قطعن أَيْدِيهنَّ إِن رَبِّي بكيدهن عليم (٥٠) قَالَ مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه قُلْنَ حاش لله مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء قَالَت امرأت الْعَزِيز الْآن حصحص الْحق أَنا راودته عَن نَفسه وَإنَّهُ لمن الصَّادِقين (٥١) ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ وَأَن الله لَا يهدي﴾ فَإِن قيل: أيش قصد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام من رد الرَّسُول وَذكر النسْوَة، وَقد مضى على ذَلِك الزَّمَان الطَّوِيل؟
الْجَواب: المُرَاد أَنه أَن لَا ينظر إِلَيْهِ الْملك بِعَين التُّهْمَة وَيصير إِلَيْهِ وَقد زَالَ الشكوك عَن أمره فَقَالَ مَا قَالَ هَذَا.
38
قَوْله (تَعَالَى)
﴿قَالَ مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف﴾ رُوِيَ أَن الْملك بعث إِلَى النسْوَة وفيهن امْرَأَة الْعَزِيز فَدَعَا بِهن وَقَالَ لَهُنَّ هَذِه الْمقَالة، وَقَوله:
﴿مَا خطبكن﴾ أَي: مَا (حالكن) ؟ وَقيل: مَا أمركن؟ وَقَوله:
﴿إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه﴾ خاطبهن بِهَذِهِ الْمقَالة، وَالْمرَاد: امْرَأَة الْعَزِيز خَاصَّة، وَقيل: إِن امْرَأَة الْعَزِيز راودته عَن نَفسه وَسَائِر النسْوَة أمرنه بِالطَّاعَةِ لَهَا؛ فَلهَذَا قَالَ: إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه. وَقَوله:
﴿قُلْنَ حاش لله﴾ معَاذ الله
﴿مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء﴾ يَعْنِي: مَا علمنَا عَلَيْهِ من تُهْمَة وَلَا خِيَانَة. وَقَوله:
﴿قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز الْآن حصحص الْحق أَنا راودته عَن نَفسه﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن النسْوَة لما أخبرن بِبَرَاءَة يُوسُف عَمَّا قرن بِهِ أقبلن على امْرَأَة الْعَزِيز يقرونها. وَرُوِيَ أَنَّهَا خَافت أَن يقبلن عَلَيْهَا ويشهدن عَلَيْهَا فأقرت وَقَالَت: الْآن حصحص الْحق. مَعْنَاهُ: تبين الْحق. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْآن ظهر الْأَمر بعد الانكتام. قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا مبلغ عني خداشا بِأَنَّهُ كذوب إِذا مَا حصحص الْحق ظَالِم)
﴿أَنا راودته عَن نَفسه﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله:
﴿وَإنَّهُ لمن الصَّادِقين﴾
قَوْله تَعَالَى:
﴿ذَلِك ليعلم﴾ اخْتلفُوا على أَن هَذَا قَول من؟ الْأَكْثَرُونَ أَنه قَول يُوسُف؛ وَمَعْنَاهُ: ذَلِك ليعلم الْعَزِيز {أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ
38
﴿كيد الخائنين (٥٢) وَمَا أبرىء نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي إِن رَبِّي غَفُور رَحِيم (٥٣) وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ أستخلصه لنَفْسي فَلَمَّا كَلمه قَالَ إِنَّك الْيَوْم﴾ وَأَن الله لَا يهدي كيد الخائنين) وَمَعْنَاهُ: إِنَّه لَا يُوضح وَلَا يرشد كيد الخائنين. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ دخل قَول يُوسُف فِي وسط هَذَا الْكَلَام، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور كَلَام جرى بَين الْملك والنسوة؟ !
قُلْنَا: اعْتِرَاض كَلَام آخر بَين كَلَام. جَائِز على لُغَة الْعَرَب؛ قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة سُلَيْمَان حِكَايَة عَن بلقيس:
﴿قَالَت إِن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ كَلَام الله تَعَالَى اعْتِرَاض فِي الْوسط وَمِنْهُم من قَالَ: وَفِي [الْآيَة] تَقْدِير من التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، مَعْنَاهُ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ إِن رَبِّي بكيدهن عليم؛ ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ وَأَن الله لَا يهدي كيد الخائنين، ثمَّ يرتب على هَذَا فِي الْمَعْنى قَوْله:
﴿مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه﴾ .
39
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا أبرىء نَفسِي﴾ الْآيَة. رُوِيَ: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ليوسف حِين قَالَ: ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ. [فَقَالَ لَهُ] : وَلَا حِين هَمَمْت ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ: حِين حللت التكة. فَقَالَ يُوسُف: (وَمَا أبرىء نَفسِي)
﴿إِن النَّفس لأمارة بالسوء﴾ يَعْنِي: إِن النَّفس كَثِيرَة الْأَمر بالسوء: السوء هَاهُنَا هُوَ الْمعْصِيَة. وَقَوله:
﴿إِلَّا مَا رحم رَبِّي﴾ قيل: إِلَّا من رحم رَبِّي، وَفِيه مَعْنيانِ؛ أَحدهمَا: أَنه أَشَارَ إِلَى حَالَة الْعِصْمَة عِنْد رُؤْيَة الْبُرْهَان. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِلَّا من رحم رَبِّي: هم الْمَلَائِكَة؛ فَإِن الله تَعَالَى لم يركب فيهم الشَّهْوَة وخلقهم على الْعِصْمَة من الْهم وَغَيره.
39
﴿لدينا مكين أَمِين (٥٤) قَالَ اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض إِنِّي حفيظ عليم (٥٥) وَكَذَلِكَ﴾
وَقَوله:
﴿إِن رَبِّي غَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر.
40
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ أستخلصه لنَفْسي﴾ مَعْنَاهُ: أجعله خَاصّا لنَفْسي لَا يشركني فِيهِ أحد ﴿فَلَمَّا كَلمه﴾ فِي الْآيَة اخْتِصَار أَيْضا فَروِيَ أَنه ذهب الرَّسُول وَدعَاهُ فَقَامَ واغتسل وَلبس ثيابًا (نضافا) وَجَاء إِلَى الْملك. وَقَوله: ﴿فَلَمَّا كَلمه﴾ فِي الْقِصَّة أَن الْملك طلب مِنْهُ أَن يُعِيد تَعْبِير الرُّؤْيَا ليسمع مِنْهُ شفاها، فَقص عَلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَلَمَّا كَلمه﴾ وَقيل: إِن الْملك كَانَ يعلم سبعين لُغَة من لُغَات النَّاس فَكلم يُوسُف بِتِلْكَ اللُّغَات فَأَجَابَهُ يُوسُف بهَا كلهَا وَزَاد (لِسَان) العبرية والعربية وَلم يكن الْملك يعلم ذَلِك، فَقَالَ: ﴿إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين﴾ والمكانة: هِيَ الجاه والحشمة والدرجة الرفيعة، وَقَوله: ﴿أَمِين﴾ أَي: صَادِق.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض﴾ اخْتلفُوا أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم طلب هَذَا؟ قَالَ (بَعضهم) : إِنَّمَا طلب ذَلِك لِأَنَّهُ عرف أَن ذَلِك؛ وَصله إِلَى وُصُول أَهله إِلَيْهِ من أَبِيه وَإِخْوَته وَغَيرهم، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا طلب ذَلِك لِأَنَّهُ عرف أَنه أقوم النَّاس بِالْقيامِ بمصالح النَّاس فِي السنين الشداد، فَطلب لهَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله:
﴿اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض﴾ الأَرْض هَاهُنَا: أَرض مصر، والخزائن: هِيَ خَزَائِن الطَّعَام وَالْأَمْوَال. وَقَالَ ربيع بن أنس: " اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض " أَي: على خراج مصر ودخلها.
﴿إِنِّي حفيظ عليم﴾ أَي: حفيظ للخزائن، عليم بِوُجُوه مصالحها. وَفِي بعض التفاسير: " إِنِّي حفيظ عليم " أَي: كَاتب حاسب. فَإِن قيل: هَل يجوز أَن يتَوَلَّى الْمُسلم من يَد كَافِر عملا؟
قُلْنَا قد قَالُوا: إِنَّه إِذا علم أَن الْكَافِر يخليه وَالْعَمَل بِالْحَقِّ يجوز أَن يتَوَلَّى. وَقد
40
﴿مكنا ليوسف فِي الأَرْض يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع أجر﴾ رُوِيَ أَن ملك مصر لم يكن طاغيا ظَالِما، وَإِنَّمَا كَانَ رجلا عفيفا فِي دينه، وَإِنَّمَا الطاغي الظَّالِم كَانَ فِرْعَوْن مُوسَى. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْملك مكث سنة لَا يوليه ثمَّ ولاه. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي: " أَن يُوسُف لَو لم يطْلب يوليه فِي الْحَال، وَلكنه لما طلب أخر الْملك سنة ". فَإِن قَالَ قَائِل: أَيجوزُ للْإنْسَان أَن يُزكي نَفسه وَقد قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنِّي حفيظ عليم "؟
قُلْنَا: يجوز إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة عَامَّة. وَقيل: إِنَّه يجوز (إِذا عرف أَنه) لَا يلْحقهُ بذلك آفَة وَأمن الْعجب على نَفسه. وَعَن بعض الْأَئِمَّة: لَا يضر الْمَدْح من عرف نَفسه. وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر " وَالْخَبَر بِطُولِهِ.
41
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَكَذَلِكَ مكنا﴾ رُوِيَ أَن الْملك ولاه مَا طلب بعد سنة وَتوجه بتاج مرصع بجواهر وَأَجْلسهُ على سَرِير الذَّهَب وَاعْتَزل الْأَمر كُله، وفوض إِلَيْهِ، ودانت لَهُ الْمُلُوك وَسمي بالعزيز. وَفِي الْقِصَّة أَيْضا أَن امْرَأَة الْعَزِيز مَاتَ زَوجهَا فَزَوجهَا الْملك من يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَولدت لَهُ وَلدين. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنَّهَا وقفت على طَرِيق يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَنَادَتْ: سُبْحَانَ من جعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيتهم، وَجعل العبيد ملوكا بطاعتهم.
قَوْله تَعَالَى:
﴿ [مكنا] ﴾ وَمَعْنَاهُ: ملكنا وبسطنا
﴿ليوسف فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: أَرض مصر
﴿يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء﴾ أَي: ينزل مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء {نصيب
41
﴿الْمُحْسِنِينَ (٥٦) ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجَاء إخْوَة يُوسُف﴾ برحمتنا) مَعْنَاهُ: (نصيب بنعمتنا)
﴿من نشَاء وَلَا نضيع أجر الْمُحْسِنِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
42
قَوْله: ﴿ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا﴾ مَعْنَاهُ: ثَوَاب الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا. وَقَوله: ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَجَاء إخْوَة يُوسُف فَدَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ قَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: لما نصب الْملك يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - للْقِيَام بِالْأَمر، وتدبير مَال مصر دبر فِي جمع الطَّعَام أحسن التَّدْبِير بنى الْحُصُون والبيوت الْكَبِيرَة، وَجمع فِيهَا طَعَاما للسنين المجدبة، وَأنْفق مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى مَضَت السنون المخصبة وَدخلت سنُون الْقَحْط، فَروِيَ أَنه كَانَ دبر فِي [طَعَام] الْملك وحاشيته مرّة وَاحِدَة وَهُوَ نصف النَّهَار، فَكلما دخلت سنة الْقَحْط كَانَ أول من أَخذ الْجُوع هُوَ الْملك فَنَادَى بِنصْف اللَّيْل: يَا يُوسُف، الْجُوع، الْجُوع. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه كَانَ يقدر لكل اثْنَيْنِ طَعَام اثْنَيْنِ وَكَانَ يقدم جَمِيعه بَين يَدي الْوَاحِد فَلَا يَأْكُل إِلَّا نصفه، فَلَمَّا دخلت سنة الْقَحْط (قدم طَعَام اثْنَيْنِ بَين يَدي وَاحِد فَقدم فَأكل جَمِيعه وَطلب زِيَادَة فَعرف يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دخلت سنة الْقَحْط)، وَالله أعلم. قَالُوا: وَدخلت السّنة الأولى بهول وَشدَّة لم يعْهَد النَّاس مثله، وَكَانَ كلما جَاءَت سنة أُخْرَى كَانَت أهول وَأَشد، فَلَمَّا كَانَت السّنة الثَّانِيَة وصل الْقَحْط إِلَى كنعان - وَهُوَ منزل يَعْقُوب وَأَوْلَاده - فاحتاجوا إِلَى الطَّعَام حَاجَة شَدِيدَة فَدَعَا بنيه وَقَالَ لَهُم: بَلغنِي أَن بِمصْر ملكا صَالحا يَبِيع الطَّعَام فتجهزوا واذهبوا إِلَيْهِ لتشتروا مِنْهُ الطَّعَام، قَالَ: فأرسلهم وهم عشرَة نفر وَحبس [ابْنه بنيامين] عِنْده فقدموا مصر، فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَجَاء إخْوَة يُوسُف﴾ . وَقَوله:
﴿فعرفهم﴾
42
﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فعرفهم وهم لَهُ منكرون (٥٨) وَلما جهزهم بجهازهم قَالَ ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم أَلا ترَوْنَ أَنِّي أوفي الْكَيْل وَأَنا خير المنزلين (٥٩) فَإِن لم﴾
قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: عرفهم بِأول مَا نظر إِلَيْهِم، وَقَالَ الْحسن: لم يعرفهُمْ حَتَّى تعرفوا إِلَيْهِ. وَمعنى الْآيَة: فعرفهم بالتعريف؛ والمعرفة: تبين الشَّيْء بِمَا لَو شوهد لميز بَينه وَبَين غَيره. وَقَوله:
﴿وهم لَهُ منكرون﴾ يَعْنِي: أَنهم لم يعرفوه؛ وَالْإِنْكَار إبِْطَال الْمعرفَة بالْقَوْل، فَإِن قَالَ قَائِل، كَيفَ عرفهم وَلم [يعرفوه] وهم إخْوَة؟ !
وَالْجَوَاب من وُجُوه: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: كَانَ عَلَيْهِ تَاج الْملك وَكَانَ قَاعِدا على سَرِير الْملك فَلم يعرفوه. وَذكر الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ على زِيّ مُلُوك مصر والأعاجم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَلمهمْ من وَرَاء ستر فَلم يعرفوه لهَذَا وعرفهم؛ لِأَنَّهُ أبصرهم وَلم يعرفوه؛ لأَنهم لم يبصروه، وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم كَانُوا تَرَكُوهُ صَغِيرا، وَكَانَ بَين أَن باعوه وَبَين أَن دخلُوا عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سنة فَلم يعرفوه لهَذَا. وَهَذَا قَول حسن. وَأما هُوَ فَكَانَ تَركهم رجَالًا.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن يُوسُف كَانَ يتَوَقَّع قدومهم عَلَيْهِ فَلَمَّا [جَاءُوا] عرفهم، وَأما الْإِخْوَة مَا ظنُّوا أَنه يصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ [فأنكروه] لهَذَا.
43
قَوْله
﴿وَلما جهزهم بجهازهم﴾ الْآيَة، الجهاز: هُوَ فاخر الْمَتَاع الَّذِي ينْقل من بلد إِلَى بلد؛ وَمعنى التَّجْهِيز هَاهُنَا: هُوَ أَنه بَاعَ مِنْهُم الطَّعَام وَسلمهُ إِلَيْهِم وَسَهل لَهُم الرُّجُوع إِلَى بلدهم.
وَقَوله:
﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم﴾ فِي الْقِصَّة: أَنهم لما دخلُوا عَلَيْهِ خلا بهم فِي الْبَيْت وَقَالَ: إِنِّي استربت بحالكم فَأَخْبرُونِي من أَنْتُم؟ فَقَالُوا: نَحن بَنو رجل صديق، فَقَالَ: وَمن هُوَ؟ قَالُوا: يَعْقُوب، فاستخبرهم عَن حَاله، فَذكرُوا أَنه كَانَ لَهُ اثْنَا
43
﴿تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كيل لكم عِنْدِي وَلَا تقربون (٦٠) قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لفاعلون (٦١) وَقَالَ لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فِي رحالهم لَعَلَّهُم يعرفونها إِذا عشر ابْنا وَأَنه هلك وَاحِد مِنْهُم فِي الْبَريَّة (وَحبس﴾ وَاحِدًا وَهُوَ أَخُوهُ لأمه ليستأنس بِهِ، فَقَالَ: أَنا مستريب بكم، فَإِن كُنْتُم صَادِقين فاحملوا ذَلِك الْأَخ مَعكُمْ لتزول الرِّيبَة عَن حالكم. وَقيل: إِنَّه قَالَ لَهُم لما قصت الْقِصَّة عَلَيْهِ، قصتي مثل قصتكم أَيهَا الْقَوْم وَقد فقدت أَخا لي من أُمِّي وَأَنا شَدِيد الْحزن عَلَيْهِ وَقد نغص فِرَاقه عَليّ ملكي فَأحب أَن تَحملُوهُ إِلَيّ لأشكو إِلَيْهِ حزني ويشكو إِلَيّ حزنه، فَبِهَذَا الطَّرِيق قَالَ: ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم.
وَفِي بعض (التفاسير) : أَنهم ذكرُوا إِيثَار يَعْقُوب بنيامين) و (أَخَاهُ) فِي الْمحبَّة فَأحب أَن يرى بنيامين لينْظر هَل هُوَ مَوضِع الإيثار؟
وَقَوله:
﴿أَلا ترَوْنَ أَنِّي أوفي الْكَيْل﴾ يَعْنِي: أتم الْكَيْل وَلَا أبخسه. وَقَوله:
﴿وَأَنا خير المنزلين﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَنا خير المضيفين، وَكَانَ قد أحسن ضيافتهم.
44
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن لم تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كيل لكم عِنْدِي﴾ قَالَ الْحسن: إِن لم تَأْتُونِي بِهِ فَلَا طَعَام لكم عِنْدِي إِن جئْتُمْ. وَقَوله: ﴿وَلَا تقربون﴾ أَي: لَا تقربُوا بلادي وَلَا دَاري.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ﴾ مَعْنَاهُ: سنطلب إِلَى أَبِيه أَن يُرْسِلهُ مَعنا. وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لفاعلون﴾ أَي: مجتهدون.
قَوْله:
﴿وَقَالَ لفتيته﴾ قرىء بقراءتين: " لفتيانه " و " لفتيته " والفتى: هُوَ الشَّبَاب الْكَامِل فِي الْقُوَّة، والفتية والفتيان هَاهُنَا: الغلمان. وَقَوله:
﴿اجعلوا بضاعتهم فِي رحالهم﴾ يُقَال: إِن بضاعتهم كَانَت دَارهم حملوها لشراء الطَّعَام. وَعَن بَعضهم: أَن بضاعتهم كَانَت ثَمَانِيَة جرب من سويق الْمقل. وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله:
﴿فِي رحالهم﴾ الرحل هَاهُنَا: وعَاء الْمَتَاع. وَقيل: فِي جواليقهم. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يعرفونها
44
﴿انقلوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم قَالُوا يَا أَبَانَا منع منا الْكَيْل فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل وَإِنَّا لَهُ لحافظون (٦٣) قَالَ هَل آمنكم عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أمنتكم على أَخِيه من قبل فَالله خير حَافِظًا وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ (٦٤) ﴾ إِذا انقلبوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَعَلَّهُم يعْرفُونَ كرامتهم علينا، وإحساننا إِلَيْهِم فيحملهم ذَلِك على الرُّجُوع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لَعَلَّهُم يعرفونها إِذا انقلبوا إِلَى أهلهم - يَعْنِي: البضاعة - فيرجعون لرد البضاعة نفيا للغلط. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه لم رد بضاعتهم عَلَيْهِم؟
فأحد الْأَقْوَال: مَا بَينا، وَهُوَ أَن يكون ذَلِك حثا لَهُم على الرُّجُوع. وَالثَّانِي: أَنه عرف أَن الدَّرَاهِم كَانَت قَليلَة عِنْدهم فَرد الدَّرَاهِم عَلَيْهِم ليَكُون عونا لَهُم على شِرَاء الطَّعَام. وَالثَّالِث: أَنه استحيا أَن يُعْطي أَبَاهُ وَإِخْوَته بِالثّمن مَعَ شدَّة حَاجتهم وسعة الْأَمر عَلَيْهِ.
45
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم قَالُوا يَا أَبَانَا منع منا الْكَيْل﴾ إِن لم نحمل أخانا مَعنا. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ أعْطى باسم كل وَاحِد مِنْهُم وقرا، وَلم يُعْط باسم بنيامين شَيْئا، وَقَالَ: احملوه لأعطي باسمه؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿منع منا الْكَيْل﴾ أَي: منع منا الْكَيْل لبنيامين؛ وَالْمعْنَى بِالْكَيْلِ هُوَ الطَّعَام؛ لِأَنَّهُ يُكَال. وَقَوله: ﴿فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل﴾ أَي: نكيل الطَّعَام، وَقيل: نكتل لَهُ. وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ هَل ءآمنكم عَلَيْهِ﴾ الْآيَة، معنى هَذَا: كَيفَ آمنكم عَلَيْهِ وَقد فَعلْتُمْ بِيُوسُف مَا فَعلْتُمْ. وَقَوله: ﴿فَالله خير حَافِظًا﴾ قرىء: " حفظا " و " حَافِظًا " وَمَعْنَاهُ: حفظ الله خير من حفظكم، وحافظ الله خير من حافظكم.
قَوْله: ﴿وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلما فتحُوا مَتَاعهمْ وجدوا بضاعتهم ردَّتْ إِلَيْهِم﴾ يَعْنِي: مَا حملُوا من الدَّرَاهِم
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغي﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَي شَيْء نطلب؟ على طَرِيق الِاسْتِفْهَام؛ قَالَه قَتَادَة. وَحَقِيقَته: أَنهم ذكرُوا ليعقوب عَلَيْهِ السَّلَام إِحْسَان الْملك
45
﴿وَلما فتحُوا مَتَاعهمْ وجدوا بضاعتهم ردَّتْ إِلَيْهِم قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغي هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذَلِك كيل يسير (٦٥) قَالَ لن أرْسلهُ مَعكُمْ حَتَّى تؤتون موثقًا من الله لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط﴾ إِلَيْهِم وإكرامه إيَّاهُم، [وحثوه] بذلك على إرْسَال بنيامين، فَلَمَّا فتحُوا الْمَتَاع ووجدوا البضاعة قَالُوا: أَي شَيْء نطلب بالْكلَام، هَذَا هُوَ العيان فِي الْإِحْسَان وَالْإِكْرَام.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " مَا " هَاهُنَا للنَّفْي؛ وَمَعْنَاهُ: لَا نطلب مِنْك مَالا لنشري بِهِ الطَّعَام
﴿هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا﴾ هَذَا المَال قد رد إِلَيْنَا فنحمله ونشتري بِهِ الطَّعَام. وَالْقَوْل الأول أصح.
وَقَوله:
﴿ونمير أهلنا﴾ يُقَال: مار أَهله إِذا حمل لَهُم الطَّعَام من بلد إِلَى بلد؛ والميرة: هُوَ الطَّعَام الْمَحْمُول. وَقَوله:
﴿ونحفظ أخانا﴾ يَعْنِي: مِمَّا تخَاف عَلَيْهِ. وَقَوله:
﴿ونزداد كيل بعير﴾ قَالَ مُجَاهِد: الْبَعِير هَاهُنَا: هُوَ الْحمار، قَالَ: هُوَ لُغَة، وَكَانُوا أَصْحَاب حمر وَلم يكن لَهُم إبل. وَالأَصَح أَنه الْبَعِير الْمَعْرُوف. وَقَوله:
﴿ونزداد﴾ إِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ يعْطى حمل بعير باسم كل رجل وَلَا يزِيد؛ فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿ونزداد كيل بعير﴾ . قَوْله:
﴿ذَلِك كيل يسير﴾ فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: ذَلِك كيل قَلِيل؛ يَعْنِي: مَا حملناه قَلِيل لَا يكفينا وأهلنا، فَأرْسل مَعنا أخانا [نكتل] ليكْثر مَا نحمله من الطَّعَام. وَالْمعْنَى الثَّانِي: ذَلِك كيل يسير أَي: هَين على من يكتاله.
46
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ لن أرْسلهُ مَعكُمْ﴾ فِي الْقِصَّة: أَن الْإِخْوَة جهدوا أَشد الْجهد وضاق الْأَمر على يَعْقُوب وَقَومه فِي الطَّعَام فَلم يجد بدا من إرْسَال [بنيامين] مَعَهم فَقَالَ:
﴿لن أرْسلهُ مَعكُمْ حَتَّى تؤتون موثقًا من الله﴾ الموثق: هُوَ الْعَهْد الْمُؤَكّد بالقسم، وَقيل: الْمُؤَكّد بإشهاد الله على نَفسه. وَقَوله:
﴿لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم﴾ فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: إِلَّا أَن تهلكوا جَمِيعًا. وَالْآخر: إِلَّا أَن يأتيكم أَمر من السَّمَاء لَيْسَ لكم بِهِ قُوَّة.
46
﴿بكم فَلَمَّا آتوه موثقهم قَالَ الله على مَا نقُول وَكيل (٦٦) وَقَالَ يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَمَا أُغني عَنْكُم من الله من﴾
وَقَوله:
﴿فَلَمَّا آتوه موثقهم﴾ يَعْنِي: أَعْطوهُ
﴿قَالَ الله﴾ تَعَالَى
﴿على مَا نقُول وَكيل﴾ قَالَ يَعْقُوب: الله على مَا نقُول وَكيل؛ وَالْوَكِيل هُوَ الْقَائِم بِالتَّدْبِيرِ، وَقيل: وَكيل أَي: شَاهد [وَقيل: شَهِيد، أَي: شَاهد] وَقيل: حفيظ.
47
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَقَالَ يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد﴾ أَكثر الْمُفَسّرين [على] أَنه خَافَ الْعين: لِأَنَّهُ كَانُوا أعْطوا جمالا وَقُوَّة وامتداد قامة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره من الْمُفَسّرين؛ وَالْعين حق. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن فَيَقُول: (أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله [التَّامَّة] من كل شَيْطَان [و] هَامة، وَمن كل عين لَامة " (٣).
وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِي بعض الْآثَار. " الْعين حق، تدخل الْجمل الْقدر وَالرجل الْقَبْر ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه خَافَ عَلَيْهِم ملك مصر إِذا رأى قوتهم واجتماعهم أَن يحبسهم أَو يقتلهُمْ. وَحكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: كَانَ يَرْجُو يَعْقُوب أَن يرَوا يُوسُف ويجدوه فَقَالَ:
﴿وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة﴾ لَعَلَّكُمْ (تَجِدُونَ) يُوسُف [أَو] تلقونه. وَالصَّحِيح هُوَ الأول.
وَقَوله:
﴿وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شَيْء﴾ مَعْنَاهُ: إِن كَانَ الله قضى فِيكُم [قَضَاء] فيصيبكم [قَضَاؤُهُ] مُجْتَمعين كُنْتُم أَو مُتَفَرّقين؛ وَمعنى " أغْنى "
47
﴿شَيْء إِن الحكم إِلَّا لله عَلَيْهِ توكلت وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون (٦٧) وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا وَإنَّهُ لذُو علم لما علمناه وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (٦٨) وَلما دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنا أَخُوك فَلَا تبتئس بِمَا﴾ أَي: أدفَع. وَفِي الْخَبَر: الحذر لَا يرد الْقدر. وَقَوله:
﴿إِن الحكم إِلَّا لله﴾ هَذَا تَفْوِيض يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أُمُوره إِلَى الله؛ وَالْحكم: هُوَ الْفَصْل بَين الْخُصُوم بِمُوجب الْعلم من الْبشر، وَمن الله صنع بِمُوجب الْحِكْمَة
﴿عَلَيْهِ توكلت﴾ يَعْنِي: بِهِ وثقت وَعَلِيهِ اعتمدت.
﴿وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون﴾ مَعْنَاهُ: وَبِه يَثِق الواثقون.
48
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم﴾ يَعْنِي: من الْأَبْوَاب المتفرقة قيل: إِن الْمَدِينَة مَدِينَة الفرما، و (كَانَت) لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب، كَانَت مَدِينَة الْعَريش. وَقَوله ﴿مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء﴾ مَعْنَاهُ: مَا كَانَ يدْفع عَنْهُم من الله من شَيْء، وَهَذَا الْحق تَحْقِيق لما ذكره يَعْقُوب من قَوْله: ﴿وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شَيْء﴾ . وَقَوله: ﴿إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا﴾ يَعْنِي: إِلَّا مرَادا ليعقوب عَلَيْهِ السَّلَام ذكره وَجرى الْأَمر على ذَلِك. وَقَوله: ﴿وَإنَّهُ لذُو علم لما علمناه﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: وَأَنه كَانَ يعْمل مَا يعْمل عَن علم، لَا عَن جهل. وَمِنْهُم من قَالَ: وَإنَّهُ لذُو علم بِسَبَب تعليمنا إِيَّاه ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ لأَنهم لم يسلكوا طَرِيق الْعلم.
قَوْله:
﴿وَلما دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ آوى إِلَيْهِ: ضم إِلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: أنزلهُ مَعَ نَفسه. وَفِي الْقِصَّة: أَنه أنزل كل أَخَوَيْنِ من أم بَيْتا، فَبَقيَ بنيامين وَحده فَقَالَ: انْزِلْ معي، وَكَانَ كل أَخَوَيْنِ من أم على حِدة. وَقَوله:
﴿قَالَ إِنِّي أَنا أَخُوك﴾
48
﴿كَانُوا يعْملُونَ (٦٩) فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه ثمَّ أذن مُؤذن أيتها العير إِنَّكُم لسارقون (٧٠) قَالُوا وَأَقْبلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أسر إِلَيْهِ أَنه أَخُوهُ. وَالْآخر: أَنه قَالَ: أَنا لَك مَكَان أَخِيك الْهَالِك. ذكره وهب وَغَيره. وَقَوله:
﴿فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ مَعْنَاهُ: فَلَا تحزن بِمَا عمِلُوا مَعَ أَخِيك، فَإِنِّي لَك بدل أَخِيك، فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُ بنيامين: وَمن يجد أَخا مثلك أَيهَا الْملك؛ وَلَكِنَّك لست من يَعْقُوب؛ فَحِينَئِذٍ ذكر أَنه أَخُوهُ حَقِيقَة.
49
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا جهزهم بجهازهم﴾ قد ذكرنَا. وَقَوله:
﴿وَجعل السِّقَايَة﴾ السِّقَايَة: هِيَ الْإِنَاء الَّذِي يشرب بِهِ. وَاخْتلفُوا أَنَّهَا من أيش كَانَت؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت من زبرجد. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت من فضَّة مرصعة بالجوهر، وَقيل: كَانَ من ذهب. وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ (إِنَاء) مستطيلا شبه المكوك وَله رأسان وَفِي وَسطه مقبض، فَكَانَ يُكَال من أحد الرأسين وَيشْرب من (الرَّأْس) الآخر، وَكَانَ لَا يُكَال إِلَّا بِهِ لعزة الطَّعَام، وَكَانَ يسمع لَهَا صَوت: قد كيل فِي كَذَا.
وَقَوله:
﴿فِي رَحل أَخِيه﴾ أَي: فِي وعَاء أَخِيه بَين طَعَامه. وَقَوله:
﴿ثمَّ أذن مُؤذن﴾ رُوِيَ أَنه تَركهم حَتَّى ذَهَبُوا منزلا، وَقيل: حَتَّى أصحروا وَخَرجُوا من الْعِمَارَة، ثمَّ بعث من خَلفهم من استوقفهم وَقَالَ:
﴿أيتها العير إِنَّكُم لسارقون﴾ وَالْعير: هم أَصْحَاب الْحمير. وَقيل: قد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْإِبِل. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ استجاز يُوسُف أَن ينسبهم إِلَى السّرقَة وَلم يسرقوا؟
الْجَواب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا مَعْنَاهُ: إِنَّكُم لسارقو يُوسُف من أَبِيه، وعملتم كَمَا يعْمل السراق. وَالثَّانِي: أَن الرجل قَالَ من غير أَمر يُوسُف، فَإِنَّهُ حِين فقد الصَّاع ظن أَنهم سرقوا. وَالثَّالِث: أَن هَذِه هفوة من يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد قَالُوا: إِنَّه عير ثَلَاث عيرات: الأولى: حِين هم بِامْرَأَة الْعَزِيز إِلَى أَن رأى الْبُرْهَان، وَالثَّانِي حِين قَالَ للساقي: اذْكُرْنِي عِنْد رَبك، وَالثَّالِث: هَذَا؛ وَهُوَ أَنه نسب إخْوَته إِلَى السّرقَة.
وَالْقَوْل الأول أَجود الْأَقَاوِيل، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ وَاضع مَعَ بنيامين، وَقَالَ مَا قَالَ بالمواضعة، وَالله أعلم.
49
(
﴿٧١) قَالُوا نفقد صواع الْملك وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم (٧٢) قَالُوا تالله لقد علمْتُم مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض وَمَا كُنَّا سارقين (٧٣) قَالُوا فَمَا﴾
50
قَوْله: ﴿قَالُوا وَأَقْبلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ رُوِيَ أَنهم وقفُوا وَقَالُوا للْقَوْم: مَاذَا تطلبون؟
قَوْله: ﴿قَالُوا نفقد صواع الْملك﴾ قَرَأَ يحيى بن يعمر: " صوغ الْملك " بالغين الْمُعْجَمَة [و] الصوغ من الذَّهَب أَو الْفضة، والصواع يذكر وَيُؤَنث، [و] الصواع: هُوَ السِّقَايَة الَّتِي ذكرهَا فِي الْآيَة الأولى. وَقيل: إِنَّه كَانَ يكون بَين يَدي الْملك، فَإِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ أَخذ.
وَقَوله: ﴿وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير﴾ يَعْنِي: وَلمن رده حمل بعير من الطَّعَام.
وَقَوله: ﴿وَأَنا بِهِ زعيم﴾ أَي: كَفِيل، والزعيم وَالْكَفِيل والضمين بِمَعْنى وَاحِد، وَيُسمى الرئيس زعيما؛ لِأَنَّهُ كفل أُمُور الْقَوْم زعيم يقوم بمصالحهم وَيتَكَلَّم عَنْهُم. فَإِن قيل: أتجوز الْكفَالَة بِالْمَجْهُولِ عنْدكُمْ وَهَذِه كَفَالَة بِالْمَجْهُولِ؟ قُلْنَا: لَا تجوز، وَيحْتَمل أَن حمل الْبَعِير كَانَ مَعْلُوما قدره عِنْدهم. وَالثَّانِي: أَن هَذِه جعَالَة وَلم تكن كَفَالَة، وَعِنْدنَا تجوز مثل هَذِه الْجعَالَة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالُوا تالله لقد علمْتُم مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: وَالله مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض أَي: لنسرق فِي ملك مصر
﴿وَمَا كُنَّا سارقين﴾ فِي بِلَادنَا فنسرق فِي بِلَادكُمْ. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: لقد علمْتُم وَكَانَ (من جوابهم) أَن يَقُولُوا: نَحن لَا نعلم؟ (قُلْنَا) : إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم كَانُوا جمَاعَة لَهُم قُوَّة وَشدَّة وَلم يَكُونُوا يظْلمُونَ أحدا من الطَّرِيق وَلَا يتركون دوابهم تدخل فِي حرث أحد، وَرُوِيَ أَنهم دخلُوا مصر حِين دخلُوا وَقد جعلُوا الأكمة على رُءُوس دوابهم لِئَلَّا تفْسد شَيْئا.
وَجَوَاب آخر: أَنهم إِنَّمَا قَالُوا هَذَا لأَنهم ردوا البضاعة المحمولة فِي رحالهم قَالُوا: فَلَو
50
﴿جَزَاؤُهُ إِن كُنْتُم كاذبين (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِك نجزي الظَّالِمين (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قبل وعَاء أَخِيه ثمَّ استخرجها من﴾ كُنَّا سارقين مَا رددنا البضاعة؛ لِأَن من يطْلب شَيْئا ليسرقه لَا يخلي شَيْئا وَقع فِي يَده.
فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ فِي الْعَرَبيَّة أَن يَقُول الْقَائِل: (تالله، وَلَا يجوز أَن يَقُول: تالرحمن وتالرحيم) ؟ قُلْنَا: لِأَن التَّاء بدل الْبَاء؛ فَإِن الأَصْل فِي الْقسم حرف الْبَاء ثمَّ أبدلت الْوَاو بِالتَّاءِ فَلَمَّا كَانَت بدل الْبَدَل ضعفت عَن التَّصَرُّف واقتصرت على الِاسْم الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي الْقسم عَادَة وَلِسَانًا وَهُوَ " الله ".
51
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنْتُم كاذبين﴾ مَعْنَاهُ: فَمَا جَزَاء السَّارِق إِن كُنْتُم كاذبين بقولكم إِنَّا لم نَسْرِق؟
قَوْله: ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ استعباد السَّارِق من وجد فِي رَحْله (فَهَذَا) الْجَزَاء جَزَاؤُهُ؛ فَيكون الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ. وَفِي الأول حذف على عَادَة كَلَام الْعَرَب، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالُوا: جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فالسارق جَزَاؤُهُ؛ فَهُوَ كِنَايَة عَن السَّارِق، وَمعنى جعله جَزَاء: أَنه يسترق ويستعبد. وَاعْلَم أَنه كَانَ من سنة يَعْقُوب: أَن من سرق شَيْئا اسْترق سنة، وَكَانَ حكم ملك مصر أَن يضْرب وَيغرم ضعْفي قِيمَته، [فمراد] يُوسُف أَن يحبس أَخَاهُ عِنْده فَرد الحكم فِي السّرقَة إِلَيْهِم فَذكرُوا من حكم السّرقَة بِمَا عرفوه فِي شَرِيعَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، فَأخذ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بذلك وَحصل مُرَاده من حبس أَخِيه.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك نجزي الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: أَن إخْوَة يُوسُف قَالُوا: كَذَلِك نجزي السراق عندنَا.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قبل وعَاء أَخِيه ثمَّ استخرجها من وعَاء أَخِيه﴾ رُوِيَ أَن الْمُؤَذّن فتش عَن أوعيتهم، وَرُوِيَ أَنه رد جَمَاعَتهمْ إِلَى يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام -
51
﴿وعَاء أَخِيه كَذَلِك كدنا ليوسف مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك إِلَّا أَن يَشَاء الله نرفع دَرَجَات من نشَاء وَفَوق كل ذِي علم عليم (٧٦) قَالُوا إِن يسرق﴾ فَأمر بتفتيش أوعيتهم بَين يَدَيْهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك الرجل كَانَ كلما فتش وعَاء وَلم يجد الصَّاع اسْتغْفر الله وَأظْهر التَّوْبَة فَلَمَّا بَقِي رَحل بنيامين قَالَ: مَا أَظن أَن هَذَا أَخذ شَيْئا قَالُوا: وَالله لَا نَتْرُكك حَتَّى تفتش وعاءه فتطيب أَنْفُسنَا ونفسك، ففتش وعاءه واستخرج الصَّاع فبقوا منكسرين مستحيين ونكسوا رُءُوسهم خجلا وَقَالُوا لبنيامين: مَا هَذَا يَا ابْن راحيل؟
﴿فَقَالَ: وَالله مَا سرقت، فَقَالُوا: كَيفَ وَقد وجد الصَّاع فِي رحلك؟﴾ فَقَالَ: وضع الصَّاع فِي رحلي من وضع البضاعة فِي رحالكُمْ. قَالَ: وَأخذُوا بنيامين رَقِيقا عبدا. وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك الرجل أَخذ بِرَقَبَتِهِ ورده إِلَى يُوسُف كَمَا يرد السراق. وَقَوله:
﴿كَذَلِك كدنا ليوسف﴾ مَعْنَاهُ: دبرنا ليوسف، وَقيل: صنعنَا ليوسف. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أردنَا ليوسف؛ وَأنْشد قَول الشَّاعِر
(كَادَت وكدت وَذَاكَ خير إِرَادَة لَو عَاد من لَهو الصبابة مَا مضى)
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله:
﴿كَذَلِك﴾ وأيش هَذِه الْكَاف، وَالْكَاف للتشبيه؟ الْجَواب عَنهُ: أَن هَذَا منصرف إِلَى قَول يَعْقُوب فِي أول السُّورَة:
﴿فيكيدوا لَك كيدا﴾ وَكَانَ كيدهم: أَنهم أَخَذُوهُ من أَبِيه بحيلة وألقوه فِي الْجب فَقَالَ الله تَعَالَى: كَمَا كَادُوا فِي أَمر يُوسُف:
﴿كدنا ليوسف﴾ فِي أَمرهم؛ والكيد من الْخلق هُوَ: الْحِيلَة، وَمن الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ. وَقَوله:
﴿مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك﴾ مَعْنَاهُ: مَا كَانَ يُوسُف ليجازي أَخَاهُ فِي حكم الْملك، وَقيل: فِي عَادَة الْملك. قَالَ الشَّاعِر:
(أَقُول وَقد درأت لَهَا وضيني أَهَذا دينه أبدا وديني)
و" مَا " هَاهُنَا للنَّفْي. وَقَوله:
﴿إِلَّا أَن يَشَاء الله﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا بِمَشِيئَة الله يَعْنِي: فعل مَا فعل بِمَشِيئَة الله تَعَالَى. وَقَوله:
﴿نرفع دَرَجَات من نشَاء﴾ قَالَ هَذَا فِي هَذَا الْموضع؛ لِأَنَّهُ رفع دَرَجَة يُوسُف على درجتهم فِي الْعلم وَالْملك وَالْعقل وَغَيره. وَقيل:
52
﴿فقد سرق أَخ لَهُ من قبل فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم قَالَ أَنْتُم شَرّ مَكَانا وَالله أعلم بِمَا تصفون (٧٧) قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا﴾ نرفع دَرَجَات من نشَاء بالتوفيق والعصمة. وَقَوله:
﴿وَفَوق كل ذِي علم عليم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَفَوق كل عَالم عَالم إِلَى أَن يَنْتَهِي الْعلم إِلَى الله. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: وَفَوق كل عَالم عليم ".
53
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل﴾ أَرَادوا بأَخيه من قبل: يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه أيش سرق؟
قَالَ سعيد بن جُبَير وَقَتَادَة: كَانَ عِنْد جده إِلَى أمه صُورَة تعبد فَأَخذهَا سرا وَأَلْقَاهَا لِئَلَّا تعبد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ يَأْخُذ الطَّعَام من مائدة أَبِيه سرا فيعطيه الْمَسَاكِين.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه كَانَ عِنْد عمته تربيه، فَأَرَادَ يَعْقُوب أَن ينتزعه مِنْهَا فشدت عمته تَحت ثِيَابه منْطقَة، وَادعت أَنه سَرَقهَا لتحبسه عِنْد نَفسهَا وَيتْرك عِنْدهَا؛ فَإِنَّهَا كرهت أَن يُؤْخَذ مِنْهَا وَكَانَت أحبته حبا شَدِيدا، ذكره ابْن إِسْحَاق.
وَقَوله: ﴿فأسرها يُوسُف فِي نَفسه﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: إِلَى أَيْن يرجع قَوْله: ﴿فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم﴾ ؟ قُلْنَا: لَيْسَ لهَذَا مَذْكُور سَابق، وَمَعْنَاهُ: أسر الْكَلِمَة فِي نَفسه، وَتلك الْكَلِمَة أَنه قَالَ: ﴿أَنْتُم شَرّ مَكَانا﴾ ، وَلم يُصَرح بِهَذَا القَوْل. وَقَوله: ﴿شَرّ مَكَانا﴾ يَعْنِي: شَرّ صنيعا. وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ: أَنه لم يكن من يُوسُف سَرقَة صَحِيحَة، وَقد كَانَت مِنْكُم سَرقَة صَحِيحَة؛ وَهُوَ سرقتكم يُوسُف من أَبِيه.
وَقَوله: ﴿وَالله أعلم بِمَا تصفون﴾ يَعْنِي: وَالله أعلم أَن أَخَاهُ قد سرق أَو لم يسرق
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا﴾ فِي الْقِصَّة: أَنهم غضبوا غَضبا شَدِيدا لهَذِهِ الْحَالة، وَكَانَ يهوذا إِذا غضب لم يقم لغضبه شَيْء، وَإِذا صَاح [فَكل] امْرَأَة حَامِل سَمِعت صياحه أَلْقَت وَلَدهَا، وَكَانَ مَعَ هَذَا إِذا مَسّه أحد من
53
﴿فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون (٧٩) فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا قَالَ﴾ ولد يَعْقُوب [سكن] غَضَبه، وَقيل: إِن هَذَا كَانَ صفة شَمْعُون من أَوْلَاد يَعْقُوب؛ فَروِيَ أَنه قَالَ لإخوته: كم يكون من عدد الْأَسْوَاق بِمصْر؟ فَقَالُوا: عشرَة أسواق، فَقَالَ: اكفوني أَنْتُم الْأَسْوَاق وَأَنا أكفكم الْملك، أَو قَالَ: اكفوني أَنْتُم الْملك وَأَنا أكفكم الْأَسْوَاق، قَالَ: فَدَخَلُوا على يُوسُف فَقَالَ لَهُ يهوذا: أتردن علينا أخانا أَو لأصيحن صَيْحَة تلقي كل حَامِل وَلَدهَا فِي هَذِه الْبَلدة، وَكَانَ عِنْد يُوسُف ابْن لَهُ صَغِير قَائِم عِنْده فَقَالَ: اذْهَبْ وَخذ بيد ذَلِك الرجل وائتني بِهِ، فَذهب وَأخذ بِيَدِهِ فسكن غَضَبه، فَقَالَ لإخوته: وَالله إِن هَاهُنَا بذرا من بذر يَعْقُوب، فَقَالَ لَهُ الابْن الصَّغِير: وَمن يَعْقُوب وَأَنا لَا أَدْرِي يَعْقُوب وَلَا وَلَده؟. وَرُوِيَ أَنه غضب ثَانِيًا فَقَامَ إِلَيْهِ يُوسُف وركضه بِرجلِهِ وَأخذ بتلابيبه فَوَقع على الأَرْض وَقَالَ: معشر العبرانيين تظنون أَن لَا أحد أَشد مِنْكُم، ذكر هَذَا كُله السّديّ وَغَيره، فَلَمَّا صَار أَمرهم إِلَى هَذَا خضعوا وذلوا وَقَالُوا:
﴿يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا﴾ .
والعز: منع الضيم أَو الضير بسعة السُّلْطَان وَالْقُدْرَة، والعزيز: هُوَ المنيع بِمَا حصل لَهُ من وَاسع الْمَقْدُور.
قَوْله:
﴿إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ﴾ مَعْنَاهُ: خُذ أَحَدنَا بدله، وَنصب شَيخا على نعت قَوْله:
﴿أَبَا﴾ .
وَقَوله:
﴿إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ﴾ يَعْنِي: إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا، وإحسانه إِلَيْهِم بتوفية الْكَيْل، وَحسن الضِّيَافَة، ورد البضاعة، وَغَيره.
54
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ معَاذ الله﴾ أَعْتَصِم بِاللَّه ﴿أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ: أَن نَأْخُذ البرىء بدل الْجَانِي، فَإِن أَخذنَا فَإنَّا ظَالِمُونَ.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه لما استخرج الصَّاع وَعَاد الْإِخْوَة إِلَيْهِ دَعَا بالصاع ونقره بقضيب فِي يَده فطن الصَّاع.
54
﴿كَبِيرهمْ ألم تعلمُوا أَن أَبَاكُم قد أَخذ عَلَيْكُم موثقًا من الله وَمن قبل مَا فرطتم فِي يُوسُف فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض حَتَّى يَأْذَن لي أبي أَو يحكم الله لي وَهُوَ خير﴾
فَقَالَ: يَا قوم إِن هَذَا الصَّاع ليخبرني بِخَبَر، قَالُوا: وَمَا يُخْبِرك أَيهَا الْملك؟ فَقَالَ: إِنَّه يُخْبِرنِي أَنكُمْ كُنْتُم (اثنى) عشر إخْوَة وأنكم أَخَذْتُم أَخا لكم من أبيكم وألقيتموه فِي الْجب وبعتموه من بعد، قَالَ: فَجعل ينظر بَعضهم إِلَى بعض فَقَامَ بنيامين وَسجد لَهُ، وَقَالَ: صدق صاعك (أَيهَا الْملك)، سَله: أَحَي أخي أَو لَا؟، فَنقرَ الصَّاع ثَانِيًا وَطن فَقَالَ: إِنَّه يَقُول: هُوَ حَيّ، وستراه. فَقَالَ: سَله من سرق الصَّاع؟ فَقَالَ: هُوَ غَضْبَان - يَعْنِي الصَّاع - وَيَقُول كَيفَ تَسْأَلنِي وَقد رَأَيْت فِي يَد من كنت؟ ! أوردهُ النقاش وَأَبُو الْحسن بن فَارس وَغَيرهمَا، وَالله أعلم.
وَمعنى قَوْله:
﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ﴾ أَي: تيأسوا مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: استيأسوا استيقنوا أَن الْأَخ لَا يرد إِلَيْهِم، وَأنْشد:
(أَقُول لَهُم بِالشعبِ إِذْ يأسرونني ألم تيأسوا أَنِّي ابْن فَارس زَهْدَم)
يَعْنِي: ألم تعلمُوا. وَقَوله
﴿خلصوا نجيا﴾ يَعْنِي: انفردوا يتناجون، ويتشاورون فِي أَمر أخيهم، وَمعنى
﴿خلصوا﴾ : أَنه لم يكن مَعَهم غَيرهم. تَقول الْعَرَب: قوم نجى. قَالَ الشَّاعِر:
(حَتَّى إِذا مَا الْقَوْم كَانُوا أنجية واختلطت أَحْوَالهم كالأرشية)
وَقَوله:
﴿قَالَ كَبِيرهمْ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ يهوذا وَلم يكن أكبرهم فِي السن، وَلَكِن كَانَ فِي الْعقل أكبرهم، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ شَمْعُون وَكَانَت لَهُ الرِّئَاسَة على إخْوَته، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الروبيل وَكَانَ أكبرهم فِي السن.
وَقَوله:
﴿ألم تعلمُوا أَن أَبَاكُم قد أَخذ عَلَيْكُم موثقًا من الله﴾ قد بَينا معنى الموثق. وَقَوله:
﴿وَمن قبل مَا فرطتم فِي يُوسُف﴾ يَعْنِي: قصرتم وتركتم عهد أبيكم.
55
﴿الْحَاكِمين (٨٠) ارْجعُوا إِلَى أبيكم فَقولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا وَمَا كُنَّا للغيب حافظين (٨١) واسأل الْقرْبَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون (٨٢) قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا فَصَبر﴾ وَقَوله:
﴿فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض﴾ يَعْنِي: لن أَبْرَح أَرض مصر
﴿حَتَّى يَأْذَن لي أبي﴾ يَعْنِي: يدعوني أبي
﴿أَو يحكم الله لي﴾ أَي: يرد أخي إِلَيّ، وَقيل: يحكم الله لي بِالسَّيْفِ فأقاتلهم وأسترد أخي
﴿وَهُوَ خير الْحَاكِمين﴾ يَعْنِي: وَهُوَ خير الفاصلين.
56
قَوْله تَعَالَى: ﴿ارْجعُوا إِلَى أبيكم﴾ الْآيَة: امضوا إِلَى أبيكم ﴿فَقولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق﴾ وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " أَنه إِن ابْنك سرق " وَفِيه مَعْنيانِ: أَحدهمَا: اتهمَ بِالسَّرقَةِ. وَالْآخر: علم مِنْهُ السّرقَة. وَقَوله: ﴿وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا﴾ يَعْنِي: إِلَّا بِمَا رَأينَا فَإنَّا رَأينَا إِخْرَاج الصَّاع من مَتَاعه. وَقَوله: ﴿وَمَا كُنَّا للغيب حافظين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا كُنَّا لليله ونهاره وذهابه ومجيئه حافظين، وَإِنَّمَا كُنَّا نعلم من حَاله مادام عندنَا، وَالْقَوْل الثَّانِي يَعْنِي: أَنا لَو علمنَا أَنه سيسرق مَا حملناه مَعَ أَنْفُسنَا فَنحْن لم نعلم هَذَا الْغَيْب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿واسأل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ يَعْنِي: أهل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا. ﴿وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا﴾ يَعْنِي: وَأهل العير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا، أَي: كُنَّا فِيهَا.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لصادقون﴾ ظَاهر. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ استجاز يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يعْمل كل هَذَا بِأَبِيهِ وَلم يُخبرهُ بمكانه وَلم يُرْسل إِلَيْهِ أحدا، ثمَّ حبس أَخَاهُ عِنْده وَقد عرف شدَّة وجده عَلَيْهِ، وَهَذَا أعظم من كل عقوق، وَفِيه قطع الرَّحِم وَقلة الشَّفَقَة؟ الْجَواب عَنهُ: قد أَكثر النَّاس فِي هَذَا، وَالصَّحِيح أَنه عمل مَا عمل بِأَمْر الله تَعَالَى، وَأمره الله تَعَالَى بذلك ليزِيد فِي بلَاء يَعْقُوب ويضاعف لَهُ الْأجر، وَيرْفَع دَرَجَته [فيلحقه] فِي الدرجَة بآبائه الماضين. وَقيل: إِنَّه لم يظْهر نَفسه للإخوة؛ لِأَنَّهُ لم يَأْمَن عَلَيْهِم أَن يدبروا، فِي ذَلِك تدبيرا ويكتموا عَن أَبِيهِم، وَالصَّحِيح هُوَ الأول.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا﴾ فِي الْآيَة اخْتِصَار؛ لأَنهم رجعُوا
56
﴿جميل عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْعلم الْحَكِيم (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَالَ يَا أسفى على يُوسُف وابيضت عَيناهُ من الْحزن فَهُوَ كظيم (٨٤) ﴾ وَذكروا لأبيهم بِمَا علمهمْ كَبِيرهمْ، ثمَّ إِن يَعْقُوب قَالَ مَا قَالَ، وَمعنى التسويل هَاهُنَا: أَن زينت لكم أَنفسكُم حمل أخيكم إِلَى مصر لتطلبوا نفعا عَاجلا.
قَوْله تَعَالَى:
﴿فَصَبر جميل﴾ أَي: فصبري صَبر جميل. وَالصَّبْر: حبس النَّفس عَمَّا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس وَقد بَينا معنى الْجَمِيل. وَقَوله:
﴿عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا﴾ يَعْنِي: يُوسُف وأخاه بنيامين ويهوذا. وَفِي الْقِصَّة: أَن ملك الْمَوْت - عَلَيْهِ السَّلَام - زار يَعْقُوب فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْملك الطّيب رِيحه، الْحسن صورته هَل قبضت روح وَلَدي فِي الْأَرْوَاح؟ فَقَالَ: لَا. فسكن يَعْقُوب على ذَلِك، وَعلم أَنه حَيّ وطمع فِي رُؤْيَته. وَقَوله:
﴿إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم﴾ مَعْنَاهُ: الْعَلِيم بمكانهم، الْحَكِيم فِي تدبيرهم.
57
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَالَ يَا أسفى على يُوسُف﴾ الْآيَة. رُوِيَ أَن بنيامين لما حَبسه يُوسُف اشْتَدَّ الْأَمر على يَعْقُوب غَايَة الشدَّة وَبلغ الْحزن [بِهِ نهايته]، وَلم يملك بعد ذَلِك الصَّبْر، فجزع، فَهَذَا معنى قَوْله:
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُم﴾ أَي: أعرض عَنْهُم
﴿وَقَالَ يَا أسفى﴾ وروى أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " أَن بعض إخْوَان يَعْقُوب زَارَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا يَعْقُوب، مَا الَّذِي أعمى عَيْنَيْك وقوس ظهرك؟ فَقَالَ: أعمى عَيْني كَثْرَة الْبكاء على يُوسُف، وقوس ظَهْري شدَّة الْحزن على بنيامين، فَبعث الله تَعَالَى إِلَيْهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: يَا يَعْقُوب أَتَشْكُونِي إِلَى خلقي؟ ! فَبعد ذَلِك دخل بَيته ورد بَابه، و
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله﴾ " وَمعنى
57
﴿قَالُوا تالله تفتأ تذكر يُوسُف حَتَّى تكون حرضا أَو تكون من الهالكين (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (٨٦) يَا بني﴾ قَوْله:
﴿يَا أسفى﴾ يَا حزن على يُوسُف، والأسف: شدَّة الْحزن. وَقَوله:
﴿وابيضت عَيناهُ من الْحزن﴾ يَعْنِي: غلب الْبيَاض على الحدقة وَذَهَبت الرُّؤْيَة. وَنسبه إِلَى الْحزن؛ لِأَنَّهُ كَانَ يبكي لشدَّة الْحزن وَعمي لشدَّة الْبكاء. وَقَوله:
﴿فَهُوَ كظيم﴾ أَي: مُمْسك على حزنه لَا يبثه وَلَا يذكرهُ للنَّاس. فَهَذَا بعد أَن نَهَاهُ الله عَن ذَلِك على مَا بَينا.
58
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا تالله تفتأ تذكر يُوسُف﴾ يَعْنِي: لَا تزَال تذكر يُوسُف، و " لَا " محذوفة، وَقَوله: ﴿حَتَّى تكون حرضا﴾ قَالَ ثَعْلَب - أَحْمد بن يحيى - الحرض: كل شَيْء لَا ينْتَفع بِهِ، قَالَ مُجَاهِد: الحرض مَا دون الْمَوْت، وَقَالَ الْفراء: الحرض هُوَ الَّذِي فسد جِسْمه وعقله، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرض هُوَ الَّذِي أذابه الْحزن. وَقيل: هُوَ المدنف البال، والأقوال مُتَقَارِبَة.
وَعَن أنس بن مَالك أَنه قَرَأَ: " حَتَّى تكون حرضا " والحرض: الأشنان، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تصير كعود [الأشنان]، وَقَوله: ﴿أَو تكون من الهالكين﴾ أَي: من الميتين.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ قد بَينا الْخَبَر [الْوَارِد] فِي هَذَا بِرِوَايَة أنس. والبث: الْهم،
﴿وحزني إِلَى الله﴾ ، وروى أَنه قَالَ: يَا رب، أما ترحمني، قد أخذت مني كَذَا وَكَذَا - وَجعل يعدد - رد إِلَيّ ريحانتي (فأشمها شمة ثمَّ افْعَل) بِي مَا أردْت وَلَا أُبَالِي، فَأوحى الله - تَعَالَى - إِلَيْهِ: أَن اسكن وَفرغ روعك فسأردهما إِلَيْك. وَفِي الْآثَار المسندة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: بَكَى يَعْقُوب ثَمَانِينَ سنة وَمَا جف لَهُ دمع، وَلم يكن على وَجه الأَرْض أحد أكْرم على الله مِنْهُ. قَوْله:
﴿وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ يَعْنِي: أعلم من حَيَاة يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، وَقيل: أعلم من تَحْقِيق رُؤْيا يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، فَإِن قَالَ قَائِل:
58
كَيفَ بَكَى يَعْقُوب كل هَذَا الْبكاء وحزن هَذَا الْحزن، وَهل أُصِيب إِلَّا بفقد ولد وَاحِد، أفما كَانَ عَلَيْهِ أَن يسلم الْأَمر إِلَى الله تَعَالَى ويصبر؟ الْجَواب عَنهُ: أَنه امتحن فِي هَذَا بِمَا لم يمْتَحن بِهِ غَيره، وَلم يسْأَل عَن يُوسُف مَعَ طول الزَّمَان، وَكَانَ [ابتلاؤه] فِيهِ أَنه لم يعلم حَيَاته فيرجو رُؤْيَته، وَلم يعلم مَوته فَيسْأَل عَنهُ، وَكَانَ يُوسُف من بَين سَائِر الْإِخْوَة خص بالجمال الْكَامِل (وَالْعقل) وَحسن الْخلق وَسَائِر مَا يمِيل الْقلب إِلَيْهِ. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه مَاتَ أَخُوهُ فَبكى عَلَيْهِ بكاء شَدِيدا فَسئلَ عَن ذَلِك؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ من لم يَجْعَل الْحزن عارا على أَهله، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
﴿إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله﴾ . وروى حبيب بن أبي ثَابت قَالَ: لما كبر يَعْقُوب وَطَالَ عَلَيْهِ الْحزن سقط حاجباه على عَيْنَيْهِ من الْكبر فَكَانَ يرفعهما بِخرقَة، فَدخل عَلَيْهِ بعض جِيرَانه وَقَالَ: مَا الَّذِي بلغ بك مَا بلغ وَلم تبلغ سنّ أَبِيك بعد؟ قَالَ: طول الزَّمَان وَكَثْرَة [الأحزان]، فَبعث الله إِلَيْهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: يَا يَعْقُوب، شكوتني إِلَى خلقي؟ ! فَقَالَ: خَطِيئَة فاغفرها لي يَا رب. فغفرها الله لَهُ، وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا سُئِلَ عَن حَاله قَالَ: " إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله " وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: أَتَدْرِي لم عاقبتك وَفرقت بَيْنك وَبَين ولدك؟ قَالَ: يَا رب لَا، فَقَالَ: لِأَنَّك ذبحت شَاة وشويتها وقترت على جَارك وأكلت وَلم تطعمه؛ وَقد روى أنس، عَن النَّبِي قَرِيبا من هَذَا أوردهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله. وَفِي خبر أنس: " أَن الله تَعَالَى قَالَ ليعقوب: اتخذ طَعَاما وادع إِلَيْهِ الْمَسَاكِين، فَفعل وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا تغد أَمر من يُنَادي: من أَرَادَ الْغَدَاء فليأت يَعْقُوب، وَإِذا أفطر أَمر من يُنَادي: من أَرَادَ أَن يفْطر فليأت يَعْقُوب، فَكَانَ يتغدى مَعَه الْقَوْم الْكثير، ويتعشى مَعَه الْقَوْم الْكثير من الْمَسَاكِين ".
وَفِي الْقِصَّة: أَن سَبَب ابتلاء يَعْقُوب أَنه ذبح عجلا بَين يَدي أمهَا وَهِي تخور. وَعَن عبد الله بن يزِيد وَابْن أبي فَرْوَة: أَن يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - كتب كتابا إِلَى
59
﴿اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف وأخيه وَلَا تيأسوا من روح الله إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا﴾ يُوسُف حِين حبس بنيامين: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من يَعْقُوب إِسْرَائِيل الله بن إِسْحَاق ذبيح الله ابْن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله إِلَى ملك مصر أما بعد: فَإنَّا أهل بَيت (وكل) بِنَا الْبلَاء، أما جدي إِبْرَاهِيم فشدت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَأُلْقِي فِي النَّار فجعلهما الله عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا؛ وَأما أبي إِسْحَاق فشدت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَوضع السكين على حلقه فَفَدَاهُ الله بكبش، وَأما أَنا فابتليت بِفِرَاق أحب أَوْلَادِي إِلَيّ وَكنت أَتَسَلَّى بأَخيه من أمه وَقد حَبسته وَزَعَمت أَنه سرق، وَالله مَا أَنا بسارق وَلم أَلد سَارِقا فَإِن رَددته إِلَيّ وَإِلَّا دَعَوْت عَلَيْك دَعْوَة تدْرك السَّابِع من ولدك. فَلَمَّا بلغ (إِلَيْهِ الْكتاب) بَكَى بكاء شَدِيدا وَأظْهر نَفسه على مَا يرد.
60
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا بني اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف﴾ التحسس: طلب الشَّيْء بالحاسة، وَمَعْنَاهُ: اطْلُبُوا وابحثوا عَن خبر يُوسُف وأخيه.
وَقَوله: ﴿وَلَا تيأسوا من روح الله﴾ فِي الشاذ قرىء: " من روح الله " (وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَرَأَ: " من رَحْمَة الله " وَالروح مَأْخُوذ من الرّيح، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مَا يستراح بِهِ. وَقيل: من روح الله) أَي: من فرج الله، قَالَه أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، وَقيل: من رَحْمَة الله، وَقيل: من فضل الله.
وَقَوله: ﴿إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: (
﴿فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ﴾ قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا وأهلنا الضّر) يَعْنِي: الْجُوع وَالْحَاجة. وَقَوله:
﴿وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت دراهمهم زُيُوفًا فِي هَذِه الكرة، وَلم تَكُ تنْفق فِي الطَّعَام فَهَذَا معنى المزجاة، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة: مزجاة: قَليلَة يسيرَة، وَقَالَ مقَاتل: كَانَت بضاعتهم حَبَّة الخضراء، وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَت بضاعتهم الحبال وَخلق الغرائر، وَقيل: كَانَت سويق الْمقل.
60
﴿وأهلنا الضّر وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الْكَيْل وَتصدق علينا إِن الله يَجْزِي المتصدقين (٨٨) قَالَ هَل علمْتُم مَا فَعلْتُمْ بِيُوسُف وأخيه إِذْ أَنْتُم جاهلون (٨٩) قَالُوا أئنك لأَنْت يُوسُف قَالَ أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه﴾
وَقَالَ (كَعْب: كَانَت عشرَة دَنَانِير. وَقيل: كَانَ مَتَاع الْأَعْرَاب من الصُّوف والأقط وَغَيره. وَقَوله:
﴿فأوف لنا الْكَيْل﴾ مَعْنَاهُ: أتم كَمَا كنت تتمّ كل مرّة. وَقَوله:
﴿وَتصدق علينا﴾ أَي: بِمَا بَين النافق والكاسد. وَقيل: تصدق علينا بالتجوز. قَالَ الشَّاعِر:
(تصدق علينا يَا ابْن عَفَّان واحتسب وَأمر علينا الْأَشْعَرِيّ لياليا)
يعنون: أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقيل: وَتصدق علينا بِإِطْلَاق أخينا، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يكره أَن يَقُول الرجل: اللَّهُمَّ تصدق عَليّ؛ لِأَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تكون مِمَّن يَبْتَغِي الثَّوَاب. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: وَتصدق علينا، وَالصَّدَََقَة لَا تحل للأنبياء؟ الْجَواب: أَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة قَالَ: قد كَانَت حَلَالا لَهُم، ولأنا بَينا أَن المُرَاد مِنْهُ التَّجَوُّز والمحاباة، وَهَذَا جَائِز بالِاتِّفَاقِ. وَقَوله:
﴿إِن الله يَجْزِي المتصدقين﴾ لم يَقُولُوا: يجْزِيك؛ لأَنهم لم يثقوا بإيمانه، فَقَالُوا: إِن الله يَجْزِي المتصدقين على الْإِطْلَاق لهَذَا.
61
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ هَل علمْتُم مَا فَعلْتُمْ بِيُوسُف وأخيه﴾ رُوِيَ أَنهم [لما] قَالُوا هَذَا وسَمعه يُوسُف أَدْرَكته الرقة، فَقَالَ لَهُم هَذَا القَوْل: هَل [علمْتُم] مَا فَعلْتُمْ أَي: مَا صَنَعْتُم بِيُوسُف وأخيه، وَالَّذِي فعلوا بأَخيه هُوَ التَّفْرِيق بَينهمَا وَلم يذكر مَا فعلوا بِيَعْقُوب دفعا لحشمته وتعظيما لَهُ. وَقَوله: ﴿إِذْ أَنْتُم جاهلون﴾ مَعْنَاهُ: إِذْ أَنْتُم آثمون عاصون، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِذْ أَنْتُم صبيان، وَعَن الْحسن قَالَ: إِذْ أَنْتُم شُبَّان وَمَعَكُمْ جهل الشبَّان، وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما قَالَ هَذَا القَوْل تَبَسم فَرَأَوْا ثناياه منظوما كَاللُّؤْلُؤِ فعرفوه وَقَالُوا:
﴿أئنك لأَنْت يُوسُف﴾ وَقَالَ بَعضهم: قَالُوا هَذَا على التَّوَهُّم وَلم يَكُونُوا تيقنوا بعد حَتَّى قَالَ لَهُم: أَنا يُوسُف. وَقَوله:
﴿أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي﴾
61
﴿من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا وَإِن كُنَّا لخاطئين (٩١) قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بقميصي هَذَا فألقوه على وَجه أبي يَأْتِ بَصيرًا وأتوني بأهلكم﴾
حكى الضَّحَّاك أَن فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهَذَا أخي بيني وَبَينه قربى ". وَقَوله:
﴿قد من الله علينا﴾ أَي: أنعم الله علينا
﴿إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ﴾ مَعْنَاهُ: من يتق عَن الْمعاصِي ويصبر على الطَّاعَات والمصائب. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: من يتق الزِّنَا ويصبر على الْعُزُوبَة.
62
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا﴾ يَعْنِي: فضلك الله علينا ﴿وَإِن كُنَّا لخاطئين﴾ وَمَا كُنَّا إِلَّا خاطئين، وَقيل: وَقد كُنَّا خاطئين، وَالْفرق بَين خطأ وَأَخْطَأ أَن خطأ: خطأ إِذا تعمد، وَأَخْطَأ: خطأ إِذا كَانَ غير متعمد.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم﴾ التثريب هُوَ التعيير ذكره ثَعْلَب وَغَيره، وَقيل: لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم أَي: لَا عُقُوبَة عَلَيْكُم الْيَوْم بعد اعترافكم بالذنب، قَالَ الشَّاعِر:
(فعفوت عَنْكُم عَفْو غير مثرب وتركتكم لعقاب يَوْم سرمد)
وَقَوله:
﴿الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى:
﴿اذْهَبُوا بقميصي هَذَا﴾ رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما جعل النَّار على إِبْرَاهِيم بردا وَسلَامًا أنزل عَلَيْهِ قَمِيصًا من حَرِير الْجنَّة فَأعْطَاهُ إِبْرَاهِيم إِسْحَاق، وَأَعْطَاهُ إِسْحَاق يَعْقُوب فَجعله يَعْقُوب فِي (قَصَبَة) وَشد رَأسهَا وعلقها فِي عنق يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَكَانَ يكون فِي عُنُقه، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَقْت بعث الله جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن افْتَحْ القصبة: وَابعث إِلَيْهِ بالقميص فَإِنَّهُ لَا يمسهُ مبتلى إِلَّا عوفي، وَلَا سقيم إِلَّا صَحَّ وبرأ، فَبعث بذلك الْقَمِيص إِلَى يَعْقُوب، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى:
﴿اذْهَبُوا بقميصي هَذَا﴾ وَفِي الْقِصَّة أَن يهوذا قَالَ: أَنا أذهب بالقميص إِلَيْهِ فَإِنِّي
62
﴿أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلما فصلت العير قَالَ أبوهم إِنِّي لأجد ريح يُوسُف لَوْلَا أَن تفندون﴾ ذهبت بالقميص مُلَطَّخًا بِالدَّمِ إِلَيْهِ، فَأعْطَاهُ وَخرج حافيا [حاسرا] يعدو وَمَعَهُ سَبْعَة أرغفة فَلم يستوفها حَتَّى بلغ كنعان، وَقيل: إِنَّه بعث على يَد غَيره، [وَقَالَ] :
﴿فألقوه على وَجه أبي يَأْتِ بَصيرًا﴾ قَالَ الْفراء: يرجع بَصيرًا، وَقَالَ غَيره: يعد بَصيرًا؛ قَالَ الْحسن: لم يعلم أَنه يعود بَصيرًا إِلَّا بعد أَن أعلمهُ الله ذَلِك.
وَقَوله:
﴿وأتوني بأهلكم أَجْمَعِينَ﴾ أَي: جيئوني بأهلكم أَجْمَعِينَ.
63
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلما فصلت العير﴾ يَعْنِي: انفصلت من مصر وَخرجت. قَوْله:
﴿قَالَ أبوهم إِنِّي لأجد﴾ فِي الْقِصَّة: أَن ريح الصِّبَا اسْتَأْذَنت من رَبهَا أَن تَأتي برِيح يُوسُف إِلَى يَعْقُوب - عَلَيْهِمَا السَّلَام - فَهِيَ الَّتِي جَاءَت برِيح يُوسُف، وَالصبَا: ريح تَأتي من قبل الْمشرق إِذا هبت على الْأَبدَان لينتها ونعمتها وطيبتها، وهيجت الأشواق إِلَى الأحباب والحنين إِلَى الأوطان، قَالَ الشَّاعِر:
(أيا جبلي نعْمَان بِاللَّه خليا سَبِيل الصِّبَا يخلص إِلَى نسيمها) (فَإِن الصِّبَا ريح إِذا مَا تنسمت على قلب محزون تجلت همومها)
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور " وَرُوِيَ أَن الْقَمِيص لما نشر هَاجَتْ مِنْهُ ريح الْجنَّة [فشمها] يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - فَعلم أَنَّهَا جَاءَت من قبل قَمِيص يُوسُف؛ لِأَنَّهُ لم يكن فِي الأَرْض شَيْء من الْجنَّة سواهُ.
وَقَوله:
﴿لَوْلَا أَن تفندون﴾ مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تضعفوا رَأْي، وَقيل: لَوْلَا أَن تسفهوني، وَقيل: لَوْلَا أَن تنسبوني إِلَى الْخَوْف وَالْجهل.
قَالَ الشَّاعِر:
63
﴿قَالُوا تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم (٩٥) فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجهه فَارْتَد بَصيرًا قَالَ ألم أقل لكم إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر﴾ (يَا صَاحِبي دَعَا الْمَلَامَة واقصرا طَال الْهوى وأطلتما التفنيدا)
64
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم﴾ هَذَا قَول بني بنيه، فَإِن بنيه كَانُوا بِمصْر، وَمَعْنَاهُ: تالله إِنَّك لفي خطئك الْقَدِيم، وَالْخَطَأ: هُوَ الذّهاب عَن طَرِيق الصَّوَاب؛ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدهم أَن يُوسُف قد مَاتَ، وَكَانُوا يرَوْنَ يَعْقُوب قد لهج بِذكرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يخرج من بَيته فيلقاه الرجل وَمَعَهُ شَيْء يحملهُ فَيَقُول: ضَعْهُ واسمع مني حَدِيثي، وَكَانَ يلقاه الْخَادِم وَالْجَارِيَة فَيَقُول مَعَه مثل هَذَا القَوْل؛ وَكَانُوا يظنون بِهِ خرفا وَخطأ عَظِيما، فَهَذَا معني قَوْلهم: إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم، وَقيل: إِنَّك لفي [شقائك] الْقَدِيم، والشقاء هَاهُنَا بِمَعْنى التَّعَب، وَقيل: فِي غفلتك الْقَدِيمَة، وَقيل: فِي محبتك الْقَدِيمَة؛ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فَكَانَ هَذَا عقوقا (عَظِيما) مِنْهُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجهه﴾ وَمَعْنَاهُ: ألْقى الْقَمِيص على وَجهه. وَقَوله: ﴿فَارْتَد بَصيرًا﴾ أَي: عَاد بَصيرًا وَرجع بَصيرًا، فَروِيَ أَنه عَادَتْ قوته فِي الْحَال، وَذَهَبت [الغشاوة] وَزَالَ الْبيَاض الَّذِي كَانَ بِعَيْنِه، وَفتح عَيْنَيْهِ كأحسن مَا يكون، و ﴿قَالَ﴾ لِبَنِيهِ وَبني بنيه: ﴿ألم أقل لكم إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَنه قد كَانَ قَالَ لَهُم: إِن يُوسُف حَيّ، وَإِنِّي أَرْجُو رُؤْيَته. (وَقيل) :﴿إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ يَعْنِي: من تَحْقِيق رُؤْيا يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه قَالَ للبشير: لَيْسَ عِنْدِي شَيْء أُعْطِيك وَلَكِن هون الله عَلَيْك سَكَرَات الْمَوْت. وَرُوِيَ أَنه لما جَاءَهُ خبر يُوسُف قَالَ للبشير: على أَي دين تركت يُوسُف؟ قَالَ: على دين الْإِسْلَام، قَالَ: الْآن تمت النِّعْمَة.
قَوْله تَعَالَى:
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين﴾ هَذَا دَلِيل على أَنهم عمِلُوا مَا عمِلُوا وَكَانُوا بالغين.
64
﴿لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين (٩٧) قَالَ سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم (٩٨) فَلَمَّا دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين﴾
65
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي﴾ رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: أخر الدُّعَاء إِلَى السحر وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يَقُول الله تَعَالَى: هَل من دَاع (فيستجاب) لَهُ؟ هَل من سَائل فَيعْطى سؤله "؟ (الْخَبَر) " هَل من مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ؟ " وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أخر إِلَى لَيْلَة الْجُمُعَة حكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقد رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَعَن عَطاء بن ميسرَة الْخُرَاسَانِي قَالَ: الْحَاجة إِلَى الشَّبَاب أسْرع إِجَابَة من الْحَاجة إِلَى الشُّيُوخ، فَإِن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم، يغْفر الله لكم وَلم يُؤَخر، وَحين طلبُوا من يَعْقُوب سَوف وَأخر. وَفِي الْقِصَّة: أَن يَعْقُوب كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل وَيقوم يُوسُف خَلفه وَيقوم بنوه خلف يُوسُف وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُم هَكَذَا عشْرين سنة إِلَى أَن نزل الْوَحْي بمغفرتهم، وَقَوله: ﴿إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى
﴿فَلَمَّا دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ رُوِيَ أَن يُوسُف بعث بِمِائَتي رَاحِلَة وجهاز كثير ليأتوا بِيَعْقُوب وَقَومه، قَالَ مَسْرُوق: كَانُوا ثَلَاثَة وَتِسْعين من بَين رجل وَامْرَأَة، وَرُوِيَ: اثْنَان وَسبعين وَهُوَ الْأَشْهر. قَالَ أهل الْأَخْبَار: وَلما خرج مُوسَى ببني إِسْرَائِيل من مصر كَانَ قد (بلغ) عَددهمْ سِتّمائَة ألف مقَاتل وَسبعين ألفا، والذرية ألف ألف وَسَبْعمائة ألف وَكَذَا فِي الْقِصَّة أَنهم جَاءُوا فَلَمَّا قربوا من مصر
65
﴿وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش وخروا لَهُ سجدا وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رءياي من قبل﴾ خرج يُوسُف ليلقاهم مَعَ الْجند، وَرُوِيَ أَنه حمل الْملك الْأَكْبَر مَعَ نَفسه، فَلَمَّا وصلوا إِلَى يَعْقُوب قَالُوا ليعقوب: هَذَا ابْنك قد جَاءَ، قَالَ: فَأَرَادَ يُوسُف أَن يبدأه بِالسَّلَامِ، فَقَالَ جِبْرِيل: لَا حَتَّى يبْدَأ يَعْقُوب بِالسَّلَامِ، فَقَالَ (يَعْقُوب:) السَّلَام عَلَيْك يَا مَذْهَب الأحزان، وَقد رُوِيَ أَنَّهُمَا نزلا وتعانقا، وَفِي بعض الْقَصَص أَنَّهُمَا مشيا فتقدمه يُوسُف بخطوة فجَاء جِبْرِيل وَقَالَ لَهُ: أتتقدم على أَبِيك لَا أخرج من ذريتك نَبيا أبدا، وَفِي بعض الْقَصَص: أَن يُوسُف كَانَ فِي أَرْبَعَة آلَاف من الْجند، وَقد قيل غَيره. وَقَوله:
﴿آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ أَي: ضم إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَالْأَكْثَرُونَ أَن أَبَوَيْهِ أَي: أَبَاهُ وخالته، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ أَبوهُ وَأمه وَقد كَانَت حَيَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى بعث أمه وأحياها حَتَّى جَاءَت مَعَ يَعْقُوب إِلَى مصر، وَالله أعلم.
وَقَوله:
﴿وَقَالَ ادخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين﴾ اخْتلفُوا فِي [معنى] الْمَشِيئَة هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: ادخُلُوا آمِنين من الْجَوَاز
﴿إِن شَاءَ الله﴾ ، وَقد كَانُوا لَا يدْخلُونَ قبل ذَلِك لمصر إِلَّا بِجَوَاز، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي إِن شَاءَ الله وَقَالَ: ادخُلُوا مصر آمِنين.
66
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش﴾ الرّفْع: هُوَ النَّقْل إِلَى الْعُلُوّ، وضده الْوَضع، وَالْعرش: سَرِير الْملك، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ " قيل: أَرَادَ بِهِ سَرِيره (الَّذِي حمل عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن الْكَلَام خرج على وصف التكريم، وَلَا كَرَامَة فِي اهتزاز سَرِيره الَّذِي حمل عَلَيْهِ)، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ " فالعرش فِي هَذَا الْخَبَر هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف واهتزازه استبشاره لإقبال روح سعد بن معَاذ. وَيجوز أَن يكون المُرَاد
66
﴿قد جعلهَا رَبِّي حَقًا وَقد أحسن بِي إِذْ أخرجني من السجْن وَجَاء بكم من البدو من بعد﴾ بِذكر الْعَرْش أهل الْعَرْش من الْمَلَائِكَة، وَالله أعلم.
وَقَوله:
﴿وخروا لَهُ سجدا﴾ مَعْنَاهُ: وَقَعُوا لَهُ ساجدين، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه السَّجْدَة فالأكثرون أَنهم سجدوا لَهُ، [و] كَانَت السَّجْدَة سَجْدَة الْمحبَّة لَا سَجْدَة الْعِبَادَة، وَهُوَ مثل سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ أهل الْعلم: وَكَانَ ذَلِك جَائِز فِي الْأُمَم السالفة، ثمَّ إِن الله تَعَالَى نسخ ذَلِك فِي هَذِه الشَّرِيعَة وأبدل بِالسَّلَامِ، وَقَالَ بَعضهم: أَنهم سجدوا لله لَا ليوسف، وَإِنَّمَا خروا لَهُ سجدا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قدامهم فَحصل سجودهم إِلَيْهِ كَمَا يسْجد إِلَى الْمِحْرَاب والجدار، وَالصَّحِيح هُوَ الأول، هَكَذَا قَالَه أهل الْعلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه كَانَ فِي رُؤْيَاهُ:
﴿إِنِّي رَأَتْ أحد عشر كوكبا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لي ساجدين﴾ ، فالشمس وَالْقَمَر أَبَوَاهُ، وَأحد عشر كوكبا هم إخْوَته.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ السُّجُود لغير الله؟ وَإِذا جَازَ السُّجُود لغير الله فَلم لَا تجوز الْعِبَادَة لغير الله؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعِبَادَة نِهَايَة التَّعْظِيم، وَنِهَايَة التَّعْظِيم لَا تجوز إِلَّا لله؛ وَأما السُّجُود: نوع تذلل وخضوع بِوَضْع الخد على الأَرْض وَهُوَ دون الْعِبَادَة، فَلم يمْتَنع جَوَازه للبشر كالانحناء.
وَقَالَ بَعضهم:
﴿وخروا لَهُ سجدا﴾ السُّجُود هَاهُنَا هُوَ الانحناء وَعبر عَنهُ بِالسُّجُود، وَأما حَقِيقَة السُّجُود فَلم تكن. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول وَالله أعلم.
قَوْله:
﴿وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل﴾ [تَفْسِير] رُؤْيَايَ من قبل
﴿قد جعلهَا رَبِّي حَقًا﴾ أَي: صدقا
﴿وَقد أحسن بِي﴾ أَي: أنعم عَليّ
﴿إِذْ أخرجني من السجْن﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يقل: إِذْ أخرجني من الْجب، وَكَانَت المحنة عَلَيْهِ والبلية فِي الْجب أَكثر مِنْهَا فِي السجْن؟ الْجَواب عَنهُ: أَنه أعرض عَن ذكر
67
﴿أَن نَزغ الشَّيْطَان يَبْنِي وَبَين إخوتي إِن رَبِّي لطيف لما يَشَاء إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (١٠٠) رب قد آتيتني من الْملك وعلمتني من تَأْوِيل الْأَحَادِيث فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنْت وليي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة توفني مُسلما وألحقني بالصالحين (١٠١) ذَلِك من أنباء الْغَيْب﴾ الْجب تكرما لِأَن لَا يخجل الْإِخْوَة عَنهُ، وَكَانَ قد قَالَ:
﴿لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم﴾ وَفِي إِعَادَته تَثْرِيب وملامة، وَلِأَن النِّعْمَة عَلَيْهِ فِي الْإِخْرَاج من السجْن كَانَت أَكثر؛ لِأَنَّهُ أخرج من الْجب وَجعل عبدا، وَأخرج من السجْن وَجعل ملكا. قَوْله:
﴿وَجَاء بكم من البدو﴾ البدو: بسيط من الأَرْض يسكنهُ أهل الْمَاشِيَة بماشيتهم، وَقد كَانَ يَعْقُوب وَأَوْلَاده أهل مواشي وَعمد، والعمد: الْخيام، فَلهَذَا قَالَ: وَجَاء بكم من البدو. وَقَوله:
﴿من بعد أَن نَزغ الشَّيْطَان﴾ مَعْنَاهُ: من بعد أَن أفسد الشَّيْطَان
﴿بيني وَبَين إخوتي﴾ بِالْحَسَدِ. وَقَوله:
﴿إِن رَبِّي لطيف لما يَشَاء﴾ اللَّطِيف هُوَ: الرفيق، وَيُقَال معنى الْآيَة: إِن رَبِّي لطيف (بِمن) يَشَاء. وَحَقِيقَة اللَّطِيف هُوَ الَّذِي يُوصل الْإِحْسَان إِلَى غَيره بِرِفْق. وَقَوله:
﴿إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
68
قَوْله تَعَالَى:
﴿رب قد آتيتني من الْملك﴾ الْملك هُوَ: اتساع الْمَقْدُور لمن لَهُ السياسة وَالتَّدْبِير، وَأدْخل كلمة " من " وَهِي للتَّبْعِيض؛ لِأَنَّهُ كَانَ من يَد ملك مصر، وَقيل: " من " للتجنيس هَاهُنَا، قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: ملك يُوسُف اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة. وَقَالَ غَيره: ثَمَانِينَ سنة. وَقَوله:
﴿وعلمتني من تَأْوِيل الْأَحَادِيث﴾ يَعْنِي: علم الرُّؤْيَا. وَقَوله
﴿فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: يَا فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض. وَقَوله:
﴿أَنْت ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ يَعْنِي: أَنْت تلِي أَمْرِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَوله:
﴿توفني مُسلما﴾ مَعْنَاهُ: ثبتني على الْإِسْلَام عِنْد الْوَفَاة.
قَالَ قَتَادَة: وَلم يسْأَل نَبِي من الْأَنْبِيَاء الْمَوْت سوى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ وَلَكِن ليقل: اللَّهُمَّ
68
أحيني مَا دَامَت الْحَيَاة خيرا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي " وَفِي الْقِصَّة: أَن يُوسُف لما جمع لَهُ شَمله وأوصل الله إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَأَهله اشتاق إِلَى ربه فَقَالَ هَذَا القَوْل. وَقد قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عَاشَ بعد هَذَا سِنِين كَثِيرَة. وَقَالَ غَيره: لما قَالَ هَذَا القَوْل لم يمض عَلَيْهِ أُسْبُوع حَتَّى توفّي. وَأما خبر وَفَاة يَعْقُوب - صلوَات الله عَلَيْهِ - فقد قَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: إِن يَعْقُوب عَاشَ عِنْد يُوسُف أَرْبعا وَعشْرين سنة بأغبط حَال وأهنأ عَيْش ثمَّ أَدْرَكته الْوَفَاة فَدَعَا بنيه وَقَالَ: يَا بني،
﴿مَا تَعْبدُونَ من بعدِي﴾ الْآيَة، وَقد ذكرنَا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأوصى يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يحملهُ إِلَى الأَرْض المقدسة ويدفنه بِجنب أَبِيه إِسْحَاق فَفعل ذَلِك. وَقَالُوا: عَاشَ يَعْقُوب مائَة وَسبعا وَأَرْبَعين سنة، وَأما يُوسُف فَإِنَّهُ عَاشَ بعد أَبِيه سنتَيْن، وَقيل: أَكثر من ذَلِك، وَالله أعلم، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة فدفنوه فِي نيل مصر: (لِأَن أهل مصر تشاحنوا عَلَيْهِ وَطلب أهل كل محلّة أَن يدْفن فِي محلتهم رَجَاء بركته، ثمَّ اتَّفقُوا أَن يدْفن فِي نيل مصر) ليجري المَاء عَلَيْهِ وَتصل بركته إِلَيْهِم كلهم. وَعَن عِكْرِمَة: أَنه دفن فِي [الْجَانِب] الْأَيْمن من النّيل فأخصب ذَلِك الْجَانِب وأجدب الْجَانِب الآخر فاتفقوا على أَن جَعَلُوهُ فِي تَابُوت من حَدِيد - وَقيل: من رُخَام - ودفنوه فِي وسط النّيل، وقدروا ذَلِك بسلسلة عِنْدهم فأخصب الجانبان، وَكَانَ يُوسُف أوصى إخْوَته أَنهم إِذا خَرجُوا من مصر أَخْرجُوهُ مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا كَانَ زمن مُوسَى أخرجه مُوسَى مَعَ نَفسه إِلَى الأَرْض المقدسة ودفته بِقرب آبَائِهِ؛ وَفِي الْقَصَص أَن عجوزا دلتهم على قبر يُوسُف وَأَن تِلْكَ الْعَجُوز سَأَلت مُوسَى مرافقته فِي الْجنَّة بِهِ حَتَّى دلّت، فَنزل الْوَحْي على مُوسَى بِأَن يُعْطِيهَا ذَلِك.
وروى الْكَلْبِيّ، عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى لما جمع بَين يَعْقُوب ويوسف قَالَ لَهُ يُوسُف: يَا أبتاه حزنت عَليّ حَتَّى انحنى ظهرك، وبكيت عَليّ حَتَّى
69
﴿نوحيه إِلَيْك وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم وهم يمكرون (١٠٢) وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين (١٠٣) وَمَا تَسْأَلهُمْ عَلَيْهِ من أجر إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (١٠٤) ﴾ عمى بَصرك، أما علمت أَنا كُنَّا نَلْتَقِي يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: يَا بني، خشيت أَن يسلب دينك فَلَا نَلْتَقِي يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله:
﴿وألحقني بالصالحين﴾ يَعْنِي: من آبَائِي وهم: إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب.
70
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك من أنباء الْغَيْب﴾ يَعْنِي: من أَخْبَار الْغَيْب.
قَوْله: ﴿نوحيه إِلَيْك﴾ أَي: نلقيه إِلَيْك بِالْوَحْي. وَقَوله: ﴿وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم وهم يمكرون﴾ هَذَا منصرف إِلَى إخْوَة يُوسُف ومكرهم حِين أَخَذُوهُ من أَبِيه، وَفَائِدَة الْآيَة: أَنَّك إِذا علمت هَذَا بتعليمنا إياك ووحينا إِلَيْك.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين﴾ رُوِيَ أَن قُريْشًا وَالْيَهُود سَأَلُوا النَّبِي عَن قصَّة يُوسُف، فَلَمَّا أخْبرهُم بهَا على مَا كَانَ يُوَافق التَّوْرَاة، وَلم يكن فِي نَفسه قَارِئًا طمع أَن يسلمُوا فَلم يسلمُوا؛ فَحزن لذَلِك فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين﴾ مَعْنَاهُ: وَمَا أَكثر النَّاس بمؤمنين وَإِن حرصت على إِيمَانهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا تَسْأَلهُمْ عَلَيْهِ﴾ أَي: على التَّبْلِيغ ﴿من أجر﴾ أَي: من جعل وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين﴾ أَي: عظة للْعَالمين.
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿وكأين من آيَة﴾ مَعْنَاهُ: وَكم من آيَة. وَقَوله:
﴿فِي السَّمَوَات﴾ السَّمَوَات: سقوف الأَرْض بَعْضهَا على بعض طبقًا طبقًا
﴿وَالْأَرْض﴾ هِيَ مَوضِع سُكْنى الْآدَمِيّين، وَأما الْآيَات فِي السَّمَوَات (كَمَا) بَينا من قبل، وَذَلِكَ من شمسها وقمرها ونجومها ودوران الْفلك بهَا، واستوائها من غير عمد وَغير ذَلِك، وَقد زعم بعض أهل الْعلم أَنه يجوز للْإنْسَان أَن يتَعَلَّم علم النُّجُوم بِقدر مَا يعرف بِهِ
70
﴿وكأين من آيَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يَمرونَ عَلَيْهَا وهم عَنْهَا معرضون (١٠٥) وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون (١٠٦) أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن﴾ من آيَات السَّمَاء، وَأما آيَات الأَرْض مَعْلُومَة أَيْضا [وَهِي] : شَجَرهَا ونباتها وَجَمِيع مَا فِيهَا وَمَا يخرج مِنْهَا. وَقَوله:
﴿يَمرونَ عَلَيْهَا وهم عَنْهَا معرضون﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم يعرضون عَنْهَا مَعَ مشاهدتها وَلَا يستدلون بهَا على وحدانية الله.
71
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يجوز اجْتِمَاع الْإِيمَان مَعَ الشّرك فِي الْوَاحِد؟ الْجَواب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ ﴿وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه﴾ أَي: وَمَا يقر أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون بقلوبهم وضمائرهم.
وَالثَّانِي: أَن مُشْركي مَكَّة كَانُوا إِذا قيل لَهُم: من خَلقكُم؟ قَالُوا: الله، وَإِذا قيل لَهُم: من يرزقكم؟ قَالُوا: الله، وَإِذا قيل لَهُم: من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قَالُوا: الله ثمَّ مَعَ ذَلِك يعْبدُونَ الْأَصْنَام، وَبَعْضهمْ يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَبَعْضهمْ يَقُول: الْأَصْنَام شفعاؤنا عِنْد الله، فَالْقَوْل الأول: هُوَ الْإِيمَان، [وَلَيْسَ] المُرَاد من الْإِيمَان هُوَ حَقِيقَة الْإِيمَان الَّذِي يصير بِهِ الْإِنْسَان مُؤمنا، وَإِنَّمَا المُرَاد مَا بَينا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى شركهم هُوَ شركهم فِي التَّلْبِيَة، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك.
قَوْله تَعَالَى:
﴿أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله﴾ قيل: قِطْعَة من عَذَاب الله، وَقيل: عُقُوبَة محللة من عَذَاب الله. وَقَوله:
﴿أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة، والبغتة: وُقُوع الشَّيْء من غير توقع سَابق. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَكنهُمْ باتوا وَلم أدر بَغْتَة وأفظع شَيْء حِين يفجؤك البغت)
وَقَوله:
﴿وهم لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ
71
﴿اتبعني وَسُبْحَان الله وَمَا أَنا من الْمُشْركين (١٠٨) وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم من أهل الْقرى أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم ولدار الْآخِرَة خير للَّذين اتَّقوا أَفلا تعقلون (١٠٩) حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم﴾
72
قَوْله تَعَالَى:
﴿قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله﴾ أَي: طريقي، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن مت فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
وَقَوله:
﴿على بَصِيرَة﴾ أَي: على (يَقِين)، والبصيرة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُمَيّز بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَقَوله:
﴿أَنا وَمن اتبعني﴾ مَعْنَاهُ: أَدْعُو إِلَى الله أَنا، وَمن اتبعني يدعونَ أَيْضا إِلَى الله، وَقَالَ بَعضهم: تمّ الْكَلَام عِنْد قَوْله
﴿أَدْعُو إِلَى الله﴾ ثمَّ اسْتَأْنف وَقَالَ:
﴿على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني﴾ . وَقَوله:
﴿وَسُبْحَان الله وَمَا أَنا من الْمُشْركين﴾ يَعْنِي أَقُول: سُبْحَانَ الله، وَمَا أَنا من الْمُشْركين.
قَوْله تَعَالَى:
﴿وَمَا أرسلنَا قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم من أهل الْقرى﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لم يبْعَث الله نَبيا من بَدو، وَإِنَّمَا بعث الله الْأَنْبِيَاء من الْأَمْصَار والقرى. وَقَالَ أَيْضا: لم يبْعَث الله نَبيا من الْجِنّ وَلَا من النِّسَاء، وَقيل: لم يبْعَث الله نَبيا من الْبَادِيَة لغلظهم وجفائهم، وَأما أهل الْأَمْصَار فهم [أحن] قلوبا وأذكى وأفطن فِي الْأُمُور؛ فَلهَذَا بعث الله الْأَنْبِيَاء مِنْهُم. وَقَوله:
﴿أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله:
﴿ولدار الْآخِرَة﴾ مَعْنَاهُ: وَالْحَال فِي الدَّار الْآخِرَة، وللإنسان حالان: الْحَال الأولى، وَالْحَال الْآخِرَة، وَقيل: " ولدار الْآخِرَة " هَذَا إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه كَقَوْلِهِم:
﴿خير للَّذين اتَّقوا﴾ يَوْم الْخَمِيس، وَيَوْم الْجُمُعَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أتمدح فقعسا وتذم عبسا؟ ﴿ أَلا لله أمك من هجين﴾ !) (وَلَو فزت عَلَيْك ديار عبس عرفت الذل عرفان الْيَقِين)
72
﴿قد كذبُوا جَاءَهُم نصرنَا فنجي من نشَاء وَلَا يرد بأسنا عَن الْقَوْم الْمُجْرمين (١١٠) لقد﴾
أضَاف الْعرْفَان إِلَى الْيَقِين: وَقَوله:
﴿أَفلا تعقلون﴾ أَفلا تفقهون.
73
قَوْله تَعَالَى:
﴿حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا انهم قد كذبُوا﴾ قرىء بقراءتين بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، قَرَأَ أهل الْكُوفَة بِالتَّخْفِيفِ، وَالْآيَة مشكلة إِذا قُرِئت بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن الْقَائِل يَقُول: كَيفَ ظن الرُّسُل أَنهم قد كذبُوا، وَلَا يجوز هَذَا على الْأَنْبِيَاء. وَكَانَت عَائِشَة تنكر هَذِه الْقِرَاءَة، وَتقول: إِنَّمَا هُوَ " كذبُوا " بِالتَّشْدِيدِ، يَعْنِي: أَن الرُّسُل ظنُّوا أَن من آمن بهم كذبوهم لشدَّة المحنة وَالْبَلَاء عَلَيْهِم، وتطاول الْمدَّة بهم، هَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَعَن قَتَادَة: أَن الظَّن هَاهُنَا بِمَعْنى الْيَقِين، وَمَعْنَاهُ: وأيقن الرُّسُل أَن الْقَوْم كذبوهم تَكْذِيبًا لَا يُرْجَى بعده إِيمَانهم، وَهُوَ تَأْكِيد لقَوْله:
﴿حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل﴾ لِأَن مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل من إِيمَان قَومهمْ، أَي: أيسوا، وَأما الْقِرَاءَة بِالتَّخْفِيفِ هَذِه قِرَاءَة صَحِيحَة، وَهِي منقولة عَن عَليّ وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَكثير من الصَّحَابَة.
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ضعفت قُلُوب الرُّسُل - وَقد كَانُوا بشرا - بتطاول الزَّمَان وَكَثْرَة الْإِمْهَال، وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر:
﴿وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله﴾ وَقَوله:
﴿مَتى نصر الله﴾ : استبطاء، أَو قَالُوا هَذَا من ضعف البشرية.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الصَّحِيح - وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: وَظن من آمن بالرسل، أَن الرُّسُل قد كذبُوا بِالتَّخْفِيفِ، أَو ظن الْقَوْم الَّذين بعث إِلَيْهِم أَن الرُّسُل قد كذبُوا بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وظنوا أَنهم قد كذبُوا " وَمَعْنَاهُ كَمَا ذكرنَا فِي القَوْل الثَّانِي: أَن ظن الْقَوْم أَن الرُّسُل قد كذبُوا.
وَقَوله:
﴿ [جَاءَهُم] نصرنَا﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله:
﴿فنجي من نشَاء﴾ الْمَشِيئَة وَاقعَة على الْمُؤمنِينَ. وَقَوله:
﴿وَلَا يرد بأسنا﴾ أَي: عذابنا
﴿عَن الْقَوْم الْمُجْرمين﴾ أَي:
73
﴿كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب مَا كَانَ حَدِيثا يفترى وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ وتفصيل كل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (١١١) ﴾ عَن الْقَوْم الْكفَّار.
74
قَوْله - تَعَالَى -:
﴿لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة﴾ أَي: دلَالَة وَآيَة.
قَوْله:
﴿لأولي الْأَلْبَاب﴾ أَي: لأولي الْعُقُول.
وَقَوله:
﴿مَا كَانَ حَدِيثا يفترى﴾ أَي: [يختلق] يَعْنِي: قصَّة يُوسُف.
وَقَوله:
﴿وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ﴾ يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله:
﴿وتفصيل كل شَيْء﴾ يَعْنِي: من الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْأَمر وَالنَّهْي، والوعد والوعيد. وَقَوله:
﴿وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾ (مَعْنَاهُ: بَيَان ونعمة لقوم يُؤمنُونَ). وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
74
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿المر تِلْكَ آيَات الْكتاب وَالَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (١) الله الَّذِي رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش وسخر﴾
سُورَة الرَّعْد
تَفْسِير سُورَة الرَّعْد، وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: قَوْله تَعَالَى:
﴿وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة﴾ وَقَوله تَعَالَى:
﴿وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا﴾ الْآيَة، فَإِنَّهُمَا مدنيتان.
75
سورة يوسف
×
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات
سورةُ (يوسُفَ) مِن السُّوَر المكية، وقد كان لها من اسمها الحظُّ الأكبر؛ فقد قامت السورةُ بأكملها على سرد قصة (يوسف) بالتفصيل، ولا يوجد في القرآن نظيرٌ لهذا السردِ والاختصاص؛ أن تَختصَّ سورةٌ بذكرِ قصة نبيٍّ من الأنبياء، وتُسمَّى باسمه. وقد بيَّنت هذه السورةُ قواعدَ التمكين في الأرض، ومُلئت بالعِبَر والعظات المستخلَصة من قصة يوسف؛ فهي مثال يحتذى في الصبر، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والخوف من الله في السِّر والعلن، وصِدْقِ التوكل على الله؛ فهو الذي بيده مقاليدُ كل شيء.
ترتيبها المصحفي
12
نوعها
مكية
ألفاظها
1794
ترتيب نزولها
53
العد المدني الأول
111
العد المدني الأخير
111
العد البصري
111
العد الكوفي
111
العد الشامي
111
* قوله تعالى: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3] :
عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال : «أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا؛ فأنزَلَ اللهُ: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3] ، فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حدَّثْتَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: {اْللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اْلْحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا} [الزمر: 23] ». أخرجه ابن حبان (٦٢٠٩).
* سورة (يوسُفَ):
وسببُ تسميةِ سورة (يوسُفَ) بهذا الاسمِ واضحٌ جليٌّ؛ فإنَّ قصةَ (يوسُفَ) هي موضوعها الرئيسُ.
جاء الموضوع الرئيسُ للسورة عن قصَّة (يوسف) عليه السلام على التفصيل الآتي:
1. من أدلة إعجاز القرآن الكريم (١-٣).
2. رؤيا يوسف عليه السلام (٤-٦).
3. تآمُرُ إخوته عليه عليه السلام (٧-١٨).
4. محنة يوسف عليه السلام في مصر (١٩- ٣٤).
5. محنة يوسف عليه السلام في السِّجن (٣٥-٥٣).
6. تسلُّمُه عليه السلام الحُكْمَ بعد السجن (٥٤- ٥٧).
7. لقاؤه عليه السلام مع إخوته مرة ثانية (٥٩- ٩٨).
8. لقاء العائلة (٩٩-١٠٢).
9. تعقيبات على القصة (١٠٣- ١١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /503).
لم تأتِ قصةُ (يوسف) عليه السلام لمجردِ السَّرد والتسلية؛ إنما جاءت للعِبْرة والعِظة في كثيرٍ من الأمور؛ من ذلك: لطفُ الله بمَن يصطفيه من عباده، والاقتداءُ بصبر الأنبياء - مثل: يعقوب ويوسف عليهما السلام - على البلوى، وكيف تكون لهم العاقبةُ؛ ليَتسلَّى بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ من سار بطريق الدعوة، كما أبانت السورةُ عن قواعدِ التمكين في الأرض، وما تخلَّلَ ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين؛ كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اْلْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67] ، وقوله: {إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ اْلْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] .
ينظر " التحرير والتنوير" لابن عاشور (12 /200)