تفسير سورة يوسف

حومد

تفسير سورة سورة يوسف من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿آيَاتُ﴾ ﴿الكتاب﴾
(١) - أَلِفْ، لَامْ رَا - وَتُقْرأُ مُقَطَّعَةً، كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ، اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
هذِهِ الآيَاتُ هِيَ آيَاتُ القرآنِ (الكِتَابِ) الجَلِيِّ الوَاضِحِ، الذِي يُفصِحُ عَنِ الأَشْيَاءِ المُبْهَمَةِ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ، وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَيُفَسِّرُها، وَيُبَيِّنُها لِمَنْ يُريدُ أَنْ يِسْتَرْشِدَ بِهَا.
﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ ﴿قُرْآناً﴾
(٢) - لَقَدْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنِ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لُغَةِ القَوْمِ الذِينَ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ، لِيَفْهَمُوهُ، وَيَتَدَبَّرُوهُ، وَيَعْقِلُوهُ.
﴿القرآن﴾ ﴿الغافلين﴾
(٣) - قَالَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ، لَوْ قَصَصْتَ عَلَينا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هذِهِ الآيَةَ فِيهَا عَلَى أَحْسَنِ القَصَصِ، مِمَّا يَحْوِيهِ القُرْآنُ مِنْ قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَمِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالإِيمَانِ بِاللهِ... وَقَدْ كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ إِليكَ هذا القُرَآنُ فِي زُمْرَةِ الغَافِلِينَ عَنْهُ مِنْ قَوْمِكَ الأُمِّيِّينَ.
نَقُصُّ عَلَيْكَ - نُحَدِّثُكَ، أَوْ نُبَيِّنُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ.
﴿ياأبت﴾ ﴿سَاجِدِينَ﴾
(٤) - اذْكُرْ، يَا مُحَمَّدُ، لِقَوْمِكَ فِي قَصَصِكَ عَلَيْهِمْ، قِصَّةَ يُوسُفَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَعْقُوبَ، عَلَيهِمَا السَّلاَمُ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً تَسْجُدُ لِي. فَفَسَّرَهَا يَعْقُوبُ أَنَّ ابْنَهُ يُوسُفَ سَيَحْتَلُّ مَرْكَزاً رَفِيعاً مَرْمُوقاً، وَأَنَّهُ وَزَوْجَتَهُ أُمَّ يُوسُفَ، وَإِخْوَتِهِ الأَحَدَ عَشَرَ، سَيَكُونُونَ مِمَّنْ يُعَظِّمُونَ مَرْكَزَهُ تَعْظِيماً زَائِداً، حَتَّى لَيَصِلُوا إِلَى حَدِّ السُّجُودِ لَهُ إِجْلاَلاً وَاحْتِرَاماً.
﴿يابني﴾ ﴿رُؤْيَاكَ﴾ ﴿الشيطان﴾ ﴿لِلإِنْسَانِ﴾
(٥) - فَخَشِيَ يَعْقُوبُ أَنْ يُحَدِّثَ يُوسُفُ أَحَداً مِنْ إِخْوَتِهِ لأَبِيهِ بِرُؤْيَاهُ هذِهِ فَيَحْسِدُوهُ عَلَيْهَا، وَيَأَخْذُوا فِي الكَيْدِ لَهُ لإِهْلاَكِهِ، لِذَلِكَ طَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَقُصَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ شَيْئاً مِنْ رُؤْيَاهُ، مَخَافَةَ أَنْ يُغْرِيَهُمُ الشَّيْطَانُ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، لأنَّ الشَّيْطَانِ عَدُوٌّ لِلإِنْسَانِ، بَيْنَ العَدَاوَةِ وَوَاضِحُها.
﴿آلِ﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿إِسْحَاقَ﴾
(٦) - وَكَمَا اخْتَارَكَ اللهُ رَبُّكَ وَأَرَاكَ هذِهِ الكَواكِبَ سَاجِدَةً مَعَ الشَّمْسِ والقَمَرِ، كَذَلِكَ يَخْتَارُكَ رَبُّكَ وَيَصْطَفِيكَ لِلنُّبُوَّةِ (يَجْتَبِيكَ)، وَيُعَلِّمُكَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا (تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَجْعَلُكَ رَسُولاً بِالإِيحَاءِ إِلَيْكَ، كَمَا أَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ أَبَوَيْكَ، إِنَّ رَبَّكَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ.
يَجْتَبِيكَ - يَصْطَفِيكَ لأُمُورٍ عِظَامٍ.
تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ - تَعْبِيرِ الرُّؤْيا وَتَفْسِيرِهَا.
﴿آيَاتٌ﴾ ﴿لِّلسَّائِلِينَ﴾
(٧) - لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ، وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ لأَبِيهِ، عِبْرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَعَظِيمِ حِكْمَتِهِ، وَتَوْفِيقِ أَقْدَارِهِ، وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ، وَعِظَةُ لِلسَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ (آيَاتٌ) لأَنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُرْوَى، وَيُخْبَرَ عَنْهُ.
﴿ضَلاَلٍ﴾
(٨) - إِذْ قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لأَبِيهِ، فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ عَشَرَةُ رِجَالٍ، إِنَّ يُوسُفَ وَأَخَاهُ لأُمِّهِ وَأَبِيهِ، أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا، وَنَحْنُ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُمَا لأَنَّنَا جَمَاعَةُ كَبِيرَةُ العَدَدِ (عُصْبَةٌ)، وَإِنَّ أَبَانَا لَعَلَى خَطَأٍ وَاضِحٍ فِي تَفْضِيلِ هَذِينِ الأَخَوَيْنِ، وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَقَدْ ضَلَّ طَرِيقَ العَدَالَةِ وَالمُسَاوَاةِ ضَلاَلاً مُبِيناً لاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَكَيْفَ يُفَضِّلُ غُلاَمِينِ ضَعِيفَيْنِ لاَ يَقُومَانِ بِخِدْمَةٍ نَافِعَةٍ، عَلَى العُصْبَةِ أُولي القُوَّةِ وَالبَأْسِ؟
نَحْنُ عُصْبَةٌ - نَحْنُ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةُ العَدَدِ، كُفَاة لِلقِيَامِ بِمَا يَأْمُرُنَا بِهِ أَبُونَا.
ضَلالٍ مُبِينٍ - خَطَأِ بَيِّنٍ فِي إِيثَارِهِمَا عَلَيْنَا.
﴿صَالِحِينَ﴾
(٩) - فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ يُوسُفَ يُزَاحِمُكُمْ فِي حُبِّ أَبِيكُمْ لَكُمْ، فَأَبْعِدُوهُ عَنْ وَجْهِهِ لِيَخْلُو لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَحْدَكُمْ، إِمَّا بِقَتْلِهِ، وَإِمَّا بِطَرْحِهِ فِي أَرْضٍ أُخْرَى. وَبَعْدَ أَنْ تَزَيلُوا يُوسُفَ - الذِي يَقِفُ حَائِلاً دُونَ مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ، تَتُوبُونَ إِلَى اللهِ، وَتَنْصَلِحُ الأُمُورُ، وَتَكُونُونَ قَوْماً صَالِحِينَ.
اطْرَحُوهُ أَرْضاً - أَلْقُوهُ فِي أَرْضٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَبِيهِ.
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ - يَخْلُصُ لَكُمْ حُبُّ أَبِيكُمْ وَإِقْبَالُهُ عَلَيْكُمْ.
﴿قَآئِلٌ﴾ ﴿غَيَابَةِ﴾ ﴿فَاعِلِينَ﴾
(١٠) - فَقَالَ أَحَدُهُمْ، لاَ تَبْلُغُوا فِي كُرْهِكُمْ يُوسُفَ حَدَّ القَتْلِ، وَاكْتَفُوا بِإِلْقَائِهِ فِي أَعْمَاقِ بِئْرٍ (غَيَابَةِ الجُبِّ)، فَتَمُرُّ قَافِلَةٌ مِنَ المُسَافِرِينَ، مِمَّنْ أَلِفُوا الاسْتِقَاءَ مِنْ هذِهِ البِئْرِ، فَتَلْتَقِطُهُ، وَتَأْخُذُهُ بَعِيداً، فَتَرْتَاحُونَ مِنْهُ بِدُونِ ارْتِكَابِ جَرِيمَةِ قَتْلِ أَخِيكُمْ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ مُصِرِّينَ عَلَى أَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ. وَبِمَا أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ قَضَتْ بِأَنْ يَكُونَ يُوسُفُ ذَا شَأْنٍ عَظِيمٍ فَقَدْ قَبِلَ الآخَرُونَ الاقْتِرَاحَ، لِيَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ.
غَيَابَةِ الجُبِّ - مَا غَابَ وَأَظْلَمَ مِنْ قَعْرِ الجُبِّ.
السَّيَّارَةِ - المُسَافِرِينَ.
﴿ياأبانا﴾ ﴿لَنَاصِحُونَ﴾
(١١) - وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى الخُطَّةِ، جَاؤُوا إلى أبِيهِمْ يَعْقُوبَ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيهِمْ بِأَخِيهِمْ يُوسفُ، لِيُنَفِّذُوا فِيهِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيهِ رَأْيُهُمْ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي البِئْرِ، وَهُمْ يَتَطَاهَرُونَ بِالنُّصْحِ وَالمَحَبَّةِ لأَخِيهِمْ يُوسُفَ.
﴿لَحَافِظُونَ﴾
(١٢) - وَقَالُوا لأَبِيهِمْ: لِمَاذَا لاَ تَأَمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَنَحْنُ لَهُ نَاصِحُونَ؟ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً إِلَى البَرِّيَّةِ لِيَسْتَمْتِعَ بِرِفْقَتِنَا وَيَلْعَبَ، وَإِنَّنَا نَتَكَفّّلُ بِحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ.
يَرْتَعْ - يَتَّسِعْ فِي أَكْلِ مَا لَذَّ وَطَابَ.
يَلْعَبْ - يُسَابِقْ وَيَرْمِ بِالسِّهَامِ.
﴿غَافِلُونَ﴾
(١٣) - قَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ: إِنَّهُ لَيَشُقُّ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ يُوسُفَ مُدًَّةَ ذَهَابِهِمْ بِهِ لِلرَّعْيِ لِفَرْطِ تَعَلُّقِهِ بِهِ، وَلِمَا يَتَوَسَّمُهُ فِيهِ مِنَ الخَيْرِ العَظِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَنْشَغِلُوا عَنْهُ فَيَأَتِيَهُ الذِئْبُ وَيَأْكُلَهُ، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.
﴿لَئِنْ﴾ ﴿لَّخَاسِرُونَ﴾
(١٤) - فَرَدُّوا عَلَى أَبِيهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ عُصْبَةٌ وَافِرَةُ العَدَدِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ الذِئْبُ مِنْ أَكْلِ أَخِيهِمْ يُوسُفَ وَهُوَ فِي حِرَاسَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ خَاسِرِينَ عَاجِزِينَ لاَ غَنَاءَ فِيهِمْ.
﴿غيابت﴾
(١٥) - فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ بَعِيداً عَنْ أَبِيهِ، وَعَزَمُوا عَزْماً أَكِيداً عَلَى أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ، أَتَوْا بِهِ إِلَى البِئْرِ، فَرَبَطُوهُ بِحَبْلٍ، وَدَلَّوْهُ فِيهَا إِلَى قَاعِهِا (غَيَابَةِ الجُبِّ). وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ أَوْحَى، وَحْيَ إِلْهَامٍ، إِلَى يُوسُفَ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الحَالِ مِنَ الكَرْبِ وَالضِّيقِ، تَطْيِّيباً لِقَلْبِهِ، وَتَثْبِيتاً لَهُ: أَنْ لاَ تَحْزَنْ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجاً حَسَناً، وَسَيَنْصُرُكَ اللهُ، وَيُعْلِي قَدْرَكَ، وَيَرْفَعُكَ دَرَجَةً، وَسَتُخْبِرُ إِخْوَتَكَ بِمَا فَعَلُوا مَعَكَ مِنْ سُوءِ الصَّنِيعِ، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَكَ، وَلاَ يَشْعُرُونَ بِكَ، لأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ تَخَلَّصُوا مِنْكَ.
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ - عَزِمُوا وَصَمَّمُوا.
﴿وجآءوا﴾
(١٦) - وَبَعْدَ أَنْ أَلْقَوْا يُوسُفَ فِي الجُبِّ رَجَعُوا فِي ظُلْمَةِ الليْلِ، وَقْتَ العِشَاءِ، إِلَى أَبِيهِمْ وَهُمْ يَبْكُونَ وَيُظْهِرُونَ الجَزَعَ وَالحُزْنَ عَلَى يُوسُفَ.
﴿ياأبانآ﴾ ﴿مَتَاعِنَا﴾ ﴿صَادِقِينَ﴾
(١٧) - وَقَالُوا لأَبِيهِمْ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا وَقَعَ: إِنَّهُمْ ذَهَبُوا يَتَسَابَقُونَ فِي الرَّمِي، وَتَرَكُوا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِهِمْ لِيَحْرُسَهُ، فَأَكَلَهُ الذِئْبُ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: إِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّكَ لاَ تُصَدِّقُنا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ فِيمَا نَقُولُ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي ذَلِكَ، لأَنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِئْبُ فَأَكَلَهُ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي تَكْذِيبِكَ إِيَّانَا.
نَسْتَبِقُ - نَنْتَضِلُ بِالسِّهَامِ.
مَتَاعِنَا - ثِيَابِنَا وَعُدَّتِنَا.
﴿وَجَآءُوا﴾
(١٨) - وَيُقَالُ إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ عَمَدُوا إِلَى جَدْيٍ فَذَبَحُوهُ، وَلَطَّخُوا بِدَمِهِ ثِيَابَ يُوسُفَ التِي حَمَلُوهَا إِلَى أَبِيهِمْ لِيُوهِمُوهُ أَنَّ هذا هُوَ قَمِيصُهُ الذِي أَكَلَهُ الذِئْبُ وَهُوَ يَلْبِسُهُ. وَيُقَالُ إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ نَسُوا أَنْ يَخْرِقُوا القَمِيصَ، لأنَّ الذِئْبَ لَوْ أَكَلَهُ لَمَزَّقَ ثِيَابَهُ. وَلاَحَظَ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ ذَلِكَ، فَأَدْرَكَ أَنَّ أَوْلاَدَهُ كَاذِبُونَ، فَقَالَ لَهُمْ مُكَذِّباً: بَلْ حَسَّنَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرَ الجَرِيمَةِ، وَسَهَّلَتْهُ عَلَيْكُمْ، فَارْتَكَبْتُمْ أَمْراً مُنْكَراً، فَسَأَصْبِرُ صَبْراً جَمِيلاً لاَ شَكْوَى فِيهِ عَلَى مَا اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُفَرَّجَهُ اللهُ بِكَرَمِهِ وَمِنِّهِ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ.
سَوَّلَتْ لَكُمْ - زَيََّنَتْهُ لَكُمْ وَسَهَّلَتِ ارْتِكَابَهُ عَلَيْكُمْ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ - لاَ شَكْوَى فِيهِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
مَا تَصِفُونَ - مَا تَذْكُرُونَ مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ.
﴿يابشرى﴾ ﴿غُلاَمٌ﴾ ﴿بِضَاعَةً﴾
(١٩) - وَمَرَّتْ بِالبِئْرِ قَافِلَةٌ (سَيَّارَةٌ) مُجْتَازَةٌ فَأَرْسَلُوا رَجُلاً مِنْهُمْ إِلَى البِئْرِ لِيَسْتَقِي لَهُمُ المَاءَ، فَأَدْلَى دَلْوَهُ فِي البِئْرِ، فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالدَّلْوِ، فَأَخْرَجَهُ الرَّجُلُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الوَارِدِينَ عَلَى المَاءِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِرِؤْيَتِهِ، وَعَادُوا إِلَى القَافِلَةِ بِهِ، وَقَالُوا لِمَنْ مَعَهُمْ إِنَّهُمْ اشْتَرَوْهُ مِنْ وَارِدِينَ عَلَى المَاءِ لِكَيْلاَ يُشَارِكُهُمُ الآخَرُونَ مِنْ رِفَاقِهِمْ فِي القَافِلَةِ فِيهِ إِنْ عَلِمُوا حَقِيقَةَ خَبَرِهِ. وَأَخْفَوْهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ لِكَيْلاَ يَدَّعِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ المَكَانْ، لِيَكُونَ بِضَاعَةً مِنْ جُمْلَةِ تِجَارَتِهِمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ البِئْرَ لِيَعْلَمُوا مَا الذِي سَيَكُونُ عَلَيهِ حَالُ يُوسُفَ، وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَذَكَرُوا خَبَرَهُ لِوَارِدِها، فَنَادَى أَصْحَابَهُ وَقَالَ: يَا بُشْرَى هَذا غُلاَمٌ يُبَاعُ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قَلِيلٍ إِلَى وَارِدِ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أَخُوْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ إِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، مُفَضِّلاً الرِّقَّ وَالبَيْعَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ إٍخْوَتُهُ، وَكَانَ الإِخْوَةُ مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي يُوسُفَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ أَحَدٌ أَنْ يُعْطُوهُ إِيَّاهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَفَعَلُوا).
سَيَّارَةٌ - رِفْقَةٌ مُسَافِرُونَ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ.
فَأَدْلَى دَلْوَهُ - فَأَرْسَلَ دَلْوَهُ فِي الجُبِّ.
أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً - أَخْفَاهُ الوَارِدُ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي القَافِلَةِ، أَوْ أَخْفَى إٍخْوَتُهُ أَمْرَهُ لِيَكُونَ مَتَاعاً لِلتِّجَارَةِ (بِضَاعَةً).
﴿دَرَاهِمَ﴾ ﴿الزاهدين﴾
(٢٠) - وَبَاعَهُ رِجَالُ السَّيَّارَةِ فِي مِصْرَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قَلِيلٍ نَاقِصٍ، عَنْ ثَمَنِهِ الحَقِيقِي، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَرَاهِمَ مَعْدُودَاتٍ (وَكَانُوا قَدِيماً يَعُدُّونَ ثَمَنَ مَا يَشْتَرُونَ عَدّاً إِذَا لَمْ يَبْلُغِ المَبْلَغُ الأُوِقِيَّةَ - أَيْ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً - أَمَّا إِذَا جَاوَزَ المَبْلَغُ الأَرْبَعِينَ دِرْهَماً فَكَانُوا يَدْفَعُونَهُ بِالمِيزَانِ).
وَكَانَ الذِينَ بَاعُوهُ يَرْغَبُونَ فِي الخَلاَصِ مِنْهُ لِئَلاَّ يَظْهَرَ مَنْ يُطَالِبُهُمْ بِهِ، لأَنَّهُ حُرٌّ، وَلِذَلِكَ قَنَعُوا بِالثَّمَنِ البَخْسِ.
شَرَوْهُ - بَاعُوهُ.
بِثَمَنٍ بَخْسٍ - نَاقِصٍ عَنِ القِيمَةِ نَقْصاً ظَاهِراً.
﴿اشتراه﴾ ﴿مَثْوَاهُ﴾
(٢١) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ السَّيَّارَةِ بَاعَتْ يُوسُفَ لِرَجُلٍ مِنْ مِصْرَ (هُوَ عَزِيزُهَا أَو الوَزِيرِ الأَوَّلِ فِيهَا) فَأَكْرَمَهُ هَذا الرَّجُلِ، مُتَوًّسِماً فِيهِ الخَيْرَ، وَأَوْصَى أَهْلَهُ بِهِ. وَهَكَذَا مَكَّنَ اللهُ لِيُوسُفَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَعَلَّمَهُ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا (تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، وَاللهُ إِذَا أَرَادَ أَمْراً فَلاَ يُرَدُّ وَلاَ يُمَانَعُ، بَلْ هُوَ الغَالِبُ لِمَا سِوَاهُ، وَالفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ، وَتَلَطُّفُهُ فِي فِعْلِهِ مَا يُرِيدُ.
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ - اجْعَلِي مَحَلَّ إِقَامَتِهِ كَرِيماً مُرْضِياً.
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ - لاَ يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلاَ يَدْفَعُهُ عَنْهُ أَحَدٌ.
﴿آتَيْنَاهُ﴾
(٢٢) - وَلَمَّا اسْتَكْمَلَ يُوسُفُ عَقْلَهُ، وَتَمَّ خَلْقُهُ (بَلَغَ أَشُدَّهُ)، آتَاهُ اللهُ النُّبُوَّةَ (حُكْماً وَعِلْماً)، وَحَبَاهُ بِهَا، مِنْ بَيْنِ أُولئِكَ القَوْمِ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مُحْسِناً فِي عَمَلِهِ، عَامِلاً بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المُحْسِنِينَ.
بَلَغَ أَشُدَّهُ - بَلَغَ مُنْتَهَى قُوَّةِ جِسْمِهِ.
﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾ ﴿الأبواب﴾ ﴿الظالمون﴾
(٢٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ مُحَاوَلَةِ امْرَأَةِ العَزِيزِ - التِي أَوْصَاهَا زَوْجُهَا بِيُوسُفَ - اسْتِغَوَاءَهُ، وَطَلَبِهَا مِنْهُ فِعْلَ الفَاحِشَةَ، بَعْدَ أَنْ أَحَبَّتْهُ حُبّاً شَدِيداً، لِجَمَالِهِ وَبَهَائِهِ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجَمَّلَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَغْلَقَتِ الأَبْوَابَ، وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، قَائِلَةً لَهُ: (هِيتَ لَكَ - أَيْ هَلُمَّ إِلَيَّ)، فَامْتَنَعَ يُوسُفُ عَنِ الاسْتِجَابَةِ إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا إِنَّ بَعْلَكِ هُوَ سَيِّدُ البَيْتِ الذِي أُقِيمُ فِيهِ (رَبِّي)، وَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيَّ، فَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ بِفِعِلِ الفَاحِشَةِ مَعْ أَهْلِهِ. وَالظَّالِمُونَ النَّاكِرُونَ لِلْجَمِيلِ لاَ يُفْلِحُونَ أَبَدَاً.
رَاوَدَتْهُ - تَمَحَّلَتْ لِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا.
هِيتَ لَكَ - هَلُمَّ إِلَيَّ، أَسْرِعْ.
مَعَاذَ اللهِ - أَعُوذُ بِاللهِ مِمَّا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ.
﴿رَّأَى﴾
(٢٤) - وَيَقُولُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِنَّ نَفْسَ يُوسُفَ حَدَّثَتْهُ بِالمَرْأَةِ فَرَأَى شَيْئاً مِنْ آيَاتِ اللهِ أَعَادَهُ إِلَى عَقْلِهِ، وَتَرَاجَعَ عَمَّا هَمَّتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَبِذَلِكَ صَرَفَ اللهُ عَنهُ السُّوءَ، وَعَمَلَ الفَاحِشَةِ، لأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللهِ المُخْلَصِينَ.
(وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ الآيَاتِ التِي رَآهَا يُوسُفُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَقِيلَ إِنَّهُ رَأَى صُورَةَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ يُحَذِّرُهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ رَأَى صُورَةَ رَبِّ البَيْتِ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ رَأَى بَعْضَ آيَاتِ اللهِ مَكْتُوباً عَلَى الجِدَارِ...).
وَلكِنَّ أَكْثَرَ المُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَمٌّ بِهَا وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَا يَذْهَبُونَ إِلَيهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ النَّصِّ (لَوْلا) التِي هِيَ فِي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بُرْهَانَ رَبَّهُ لَهَمَّ بِهَا، فَوُجُودُ الهَمِّ مِنْهُ يَقُومُ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ البُرْهَانِ وَلكِنْ وُجِدَتْ رُؤْيَةُ البُرْهَانِ فَانْتَفَى الهّمُّ مِنْ جَانِبِهِ).
وَقَدْ بَرَّأَ اللهُ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فِي الآيةِ وَقَالَ إِنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ لأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الذِينَ أَخْلَصَهُمْ رَبُّهُمْ لِطَاعَتِهِ عَنْ فِعْلِ مَا يَشِينُهُمْ مِنَ المَعَاصِي.
﴿لَدَى﴾
(٢٥) - وَهَرَبَ يُوسُفُ مِنَ المَرْأَةِ نَحْوَ البَابِ لِيَنْجُوَ بِنَفْسِهِ مِنْهَا، فَلَحِقَتْ بِهِ لِتُرْجِعَهُ إِلَيْهَا، وَأَمْسَكَتْ بِهِ مِنْ قَمِيصِهِ مِنْ خَلْفِهِ فَقَدَّتْهُ وَمَزَّقَتْهُ، وَوَجَدَا (أَلْفَيَا) زَوْجَ المَرْأَةِ عِنْدَ البَابِ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ هَذا المَوْقِفِ المُحْرِجِ بِكَيْدِهَا وَمَكْرِهَا، فَاتَّهَمَتْ يُوسُفَ بِأَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: مَا جَزَاءُ الذِي يُرِيدُ بِزَوْجَتِكَ السُّوءَ وَالفَاحِشَةَ، إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ فِي السِّجْنِ، أَوْ أَنْ يُوقَعَ عَلَيْهِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، عُقُوبَةً لَهُ عَلَى مَا جَنَتْهُ يَدَاهُ؟
اسْتَبَقَا البَابَ - تَسَابَقَا إِلَيْهِ هُوَ يُرِيدُ الخُرُوجَ وَهِيَ تُرِيدُ مَنْعَهُ.
قَدَّتْ قَمِيصَهُ - مَزَّقَتْهُ وَشَقَّتْهُ.
أَلْفَيَا سَيِّدَهَا - وَجَدَا زَوْجَهَا.
﴿رَاوَدَتْنِي﴾ ﴿الكَاذِبِينَ﴾
(٢٦) - فَتَبَرَّأَ يُوسُفُ مِنَ التُّهْمَةِ التِي رَمَتْهُ بِهَا المَرْأَةُ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ إِيَّاهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَقَالَ: هِيَ التِي رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَطَلَبَتْنِي لِفِعْلِ الفَاحِشَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهَا نَحْوَ البَابِ، وَلَكِنَّهَا لَحِقَتْ بِهِ، وَأَمْسَكَتْ بِقَمِيصِهِ مِنَ الخَلْفِ فَتَمَزَّقَ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَرْأَةِ: إِنْ كَانَ قَمِيصَ يُوسُفَ تَمَزَّقَ مِنْ قِبَلِهِ (أَيْ مِنَ الأَمَامِ)، فَتُكُونُ المَرْأَةُ هِيَ الصَّادِقَةَ وَيَكُونَ هُوَ الكَاذِبُ، لأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ دَعَاهَا إَلَى نَفْسِهِ، وَأَبَتْ هِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَهَاجَمَهَا فَدَفَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَخَذَتْ بِتَلاَبِيبِهِ فَتَمَزَّقَ قَمِيصُهُ فَيَصِحُّ مَا قَالَتْ هِيَ.
﴿الصَّادِقِينَ﴾
(٢٧) - وَإِنْ كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ تَمَزَّقَ مِنَ الخَلْفِ (مِنْ دُبُرٍ) فَيَكُونُ هُوَ الصَّادِقَ وَهِيَ الكَاذِبَةَ، لأَنَّهَا تَكُونُ هِيَ التِي لَحِقَتْ بِهِ، وَهُوَ هَارِبٌ مِنْهَا، فَجَذَبَتْهُ مِنْ قَمِيصِهِ مِنَ الخَلْفِ فَتَمَزَّقَ، فَيَصِحُّ مَا قَالَهُ يُوسُفُ.
﴿رَأَى﴾
(٢٨) - فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَوْجُ المَرْأَةِ مِنْ صِدِقِ يُوسُفَ، وَكَذِبِ المَرْأَةِ، إِذْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ قَمِيصَ يُوسُفَ قَدْ تَمَزَّقَ مِنَ الخَلْفِ قَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا البُهْتَ، وَمَا حَاوَلَتْ بِهِ تَلْطِيخَ سُمْعَةِ الشَّابِّ، هُوَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ العَظِيمِ.
(٢٩) - ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ البَيْتِ يُوسُفَ بِكِتْمَانِ مَا وَقَعَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: اضْرِبْ صَفْحاً عَنْهُ فَلا تَذْكُرُهُ لأَحَدٍ لِكَيْلاَ يَشِيعَ خَبَرُهُ، وَيَنْتَشِرَ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَالَ لامْرَأَتِهِ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ الذِي وَقَعَ مِنْكِ مِنْ إِرَادَةِ الفَاحِشَةِ بِالشَّابِّ، ثُمَّ اتْهَامُهُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، لأَنَّكَ كُنْتِ بِفِعْلِكِ هَذَا مِنَ الذِينَ يَرْتَكِبُونَ الخَطِيئَةَ عَنْ عَمْدٍ وَتَصْمِيمٍ.
﴿امرأة﴾ ﴿تُرَاوِدُ﴾ ﴿فَتَاهَا﴾ ﴿لَنَرَاهَا﴾ ﴿ضَلاَلٍ﴾
(٣٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ قِصَةَ يُوسُفَ مَعَ المَرْأَةِ قَدْ شَاعَ خَبَرُهَا فِي المَدِينَةِ (مِصْرَ)، حَتَّى تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا، فَقَالَتْ نِسَاءُ الكُبَرَاءِ وَالأُمَرَاءِ يُنْكِرْنَ عَلَى امْرَأَةِ العَزِيزِ (وَهُوَ الوَزِيرُ الأَوَّلُ) فِعْلَهَا، وَيَعِبْنَ عَلَيْهَا مَسْلَكَهَا فِي مُرَاوَدَةِ غُلاَمِهَا (فَتَاهَا) وَعَبْدِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى نَفْسِهَا، وَقُلْنَ إِنَّهُ قَدْ سَلَبَ لُبَّهَا مِنَ الحُبِّ، وَإِنَهُنَّ يَرَيْنَهَا فِي ضَلاَلٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي تَصَرُّفِهِا هَذَا.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّغَفُ هُوَ الحُبُّ القَاتِلُ، وَالشَّغَافُ هُوَ حِجَابُ القَلْبِ، أَيْ إِنَّ حُبَّهُ قَدْ مَسَّ شَغَافَ قَلْبِهَا).
شَغَفَهَا حُبّاً - شَقَّ حُبُّهُ سُوَيْدَاءَ قَلْبِهَا.
﴿مُتَّكَئاً﴾ ﴿وَآتَتْ﴾ ﴿وَاحِدَةٍ﴾ ﴿حَاشَ﴾
(٣١) - فَلَمَّا سَمِعَتْ امْرَأَةُ العَزِيزِ مَقَالَةَ نِسْوَةِ الكُبَرَاءِ التِي أَرَدْنَ بِهَا إِغْضَابَهَا، وَمَا يَتَحَدَّثْنَ بِهِ عَنْ ذَهَابِ الحُبِّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تَدْعُوهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتُضَيِّفَهُنَّ، وَأَعَدَّتْ لَهُنَّ مَفَارِشَ وَأَرَائِكَ، وَطَعَاماً مِمَّا يُقَطَّعُ بِالسَّكَاكِينِ، وَأَعَطْتَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِيناً لِتَسْتَعْمِلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا مَكِيدَةً، وَمُقَابَلَةً مِنْهَا لَهُنَّ عَلَى كَيْدِهِنَّ. ثُمَّ دَعَت يُوسُفَ إِلَى الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَتْهُ النِّسْوَةُ أَعْظَمْنَ شَأْنَهُ، وَأَجْلَلْنَ قَدْرَهُ، وَجَعَلْنَ يَجْرَحْنَ أَيْدِيهِنَّ دَهَشاً بِرُؤْيَتِهِ. وَلَمَّا شَكَوْنَ لَهَا مِمَّا أَصَابَهُنَّ، قَالَتْ لَهُنَّ: أَنْتُنَّ فَعَلْتُنَّ هَذا مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَيْفَ أُلاَمُ أَنَا؟ فَقُلْنَ لاَ لَوْمَ عَلَيْكِ بَعْدَ الذِي رَأَيْنَا، فَهَذَا لَيْسَ بَشَراً مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَحَدُ مَلائِكَةِ اللهِ المُكْرَمِينَ.
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ - جَرَحْنَ أّيْدِيَهُنَّ.
حَاشَ للهِ - تَنْزِيهاً عَنِ العَجْزِ عَنْ خَلْقِ مِثْلِهِ.
﴿رَاوَدتُّهُ﴾ ﴿وَلَئِن﴾ ﴿آمُرُهُ﴾ ﴿لَيَكُوناً﴾ ﴿الصاغرين﴾
(٣٢) - وَقَالَتْ امْرَأَةُ العَزِيزِ لِلنِّسْوَةِ تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهَا: هَذَا هُوَ الغُلاَمُ الذِي لُمْتُنَّنِي لأَنَّنِي شُغِفْتُ بِهِ حُبّاً، وَهَا قَدْ رَأَيْتُنَّ جَمَالَهُ وَبَهَاءَهُ بِأَعْيُنِكُنَّ، فَكَيْفَ لاَ يَتَعَلَّقُ قَلْبِي بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الجَمَالِ خَلِيقٌ بِأَنْ يُفْتَتَنَ بِهِ؟ وَاعْتَرَفَتْ لَهُنَّ بِأَنَّهَا رَاوَدَتْهُ فِعْلاً عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَعْصَمَ وَامْتَنَعَ، وَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَتْهُ بِهِ، وَيَخْضَعْ لأَرَادَتِهَا، وَإِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ لِرَغْبَتِهَا، فَإِنَّهُ سَيُسْجَنُ وَسَيَكُونُ مِنَ المَنْبُوذِينَ المُسْتَكِينِينَ (الصَّاغِرِينَ).
فَاسْتَعْصَمْ - امْتَنَعَ امْتِنَاعاً شَدِيداً وَأَبَى.
﴿الجاهلين﴾
(٣٣) - فَاسْتَعَاذَ يُوسُفُ بِاللهِ مِنْ شَرِهِنَّ، وَمِنْ كَيْدِهِنَّ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، السِّجْنُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الاسْتِجَابَةِ إِلَى مَا يَطْلُبْنَهُ مِنِّي مِنْ فِعِلِ الفَاحِشَةِ (وَفِي هَذَا القَوْلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّسْوَةَ اشْتَرَكْنَ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ فِي تَهْدِيدِ يُوسُفَ وَتَخْوِيفِهِ مِنْ عَاقِبَةِ إِصْرَارِهِ عَلَى الامْتِنَاعِ عَنْهَا، وَرَغَبْنَّهُ فِي مُسَايَرَتِهَا، وَالاسْتِجَابَةِ لَهَا)، وَإِنْ وَكَّلْتَنِي يَا رَبُّ إِلَى نَفْسِي فَلَيْسَ لِي مِنْهَا قُدْرَةٌ، وَلاَ أَمْلِكُ لَهَا ضُرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ بِحَوْلِكِ وَقُوَّتِكَ، فَإِنْ لَمْ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، وَتَعْصِمُنِي مِنَ الفَاحِشَةِ، أَسْتَجِبْ لَهُنَّ، وَأَكُنْ بِذَلِكَ مِنَ الجَّاهِلِينَ الذِي تَسْتَخِفُّهُمُ الشَّهَوَاتُ، فَيَجْنَحُونَ إِلَى ارْتِكَابِ المُوبِقَاتِ، وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ.
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ - أَمِلْ إِلَى إِجَابَتِهِنَّ إِلَى مَا يَطْلُبْنَهُ.
(٣٤) - فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَائِهِ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ، إِذْ كَفَّتِ المَرْأَةُ عَنْ مُلاَحَقَتِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالفَاحِشَةِ، وَعَصَمَهُ اللهُ مِنْهُنَّ، وَاللهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَنْ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، عَلِيمٌ بِصِدْقِ إِيمَانِهِ، وَبِمَا يُصْلِحُ أَحْوَالَهُ.
﴿الآيات﴾
(٣٥) - وَلَمَّا قَامَتْ الأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ وَعِفَّتِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِمَّا رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ العَزِيزِ، رَأَوا أَنَّهُ مِنَ المَصْلَحَةِ أَنْ يَسْجُنُوهُ بَعْضَ الوَقْتِ (حَتَّى حِينٍ)، إِِيهَاماً بِأَنَّهُ هُوَ الذِي رَاوَدَ امْرَأَةُ العَزِيزِ عَنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ صَادِقَةً فِيمَا قَالَتْهُ عَنْهُ، وَإِبْعَاداً لَهُ مِنَ الدَّارِ التِي فَتَنَ رَبَّتَهَا وَصَدَيقَاتِهَا، وَاسْتَخَفَّهُنَّ حُبّاً وَشَغَفاً، دُونَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُنَّ فِيهِ مَطْمَعاً، وَقَطْعاً لأَلْسِنَةِ السُّوءِ التِي أَخَذَتْ فِي اللَّغْطِ فِي قِصَّةِ المُرَاوَدَةِ.
﴿أراني﴾ ﴿نَرَاكَ﴾
(٣٦) - وَدَخَلَ السِّجْنَ مَعَ يُوسُفَ عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِمَلِكِ مِصْرَ (فَتَيَانِ)، قِيلَ إِنَّ أَحَدَهُمَا سَاقِي المَلِكِ، وَالآخَرَ خَبَّازُهُ، وَقَدْ أتُّهِمَا بِمُحَاوَلَةِ دَسِّ السُّمِّ لِلْمَلِكِ لِلْفَتْكِ بِهِ. وَقَدْ شَاعَ فِي السِّجْنِ مَا عَلَيْهِ يُوسُفُ مِنَ الصِدْقِ وَالصَّلاَحِ، وَمَعْرِفَةِ تَعْبِيرِ الأَحْلاَمِ وَقَدْ رَأَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الغُلاَمَيْنِ مَنَاماً قَصَّهُ عَلَى يُوسُفَ، وَرَجَاهُ أَنْ يُفَسِرَهُ لَهُ. وَكَانَ السَّاقِي قَدْ رَأَى فِي نَوْمِهِ أَنَّهُ يَعْصِرُ عِنَباً وَيَصْنَعُ مِنْهُ خَمْراً، وَرَأَى الآخَرُ أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزاً فَتَأْتِي الطَّيْرُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ. وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ يُوسُفَ أَنْ يُفَسِرَ لَهُ رُؤْيَاهُ، لأَنَّهُ يَرَاهُ مِنَ الذِينَ يُحْسِنُونَ تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ وَتَأْوِيلِهَا.
أَعْصِرُ خَمْراً - أَعْصِرُ عِنَباً يَؤُولُ إِلَى خَمْرٍ أَسْقِيهِ المَلِكَ.
﴿بالآخرة﴾ ﴿كَافِرُونَ﴾
(٣٧) قَالَ لَهُمَا يُوسُفُ: إِنَّهُ يَعْرِفُ تَفْسِيرَ مَا رَآهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُلُمٍ وَسَيُخْبِرُهُمَا بِتَأْوِيلِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا إِنَّهُمَا لاَ يَأْتِيهِمَا طَعَامٌ إِلاَّ أَخْبَرَهُمَا بِهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَبِمَا يُرِيدُونَ مِنْ إِرْسَالِهِ. (وَقِيلَ إِنَّ مُدَبِّرِي المُؤَامَرَةِ عَلَى المَلِكِ مِنْ رِجَالِ الدَّوْلَةِ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِرْسَالَ طَعَامٍ مَسْمُومٍ إِلى الغُلاَمَينِ لِقَتْلِهِمَا لِكَيْ لاَ يُقِرَّا بِشَيءٍ عَنِ اشْتِرَاكِهِمْ بِالمُؤَامَرَةِ) وَهذِهِ القُدرَةُ عَلَى تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ، وَوَحْيِ الإِلْهَامِ الذِي تَمَتَّعَ بِهِ، هُمَا مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ رَبُّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ، لأّنَّهُ تَرَكَ مُشَارَكَةَ القَوْمِ الكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَفَلَسْطِينَ فِي عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ أَصْنَامٍ وَآلِهَةٍ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَيَكْفُرُونَ بِالآخِرَةِ وَبِالحِسَابِ وَالجَزَاءِ. وَأَنَّهُ آمَنَ بِاللهِ وَحْدَهُ إلهاً وَاحِداً وَالإِخْبَارُ بِمَا يَأْتِي.
﴿آبآئي﴾ ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ ﴿وَإِسْحَاقَ﴾
(٣٨) - وَقَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لِلْغُلاَمَينِ: إِنَّهُ تَرَكَ طَرِيقَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَاتَّبَعَ سَبِيلَ المُرْسَلِينَ المُهْتَدِينَ مِنْ آبَائِهِ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وهذا التَّوْحِيدُ وَالاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، هُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى النَّاسِ أّنَّهُ جَعَلَ يُوسُفَ وَآبَاءَهُ دُعَاةً لِلنَّاسِ إِلى الخَيْرِ، وَإِلَى سَبيلِ اللهِ القَّويمِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَلا يَشْكُرُونَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ وَحُسْنِ العَمَلِ.
﴿ياصاحبي﴾ ﴿أَأَرْبَابٌ﴾ ﴿الواحد﴾
(٣٩) - وَسَأَلَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الفَتَيَيْنِ، وَهُوَ يَدْعُوهُمَا إِلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ: هَلْ عِبَاَدُة أَرْبَابٍ مُتَفَرِّقِينَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، خَيْرٌ أَمْ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ الإِلهُ الوَاحِدُ الذِي لاَ يُقْهَرُ وَلاَ يُغَالَبُ، وَقَدْ ذَلَّ لِعِزَّتِهِ وَجَلاَلِهِ كُلُّ شَيءٍ.
(أَشَارَ يُوسُفُ إِلَى الآلِهَةِ المُتَفَرِّقِينَ، لأنَّ التَّفَرُّقِ يَقْتَضِي التَّنَازُعَ وَالاخْتِلاَفَ فِي الأَعْمَالِ وَالتَّدْبِيرِ وَيَقتَضِي إِفْسَادَ نِظَامِ الكَوْنِ).
﴿آبَآؤُكُمْ﴾ ﴿سُلْطَانٍ﴾
(٤٠) - ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ الحَقِّ مِنْ آلِهَةٍ أُخْرَى، كَالأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ... هِيَ أَسْمَاءٌ سَمَّوْهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، تَلَقَّاهَا خَلَفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَلَيْسَ لِذلِكَ مُسْتَندٌ عِنْدَ اللهِ، وَلاَ حُجَّةٌ وَلاَ بُرْهَانٌ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الحُكْمَ وَالمَشِيئَةَ وَالمُلْكَ، كُلُّ ذَلِكَ للهِ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ قَاطِبَةً، أَنْ لاَ يَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ. ثُمَّ قَالَ لِلْغُلاَمَيْنِ: إِنَّ مَا يَدْعُوهُمَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، هُوَ الدَّينُ القَوِيمُ المُسْتَقِيمُ الذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ لِذلِكَ كَانُوا مُشْرِكِينَ.
الدِّينُ القَيِّمُ - الدِّينُ القَوِيمُ المُسْتَقِيمُ بِالبَرَاهِينِ.
﴿ياصاحبي﴾
(٤١) - ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُفَسِّرُ حُلْمَ الشَّابَّينِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ الذِي رَأَى نَفْسَهُ فِي المَنَامِ يَعْصِرُ خَمْراً، سَيَخْرُجُ مِنَ السِّجْنِ، وَسَيَسْقِي سَيِّدَهُ المَلِكَ (رَبَّهُ) الخَمْرَ، وَإِنَّ الآخَرَ - وَهُوَ الذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزاً تَأْتِي الطَّيْرُ فَتَأْكُلُ مِنْهُ - فَإِنَّهُ سَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ لَحْمِ رَأْسِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا إِنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ سَيَقَعُ بِتَمَامِهِ، وَإِنَّهُ أَمْرٌ مَقْضِيٌّ مِنَ اللهِ.
﴿فَأَنْسَاهُ﴾ ﴿الشيطان﴾
(٤٢) - ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي الذِي تَوَقَّعَ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ ِمَن السَّجْنِ: اذْكُرْ حَالِي وَقِصَّتِي عِنْدَ سَيِّدِكَ المَلِكِ، لَعَلَّهُ يُنْصِفُنِي، وَيُخْرِجُنِي مِنَ السِّجْنِ، فَنَسِيَ الشَّابُ يُوسُفَ وَمَا قَالَهُ، فَبَقِيَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
(وَالبِضْعُ تُسْتَعْمَلُ فِي الأَعْدَادِ لِمَا بَيْنَ الثَّلاثِ وَالتِّسْعِ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى السَّبْعِ).
﴿بَقَرَاتٍ﴾ ﴿سُنْبُلاَتٍ﴾ ﴿يَابِسَاتٍ﴾ ﴿ياأيها﴾ ﴿رُؤْيَايَ﴾ ﴿لِلرُّؤْيَا﴾
(٤٣) - وَرَأَى المَلِكُ رُؤْيَا هَالَتْهُ، وَتَعَجَّبَ مِنْ أَمْرِهَا، فَجَمَعَ الكَهَنَةَ، وَكِبَارَ رِجَالِ الدَّوْلَةِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَاهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِمْ تَفْسِيرَهَا فَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ. وَقَدْ رَأَى المَلِكُ فيِ مَنَامِهِ سَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ هَزِيلاَتٍ يَأْكُلْنَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، وَرَأَى سَبْعَ سَنَابِلَ قَمْحٍ عِجَافٍ يَابِسَاتٍ، وَسَبْعَ سَنَابِلَ خُضْرٍ سِمَانٍ.
عِجَافٍ - مَهَازِيلُ جِدّاً.
تَعْبُرُونَ - تَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا.
﴿أَضْغَاثُ﴾ ﴿أَحْلاَمٍ﴾ ﴿الأحلام﴾ ﴿بِعَالِمِينَ﴾
(٤٤) - فَرَدَّ الكَهَنَةُ وَرِجَالُ الدَّوْلَةِ عَلَى المَلِكِ قَائِلِينَ لَهُ: هَذِهِ الرُّؤْيَا هِيَ مِنَ الأَحْلاَمِ المُخْتَلَطَةِ، مِنْ خَوَاطِرٍ وَخَيَالاَتٍ، يَتَصَوَّرُهَا الدِّمَاغُ فِي النَّوْمِ، وَتَهْجُسُ بِهَا النَّفْسُ، فَلاَ تَعْنِي شَيْئاً مَقْصُوداً بِذَاتِهِ، وَإِنَّهُمْ لاَ قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ وَتَأْوِيلِ مِثْلِ هذِهِ الأَحْلاَمِ المُضْطَرِبَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الأَحْلاَمِ المَفْهُومَةِ المَعْقُولَةِ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: إِنَّهُمْ يَنْفُونَ مَعْرِفَتَهُمْ بِتَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ عُمُوماً لأَنَّهَا صُوَرٌ وَخَيَالاَتٌ تُعْرَضْ لِلمُخَيِّلَةِ فِي النَّوْمِ).
أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ - تَخَالِيطُ أَحْلاَمٍ وَأَبَاطِيلُهَا، أَوْ بَاقَاُت أَحْلاَمٍ.
(٤٥) - وَتَذَكَّرَ الغُلاَمُ، الذِي كَانَ مَعَ يُوسُفَ فِي السِّجْنِ ثُمَّ نَجَا، أَمْرَ يُوسُفَ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ، وَتَذَكَّرَ مَا كَانَ قَدْ أَوْصَاهُ بِهِ يُوسُفُ مِنْ رَفْعِ أَمْرِهِ إِلى المَلِكِ، فَنَسِيَ ذَلِكَ، وَبَقِيَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ عَدَداً مِنَ السِّنِينِ. فَرَجَا المَلِكَ أَنْ يَسْمَحَ لَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى يُوسُفَ فِي السِّجْنِ لِيَسأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِ حُلْمِ المَلِكْ، وَقَالَ لَهُ إْنَّهُ سَيَأْتِيهِ بِالجَّوَابِ.
ادَّكَرَبَعْدَ أُمَّةٍ - تَذَكَّرَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
﴿بَقَرَاتٍ﴾ ﴿سُنبُلاَتٍ﴾ ﴿يَابِسَاتٍ﴾
(٤٦) - وَجَاءَ الشَّابُّ إلى يُوسُفَ، وَسَأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِ حُلْمِ المَلِكِ، وَنَعْتِهِ بِالصَّدِّيقِ، لِمَا عَرَفَهُ فِيهِ مِنَ الصَّلاَحِ وَالصِّدْقِ، وَرَجَاهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ تَفْسِيرَ حُلْمٍ رَأَى فِيهِ المَلِكُ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ مَهَازِيلُ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ يَابِسَاتٍ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ بَالتَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ مَعْنَى هَذَا الحُلْمِ، وَلِيَعْرِفُوا لِيُوسُفَ فَضْلَهُ وَعِلْمَهُ.
(٤٧) - فَقَالَ يُوسُفُ مُفَسِّراً الحُلْمَ: إِنَّهُمْ سَتَأْتِيهِمْ سَبْعُ سِنِينَ مِنَ الخَصْبِ وَالمَطَرِ مُتَوَالِياتٍ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا الغَلَّةَ فِي سَنَابِلِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ، وَأَبْعَدَ عَنْ إِسْرَاعِ الفَسَادِ إِلَيْهَا، إِلاَّ القَلِيلَ مِمَّا يَأْكُلُونَهُ. (فَقَدْ أَوْصَاهُمْ بِالاقْتِصَادِ وَالتَّوْفِيرِ، وَالأَكْلِ دُونَ إِسْرَافٍ لِيَبْقَى لَهُمْ وَفْرٌ كَافٍ لِسِنِيِّ الجَدْبِ التَّالِيَةِ).
دَأَباً - دَائِبِينَ كَعَادَتِكُمْ فِي الزِّرَاعَةِ.
(٤٨) ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَ هذِهِ السِّنِينَ، مِنَ الخَصْبِ وَالخَيْرِ، سَبْعُ سِنِينَ فِي الجَدْبِ وَالشِّدَّةِ، يَزْرَعُونَ فِيهَا وَلاَ يَحْصُدُونَ غَلَّةً، فَتَسْتَهْلِكُ هَذِهِ السِّنُونَ السَّبْعُ الشِّدَادُ مَا جَمَعُوهُ فِي سِنِيِّ الخَصْبِ، إِلاَّ القَلِيلَ الذِي أَحْصَنُوهُ، وَاحْتَاطُوا لَهُ.
تُحْصِنُونَ - تُخَبِّئُونَ مِنَ البَذْرِ لِلزِّرَاعَةِ.
(٤٩) - وَبَعْدَ هَذِهِ السِّنِينَ السَّبْعِ الشِّدَادِ يَأْتِي عَامُ خَصْبٍ وَخَيْرٍ، فَتُمْطِرُ السَّمَاءُ، وَتُغِلُّ الأَرْضُ، وَيَعْصِرُ النَّاسُ مَا كَانُوا يَعْصِرُونَهُ عَلَى عَادَتِهِمْ مِنْ سُكَّرٍ وَعِنَبٍ وَزَيْتٍ.
يُغَاثُ النَّاسُ - يُمْطَرُونَ فَتُخْصِبُ أَرْضُهُمْ.
يَعْصِرُونَ - مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ كَالزَّيْتُونِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ.
﴿فَاسْأَلْهُ﴾ ﴿اللاتي﴾
(٥٠) - فَعَرَفَ المَلِكُ فَضْلَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلاَمِ، وَعِلْمَهُ وَحُسْنَ اطِّلاَعِهِ عَلَى رُؤْيَاهُ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ أَخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ، وَأَحْضِرُوهُ إِليَّ، وَذَلِكَ لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وَيَتَحَقَّقَ مِنْ صِدْقِهِ. فَلَمًَّا جَاءَ رَسُولُ المَلِكِ إِلَى يُوسُفَ امْتَنَعَ مِنَ الخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ المَلِكُ، وَمَنْ حَوْلَهُ، مِنْ بَرَاءَتِهِ وَنَزَاهَةِ عرْضِهِ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ امْرَأَةِ العَزِيزِ. فَقَالَ يُوسُفُ لِرَسُولِ المَلِكِ: قُلْ لِلْمَلِكِ لِيَسْأَلَ النِّسْوَةَ اللاتي قَطعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حِينَمَا كُنَّ عِنْدَ امْرَأَةِ العَزِيزِ، لِمَاذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ، وَفِي جَوَابِهِنَّ مَا يَكْشِفُ عَنْ بَرَاءَتِي مِنَ التُّهْمَةِ التِي أُلْصِقَتْ بِي، أَمَّا رَبِّي فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِكَيْدِهِنَّ وَاحْتِيَالِهِنَّ.
مَا بَالُ النِّسْوَةِ - مَا حَالُهُنَّ وَمَا شَأْنُهُنَّ.
﴿رَاوَدتُّنَّ﴾ ﴿حَاشَ﴾ ﴿امرأت﴾ ﴿الآن﴾ ﴿رَاوَدْتُّهُ﴾ ﴿الصادقين﴾
(٥١) - فَجَمَعَ المَلِكُ النِّسْوَةَ اللاتِي قَطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَمَعَهُنَّ امْرَأَةُ العَزِيزِ التِي كَانَ يُوسُفُ فِي بَيْتِهَا، وَاتَّهَمَتْهُ بِمُرَاوَدَتِهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَسَأَلَهُنَّ المَلِكُ عَنْ حَالِهِنَّ مَعَ يُوسُفَ، وَمَا اتَّهَمْنَهُ بِهِ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ إِيَّاهُنَّ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ (وَهُوَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ امْرَأَةَ العَزِيزِ). فَقُلْنَ: حَاشَ للهِ لَمْ نَعْرِفْ عَلَيْهِ سُوءاً، وَمَا عَرَفْنَا مِنْهُ إِلاَّ طُهْراً وَعِفَّةً وَوَقَاراً. وَهُنَا اعْتَرَفَتْ امْرَأَةُ العَزِيزِ بِفِعْلِهَا، فَقَالَتْ لَقَدْ حَانَ الوَقْتُ لإِظْهَارِ الحَقِّ، وَجَلاَءِ مَا خَفِيَ، وَإِنَّهَا هِيَ التِي رَاوَدَتْ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهَا هِيَ التِي رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَاسْتَمْسَكَ بِعِصْمَتِهِ، وَأَنَّهُ هَرَبَ مِنْهَا نَحْوَ البَابِ.
﴿الخائنين﴾
(٥٢) - وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّهُ إِنَّمَا رَدَّ الرَّسُولَ، وَرَجَا المَلِكَ سُؤَالَ النِّسْوَةِ، وَالتَّحَقُّقَ مِمَّا جَرَى، لِتَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخُنْ مَوْلاَهُ العَزِيزَ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ الذِي رُبِّيَ فِي بَيْتِهِ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ. وَهَذا مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ مُجَاهِدٌ وَالحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّي، وَهُوَ الأَقْرَبُ إِلَى مَضْمُونِ النَّصِّ الذِي يَسْتَعْمِلِ القَائِلُ فِيهِ اسْمَ اللهِ، وَعِبَارَاتٍ لاَ يَقُولُها غَيْرُ المُؤْمِنِينَ وَالإِيمَانُ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَخَلَ حَتَّى ذَلِكَ الحِينِ أَرْضَ مِصْرَ. ثُمَّ إِنَّ القَوْلَ - إِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ هِيَ قَائِلَتُهُ - قِيلَ فِي حَضْرَةِ المَلِكِ وَهُوَ كَافِرٌ يَفْرِضُ عَلَى الشَّعْبِ عِبَادَةَ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تَتَجَرَّأَ المَرْأَةُ عَلَى ذِكْرِ اسْمِ اللهِ أَمَامَ المَلِكِ.
(وَقِيلَ إِنَّ هَذا الكَلامَ قَالَتْهُ امْرَأَةُ العَزِيزِ لِتُظْهِرَ بَرَاءَتَهَا أَمَامَ زَوْجِهَا، وَأَنَّهَا إِنَّمَا رَاوَدَتْ يُوسُفَ مُرَاوَدَةً فَقَطْ. وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَدْعُو إِلَى الأَخْذِ بِالقَوْلِ الأَوَّلِ:
١ - لأنَّ يُوسُفَ هُوَ الذِي طَرَحَ السُّؤَالَ وَرَفَضَ الخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ، وَيَثْبُتَ أَنَّهُ لَمْ يَخُنْ سَيِّدَهُ فِي أَهْلِهِ.
٢ - لأنَّ المَرْأَةَ خَانَتْ زَوْجَهَا فِعْلاً بِمُرَاوَدَةِ يُوسُفَ. أَمَّا القَوْلَ بِأَنَّهَا إِنَّمَا قَصَدَتْ بِقَوْلِهَا (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ..) يُوسفَ وَلَيْسَ زَوْجَهَا. فَإِنَّ النَّصَ لاَ يَحْتَمِلْ هَذا التَّأْوِيلَ الذِي لاَ سَنَدَ لَهُ.
٢ - لأنَّ المَرْأَةَ كَافِرَةٌ لاَ تَعْرِفُ اللهَ وَلاَ تُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى تَقُولَ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ) وَ (وَإِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي).
٤ - أَمَّا القَوْلُ بِأَنَّ المَرْأَةَ آمَنَتْ فَإِنَّ النَّصَّ لاَ يَحْتَمِلُهُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الأَخْذِ بِهَذا القَوْلِ أَوْ ذَاكَ كَبِيرُ أَثَرٍ لأَنَّ القِصَّةَ إِنَّمَا سِيقَتْ لِيَعْتَبِرَ النَّبِيُّ وَالمُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ أَمْراً هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ وَتَلَطَّفَ بِهِ بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ حَتَّى تَأْتِيَ النَّتَائِجُ كَمَا أَرَادَهَا تَعَالَى.
(٥٣) - ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: وَإِنِّي لاَ أُبْرِيءُ نَفْسِي مِنَ التَّفْكِيرِ بِالسُّوءِ، لأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِهِ، وَكُلُّ نَفْسٍ تُفَكِّرُ بِالسُّوءِ إِلاًّ النَّفْسَ التِي عَصَمَهَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(٥٤) - فَلَمَّا تَحَقَّقَ المَلِكُ مِنْ بَرَاءَةِ يُوسُفَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: أَحْضِرُوهُ إِليَّ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَهُ مِنْ خَاصَّتِي أَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِي) فَلَمَّا جِيءَ بِيُوسُفَ، وَتَحَدَّثَ المَلِكُ إِلَيْهِ، وَعَرَفَ فَضْلَهُ. وَحُسْنَ رَأْيِهِ، وَكَانَ عَرَفَ حُسْنَ خُلُقِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَطَهَارَةَ نَفْسِهِ، قَالَ لَهُ: إِنَّكَ عِنْدَنَا ذُو مَكَانَةٍ سَامِيَّةٍ، وَأَمَانَةٍ تَامَّةٍ، فَأَنْتَ غَيْرُ مُنَازِعٍ فِي تَصَرُّفِكَ، وَلاَ مُتَّهَمٍ فِي أَمَانَتِكَ.
مَكِينٌ - ذُو مَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ وَنُفُوذٍ وَأَمْرٍ.
﴿خَزَآئِنِ﴾
(٥٥) - فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِلْمَلِكِ: اجْعَلْنِي حَافِظاً عَلَى خَزَائِنِ مُلْكِكَ، فَإِنِّي خَازِنٌ أَمِينٌ شَدِيدُ الحِفْظِ، فَلاَ يَضِيعُ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنِّي ذُو عِلْمٍ وَذُو بَصِيرَةٍ بِمَا أَقُومُ بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ.
(٥٦) - وَقَدْ قَبِلَ المَلِكُ عَرْضَ يُوسُفَ، فَجَعَلَهُ المَلِكُ وَزِيراً. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَكَّنَ بِذَلِكَ لِيُوسُفَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى يُصِيبُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ، الذِينَ أَحْسَنُوا العَمَلَ، وَإِنَّهُ لَمْ يُضِعْ صَبْرَ يُوسُفَ عَلَى أَذَى إِخْوَتِهِ، وَصَبْرَهُ فِي السِّجْنِ.
يَتَبَوَّأُ مِنْهَا - يَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَنْزِلاً.
﴿الآخرة﴾ ﴿آمَنُواْ﴾
(٥٧) - وَإِنَّ مَا ادَّخَرَهُ اللهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ فِي الآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِمَّا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوْا.
(٥٨) - لَمَّا تَسَلَّمَ يُوسُفُ الإِدَارَةَ فِي مِصْرَ، أَخَذَ فِي جَمْعِ الغِلاَلِ وَادِّخَارِهَا، ثُمَّ جَاءَتِ السَّنَواتُ العِجَافُ المُجْدِبَةُ الشِّدَادُ، التِي تَوَقَّعَهَا، فَأَصَابَتْ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ (بِلاَدَ كَنْعَانَ) فَأَخَذَ النَّاسُ يَأْتُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إِلَى مِصْرَ لِلْحُصُولِ عَلَى المِيرَةِ لِعِيَالِهِمْ، فَكَانَ يُوسُفُ لاَ يُعْطِي الرَّجُلَ أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ بَعِيرٍ فِي العَامِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ وَرَدُوا عَلَيْهِ فِي طَلَبِ المِيرَةِ إِخْوَتِهِ لأَبِيهِ، إِذْ بَلَغَهُمْ أَنَّ عَزِيزَ مِصْرَ يُعْطِي النَّاسَ الطَّعَامَ بِثَمَنِهِ، فَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَاعَةً يَعْتَاضُونَ بِهَا طَعَاماً. وَكَانُوا عَشَرَةَ أَشْخَاصٍ، إِذْ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ يُرْسِلْ مَعَهُمْ ابْنَهُ الأَصْغَرَ شَقِيقَ يُوسُفَ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي كُرْسِيِّ الحُكْمِ، فَعَرَفَهُمْ، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَهُ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ شَكْلاً، إِذْ تَرَكُوهُ صَبِيّاً وَأَتَوْهُ كُهْلاً، وَلأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَكُونَ صَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ جَاؤُوا. فَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَتَوْا مِنْ بِلاَدِ كَنْعَانَ، وَأَبُوهُمْ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ. قَالَ: وَهَلْ لَهُ أَوْلاَدٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا نَعْمَ، كُنَّا اثْنَي عَشَرَ رَجُلاً هَلَكَ وَاحِدٌ مِنَّا فِي البَرِّيَّةِ، وَبَقِيَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ اسْتَبْقَاهُ عِنْدَهُ يَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ. فَأَكْرَمَهُمْ يُوسُفُ.
وَقِيلَ إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حِمْلَ بَعِيرٍ لأَخِيهِمْ وَأَبِيهِمْ لأَنَّهُمَا لاَ بُدَّ لَهُمَا مِنَ الطَّعَامِ، فَجَهَّزَ لَهُمْ بَعِيرَيْنِ لأَخِيهِمْ وَأَبِيهِمْ. وَقَالَ لَهُمْ: ائْتُونِي بِأَخِيكُمْ هَذا لأَرَاهُ وَأَتَأَكَّدَ مِنْ صِدْقِكُمْ.
(٥٩) - وَأَوْفَى لَهُمْ كَيْلَهُمْ، وَحَمَلَ لَهُمْ أَحْمَالَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ائْتُونِي فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ بِأَخِيكُمْ هَذا الذِي ذَكَرْتُمْ لأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ فِيمَا زَعَمْتُمْ، وَأَخَذَ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أَوفِي الكَيْلَ حَقَّهُ، وَأَنَا أَكْرَمُ مَنْ أَنْزَلَ ضَيْفاً.
فَقَدْ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ، وَجَهَّزَهُمْ بِالزَّادِ الكَافِي لَهُمْ مُدَّةَ سَفَرِهِمْ.
جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ - أَعْطَاهُمْ مَا هُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ.
(٦٠) - وَهَدَّدَهُمْ يُوسُفُ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوا بِأَخِيهِمْ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ سَيَمْنَعُ عَنْهُمْ الِميرَةَ فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ.
﴿سَنُرَاوِدُ﴾ ﴿لَفَاعِلُونَ﴾
(٦١) - قَالُوا: سَنَحْرِصُ عَلَى أَنْ نَأْتِيَ بِهِ، وَسَنُحَاوِلُ إِقْنَاعَ أَبِيهِ لِيُرْسِلَهُ مَعَنَا، لِتَعْلَمَ أَنَّنَا صَادِقُونَ فِيمَا قُلْنَاهُ.
﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ ﴿بِضَاعَتَهُمْ﴾
(٦٢) - وَقَالَ يُوسُفُ لِغِلْمَانِهِ: اجْعَلُوا البِضَاعَةَ التِي قَدِمُوا بِهَا لِيَمْتَارُوا عِوَضاً عَنْهَا، فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ، حَتَّى إِذَا رَجَعُوا إِلَى أَهْلِهِمْ، وَوَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ مَعَهُمْ، عَادُوا يَمْتَارُونَ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَقَدْ خَشِيَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَنْ لاَ تَكُونَ لَدَيْهِمْ بِضَاعَةُ غَيْرُها يَأْتُونَ بِهَا فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ.
(وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا، وَوَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي مَتَاعِهِمْ يُدْرِكُونَ أَنَّ عَلَيْهِم العَوْدَةَ إِلَى مِصْرَ لِرَدِّهَا تَحَرُّجاً مِنْ أَكْلِ المَالِ الحَرَامِ.
كَمَا قِيلَ أَيْضاً بَلِ المَعْنَى: لِكَيْ يَعْرِفُوا لِيُوسُفَ حَقَّ إِكْرَامِهِمْ بِإِعَادَتِهَا إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الغَلَّةِ مَجَّاناً بِلاَ ثَمَنٍ فَيَرْجِعُونَ طَمَعاً فِي بِرِّ يُوسُفَ، فَإِنَّ العَوَزَ إِلَى القُوتِ مِنْ أَقْوَى الدَّواعي إلى رُجُوعِهِمْ).
بِضَاعَتَهُمْ - ثَمَنَ مَا اشْتَرَوْهُ مِنْ طَعَامٍ.
رِحَالِهِمْ - أَوْعِيَتِهِمْ التي يَضَعُونَ فِيهَا الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ.
﴿ياأبانا﴾ ﴿لَحَافِظُونَ﴾
(٦٣) - فَلَمَّا عَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، بِالمِيرَةِ أَعْلَمُوهُ بِقِصَّتِهِمْ مَعَ عَزِيزِ مِصْرَ، وَمَا لَقُوْهُ مِنْهُ مِنْ إِكْرَامٍ، وَقَالًوا: إِنَّ عَزِيزَ مِصْرَ أَنْذَرَهُمْ بِمَنْعِ المِيرَةِ عَنْهُمْ فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ إِنْ لَمْ يَأْتُوا مَعَهُمْ بِأَخِيهِمِ الأَصْغَرِ، وَقَالُوا لَهُ: أَرْسِلْهُ مَعَنَا نَكْتَلْ وَنَحْصَلْ عَلَى المِيرَةِ بِحَسَبِ عَدَدِنَا، وَبِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ وَفَّيْنَا بِمَا شَرَطَ العَزِيزُ عَلَيْنَا، وَإِنَّنَا نَعِدُكَ بِأَنَّنَا سَنَحْفَظُهُ لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ.
﴿آمَنُكُمْ﴾ ﴿حَافِظاً﴾ ﴿الراحمين﴾
(٦٤) - فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: هَلْ أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهِ إِلاَّ كَمَا صَنَعْتُمْ بِأَخِيهِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلُ؟ وَلَكِنَّ اللهَ خَيْرُ حَافِظٍ، وَأَنَا أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حِفْظِ هَذا الصَّغِيرِ لاَ عَلَى حِفْظِكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، سَيَرْحَمُ كِبَرِي وَضَعْفِي.
﴿مَتَاعَهُمْ﴾ ﴿بِضَاعَتَهُمْ﴾ ﴿ياأبانا﴾ ﴿بِضَاعَتُنَا﴾
(٦٥) - وَلَمَّا فَتَحَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مَتَاعَهُمْ، وَالأحْمَالَ التِي جَاؤُوا بِهَا مِنْ مِصْرَ، وَجَدُوا البِضَاعَةَ التِي ذَهَبُوا بِهَا إِلَى مِصْرَ لِيَمْتَارُوا بِهَا بَيْنَ مَتَاعِهِمْ، فَقَالُوا لأَبِيهِمْ: مَاذَا نَطْلُبَ وَرَاءَ مَا وَصَفْنَا لَكَ مِنْ إِحْسَانِ المَلِكِ إِلَيْنَا، وَكَرَمِهِ الذِي يُوجِبُ عَلَيْنَا امْتِثَالَ أَمْرِهِ، فَقَدْ أَوْفَى العَزِيزُ لَنَا الكَيْلَ، وَرَدَّ بِضَاعَتَنَا إِلَيْنَا، فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا، وَسَنَحْصُلُ عَلَى المِيرَةِ لأَهْلِنَا، وَنَحْفَظُ أَخَانَا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهُ، وَنَحْصلُ عَلَى حِملِ بَعِيرٍ زِيَادَةً عَنِ المَرَّةِ السَّابِقَةِ، لأَنَّ المَلِكَ يُعْطِي لِكُلِّ شَخْصٍ حِمْلَ بَعِيرٍ، وَهُوَ أَمْرٌ سَهْلٌ يَسيرُ لاَ صُعُوبَةَ فِيهِ لَدَى مَلِكِ مِصْرَ.
نَمِيرُ أَهْلَنَا - نَجْلُبُ لَهُمُ المِيرَةَ وَالطَّعَامَ مِنْ مِصْرَ.
مَتَاعَهُمْ - طَعَامَهُمْ أَوْ رِحَالَهُمْ.
مَا نَبْغِي - مَا نَطْلُبُ مِنَ الإِحْسَانِ بَعْدَ ذَلِكَ.
﴿آتَوْهُ﴾
(٦٦) - فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: لَنْ أُرْسِلَ أَخَاكُمُ الصَّغِيرَ مَعَكُمْ حَتَّى تًُعْطُونِي عَهْداً مُوَثَّقاً بِتَأْكِيدِهِ بِإِشْهَادِ اللهِ عَلَيْهِ، وَبالقَسَمِ بِهِ، لَتَعَودُنَّ بِهِ مَعَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَتَعَرَّضُوا جَمِيعاً لأَمْرٍ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَلاَ تَقْدِرُونَ جَمِيعاً عَلَى تَخْلِيصِهِ، فَلَمَّا حَلَفُوا لَهُ قَالَ: اللهُ وَكِيلٌ وَشَاهِدٌ عَلَى مَا نَقُولُ إِذْ إِنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَجِدْ بُدَاً مِنْ إِرْسَالِهِ مَعَهُمْ لِيَأْتُوا بِالمِيرَةِ لأَهْلِهِمْ.
موْثِقاً - عَهْداً مُؤَكَّداً بِاليَمِينِ يُوثَقُ بِهِ.
يُحَاطَ بِكُمْ - تُغْلَبُوا وَتَهْلِكُوا جَمِيعاً.
وَكِيلٌ - مُطَّلِعٌ وَرَقِيبٌ.
﴿يابني﴾ ﴿وَاحِدٍ﴾ ﴿أَبْوَابٍ﴾
(٦٧) - وَأَمَرَ يَعْقُوبُ بَنِيهِ بِأَنْ لاَ يَدْخُلُوا، حِينَما يَصِلُونَ إِلَى مِصْرَ، مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لِكَيْلاَ يُلْفِتُوا الأَنْظَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَدْخُلُوا مِنْ أَبَوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لأَنَّهُ خَشِيَ عَلَيهِمْ العَيْنَ إِنْ دَخَلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ ذلِكَ مِنْ بَابِ الاحْتِرَازِ، لأَنَّ قَدَرَ اللهِ نَافِذٌ، وَقَضَاءَهُ لاَ يَرُدُّهُ شَيءٌ بِغَيرِ إِرَادَتِهِ وَمِشِيئَتِهِ، وَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يُعِدَّ العُدَّةَ لِلأَمْرِ الذِي يَبْغِيهِ، وَيَبْذُلَ جُهْدَهُ، وَيَكِلَ أَمْرَ النَّجَاحِ إِلَى اللهِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ المَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ.
﴿قَضَاهَا﴾ ﴿عَلَّمْنَاهُ﴾
(٦٨) - وَلَمَّا دَخَلُوا مِنَ الأَبْوَابِ المُتَفَرِّقَةِ، كَمَا أَوْصَاهُمْ أَبُوهُمْ بِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدُّخُولُ لِيَمْنَعَ عَنْهُمْ شَيْئاً مِنْ قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَيَعْقُوبُ يَعْرِفُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَاجَةٌ لَمْ يُخْبِرْ أَوْلاَدَهُ بِهَا، قَضَاهَا بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ، وَهِيَ خَوْفُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَيْنِ، وَمِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ مَكْرُوهٌ، مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ، وَهُوَ ذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمَهُ اللهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الوَاجِبَ يَقْضِي بِالجَمْعِ بَيْنَ الإِعْدَادِ لِلأُمُورِ عُدَّتَهَا وَالاحْتِرَازِ، وَبَيْنَ الاتِّكَالِ عَلَى اللهِ.
﴿آوى﴾ ﴿تَبْتَئِسْ﴾
(٦٩) - وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَمَعَهُمْ أَخُوهُمْ لأَبِيهِمْ، أَحْسَنَ اسْتِقْبَالَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، وَاخْتَلَى بِأَخِيهِ، وَعَرَّفَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ أَخُوهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْسَفَ عَلَى مَا صَنَعُوا بِهِ، وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ عَنْهُمْ. وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ سَيَحْتَالُ لِيَسْتَبْقِيهِ عِنْدَهُ.
آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ - ضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ.
فَلاَ تَبْتَئِسْ - فَلاَ تَحْزَنْ.
﴿لَسَارِقُونَ﴾
(٧٠) - وَلَمَّا أَعْطَاهُمْ يُوسُفُ مَا جَاؤُوا يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ مِنَ المِيرَةِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى جِمَالِهِمْ، جَعَلَ الوِعَاءَ الذِي يَكْتَالُونَ بِهِ (السِّقَايَةَ) فِي مَتَاعِ أَخِيهِ (رِحْلِهِ) دُونَ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَهُمء: يَا أَيُّهَا الرَّكْبُ القَافِلُونَ بِأَحْمَالِكُمْ، قِفُوا إِنَّكُمْ سَارِقُونَ.
السِّقَايَةَ - إِنَاءً لِلشُّرْبِ اتُّخِذَ لِلمِكْيَالِ.
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ - نَادَى مُنَادٍ أَوْ أَعْلَنَ مُعْلِنٌ.
العِيرُ - القَافِلَةُ فِيهَا الأَحْمَالُ.
(٧١) - قَالَ لَهُمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ: وَمَا الذِي ضَاعَ لَكُمْ، وَمَا الذِي افْتَقَدْتُمُوهُ؟
(٧٢) - فَقَالَ غِلْمَانُ يُوسُفَ: افْتَقَدْنَا وَعَاءَ الكَيْلِ الذِي يَتِمُّ بِهِ الكَيْلُ، وَسَنُعْطِي لِمَنْ يَجِدُهُ وَيَأْتِي بِهِ حِمْلَ بَعِيرٍ مِنَ المَؤُونَةِ مُكَافَأَةً لَهُ. وَقَالَ المُؤَذِنُ الذِي يَتَوَلَّى النِّدَاءَ (أَوْ الذِينَ قَالَ ذَلِكَ رَئْيسُ أَعْوَانِ يُوسُفَ) : وَأَنَا كَفِيلٌ بِالوَفَاءِ بِهَذَا الوَعْدِ.
صُوَاعَ المَلِكِ صَاعَهُ وَمِكْيَالَهُ، وَهُوَ السِّقَايَةُ.
زِعِيمٌ - كَفِيلٌ بِأَنْ أُؤدِّيَهُ.
﴿سَارِقِينَ﴾
(٧٣) - وَلَمَّا اتَّهَمَ الغِلْمَانُ إِخْوَةَ يُوسُفَ بِالسَّرِقَةِ رَدُّوا قَائِلِينَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ وَتَحَقَّقْتُمْ، مُنْذَ عَرَفْتُمونا، أَنَّنَا مَا جِئْنَا لِنَسْرِقَ وَنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ، وَلَمْ تَكُنْ السَّرِقَةُ عَادَتَنا، وَلاَ هِيَ مِنْ أَخْلاَقِنَا.
﴿جَزَآؤُهُ﴾ ﴿كَاذِبِينَ﴾
(٧٤) - فَقَالَ لَهُمْ غِلْمَانُ يُوسُفَ: فَإِذَا كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، وَثَبَتَتْ عَلَيْكُمُ السَّرِقَةُ، فَمَا جَزَاءُ السَّارِقِ فِي شَرْعِكُمْ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ السَارِقَ مِنْكُمْ؟ (وَقِيلَ إِنَّ يُوسُفَ هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَى غِلْمَانِهِ بِطَرْحِ هذا السُّؤَالِ عَلَى إِخْوَتِهِ).
﴿جَزَآؤُهُ﴾ ﴿الظالمين﴾
(٧٥) - قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: إِنَّ شَرْعَهُمْ يَقْضِي بِأَنْ يُدْفَعَ السَّارِقُ إِلَى المَسْرُوقِ مِنْهُ لِيَسْتَرِقَّهُ، وَيَكُونَ لَهُ عَبْداً. وَهَذا هُوَ الجَزَاءُ عَلَى السَّرِقَةِ الذِي يُنْزِلُونَهُ بِالسَّارِقِ، فِي شَرْعِهِمْ.
﴿دَرَجَاتٍ﴾
(٧٦) - فَبَدَأَ يُوسُفُ بِتَفْتِيشِ أَمْتِعَةِ إِخْوَتِهِ دَفْعاً لِشُبْهَةِ المَكِيدَةِ، وَالتَّدْبِيرِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى مَتَاعِ أَخِيهِ فَاسْتَخْرَجَ الصَّاعَ مِنْهُ. كَذلِكَ يَسَّرَ اللهُ لِيُوسُفَ طَرِيقَةً لَطِيفَةً يَسْتَطِيعُ بِهَا أَنْ يَسْتَبْقِيَ أَخَاهُ عِنْدَهُ دُونَ أَنْ يُلْفِتَ أَنْظَارَ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ، فَبَعْدَ أَنِ اعْتَرَفُوا أَنَّ شَرْعَهُمْ يَقْضِي بِأَنْ يُدْفَعَ السَّارِقُ إِلَى المَسْرُوقِ مِنْهُ لِيَسْتَرِقَّهُ، لَمْ يَعُودُوا يَسْتَطِيعُونَ المُطَالَبَةَ بِأَخِيهِمْ، بَعَدْ أَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ. وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ لِيَتَمَكَّنَ مِنِ اسْتِبْقَاءِ أَخِيهِ لَدَيْهِ لَوْ لَمْ يَهْدِهِ اللهُ إِلى مَعْرِفَةِ شَرْعِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ، لأنَّ القَانُونَ المِصْرِيَّ لاَ يُجِيزُ اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ، وَلَمْ تَكُنْ أَمَانَةُ يُوسُفَ، وَإِخْلاَصِهِ لِمَلِكِ مِصْرَ، يُبِيحَانِ لَهُ بِأَنْ يُخَالِفَ قَانُونَ المَلِكِ الذِي فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ تَطْبِيقِهِ وَالعَمَلَ بِهِ.
كِدْنَا لِيُوسُفَ - دَبَّرْنَا لِتَحْصِيلِ غَرَضِهِ.
دِينِ المَلِكِ - شَرِيعَةِ مَلِكِ مِصْرَ أَوْ حُكْمِهِ.
(٧٧) - وَلَمَّا رَأَى إِخْوَةُ يُوسُفَ الصَّاعَ تُسْتَخْرَجُ مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِمْ لأَبِيهِمْ، قَالُوا مُتَنَصِّلِينَ، أَمَامَ العَزِيزِ، مِنْ فِعْلِ أَخِيهِمْ: إِنْ يَسِرْقْ هذا الأخُّ فَقَدْ سَبَقَ لأَخِيهِ يُوسُفَ أَنْ سَرَقَ، فَالسَّرِقَةُ وَرِثَها هَذَانِ الأَخَوَانِ مِنْ أُمِّهِمَا.
(وَقِيلَ إِنَّ يُوسُفَ كَانَ سَرَقَ لِجَدِّهِ لأُمِّهِ صَنَماً وَكَسَرَهُ، وَأَلْقَاهُ فَعَيَّرَهُ إِخْوَتُهُ بِفِعْلِهِ، وَهَذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَسَدَ مَا زَالَ فِي صُدُورِهِمْ).
فَاسْتَاءَ يُوسُفُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذا، وَلَكِنَّهُ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَأَسَرَّ الامْتِعَاضَ وَلَمْ يُبْدِهِ لإِخْوَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً)، أَيْ أَنْتُمْ أَسْوَأَ مِنْ ذَلِكَ مَكَانَةً وَمَنْزِلَةً مِمَّنْ تُعَرِّضُونَ بِهِ، وَتَفْتَرُونَ عَلَيْهِ، إِذْ أَنَّكُمْ سَرَقْتُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَحَبَّ أَبْنَائِهِ إِلَيْهِ، وَعَرَّضْتُمُوهُ لِلْهَلاَكِ وَالرِّقِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا تَصِفُونَهُ بِهِ.
﴿ياأيها﴾ ﴿نَرَاكَ﴾
(٧٨) - أَخَذَ إِخْوَةُ يُوسُفَ يَتَرَفَّقُونَ بِهِ، وَيَسْتَعْطِفُونَهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَيُّهَا العَزِيزُ إِنَّ لِهَذا الشَّابِّ وَالِدًا عَجُوزاً يُحْبُّهُ حُبّاً كَبِيراً وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْ وَلَدِهِ الذِي فَقَدَهُ، فَخُذْ أَحَدَنَا لِيَكُونَ عِنْدَكَ بَدَلاً عَنْهُ، فَإِنّا نَرَاكَ رَجُلاً مُحْسِناً بِرّاً رَفِيقاً، فَأَتِمَّ إِحْسَانَكَ إِلَيْنَا.
﴿مَتَاعَنَا﴾ ﴿لَّظَالِمُونَ﴾
(٧٩) - فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ ظَالِماً إِنْ أَخَذَ بَرِيئاً مَكَانَ مُسِيءٍ. وَبِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ شَرْعَهُمْ يَقْضِي بِأَنْ يَكُونَ السَّارِقُ عَبْداً لِلمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِشَرْعِهِمْ هَذا.
مَعَاذَ اللهِ - نَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذاً، وَنَعْتَصِمُ بِهِ.
﴿الحاكمين﴾
(٨٠) - وَلَمَّا يَئِسَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مِنْ إِقْنَاعِ العَزِيزِ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَخَاهُمْ الصَّغِيرَ لِقَاءَ دَفْعِ أَحَدِهِمْ إِلَيهِ بَدَلاً عَنْهُ، انْتَحَوْا جَانِباً يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. فََقَالَ لَهُمْ كَبِيرُهُمْ، وَهُوَ الذِي أَشَارَ بِأَلاَّ يَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَبِأَنْ يَكْتَفُوا بِإِلْقَائِهِ فِي الجُبِّ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَرُدُّنَ عَلَيْهِ ابْنَهُ، وَهَا قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ أَضَعْتُمْ يُوسُفَ، وَأَبْعَدْتُمُوهُ عَنْ أَبِيهِ فَقَاسَى الحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّنِي لَنْ أَتْرُكَ هَذِهِ الأَرْضُ، وَسَأَبْقَى فِيهَا أََتَتَبَّعُ أَخْبَارَ أَخِينَا الصَّغِيرِ، إِلاَّ إِذَا فَهِمَ أَبِي الوَضْعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَسَمَحَ لِي بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَهُوَ رَاضٍ عَنِّي، أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي بِأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ أَخْذِ أَخِي، وَالعَوْدَةِ بِهِ إِلَى أَبِينَا. وَاللهُ خَيْرُ الحَاكِمِينَ، لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بِمَا هُوَ حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَهُوَ المُسَخِّرُ لِلأَسْبَابِ، وَالمُقَدِّرُ لِلأَقْدَارِ.
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ - يَئِسُوا مِنْ إِجَابَةِ طَلَبِهِمْ.
خَلَصُوا نَجِيّاً - انْفَرَدُوا عَنِ الرَّكْبِ يَتَنَاجَوْنَ وَيَتَشَاوَرُونَ.
مَا فَرَّطْتُمْ بِيُوسُفَ - مَا قَصَّرْتُمْ.
﴿ياأبانا﴾ ﴿حَافِظِينَ﴾
(٨١) - ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَخُوهُمُ الأَكْبَرُ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَبِيهِمْ وَبِإِخْبَارِهِ بِمَا حَدَثَ لَهُمْ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عُذْراً لَهُمْ، وَإِنَّمَا رَأَيْنَا صُوَاعَ المَلِكِ يُسْتَخْرَجُ مِنْ رَحْلِهِ، وَلَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ - حِينَما أَعْطَينَاكَ العَهْدَ وَالمَوْثِقَ - أَنَّهُ سَيَسْرِقُ، وَأَنَّهُمْ سَيَأْخُذُونَهُ بِسَرِقَتِهِ.
﴿وَسْئَلِ﴾ ﴿لَصَادِقُونَ﴾
(٨٢) - وَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَبْلَغْنَاكَ فَأَرْسِلْ مَنْ يَأْتِيكَ بِشَهَادَةِ أَهْلِ مِصْرَ، وَاسْأَلْ أَنْتَ القَافِلَةِ (العِيرَ) التِي رَافَقْنَاهَا عَنْ صِدْقِ قَوْلِنَا، وَأَمَانَتِنَا فِي حِفْظِ أَخِينَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَرَقَ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِسَرِقَتِهِ.
العِيرَ - القَافِلَةَ.
(٨٣) - فَرَجَعَ الأَبْنَاءُ التِّسْعَةُ إِلَى أَبْيهِمْ، وَتَخَلَّفَ كَبِيرُهُمْ فِي مِصْرَ، وَقَصُّوا عَلَى أَبِيهِمْ مَا حَدَثَ لَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ مَا اتَّفَقَ الإِخْوَةُ عَلَى قَوْلِهِ لأَبِيهِمْ. وَخَشِيَ يَعْقُوبُ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا بِابْنِهِ الصَّغِيرِ مَا فَعَلُوهُ بِأَخِيهِ يُوسُفَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرَّرَ نَفْسَ العِبَارَةِ، التِي قَالَهَا لَمَّا أَخْبَرُوهُ عَنْ أَكْلِ الذِّئْبِ يُوسُفَ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾. ثُمَّ تَرَجَّى اللهُ أَنْ يَرُدَّ أَوْلادَهُ الثَّلاَثَة: يُوسُفَ وَشَقِيقَهُ الأَصْغَرَ، وَالأَخَ الأَكْبَرَ الذِي بَقِيَ فِي مِصْرَ يَتَقَصَّى أَخْبَارَ أَخِيهِ الصَّغِيرِ، وَيَنْتَظِرُ أَمْرَ أَبِيهِ، وَاللهُ هُوَ العَلِيمُ بِالحَالِ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ.
سَوَّلَتْ - زَيَّنَتْ وَسَهَّلَتْ.
﴿ياأسفى﴾
(٨٤) - وَأَعْرَضَ يَعْقُوبُ عَنْ بَنِيهِ، وَقَالَ مُتَذَكِّراً حُزْنَهُ القَدِيمَ عَلَى يُوسُفَ: (يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ)، وَجَدَّدَ لَهُ حُزْنَهُ الجَدِيدُ عَلَى ابْنِهِ الأَصْغَر، حُزْنَهُ الدَّفِينَ عَلَى يُوسُفَ، وَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ، وَأَصَابَتْهُمَا غِشَاوَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ كَثْرَةِ البُكَاءِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْظُمُ غَيْظَهُ عَلَى بَنِيهِ، وَيَحْمِلُ مَصَابَهُ وَهُوَ صَامِتٌ لاَ يَشْكُو إِلَى مَخْلُوقٍ مَا يُعَانِيهِ.
يَا أَسَفَا - يَا حُزْنِي الشَّدِيدَ.
ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ - أَصَابَتْهُمَا غِشَاوَةٌ فَابْيَضَّتَا.
كَظِيمٌ - مُمْتَلِىءٌ غَيْظاً وَحُزْناً وَلَكِنَّهُ يَكْتُمُهُ وَلاَ يُبْدِيهِ.
﴿تَفْتَؤُاْ﴾ ﴿الهالكين﴾
(٨٥) - وَقَالَ لَهُ أَبْنَاؤُهُ: إِنَّكَ لاَ تُفَارِقُ ذِكْرَ يُوسُفَ، وَإِنَّنَا لَنَخَافُ عَلَيْكَ، إِن اسْتَمَرَّتْ بِكَ هذِهِ الحَالُ، أَنْ يَحِلَّ بِكَ الهَلاَكُ وَالتَّلَفُ، وَأَنْ تَتَدَهْوَرَ صِحَّتُكَ وَتَضْعَفَ قِوَاكَ.
تَكُونَ حَرَضاً - تَصِيرَ مَرِيضاً مُشْرِفاً عَلَى الهَلاَكِ.
تَفْتَأُ - لاَ تَفْتَأُ وَلاَ تَزَالُ.
﴿أَشْكُو﴾
(٨٦) - فَأَجَابَهُمْ أَبُوهُمْ عَمَّا قَالُوهُ لَهُ: إِنَّهُ لاَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ أَمْرَهُ وَحُزْنَهُ، وَإِنَّمَا يَشْكُو ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّهُ يَرْجُو مِنْهُ وَحْدَهُ الخَيْرَ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنَ اللهِ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ، وَأَنَّهَا لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تَتَحَقَّقَ، وَأَنَّهُ وَأَبْنَاءَهُ سَيَسْجُدُونَ لَهُ تَعْظِيماً لأَمْرِهِ، وَأَنَّ الأَوْلاَدَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلاَ يُدْرِكُونَهُ.
بَثِّي - شِدَّةَ غَمِّي وَهَمِّي.
﴿يابني﴾ ﴿تَيْأَسُواْ﴾ ﴿الكافرون﴾ ﴿يَيْأَسُ﴾
(٨٧) - وَحَثَّ يَعُقُوبُ بَنِيهِ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مِصْرَ لِتَقَصِّي أَخْبَارِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ (وَالتَّحَسُّسُ يَكُونُ فِي الخَيْرِ، وَالتَّوَجُّسُ يَكُونَ فِي الشَّرِّ)، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّلَطُّفِ فِي البَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْهُمَا، وَبِأَلاَّ يَيْأَسُوا وَيَقْطَعُوا رَجَاءَهُمْ وَأَمَلَهُمْ مِنَ اللهِ فِيمَا يَرُومُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ، وَلاَ يَقْنَطُ وَيَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمَ الكَافِرُونَ.
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ - تَعَرَّفُوا مِنْ خَبَرِهِ.
رُوْحِ اللهِ - رَحْمَتِهِ وَفَرَجِهِ وَتَنْفِيسِهِ الكَرْبَ.
﴿ياأيها﴾ ﴿بِبِضَاعَةٍ﴾ ﴿مُّزْجَاةٍ﴾
(٨٨) - فَذَهَبَ إِخْوَةُ يُوسُفَ إِلَى مِصْرَ، عَمَلاً بِوَصِيَّةِ أَبِيهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَمَعَهُمْ بِضَاعَةٌ رَدِيئَةٌ (مُزْجَاةٌ) حَمَلُوهَا مَعَهُمْ لِيَدْفَعُوهَا ثَمَنَ المِيرَةِ التِي أَتَوْا يَطْلُبُونَهَا، وَقَالُوا لِيُوسُفَ: لَقَدْ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُرَّ وَالأَذَى، وَعَضَّنَا الجُوعُ، فَجِئْنَا بِهَذِهِ البِضَاعَةِ الرَّدِيئَةِ نَطْلُبُ أَنْ تُعْطِينَا بِهَا شَيْئاً مِنَ المِيرَةِ، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِقَبُولِ هَذِهِ البِضَاعَةِ الرَّدِيئَةِ ثَمَناً لِمِيرَتِنَا، إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ خَيْراً عَلَى عَمَلِهِمْ.
(وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِرَدِّ أَخِينَا عَلَيْنَا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِهَذِهِ المَقَالَةِ رُؤْيَةَ الأَثَرِ الذِي تَتْرُكُهُ عَلَى مَلاَمِحِ وَجْهِهِ).
الضُّرُّ - الهُزَالُ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ.
بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ - بِأَثْمَانٍ رَدِيئَةٍ كَاسِدَةٍ.
﴿جَاهِلُونَ﴾
(٨٩) - وَلَمَّا أَدْرَكَ يُوسُفُ أَنَّ الجُهْدَ وَالمَجَاعَةَ وَالجَدْبَ أَرْهَقَ كُلَّ ذلِكَ أَهْلَهُ، تَذَكَّرَ أَبَاهُ وَمَا يُقَاسِيهِ مِنْ هَذِهِ الحَالِ، وَمِنْ فَقْدِ وَلَدَيْهِ، فَرَقَّ قَلْبُهُ، وَعَرَّفَ إِخْوَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ مِا صَنَعْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ مِنَ الكَيْدِ وَالإِيذَاءِ، حِينَمَا كُنْتُمْ جَاهِلِينَ قُبْحَ مَا فَعَلْتُمُوهُ فِي حُكْمِ شَرْعِكُمْ، وَحُقُوقِ بِرِّ الوَالِدَيْنِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ تَرَاحُمِ القَرَابَةِ وَالرَّحْمِ، وَلاَ تُقَدِّرُونَ عَوَاقِبَ هَذا الطَّيْشِ، وَاتِّبَاعِ الهَوَى، وَإِطَاعَةِ الحَسَدِ؟
﴿أَإِنَّكَ﴾
(٩٠) - فَقَالُوا لَهُ بِتَعَجُّبٍ مِمَّا بَلَغَهُ أَمْرُهُ مِنْ عُلُوِّ المَنْزِلَةِ فِي مِصْرَ: أَأَنْتَ يُوسُفَ وَقَدْ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ؟ قَالَ: أَنَا يُوسُفُ وَهَذا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِالاجْتِمَاعِ بَعْدَ طُولِ افْتِرَاقٍ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَنِي، وَرَفَعَ شَأْنِي، وَهُوَ تَعَالَى لاَ يُضِيعُ أَجْر امْرِىءٍ اتَّقَاهُ وَصَبَرَ وَأَحْسَنَ العَمَلَ.
﴿آثَرَكَ﴾ ﴿لَخَاطِئِينَ﴾
(٩١) - فَاعْتَرَفُوا بِمَا فَضَّلَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالخُلْقِ وَالخَلْقِ، وَالحِلْمِ وَالسَّعَةِ وَالمُلْكِ، وَأَقَرُّوا بِذَنْبِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ أَخِيهِ، وَأَنَّهُمْ لاَ عُذْرَ لَهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ.
آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا - اخْتَارَكَ وَفَضَّلَكَ عَلَيْنَا.
﴿الراحمين﴾
(٩٢) - قَالَ يُوسُفُ لإِخْوَتِهِ: لاَ عَتَبَ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ وَلاَ لَوْمَ، فِيمَا فَعَلْتُمْ بِي وَبِأَخِي، وَدَعَا لَهُمْ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَظُلْمَهُمْ، وَأَنْ يَسْتُرَهَا عَلَيْهِمْ، فَهُوَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَأَنَابَ إِلَى طَاعَتِهِ بِالتَّوْبَةِ.
لاَ تَثْرِيبَ - لاَ تَأْنِيبَ وَلاَ لَوْمَ.
(٩٣) - وَسَأَلَ يُوسُفُ إِخْوَتِهِ عَنْ حَالِ أَبِيهِمْ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ بَصَرَهُ قَدْ كُفَّ مِنْ كَثْرَةِ البُكَاءِ وَالحُزْنِ العَمِيقِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ قَمِيصَهُ وَقَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا إِلَى أَبِي، وَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ يَرْجِعْ مُبْصِراً، وَأْتُونِي مَعَ أَبِيكُمْ وَجَمِيعِ آلِ يَعْقُوبَ وَأَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ.
يَأْتِ بَصِيراً - يَرْجِعْ بَصِيراً مِنْ شِدَّةِ السُّرُورِ.
(٩٤) - وَلَمَّا خَرَجَتِ القَافِلَةُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، مُتَّجِهَةً إِلَى فِلِسْطِينَ، قَالَ يَعْقُوبُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَحْفَادِهِ وَأَزْوَاجِهِمْ: إِنَّهُ يَشُمُّ رَائِحَةَ يُوسُفَ كَمَا عَرَفَهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، لَوْلا أَنْ يَنْسُبُوا ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى الخَرَفِ، وَكِبَرِ السِّنِّ (الفَنَدِ).
فَصَلَتِ العِيرُ - فَارَقَتِ القَافِلَةُ عَرِيشَ مِصْرَ.
تُفَنِّدُونَ - تُسَفِّهُونَ أَوْ تُكَذِّبُونَ أَوْ تَنْسُبُونَ ذِلكَ إِلَى الفَنَدِ.
﴿ضَلاَلِكَ﴾
(٩٥) - فَقَالَ بَنُوهُ: إِنَّكَ مَا زِلْتَ مُقِيماً عَلَى خَطَئِكَ القَدِيمِ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ، وَعَدَمِ السُّلُوِّ عَنْهُ، وَعَدَمِ نِسْيَانِ أَمْرِهِ، وَالاعْتِقَادِ، أَنَّهُ مَا زَالَ حَيّاً، وَأَنَّكَ تَرْجُوا لِقَاءَهُ عَمَّا قَرِيبٍ.
ضَلاَلِكَ - ذَهَابِكَ عَنِ الصَّوَابِ.
﴿أَلْقَاهُ﴾
(٩٦) - فَلَمَّا جَاءَهُ حَامِلُ القَمِيصِ، الذِي أَرْسَلَهُ يُوسُفَ، أَلْقَى القَمِيصَ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، وَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّنِي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ شَيْئاً لاَ تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَرُدَّ عَلَيَّ يُوسُفَ، وَقَدْ أَرْسَلْتُكُمْ لِمِصْرَلاعْتَقَادِي أَنَّهُ حَيٌّ فِيهَا، وَأَنَّهُ ذُو مَكَانَةٍ.
﴿ياأبانا﴾ ﴿خَاطِئِينَ﴾
(٩٧) - فَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِيهِمْ مُعْتَذِرِينَ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ، وَرَجُوهُ أَنْ يَصْفَحَ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ اللهَ عَمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذُنُوبٍ وَأَخْطَاءٍ بِعُقُوقِ أَبِيهِمْ وَإِيذَاءِ أَخَوَيْهِمْ، لأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَمِّدِينَ فِي ارْتِكَابِ هَذِهِ الخَطَايَا.
(٩٨) - قَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمُ اللهَ رَبِّي، فَهُوَ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَأَصْلَحَ، وَهُوَ رَحِيمٌ يُحِبُّ العَفْوَ وَالمَغْفِرَةِ.
﴿آوى﴾ ﴿آمِنِينَ﴾
(٩٩) - وَارْتَحَلَ يَعْقُوبُ بِأَهْلِهِ وَبَنِيهِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَخَلُوا مِصْرَ، خَرَجَ يُوسُفُ لاسْتِقْبَالِهِمْ، وَعَانَقَ أَبَوَيْهِ، وَقَالَ لأَهْلِهِ : ادْخُلُو مِصْرَ آمِنِينَ مِنْ كُلِّ شَرِّ وَضُرِّ إِنْ شَاءَ اللهُ.
آوَ إِلَيْهِ أَبَوْيِهِ - ضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُمَا
﴿ياأبت﴾ ﴿رُؤْيَايَ﴾ ﴿الشيطان﴾
(١٠٠) - وَأَجْلَسَ يُوسُفُ أَبَوَيْهِ عَلَى سَرِيرِهِ (العَرْشِ) وَسَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتِهِ الأَحَدَ عَشَرَ، وَقَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ، يَا أَبَتِ إِنَّ هَذا السُّجُودَ مِنْكُمْ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلرُّؤْيَا التِي كُنْتَ رَأَيْتُهَا مِنْ قَبْلُ، وَقَصَصْتُهَا عَلَيْكَ. وَلَقَدْ جَعَلَ رَبِّي رُؤْيَايَ هَذِهِ حَقّاً وَوَاقِعاً، وَلَمْ تَكُنْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ، وَقَدْ أَكْرَمَنِي رَبِّي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بَعْدَ أَنْ أَظَهَرَ بَرَاءَتِي، وَسَمَا بِي إَلَى عَرْشِ المُلْكِ، وَإِذْ جَاءَ بِكُمْ مِنَ البَادِيَّةِ حَيْثُ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ عِيشَةَ الشَّظَفِ وَالخُشُونَةِ، فَاجْتَمَعَ شَمْلُنَا مِنْ جَدِيدٍ، بَعْدَ أَنْ أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ الأَمْرَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، وَقَطَعَ مَا بَيْنَنَا مِنْ وَشَائِجِ الرَّحِمِ. وَإِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، فَإِذَا قَضَى أمْراً وَأَرَادَهُ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَقَدَّرَهُ وَيَسَّرَهُ، وَهُوَ العَلِيمُ بِمَصَالِحِ العِبَادِ، الحَكِيمُ فِي أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ.
سُجَّداً - كَانَ السُّجُودُ جَائِزاً فِي شَرِيعَتِهِمْ.
البَدْوِ - البَادِيَةِ.
نَزَغَ الشَّيْطَانُ - أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ وَحَرَّشَ وَأَغْرَى.
﴿آتَيْتَنِي﴾ ﴿السماوات﴾ ﴿الآخرة﴾ ﴿بالصالحين﴾
(١٠١) - لَمَا تَمَّتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى يُوسُفَ بِاجْتِمَاعِهِ بِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، وَرَأَى مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالمُلْكِ، وَمَا وَهَبَهُ مِنَ العِلْمِ وَالقُدْرَةِ عَلَى تَفْسِيرِ الأَحْلاَمِ، اتَّجَهَ إِلَى اللهِ رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ قَائِلاً: يَا رَبِّ أَنْتَ خَالِقِي وَمَالِكُ أَمْرِي، وَمُتَوَلِّي نِعْمَتِي، فِي حَيَاتِي وَبَعَدَ مَمَاتِي، تَوَفَّنِي عَلَى مَا ارْتَضَيْتَ لأَنْبِيَائِكَ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ، وَأَدْخِلْنِي فِي زُمْرَةِ مَنْ هَدَيْتَهُمْ إِلَى الصَّلاَحِ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ.
(١٠٢) - لَمَّا قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ نَبَأَ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، وَكَيْفَ رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ وَالمُلْكَ لَهُ، مَعَ مَا أَرَادَهُ إِخْوَتُهُ مِنَ الكَيْدِ وَالسُّوءِ وَالهَلاَكِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ: إِنَّ هَذا الذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ هُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ، وَقَدْ أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ العَظَمَةِ وَالعِبْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ خَالَفَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ مَوْجُوداً مَعَ إِخْوَةِ يُوسُفَ حِينَ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى الكَيْدِ لِيُوسُفَ، وَالمَكْرَ بِهِ، لِيَعْلَمَهُ مُحَمَّدٌ بِتَفَاصِيلِهِ، وَإِنَّمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَهُ بِهِ وَحْيّاً مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى.
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ - عَزَمُوا عَلَى الكَيْدِ لِيُوسُفَ.
(١٠٣) - وَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَنْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَوْ حََرَصْتَ أَنْتَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ أَتَيْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ.
﴿تَسْأَلُهُمْ﴾ ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾
(١٠٤) - وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِكَ لَهُمْ، وَلاَ عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى اللهِ، وَإِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، فَإْنَ لَمْ يَهْتَدُوا فَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَسَيَهْدِي اللهُ قَوْماً غَيْرَهُمْ، فَمَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لَيْسَ إَلاَّ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً لِلْعِبَادِ.
﴿وَكَأَيِّن﴾ ﴿آيَةٍ﴾ ﴿السماوات﴾
(١٠٥) - وَمَا أَكْثَرُ الدَّلاَئِلِ التِي بَثَّهَا اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ التِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الخَالِقِ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَلَكِنًَّ قَوْمَكَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهَا، وَعَنِ التَّكْفِيرِ فِيهَا، وَفِيمَنْ خَلَقَهَا وَأَبْدَعَ نِظَامَهَا.
(١٠٦) - وَأَكْثَرُ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ هَؤُلاَءِ بِاللهِ لاَ يَقُومُ إِيمَانُهُمْ عَلَى أَسَاسٍ سَلِيمٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الخَالِصِ، فَهُمْ لاَ يَعْتَرِفُونَ بِوُحْدَانِيَّةِ اللهِ اعْتِرَافاً خَالِصاً، وَإِنَّمَا يَشُوبُ إِيمَانَهُمْ شَيءٌ مِنَ الشِّرْكِ (كَمَنْ زَعَمَ أَنَّ المَلاَئِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، وَأَنَّ المَسِيحَ ابْنُ اللهِ، وَأَنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ....).
﴿غَاشِيَةٌ﴾
(١٠٧) - هَلِ اتَّخَذَ هَؤُلاَءِ - الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ غَيْرَهُ - عَهْداً عِنْدَ اللهِ بِأَنَّهُ لاَ يُعَذِّبُهُمْ فَضَمِنُوا السَّلاَمَةَ وَالأَمْنَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمُ اللهُ بِعَذَابٍ يَغْمُرُهُمْ وَيَغْشَاهُمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ؟ أَوْ ضَمِنُوا أَنْ لاَ تَأْتِيهُمُ السَّاعَةُ فَجْأَةً (بَغْتَةً) وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الكُفْرِ وَالشِّرْكِ، فَيَكُونُ مَصِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً؟.
غَاشِيَةٌ - عُقُوبَةٌ تَغْشَاهُمْ وَتُجَلِّلُهُمْ.
بَغْتَةً - فَجْأَةً.
﴿أَدْعُو﴾ ﴿سُبْحَانَ﴾
(١٠٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هِيَ سَبِيلُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ، هُوَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، مِنْ حَقِيقَةِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، وَمَا يَقُولُونَ بِهِ، وَأَنَّهُ يُنْزِّهُ اسْمَ اللهِ، وَيُقَدِّسُهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدِ وَالصَّحَابَةِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً
﴿عَاقِبَةُ﴾ ﴿الآخرة﴾
(١٠٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ جَمِيعاً مِنَ البَشَرِ، فَكَيْفَ عَجِبُوا مِنْكَ، وَلَمْ يَعْجَبُوا مِمَّنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ؟ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُمْ رِجَالاً - لاَ نِسَاءً - مِنْ أَهْلِ المُدُنِ - لاَ القُرَى - لأَنَّ أَهْلَ البَادِيَّةِ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعاً وَأَخْلاَقاً، وَلأَنَّ أَهْلَ المُدُنَ إِذَا آمَنُوا تَبِعَهُمْ أَهْلُ البَوَادِيَ فِي الإِيمَانِ، أَفَلَمْ يَسِرْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي الأَرْضِ لِيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الذِينَ كَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَبِرُسُلِهِ وَبِالمَعَادِ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً، وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ؟
وَكَمَا نَجَّيْنا المُؤْمِنِينَ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ حِينَمَا أَهْلَكْنَا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُنَا فِي الدُّنْيا، كَذَلِكَ نُنَجِيهِمْ فِي الآخِرَةِ، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَأَفْضَلُ.
(١١٠) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلاً قَبْلَهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَرَاخَى نَصْرُ اللهِ عَنِ الرُّسُلِ، وَأَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، حَتَّى إِذَا زُلْزِلَتِ النُّفُوسُ، وَاسْتَشْعَرَتِ القُنُوطَ وَاليَأْسَ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي نَصْرُ اللهِ، فَيُنَجِّي مَنْ يَشَاءُ اللهُ إِنْجَاءَهُ، وَيُهْلِكُ مَنْ يَشَاءُ إِهْلاَكَهُ، وَلاَ يَرُدُّ أَحَدٌ بَأْسَ اللهِ وَعِقَابَهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى (كُذِبُوا) قَرَاءَتَانِ:
الأُولَى - (كُذِّبُوا) - بِضَمِّ الكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَقْرَؤُهَا عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - وَمَعْنَاهَا: إِنَّ الرُّسُلَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، وَلَنْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ، وَيَئِسُوا مِنْ قَوْمِهِم الكَافِرِينَ.
وَالثَّانِيَةُ - (كُذِبُوا) - بِضَمِ الكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَمَعْنَاهَا: إِنَّهُ لَمَّا يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ، جَاءَ نَصْرُ اللهِ فَأَيَّدَ الرُّسُلَ.
فَفِي القِرَاءَةِ الأُوْلَى: يَشْعُرُ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ كُذِّبُوا مِنْ قِبَلِ أَقْوَامِهِمْ.
وَفِي القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: يُدْرِكُ القَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ.
اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ - يَئِسُوا مِنَ النَّصْرِ لِتَطَاوُلِ الزَّمَنِ.
ظَنُّوا - تَوَهَّمَ الرُّسُلُ وَحَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ.
قَدْ كُذِبُوا - قَدْ كَذَّبَهُمْ رَجَاؤُهُم النَّصْرَ فِي الدُّنْيا.
بَأْسُنَا - عَذَابُنَا.
﴿الألباب﴾
(١١١) - لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ عِبْرَةٌ لِذَوِي العُقُولِ وَالأَلْبَابِ، لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ التِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُها، وَجِهَةُ الاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ القِصَّةِ أَنَّ الذِي قَدَرَ عَلَى إِنْجَاءِ يُوسُفَ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ، وَإِعْلاَءِ شَأْنِهِ، حَتَّى أَصْبَحَ عَزِيزَ مِصْرَ، وَرَئِيسَ وُزَرَائِهَا، بَعْدَ أَنْ بِيعَ بِالثَّمَنِ البَخْسِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ لَهُ بَعْدَ الحَبْسِ وَالسِّجْنِ، وَجَمْعِ شَمْلِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ... لَقَادِرٌ عَلَى إِعْزَازِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ.
وَمَا كَانَ هَذَا القَصَصُ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَيُخْتَلَقُ لأَنَّهُ أَعْجَزَ رُوَاةَ الأَخْبَارِ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَبُرْهَانٌ قَاهِرٌ، عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَدِّقاً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّابِقَةُ المُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِلأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ، وَهُوَ هُدًى لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ، وَتَلاَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ تَنْفُذُ فِيهِمْ شَرَائِعُهُ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
عِبْرَةٌ - عِظَةٌ وَتَذْكِرَةٌ.
يُفْتَرى - يُخْتَلَقُ.
سورة يوسف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (يوسُفَ) مِن السُّوَر المكية، وقد كان لها من اسمها الحظُّ الأكبر؛ فقد قامت السورةُ بأكملها على سرد قصة (يوسف) بالتفصيل، ولا يوجد في القرآن نظيرٌ لهذا السردِ والاختصاص؛ أن تَختصَّ سورةٌ بذكرِ قصة نبيٍّ من الأنبياء، وتُسمَّى باسمه. وقد بيَّنت هذه السورةُ قواعدَ التمكين في الأرض، ومُلئت بالعِبَر والعظات المستخلَصة من قصة يوسف؛ فهي مثال يحتذى في الصبر، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والخوف من الله في السِّر والعلن، وصِدْقِ التوكل على الله؛ فهو الذي بيده مقاليدُ كل شيء.

ترتيبها المصحفي
12
نوعها
مكية
ألفاظها
1794
ترتيب نزولها
53
العد المدني الأول
111
العد المدني الأخير
111
العد البصري
111
العد الكوفي
111
العد الشامي
111

* قوله تعالى: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]:

عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال : «أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا؛ فأنزَلَ اللهُ: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حدَّثْتَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: {اْللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اْلْحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا} [الزمر: 23]». أخرجه ابن حبان (٦٢٠٩).

* سورة (يوسُفَ):

وسببُ تسميةِ سورة (يوسُفَ) بهذا الاسمِ واضحٌ جليٌّ؛ فإنَّ قصةَ (يوسُفَ) هي موضوعها الرئيسُ.

جاء الموضوع الرئيسُ للسورة عن قصَّة (يوسف) عليه السلام على التفصيل الآتي:

1. من أدلة إعجاز القرآن الكريم (١-٣).

2. رؤيا يوسف عليه السلام (٤-٦).

3. تآمُرُ إخوته عليه عليه السلام (٧-١٨).

4. محنة يوسف عليه السلام في مصر (١٩- ٣٤).

5. محنة يوسف عليه السلام في السِّجن (٣٥-٥٣).

6. تسلُّمُه عليه السلام الحُكْمَ بعد السجن (٥٤- ٥٧).

7. لقاؤه عليه السلام مع إخوته مرة ثانية (٥٩- ٩٨).

8. لقاء العائلة (٩٩-١٠٢).

9. تعقيبات على القصة (١٠٣- ١١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /503).

لم تأتِ قصةُ (يوسف) عليه السلام لمجردِ السَّرد والتسلية؛ إنما جاءت للعِبْرة والعِظة في كثيرٍ من الأمور؛ من ذلك: لطفُ الله بمَن يصطفيه من عباده، والاقتداءُ بصبر الأنبياء - مثل: يعقوب ويوسف عليهما السلام - على البلوى، وكيف تكون لهم العاقبةُ؛ ليَتسلَّى بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ من سار بطريق الدعوة، كما أبانت السورةُ عن قواعدِ التمكين في الأرض، وما تخلَّلَ ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين؛ كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اْلْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، وقوله: {إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ اْلْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

ينظر " التحرير والتنوير" لابن عاشور (12 /200)