ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾؛ أي: أنا الله أرَى، وأسمع سؤالَهُم إيَّاك يا محمدُ عن هذه القصة، ويقال: أَنَا الله أرى صنيعَ إخوة يوسف، ومعاملتهم معه، ويقال: أنا الله أرى ما يَرَى الخَلْقُ، وما لا يَرى الخَلْقُ، ويقال: ﴿الر﴾ تعديد للحروف على سبيل التحدي، فلا محل له من الإعراب، أو خبر مبدأ محذوف؛ أي: هذه السورة ﴿الر﴾؛ أي: مسماة بهذا الاسم. والقول بأنَّ هذه الحروف المقطعة في أوائل السور من المتشابهات القرآنية التي لا يعلم معانِيهَا إلا الله تعالى، هو الطريق الأَسْلَمُ. والقول الأعلم لما فيه من تفويض الأمر إلى أهله. ﴿تِلْكَ﴾؛ أي: هذه الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسمَّاة ﴿الر﴾ أشار إليها بإشارة البعيد تنزيلًا للبعد الرتبيّ، منزلةَ البعد الحِسِّيِّ، وهو مبتدأ خبره ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: آياتٌ من القرآن الكريم ﴿الْمُبِينِ﴾؛ أي: المظهر للحق من الباطل، فهو منْ أَبَانَ المتعدي. وَفِي "الخازن" المبين: أي: البين حلاله وحرامُه، وحدودُه وأحكامُه. وقال الزجَّاجُ: المبين للحق من الباطل، والحلال من الحرام، فهو من أبان بمعنى أظهر. وفي "بحر العلوم": الكتاب المبين هو اللوحُ المحفوظ، وإبانَتهُ أنه قد كتب وبيِّنَ فيه كل ما هو كائن. والمعنى: أيْ آيات هذه السورة هي آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه، والمظهر لما شاء الله تعالى من حقائق الدين، وأحكام التشريع، وخَفَايَا المُلْك، والملكوت، وأسرار النشأتين، والمرشد إلى مصالح الدنيا، وسبيل الوُصُولِ إلى سعادة الآخرة.
٢ - ﴿إِنَّا﴾ نحن ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ بعظمتنا وجلالتنا؛ أي: إنَّا أنزلنا هذا الكتاب المتضمِّنَ قِصَّةَ يُوسُفَ وغَيرهَا على هذا النبي العربي الأمي حالةَ كونه ﴿قُرْآنًا﴾؛
أجيب (١): بأنَّ هذا مما توافقت فيه اللغات، والمراد: أنَّ تراكيبه، وأسالِيبَه عربية، وإن وَرَدَ فيه غير عربي، فهو على أسلوب العرب، والمرادُ أنَّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العربُ، ودارَتْ على ألسنتهم.. صارت عربية، فصيحة، وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها.. نسبت إليهم، فصارت لهم لغة؛ وإنما كان القرآن عربيًّا؛ لأنَّ تِلكَ اللُّغَةَ أفصح اللغات، ولأنها لُغَةُ أهل الجنة في الجنة.
فَعَربِيًّا (٢) نعت لِقرآنًا نعت نسبة لا نعت لزوم، لأنه كان قرآنًا قبل لزومه، فلَمَّا نزل بلغة العرب نسب إليها كما في "الكواشي". و ﴿قُرْآنًا﴾ حال موطئة؛ أي: توطئةً للحالِ التي هي عربيًّا؛ لأنه في نفسه لا يبين الهيئة، وإنما بينها ما بعده من الصفة، فإنَّ الحالَ الموطئة اسم جامد موصوف بصفة هي الحال في الحقيقة، فكأنَّ الاسمَ الجامد، وطأ الطريقَ لما هو حال في الحقيقة بمجيئه قبلها موصوفًا بها كما في "شرح الكافية". وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ علة لكونه عربيًّا؛ أي: لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه، وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر، مُنَزَّلٌ من عند خالق القُوَى والقدر. وقال في "بحر العلوم": (لعلَّ) مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ العرب معناه أو معنى الترجي؛ أي أنزلنا قرآنًا عربيًّا إرادة أن تعقله العرب، ويفهموا منه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به كما قال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ﴾ انتهى.
والمعنى (٣): أي إنا أنزلنا هذا الكتابَ على النبي العربي، ليبيِّنَ لكم بلغتكم العربية، مَا لَمْ تكونوا تعلمونه من أحكام الدين، وأنباءِ الرسل، والحكمة،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٣ - ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد؛ أي: نخبرك ونحدثك ﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾؛ أي: أحسن ما يقص به، ويتحدث عنه من الأنباء والأحاديث موضوعًا، وفائدةً لما يتضمنه من العبر والحكم.
والمعنى: نحن نبين لك أخبارَ الأُممِ السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المراد خصوص قصة يوسف. ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾؛ أي: بسبب إيحائنا وإنزالنا إليك هذه السورةَ من القرآن الكريم؛ إذ هي الغاية في بلاغتها، وتأثيرها في النفس، وحسْنِ موضوعها، ﴿وَإِنْ﴾ أي والحال أن الشأن قد ﴿كُنْتَ﴾ يا محمَّد ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل إيحائنا هذا القرآن إليك ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾؛ أي: لمن زمرة الغافلين عن هذا القصص؛ أي: من قومك الأميينَ الذينَ لا يَخْطُرُ في بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم، وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع، كيعقوب وأولاده، وهم في بَداوتهِم، ولا ما كان فيه المصريون الذين جاءَ إليهم يوسف مِنْ حضارة وترف، ولا ما حدث له في بعض بيوتات الطبقة الراقية، ولا حاله في سياسة الملك، وإدارة شؤون الدَّوْلَةِ وحُسْنِ تنظيمها. وقيل (١): كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها منْ ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطَّيْر، وسير الملوك، والممالك والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن، ومكرهن، مع ما فيها من ذِكْر التوحيد، والفقه، والسِّير، والسياسة، وحسن المَلَكَة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحِيل، وتدبير المعاشِ والمعاد، وحسن العاقبة في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب، والمحبوب، ومَرأى السنينَ وتعبيرِ الرؤيا والعجائبِ التي تصلح للدين والدنيا.
وقيل (٢): ﴿أحسَنَ﴾ هنا ليست أفعلَ التفضيل بل هي بمعنى حَسَنَ كأنه قيل: حَسَنَ القصص من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: القصص الحسن ومعنى: ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ لم يكن لك شعور بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طَرَق سَمْعَكَ طرف منها. وقيل: إن بمعنى قَدْ، والمعنى، قد كنْتَ مِنْ قبلِ وحينا إليك من الغافلين عن هذه القصة. والغفلة عن الشيء هي: أن لا يخطر ذلك ببالِهِ؛ أي: لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تُخْطُر ببالك، ولم تَقْرَع سمعك قطُّ، وهو تعليل لِكَوْنِهِ موحًى، والتَّعْبِيرُ عن عدم العِلْم بالغفلةِ لإجلالِ شأنه - ﷺ - كما في "الإرشاد" فليسَتْ هي الغفلة المتعارفَةُ بين الناس، ولله تعالى أَنْ يُخَاطِب حَبيبَه بما شاء ألاَ تَرى إلى قوله: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾، وقوله: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا﴾ ونحوهما، فإنَّ مثلَ هذا التعبير إنما هو بالنسبة إلى الله تعالى، وقد تعارَفَهُ العربُ من غير أن يخطر ببالهم نقص، ويجب علينا حسن الأداء في مثل هذا المقام، رعاية للأدب في التعبير، وتقرير الكلام مع أنَّ الزمانَ وأَهْلَه قد مضى، وانقضَتِ الأيام والأنامُ، اللهم اجعلني فيمن هديتهم إلى لطائف البيان،
(٢) البحر المحيط.
٤ - واذكر يا محمَّد لقومك قِصَّةَ ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ﴾ بن يعقوب ﴿لِأَبِيهِ﴾ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ويوسُف اسم عِبْرِيٌّ، ولذلك لا يجري فيه الصرف للعجمة والعلمية. وقيل: هو عَرَبِيٌّ، والأول أصحُّ، بدليل عدم صرفه. وسئل (١) أبو الحسن الأقطع عن يوسف، فقال: الأسَفُ أشدُّ الحزن، والأَسِيفُ: العَبْدُ، واجتمع في يوسف فسُمِّي به. والعبرِيُّ والعَبْرَانِيُّ: لغة إبراهيم عليه السلام، كما أنَّ السِّرْيَانِيَّ هي اللغة التي تَكَلَّمَ بها آدم عليه السلام. قال السيوطي: السِّريانيُّ منسوب إلى سُريانة، وهي أرض الجزيرة التي كان نُوحٌ وقَوْمُه قبل الغرق فيها، وكان لسانُهم سريانيًّا إلا رجلًا واحدًا يقال له: جُرْهم وكان لسانُه عَرَبِيًّا. وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُوسُفُ﴾ بضم السين. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف بكسرها مع الهمز مَكَانَ الواو، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين. ﴿يَا أَبَتِ﴾؛ أي: يا أبي بكسر التاءِ في قراءة أبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ونافع، وابن كثير، وهي عند البصريين، علامة التأنيث، ولَحِقَتْ في لفظ أب في النداء خَاصَّةً بدلًا من الياءِ، وأصْلُه: يا أبي، وكَسْرُها للدلالة على أنها عوض عن حرف يُناسِبُ الكسرَ. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرجُ بفتحها؛ لأنَّ الأصْلَ عندهم: يا أَبَتَا، ولا يجمع بين العوض والمعوَّض فيقال: يا أبتي. وأجاز الفراء: يا أبت بضم التاء. ﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾ في منامي في (٣) النهار؛ لأنها منْ رَأى الحُلمية لا مِن رأى البصرية كما يدل عليه قوله: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ﴾، ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾؛ أي: نَجْمًا. وقرأ الحسنُ، وأبو جعفر، وطلحةُ بن سليمان: (أَحَدَ عْشَرَ) بسكون العين لتوالي الحركات وليَظْهَرَ جعل الاسمين اسمًا واحدًا. وقرأ الجمهور بفتحها على الأصل. ﴿و﴾ رأيتُ ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ إنما أخَّرَهما عن الكواكب لإظهار مِزيتِهما وشرفهما كما في عطف جبريل، وميكائيل على الملائكة. وقيل: إنَّ الواوَ بمعنى مع، والكواكبُ تُفسَّر بإخوته، والشَمْسُ بأمه والقَمَرُ بأبيه. وجملةُ
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
رُوِيَ عن جابر رضي الله عنه: أنَّ يهودِيًّا جاء إلى رسول الله - ﷺ - فقال: يا محمَّد! أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسفُ عليه السلام، فسَكَتَ النبيُّ - ﷺ -، فَنَزَلَ جِبْرِيل عليه السلام، فأخْبَرَهُ بذلك، فقال - ﷺ - لليهوديّ إذَا أخبرتك بذلك هل تُسْلِمُ؟ فقال: نعم. قال: جريانُ (١) والطارقُ، والذَيَّالُ وقابسُ، وعَمُودان، والفَلِيقُ، والمُصبِّحُ، والضَّرُوخُ، والفَرْغُ، ووثَّابُ، وذو الكَتِفَيْنِ رآها يوسفُ عليه السلام، والشمسَ والقمرَ، نزَلْنَ من السماء، وسَجَدْنَ له، فقال اليهوديُّ: إي والله إنها لأسمَاؤها، اهـ "بيضاوي".
(جَريان) بفتح الجيم وكسر الراء المهملة، وتشديد الياء التحتية منقول من اسم (طوق القميص). (وقابس) بقاف، وموحدة وسين مقتبسُ النار (وعمودان) تثنية عمود (والفليق) نجم منفرد (والمصبح) ما يَطْلَعُ قبل الفجر، (والفرغ) بفاء وراء مهملة ساكنة، وغين معجمة، نجمٌ عند الدلو، و (وثاب) بتشديد المثلثة، سريعُ الحركة، و (ذُو الكتفين) تثنية كتف: نجم كبير، وهذه نجومٌ غير مرصودة،
والمراد بالسجود هنا: سَجْدَة تحية، لا سجدة عبادة. وقال بعضهم: لفظ السجود: يُطْلَقُ على وضع الجبهة على الأرض، سواء كان على وجه التعظيم، والإكرام، أو على وَجْهِ العبادة، ويُطلق أيضًا على التواضع، والخضوع، وإنما أُجرِيَتْ مُجْرَى العقلاء في الضمير لوصفها بوصف العقلاء، وهو السجود، كما مرَّ.
وأبو يوسف هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. قال بَعْضُ مَنْ مال إلى الاشتقاق في هذه الأسماء: إنما سمِّيَ يعقوبُ لأنَّ يعقوبَ وعيصًا كانا تَوْأمَيْنِ فاقتتلا في بطن أمهما حيث أراد يعقوب أن يَخْرُجَ فَمَنَعَه عَيْصٌ وقال: لئن خَرجت قبلي لأعترض في بطن أمي، فلأقتلنَّها فتأخَّر يعقوب، فخرج عيص فأَخَذَ يعقوب بعقب عيص، فخَرَجَ بَعْدَهُ فلهذا سمي به، وسمي الآخر عَيْصًا لمَّا عَصَى وخَرَجَ قبل يعقوب، وكان عيص رجلًا أشعر، وكان يعقوبُ أجْرَد، وكان عيص أحبَّهما إلى أبيه، وكان يعقوبُ أحبَّهما إلى أمه، وكان عَيْصٌ صاحبَ صيد، وكان يعقوبُ صَاحِبَ غنم، فلما كَبرَ إسحاق، وعَمِي قال لعيص يومًا: يا بنيَّ أطْعِمْني لَحْمَ صيد، واقْتَرِبْ مني أدع لك بدعاءٍ دعا لي به أبي هو دعاء النبوة، وكان لكل نبي دعوة مستجابة، وأخَّر رسولنا - ﷺ - دُعاءَه للشفاعة العظمى يوم القيامة، فخرج عَيْصٌ لطلب صيد، فقَالَتْ أمُّهُ ليعقوب: يا بنيَّ اذهب إلى الغنم فاذبح منها شَاةً ثم اشوها، والْبِسْ جِلْدَهَا، وقدِّمها إلى أبيك، قبل أخيك، وقُلْ له: أنا ابنك عيص لعله يدعو لك ما وَعَدَه لأخيك، فلما جَاءَ يعقوب بالشواء قال: يا أبت كُلْ، قال: مَنْ أنت؟ قال: أنا ابنك عيص؛ فمسَّه فقال: المس مَسُّ عَيْص والريحُ ريح يعقوب. قال بعضهم: والأسلم أن يقال: إنَّ أمه أحْضَرَتْ الشواء بين يدي إسحاق، وقالت: إنَّ ابْنَكَ جاءك بشواء، فادع له، فظَنَّ إسحاق أنه عيص، فأكل منه، ثم دَعَا لِمَنْ جاء به، أن يجعل الله في ذريته الأنبياءَ، والملوكَ فذهب يعقوب، وَلَمّا جاء عيصٌ قال: يا أبت قد جئتك بالصيد الذي أردتَ، فعلم إسحاق الحالَ، وقال: يا بنيَّ قد سبقك أخوك، ولكن بَقِيَتْ لك دعوة فهلم أدعو لك بها، فدعا أن يكون ذرِّيتُه عَدَدَ التراب، فأعطى الله تعالى له نَسْلًا كثيرًا،
واعلم: أنَّ يوسف رأى إخْوَته في صورة الكواكب، لأنه يُسْتَضاءُ بالأخوة، ويهدى بهم كما يهتدى بالكواكب، ورأى أباه وخَالَتَه ليا في صورة الشمس والقمر، وإنما قُلْنا خالته لأنه ماتت أمه في نفاس بنيامين كما مَرَّ. وسجودُهم له دخولهم تحت سلطنته، وانقيادهم له كما سيأتي في آخر القصة.
فائدة: والرؤيا ثلاثة أقسام:
أَحدُها: حديث النفس كَمَنْ يكون في أمْرٍ أو حِرْفة يرى نَفْسَهُ في ذلك الأمر، وكالعاشق يرى مَعْشُوقَه ونحو ذلك.
وثانيها: تخويف الشيطان بأن يَلْعَبَ بالإنسان فيريه ما يحزِنه، ومَنْ لعبه به الاحتلامُ الموجبُ للغسل، وهذان لا تأويلَ لهما.
وثالثهما: بشرى من الله تعالى بأن يَأتِيَك ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب يعني من اللوح المحفوظ، وهو الصحيحُ، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلام.
٥ - ﴿قَالَ﴾ يعقوب ليوسف في السرِّ، وهذا كلام مستأنف مبنيُّ على سؤالِ مَنْ قال: فماذا قال يعقوبُ بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة؟ فقيل: قال يعقوب: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ تصغيرُ ابن صغره للشفقة والمحبَّة وصِغر السن، فإنه كان ابن ثنتي عشرة سنة كما مَرَّ. وأصله يا بُنَيَّا الذي أصله: "يا بُنَيّي" فأُبدلت ياء الإضافةِ ألِفًا، كما قيل في يا غلامي، يا غلاما بناء على أنَّ الألِفَ، والفتحةَ أخفُّ من الياء والكسرة. وقرأ حفصٌ هنا، وفي لقمان، وفي الصافات: ﴿يَا بَنِي﴾ بفتح الياء. وابن كثير في لقمان: (يا بني لا تشرك). وقيل: (يا بني أقم) بإسكانها. وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي: (لا تَقُصُّ) مدغمًا وهي لغة تميم، والجمهور بالفك، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ الجمهور: ﴿رُؤْيَاكَ﴾ والرؤيا حيثُ وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي بالإمالة، وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز ذكره أبو حيان في "البحر".
قال في "الإرشاد": ولمَّا عرف يعقوبُ من هذه الرؤيا، أنَّ يوسف يبلِّغه تعالى مَبْلَغًا جَلِيلًا من الحكمة، ويَصْطَفِيهِ للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فَعَلَ بآبائه الكرام.. خَافَ عليه حسدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانة لهم من ذلك وله
وحاصل المعنى: أي قال يوسف لأبيه يعقوب: إني رأيت في منامي أحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ والقَمَرَ لي سجَّدًا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام تثِيرُها في النوم الهواجسُ والأفكار، وأنَّ يوسُفَ سَيَكُون له شأن عظيم، وسلطان يسود به أهلَه حتى أباه وأمه، وإخوته، وخَافَ أن يَسْمَعَ إخْوَتُهُ ما سمعه، ويفهموا ما فَهِمَه فيحسدوه، ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثمَّ نَهاه أن يقصَّ عليهم رؤياه، كما دل على ذلك قوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾؛ أي: لا تخبر إخوتَك بما رأيتَ في منامك، خِيفَة أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير، يحكمونه بالتفكير، والرؤية، ثم بَيَّن السببَ النفسيَّ لهذا الكيد بقوله: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: إنَّ الشيطانَ عدو لآدم وبنيه، قد أظهرَ لهم عداوتَه، فاحذَر، أن يُغريَ إخوتك بك بحسدهم لَكَ، إن أنْتَ قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينزغَ بَيْنَ الناس حين تعرض له داعية من هوى النفس، ولا سِيّما الحسد الغريزي في فطرة البشر، وقد أرْشَدَ إلى هذا يوسف بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾.
وهذه الجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنَّ يوسفَ قال: كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة. فقيل: إنَّ الشَّيْطَانَ ظاهر العداوة للإنسان أو مظهرها قد بانت عداوته لك، ولأبناءِ جنسك إذ أخرج أبويكم آدم وحواء من
٦ - ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على عُلُوِّ شأنك ﴿يَجْتَبِيكَ﴾ ويصطفيك ﴿رَبُّكَ﴾ بالنبوة والرسالة والملك؛ أي (١): مثل اجتبائك واختيارك من بين إخوتك، لمثل هذه الرؤيا العظيمة، الدالةِ على شرفِ وعز وكبرياء شأنك، فالكاف في محل النصب على أنه صفة لمصدر محذوف، كما سيأتي في مبحث الإعراب.
﴿يَجْتَبِيكَ﴾: أي: يَخْتَارُكَ، ويصطفيك لما هو أعظم منها، كالنبوة ويبرزُ مِصْداقُ تلكَ الرُّؤَيا في عالم الشهادة إذ لا بُدَّ لكل صورة مرئية في عالم المثال حقيقة واقعة في عالم الشهادة، وإن كانت الدنيا كلها خَيَالًا. وقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ كلام مستأنف غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو تعالى يعلمك، لأنَّ الظاهر أن يشبَّهَ الاجتباءُ بالاجتباءِ والتعليم غَيْرُ الاجتباء؛ أي: ويُعَلِّمُكَ ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: تعبير الرؤيا وتفسيرها، والأحاديث (٢) جمع تكسير لحديث على غير قياس، وإنما سميت الرؤيا أحاديث؛ لأنها إما أحاديث الملك إن كانت صادقةً أو أحاديث النفس والشيطان إن لم تكن كذلك، وتسميتها تَأويلًا، لأنه يَؤُول أمرها إليه؛ أي: يرجع إلى ما يذكره المعبِّر من حقيقتها.
وحاصل المعنى: أي وكما أراك (٣) ربك الكواكبَ والشمس والقمرَ سجَّدًا
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وتعليم الله تعالى يوسفَ التأويلَ إعطاؤه إلهامًا، وكشفًا لما يُرادُ أو فِراسَةً خاصة فيها، أو علمًا أعمُّ من ذلك كما يدل عليه قوله لصاحبي السجن: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ يا يوسف يجوز (١) أن يتعلَّق بقوله: ﴿يتم﴾ وأن يتعلَّق بـ ﴿نِعْمَتَهُ﴾؛ أي: بأن يضمَّ إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك، ويَجْعَلُه تَتِمَّةً لها، وتوسيط التعليم لرعاية الوجود الخارجِيّ ﴿وَعَلَى﴾ كرر على ليمكن العطفُ على الضمير المجرور ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ الآل (٢) وإن كان أصله: الأهل إلَّا أنه لا يستعمل إلا في الأشراف بخلاف الأهل، وهم أهله من بيته، وغيرهم، فإن رؤيةَ يوسف إخوته كواكب يُهتدى بأنوارها من نعم الله عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة، فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل، إتمامًا لتِلْكَ النعمة؛ أي: ويتم (٣) نعمته عليك باجتبائه إياكَ، واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك، وعلى أبيك، وإخوتك وذريتهم بإخراجهم من البَدْوِ وتبوئهم مقامًا كريمًا في مصر، ثم تسَلْسَل النبوة في أسباطهم حينًا من الدهر. وقوله: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ﴾ صفة لمصدر محذوف تقديره أي: ويتم نعمته عليك إتمامًا كائنًا كإتمام نعمته على أبويك وهي نعمة الرسالة والنبوة، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل هذا الوقت أو من قبلك. وقوله: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ عطف بيان لأبويك، والتعبير (٤) عنهما بالأب مع كونهما أبا جَدّهِ، وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام. قال في "الكواشي": الجدُّ أب في الأصالة، يقال: فلان ابن
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
والمعنى: أي إن رَبَّك (٢) يا يوسف عليم بمن يصطفيه، ومَن هو أهل للفضل، والنعمة فيُسَخِّر له الأسبابَ التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له، حكيم في تدبيره، فيفعل ما يشاء جريًا على سنن علمه وحكمته.
وخلاصة ما تقدم: أنَّ يعقوبَ عليه السلام فَهِمَ من هذه الرؤيا فَهْمًا جُمَلِيًّا كُلُّ ما بُشِّر به ابنه يوسف الرائي، وأمَّا كيدُ إخوته به إذا قصَّها عليهم فقد استنبطه منْ طبع وعداوة الشيطان له، ثُمَّ قَفَّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه، ومن تأويل الأحاديث، وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس في رفعة قدره، وعلو مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبل.
(٢) المراغي.
٧ - ﴿لَقَدْ كَانَ فِي﴾ قصة ﴿يُوسُفَ﴾ بن يعقوب عليهما السلام ﴿و﴾ حكاية ﴿إخوته﴾ الأحد عشر ﴿آيَاتٌ﴾؛ أي: علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله سبحانه وتعالى القاهرة، وحكمته الباهرة ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾؛ أي (١): لكل مَنْ سأل عن قصتهم، وعَرَفها، فإنَّ كِبَار أولاده يعقوب بعدما اتفقوا على إذْلال أصغر أولاده يوسف، وفعلوا به ما فَعَلُوا قد اصطفاه الله للنبوة والملك وجعلهم خَاضِعين له منقادينَ لحكمه، وأنَّ وبَالَ حسدهم قد انقلب عليهم، وهذا مِنْ أَجَلِّ الدلائل على قدرة الله القاهرة، وحِكمتِهِ الباهرة.
والمعنى: والله (٢) لقد كان في قصة يوسفَ وإخوته لأبيه عِبَرٌ أيُّما عِبر دالةٌ على قدرة الله، وعظيم حكمته، وتوفيق أقداره، ولطفه بِمَنِ اصطفى من عباده، وتربيته لهم وللسائلين عنها الراغبينَ في معرفة الحقائق، والاعتبار بها فإنهم هم الذين يعقلون الآيات، ويستفيدُون منها.
تأمَّل يا أخي: تَرَ أنَّ إخوةَ يُوسُفَ لو لم يحسدوه لما ألقوه في غَيَابَةِ الجُبِّ، ولوْ لَم يلقوه فيها: لما وَصَلَ إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيزُ بصادق فراسته أمَانتَهُ وصِدْقَه لما أمنه على بيته، ورزقه، وأهله، ولو لم تُراوده امرأة العزيز عن نفسه، ويستعصم منها لما ظهرَتْ نزاهته، ولو لم تَفْشَلْ في كيدها وكيد صُويْحِبَاتِهَا لَمَا ألقي في السجن، ولو لم يُسْجَن ما عرَفه ساقي مَلِك مصر، وعَرَف صدقَه، في تعبير الرؤيا، وإرشادِ مَلكِ مصر إليه، فآمَنَ به، وجعله على خزائن الأرض، ولو لم يَتَبوَّأْ هذا المَنْصِبَ ما أمكنه أن ينقذ أبَوَيْهِ وإخوتَه وأهله أجمعين من الجوع والمخمصة، ويأتي بهم إلى مصر، فيشاركوه فيما ناله من عِزٍّ وبَذخٍ ورَخَاءِ عيشٍ، ونعيم عظيم، وما من مبدأ من هذه المبادىء إلَّا كان ظاهره شرًّا مستطيرًا، ثم انْتَهَى إلى عاقبة كانت خيرًا وفوزًا مبينًا.
فتلك ضروب من آيات الله في القصة لمن يريد أن يَسْأَلَ عن أحداثها
(٢) المراغي.
وقرأ مجاهد، وشِبْلٌ وأهلُ مكة، وابن كثير (١): ﴿آيةٌ﴾ علي الإفراد. وقرأ الجمهور: ﴿آياتٌ﴾. وفي مصحف أُبي: ﴿عبرةٌ للسائلين﴾ مكانَ آية.
٨ - ﴿إِذْ قَالُوا﴾؛ أي: إن في شأن يوسف وإخوته لعبرة حين قالوا؛ أي: حِينَ قال بعض العشرة لبعضهم والله ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ الشقيقُ بِنْيَامِينُ بكسر الباء وفتحها فاللام في ﴿لَيُوسُفُ﴾ موطئة (٢) للقسم كما قدرنا، أو لام الابتداء (٣)، وفيها تأكيد، وتحقيقٌ لمضمون الجملة، أرادوا أنَّ زيادة مَحَبَّتِهِ لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وإنما قالوا هو وأخوه، وهم إخوته أيضًا؛ لأنَّ أمَّهُمَا كانت واحدةً اسمها راحيلُ كما مرَّ فهو شَقِيقُه. والشقيق: الأخُ من الأب والأم. وقد يقال: للأخ من الأب، لأنَّه شَقَّ مَعَكَ ظهْرَ أبيك، وللأخ من الأم لأنه شق معك بطن أمك. وفي "القاموس": الشقيق كأمير الأخِ كأنه شقَّ نسَبُه من نسبه، انتهى. وإنما لم يذكر (٤) باسمه تلويحًا بأنَّ مدار المحبة إخوته ليوسف من الطرفين، الأب، والأم، فالمآل إلى زيادة الحُبِّ ليُوسُفَ ولذلك تعرضوا لقتله، وطرحه، ولم يتعرضوا لبنيامين. ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾؛ أي: أكْثرَ وأزيدُ مَحَبَّةً مِنَّا عند أبينا، وإنما قالوا هذه المقالَةَ: لأنه بلَغَتْهُم خَبر الرؤية، فأجمع رأيهُم على كيده. ﴿و﴾ الحال ﴿نحن عصبة﴾؛ أي: والحال أنَّا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد قائمون بدفع المقاصد، والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع، والخيرات، وقائمون بمصالح
(٢) الخازن.
(٣) النسفي وغيره.
(٤) روح البيان.
والمعنى (٢): أي إنَّ في شأنهم لعبرةً حين قالوا: ليوسُف وأخوه الشقيقُ بنيامينُ أحَبُّ إلَى أَبِينَا منا فهو يفضلهما علينا بمزيد محبة على صغرهما، وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء، نَقُوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.
﴿إِنَّ أَبَانَا﴾ في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما، وكونهما بمعزل من الكفاية، بالصغر، والقِلَّة ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: لفي خطأٍ بين ظاهر الحال بالنسبة إلى مصالح الدنيا، لا في الدين، وإلا لكفروا بذلك، نظروا إلى صورة يُوسُفَ، ولم يحيطوا علمًا بمعناه، فقالوا ما قالوا، ولم يعرفوا أنَّ يوسف أكبرُ منهم بحسب الحقيقة والمعنى؛ أي: إنَّ أبانا لقد أخطأ في إيثاره يوسفَ، وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضَلَّ طريق العدل والمساواة ضلالًا بينًا لا يَخْفَى على أحد، فكيف يفضل غُلامَيْنِ ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة، والكسب، والحماية عن الذمار.
وفي الآية (٣): من العبرة وجوبُ عِناية الوَالِدَين بمداراة الأولاد، وتربيتهم على المحبة، واتقاءِ وقوع التحاسد والتباغض بينهم، واجتناب تفضيل بعضهم على بعض، بما يعده المفضول إهانةً له، ومحاباة لأخيه بِالهَوى. قال بعض (٤)
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
وقيل: لأنَّ اللَّهَ تعالى أَرادَ ابتِلاَءَهُ بمحبته إليه في قلبه، ثمَّ غيَّبَهُ عنه ليكون البلاء أشدَّ عليه، لغيرة المحبة الإلَهية، إذ سلطان المحبة لا يقبل الشركة في ملكه، والجمالُ والكمال في الحقيقة لله تعالى، فلا يَحْتَجِبُ أحدٌ بما سواه، ولا كيد أشدَّ من كيد الولد. ألا ترى أنَّ نوحًا عليه السلام دَعَا على الكفار فأغْرَقهم الله تعالى، فلَم يَحْتَرق قَلْبُه، فلما بلغَ وَلدُه الغرقَ صاح ولم يصبر وقال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾. قيل: وإنما خَصَّ (١) يعقوبُ يُوسُفَ بمزيد المحبة والشفقة؛ لأنَّ أُمهُ ماتَتْ وهو صغير، أو لأنه رَأَى فيه من آيات الرشد، والنجابة ما لم يره في سائر إخوته، أو لأنه وإن كانَ صغيرًا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة، أعلى مما كان يَصْدُر عن سائر الأولاد.
وكان (٢) بنيامين أصْغَرَ من يُوسُفَ فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما، وموتِ أمهما، وحُبُّ الصغير، والشفقةُ عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنةِ الحسن: أي ابنيك أحبُّ إليك؟ قالت: الصغيرُ حتى يَكْبَرُ، والغائبُ حتى يَقدم، والمريضُ حتى يُفِيقَ. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديمًا وحديثًا، ومِنْ ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بَعَثَ بها إلى أولاده وهو في السجن:
وَصَغِيْرُكُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَإنَّنِي | أَطْوِيْ لِفُرْقَتِهِ جَوَى لَمْ يَصْغُرِ |
ذَاكَ المُقَدَّمُ في الْفُؤَادِ وَإِنْ غَدَا | كُفُؤًا لَكُمْ في الْمُنْتَمَى وَالْعُنْصُرِ |
إنَّ الْبَنَانَ الْخَمْسَ أَكْفَاءٌ مَعًا | وَالْحِلْيُ دُوْنَ جَمِيْعِهَا لِلْخِنْصَرِ |
وَإِذَا الْفَتَى بَعْدَ الشَّبَابِ سَمَا لَهُ | حُبُّ الْبَنِيْنِ وَلاَ كَحُبِّ الأَصْغَرِ |
(٢) البحر المحيط.
قلت: هذه الأفعالُ إنَّمَا صدرت من إخوة يوسف قبل ثبوت النبوة لهم، والمعتبر في عصمة الأنبياء هو وَقْتُ حصول النبوة لا قبلها. وقيل: كانوا وَقْتَ هذه الأفعال مُراهِقينَ غَيْرَ بالغين، ولا تكليفَ عليهم قبل البلوغ، فعلى هذا لم تكن هذه الأفعالُ قادحة في عصمة الأنبياء، ولكنَّ هذا القول ليسَ بصحيح بدليل قولهم: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾. قال في "الكواشي" (٢): لا وَقْفَ من السائلين إلى صالحينَ؛ لأن الكلامَ جملة محكية عنهم، انتهى؛ أي: للتعلق المعنويِّ بَيْنَ مقدم الكلام، ومؤخره إلَّا أن يكونَ مضطرًا بأن يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ، فحينئذ يجب عليه أن يَرجع إلى ما قبله، ويوصل الكلامَ بعضَه ببعض، فإن لم يفعل أثِمَ كما في بعض شروح الجزري، وقرىء: (مبين)
٩ - ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ بكسر وضم، والمشهورُ: الكسر وَجْهُ الضم التبعية لعين الكلمة، وهي مضمومة؛ أي: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض اقتلوا يوسف حتى لا يَكُونَ لأبيه أمَلٌ في لقائه ﴿أَوِ اطْرَحُوهُ﴾؛ أي: أو انْبُذُوه في أرض منكورة (٣) مجهولة بعيدة عن العمران، لِيَهْلِكَ فيها أو يأكلَه السباع، وهو معنى تنكيرها وإبهامها لا أنَّ معناه أيُّ أرض كانت، ولذلك نُصِبَتْ نَصْبَ الظروف المبهمة، وهي ما لَيْسَ له حدود تحصره، ولا أقطارٌ تُحْوِيه. وفيه إشارة إلَى أنَّ التَّغْرِيبَ يُسَاوِي القَتْلَ كمَا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾؛ أي: اطرحوه في أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه، إنْ هو سَلِمَ من الهلاك. ﴿يَخْلُ﴾ على الجزم في جواب الأمر؛ أي: يَخْلُص ﴿لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ من شغله بيوسف، فيقبل عليكم بكليته، ولا يَلْتَفِتْ عنكم إلى غيركم، وتتوفر محَبَّتُه فيكم، فَذِكْرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم؛ لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه؛ ويجوز أن يُرادَ
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
١٠ - ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من إخوة يوسف، وهو يهوذا. وقال قتادة: هو روبيل، وهو ابن خالته، وكَانَ أكْبَرُهُم سِنًّا، وأحسنهم رَأْيًا فيه. ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ نهاهم عن قتله، وقال: القتل كبيرة عظيمة، والأصح أنَّ قائلَ هذه المقالة هو: يهوذا؛ لأنه كان أقربهم إليه سِنًّا. ﴿وَأَلْقُوهُ﴾؛ أي: اطرحوا يُوسُفَ ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾؛ أي: في أسفل الجب، والبئر، وقعرها، وظلمتها، والغيَابَةُ: كل موضع سَتَرَ شَيْئًا، وغَيَّبَهُ عن النظر، والجُبُّ: البئرُ الكبيرة غير مطوية بالحجارة. سُمِّيَ بذلك، لأنه جُبَّ: أي: قطع، ولم يطو، وغيابته: ما يغيب عن رؤية البصر من قعره. وأفاد ذكر الغيابةَ مع ذكر الجب أن المشيرَ أشار بطرحه في موضع من الجبِّ مظلم لا يراه أحد. وقرأ (٢) الجمهور: ﴿غَيابة﴾ على الإفراد، ونافع: ﴿غيابات﴾ على الجمع، وابن هرمز: ﴿غَيَّابَاتٍ﴾ بالتشديد والجمع؛ وقرأ الحسن: (في غَيبَةِ) على صيغة المصدر. واختلفوا (٣) في مكان ذلك الجب. فقال قتادة هو: بئرُ بيت المقدس، وقال وهب: هو في أرض الأُردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وقيل: بين مدين، ومصر، وإنما عَيَّنوا ذلك الجُبِّ للعلةِ التي ذكروها، وهي قولهم: ﴿يَلْتَقِطْهُ﴾. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء: ﴿تلتقطه﴾ بتاء التأنيث أنث على المعنى؛ أي: تأخذه على وجه الصيانة من الضياع والتلف. فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع. {بَعْضُ
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
وحاصل المعنى (٢): أي: قال قائل منهم: وهو رُوبيل، أو يهوذا، لا تقتلوا يوسفَ، وألقوه في قعر البئر، حيث يَغِيبُ خبره، فيلتقطه بعض المسافرين، ويأخذوه إلى حيث ساروا في الأقطار البعيدة، وبذا يَتِمُّ لكم ما تريدون، وهو إبعاده عن أبيه، إن كنتم فاعلينَ ما هو المقصدُ لكم بالذات إذ لا شكَّ أن قَتْلَهُ لا يَعْنيكم لذاته، فَعَلام تُسْخِطُون خَالِقَكُم باقتراف جريمة القتل، والغرض يَتِمُّ بدونها.
قال محمَّد بن إسحاق (٣): اشتمل فِعْلُهُم هذا على جرائمَ كثيرةً من قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم، وعفا الله عن ذلك كُلِّه، حتى لا ييأس أحدٌ من رحمة الله تعالى. وقال بعض أهل العلم: عَزَمُوا على قتله، وعَصَمَهُم الله تعالى رحمةً بهم، ولو فعلوا ذلك لَهَلَكُوا جميعًا، وكل ذلك كَانَ قَبْلَ أنْ نَبَّأهم اللَّهُ تعالى كما مر. فانظر إلى هؤلاء الإخوان الذين أَرْحَمُهُم له لا يَرْضى إلا بإلقاء يوسف في أسفل الجب، وهكذا إخوانُ الزمان، وأبناؤُه، فإنَّ ألسنتهم دائرة بكل شر، ساكتةٌ عن كل خير.
فلما أجمعوا على التفريق بين يوسف، وبين والده بضرب من الحِيَل،
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
وهذا الكلام مبني على مقدمات محذوفةٍ، وذلك أنهم قالوا أوَّلًا لِيُوسُفَ اخْرُج معنا إلى الصحراءِ إلى مواشينا، فنستبق ونَصيدُ، وقالوا له: سَلْ أباك أن يُرْسِلَكَ معنا، فسأله فتوقف يعقوبُ فقالوا له: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾؛ أي: أي شيء ثَبَتَ لكَ لا تَجْعَلُنا أُمَنَاءَ عليه مع أنه أخونا، وأنك أبونا، ونحن بَنُوكَ ﴿و﴾ الحال ﴿إنا له لناصحون﴾؛ أي: لعاطفون عليه، قائمون بمصلحته، وبحفظه؛ أي: هم أظهروا عند أبيهم، أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، والجملة حال من مفعول ﴿لَا تَأْمَنَّا﴾؛ أي: والحال إنَّا لمريدون له الخير، ومشفقون عليه، ليس فينا ما يخلُّ بالنصيحة والمِقَةِ. وقرأ (١) زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري وعمرو بن عبيد، بإدغام نون (تأمن) في نون الضمير من غير إشمام. وقَرأ الجمهور بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة فلا يَكُونُ إدغامًا مَحْضًا. وقرأ ابن هرمز بضم الميم فتكون الضمة منقولَةٌ إلى الميم من النون الأولى بعد سلب الميم حركتَها، وإدغام النون في النون. وقرأ أُبي والحسنُ وطلحةُ بن مصرف، والأعمش: (لا تأمننا) بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة. وقرأ ابن وثاب، وأبو رَزِين شذوذًا: (لا تِيْمُنَّا) على لغة تميم، وسَهَّل الهمزةَ بعد الكسرة ابن وثاب.
١٢ - وفي قوله: ﴿أَرْسِلْهُ﴾ دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائمًا؛ أي: أرسله ﴿مَعَنَا غَدًا﴾ إلى الصحراء ﴿يَرْتَعْ﴾؛ أي: نتسع في أكل الفواكه، ونحوها؛ فإنَّ
والمعنى (٢): أي أرسله مَعَنَا غَدَاةَ غدٍ حين نخرج كعادتنا إلى المَرْعَى في الصحراء، يشاركنا في الرياضة والأنس والسرور، وأكل الفواكه، والبقول، وغيرهما مما يَطِيبُ، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباقَ، والصراعَ والرَّمْىَ بالعصا، والسهام إن وجدت، وإنا لحافظوه من كل أذى يُصيبه. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ بالياء والجزم. وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو بالنون، والجزم وكسر العين الحرميان، نافع وابن كثير. واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحَذفِها. وروي عن ابن كثير: ﴿ويلعب﴾ بالياء وهي قراءةُ جعفر بن محمَّد. وقرأ العلاء بن سيابة: ﴿يرتع﴾ بالياء، وكسر العين مجزومًا محذوفَ اللام ﴿وَيَلْعَبْ﴾ بالياء، وضمَّ الباء خَبرَ مبتدأ محذوف؛ أي: وهو يلعبُ. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابنُ مُحَيْصِن بنون مضمومة مأخوذ من أرتعنا، ﴿ونَلْعَب﴾ بالنون وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء فيهما ﴿يرتع ويلعب﴾ والقراءتان على حذف المفعول أي يرتع المواشي شيء أو غيرها، وقرأ النخعي ﴿نرتع﴾ بنون ﴿ويلعب﴾. بياء بإسنادِ اللعب إلى يوسف وحدَه لصباه، وكذلك جاء عن أبي إسحاق ويعقوب. وكل هذه القراءات الفعلان فِيهَا مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي: ﴿يُرْتَع ويُلْعَب﴾ بضم الياءين مبنيًّا للمفعول، ويخرِّجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، وهو ضمير غَدٍ، وكان أصله يرتع فيه، ويلْعَبُ فيه، ثم حذفَ واتسعَ فعُدِّيَ الفِعْلُ للضمير، فكان التقدير: يرتَعُهُ ويلعَبُهُ، ثمّ بَنَاهُ للمفعول فاستكن الضمير الذي كَانَ
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
١٣ - ﴿قَالَ﴾؛ أي: قالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لهم: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا﴾؛ أي: لَيُؤْلِمُ قَلْبي ذَهابُكُم به؛ لأني لا أصْبِرُ عنه ساعة ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ لكثرة الذئب في تلك الأرض ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ لاشتغالكم بالاتساع في الملاذ وبنحو التناضل.
واللام (١) في قوله: ﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ لام الابتداء، فإن قيل: لام الابتداء تُخَلِّصُ المضارعَ للحال عند جمهور النحاة، والذهابُ ههنا مستقبل، فيلزم تقدم الفعل على فاعله، مع أنه أَثَرُه.. قلنا: إنَّ التَّقْدِيرَ قصد أن تذهبوا به، والقصد حال، أو تصورُ ذَهابكم، وتوقعه، والتصور موجود في الحال، كما في العِلَّةِ الغائية، والحزن ألم القلب بفوت المحبوب، والخوف انزعاجُ النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأولَ إلى الذهاب به المفوِّت لاستمرار مصاحبته، ومُوَاصلته ليوسف. والثاني: إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب.
ورُوِي أنَّه رأى في المنام كأنه على رأس جبل، ويوسف في صحراء فَهَجَمَ عليه أحد عَشَرَ ذِئْبًا، فغاب يُوسُفُ بينهن، ولذا حَذَّرَهم من أكل الذئب، ومَع ذلك فَقد دَفَعَهُ إلى إخوته؛ لأنه إذا جاء القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ.
والحاصل (٢): أن يعقوبَ اعتذرَ لهم بشيئين:
أحدهما: عاجل في الحال، وهو ما يَلْحَقه من الحزن لمفارقته، وكان لا يصبر عَنْهُ.
والثاني: خوفه عليه من الذئب إنْ غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلَّةِ اهتمامهم بحفظه، وعنايتهم، فيأكله ويَحْزُن عليه الحُزْنَ المؤبَّد. وخصَّ الذِّئبَ لأنه كان السَّبُع الغالب على قطره، أو لصِغَر يُوسُفَ، فخافَ عليه هذا السَّبعَ الحقير، وكان تنبيهًا على خوفه عليه، ما هو أعظم افتراسًا ولحقارة الذئب، خصَّهُ الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يَخْشَاهُ لَمَّا بَلَغَ مِنَ السِّنِّ:
(٢) البحر المحيط.
وَالذِّئْبُ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ | وَحْدِيْ وَأَخْشَىُ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا |
١٤ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخوة يوسف لأبيهم، والله ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾؛ أي: لئن أكَلَ يوسفَ الذئب، واختَطَفَهُ من بيننا في الصحراء ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾؛ أي: والحال إنَّا جماعة شديدةُ البأس، عشرة رجال تُكْفى بنا الخطوب، وتُدْفَع بنا مهمات الأمور ﴿إِنَّا إِذًا﴾؛ أي: إذ عَجَزْنَا عن حفظ أخينا ﴿لَخَاسِرُونَ﴾؛ أي: لهالكون (١) ضَعْفًا، وخورًا، وعجزًا، ولا غناءَ عندنا، ولا نَفْعَ ولا ينبغي أن يعتدَّ بِنَا، ويُرْكَنَ إلينا. وفي "الكواشي": مغبونون بترك حرمة الوالد، والأخ، وإنما اقتصروا على جواب خوفه على يوسف من أكل الذئب، ولم يجيبوا عن الاعتذار الأول الذي هو الحُزْنُ لأنه السبب القوي في المنع دونَ الحُزْنِ لِقِصَرِ مدَّته، بناء على أنهم يأتون به عن قَرِيبٍ.
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يلقن الخصم الحجةَ؛ لأنَّ إخوةَ يُوسُفَ كَانُوا لا يعلمونَ أنَّ الذِّئْبَ يأكل الناسَ، إلى أن قالَ ذلك يعقوب، ولقنهم العلة في كيد يوسف. وفي الحديث: "البلاء مُوكَّلٌ بالمنطق، ما قال عبد لشيءٍ والله لا أفعله، إلَّا تَرَك للشيطان كل شيء فَولِعَ حتى يُوشِمَه". يُحْكَى أنَّ ابنَ السِّكِّيت من أئمة اللغة جَلَس مع المتوكل يومًا فجاء المعتزُّ والمؤيد ابنا المتوكل، فقال: أيهما أحبُّ إليك ابناي أم الحَسَنُ والحُسَيْنُ؟ قال: والله إنَّ قنبر خَادِمَ عليٍّ رضي الله عنه خَيرٌ منك، ومن ابنَيْك، فقال: سلوا
يُصَابُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ | ولَيْسَ يُصَابُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ |
فَعَثْرَتُهُ فِيْ الْقَوْلِ تَذْهَبُ عَثْرَتُه | وَعَثْرَتهُ في الرِّجْلِ تَبْرَأ عَلَى مَهْل |
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وفي هذا (١) دليل على أنه يجوز أن يوحِي الله إلى مَنْ كانَ صغِيرًا ويعطيه النبوةَ حينئذ كما وَقَع في عيسى، ويحيى بن زَكَرِيا.
وقد قيل: إنه كان في ذلك الوقت قد بَلَغَ مبالغ الرجال، وهو بعيد جدًّا، فإن من كان قد بَلَغَ مبالِغَ الرجال لا يُخَاف عليه أن يَأْكُلَه الذِّئْبُ.
﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لتخبرن يا يوسف إخْوَتَك بصنيعهم هذا الذي فعلوه بك، بعد خُلُوصِكَ مما أرادوه بك من الكيد، وأنزلوه عليك من الضَّرَر. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ في محل النصب على الحال من ضمير الغائبين في ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف، لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجب، ولبعد عهدهم بِك، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه أولًا، وخلاف ما عهدوه منك. وسيأتي ما قاله لهم عند دُخولِهم عليه بَعْدَ أنْ صَارَ إليه ملك مِصْرَ. والمقصود مِن هذا الإيحاء تقويةُ قَلْبِهِ بأنه سَيَحْصُل له الخَلاص عن هذه المحنة، ويَصِيرُونَ تَحْتَ قهره وقدرَتهِ.
والمعنى (٢): أي فلما ذَهَبَ به إخوته من عند أبيه بعد مُرَاجعتهم له، وقد عَزَموا عَزْمًا إجماعِيًّا، لا تردُّدَ فيه على إلقائه في غيابة الجب، نفَّذُوا ذلِكَ، وحينئذ أوحينا إليه، وحيًا إلهاميًّا تطييبًا لقلبه، وتثبيتًا لنفسه، لا تَحْزَنْ مِمَّا أنتَ فيه، فإنَّ لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجَتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرونَ بأنك يوسف. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿لتنبئنهم﴾ بتاء الخطاب. وابن عمر بياء الغيبة. وكذا في بعض مصاحفِ
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
فصل في ذكر قصة ذهابهم بيوسف عليه السلام (١)
قال وهبٌ وغيرَهُ من أهل السيَرِ والأخبار: إنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ قالوا له: أما تشتاقُ أن تخرج معنا إلى مواشينا، فنَصِيد، ونستبقَ؟ قال: بلى، قالوا له: أنسأل أبَاكَ أن يرسلكَ معنا؟ قال يوسف: افعلوا، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إنَّ يُوسُفَ قد أحبَّ أن يخرج معنا إلى مَوَاشِينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيَّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخْوَتي اللِّين، واللُّطْفَ، فأحب أن تأذن لي، وكان يَعْقُوبُ يكره مُفَارَقتَهُ، ويحب مرضاتَهُ فأَذِنَ له، وأرْسَلَهُ معهم.
فلمّا خَرَجُوا من عند يَعْقُوب، جعلوا يَحْمِلُونَه على رقابهم، ويَعْقُوبُ ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه، وصَارُوا إلى الصحراء أَلْقَوْهُ على الأرض، وأظهروا له ما في أنْفُسِهم من العداوة، وأَغْلَظوا له القَوْل، وجعلوا يضربونه. فجَعَل كلَّما جاء إلى واحد منهم، واستغاث به ضَرَبه. فلمَّا فَطِنَ لما عزموا عليه من قتله جعل يُنادِي يا أبتَاه يا يعقوبُ، لو رأيتَ يُوسُفَ، وما نزل من إخوته، لأحْزَنَكَ ذلك، وأبكاك يا أبتاه ما أسْرَعَ ما نسُوا عَهْدَك، وضيَّعوا وصيَّتَك، وجعل يبكي بُكاءً شديدًا. فأَخَذَهُ روبيل وجَلَد به الأرضَ، ثم جَثَمَ على صدره، وأراد قَتْلَه فقال له يوسف: مهلًا يا أخي لا تَقْتُلني. فقال له: يا ابنَ راحيل أنت صاحبُ الأحلام، قل لرؤياك تخلِّصُك من أيدينا، ولَوَى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فِيَّ وحل بيني وبينَ مَنْ يريد قتلي. فأدركته رحمة الأخوة ورَقَّ له، فقال يهوذا: يا إخوتي ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أَهونُ لكم وأرفقُ به؟ فقالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجبِّ إمَّا أنْ يَمُوتَ أو يلتقِطه بَعْضُ السيارة، فانطلقوا به إلى بئر هناك على غير الطريق، واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فتعَلَّقَ بشفيرها، فرَبطُوا يديه، ونَزعوا قَمِيصَهُ. فقال: يا إخوتاه ردوا عليَّ قميصي لأستتر به في الجبِّ، فقالوا: اُدْعُ الشمسَ والقمرَ
وقال محمَّد بن مسلم الطائِفيّ: لما ألقي يوسف في الجُب قال: يا شاهدًا غَيْرَ غائب، ويا قريبًا غير بعيد، ويا غالِبًا غير مغلوب، اجعل لي فرجًا مما أنا فيه، فما بات فيه. وقيل: مكث في الجبِّ ثلاثَةَ أيَّامٍ، وكان إخْوَتُه يَرْعَوْنَ حَوْلَهُ، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقيل (١): عَلَّم جبريلُ يوسفَ هذا الدعاء، أي في البئر: "اللهم يا كاشفَ كل كربة، ويا مجيبَ كل دعوة، ويا جابرَ كل كسير، ويا ميسرَ كل عسير، ويا صاحِبَ كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، يا من لا إلَه إلا أنت سبحانَكَ، أسألك أن تجعل لي فرجًا ومخرجًا، وأن تَقْذِفَ حُبَّكَ في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا ذكر غيرك، وأن تَحْفَظني وترحمني يا أرحم الراحمين".
وقال بعضهم (١): لما وُلِدَ يوسُفُ اشترى يعقوب له ظئرًا، وكان لها ابن رضيع، فباع ابْنَها تكثيرًا لِلَّبَنِ على يوسف، فبكَتْ وتضرَّعَت، وقالت: يا رب إنَّ يعقوبَ فَرَّق بيني وبين ولدي، ففرق بينه وبين ولده يوسف، فاستجاب الله دعاءها فلم يَصِلْ يعقوب إلى يُوسُفَ إلا بعد أن لَقِيَتْ تلك الجارية ابنَها. هذا بالنسبة إلى حال يعقوب وابتلائه، وأمَّا بالنسبة إلى يوسف، فقد حكي أنه أخَذ يومًا مرآةً فنظر إلى صورته، فأَعْجَبَه حسنه، وبهاؤه، فقال: لو كنتُ عَبْدًا فباعوني لما وجد لي ثمن، فابتليَ بالعبودية، وبِيعَ بثمن بَخْسٍ، وكان ذلك سببَ فِرَاقِهِ من أبيه. وفيه إشارة إلى أنَّ الجَمَال والكمالَ كلَّه لله تعالى.
١٦ - ﴿و﴾ لَمَّا طرحوا يوسف في الجب ﴿جاءوا أباهم عشاء﴾؛ أي: رَجَعُوا إلى أبيهم، وَقْتَ العشاء في ظُلمة الليل، لِيَكُونُوا في الظلمة أجرأ على الاعتذار بالكذب. فَلَمَّا بَلَغُوا مَنْزِلَ يَعْقُوب جَعَلُوا ﴿يَبْكُونَ﴾؛ أي: يَتَبَاكَوْن ويصرخون لأنهم لم يبكوا حقيقةً بل فعلوا فِعْلَ من يبكي ترويجًا لكذبهم، وتَنْفِيقًا لمكرهم، وغَدْرِهِم، فسمع أصواتَهم، ففَزعَ من ذلك، وقال: ما لكم يا بنيَّ هل أصابكم في غَنمِكم شيء؟ قالوا: الأمرُ أعظمُ، قال: فما هو؟ وأينَ يوسف؟
١٧ - ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا﴾ حالةَ كونِنَا ﴿نَسْتَبِقُ﴾؛ أي يسابقُ بَعْضُنَا بعضًا في الرمي، أو العَدْوِ. وقيل: ننتضل (٢) ويؤيده قراءةُ ابن مسعودَ: ﴿ننتضل﴾. قال الزجاج: وهو نوعٌ من المسابقة. وقال الأزهري: النضالُ في السهام، والرِّهانُ في الخيل، والمسابقةُ تجمعهما. قال القشيري: ﴿نستبق﴾؛ أي: في الرمي أو على الفرس، أو على الأقدام. والغرض من المسابقة التدرب بذلك للحرب. ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾؛ أي: عند ثيابنا، وأزوادنا لِيَحْرُسَها ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ عَقِبَ ذلك من غير
(٢) الشوكاني.
فائدة: والفرق (١) بين الصدق والتصديق: والكذب والتكذيب: أنَّ الصدق: هو الإخبارُ عن الشيء على ما هو به. والكذب: الإخبارُ عنه على خلاف ما هو به. والتصديق باللسان: الإخبارُ بكون القائل صادقًا، وبالقلب: الإذعان والقبولُ لذلك. والتكذيب بخلاف ذلك.
والمعنى (٢): أي جَاؤُوه وقت العشاء حين خَالَطَ سوادُ الليل بياضَ النهار، حالَ كونهم يبكون لِيُقْنِعُوه بما يريدون، قائلين له: إنا ذهَبْنا من موضع اجتماعنا نَتَسَابَقُ، ونَتَرامَى بالنِّبَال، وتركنا يُوسُفَ عند ثِيَابنَا، وأزوادنا لِيَحْفَظَها، إذ لا يستطيع مجاراتِنَا في استباقنا الذي يرهقُ القوِيَّ، فَأكَلَه الذّئبُ إذ بَعُدْنَا عنه، ولم نسمع استغاثته، ولا صُراخَهُ ونحن نعلم أنك لا تُصدِّقُنَا، ولو كُنَّا عندك صادقين، فكيفَ وأنت تتهمنا في ذلك، ولك العذر في هذا لغرابة ما وقَعَ، وعجيب ما اتَّفَقَ لنا في ذلك الأمر. وقوله: ﴿عِشَاءً﴾ نصب على الظرف، أو من (٣) العشوة، والعَشْوَةُ: الظلام، فجُمِعَ على فعال مثل رَاع ورُعاء، ويَكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن: ﴿عُشى﴾ على وزن دجى جمع عاش حَذف منه الهاء، كما حذفت في مالك وأصلُه مالكة. وعن الحسن: (عشيًّا) بالتصغير لعشي أي آخر النهار.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
روي (٢) أنهم ذَبَحُوا سخلةً ولَطَخُوه بدمها، وزَالَ عنهم أن يمزِّقُوه فلَمَّا سمع يعقوبُ بخبر يوسف، صاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه، وبكى حتى خَضِبَ وَجْهَه بدم القميص، قال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا أَكَل ابني، ولم يمزِّقْ عليه قَمِيصَهُ. وقوله: ﴿قَالَ﴾ مستأنف استئنافًا بيانيًّا كأنه قيل: ما قال يعقوب؟ هل صدَّقهم فيما قالوا: أو لا؟ فقيل: ﴿قَالَ﴾ يعقوب جوابًا لهم لم يكن ذلك الذي أخْبَرْتُمُوه لي صدقًا ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ وزينتْ وسَهَّلَتْ ﴿لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾ قاله ابن عباس رضي الله عنهما. والتسويل (٣): تقدير شيء في الأنفس مع الطمع في إتمامه. قال الأزهري: كأن التسويلَ تفعيل من سؤال الأشياء، وهي الأمنية التي يطلبها فيزيَّن لطالبها الباطلُ وغَيْرُه. ﴿أَمْرًا﴾ من الأمور مُنْكرًا لا يُوصَفُ ولا يُعْرَفُ فصنعتموه بيوسف، استدلَّ يَعْقُوبَ على أنهم فَعلُوا بيوسف ما أرادوا، وأنهم كاذبون، بشيئين: بما عرف منْ حسدهم الشديد، وبسلامة القميص، حيث لم يَكُن فيه خرق ولا أثر نَاب؛ فقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ ردٌّ
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾؛ أي: فصبري صبر جميل، أو فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أولى من الجزع، والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه إلى أحد إلا إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإلا فقد فقال يعقوب: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.
واعلم (٣): أنَّ الصَّبْرَ إذا لم يكن فيه شكوى إلى الخلق، يَكُونُ جميلًا، وإذا كَان فيه مع ذلك شكوى إلى الخالق يكون أجمل لِمَا فيه من رعاية حق العبودية ظاهرًا، حيث أمسك عن الشكوى إلى الخلق، وباطنًا حيث قصَّرَ الشكوى على الخالق، والتفويض جميل، والشكوى إليه أجملُ. وأما (٤) الهجرُ الجميلُ فهو الذي لا إيذاء معه. وأما الصَّفْحُ الجميل فهو الذي لا عِتَابَ بعده، وقد تحقق بجميعها كل من يوسف ويعقوب.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى هو ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾؛ أي: المطلوب منه العونُ، وهو
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) الصاوي.
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِيْ طُوْلَ السُّرَى | صَبْرًا جَمِيْلًا فَكِلاَنَا مُبْتَلَى |
ومعنى الآية: أي إنهم جَاؤوا بقميصه مُلَطَّخًا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدعون أنه دمه ليشهد بصدقهم، فكانَ دليلًا على كذبهم، ومن ثم قال: ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾ ليستبين للقارىء والسامع أنه موضوع وضعًا متكلفًا إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزق القميصُ، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كلِّه لم يصدِّقْهم، وقال: هيهاتَ ليس الأمرُ كما تدَّعون بل سَهَّلَتْ لكم أنفسكم الأَمَّارةُ بالسوءِ أمرًا نكرًا، وزينته في قلوبكم فطَوَّعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرًا جميلًا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، وإنّي أستعين به على أن يَكْفِيَنِي شَرَّ ما تصفون من الكذب.
١٩ - ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾؛ أي: رفقة مسافرون تسير من جهة الشام، يريدون مِصْرَ فأخطؤوا الطريقَ، فانطلقوا يَهِيمُون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها
(٢) البحر المحيط.
فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثَلاثَةَ أيام ﴿وَأَسَرُّوهُ﴾؛ أي: أسَرُوا يُوسُفَ وأخفوه حَالةَ كونه ﴿بِضَاعَةً﴾؛ أي: مَتَاعًا للتجارة؛ أي: كَتَم الواردُ وأصحابه شأنَ يوسف من بقية القوم الذين معهم، وقالوا: إنه بضاعة استبضعناه، وحملناه لبعض أهل المال إلى مصر، وإنما قالوا ذلك خِيفَة أن يطلبوا منهم الشركة فيه، وذلك لأن الواردَ وأصحابَه قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه من الجُبِّ شاركونا فيه قَهْرًا. وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوبُ أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بِضَاعَةً عندنا على أن نبيعه لهم بمصر. وقيل: إن إخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرّوا شأن يوسُفَ، يعني أنهم أخفوا أمر يوسف، وكونه أخًا لهم بل
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بما يعمل إخْوَة يُوسُفَ بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع، ولَمْ يَخْفَ عليه أسرارهم يعني من إرادة إهلاك يوسف، فجعل ذلك سببًا لنجاته، وتحقيقًا لرؤياه حتى يصيرَ ملك مصر بعد أَنْ كان عبدًا.
قال أصحاب الأخبار (١): إنَّ يهوذا كان يأتي يوسُفَ بالطعام، فأتاه فلم يَجِدْه في الجبِّ فأخبر إخْوته بذلك، فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعْرٍ وأصحابه نزولًا قريبًا من البئر، فأتوهم، فإذا يوسف عندهم. فقالوا لهم: هذا عبدنا أبق منا، ويقال: إنهم هددوا يوسفَ حتى يكتم حالَه، ولا يعرفها أحد، وقال لهم مثل قولهم.
٢٠ - ثم إنهم باعوه منهم كما قال: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾.
وفي هذه الجملة (٢) وعيد شديدٌ لمن كان فعله سببًا لما وقع فيه يوسف من المحن، وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسُفَ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم السلام.
والمعنى (٣): أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مَدْيَنَ إلى مِصْرَ فأرسلوا وَارِدَهُمْ الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء، فأرسل دَلْوه ودلاه في ذلك الجب فتعلق به يوسف. ولما خَرَجَ ورآه قال مُبشِّرًا جماعته السيارة: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ أي: آن وقت البشرى فاحضري، كما يقال: يَا أسفًا، ويا حسرتا، إذا وقع ما هو سبب لذلك، فاستبشرتْ به السيارة، وأخفوه من الناس لئلا يَدَّعِيهِ أحدٌ من أهل ذلك المكان لأن يَكُونَ بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والله عليم بما
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وفي هذا تذكير من الله تعالى لنبيه محمد - ﷺ - وتسلية له على ما كان يلقى من قومه، وأقْرِبَائِه وأنسبائه المشركين من الأذى، فكأنه يقول له: اصبر على ما نالك في الله تعالى، فإني قادر على تغيير ذلك كما قدرت على تغيير ما لقِيَ يوسف من إخوته، وسيصير أمْرَكَ إلى العلو عليهم، كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم. ﴿وَشَرَوْهُ﴾؛ أي: باعوه في مصر؛ أي: باع يوسف مالك بن ذعر وأصحابه في مصر بعد أن وَصلُوا إليها وهو من الأضداد. والضمير للوارد وأصحابه، أو الضمير لإخوة يوسف؛ أي: باع إخوة يُوسُفَ يُوسُفَ للوارد وأصحابه، ويحتمل أن يكونَ الشِّراء على معناه؛ أي: واشترى الوارد وأصحابه يُوسُفَ من إخوته إذ جعلوه عُرْضَةً للابتذال بالبيع والشراء؛ لأنهم لم يَعْرِفُوا حَالَهُ إما لأنَّ الله تعالى أغفلهم عن السؤال، ليقضي أَمْرًا كان مفعولًا، أو لأنهم سألوا عن حاله، ولم يفهموا لُغَته لكونها عِبْريةً، أي باعوه في مصر. ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾؛ أي (١): مبخوس ناقص في نفسه لكونه زَيْفًا، وفي قدره لكونه قَلِيلًا فبخس هنا بمعنى مبخوس؛ لأنَّ الثَمَن لا يوسف بالمعنى المصدري، الذي هو النقص، ووصف بكونه مبخوسًا، إما لردائته وغشه، أو لنقصان وزنه، من بخسه حقه؛ أي: نقصه. وقال بعضهم: بثمن بخس؛ أي: حرام منقوص، لأن ثمن الحر حرام، انتهى. حمل البخس على المعنى لكون الحرام ممحوقَ البركات، والقولُ الأول هو الأصح. وقوله: ﴿دَرَاهِمَ﴾ بدل من ثمن أي لا دنانير ﴿مَعْدُودَةٍ﴾؛ أي: قليلة غير موزونة، فهو بيان لقلته، ونقصانه مقدارًا بعد بيان نقصانه في نفسه، بقوله: ﴿بَخْسٍ﴾؛ أي: زيف، لأنهم كانوا يَزِنُونَ الأوقية، وهي أربعون درهمًا
﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: البائعون ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في يُوسفَ ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾؛ أي: مِمَّنْ يرغب ويعرض عما في يده، فيبيعه بما طفَّ ونَقُصَ من الثمن؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به، لا يبالي بما باعه، ولأنه يخاف أن يَظْهَرَ له مستحق فينزعه من يده، فيبيعه من أول مساوم بأوكس ثَمن وأرخصه. وأصل (١) الزهد: قِلَّةُ الرغبةِ، يقال: زَهِدَ فلان في كذا، إذا لم يكن له فيه رغبةٌ. والضمير في قوله: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ إن قلنا: إنه يرجع إلى إخوة يوسف كان وجه زهدهم فيه أنهم حسدوه، وأرادوا إبعاده عنهم، ولم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإن قلنا: إن قوله: ﴿وَشَرَوْهُ﴾ ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ يرجع إلى معنى واحد، وهو: أن الذين شَرَوْه كانوا فيه من الزاهدين، كان وجه زهدهم فيه: إظهار قلة الرغبة فيه، ليشتروه بثمن بخس قليل. ويحتمل أن يقالَ: إنَّ إخْوَتَهُ لما قالوا: إنه عبدنا، وقد أبق، أظْهَرَ المشترِي قِلَّةَ الرغبة فيه لهذا السبب.
قال أصحاب الأخبار (٢): ثمَّ إن مالك بن ذعر وأصحابَه لما اشتروا يُوسُفَ انطلقوا به إلى مصر، وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه، لا يأبق منكم، فذهبوا به حتى قدموا مصر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما دخلوا مصرَ لقِيَ قِطْفِيرٌ - صاحب أمر الملك -، وكان على خزائن مِصرَ مالِكَ بن ذعر فاشترى يوسُفَ منه بعشرين دينارًا، وزوج نعل، وثوبين أبيضين.
وقال وهب بن منبه: قَدِمَتِ السيارة بيوسف مِصْرَ، ودخلوا به السوقَ يُعرضونه للبيع، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبًا، ووزنه فضة، ووزنه مِسْكًا وحَرِيرًا. وكان وزنه أربع مئة رطل. وكان عمره يومئذ ثلاث عَشَرةَ سنةً، أو سبع عشرة سنة. فابتاعه قطفير - وكان يسمَّى العزيز - بهذا الثمن، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ﴾.
(٢) الخازن.
الإعراب
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)﴾.
﴿الر﴾ تقدم البحث في إعرابه ومعناه. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ خبر ومضاف إليه. ﴿الْمُبِينِ﴾ صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ واسمه. ﴿أنْزَلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿قُرْآنًا﴾ حال موطئة من ضمير المفعول في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾، ولكن بعد تأويله بمشتق، في حَالَةَ كونه مقروءًا؛ أي: مجموعًا. ﴿عَرَبِيًّا﴾ صفة ﴿قُرْآنًا﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن) والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿أتعْقِلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿نَحْنُ﴾ مبتدأ. ﴿نَقُصُّ﴾ وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق به. ﴿أَحْسَنَ اَلقَصَصِ﴾ ومفعول مطلق، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿بِمَا﴾ (الباء) حرف جر وسبب. (ما) مصدرية. ﴿أَوْحَيْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به. ﴿هَذَا﴾ في محل النصب مفعول ﴿أوْحَيْنَا﴾. ﴿الْقُرْآنَ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية صلة (ما) المصدرية (ما)
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ﴾.
﴿إذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿نَقُصُّ﴾ أو باذكر محذوفًا. ﴿قَالَ يُوسُفُ﴾ فعل وفاعل. ﴿لِأَبِيهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ (إذ). ﴿يَا أَبَتِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَتِ﴾ (يا) حرف نداء. ﴿أبت﴾ منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المعوضة عنها قال التأنيث للتفخيم، مَنَعَ أو ظهورها اشتغال المحل بالفتحة المجلوبة لمناسبة التاء؛ لأن التاء لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا ﴿أب﴾ مضاف وياء المتكلم المعوضة عنها تاء التأنيث في محل الجر مضاف إليه، مبنية على السكون لشبهها بالحرف شبهًا وضعيًّا وتاء التأنيث حرف لا محل لها أو الإعراب مبنية على الفتح، وإنما حركت لِكَونها على حرف واحد، وكانت الحركة فتحةً تحريكًا لها بحركة أصلها الذي هو الياء في بعض لغاتها، وجملة النداء في محل النصب مقول قال، اهـ "هدية أولي الإنصاف في إعراب المنادى المضاف".
﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.
﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿رَأَيْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداء. ﴿أَحَدَ عَشَرَ﴾ عدد مركب في محل النصب على المفعولية الأولى، مبني على فتح الجزأين بنيَ الجزء الأول لشبهه بالحرف، شبهًا افتقاريًّا لافتقاره إلى الجزء الثاني، في دلالته على المعنى المراد، وبني الجزء الثاني لشبهه بالحرف، شبهًا
وفي "الفتوحات"، قوله: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أنَّها جملة كررت للتوكيد، لما طال الفصل بالمفاعيل، كررت كما كررت أنكم في قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)﴾ كذا قاله الشيخ.
والثاني: أنه ليس بتأكيد، وإليه نحا الزمخشري فإن قال: فإن قلت: ما معنى تكرار ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾.
قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال، وقَعَ جوابًا له، كأنَّ يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: ﴿إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ كيف رأيتَها سائلًا عن حال رؤيتها فقال: رأيتهم لي ساجدين؟.
قلت: وهذا أظهر لأنه متى دار الكلام بين الحَمْل على التأكيد، أو التأسيس، فَحَمْلُه على الثاني أولى، اهـ "سمين".
﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿يَا بُنَيَّ﴾ إلى قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ بالفتح منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحةٌ مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحةً لمناسبة الألف المحذوفة، تلك الألف للتخفيف، ﴿بني﴾ مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه. وبالكسر منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، وجملة النداء في محل النصب مقول
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)﴾.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. كذلك جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ فعل ومفعول وفاعل والتقدير: ويجتبيك ربك للنبوة والرسالة اجتباءً مثل اجتبائه إياك بهذه الرؤية، والجملة معطوفة على جملة النداء السابق على كونا مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني، والجملة الفعلية مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يعلمك﴾ على كونِها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿يتم﴾ أو بـ ﴿نِعْمَتَهُ﴾. ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ جار ومجرور معطوف على عليك، وكرَّر (على) ليمكن العطف على الضمير المجرور كما هو مذهب البصريين. ﴿كَمَا﴾ (الكاف) حرف جر. (ما) مصدرية. ﴿أَتَمَّهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى أَبَوَيْكَ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿مِن قَبْلُ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضًا. ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ يجوز أن يكونا بدلًا من أبويك، أو عطفَ بيان، أو على إضمار أعني، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدوية (ما) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور (بالكاف) تقديره:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)﴾.
﴿لَقَدْ﴾ (اللام) موطئة لقسم محذوف. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿فِي يُوسُفَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ (كان) على اسمها. ﴿وَإِخْوَتِهِ﴾ معطوف على ﴿يُوسُفُ﴾. ﴿آيَاتٌ﴾ اسم (كان) مؤخر. ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، وجملة ﴿كَانَ﴾ جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مستأنفة.
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)﴾.
﴿إِذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره اذكر ﴿إِذْ قَالُوا﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذ﴾ إليها. ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُواْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يُوسُفُ﴾ (اللام) موطئة للقسم، أو حرف ابتداءٍ على الخلاف المار فيه. ﴿يوسف﴾ مبتدأ. ﴿وَأَخُوه﴾ معطوف عليه. ﴿أَحَبَّ﴾ خبر المبتدأ. ﴿إلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ يتعلقان به، ولم تحصل المطابقة بين المبتدأ، والخبر؛ لأن الخبر هذا اسم تفضيل مجرد، وهو يلزم الذكير والتوحيد. قال ابن مالك:
وَإِنْ لِمَنكُوْرٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا | أُلْزِمَ تَذْكِيْرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا |
وَأَشْدِدَ أوْ أَشَدَّ أَوْ شِبْهَهُمَا | يَخْلُفُ مَا بَعْضَ الشُّرُوْطِ عَدِمَا |
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩)﴾.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَوِ﴾ حرف عطف، وتمييز. ﴿اطْرَحُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اقْتُلُوا﴾. ﴿أَرْضا﴾ منصوب على الظرفية أو بنزع الخافض. ﴿يَخْلُ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذفُ حرف العلة. ﴿لَكُم﴾ متعلق به. ﴿وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فاعل، ومضاف إليه. ﴿وَتَكُونُوا﴾ فعل ناقص واسمه معطوف على ﴿يَخْلُ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ متعلق به. ﴿قَوْمًا﴾ خبر ﴿تكونوا﴾. ﴿صَالِحِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)﴾.
﴿قَالَ قَائِلٌ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة قائل، والجملة مستأنفة. ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ إلى قوله ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول به مجزوم بـ (لا) الناهية، والجملة في محل النصب مقول (قَالُوا). ﴿وأَلْقُوهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على جملة ﴿لَا تَقْتُلُوا﴾. ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به. ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ فعل ومفعول، وفاعل مجزوم بالطلب السابق. ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم فاعلين فافعلوا هذا القدر؛ في: إلقاءه في البئر، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١)﴾.
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
﴿أرْسِلْهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مَعَنَا﴾ حال من مفعول ﴿أَرْسِلْهُ﴾. ﴿غَدًا﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿أرسل﴾. ﴿يَرْتَعْ﴾ مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿وَيَلْعَبْ﴾ معطوف عليه. ﴿وَإِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾ متعلق بما بعده. ﴿لَحَافِظُونَ﴾ خبر (إن) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إنّ في محل النصب حال من (هاء) ﴿أرْسِلْهُ﴾.
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي﴾ إلى قوله ﴿قَالوُا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿لَيَحْزُنُنِي﴾ فعل مضارع ومفعول، و (نون) وقاية و (اللام) حرف ابتداء. ﴿أَنْ تَذْهَبُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ (أن) المصدرية. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، وجملة ﴿تذهبوا﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، ليحزن تقديره: ليحزنني ذهابكم
﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَئِنْ﴾ (اللام) موطئة للقسم. (إن) حرف شرط. ﴿أَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ فعل ومفعول، وفاعل في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونِه فعل شرط لها. ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من (هاء) ﴿أَكَلَهُ﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه. ﴿إذًا﴾ حرف جواب وجزاء، ولكن لا عمل لها لدخولها على الجملة الاسمية. ﴿لَخَاسِرُونَ﴾ خبر (إنَّ) و (اللام) حرف ابتداء، وجملة إن جوابَ القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب إن الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن أكله الذئب، فإنا إذًا لخاسرون، وجملة الشرط معترضةٌ بين القسم، وجوابه، وجملةُ القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة على محذوف تقديره: فأرسلَه معهم، فلما ذهبوا به، وذلك المقدر معطوف على قوله سابقًا. ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا﴾ كما في "الجمل". ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿ذَهَبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بهِ﴾ متعلق به، والجملة فعل شرط لـ (لما). ﴿وَأَجْمَعُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ذَهَبُوا﴾. ﴿أَنْ يَجْعَلُوهُ﴾ ناصب يفعل، وفاعل، ومفعول أول. ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ جار ومجرور في محل
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧)﴾.
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿عِشَاءً﴾ منصوب على الظرفية متعلق به. ﴿يَبْكُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿جاءوا﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿ذَهَبْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل رفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل النصب مقول قال على كونها جوابَ النداءِ. ﴿نَسْتَبِقُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على إخوة يوسف، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿ذَهَبْنَا﴾. ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿ذَهَبنَا﴾. ﴿عِندَ متاعنا﴾ ظرف، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تركنا﴾. ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿تركنا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (ما) حجازية أو تميمية. ﴿أنتَ﴾ في محل الرفع اسمها أو مبتدأ. ﴿بِمُؤْمِنٍ﴾ خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ و (الباء) زائدة. ﴿لَّنَا﴾ متعلق بـ ﴿مؤمن﴾، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَأَكَلَهُ﴾ على كونها مقول القول. {وَلَوْ كُنَّا
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)﴾.
﴿وَجَاءُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَى قَمِيصِهِ﴾ ظرف بمعنى فوق في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿دم﴾. ﴿بِدَمٍ﴾ متعلق بـ ﴿جاؤوا﴾. ﴿كَذِبٍ﴾ صفة ﴿دم﴾ ولكنه في تأويل مشتق تقديره: مكذوب، والتقدير: ﴿وجاؤوا﴾ بدم حَالَه كونه فوق قميصه، وجملة ﴿جاؤوا﴾ مستأنفة. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿بَل﴾ حرف ابتداء وإضراب إبطالي. ﴿سَوَّلَتَ﴾ فعل ماض، وتاء تأنيث. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به. ﴿أَنْفُسُكُمْ﴾ فاعل. ﴿أَمْرًا﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَصَبْرٌ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿صبر﴾ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فصبري صبر جميل. ﴿جَمِيلٌ﴾ صفة ﴿صبر﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سَوَّلَتْ﴾ ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾. ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿الْمُسْتَعَانُ﴾. ﴿تَصِفُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ (ما) أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره على ما تصفونه.
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩)﴾.
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، و (الفاء) عاطفة، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاءت﴾.
﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾.
﴿وَشَرَوْهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على (أسروه). ﴿بِثَمَنٍ﴾ متعلق به. ﴿بَخْسٍ﴾ صفة لـ (ثمن) على تأويله بمشتق تقديره: مبخوس، أي: منقوص. ﴿دَرَاهِمَ﴾ بدل من (ثمن). ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ صفة لـ ﴿دَرَاهِمَ﴾. ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿فِيهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿الزَّاهِدِينَ﴾. ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ جار ومجرور خبر (كان)، وجملة (كان) معطوفة على جملة ﴿أشَرَوْهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، ﴿الْمُبِينِ﴾ اسم فاعل من أبان المتعدي، وسيأتي في قوله: ﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ أنه من اللازم، فهو من أبَانَ بمعنى أظهَرَ أي: المُظْهِرُ للحق من الباطل، والحلال من الحرام. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ والعربي منسوب للعرب، لأنه نزل بلغتهم، وواحدُ العرب عربي كما أن واحد الروم رومي، اهـ "سمين".
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ قص من باب: ردَّ والمصدر قَصَصًا بالفك، وقصًّا بالإدغام. وفي "المصباح": قَصَصْتُ الخَبَرَ قَصًّا من باب قتل، حدثته على وجهه، والاسم القصص بفتحتين، وقصصت الأثر: تتبعته، اهـ. وفي "البيضاوي": القصص هنا بمعنى المفعول كالنقض والسلب بمعنى المنقوض والمسلوب، اهـ.
﴿أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ وأحسن يجوز أن يكون أفعلَ تفضيل على بابه، وأن يكونَ لمجرد الوصف بالحسن، ويكونَ من باب إضافة الصفة لموصوفها؛ أي: القصص الحسن. وفي "الخازن": أصل القصص في اللغة من قصَّ الخبر، إذا تتبعه، وإنما سميت الحكاية قِصَّةً لأن الذي يَقُصُّ الحديثَ يذكر تلك القصة شيئًا فشيئًا. والمعنى: نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة أحسنَ البيان. وقيل: المرادُ خُصوص قصة يوسف، وإنما كانت أحسنَ القصص لما فيها من الحكم، والنكت، وسير الملوك، والمماليك، والعلماء، ومَكْرِ النساء، والصبر على الأذى، والتجاوز عنه أحسنَ التجاوز وغير ذلك من الفوائد الشريفة.
﴿يَا أَبَتِ﴾ بكسر تاء التأنيث اللفظي التي هي عوض عن ياء المتكلم المحذوفة. وأصله: يا أبي فحذفت الياءُ، وأتي بالتاء عوضًا عنها، ونقلت كسرة ما قبل الياء، وهو الباء للتاء، ثم فتحت الباءُ على القاعدة في فتح ما قبل تاء التأنيث، وبفتح التاء، والأصل عليه: يا أبيَ، بكسر الباء؛ وفتح الياء؛ ففتحت
قلت: كما جاز نحو قولك: حَمامَةٌ ذكر وشاة ذكرٌ ورجل رَبْعَةٌ وغلام يفعة. قلت: يعني أنها جيء بها لمجرد تأنيث اللفظ كما في الألفاظ المستشهد بها، ثم قال الزمخشري. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟
قلت: لأن التأنيثَ والإضافةَ يتناسبان في أن كلَّ واحد منهما زيادةٌ مضمومةٌ إلى الاسم في آخره.
قلت: وهذا قياس بعيد لا يعمل به عند الحذاق، فإنه يسمى الشبهَ الطَّرْدِيَّ في يعني أنه شَبهٌ في الصورة، اهـ "سمين". ﴿لِي سَاجِدِينَ﴾ والسجودُ هنا: منْ سَجْدَ البعير إذا خَفضَ رَأْسَهُ لراكبه حين ركوبه، وكان من عادة الناس في تحية التعظيم بفِلَسْطين، ومصر، وغيرهما، الانحناء مُبَالغَةً في الخضوع والتعظيم، وقدِ استعمله القرآن في انقياد كل المخلوقات لإرادة الله، وتسخيره، ولا يكون السجود عِبَادةً إلا بالقصد، والنية للتقرب إلى من يعتقد أنَّ له عليه سُلْطانًا غَيْبِيًّا فوق سلطان الأسباب المعهودة. ﴿رُؤْيَاكَ﴾ الرؤيا مصدر رَئِيَ في المنام رؤيا على وزن فعلى، كالسقيَا والبشرى، وألفه للتأنيث، ولذلك لم يصرف. ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ﴾ يقال: كاد له الأمر إذا دبَّر الكَيْدَ لأجله لمضرته، أو لمنفعته كما قال ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ كاد يَتَعدَّى بنفسه كما في قوله: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ وعدي هنا باللام لتضمُّنِه معنَى فعل يتعدى باللام، ولذا قال الشارح: يحتالوا في هلاك. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: فيكيدوك كما قال: فكيدوني جميعًا؟
قلت: ضُمِّنَ معنى فعل يتعدى باللام؛ ليفيدَ معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون أفيد، وأبلغ، في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك، ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر، و ﴿كَيْدًا﴾ مفعول به أي يصنعوا لك كيدًا أي أمرًا يكيدونك به، اهـ "سمين".
﴿عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾؛ أي: بَين العداوةَ وظاهرها فهو من أبان اللازم. {وَكَذَلِكَ
﴿غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ قال الهروي: والغيابة: سدٌّ أو طاقٌ في البئر، قريبُ الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: الغيابة تكون في قعر الجب؛ لأن أسفله واسع، ورأسه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري: هي غوره، وما غاب منه عن عين الناظر، وأظلم من أسفله. والجب: البئر التي لم تُطْوَ، ويقال لها: قبل الطيي رَكِيَّةٌ فإذا طويت قيل لها: بئر سمِّيت جُبًّا إما لكونها محفورة في جيوب الأرض؛ أي: ما غلظ منها، وإما لأنها قطعت في الأرض قطعًا، ومنه الجب في الذكر. ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ والالتقاط: أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق، أو من حيث لا يحتسب، ومنه اللقطة. واللقيط: يعني: يأخذه بعض المسافرينَ فيَذْهَبُ به إلى ناحية أخرى، فيستريحوا منه، اهـ "خازن". والسيارة: الجمع الذين يسيرون في الطريق، جمع سيار؛ أي: المبالغ في السير، اهـ خطيب. وفي "المختار": السيارة القافلة، اهـ. ﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا﴾ وفي "السمين": وقرأ العامة: تأمنا بالإخفاء؛ أي: إخفاءِ النون عند النون المتحركة. والإخفاء: هو عبارة عن تضعيف الصوت بالحركة، والفصل بين النونين؛ لأنَّ النونَ تسكن رأسًا، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغامًا.. وقرأ بعضهم ذلك بإشمام، وهو عبارة عن ضم الشفتين إشارة إلى حركة الفعلِ مع الإدغام الصريح، كما يشير إليه الواقف. وفيه: عُسْرٌ كَبِيرٌ، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام وقبل كَمَالِه. وقرأ أبو جعفر بالإدغام الصريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك بالإظهار مبالغةً في بيان إعراب الفعل، وللمحافظة على حركة الإعراب. واتفق الجمهور على الإخفاء أو الإشمام كما تقدم تحقيقه، اهـ. ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ جمع ناصح، والناصح: المشفق المحب للخير. وعبارة "الخازن" هنا: المراد بالنصح هنا القيام بالمصلحة، وقيل: البر والعطف، والمعنى: وإنا لعاطفون عليه قائمون بمصلحته، وبحفظه. ﴿غَدًا﴾ وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله غَدْوٌ فحُذفت لامه، وقد جاءَ تامًّا ذكره أبو حيان. ﴿نرتع﴾ الجمهور على أنَّ العين آخِر الفعل يقال:
﴿عِشَاءً﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ظرف أي وَقْتَ العشاء.
والثاني: أن يكون جمع عائش كقائم، وقيامٍ ويقرأُ بضم العين. والأصل: عُشَاة مثل غازٍ وغُزَاة، فحذفت الياء، وزيدت الألف عِوَضًا منها، ثم قلبت الألف همزةً. ويجوز أن يكونَ جمع فاعل على فِعَالٍ كما جمع فعيل على فعال كمرِيضٍ ومِرَاضٍ. ﴿عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ المتاع في اللغة كل ما انتفع به، وأصله النفع الحاضر، وهو اسم مصدر من متع تمتعًا كالسلام من سلم. ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ فيه وصف الدم بالمصدر على سبيل المبالغة، فكأنَّه نَفْسَه صار كَذِبًا، والفاعل والمفعول يسمَّيان بالمصدر كما يقال: ماء سكب؛ أي: مسكوبٌ والفاعل كقوله: ﴿إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ وكما سموا المصدرَ بهما قالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)﴾ اهـ كرخي. وقرىء: ﴿بدم كدب﴾ بالدال المهملة، والكدب: الكدر، وقيل: الطَّرِيُّ. ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾؛ أي: زينت وسهّلت. وأصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه. قال صاحب "الكشاف": سَوَّلَتْ: سَهَّلَتْ من السول بالتحريك، وهو الاسترخاء في العصب، ونحوه؛ أي: سَهَّلت لكم أنْفُسكُم أمرًا عَظِيمًا، فعلتموه
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ تنزيلًا لبعد مرتبته في الكمال، وعُلو شأنه مَنْزِلَةَ البُعْدِ الحسّيِّ. ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وقال في (١) "بحر العلوم": لعلَّ مُستعار لمعنى الإرادة لملاحظة العرب معنى الإرادة، أو الترجي في لَعَلَّ؛ أي: أنزلناه قرآنًا عربيًّا، إرَادَةَ أن تَعْقِلَه العربُ، ويفهموا منه ما يَدْعُوهم إليه، فلا يكون لهم حُجَّةً على الله، ولا يقولوا لنبيهم ما خُوطبنا به.
ومنا: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾.
ومنها: التعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة في قوله: ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ لإجلال شأنه عليه السلام كما في "الإرشاد" فليست هي الغفلة المتعارفة بين الناس.
ومنها: عَطْفُ الخاصِ على العام في قوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ لإظهار
ومنها: إجراءُ غير العقلاء مُجْرَى العقلاء في ضمير ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾ لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾.
ومنها: التنكير للإبهام في قوله: ﴿أَرْضًا﴾؛ أي: أرضًا مجهولةً.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾؛ أي: ولغيرهم، فالسائلون هم اليهود ففيه اكتفاء، وهو ذِكْرُ أحد متقابلين، وحذفُ الآخر لعلمه من المذكور.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ وفي قوله: ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَرْتَعْ﴾ لأنَّ الرتع حقيقةٌ في أكل البهائم في الخصب من الربيع، ويُستعَار للإنسان إذا أريد به الأكلُ الكثير كما مر.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ للدلالة على عظم ذلك الأمر؛ أي: أمرًا عظيمًا.
ومنها: الحذفُ والزيادةُ في عدَّةَ مواضِعَ.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْر...﴾ الآيتين، هاتان الآيتان مبدأُ قَصَصِ يوسف في بيت العزيز الذي اشتراه، وفيها بيان تمكين الله له، وتعليمه تأويلَ الأحاديث، وإيتائه حُكْمًا وعِلْمًا وشهادة من الله له بأنه من زمرة المتقين.
قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
قوله تعالى: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي...﴾ الآيات، مناسبتُها لما قبلها، بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة مخَادَعَتَها ليوسُفَ عن نفسه، وتغليقَها الأبواب، وهرَبه منها إلى الباب، وجَذْبِهَا لقميصه، ورؤيةِ سَيِّدها لذلك الحادث، واتهامها لِيُوسُفَ بإرادة السوء منها. ذكر هنا تبرئةَ يوسف لنفسه، وحكم قريبِها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثمَّ علم الزوج ببراءةِ يُوسُفَ وثبوتِ خطيئتها.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ...﴾ الآيات، ناسبتها لما قبلها: بعد أن ذكر سبحانه تحقيقَ زوجها في الحادث، وحكم أحد أقاربها بما رَأى وقد استبانَ منه براءةَ يُوسُفَ، ذكر هنا أنَّ الأَمْرَ قد استفاض في بيوت نساء الوزراء، والكُبراء، فأحْبَبْنَ أن يَمْكُرْنَ بها لِتُرِيَهن هذا الشابَّ الذي فتنها جماله، وأذلَّها عَفَافُهُ وكماله حتَّى راودَتْه عن نفسه وهو فَتَاها، ودَعَتْهُ إلى نفسها فردَّها وأَبَاهَا خشيةَ لله، وحفظًا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يَخُونَه في أعز شيء لديه، علَّه بعد هذا يَصْبُو إليهن، ويَجْذِبُه جمالهن، ويكون له فيهن رَأيٌ غير ما رآه فيها، فإنه قد ألِفَ جَمَالها قبل أن يَبْلُغ الأشدَّ، وكان يَنْظُرَ إليها نظرةَ العبدِ إلى سيدته، أو الولد إلى والدته.
٢١ - ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ﴾؛ أي: اشترى يوسف ﴿مِنْ مِصْرَ﴾؛ أي: في مصر لم يبين الكتاب الكريمُ اسم الذي اشتراه في مصر، ولا منصبه، ولا اسمَ امرأته؛ لأن ذلك لا يهم في العبرة من القصة، ولا يزيد في العظة، ولكن لَقَّبه النسوة فيما يأتي ﴿العزيز﴾ وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولَّى إدارة الملك في مصر. والظاهر أنه لقب أكبر وُزراء الملك. قال في "القاموس": العزيز: المَلِكُ لغلبته على أهل مملكته، ولَقَبُ مَنْ مَلَكَ مصر مع الإسكندرية، انتهى. وبيانُ كَوْنِه من مصر للإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين، بما ذكر من الثمن البخس كما في "الإرشاد".
فالذي (١) اشتراه في مصر هو قطفير خَازِنُ الملكِ الريَّان بن الوليد، وكان صَاحِبَ جنوده، ورئيسَ الشرطة، وحامِيةِ الملك، وناظر السجون، وقد آمن الملك بيوسف، ومات في حياة يُوسُفَ عليه السلام، فملك بَعْدَه قابوس بن مصعب، فدعاه يُوسُفُ إلى الإِسلام فأبى. وكانَ من نَسْلِهِ فرعونُ موسى. واشترى ذلك الوزيرُ يُوسُفَ، وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عَشَرَة سنة، واستوزره رَيَّان بن الوليد، وهو ابنُ ثلاثين سنَةً. وآتاه الله المُلْكَ والحكمةَ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وتوفي وهو ابن مئة وعِشْرِين سنةً. وهو أول من عملَ القراطيس. وقوله: ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ متعلق بـ (قال) لابـ (اشترى)؛ أي: قال لامرأته رَاعِيلَ بنتَ رعائيل، ولقبها (٢) زُليخا بضم الزاي المعجمة، وفتح اللام والمد مصغرًا كما في "عين المعاني" والمشهور في الألسنة فتح الزاي، وكسر اللام.
﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾؛ أي: اجعلي محلَّ إقامته كريمًا حَسَنًا مَرْضِيًّا. والمعنى: أحسني تعهده في المطعم، والمشرب وغيرهما. فهو كناية عن إكرام نفسه، إحسان تعهده كما يقال: المقام العالي ويكنى به عن السلطان. قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: يُكْنَى عن الشريف بالجَنابِ، والحضرة، والمجلس،
(٢) روح البيان.
وخُلاصة ما قال (١): أحسِنِي تعَهُّدَهُ وانظرِي فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتَمِّهِ.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أفرسُ الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ الآية، وأبو بكر رضي الله عنه حين استَخْلَفَ عُمَر بنَ الخطاب رضي الله عنه.
ثمَّ بَيَّنَ عِلَّةِ إكرامه برجائه فيه، وعظيم أمله في جليل مساعدته، فقال: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾؛ أي: عَلَّه أن يَنْفَعَنا في أمورنا الخاصة إذا تدرَّبَ فيها، وعَرَفَ مَوارِدَها ومصَادِرَها، أو شؤون الدولة العامة، لِمَا يلوح عليه من مخايل الذكاء والنَّجَابة. ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾؛ أي: نتبناه، ونقيمه مقَامَ الولد فَيَكُون قُرة عَيْنٍ لنا، ووارثًا لمالنا، ومَجْدنا إذا تمَّ رشده، ونَضَج عقله. وفي الآية إيماء إلى شيئين:
١ - أنَّ العزيز كان عقيمًا.
٢ - أنه كان صادق الفراسة، ثاقب الفكر.
فقد استدل من كمال خُلُقه وخَلْقِهِ على أنَّ حُسْنَ عشرته، وكرمَ وَفادته، وشرفَ تربيته مما يُكمل استعدادَه الفطرِيّ. فالتجارب دلَّتْ على أنه لا يفسد الأخلاقَ شيء أكثر مما تُفْسِدُها البيئة الفاسدة، وسوء القدوة.
والمعنى: أكرمي إقامتَه عندنا بحسن العشرة، نرجو من الله أن ينفَعَنا فيما نحتاج إليه، ويكفينا بَعْضَ المهمات، أو نتبناه، ونُقيمه مقام الولد، ولم يكن لنا ولدٌ. وكان العزيز هذا لا يأتي النساء أو عَقِيمًا. فالمراد من نفعه أحدُ أمرين: إمَّا الرِّبحُ فيه إذا باعوه، أو معاونتُه لهم إن أبقَوه، وهذان غَيْرَ اتخاذه ولدًا. ويَجُوز
﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: وكما نجينا يوسف من القتل، والجبِّ وجَعَلْنَا في قلب الوزير حُنوًّا عليه ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أعطينا له مَكَانَةً؛ أي: رتبة عالية في أرض مصر. وهي أربعونَ فَرْسَخًا في أربعين فرسخًا. وقوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ﴾ معطوف على محذوف متعلق بـ ﴿مَكَّنَّا﴾؛ أي: وكذلك مكنا ليوسف في أرض مصر، وجعلناه وجيهًا بين أهلها، ومحبَّبًا في قلوبهم، لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز، وليتصرَّف فيها بالعدل، ولنعلِّمه ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: تعبير بعض المنامات، التي أعظمها رؤيا الملك، وصاحبي السجن ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾، و ﴿الهاء﴾ عائدة على الله؛ أي: غالب على أمر يريده لا يرده شيء، ولا ينازِعُه أحدٌ فيما شاء، ويحكم في أمر يوسف وغيره، بل إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم الكفار ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾، أنَّ الأمر كله لله، وأن قَضَاءَ الله غالب، فمن تأمل في أحوال الدنيا عَرَف ذلك؛ أي: فما حدث من إخوة يوسف له، وما فعله مسترقوه، وبائِعُوه، وما وَصَّى به الذي اشتراه امرأتَه من إكرام مثواه، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث، ومنْ دخولِهِ السجنَ، قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكينَ في الأرض، ولكنَّ أكثرَ الناس يأخذون الأمورَ بظواهرها، كما زَعَم إخوة يوسف أنه لو أُبْعِدَ يوسفُ عنهم خَلا لهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قومًا صالحين. وقوله: ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ إيماء إلى أنَّ الأقل يعلمون ذلك، كيعقوب عليه السلام، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره. فهذه أقواله السَّابقةُ واللاحقةُ صريحة في ذلك، ولكن عِلْمُه إجمالي لا تفصيليٌّ، إذ لا يحيطُ بما تخبئه الأقدارُ.
٢٢ - وبعد أن بيَّن سبحَانَه أنَّ إخوةَ يوسف أساؤوا إليه، وصَبَرَ على تلك الشدائد حتى مكَّنَ الله له في أرض مصر، بيَّن هنا أنه أتاه الحُكْمَ والعلم حين استكمال سن الشباب، وبلوغ الأشد، وأنَّ ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه في سيرته فقال عزَّ اسمه: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ يوسف ﴿أَشُدَّهُ﴾؛ أي: سن رشده وكمال قوته،
وقدَّرَ (١) الأطباء هذه السنَّ بخمس وعشرين سَنةً. وقد أثبت علماء الاجتماع أنَّ الاستعدادَ الإنسانيَّ يظهر رُوَيْدًا رُوَيْدًا حتى إذا ما بلغ المرء خَمْسًا وثلاثين سنة وَقَف عند هذا الحد، ولم يظهر فيه شيء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن. ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة.
وفي "روح البيان" (٢): والعقلاء ضبطوا مراتبُ أعمار الناس في أربع:
الأولى: سن النشوء والنَّماء، ونهايته إلى ثلاثين سنة.
والثانية: سن الوقوف وهو سن الشباب ونهايته إلى أن تتم أربعون سنةً من عمره.
والثالثة: سن الكهولة، وهو سن الانحطاط اليسير الخفيّ، وتمامه إلى ستين سنة.
والرابعة: سنِّ الشيخوخة، وهو سنُّ الانحطاط العظيم الظاهر، وتمامه عند الأطباء إلى مِئةً وعشرين سنة. والأشُدُّ: غاية الوصول إلى الفطرة الأولى. وعبارةُ "الخازن" ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي (٣) منتهى شبابه، وشدته، وقوته قال مجاهد: ثلاثةٌ وثلاثون سنة. وقال الضحاك: عِشْرُون سنةً. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال الكَلْبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنةً. وسُئِلَ مالك عن الأَشُدِّ فقال: هو الحُلُم. ﴿آتَيْنَاهُ﴾؛ أي: آتينا يُوسُفَ بعد بلوغ الأشد، ﴿حُكْمًا﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
قال الإِمام نقلًا عن الحسن: كان يوسفُ نبيًّا من الوقت الذي أُلْقِيَ فيه في غيابة الجب لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ﴾ ولذا لم يقُلْ هُنا: ولمَّا بلغ أشدَّه واستوى، كما قال في قصة موسى؛ لأنَّ موسى أوحي إليه عند منتهى الأشدّ والاستواء وهو أربعون سنةً، وأوحي إلى يوسف عند أوله، وهو ثمان عشرة سنةً. وعن الحسن: مَنْ أَحسَنَ عبادةَ ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهالِه، وفيه إشارة إلى أنَّ المطيع تُفْتَحُ له ينابيع الحكمة، وتنبيه على أنَّ العطِيَّة الإلهية تَصِلُ إلى العبد، وإن طَالَ العَهْدُ إذا جاءَ أوانُها فلطالبِ الحق أن ينتظر إحسانَ الله تعالى، ولا ييأس منه.
﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب الذي جَزَيْنا يوسف ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: كلَّ مَنْ يُحْسِنُ في عمله، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعارٌ بعَلِيّة الإحسان له، وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما أتاه الحكمَ والعلم لكونه مُحْسِنًا في أعماله، متقيًا في عنفوان أمره، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. قال بعضهم: نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم في الطلب، والإرادة والاجتهاد، والرِّيادة فمَنْ أدْخل نَفسَه في زمرة أهل الإحسان جزاه الله تعالى بأَحْسَنِ الجزاء، وأحبه كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ فمن أحبَّه الله تعالى نَالَ سَعَادةَ الدَّارَيْنِ.
والمعنى: أي ومثل ذلك الجزاءِ العظيمِ نُجازِي به المتحلِّينَ بصفة الإحسان الذين لم يدنِّسُوا أنْفُسَهم بسيئات الأعمال، فنُؤتيهم نصيبًا من الحكم بالحق، والعدل، وعلمًا يظهره القولُ الفصلُ إذ يكون لذلك الإحسانِ تأثيرٌ في صفاء عقولهم وجَودةِ أفْهَامِهم وفقههم لحقائق الأشياء غيرَ ما يستفيدون بالكسب من غيرهم، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين في أعمالهم المتبعين لأهوائهم، وطاعة
٢٣ - ﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾؛ أي: راودَتْ يوسفَ وطلبته المرأة ﴿الَّتِي هُوَ﴾؛ أي: يوسف ﴿فِي بَيْتِهَا﴾؛ أي: في سَكَنِها ومَنْزِلها أن يحابيَ لها ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ ويمكنَ لها من نفسه بالمواقعة عليها، والمجامعة بها. يقال: راودَ فلان جاريتَهُ عن نفسِهَا، وراودته هي عن نَفْسِهِ إذا حاول كل واحد منهما الوطءَ والجماعَ، وهي مفاعلة. وأصلها: أن تكونَ من الجانبين فجُعِلَ السببُ هنا في أحد الجانبين قائمًا مقامَ المسبب، فكأن يوسُفَ عليه السلام - لمَّا كان ما أعطيه من كمال الخلق، والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مُراود لها، وإنما قال ﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ ولم يقُل امرأة العزيز أو زليخا قَصَدًا إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة، والمحافظة على الستر عليها. ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ عليها، وعلى يُوسُفَ؛ أي: أطبقَتْها، وكانت سبعةً، لأنَّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية، أو إنها أغْلَقَتْها لشِدّةِ خوفِها. ﴿وَقَالَتْ﴾ ليوسف ﴿هَيْتَ﴾؛ أي: هلمَّ إليَّ، وأَقْبِلْ وبَادِرْ، أو تهيأت ﴿لَكَ﴾ لتستمتع بي وتجامعني. والمعنى: وخادعَتْ امرأة العزيز يُوسُفَ عن نفسه، وراوغته ليريدَ منها ما تريد هي منه، مُخالفًا لإرادته، وإرادة ربه، والله غالبٌ على أمره. قال في "الكشاف": كأنَّ المعنى خادعَتْه عن نفسه؛ أي: فعلت ما يفعلُ المُخادِعُ لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده، وهو يحتال أن يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، اهـ.
﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾؛ أي: وأحْكَمَتْ إغلاق بابِ المخدعَ الذي كَانَا فيه، وباب البهو الذي يكون أمامَ الغُرَفِ في بيوت العظماء، وباب الدار الخارجيِّ ورُبَّما كان هناك غيرُها ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾؛ أي: وقالَتْ: هلم أقْبِلْ وزيدت كلمةٌ ﴿لَكَ﴾ لبيان المخاطب كما يقولونَ سقيًا لك، ورَعْيًا لك. وهذا الأسلوب هو الغاية في الاحتشام في التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراءٍ، وتهييج مما تقتضيه الحالُ، وما نُقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب فمثل هذا لا يُعْلَمُ إلا من الله، أو من الرواية الصحيحة عنها، أو عنه، ولا يستطيع أن يدَّعِي ذلك أحدٌ. وقرأ (١) نافع وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر: ﴿هَيْتَ﴾
وانتصب ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ على المصدر بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: أعوذ باللهِ سبحانه وتعالى؛ عياذًا مما تدعينني إليه، وألْتَجِىء إليه، وأعْتَصِمُ به مما تريدين مني من فعل السوء فهو يعيذني أن أَكُون من الجاهلين، كما سيأتي من قوله: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وجملة: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقربُ إلى فهم امرأة العزيز، والضميرَ للشأن؛ أي: إنَّ الشَّأْنَ والحالَ ربي وسيِّدِيّ، ومالك رقبتي يعني العزيزَ قد أحسن معاملتي في إقامتي عندك، وأحسن مثوايَ، وإقامتي حيث أمرك، وأوصاك بقولهِ: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ فكيف أخونه في أهله، وأجيبُك إلى ما تريدين من ذلك، فلا أجزيه على إحسانه
وفي هذا إيماء (١) إلى الاعتزاز بربه، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضمر نار الغيظ في صدرها. وقرأ (٢) أبو الطفيل والجحدري: ﴿مثوي﴾ كما قرأ: ﴿يا بشرى﴾ وما أحسنَ هذا التنصل من الوقوع في السوء، استعاذَ أولًا بالله الذي بيده العصمةُ وملكوتُ كل شيءٍ. ثم نبَّه على أنَّ إحسانَ الله، أو إحسان العزيز الذي سَبَقَ منه لا يُناسِبُ أن يجازيَ بالإساءة. ثمَّ نفَى الفلاح عن الظالمين، وهو الظفر، والفوز بالبغية، فلا يناسب أن أكون ظالِمًا أضع الشيء في غير موضعه، وأَتَعَدَّى ما حَدَّه الله تعالى لي.
٢٤ - ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد همَّتْ زُليخًا بيوسف عليه السلام، وقصدَتْ مخالطةَ يوسف، ومجامَعَتَهُ إياها؛ أي: قَصدَتْها (٣) وعَزَمَتْ عليها عَزْمًا جازمًا، بَعدما باشرَتْ مَباديها من المراودة، وتغليق الأبوابِ، ودَعْوته إلى نفسها بقولها: هَيْتَ لك، ولعلَّها تصدَّتْ هنالك لأفعال أُخَر من بَسْطِ يدِهَا إليه، وقَصْد المعانقة، وغير ذلك مما يضطره إلى الهرب، نحو الباب، والتأكيدُ لِدَفْعِ ما عسى يتوهم من اختصاص إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته من
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى﴾ يوسفُ وعلِمَ وأيقن ﴿بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؛ أي: حُجَّةَ ربه، وأدلّتَه الدالة على كمال قُبْحِ الزنى. والمراد برؤيته لها: كمال إيقانه ومشاهدته لها مشاهدة واصلةً إلى مرتبة عين اليقين، التي تتجلَّى هناك حقائق الأشياء بصورها الحقيقية. وجوابُ لولا محذوف تقديره: لولا مشاهدتُه وعِلْمُه بُرْهانَ ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجِبْلّي فوقَع في الزنا، لكنه حيثُ كانَ البرهانُ الذِي هو الحكم والعلم حاضرًا لديه حُضورَ من يراه بالعين، فلم يَهُمَّ به أصلًا. ومن المعلوم أنَّ (لولا) حرف امتناع لوجود، فالمعنى امتنع وانتفى جِماعُه لها، لوجود رؤيته البرهان. وفي "السمين" المعنى: لولا رؤيته برهانَ رَبِّهِ لهَمَّ بها، لكنه امتنع همه بها لوجود رؤية ربه، فلم يَحْصُلْ منه هم ألبتة كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك فالمعنى: إنَّ الإكرامَ امتنع لوجود زيد. وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يُورد هنا، وهو كيف يليق بنبيٍّ أن يهُمَّ بامرأة، اهـ.
والحاصل (٢): أن هذا البرهانَ عندَ المحققينَ المثبتينَ لعصمة الأنبياء هو حُجَّةُ الله تعالى في تحريم الزنا، والعِلْمُ بما على الزاني من العقاب. أو المرادُ
(٢) المراح.
وقيل: إن البرهانَ النبوةُ المانعة من إتيان الفواحش. وقيل: إنه عليه السلام رأى مكتوبًا في سقف البيت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ وأمّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف، فقالوا: إنه رَأى يعقوب عاضًّا على إبهامِه، أو هَتَفَ هاتفٌ، وقال له: لا تَعْمَل عمل السفهاء، واسمك في ديوان الأنبياء، أو تمثل له يعقوب فضَرَبَ في صدره، فخَرَجَتْ مَنِيُّه من أنامله. وقيل: غير ذلك مما يطولُ ذِكرُه.
والحاصل: أنه رأى شيئًا حال بينه وبين ما همَّ به.
وعبارة المراغي هنا: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾؛ أي (١): ولقد همَّت بأن تبطِشَ به إذا عصَى أمرَهَا، وخالف مُرادَها، وهي سيدتُه وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكُلَّما أَلَحَّتْ عليه ازدَاد عتُوًّا واستكبارًا معتزًّا عليها بالديانة، والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده، وهو سيدها ولا عِلاجَ لهذا إلا تذليله بالانتقام. وهذا ما شرَعَتْ في تنفيذه أو كادَتْ بأَن همَّتْ بالتنكيل به.
﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؛ أي: ولكنه رَأى من ربه في سريرة نفسه ما جَعَلَهُ يمتنع من مُصاولَتِها، واللُّجوء إلى الفرار منها.
والخلاصة: أنَّ الفارق بين همِّها وهَمِّه أنها أرادت الانتقامَ منه شفاء لِغَيْظِها إذ فَشَلَتْ فيما تريدُ، وأهينَتْ بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادَتْ، وأراد هو الاستعداد للدِّفاع عن نفسه، وهَمَّ بها حين رأى أَمارَةَ وُثُوبِهَا عليه، فكان مَوقفهما موقف المواثَبةِ والاستعداد للمضاربة، ولكِنَّهُ رأى منْ برهان ربه وعِصْمَتِه ما لم تَرَ مِثله؛ إذ ألهمه أنَّ الفرارَ من هذا الموقف هو الخير الذي به تتمُّ حكمته فيما أعده له، فاستبقا بابَ الدارَ، وكانَ من أمرِهِمَا ما يأتي بيانه فيما بَعْدُ.
وَيرَى غَيْرُهم من المفسرين أنَّ المعنى أنها همَّتْ بفعل الفاحشة، ولم يكن لها معارض، ولا ممانع، وهم هو بمثل ذلك، ولولا أنْ رأى برهان رَبّه لاقْتَرَفها. وقد فنده بعض العلماء لوجوه (١):
١ - أنَّ الهَمَّ لا يكون إلَّا بفعل للهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تَهُمَّ به، وإنما نَصِيبُها منه قبولهْ مِمَّنْ يطلبه منها بتمكينه منه.
٢ - أنَّ يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمَّى قبولها لطلبه، ورضاها بتمكينه همًّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئه من ذلك بل مِن وسائله ومقدماته.
٣ - أنه لو وَقَعَ ذلك لوجب أن يقال: ولقد همَّ بها وهمَّتْ به؛ لأنَّ الهمَّ الأُولَى هو المقدم بالطبع، وهو الهم الحقيقيُّ، والهم الثاني متوقِّفٌ عليه.
٤ - أنه قد عَلِم من هذه القصة أنَّ هذه المرأةَ كانت عازمة على ما طلبته طلبًا جازمًا، ومصرةً عليه، فلا يصح أن يُقَالَ: إنها همَّتْ به، إذ الهمُّ مقاربةُ الفعل المتردد فيه، بل الأنسبُ في معنى الهمِّ هو ما فسَّرْناه به أوَّلًا وذلك لإرادة تأديبه بالضَّرْبِ، انتهت.
والإشارة في قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى الإراءة المدلول عليها بقوله: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك، وهذه الكاف مع مجرورها في محلِّ نصب بفعل محذوف، واللامُ في قوله: ﴿لِنَصْرِفَ﴾ متعلقة بذلك المحذوف، والتقدير: أَريناه مثلَ ذلك الإراءَةِ أو ثَبَّتْنَاه مثلَ ذلك التثبيت. ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ﴾؛ أي: عن يُوسُفَ وندفَع عنه ﴿السُّوءَ﴾؛ أي (٢): مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾؛ أي: الزنا. وقيل (٣): السوء كل ما يَسُوؤُه، والفحشاء كل
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
وفي هذه الجملة (١) آيةٌ بَيِّنَةٌ وحجة قاطعة على أنه لم يقع منه هَمٌّ بالمعصية، ولا توجُّهٌ إليها قط، وإلا لقِيلَ: لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجَّه إليه ذلك من خارج، فصرفه تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة، والعصمة كما في "الإرشاد". وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ تعليل لما قبلها؛ أي: صَرَفنا عنه السوءَ والفحشاءَ؛ لأنَّ يُوسُفَ عليه السلام من جملة عِبَادِنا الذين أخْلَصناهم لطاعتنا، بأن عَصَمْنَاهُم مما هو قادح فيها.
وفي هذا دليل على أنَّ الشَّيطانَ لم يجد إلى إغوائه سبيلًا، ألا ترى إلى قوله: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾ قال في "بحر العلوم". واعلم أنه تعالى شهد ببراءته من الذنب، ومَدَحه بأنه من المحسنين، وأنه من عباده المخلصين، فوَجَبَ على كل أحد أن لا يتوقَّفَ في نزاهته، وطهارة ذيله، وعِفَّته وتثبته في مواقع العثار.
قال الحسن: لم يَقُصَّ الله تعالى عليكم ما حكى من أخبار الأنبياء تعْييرًا لهم، لكن لئلا تَقنَطُوا من رحمته؛ لأنَّ الحُجَّةَ للأنبياء ألزم، فإذا قبلت توبتهم، كان قبولها من غيرهم أسْرَعَ.
وعدَمُ ذكر توبة يوسف دليلٌ على عدم معصيته؛ لأنه تعالى ما ذكر معصيةً عن الأنبياء، وإن صَغُرت إلا وذكر تَوبتَهم واستغفارَهم منها كآدم ونوح، وداود، وإبراهيم، وسليمان، عليهم السلام.
وقرأ الأعمش: ﴿ليُصْرفَ﴾ بياء الغيبة عائدًا على ربه. وقرأ العربيان: أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير: ﴿المخلِصين﴾ إذا كان فيه أن حيث وَقَع في القرآن بكسر اللام؛ أي: الذين أخلصوا دِينَهم، وعَمَلَهم لله تعالى. وقرأ باقي
٢٥ - ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾؛ أي: تسابق يوسُفُ وزليخا إلى الباب البراني الذي هو المخرج من الدار، ولذلك وَحَّدَ بعد الجمع فيما سلف. وفي الكلام حذف حرف الجر، وإيصال الفعل إلى المفعول، والأصل تَسابَقا إلى الباب، أو ضُمِّن الفعلُ معنى فعل آخر يتعدَّى بنفسه كابتدار الباب. وهذا الكلام متصل بقوله: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ وما بينَهُما اعتراض، أمَّا يُوسُفُ فلِلفرار منها، وأمَّا هي فلتَصُدَّه عن الفتح والخروج؛ أي: تسابقا إلى الباب، ففَرَّ يوسف من أمامها هاربًا إليه، طالبًا النجاة منها مرجحًا الفرارَ على الدفاع الذي لا تُعْرَفُ عاقبته وتبعته هيَ تبغي إرجاعه حتى لا يَفْلتَ من يدها، وهي لا تَدْرِي إذا هو خرَج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقولُ، ولا ما يفعل لكنها أدركته.
﴿و﴾ جذبته بردائه و ﴿قدت﴾؛ أي: شقَّت ﴿قَمِيصَهُ﴾؛ أي: قميص يوسف ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ وخَلْفِه فانشق طُولًا نصفين، وهو القَدُّ كما أنَّ الشَّقَّ عرضًا هو: القط؛ أي: جذبَتْ قَمِيصَه من ورائِهِ فانْشَق إلى أسفله، وأكثر ما يُستعمل القد فيما كان طُولًا. والقط بالطاء فيما كان عرْضًا وقَعَ ذلك منها عندما فَرَّ يُوسُفُ لمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبه، فأرادت أن تَمْنَعَهُ من الخروج بجذبها لقميصه. ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾؛ أي: وَجَدا زوْجَها ﴿لَدَى الْبَاب﴾؛ أي: عند الباب البراني مقبلًا ليدخُلَ أو كان جالسًا مع ابن عمٍّ لزليخا يقال له: يَمْليخا.
وقد كان النساء في مصر يلقَّبْنَ الزوجَ بالسيد، وإنما لم يَقُلْ سَيِّدَهُما، لأنَّ مِلْكَهُ لِيُوسُفَ لم يكن صحيحًا، فلم يكن سيدًا له؛ لأن استرقاق يُوسُفَ غير شرعي. وهذا كلامُ ربه العلم بأمره، لا كلام من اسْتَرَقَّه.
وقوله: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مُقدَّرٍ، فكأنه قيل: فماذا وَقَع منهما عندما ألفيا سيدها لدى الباب؟ فقيل:
١ - إيهام زوجها أنَّ يوسفَ قدِ اعتدى عليها بما يسوؤها ويسوؤه.
٢ - أنَّها لم تصرح بجرمِهِ حتى لا يشتد غضبه، ويَقْسو في عقابه، كأن يبيعه أو يُقْصِيه عن الدار، وذلك غير ما تريد.
٣ - أنها هدَّدَتْ يُوسُفَ وأنذرته بما يعلم منه أن أَمْرَهُ بِيَدِها ليخضع لها ويُطِيعَها.
٤ - أنها قالت: إلا أن يُسْجَن والمراد منه: أن يُسْجَنَ يومًا أو أقلَّ على سبيل التخويف فحسبُ، أما الحبس الدائِمُ، فكان يقال فيه: يجب أن يُجْعَلَ من المسجونين ألا ترى أنَّ فِرْعَوْنَ حينَ هَدَّدَ موسى قال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾.
وجملة القول في هذا: أنَّ يوسف عليه السلام كَانَ قوي الإرادة لا يمكن غَيْرُه أن يحتال عليه، ويَصْرِفَه عن رأيه، ويجعلَه خاضعًا له، ومن ثم لم تستطع امرأةُ العزيز أن تُحوِّل إرادتَه إلى ما تريد بمراودتها، ولا عَجَب في ذلك فهو في وِراثتِه الفطرية، والمكتسبة، ومقام النبوة عن آبائه الأكرمينَ، وما اختصَّه به ربه من تربيته، والعناية به، وما شهد له به من العرفان، والإحسان، والاصطفاء، وما صَرَفَ عنه من دواعي السوء، والفحشاء في مكان مكين، وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوروه به من
ثم قال العزيزُ لزليخا: من أراد بأهلي سوءًا، قالت زُليخا: كنت نائمةً في الفراش، فجَاءَ هذا الغلام العبراني، وكشف عن ثيابي، وراودني عن نفسي، فالتفت العزيز إلى يُوسُفَ وقال: يا غلام هذا جزائي منك حيث أحسنت إليك، وأنت تحزنني
٢٦ - ﴿قَالَ﴾ يوسف دَفعًا عن نفسه، وتنزيهًا لعرضه ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾؛ أي: طالبتني للمواقعة لا أني أردت بها سوءًا كما قالت؛ أي: هي طلبتني فامتنعتُ، وفرَرَتُ كما ترى.
ولم يَقُل هذه ولا تلك لفرط استحيائه، وهو أدبٌ حسن، حيث أتى بلفظ الغيبة، ولم يكن يوسف يريد أن يهتكَ سَتْرَها، ولكن لما لَطَّخَتْ عرضه احتاجَ إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، فصرَّحَ بالأمر فقال: هي طَالَبَتْنِي لِلمُواتَاة. وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه:
١ - أن يوسف كَانَ مولى لها، وفي مَجْرى العادة: أنَّ المولى لا يجرؤ أن يتسلَّط على سيدته، ويَتَشدَّد إلى مثل هذا.
٢ - أنهم رَأوا يُوسُفَ يعدو عَدْوًا شديدًا ليخرجَ، ومن يطلب امراْةً لا يَخْرُجُ على هذا النحو.
٣ - أنهم رأَوا الزينة قد بدَتْ على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجهِ يوسف.
٤ - أنهم لم يشاهدوا من أخلاق يُوسُفَ في تلك الحقبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة، أو يقوِّي الظنَّ عليه بأنه هو الطالبُ لا الهاربُ.
وقد أظهر الله تعالى لبراءته ما يقوِّي تلك الدلائل الكثيرةَ التي تظاهَرَتْ على أن بدء الفتنة كانت منها لا منه، وأنها هي المذنبة لا هو.
واستدلَّ على أنَّ هذا الشاهدَ كانَ صبيًّا في المهد بما نقل عن ابن عباس، رضي الله عنه، أن النبي - ﷺ - قال: "تكلَّم أربعةٌ وهم صغار، ابنُ ماشطة بنت فرعون، لَمَّا أَسْلَمَتْ، أخبرتَ البنت أباها بإسلامها، فأمر بإلقائها، وإلقاء أولادها في النقرة المتخذة من النحاس المحماة، فلما بلغت النوبة إلى آخر ولدها، وكان مُرْضَعًا قال: اصبري يا أماه فإنك على الحق، وشاهد يوسف، وصاحبُ جُريج، وعيسى بن مريم".
وبما روى عن أبي هريرة قال: عيسى بن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جريجّ، تكَلَّموا في المهد. وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، والأول قد ضعفه رجال الحديث، إلا أنه لو نطَقَ الطفل بهذا لكان قولُه كافيًا في تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص؛ لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه في المهد من الدلائل اليقينية، وأيضًا لو كانَ كذلك لما كان هناك داعٍ إلى قوله: ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ الذي ينفي التحاملَ عليها، ويمتنع إرادة الضر بها. وأيضًا، فإن لفَظَ الشاهد لا يقع عُرْفًا إلا على من تقدَّمَتْ معرفته لما يَشْهَدُ وإحاطته به.
أي: وشهد شاهد من أهلها، فقال: أيها العزيز: إن عندي في أمرك هذا ما لَك فيه فرَجٌ ومخرجٌ، انظر إلى قميص الغلام العبرانيِّ ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾؛ أي: شقَّ من قدام ﴿فَصَدَقَتْ﴾؛ أي: فقد صدقت المرأة {وَهُوَ مِنَ
٢٧ - ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾؛ أي: من خلف ﴿فَكَذَبَتْ﴾؛ أي: فقد كذبت المرأة في دعْواها ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في قوله: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي﴾ لأنه يدل على أنَّها تَبِعَتْهُ فاجتذَبَت ثَوْبَهُ فقدَّتْه، وقوله (١): ﴿وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ جملتان مؤكدتان لأنَّ من قوله: ﴿فَصَدَقَتْ﴾ يعلم كذبه، ومن قوله: ﴿فَكَذَبَتْ﴾ يعلم صدقه، وفي بناءِ "قُدَّ" للمفعول ستر على مَنْ قَدَّه. وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف ﴿قُطَّ من دبر﴾ أي شُقَّ. وقال ابن عطية: وقرأت فرقة ﴿قُطّ﴾. وقرأ زيد بن علي: ﴿أو عذابًا أليمًا﴾ وقدره الكسائي أو يعذُّب عَذابًا أليمًا. وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ قُبُلٍ﴾ و ﴿مِنْ دُبُر﴾ بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بتسكينها، وبالتنوين وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجارود بن أبي سَبْرة بخلاف عنه: ﴿من قبل ومن دبر﴾ بثلاث ضمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضًا في رواية عنهم بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوهما غايةً نحو من قبل، ومعنى الغَايَةِ: أن يصيرَ المضاف غايةَ نَفْسِهِ بعدما كان المضاف إليه غَايَتَه. والأصل: إعرابهما لأنهما اسمان متمكنان، ولَيْسا بظرفين. وقال أبو حاتم: هذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: والمعنى: مِنْ قُبُل القميص ومن دُبره. وأما التنكير فمعناه: من جهة يقال لها: قبل، ومن جهة يقال لها: دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: ﴿من قبل ومن دبر﴾ بالفتح كأن جعَلَهُما عَلَمين للجهتين، فَمَنَعهما الصرفَ للعلمية والتأنيث.
والمعنى (٢): أي وحَكم ابن عم أو خال لها مستدلًّا بما ذكر، وكان عَاقِلًا حَصيفَ الرأي، فقال: قد سَمِعْنَا جلبةً وضوضاء، ورأينا شق القميص، إلا أنا لا ندري أيكما كان قُدَّامَ صاحبه، فإن كان شق القميص من قُدَّام فصدقت في دعواها، أنه أراد بها سوءًا؛ إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت
(٢) المراغي.
٢٨ - ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ العزيز ﴿قَمِيصَهُ﴾ أي: قميص يوسف ﴿قُدَّ﴾ وشق ﴿مِنْ دُبُر﴾؛ أي: من وراءَ وخلف، وعلم براءة يوسف وصدقه ﴿قَالَ﴾؛ أي: العزيز ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنَّ الأمر الذي وقع فيه التشاجر ﴿مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾؛ أي: من جنس حيلتكنَّ ومكركن أيها النساء، لا من غيركن، فخَجَلَتْ زليخا، وتعميم الخطاب للتنبيه على أنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ لهن عريق ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ﴾ ومَكْرَكُنّ يا معشرَ النساء ﴿عَظِيمٌ﴾ فإنه ألصق، وأعْلَقُ بالقلب، وأشد تأثيرًا في النفس؛ أي: من كيد الرجال؛ لأنَّ لهن في هذا الباب من الحِيَلِ ما لا يكون للرجال، ولأنَّ كَيْدَهُنَّ في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولأنَّ الشيطان يوسوس مسارقة، وهن يواجههن به الرجال، فالعظم بالنسبة إلى كيد الشيطان.
وقال بعض العلماء: إنّي أخاف من النساءِ ما لا أخاف من الشيطان، فإنه تعالى يقول: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ وقال للنساء: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾. وإنما وَصَف كَيْدَ النِّساءِ بالعِظم، وَكَيد الشيطان بالضَّعْفِ؛ لأن كَيْدَ النساء أقوى بسبب أنهن حبائل الشيطان، فكيدهن مقرونٌ بكيد الشيطان فهما كيدان، بخلاف كيد الشيطان دونهن فكيد واحد.
والمعنى (١): أي فلمَّا نظر العزيز إلى القميص، ورأَى الشقَّ من الخلف أيقَنَ بصدق قوله، واعتقد كَذِبَها، وقال: إن هذا محاولة للتنصل من جُرْمِهَا باتِّهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء، فهو سنة عامة فيهن، فهن يجتهدن في التبري من خطاياهن، ما وجدن إلى ذلك سبيلًا، وكيد النساء عظيم، لا قبَلَ للرجال به، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفَعُوها قدر المستطاع، ولا شك أنَّ هذه شهادة من
٢٩ - ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله: يا ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ الأمر الذي جَرَى، واكتمه، ولا تتحدث به حتى لا يشيع فيعيروني. ثم أقبلَ عليها بالخطاب فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرِي﴾ أنتِ يا زليخا ﴿لِذَنْبِكِ﴾ الذي صدر منك وثَبَتَ عليك؛ أي: توبي إلى الله تعالى ممَّا رَمَيْتِ يُوسُفَ به وهُو بريء منه. فإنْ قلت: إنَّهم قوم مشركون، فلا يعرفون ذَنْبَهُم مع خالقِهِم، فما الذنب الذي يطلب منه الاستغفار؟ أُجِيبَ: بأن المرادَ بالذنب خِيَانتها لزوجها.
﴿إِنَّكِ كُنْتِ﴾ بسبب ذلك ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾؛ أي: من جملة القوم الذين تَعَمَّدُوا للخطيئة والذنب، يقال: خطىء إذا أذنب عَمْدًا.
والجملة (١): تعليل لما قَبْلَها من الأمر بالاستغفار، ولم يقل من الخَاطِئَات تغليبًا للمذكر على المؤنث كما في قوله: ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾. وقيل: إن القائلَ لِيُوسُفَ ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حَكَمَ بينهما.
والمعنى (٢): أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذا الكيد، الذي حصل، ولا تتحدَّثْ به كي لا ينتشر أمرُه بين الناس، ولا تَخَفْ من تهديدها، وكيدها لك، وأنتِ أيتها المرأة توبي إلى ربك واستغفري لذنبك، إنك كنت من زمرة المجرمين، الذين يتعمدون ارتكابَ الخَطايا، ويجترحُون السيئات، وهم مُصِرُّون عليها. قيل (٣): وَكَان العزيز رَجُلًا حَلِيمًا فاكتفى بهذا القدر في مؤاخذتها. وقيل: إنه كانَ قليلَ المغيرة بل قال في "البحر": إنَّ تُرْبَةَ مصر تقتضي ذلك، ولهذا لا يَنْشأُ فيها الأسد، ولو دَخَل فيها لا يَبْقى. ورُوي أنَّه حَلَفَ أن لا يدخل عليها إلى أربعين يومًا، وأخرج يوسف من عندها، وشغله في خِدْمَتِه وبقِيَتْ زُليخا لا تَرَى يُوسُفَ.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وهذا كلام يقال (٣) للإنكار والتعجب منْ حصوله لوجوه عدَّة:
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٢ - أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
٣ - أنها قد بَلَغَ بها الأمر أنْ جادَتْ بعفتها، فكانت هي المراوِدة، والطالبةُ لا المراوَدةَ المطلوبة.
٤ - أنها وقد شاع ذكرا في المدينة، لم ينثن عزمها عمَّا تريد بل لا تزال مجدَّةً في نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها كما يفيد ذلك قولن: ﴿تُرَاوِدُ﴾ وهو فعل يدل على الاستمرار في الطلب.
ثم أكدن هذا الإنكارَ بقولهن: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾؛ أي: قد شَقَّ (١) فتاها شِغَاف قلبها من جهة الحب، والشغاف: جلدة محيطة بالقلب، يقال لها غلاف القلب.
والمعنى (٢): أنَّ حبه دَخَلَ الجلدةَ حتى أصاب القلبَ، وقيل: إن حُبَّه قد أحاط بقلبها، كإحاطة الشغاف بالقلب.
وقال الكلبي: حَجَبَ حبه قَلْبَها حتى لا تَعْقِلَ شيئًا سواه.
والمعنى: أي قد شَقَّ حبه شغاف قلبها؛ أي: غِلافَهُ المحيط به، وغاصَ في سويدَائِه فَمَلَكَ عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها، ولا بما يصيرُ إليه حالها. وقرأ (٣) ثابت البناني: ﴿شغِفها﴾ بكسر الغين المعجمة، والجمهور بفتحها. وقرأ الحسن: ﴿قد شغُفها﴾ بضم الغين المعجمة كما ذكره الشوكاني. وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمَّد بن علي، وابنه جعفر بن محمَّد، والشعبي، وعوف الأعرابي بفتح العين المهملة، وكذلك قتادةُ، وابن هرمز، ومجاهد، وحميد، والزهرى بخلاف عنهم.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين المعجمة في الحبِّ، والشعف الجنُونُ، والمشعوف المجنون. وأدْغَمَ النحويان أبو عمرو، والكسائي، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دَالَ (قَدْ) في شين (شَغَفَها). ثم زدنَ ذلكَ تأكيدًا بقولهن: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في خطأ بينٍ ظاهرٍ، حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفافِ، والستر وأحبَّت فتاها؛ أي: إنا لنعلم أنها غَائِصَة في مَهَاوِي الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدى والرشاد. ولم يكن قولهن هذا إنكارًا للمنكر، ولا كرهًا للرذيلة، ولا نصرًا للفضيلة، بل قلنه مَكْرًا وحيلةً ليصل الحديث إليها، فيَحْمِلها ذلك على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن، ما يكون فيه معذرة لها، فيما فعلتْ، وذلك منهن مَكْر ولا رأيٌ، وقد وصلنَ إلى ما أردْنَ. وهذه الجملة (١) مُقرِّرَة لمضمونِ ما قبلها.
والمعنى: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا﴾ أي: نَعْلَمُها في فعلها هذا، وهي المراودة لفتاها ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ عن طريق الرشد والصواب، ﴿مُبِين﴾؛ أي: واضح لا يلتبس على مَنْ نظَر فيه، وإنما لم يقلْنَ (٢): إنها لفي ضلال مبينٍ إشعارًا بأنَّ ذلكَ الحكمَ غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم، ورأي، مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، ولذا ابْتَلاهن الله تعالى بما رَمَيْنَ به الغيرَ؛ لأنه ما عَيَّر واحد أخاه بذنب إلَّا ارتكبه قبْلَ أن يَمُوتَ.
٣١ - ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ﴾ امرأة العزيز ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾؛ أي: باغتيابهن إياها، وسوءِ قولهن، وقولهن: امرأة العزيز عَشقَتْ عبدها الكِنعانِيَّ، وهو مَقَتَها. وسميت الغيبة مكرًا لاشتراكهما في الإخْفاءِ. ﴿أَرْسَلَتْ﴾ امرأة العزيز ﴿إِلَيْهِنَّ﴾؛ أي: إلى نسوة المدينة تدعوهن للضيافة إكرامًا لهن، ومكرًا بهن، ولتُعْذَر في يوسف، لعلمِها أنهن إذا رأينَهُ دهشن وافتتنَّ به. قيل: دَعَتْ أربعين امرأةً، منهن الخَمْس المذكوراتُ.
(٢) روح البيان.
وهذا إنْ (١) قُرِىءَ: مُتَّكَأً بالتشديد، فإن قرئ بالتخفيف مُتْكَأً، كان معناه: الأترج أو الزماورد بالضم، وهو طعام من البيض واللحم، معرب كما سيأتي في مبحث القراءة؛ لأنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام، والشراب، والحديث. ﴿وَآتَتْ﴾؛ أي: أعطَتْ ﴿كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ﴾؛ أي: من تلك النسوة الحاضرات ﴿سِكِّينًا﴾ لأجل أكل الفاكهة واللحم؛ لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم، وكانت تِلْكَ السَّكَاكِين تسمَّى خناجرَ. ﴿وَقَالَتِ﴾؛ أي: زليخا ليوسف وهنَّ مشغولات بإعمال الخناجر في الطعام ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: أبرز لهن، ومرَّ عليهن، فإنَّ يوسُفَ عليه السلام ما قَدر على مخالفتها خوفًا منها.
وحاصل المعنى: أي فلمَّا (٢) سمعت مقالتَهن التي يردنَ بها إغضابَها حتى تريَهُنَّ يُوسُفَ إبداء لمعذرتها فيسألن ما يَبْغِينَ من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تَسْمَعَ ذلك لما اعتيدَ بَيْنَ الخَدم من التواصل والتزاور وهن ما قلنَه إلا لتَسمَعه، فإنْ لم يَتمَّ لهن ما أردن احتلن في إيصاله، وقد كان ما أرَدْنَ كما قال: ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾؛ أي: مَكَرت بهن كما مكرن بها، ودعتْهُنَّ إلى الطعام في دارها، وهيأت لهن ما يتكئنَ عليه من كراسي، وأرائكَ كما هو المعروفُ في بيوت العظماء. وكان ذلك في حجرة المائدة، وأعطت كلَّ واحدة منهن سكينًا، وخَنْجرًا، لِتَقْطَعَ بها ما تأكل من لحم وفاكهة. ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: وأمرته بالخروج عليهن.
وفي هذا إيماء إلى أنه كان في حجرة في داخل حجرة المائدة التي كنَّ فيها محجوبًا عنهن، وقد تَعَمَّدَتْ إتْمامًا للحيلَةِ والمكر بهن أن يفجأهُنَّ، وهن
(٢) المراغي.
وقد تم لها ما أرادَتْ كما يُشير إلى ذلك قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ هذا مرتَّب على محذوف تقديره: فَخَرج عليهن فلما رأينه أكبرنه؛ أي: فلمَّا رأتِ النسوة يوسفَ أكبَرْنَه؛ أي: أعظمنَ (١) يُوسُفَ ودهشن عند رؤيته من شدَّةِ جماله، وكان يوسُف قد أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن.
وقال عكرمة: كان فَضْلُ يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "رأيت ليلة أُسْرِيَ بي إلى السماء، يوسفَ كالقمر ليلةَ البدر" ذكر البغوي بغير سند.
وقيل (٢): معنى: أكبرن؛ أي: حِضْنَ، والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام؛ أي: حِضْنَ له من شدة الشَّبَقِ، وأيضًا إنَّ المرأة إذا فَزِعَت فربما أسقطَتْ ولدَها، فحاضَتْ ويقال: أكبرت المرأة؛ أي: دخلَت في الكبر، وذلك إذا حاضَتْ لأنها بالحيض تَخرُج من حَدِّ الصغر إلى الكبر.
وقال الإِمام فخر الدين الرازي: وعندي أنه يحتمل وجهًا آخرَ، وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأيْنَ عليه نُورَ النبوة، وسِيمَا الرسالة، وآثارَ الخضوع والإخبات، وشاهدن فيه مهابةً وهيبةً ملكيةً، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح، وعدم الاعتداد بهن، وكان ذلك الجمالُ العظيم مقرونًا بتلك الهيبة والهيئة، فتعجبن من تلك الحالة، فلا جَرَمَ أكبرنَه، وأعظمنه، ووقع الرعب والمهابة في قلوبهن. قال: وحمل الآية عى هذا الوجه أولى، انتهى.
﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؛ أي: جرحن أيديهن حتى سال الدَّمُ، ولم يَجِدْن الألمَ لفرط دهشتهن، وشغل قلوبِهِنَّ بيوسف؛ أي؛ فلمَّا رأينه أعظمنه فقطَّعْنَ أيديَهُنَّ بدلًا من تقطيع ما يأكلن ذهولًا عمَّا يعملن؛ أي: فجرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن، وخُرُوج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لا
(٢) المراح.
ولم تقطع (١) زليخَا يديها؛ لأنّ حَالَها انتهت إلى التمكين في المحبة، كأهل النِّهايات، وحال النسوة كانت في مقام التَّلْوين كأهل البِدايات، فلكل مقام تَلَوُّنٌ وتمكنٌ وبداية ونهاية.
﴿وَقُلْنَ﴾؛ أي: النِّسْوَةُ ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: تنزيهًا، وبراءة لله سبحانه وتعالى من كل النقائص. وحَاشَ كلمة وُضِعَتْ موضِعَ المصدر، فمعناه التنزيه، والبراءةُ بدليل قراءة أبي السماك: حاشًا لله بالتنوين واللام لبيان المبرأ، والمنزه كما في ﴿سقيًا لك﴾. ﴿مَا هَذَا﴾ الغلام ﴿بَشَرًا﴾؛ أي: ليس هذا آدميًّا مثلنا؛ لأن من الجمالَ غيرُ معهود للبشر ﴿إِنْ﴾ نافية بمعنى ما؛ أي: ما ﴿هَذَا﴾ الغلام ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ على الله فإن (٢) الجمعَ بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمةِ البالغةِ من خواصِّ الملائكة، أو لأنَّ جَمَالَهُ فوقَ جَمَال البشر، ولا يَفُوقه فيه إلا المَلَكُ، وقَصَرْنَهُ (٣) على الملكِيَّة مع علمهن أنه بشر؛ لأنَّه ثَبَتَ في النفوس أنه لا أكمل ولا أحسن خلقًا من المَلَك، يعني رَكَزَ في العقول أن لا حيَّ أحسنَ من الملك، كما ركزَ فيها أن لا أقبح مِنَ الشيطان. ولذلك لا يزال يشبَّه بهما كل متناه في الحسن والقبح، وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال.
وروي أنه كان يُوسُفُ إذا مشى في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه، كما يُرى نور الشمس من السماء عليها، وكان يُشْبِهُ آدمَ يوم خلقه ربه؛ وكانت أمه رَاحِيلُ وجدَّتُه سَارَة جميلتين جدًّا.
أي: وقلن على سبيل (٤) التعجب والتنزيه لله تعالى، ما صَحَّ أن يكونَ هذا الشخص الذي لم يُعْهَد مثاله في جماله، وعفَّتِه من النوع الإنساني إن هو إلَّا
(٢) البيضاوي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
رُوِيَ عن زيد بن أسلم من مفسِّري السلف: أعطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا "ثمر من نوع الليمون الحامض كبيرٌ مستطيلٌ يؤكَلَ بعد إزالة قشرته" وعسلًا فكن يحززنَ بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلَمَّا قيل له: اخرج عَلَيْهِنَّ خَرَجَ، فلما رأينَه أعظمنه، وتَهَيَّمْنَ به حتى جعلن يحززن أيْدِيَهُن بالسكين، وفيها الترنجُ، ولا يعقلنَ ولا يحسبنَ، إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبَتْ عقولهن مما رأينَ، وقلْنَ حاش لله ما هذا بشرًا؛ أي: ما هكذا يكون البشرُ ما هذا إلا ملك كريم. وقرأ (١) الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: ﴿متَّكى﴾ مشددَ التَّاءِ من غير همز على وزن متقى، فاحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيفُ الهمز كما قالوا في توضأت: توضيتُ.
والثاني: أن يَكُونَ مفتعلًا من أوكيت السقاءَ إذا شددتَه؛ أي: ما يشتددنَ عليه إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: ﴿مُتْكًا﴾ بوزن مفعلًا من تكأَ يَتْكَأَ إذا اتَّكَأَ. وقرأ الحسن، وابن هرمز: ﴿متكاءً﴾ بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّدَتْ منها الألفُ كما قال الشاعر:
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ | الشَّائِلاَتِ عُقَدَ الأَذْنَابِ |
فأما القراءات ﴿للَّه﴾ بلام الجر في غير قراءة أبي السمال، فلا يجوز أن يكون ما قبلها مِن حَاشَى، أو حاشَ، أو حَشَى، أو حَاشَ حرف جر؛ لأنَّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرُّف فيها بالحذف. وأصل التصريف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرِّد وغيره، كابن عطية، أنه يتعيَّن فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يُوسُفَ؛ أي: حاشى يوسف أن يفارِقَ ما رَمَتْهُ به زليخا، وعلى هذا تكون اللامُ في ﴿لله﴾ للتعليل؛ أي: جانَبَ يوسف المعصيةَ لأجل طاعةِ الله. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها على المصدرية انتصابَ المصدر الواقع بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه قَالَ تنزيهًا لله، ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال: ﴿حاشا﴾ منونًا. وعلى هذا القول يتعلَّق لله بمحذوف على البيان كَلام لَكَ بعد سقيًا، ولم ينوَّن في القراءات المشهورة مراعاةً لأصله الذي نقِل منه، وهو الحرف.
وأما قراءةُ الحسن، وأبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى فاعله، كما قالوا: سبحانَ الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود، فقال أبو علي: إنَّ حاشى حرفُ استثناء، كما قال الشاعر:
حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ
انتهى. وأما قراءة حاش بالتسكين ففيها جَمْعٌ بين ساكنين، وقد ضعَّفوا ذلك. وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: ﴿ما هذا بشراء﴾ على أنَّ الباء حرف جر، والشين مكسورة، فالشراء حينئذ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ما هذا بعبد يُشْتَرى. وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله: ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ وتابَعهُما عبد الوارث عن أبي عَمْرو على ذلك، وزَادَ عليهما: ﴿إلا ملك﴾ بكسر اللام، واحد الملوك فهم نفَوا بذلك عنه ذل المماليك، وجعلوه في حيِّزِ الملوك، والله أعلم، انتهى. ونسب ابن عطية كسْرَهَا للحسن، وابن الحويرث اللذَين قرآ: ﴿بشرى﴾.
وَلاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا
﴿مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾؛ أي: من الأذلاء المقهورين في السجن، وهو من (٢) صغر بالكسر، والصغيرُ من صَغُرَ بالضم؛ أي: والله لَيَكُونَنْ يُوسُفُ من الصاغرين المهانين في السجن، فإن زوجي لا يخالف لي رغبةً ولا يَعْصِيني في أمر وسيعاقبه بما أريد؛ ويُلْقِيهِ في غَيَابَاتِ السجون، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه؛ وجعلِه كولده. وقرأت فرقة: ﴿وليكوننَّ﴾ بالنون المشددة.
(٢) روح البيان.
وفي هذا التهديد ليُوسُفَ من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بأمرها، واستعظامه لكيدها، ما كان مِنْ حقه أن يجعلَ يُوسُفَ يَخَافُ من تنفيذ إرادتها، ويثبتَ لديه عَدَم غيرته عليها، كما هو الحالُ لدى كثير من العظماء المُتْرفينَ العاجزين عن إحصان أزواجهم، والمحرومين من نِعْمَةِ الأولاد منهن، ورُبَّما تكون مُبَالَغَتُها في تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما في قَلْبها منه من غل، وجَوى بظهور كذبها، وصدقه، وتصميمِه على عِصْيَان أمرها، ولتُظْهِرَ لِيُوسُفَ أنها ليسَت في أمرها على خِيفةٍ من أحد، فتضيِّقَ عليه، ولينصَحْنَه في موافقتها، ويرشِدنَه إلى الخلاص من عذابها.
٣٣ - فلمَّا سمع يوسف مقالَتَها هذه، وعَرَف أنها عُزْمَةٌ منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز، قال مناجيًا لربه سبحانه وتعالى: ﴿رَبِّ السِّجْنُ﴾؛ أي: قال: يا ربي أنت العلم بالسر، والنجوى، والقدير، على كشف تلك البلوى؛ إنَّ دُخُولَ السجن الذي هدَّدَتْ به، والمكث في بيئة المجرمين على شَظْفِ العيش، ورقة الحال ﴿أَحَبُّ إِلَيّ﴾؛ أي: أحبُّ عندي ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾؛ أي: مما تدعو إليه أولئك النسوة في مُؤَأتَاتِها التي تؤدِّي إلى الشقاءِ، والعذاب الأليم؛ أي: من الاستمتاع بها في ترف القصور والاشتغال بحبها عن حبِّك، وبقُرْبها عن قربك. وفي قوله: ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ إيماءٌ إلى أنهن خوفنه مُخَالفَتَها، وزيَّنَ له مطاوعتَها، فقلنَ لهُ: أطع مولاتَك، وأنِلها ما تهوَى لتكفى شرَّها، وتأمَنَ عقوبتَها. إن قلتَ هو مجاب الدعوة فلِمَ طَلَب النجاة بالسِّجْنِ ولم
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ﴾؛ أي: وإنْ لم تصرف وتدفع ﴿عَنِّي﴾ يا إلهي ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ ومكرهن؛ أي: وإن لم تبعد عني شِراكَ كيدهن، وتثبتني على ما أنا عليه من العصمة ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ مجزوم على أنه جواب الشرط؛ أي: أمِلْ إلى موافقتهن على أهوائهن، وأقَعُ في شباكِ صيدهن، وأرتَعُ في حمأة غوايتهن، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه، وسلكَ سبيل المرسلينَ من قبله في فزعهم إلى مولاهم، لينيلهم الخيرات، ويُبعُدَ عنهم الشرور، والموبقات، وإظهارَهم أن لا طاقةَ لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغةً في استدعاء لطفه، وعظيم كرمه ومنِّه. ﴿وَأَكُنْ﴾؛ أي: وأصر ﴿مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾؛ أي: من الذين لا يعملون بعِلْمهم؛ لأنَّ من لا جدوى لعلمه فهو ومَنْ لا يعلم سواء؛ أي: من السفهاءِ الذين تستخِفُّهم الأهواء والشهوات، فيَجْنَحُون إلى ارتكاب الموبقات، واجتراح السيئات، فمَنْ يعِشْ بين هؤلاءِ النسوة الماكرات المترفات، لا مهربَ له من الجهل إلّا أن تَعْصِمَهُ بما هو فوقَ الأسباب، والسنن العادية. وقرىء (٤): ﴿أصب إليهن﴾ من صبب صبابةً فأنا
(٢) البحر المحيط.
(٣) البيضاوي.
(٤) البحر المحيط.
وفي هذه الجملة الشرطية إيماء إلى أنه ما صَبَا إليهن، ولا أحبَّ أن يَعِيشَ معهن، بل سأَلَ ربه أن يُدِيمَ له ما عوَّده من كشف السوء عنه في قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾.
٣٤ - ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ﴾؛ أي: فأجاب له ربُّه دعاءه، الذي تضمنه قوله: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ الخ، فإنَّ فيه التجاءً إلى الله تعالى، جَرْيًا على سننِ الأنبياء والصالحينَ في قَصر نيل الخيرات، وطلبِ النجاة من الشرور، على جناب الله تعالى، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكتُ، فكأنه قال: اللهم اصرف عني كَيْدَهن. ﴿فَصَرَفَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿عَنْهُ﴾؛ أي: عن يوسف ﴿كَيْدَهُنَّ﴾؛ أي: كيدَ تلك النسوةَ، ومكْرَهُن، وعَصَمُه من الجهل والسفه، باتباع أهوائهن حَسْبَ دعائِه، وثبَّتَهُ على العصمة والعفة حتى وطَّنَ نَفْسَه على مشقة السجن ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لدعاء مَنْ تَضرَّعَ إليه، وأخلص الدعاءَ له ﴿الْعَلِيمُ﴾ بصدق إيمانهم، وبما يُصْلِح أحوالهم. وفي هذا إرشاد إلى أنَّ ربه حَرَسه بعنايته في جميع أطواره، وشُؤُونه وربَّاه أكْمَلَ تربية، ما خَلاهُ ونَفْسَه في أهون أموره. وهذه الجملةُ تعليلٌ (١) لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه؛ أي: إنَّه هو السميع لدعوات الداعينَ له، العلم بأحوال الملتجئينَ إليه.
٣٥ - ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾؛ أي: ثم ظهر العزيز وامرأته ومَنْ يُهِمُّه أمْرهُمَا من أصحابه المتصدِّين للحل والعقد رأي، أي: ظَهَرَ لهم من الرأي ما لم يظهر لهم من قبلُ. وثُمَّ تدلُّ على تغيُّرِ رأيهم في حقه. ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ﴾؛ أي: منْ بعد أنْ رأوا الآيات، والشواهدَ الدالة على بَراءة يوسفَ وصدقه كشهادة الصبي، وقَدِّ القميص من دُبر، وقطع النساء أيديَهن، وذهاب عقولهن عند رؤيته؛ أي: ظَهَرَ
والمعنى (٣): أي ثُمَّ ظهر للعزيز وامرأتِه، ومَنْ يهمه أمْرَهُمَا كالشاهد الذي شهِدَ عليها من أهلها من الرأي ما لم يكن ظاهرًا لهم من قبلُ. بعد أنْ رأوا من الآيات ما اختبَرُوه بأنفسهم، وشهدوه بأعينهم، ممَّا يدلُّ على أنَّ يوسف لم يكن إنسانًا كالذين عرفوا في أخلاقه، وعفَّتِه، واحتقاره للشهوات، واللذات التي يَتَمتع بها سكانُ القصور.
وفي إيمانه بأنَّ ربه لن يَتْرُكَهُ بل يكلؤه بعين عنايته، ويَحْرُسَه بوافر رعايته، وقد اسْتبَانَ لهم ذلك من وجوه:
١ - إنَّ افتتانَ سيدته في مراودته وجَذْبها خَلَسات نَظَرِه لم تؤثِّر في ميل قلبه إيها، بل ظلَّ معرِضًا عنها، مُتَجَاهِلًا لها حتى إذا ما صَارَحَتْهُ بما تريد، استعاذَ
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٢ - أنها لَمَّا غَضِبَت وهمَّتْ بالبطش به، هَمَّ بمقاومتها، والبطشِ بها، ولم يمنعه إلّا ما رأى في دَخِيلةِ نفسه من برهان ربه، الذي يَدُلُّ على أنَّ ربَّه صارف السوء والفحشاء.
٣ - أنها حين اتهمته بالتعدِّي عليها شَهِدَ شاهدٌ من أهلها، أنَّها كاذبةٌ في اتهامها إياه، وهو صادقٌ فيما ادَّعاه من مراودتها إياه عن نفسه، بدلالة القميص على ذلك. كلُّ هذا أثبتَ لهم أنَّ بَقَاءَه في هذه الدار بَيْنَ رَبَّتِهَا وصَدِيقَاتِهَا مَثارُ فتنة تدرك غَايتها، وأنَّ الحِكْمَة هو تنفيذُ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره، وكَفِّ ألسنة الناس عنها في أمره، وأقسموا ليسجننه حتى حين، دُونَ تقييد بزمن معين، ليَرَوا ماذا يكون فيه من تأثير السجن، وحديث الناس عنه.
وفي تنفيذ هذا العزم، دَلالةٌ على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها، تَقُودُه كيف شاءَتْ، حتى فَقَدَ الغَيْرةَ عليها، فهو يَجري وراءَ هواها، ويستجلب رِضَاها، حتى أنساه ذلك، ما رَأَى من الآيات وعَمِلَ برأيها في سجنه، لإلحاق الهَوَان، والصَّغار به، حتى أيست من طاعته، وطَمِعَتْ في أن يذلِّلَهُ السجنُ لأمرها، ويَقِفَ به عند مشيئتِها، والله أعلم.
الإعراب
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿اشْتَرَاهُ﴾ فعل ومفعول. ﴿مِنْ مِصْر﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿أَكْرِمِي﴾ فعل وفاعل. ﴿مَثْوَاهُ﴾ مفعول به، ومضاف إليه؛ والجملة في محل النصب مقول
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لَمَّا﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿بَلَغَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿أَشُدَّهُ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿بَلَغَ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ فعل وفاعل ومفعولان. ﴿وَعِلْمًا﴾ معطوف على ﴿حُكْمًا﴾ والجملة الفعلية جواب ﴿لمَّا﴾، وجملةُ ﴿لما﴾
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
﴿وَرَاوَدَتْهُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿راودته﴾ فعل ومفعول. ﴿الَّتِي﴾ فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ﴾ مبتدأ. ﴿فِي بَيْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿راودت﴾. ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة ﴿راودت﴾. ﴿وَقَالَتْ﴾ فعل ماض والفاعل ضمير يعود على زليخا ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَيْتَ﴾ بفتح الهاء، والتاء اسم فعل أمر بمعنى أقبِلْ وتعَالَ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًّا، وفاعله ضمير يعود على يوسف، وجملة اسم الفعل في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الخطاب كائن لك، أو معكَ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. وفي "السمين": ﴿لَكَ﴾ متعلق بمحذوف على سبيل البيان، كأنها قالت: أقول لك أو الخِطابُ لك كهي، في سَقْيًا لك، ورَعْيًا لك، اهـ.
فائدة في لغات ﴿هيت﴾: وفي "الفتوحات": ﴿هَيتَ﴾ بفتح الهاء، والتاء ككيف ولَيْت و ﴿هِيْتَ﴾ بكسر الهاء وفتح التاء كقِيلَ وغِيضَ، و ﴿هَيْتُ﴾ بفتح الهاء وضم التاء، كحيثُ و ﴿هئْتُ﴾ بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وفتح التاء أو ضمها. وهذه خمسُ قراءات، وكلها سبعية، وكلُّها لغات في هذه الكلمة، وهي في كلها اسم فعل أمر بمعنى هَلُمَّ؛ أي: أقبل وتعال، اهـ شيخنا. فمن فَتَحَ التاء بناها على الفتح للتخفيف نحو: أيْنَ وكيف، ومن ضمَّها كابن كثير، فقد شَبَّهَها بحيثُ. ومَنْ كَسَرَها فعلى أصل التقاء الساكنين، اهـ "سمين". وذكر فيها قراءات أربعٌ أُخَرُ شاذة كما مرَّتْ في مبحث القراءة.
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿هَمَّتْ﴾ فعل ماض، وفاعلُه يعود على زليخا. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية جوابُ القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القَسمِ مستأنفة. ﴿وَهَمَّ﴾ فعل ماض. ﴿بِهَا﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة ﴿هَمَّتْ﴾. ﴿لَوْلَا﴾ حرف امتناع لوجود. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿رَأَى﴾ فعل ماض وفاعله ضمير على يوسف، ﴿رَأَى﴾ بصرية. ﴿بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، وجملة ﴿رَأَى﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه، والخَبرُ محذوف وجوبًا، تقديره: موجودة، وجوابُ ﴿لولا﴾ محذوف تقديره: لولا رؤيته برهانَ ربه موجودةٌ لقَدْ همَّ بها، وجملةُ ﴿لولا﴾ مستأنفةٌ، والمعنى: انتفَى وامتنع جماعه لها لوجود رؤية برهان ربه. ﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره: أريناه برهانَ ربه، ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾. ﴿لِنَصْرِفَ﴾ ﴿اللام﴾ حرفُ جر وتعليل. ﴿نصرف﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُ﴾ متعلق به. ﴿السُّوءَ﴾ مفعول به. ﴿وَالْفَحْشَاءَ﴾ معطوف عليه، والجملة
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾.
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ ﴿استبقا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الباب﴾ منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى الباب أو ضمن استبقَ معنى ابتدر. ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة معطوفة على جملة ﴿استبقا﴾. ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قدت﴾. ﴿وَأَلْفَيَا﴾ فعل وفاعل، وهو من أخوات ظن. ﴿سَيِّدَهَا﴾ مفعول أول. ﴿لَدَى الْبَابِ﴾ ظرف، ومضاف إليه، والظرف في محل المفعول الثاني لألْفَى تقديره: وألفيَا سيدها كائنًا لدى الباب، والجملةُ الفعلية معطوفة على جملة ﴿استبقا﴾.
﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفة. ﴿مَا جَزَاءُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَتْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿جَزَاءُ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ نافية. ﴿جَزَاءُ﴾ مبتدأ ﴿جَزَاءُ﴾ مضاف. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الجر، مضاف إليه. ﴿أَرَادَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِأَهْلِكَ﴾ متعلق به. ﴿سُوءًا﴾ مفعول به، والجملة صلةُ ﴿من﴾ الموصولة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿أَنْ يُسْجَنَ﴾ ناصب وفعل مغير، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء إن قلنا: ﴿ما﴾ استفهامية، أو مرفوع على الخبر إن قلنا: ﴿ما﴾ نافية، تقدير ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءًا إلّا السِّجْن. ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ معطوف على المصدر المؤول من الفعل على كونه خَبَرَ المبتدأ فـ (أو) للتنويع.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هِيَ﴾ مبتدأ ﴿رَاوَدَتْنِي﴾ فعل ومفعول، و ﴿نون﴾ وقاية. ﴿عَنْ نَفْسِي﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، والجملة الفعلية في محل الرفع خَبرِ المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿شَاهِدٌ﴾. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ قَمِيصُهُ﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فِعل شرط لها. ﴿قُدَّ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على قميص. ﴿مِنْ قُبُلٍ﴾ متعلق بـ ﴿قد﴾، وجملة ﴿قد﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿فَصَدَقَتْ﴾ الفاء رابطة الجواب جوازًا، وقيل: إنه على تقدير: قد؛ أي: فقد صدقت لِيَكُونَ من المواضع التي تَجِبَ فيها الفاء. ﴿صدقت﴾ فعل ماض في محل الجزم على كونه جوابَ الشرط، وفاعله ضمير يعود على زليخَا، وجملة (إن) الشرطية في محل النصب مقول لقول محذوف حال من ﴿شَاهِدٌ﴾، تقديره: وشهد شاهد من أهلها حَالةَ كونه قائِلًا: إن كانَ قميصه قد من قبل.. فصدقت. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿صدقت﴾.
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)﴾.
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ﴾ جازم وفعل ناقص واسمه. وجملة ﴿قُدَّ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مِنْ دُبُر﴾ متعلق بـ ﴿قُدَّ﴾. وجملة ﴿فَكَذَبَتْ﴾ جواب الشرط، والجملة الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة الشرط الأولى. ﴿وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ مبتدأ وخبر معطوف على جملة ﴿كذبت﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفْصَحَت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتَ ما شَهِدَ الشاهدُ وأردتَ بيانَ ما قال العزيز. فأقولُ لك.
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)﴾.
﴿يُوسُفُ﴾ منادى مفرد العلم حُذِف منه حرف النداء للتخفيف، وجملةُ النداء في محل النصب مقولُ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَعْرِضْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿عَنْ هَذَا﴾ متعلق به، وجملة ﴿أَعْرِضْ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جوابَ النداء. ﴿وَاسْتَغْفِرِي﴾ فعل وفاعل. ﴿لِذَنْبِكِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَعْرِضْ﴾. ﴿إِنَّكِ﴾ ناصب واسمه. ﴿كُنْتِ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ خبره، وجملة (كان) في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تعليلًا لما قبلَها.
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠)﴾.
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نِسْوَةٌ﴾. ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المرأة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُرَاوِدُ﴾. ﴿قَدْ﴾ حرف
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿سَمِعَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾ جار ومجرور متعلّق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿أَرْسَلَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز. ﴿إِلَيْهِنَّ﴾ متعلق بـ ﴿أرسل﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملةُ لَمَّا معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾. ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾ فعل ماض. ﴿لَهُنَّ﴾ متعلق به. ﴿مُتَّكَأً﴾ مفعول به، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلَتْ﴾. ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ﴾ فعل، ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على امرأة العزيز، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلَتْ﴾. ﴿مِنْهُنَّ﴾ صفة لـ ﴿واحدة﴾. ﴿سِكِّينًا﴾ مفعول ثان. ﴿وَقَالَتِ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿أَرْسَلَتْ﴾، وفاعله ضمير يعود على المرأة. ﴿اخْرُجْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ تعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط. ﴿رَأَيْنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جوابُ ﴿لَمَّا﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿لمَّا﴾ الأولى. ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنّ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾.
﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)﴾.
﴿قَالَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على زليخا، والجملة مستأنفةٌ. ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أَفْصَحَتْ عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا رأيتن ما رأيتن، وأردتُنَ بَيَانَ ما شغلني فأقولُ لَكُنَّ ﴿ذَلِكُنَّ﴾. ﴿ذلكن﴾ مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾ خبره. ﴿لُمْتُنَّنِي﴾ فعل وفاعل، وفعول ونون وقاية. ﴿فِيهِ﴾ متعلق به، وهو العائد على الموصول، والجملة الفعلية صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل النصب، مقولٌ لجواب إذا المقدرة، وجملة إذَا المقدرة في محل النصب مقولُ ﴿قَالَتْ﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿رَاوَدْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ هو متعلق به، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿فَذَلِكُنَّ﴾. ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿استعصم﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ﴾ ﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اللام﴾ موطئة للقسم. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿لَمْ يَفْعَلْ﴾ جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على يوسف والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ السِّجْنُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ﴾ مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب مقول القولِ على كونها جَوابَ النداءِ. ﴿إِلَيَّ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحَبُّ﴾. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحَبُّ﴾ أيضًا. ﴿يَدْعُونَنِي﴾ فعل وفاعل و (نون) وقاية ومفعول به؛ لأنه فعل مضارع مبني على سكون الواو، والنون الأولى للنسوة فاعل، والثانية: نون وقاية، وهو مثل النسوة يَعْفُون، فالواو ليست ضميرًا بل لام كلمة. ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق به، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها. ﴿وَإِلَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إلا﴾ ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم مبني
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾.
﴿فَاسْتَجَابَ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريغ. ﴿استجاب﴾ فعل ماض. ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿رَبُّهُ﴾ فاعل، والجملة معطوفة على جملة قال. ﴿فَصَرَفَ﴾ (الفاء) حرف عطف وتفريع. ﴿صرف﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْهُ﴾ متعلق به. ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿استجاب﴾. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ﴾ خبره الأول. ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثان، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقةٌ لتعليل ما قبلها.
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب. ﴿بَدَا﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على السجن المعلوم من قوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ كما في "البحر". ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضًا، وجملة ﴿بَدَا﴾ معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: تَشَاوَرُوا في شأن يوسف، ثمَّ بدا لهم السجن من بعد ما رأوا الآيات. ﴿مَا﴾ مصدرية. ﴿رَأَوُا الْآيَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد رؤيتهم الآيات الدالة على صدق يوسف. ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ (اللام) موطئة للقسم. ﴿يسجننه﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، و ﴿الواو﴾ المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة. {حَتَّى
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَثْوَاهُ﴾ المثوى: اسم لمكان الثواء والإقامة، يقال: ثويَ بالمكان من باب: رِضي إذا أقام به؛ أي: أحْسَن تعهدَه. ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾؛ أي: جعلنا له مَكَانةً رفيعةً، ودرجة عاليةً في أرض مصر؛ أي: جَعَلْنَاهُ على خزائنها، ومَكَّنَ يَتَعَدَّى بنفسه على حد قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ و (باللام) كما هنا، والمراد نعطيه مكانةً ورتبةً عاليةً في الأرض. ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ أي: بعض تعبير الرؤيا التي عَمَدَتْها رؤيا الملك، وصاحبي السجن. ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾؛ أي: لا يمنع عما يشاء، ولا يُنازَع فيما يريد. ﴿أَشُدَّهُ﴾ والأشُدُّ: هو وقت رشده، وكمال قوته، باستكمال نموه الجسمانيِّ، والعَقْلِيِّ، ثم يكون بعده النقصانُ، قيل: هو ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل غير ذلك. وفي "الفتوحات": في الأشد ثلاثةُ أقوال:
أحدُها: وهو قول سيبويه أنه جمعٌ مفرده شدَّةُ نحو: نعمة وأَنْعُم.
والثاني: قول الكسائي أنَّ مفرده شُدّ بزنة قُفل.
الثالث: أنه جمعٌ لا واحِدَ له من لفظه قاله أبو عبيدة، وخَالَفه الناس في ذلك، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبْطُ على الشيء والعَقْدُ عليه. قال الراغب: وفيه تنبيه على أنَّ الإنسان إذا بلغ هذا القَدْرَ يتقوَّى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يُزايله، اهـ "سمين".
ولم يَقُلْ هنا: واستوى كما قال في شأن موسى في سورة القصص؛ لأنَّ موسى كان قد بلغ أربعين سنة، وهي مدة النبوة، فقدِ استوى وتهيأ لحمل أسرار النبوة. وأما يُوسُفُ فلم يكن يوسف إذ ذاك قد بلَغَ هذا السن، اهـ شيخنا، اهـ "فتوحات". ﴿حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ والحكم: هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ المراودة: الإرادةُ والطلبُ برفق ولين. وقيل: هي مأخوذةٌ من الرَّود؛ أي: الرفق، والتأني، ويقال: أَرْوِدْنِي بمعنى أمهلني. وقيل: المراودة مأخوذة من راد يَرُود إذا جَاءَ، وذهب، كأن المعنى أنها فعلَتْ في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لِمَنْ يطلُب الماءَ والكلأ. وقد يُخَصُّ بمحاولة الوقاع، فيقال: راود فلان جَارِيتَهُ عن نفسها، وراودته هي عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحد منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تَكونَ من الجانِبَيْنِ فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قَائِمًا مقام المسبَّب، فكأنَّ يُوسُفَ عليه السلام - لما كان ما أعطيه من كمال الخَلْقِ والزيادة في الحسن سببًا لمراودة امرأة العزيز له - مراود. ويجوز أن يُرادَ بصيغة المفاعلة مجردُ المبالغَةِ. وقيل (١): الصِّيغَةُ على بابها بمعنى أنَّها طلبت منه الفعلَ، وهو طَلَب منها الترْك، وقال الراغب: المراودة أن تنازعَ غيرك في الإرادة، فتريد منه غيرَ ما يريد، كما قالَ إخوة يوسف ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾؛ أي: نحتالُ عليه، ونخدعه عن إرادته، ليرسل بنيامين معنا، اهـ.
﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾، وفي هذه (٢) الصيغة ما يدل على التكثير، فيقال: غلق الأبوابَ، ولا يقال: غلَّق البابَ، بل يقال: أغلق البابَ، وقد يقال: أغلق الأبوابَ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا | حَتَّى أَتَيْتُ أبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارِ |
(٢) الشوكاني.
يَحْدُوْ بِهَا كُلُّ فَتَى هَيَّاتُ
وقد روي عن ابن عباس، والحسن، أنَّها كلمةٌ سريانية معناها، أنها تَدْعُوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حورانَ، وقعت إلى أهل الحجاز، معناها: تَعَالَ. قال أبو عبيدة: فسألت شَيْخًا عَالِمًا منْ حورانَ فذكر أنها لُغَتُهم. ﴿مَعَاذَ اللَّهِ﴾ مصدر منصوب بفعل محذوفٍ، وجوبًا على أنه نائب عن فعله مضاف إلى اسم الله سبحانه؛ أي: أعوذ بالله مَعاذًا ممَّا تدعونني إليه، كسبحانَ الله بمعنى أسبِّح اللهَ، ويقال: عَاذ يعوذ عِيَاذًا، وعياذةً ومعاذًا، وعوذًا، اهـ "سمين".
والمعنى: أعُوذ وأتحصَّن بالله من أن أكونَ من الجاهلينَ الفاسِقِينَ. وقال في "روح البيان": هو من جملة المصادر التي ينصبُها العربُ بأفعال مضمرة، ولا يستعمل إظهارُها كقولهم: سبحانَ اللهِ، وغفرانَكَ وعونك، اهـ. ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ﴾؛ أي: هَمَّتْ (١) وقصدت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته، ويَرُدَّ عنفها بمثله. وفي "الشهاب" قال الإِمام: المراد بالهمِّ؛ أي: بهم يوسفَ في الآية: خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع كالصائم، يَرَى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكنه يَمْنَعُه دينُه عنه، اهـ. ﴿المخلِصين﴾ بكسر اللام؛ أي: مُخْلصين أعمالهم لله تعالى، وبفتحها هم الذين أخلصهم الله تعالى، واجتباهم واخْتَارَهم لطاعته. ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾؛ أي: تَسَابَقَا إلى الباب، وقصد كل منهما سَبْقَ الآخر إليه، فهو ليخرج، وهي لِتَمْنَعَه من الخروج. ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ﴾؛ أي: قطعته، وشقته طولًا من خلف، فهو من المضاعف المعدى من باب شدَّ. ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾؛ أي: وَجداه، والسيد (٢):
(٢) البحر المحيط.
﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، والضلال: الحيدة عن طريق الرشد، وسنَنِ العَقل. ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾؛ أي: بِقَوْلِهِنّ وسمِّي ذلك مكرًا لأنهن كن يردن إغْضَابَها كي تعرض عَليهنَّ يُوسُفَ لتبديَ عُذْرَهَا فَيَفُزْنَ بمشاهدته. ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾؛ أي: أعدَّتْ وهيَّأتْ. ﴿مُتَّكَأً﴾ والمتكأ: ما يجلس عليه من كراسي، وأرائك. وأصل (٢) الكلمة: موتكأ لأنه من توكأت، فأبدلت الواو تاءً وأدغمت. ويجوز أن يكون من أوكيت السِّقَاءَ: فتكونُ الألفُ بدلًا من الياءِ، ووزنُه مفتعل من ذلك ذكره أبو البقاء. ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾؛ أي: أعظمنَه ودَهِشْن من جماله الرائع. ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾؛ أي: جَرَحْنَها.
﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: تنزيهًا لله أن يكون هذا المخلوقُ العجيبُ من جنس البشر، قال أبو البقاء: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ يقرأ بألفين، وهو الأصل، والجمهور على أنه هنا فعل ماض، وقد صُرِّفَ منه أحاشي، وأيَّدَ ذلك دخول اللام على اسم الله تعالى، ولو كان حرفَ جر لَمَا دَخَل على حرف جر، وفاعلُه مضمر تقديره: حَاشَى يوسفُ؛ أي: بَعُدَ من المعصية لخوفِ الله تعالى. وأصل الكلمة: حاشَيْتُ
(٢) العكبري.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآياتُ أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الكناية في قوله: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ لأنه كناية عن إحسان تعهده.
ومنها: التشبيه المجمل في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾.
ومنها: إطلاق العامّ وإرادةُ الخاصِّ في قوله: ﴿الْأَرْضِ﴾ لأنَّ المرادَ أرض مصر.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَشُدَّهُ﴾ لأنّه كناية عن استكمالِ زمان قوته ورُجولته.
ومنها: التشبيهُ في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.
ومنها: العدول (١) عن ذكر اسمها في قوله: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ للمحافظة على الستر، أو للاستهجان بذكره.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام اهتمامًا بشأنه في قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾.
ومنها: الحَصْرُ في قوله: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿قُبُلٍ﴾ و ﴿دبر﴾، وبين ﴿صدقت﴾ و ﴿كذبت﴾، وبين ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ و ﴿الصَّادِقِينَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿صدقت﴾ و ﴿الصَّادِقِينَ﴾، وبين ﴿كذبت﴾ و ﴿الْكَاذِبِينَ﴾.
ومنها: تغليبُ الذكور على الإناث في قوله: ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ ومقتضَى السياق أن يقال من الخاطئات.
ومنها: الاستعارة التصريحيةُ الأصلية في قوله: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ حيث استعار المكر للغِيْبة بجامع الاختِفاءِ في كل منهما.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ شبَّهَ الجُرْحَ بالقطع بجامع الإيلام في كلٍّ، فاستعارَ لفظ القطع للجرحِ، ثمَّ اشتقَّ من القطع بمعنى الجرح، قطَّعْنَ بمعنى جَرَحْنَ على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الحصْرُ في قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا﴾.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿يسجنن﴾ و ﴿السِّجْنُ﴾.
ومنها: الإتيانُ بالمضارع في قوله: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ للدلالة على أنَّ ذلك سَجيَّةٌ لها؛ لأنَّ المضارعَ يفيد التجدد، والاستمرارَ.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ شبه يوسفَ بالملك، بجامع الحُسن، والجمال في كل ثمَّ استعار له اسم الملك على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: الإشارة إلى القريب باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ تنزيلًا لبُعْدِ مرتبته عن غيره منزلة البعد الحسِّي.
ومنها: الدلالة على فَخَامَةِ شأن المشار إليه في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأنَّ ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المؤخر، على أن يكونَ عبارة عن التمكين، في قلب العزيز، أو في منزله، وكون ذلك تَمْكينًا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها، لا عن تمكين آخر يشبه به، فالكاف مقحم للدلالة على فَخَامة شأنِ المشار إليه، إقحامًا، لا يترك في لغة العرب، ولا في غيرها، ومن ذلك قولهم: مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ؛ أي: مثل ذلك التمكين البديع، مكنا ليوسف في الأرض، وجعلناه محبًّا في قلب العزيز، ومكْرمًا في منزله، ليترتَّب عليه ما ترتب بما جرى بينه وبين امرأة العزيز، ذكره في "روح البيان".
ومنها: الحَذْفُ والزيادةُ في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات
قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن (٢) يوسف لمّا ذَكَرَ ما هو عليه من الدين الحنيفي.. تلطَّفَ في حُسْنِ الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفَتَيين من عبادة الأصنام فَنَاداهما باسم الصحبة في المكانِ الشَّاقِّ الذي تَخْلُص فيه المودةُ، وتتمحض فيه النصيحةُ.
وعبارة المراغي هنا (٣): بعد أن أبطلَ يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سَلَفَ، وذكر أنه قد اتبعَ ملةَ آبائه إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وبيَّن أنَّ هذا فضلٌ من الله تعالى، ومنة منه عليهم، وعلى سائر الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالقَ، لهذه النعم، فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به شيئًا.. دَعَاهُما إلى التوحيد الخالص، وأيدَهُ يالبرهان الذي لا يَجدُ العقل محيصًا من التسليم به، والإقرار بصحته قال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾ الآيتين.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ...﴾ الآيات، مناسبتُها لما قبلها: أنه لما دنا فَرَج يُوسُفَ عليه السلام.. رأى ملك مصر الريان بن الوليد رُؤيا عجيبةً هالته فرأى سبع بقراتٍ سمانٍ، الخ.
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾؛ أي: مع يوسف ﴿السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾، وفي الكلام (٢) حذفٌ تقديره: فسجنوه فدخلَ معه السجنَ غلامان. و (مع) تدلُّ على الصحبة واستحداثِها، فدلَّ على أنهم سَجَنُوا الثَّلاثَةَ في ساعةٍ واحدةٍ. ولمَّا دخل يُوسُفُ السِّجنَ، استمالَ النَّاس بحسن حديثه وفضله ونَبْلِهِ.
وكان يسلِّي حَزِينَهم، ويعود مريضَهم، ويسأل لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأَحبَّه الفتيان، ولزماه، وأحبَّه صاحب السجن، والقيِّمُ عليه، وقال له: كُنْ في أيِّ البيوت شئت، فقال له يوسف: لا تحبَّني يرحمك الله، فلقد أدخلت عليَّ المحبة مضرات أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبَّني أَبي، فامتحِنت بمحبته، وأحبَّتنِي امرأة العزيز، فامتحنت بمحبتها بما ترَى.
وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إنَّي أُعبِّر الرؤيا، وأُجيدُ - أي: ودخل (٣) معه السجنَ غلامان مملوكان مِنْ غلمان ملك مصر الأعظم، وهو الريَّانُ بن الوليد بن نَزْوَانَ العِملِيقِ، أحدهما خَبَّازه، وصاحب طعامه، والآخرُ سَاقِيه، وصاحب شرابه، وكان قد غَضِبَ عليهما المَلِكُ فحبسهما. وكان السَّببُ في ذلك أنَّ جماعةً من أشراف مصر أرادوا المَكْرَ بالمَلِكِ واغتياله، وقتله،
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
قال ابن مسعود: ما رأيا شيئًا إنما تحالما لِيُجَرِّبا يُوسُفَ، وقال قوم: بل كانَا قد رأيا رؤية حقيقةً فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألَهما عن شأنهما، فذَكَرا أنهما غُلامانِ للملك، وقد حبَسهما، وقد رَأَيا رؤيا قد غمتهما، فقال يوسف قصَّا عليَّ ما رأيتما فقصا عليه ما رأياهُ. فذلك قولُه تعالى: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا﴾؛ أي: أحد الفتيين، وهو صاحب شراب الملك، اسمه سَرْهَم، أو مَرْطَش؛ أي: قال أحَدُهما ليوسف: ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾؛ أي: رأيت نفسي ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾؛ أي: أعصِرُ عِنَبًا، فيصيرُ خَمرًا، وأسقِي المَلِكَ. وسمَّى العِنَبَ خَمَرًا باعتبار ما يؤول إليه. إذ الخَمْرُ لا يُعْصَرُ. وقيل: إنَّ عَربَ غسان وعُمَان يسمون العِنَبَ خَمْرًا. رُوي أنه قال: رأيت حَبْلَةً من كرم حسنةً، لها ثلاثة أغصان، فيها عناقيدُ، فكنت أعصرها، وأسقي. وقرأ أبي وعبد الله: ﴿أعصر عنبًا﴾ وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سَوادَ المصحف، والثابتُ عنهما بالتواتر قرائتهما: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾. وفي مصحف عبد الله: ﴿فوق رأسي ثَرِيدًا تأكل الطير منه﴾ وهو أيضًا تفسير لا قراءة ذكره في "البحر".
﴿وَقَالَ الْآخَرُ﴾ وهو الخباز، واسمه بُرْهَمُ، أو رَأْسَانُ ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾؛ أي: رأيت نفسي كأني ﴿أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الخبز. وفوق بمعنى على؛ أي: على رأسي. ومثله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ﴾ كما في
فلمَّا (١) قصَّا عليه رؤياهما كره يوسف أن يعبِّرها لهما حينَ سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما: وأعرض (٢) عن سؤالهما، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة، والنبوة والدعاء إلى التوحيد. وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أنَّ دَرَجَتهُ في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدَا فيه، وذلك أنهما طَلَبَا منه علم التعبير، ولا شكَّ أنَّ هذا العلم مبني على الظن، والتخمين، فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين، وذلك مما يعجز الخلق عنه، وإذا قدَرَ على الإخبار عن المغيبات، كان أقْدَرَ على تعبير الرؤيا بطريق الأولى. وقيل: إنما عدل عن تعبير رؤياهما إلى إظهار المعجزة؛ لأنه علم أنَّ أحدهما سيصلب، فأراد أن يُدخِلَهُ في الإِسلام، ويخلِّصه من الكفر، ودخول النار، فأظْهَرَ له المعجزة لهذا السبب.
٣٧ - ﴿قَالَ﴾ يوسف ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في اليقظة في منزلكما على حسب عادتكما، المطَّرِدَةِ ﴿إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا﴾ وأخبرتكما ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: بقدَرَهِ ولونه، والوقت الذي يصل إليكما فيه، والاستثناء (٣) مفرَّغ من أعمِّ الأحوال؛ أي: لا
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
وهذا مِثْلُ معجزة عيسى عليه السلام، حيث قال: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾. فقالا ليوسف عليه السلام: هذا من علم العرَّافِينَ والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن، ولا عرَّاف، وإنما ذلك مما علَّمنِيه رَبي، كما سيأتي بيانه. وقيل: أراد به في النوم، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما إلا أخبرتكما خبره في اليقظة.
والمعنى (١): أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به، وهو عند أهله، وبما يريدون من إرساله، وما ينتهي إليه بعد وصولِهِ إليكما. روي أنَّ رِجَالَ الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعامًا مسمومًا، يقتلونهم به، وأنَّ يوسف أراد هذا من كلامه.
وفي ذلك إيماء إلى أنه أُوتي عِلم الغيب، وهذا يجري مجرى قول عيسى عليه السلام: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾.
ومن هذا يعلم أن وحيَ الله جاءَهُ وهو في السجن، وبذلك تَحَقَّقَ قوله: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾. كما أنَّ وَحْي الإلهام جَاءه حين إلقائه في غيابة الجب، كما تقدم ذكره. وكأنه سبحانه جَعَلَ في كلَّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وفي كلِّ ما ظاهره بلاءً نِعْمةً.
﴿ذَلِكُمَا﴾؛ أي: ذلك الذي أنبأتكما به أيها الفَتَيان. ﴿مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾؛ أي: بعض ما علمني ربي سبحانه بوحي، وإلهام منه، لا بكهانة ولا عرافة، ولا يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل، ويَشْتَبِهُ فيه الصواب بالخطأ. وذلك (٢) أنه لما نَبَّأَهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قَبْلَ أن يَأتِيَهُما ويَصِفُه لهما، ويقول: اليومَ يأتيكما طعام من صفته كيت وكيتَ، قالا هذا من
(٢) روح البيان.
وفيه دلالة على أنه له علومًا جَمَّةً ما سَمِعاه قِطْعةً من جملتها، وشعبة من دَوْحَتها.
وكأنَّه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلوم البديعة؟ فقيل: ﴿إِنِّي﴾؛ أي: لأني ﴿تَرَكْتُ﴾؛ أي: رفضتُ من أول أمري ﴿مِلَّةَ قَوْمٍ﴾؛ أي: دينَ قوم؛ أيَّ قوم كانوا من قوم مصر وغيرهم ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: لا يُصَدِّقُون بوحدانية الله تعالى. والمراد بالقوم (١) هنا: الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هم بينهم، فقد كانوا يعبدون آلهةً منها الشمس، وعجلهم، وفراعنتهم، وكان التوحيد خاصًّا بحكمائهم وعلمائهم. ومعنى تركها أنه تَركَ دخولها، واتباعَ أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها. وفي ذلك لفت لأنظارهما لأن يَتْرُكَا تلك الملةَ التي هم عليها.
والمعنى: إني بَرِئْتُ من ملة مَنْ لا يصدق بالله، ولا يقرُّ بوحدانيته، وأنه خَالِقُ السموات والأرض وما بينهما. وعبارة "روح البيان" هنا: والمراد (٢) بتركها، الامتناع عنها رَأْسًا، لا تركها بعد ملابستها، وإنما عَبَّرَ بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهر في اقتدائهما به عليه السلام.
﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ وما فيها من الجزاء ﴿هُمْ كَافِرُونَ﴾؛ أي: هم مختصون بذلك دون غيرهم، لإفراطهم في الكفر باللهِ تعالى. والمعنى: أي: وهم يكفرون (٣) بالآخرة، والحساب، والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياةَ الآخرة على صور مبتدعةٍ، منها: أنَّ فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة، ويَرجع إليهم الحكم والسلطان، كما كانوا في الدنيا، ومن ثَمَّ كانوا يَضَعُونَ معهم في مقابرهم جواهرهم، وحليهم، ويبنون
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٣٨ - قوله: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوف على (تركت). وقرأ (١) الأشهب العقيلي والكوفيون: ﴿آبائي﴾ بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو، وسماهم جميعًا آباء؛ لأنَّ الأجدادَ آباء، وقدَّمَ الجد الأعلى ثم الجدَّ الأقرب، ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده، ثم تلقاها عنه إسحاق، ثم يعقوبُ. وفي ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه في الإيمان بالله، والتوحيد، وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال؛ أي: واتبعت ملةَ آبائي الذين دعوا إلى التوحيد، الخالص، وهم إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. وعَرَّف (٢) شرَفَ نَسَبِه، وأنه من أهل بيت النبوة، لتتقوى رغبتهما في الاستماع منه، والوثوق عليه، وكان فضل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب أمرًا مشهورًا في الدنيا، فإذا ظَهَرَ أنه ولدهم عظموه، ونظروا إليه بعين الإجلال وأخذوا منه. ولذلك جوِّز للعالم إذا جهلت منزلته في العلم، أن يَصِفَ نَفْسَه، ويعلم الناسَ بفضله حتى يعرف، فيقتبس منه، وينتفع به في الدين، وفي الحديث: "إنّ الله يسألُ الرجلَ عن فضل علمه كما يسأل عن فضل ماله". وقدم ذكر ترك ملة الكفرة على ذكر أتباعه لملة آبائه، لأن التخليَة بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة. وفيه إشارة إلى أنَّ الاتباعَ سبب للفوز بالكمالات، والظفر بجميع المرادات.
ثم بيَّن أساسَ الملة التي وَرِثَها عن أولئك الآباءِ الكرام، فكانت يقينًا له بقوله: ﴿مَا كَانَ﴾؛ أي ما صحَّ، وما استقام، فضلًا عن الوقوع ﴿لَنَا﴾ معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا، ووفور علومنا ﴿أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيء كان من ملك أو جنيِّ أو إنسي فضلًا عن الجماد الذي لا يضر ولا ينفع؛ أي (٣): لا ينبغي لنا مَعْشرَ الأنبياء أن نشرك بالله شيئًا فنتخذه ربًّا مدبرًا معه، ولا إلَهًا معبودًا
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والمعنى: أي عدم الإشراك من فضل الله علينا؛ إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته، وألوهيته بوحيه وآياته في الأنفس والآفاق. وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوةَ، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرف الغواية والضلال. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ المبعوث إليهم ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ نِعَم الله عليهم فيشركون به أرْبابًا وآلهة من خلقه يذلون أنفسَهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم، أو أدنى منهم.
٣٩ - والإضافة في قوله: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ من باب (١) الإضافة إلى الظرف؛ إذ الأصل: يا صاحبين لي في السجن، ويجوز أن يكونَ من باب الإضافة إلى التشبيه بالمفعول به، والمعنى: يا ساكني السجن كقوله: أصحاب النار، اهـ "سمين". والاستفهام في قوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ تقريري؛ أي: لطلب الإقرار بجواب الاستفهام؛ أي: أقروا واعلموا أنَّ الله هو الخير، اهـ "جمل".
ومعنى التفرق هنا (٢): هو التفرق في الذوات، والصفات، والعدد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة، وغير ذلك، وجماد، وحيوان، وحي وميت.
والمعنى: هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن، أم الله المعبود بحق المتفرد في ذاته، وصفاته الذي لا ضدَّ له ولا نِدَّ ولا شريك القهار الذي لا يغالبه مغالب، ولا يعانده معاند، أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه
(٢) الشوكاني.
وعبارة المراغي: وهذا الاستفهام لتقرير ما يذكر بعده، وتوكيده، والمرادُ بالتفرق التفرقُ في الذوات، والصفات المعنوية التي يَنْعتونهم بها، والصفات الحسية التي يصوِّرها لهم بها الكَهَنة والرؤساء من رسوم منقوشة وتماثيل منصوبة في المعابد والهياكل.
والمعنى (١): أأرباب كثيرون متفرِّقون شأنهم التنازعُ والاختلاف في الأعمال، والتدبير الذي يُفْسِدُ النظام خير لكما، ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر، وجلب النفع، وكلِّ ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب، أم اللَّهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمد الذي لا ينارع ولا يعارض في تصرفه، وتدبيره، وله القدرة التامَّةُ، والإرادةُ العامَّةُ، وهو المسخر لجميع القوى، والنواميس الظاهرة التي تَقُوم بها نظم العوالم السماوية، والأرضية، من نور وهواء وماء، والغائبة عنا كالملائكة، والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها، هو سبب عبادتها، والقولُ بربوبيتها، ولا شكَّ أنَّ الجوابَ عن هذا مما لا يختلف فيه عاقلٌ، فلا خيرَ في تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضرًّا ولا نفعًا في السموات والأرض.
٤٠ - ثم بين لهما أنَّ ما يعبدونه، ويسمونه آلهة إنما هي جَعْلٌ منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تَلَقَّاها خلف عن سلف، ليس لها مستندٌ من العقل، ولا الوحي السماويّ فقال: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: ما تعبدون من دون الواحد القهار ﴿إِلَّا أَسْمَاءً﴾ لمسميات ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾؛ أي: وضعتموها ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ من قِبَلِكُم وتحملتموها صفات الربوبية، وأعمالها، وما هي بأرباب تَخْلُق، وترزق وتضر وتنفعُ ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: ما أنزل الله حجةً وبرهانًا على أحد من رسله بتسميتها أربابًا، حتى يقالَ: إنكم تتبعونها تعبدًا له وحده، وطاعةً لرسله.
وقيل المعنى (١): ما تعبدون من دون الله تعالى إلا مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم آلهةً من عند أنفسكم، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجردَ الأسماء لكونها جمادات لا تَسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا﴾؛ أي: بتلك التسمية ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾؛ أي: من حُجَّةٍ تدل على صحتها، وإنما قال: ما تعبدون على خطاب الجَمع، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قَصَدَ خطاب صاحبي السجن، ومَنْ كان على دينهم. ومفعول سَمَّيتموها، الثاني محذوف كما قدرناه آنِفًا؛ أي: آلهةً من عند أنفسكم. ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾؛ أي: ما الحكم (٢) الحق في الربوبية، والعبادة إلا لله سبحانه وتعالى وحده، يوحيه لِمَن اصطفاه من رسله، ولا يمكن بشرًا أن يَحْكُم فيه بهواه، ورأيه، ولا بعَقْله، واستدلاله ولا باجتهاده واستحسانه. وهذه قاعدة اتفقت عليها كلُّ الأديان دونَ اختلاف الأمكنة والأزمان.
ثمَّ بيَّنَ ما حَكَمَ به الله تعالى فقال: ﴿أَمَرَ﴾ سبحانه وتعالى على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام بـ ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي (٣): أمَرَ ألَّا تعبدوا غَيْرَه، ولا تَدْعُوا سِوَاه، فله وحده اركعوا، واسجدوا، وإليه وحده توَجَّهوا حنفاءَ غير مشركين به شيئًا من مَلَك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس، ولا قمر، ولا نجم، ولا شجر، ولا حيوان كالعِجْل (أبِيسُ) لدى المصريين؛ لأنَّ (٤) العبادَة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمَنْ حَصَلَ منه نهاية الإنعام، وهو الله تعالى؛ لأنَّ منه الخلق والإحياء، والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة، وجهاتُ إحسانه إلى الخلق غير متناهية، فالمؤمن الصادق الإيمان، لا يذِلُّ ولا يَخْضَعُ لأحد غير الله تعالى مما خلق بدعاء ولا استغاثة، ولا طلب فرج من
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) المراح.
ثم بين لهم أنَّ عبَادَته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: تخصيصه بالعبادة ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾؛ أي: المستقيم الثابت؛ أي: إنَّ تَخْصِيصَه بالعبادة هو الدينُ الحق، الذي لا عِوَج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلَّتْ عليه براهينُ العقل والنقل. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ذلك هو الدين الحق المستقيم، الذي لا اعْوِجَاجَ فيه، لا ما سَارُوا عليه تبعًا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد، بأرباب متفرقين لجهلهم بتلك البراهين.
٤١ - ولما فرغ يوسف عليه السلام من بيان الحق لهما في مسألة التوحيد، وعبادة الله تعالى وحدَه، شرع في تعبير رؤياهما فقال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ الإضافة فيه بمعنى في؛ أي: يا صاحبين لي في السجن ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾ وهو الساقي الذي رأى أنه يعصِرُ خَمْرًا، ولم يعينه ثقةً بدلالة الحال، ورعايةً لِحُسْن الصحبة، أو لكراهةِ التصريح للخبَّاز بأنه الذي سَيُصلب ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾؛ أي: فيسقي سيده، ومالكَ رقبته خَمْرًا. وقد رُويَ أنَّ يُوسُفَ قال له في تعبير رؤياه: ما أحْسنَ ما رأيتَ؟ أمَّا الكرمة فهي الملك، وحسنها حسن حالك عنده برجوعك إلى منزلتك الأولى، بل إلى أحسنَ منها، وأما الأغصان الثلاثة: فثلاثة أيام، تَمْضي في السجن، ثم تخرج، وتعود إلى عملك. وقرأ الجمهور: ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾ من سقَى، وفرقة: ﴿فيسقي﴾ من أسقى، وهما لغتان بمعنى واحد. وقال ابن عطية: وقرأ عكرمة والجحدري: ﴿فيُسْقَى ربه خمرًا﴾ بضم الياء، وفتح القاف؛ أي: ما يرويه، ذكره أبو حيان. ﴿وَأَمَّا الْآخَرُ﴾ وهو الخبَّاز الذي رَأَى أنه يحمل خبزًا تأكل الطير
﴿قُضِيَ﴾؛ أي: نُفذَ وفرغ، وأتِمَّ، وأحكِم ﴿الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾؛ أي: تطلبان فتواهُ، وتأويلَه، وهو ما رأياه من الرؤيين.
وإسناد (١) القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله، وهو نَجَاةُ أحدهما، وهلاك الآخر؛ لأنه في الحقيقة عَيْنُ ذلك المآل، وقد ظَهر في عالم المثال بتلك الصورةِ؛ أي: تَمَّ الأمر الذي تسألان عنه، رأيتما أو لم تَرَيَا، فكما قلتما، وقُلْتُ لكما كذلك يكونُ. رُوِيَ أنَّه لمَّا عَبَّر رؤياهما جَحَدا، وقَالا: ما رأينا شَيئًا فأخْبَرَ أنَّ ذلك كائن صدقتما، أو كذبتما، ولعَلَّ الجحودَ من الخباز؛ إذ لا داعي إلى جحود الساقي إلَّا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه، فكان الأمر كما عبَّر يُوسُف. قال ابن مسعود (٢) رضي الله عنه: فلما سمعا تعبيرَ يوسف عليه السلام، وقَولَه ذلك قالا: ما رأينا شيئًا، إنما كنا نَلْعَبُ قال يوسف: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾؛ أي: فُرغَ من الأمر الذي سألتما عنه، ووجب حُكْمُ الله عليكما بالذي أخبرتكما به، رأيتما شيئًا أم لم تَرَيا.
٤٢ - ﴿وَقَالَ﴾ يوسف عليه السلام ﴿لِلَّذِي ظَنَّ﴾؛ أي: يوسف؛ أي: عِلمَ وتَحَقَّق، فالظَّنُّ بمعنى العلم، والظان (٣) هو يوسف عليه السلام؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الساقي، وهلاك الخَبَّاز، وهكذا قال جمهور المفسرين. وقيل: الظن على ظاهره، ومعناه: لأنَّ عابِرَ الرؤيا إنما يَظُنُّ ظَنًّا، والأُولى أَولى، وأنسبُ بحال الأنبياء، ولا سيما وقد أخبَر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلَعه الله على شيء مِنْ علم الغيب كما في قوله: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أن الشيطان أنْسَى يوسفَ ذكرَ ربه عَزَّ وَجَلَّ حتى طَلَب الفَرَجَ من مخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام، فإنَّ الاستعانة بالمخلوق في دفع الضرر جائزة في الشريعة، إلا أنه لما كان يوسف في أشرف المراتب، والمقامات، وهي منصب النبوة، والرسالة، لا جَرَمَ صارَ يوسف مؤاخذًا بهذا القدر من الاستعانة، فإنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين.
فإن قلتَ (١): كيف تمَكَّن الشيطان من يوسف حين أنساه ذكر ربّه؟.
قلت: بشغل الخاطر، وإلقَاءِ الوسوسة، فإنه قد صحَّ في الحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرى الدم"، فأما النِّسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر، وإزالته عن القلب بالكلية، فلا يقدر عليه. وبالجملة: فالأولى بالصدِّيقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، ولذلك جوزي يُوسُفُ بسنتين في الحبس كما قال: ﴿فَلَبِثَ﴾ يوسف ﴿فِي السِّجْنِ﴾ بسبب ذلك القول ﴿بِضْعَ سِنِينَ﴾؛ أي: سبعَ سنينَ خَمْسًا منها قبل ذلك القول، وثنتين بعده، هذا هو الصحيح. وقيل: لَبِثَ
والمعنى: وقال يوسف (٢) للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند سيدك الملك، بما رأيتَ مني، وما سمعتَ، وعلمت من أمري عَلَّه ينصفني ممَّنْ ظلمني، ويخرجني من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به من دَعْوَتِهِ إياهم إلى التوحيد، وتأويله للرؤيا، وإنبائهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب، وغيرهما، قبل إتيانه، وفُتْيَاه التي أفتى بها ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾؛ أي: فأنسى الشيطانُ ذلك الساقيَ النَّاجيَ تذكر إخبار ربه؛ أي: أن يَذْكُرَ يوسف للملك ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ منسيًّا مظلومًا. والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثرُ ما يطلق على السبع، وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف. وقيل: ثنتا عشرة سَنَةً. وقيل: أربع عشرةَ سنةً. وقيل: خَمس سنينَ.
رؤيا ملك مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها
٤٣ - ولما دنا فرج يوسف عليه السلام، وأراد الله عَزَّ وَجَلَّ إخراجَه من السجن رأى مَلِكَ مِصْرَ الأكبر رُؤيا عجيبةً هالته، وذلك أنه رَأَى في منامه سَبعَ بقرات سمان، قد خَرَجْنَ من البحر، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيبَهن سبع بقرات عجاف، في غاية الهزال، فابتلع العِجافُ السمانَ، ودَخَلْن في بطونهن، ولم ير منهن شيء، ولم يتبين على العجاف منها شيء، ورأى سنبلات خضرًا قد انعَقَد حبها، وسبعَ سنبلات أخر اليابسات، قد استحصدت، فالتوت يابسات على الخُضْر، حتى علون عليهن، ولم يبقَ من خضرتها شيء، فجَمَع السحرة والكهنة والمعبّرين، وقص عليهم رؤياه التي رآها فذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾؛ أي: ملك مصر الأكبرُ، وهو الريَّانُ بن الوليد الذي كَانَ العزيز، وزيرًا له، ﴿إِنِّي أَرَى﴾ في المنام عَبَّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية، وكذلك قوله الآتي: ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾؛ أي:
(٢) المراغي.
فلما (١) استيقظ من منامه، اضطرب بسبب أنَّهُ شاهَدَ أنَّ الناقص الضعيفَ، استولى على الكامل القوي، فشهدت فطرته بأنَّ هذه الرؤيا صورة شر عظيم، يقع في المملكة إلا أنه ما عَرَفَ كَيفية الحال فيه، فاشتاقَ ورغِبَ في تحصيل المعرفة بتعبير رؤياه، فجمع أعْيَانَ مملكته من العلماء والحكماء، وكذا الكهنة والمنجمين، وأخْبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا؛ ليكون ذلك سببًا لخلاص يُوسُفَ من السجن، وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والأشراف من قومي المعبرون للرؤيا فهو خطاب للأشراف من العلماء، والحكماء، أو للسحرة، والكهنة، والمنجمين، وغيرهم ﴿أَفْتُونِي﴾ وأجيبوا لي ﴿فِي﴾ تأويل ﴿رُؤْيَايَ﴾ هذه؛ أي: عبِّروها لي وبيِّنوا حكمَها، وما تؤول إليه من العاقبة ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾؛ أي: إن كنتم تعلمون تعبيرَ جنس الرؤيا، وتفسيرَ المنام؛ أي: عبروها (٢) لي إنْ كنتم تعبرون الرؤيا، وتبينونَ المعنى الحقيقيَّ المرادَ من المعنى المثاليّ، فيكون حالكم حالَ
(٢) المراغي.
٤٤ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قال الملأ للملك؟ فقيل: قالوا، إلخ. والأضْغَاثُ (٢): جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما. والأحلامُ: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقةَ لها، كما يكون من حديث النفس، ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من أو من قبيل إضافة لجين الماء، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رُؤْيَا واحدة مبالغةً منهم، في وصفها بالبطلان، ويجوز أن يَكُونَ رأى مع هذه الرؤية غيرها مما لم يَقُصَّه الله تعالى علينا، أو لتضمنها أشياءً مختلفةً من السبع السمان، والسبع العجاف: والسنابل السبع: الخضر والأخر اليابسات؛ أي: قالوا هذه الرؤيا أضْغَاثُ أحلام؛ أي: أخالِيطُ الأحلام وأباطيلها وأكاذيبها من حديث نفس أو وسوسة شيطانٍ؛ أي: هذه أحلام مختلطَةُ ورؤيا كاذبة، لا حقيقةً، ولا معنى لها ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ﴾؛ أي: بتعبير المنامات الباطلة التي لا أصل لها ﴿بِعَالِمِينَ﴾؛ لأنه لا تأويلَ لها، وإنما التأويل للمنامات الصادقةِ لا لأنَّ لها تأويلًا، ولكن لا نعلمه. قال الزجاج: المعنى: بتأويل الأحلام المختلَطَة، نفُوا عن أنفسهم عِلْمَ ما لا تأويلَ له، لا مطلقَ العلم بالتأويل. وقيل: إنَّهُم نَفَوْا عن أنفسهم عِلْمَ التعبير مطلقًا، ولم يَدَّعُوا أنه لا تعبيرَ لهذه الرؤيا. وقيل: إنهم قَصدوا مَحْوَها من صدرِ المَلِكِ حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه مِنْ نَفْيِ العلم حقيقةً.
ويجوز (٣) أن يكون ذلك اعترافًا منهم بقصور علمهم، وأنَّهم لَيسوا بِنَحَارِير في تأويل الأحلام، مع أنَّ لها تأويلًا فكأنهم قالوا: هذه الرؤيا مختلطة من أشياء
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وقد كان حديث الملك في رؤياه، مع كهنته، وعلمائه، ورجال دولته، مذكرًا للذي نجا من الفَتَيَيْنِ بِيُوسُفَ، وحُسْنِ تعبيره للرؤيا بعد أن مضَى على ذلك مدَّةً من الزمان، كما يشير إلى هذا ما بعده.
٤٥ - ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا﴾ وخرج من السجن ﴿مِنْهُمَا﴾؛ أي: من صاحبي يوسف، وهو السَّاقي ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿ادَّكَرَ﴾؛ أي: قد تذكَّر يوسفَ وما قاله ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾؛ أي: بعد مدة طويلة من الزمان. وادّكر: أصله: إذْتكر، فقلبت التاء دَالًا، والذال دالًا، وأدغمت كما سيأتي في مباحث الصرف. أي: تذكَّر (٢) الناجي منهما يوسفَ، وتأويلَه رؤياه، ورؤيا صاحبه، وطَلَبَه أن يَذْكُره عند الملك، فجَثى بين يَدَي الملك؛ أي: جَلَس النَّاجِي على ركبتيه، قُدَّامَ الملك فقال للملك: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: أنا أُخبركم ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: بتأويل هذا المنام الذي أَشْكَلَ عليكم وتعبيره. خَاطبه بلفظِ الجمع تعظيمًا له ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾؛ أي: فابعثون إلى السجن، فإن فيه رجلًا حكيمًا من آل يعقوب، يقال له: يُوسُفُ يعرِفُ تعبير الرؤيا، قد عَبَّر لنا قبلَ ذلِكَ فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فاعتذَرَ إليه، فاسْتَفْتَاه فيما عَجَزُوا عنه،
٤٦ - وقال: يا ﴿يُوسُفُ﴾، ويا
(٢) روح البيان.
والمعنى: أفتِنا (٢) في هذا المنام الذي رآه الملك، وإنّي لأرجو أن يحقِّقَ اللَّهُ أمَلَكَ بالخروج من السجن، وانتفاعَ المَلِكِ وملئه بفضلك، وعِلْمِك، وإنَّما لم يبتَّ الكلامُ فيهما لأنه لم يكن جازمًا بالرجوع، فرُبَّما اخْتَرَمَتْهُ المنية دونه، ولا يُعْلِمهم. ذكره "البيضاوي". وقرأ (٣) الجمهورُ: ﴿وَادَّكَرَ﴾ بالدال المهملة المشدَّدة. وقرأ الحسن: ﴿واذكر﴾ بإبدال التاء ذالًا، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشْهَبُ العقيليُّ: ﴿بعد إمَّة﴾ بكسر الهمزة؛ أي: بعدَ نعمة أنْعَم الله عليه بالنجاة من القَتْل. وقال ابن عطية: بعد نعمةٍ أنعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه
(٢) المراغي.
(٣) المراغي
أَلاَ لاَ أَرَى ذَا إِمَّةٍ أَصْبَحَتْ بِهِ | فَتَتْرُكُهُ الأيَّامُ وَهِيَ كَمَا هِيَا |
٤٧ - وجملة قوله: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعةٌ في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال يوسف في التأويل؟ فقيل: قال يوسفُ لهم: تزرعون إن شاء الله تعالى في المستقبل. ﴿سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾؛ أي: متواليةً متتابعةً، فدأبًا مصدرٌ واقع موقعَ الصفة؛ أي: دائبةً متواليةً فهو مصدرٌ دَأَب في العمل، إذا جَدَّ فيه، وتعبَ، أو واقع موقِعَ الحال من فاعل ﴿تَزْرَعُونَ﴾ بمعنى دائبين؛ أي: مُستَمَرِّينَ على الزراعة على عادتكم بجِدٍّ واجتهاد. وقرأ حفص: (دَأَبًا) بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وهما مصدران لدأب. والفرق بين الحرثِ والزرع أنَّ الحرثَ إلقاء البذْر، وتهيئة الأرضِ، والزرعُ مراعاتُه، وإنباتُه. فعَبَّر يوسف عليه السلام السبعَ البقراتِ السمانَ بسبع سنين فيها، خصبٌ والعجافَ بسبع سنين فيها جَدْبٌ. وهكذا عبَّر السبع السنبلات الخضرَ، والسبع السنبلات اليابسات، واستَدَلَّ بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ وقطعتم من الزروع في كل سنة من السنين المُخْصِبة ﴿فَذَرُوهُ﴾؛ أي: فاتركوا ذلك المحصودَ ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾؛ أي: كَوافرِهِ، وبقَصَبِهِ ليكون القصب عَلَفًا للدوابِّ، ولا
٤٨ - ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعدِ السبع السنين المخصِبَة ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾؛ أي: سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس، وهذا تأويل السبع العجاف، والسبع اليابسات، ﴿يَأْكُلْنَ﴾؛ أي: يأكل أهلُهُنَّ؛ أي: يأكل أهل السبع الشداد فيهن ﴿مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾؛ أي: ما ادَّخرتم لأجلهن مِن الحبوب المتروكة في سَنَابِلِها. وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، فهو من باب نهارُه صائمٌ؛ أي: تأكلون الحَبَّ المزروعَ وَقْتَ السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة. ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾؛ أي: مما تَحْبِسُون من الحب لتزرعوا به، لأن في استبقاء البذر تحصين الأَقْوات. وقال أبو عبيدة: معنى تُحْصِنُون تُحْرِزُون. وقيل: تَدَّخِرُون للبَذْرِ. والمعنى واحدٌ: فَأَكْلُ ما جُمِع أيامَ السنين المخصبة في السنين المجدبة، تأويل ابتلاع العجاف السمان.
٤٩ - ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾؛ أي: من بعد ما ذُكِرَ من السنين المجدبات ﴿عَامٌ﴾؛ أي: سنة ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك العام ﴿يُغَاثُ النَّاسُ﴾؛ أي: يمطر الناسُ، وينقذون فيه من كرب الجدب بالغيث ﴿وَفِيهِ﴾؛ أي: وفي ذلك العام ﴿يَعْصِرُونَ﴾ ما منْ عادته أن يُعْصَر كالعنب، والقصب، والزيتون، والسمسم، ونحوها من الفواكه لِكَثْرَتِها.
وقيل: معنى ﴿يَعْصِرُونَ﴾: يَحْلِبون الضُّروعَ. وقيل معناه: يمطرون. وقيل معناه: ينجون من الشدة. وعلى هذين المعنيَيْنِ يقرأ بالبناء للمفعول. قال
فالحاصلُ بعده: هو الخِصبُ على العادة الإلهية حيث يُوسِّع الله سبحانه وتعالى على عباده بعد تضييقه عليهم. وقيل: إنَّ الإنباءَ بهذا العام زَائِدٌ على تأويل الرؤيا، ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلَّا بِوَحي من الله عَزَّ وَجَلَّ. وقرأ (٣) الأخوان حمزة، والكسائي: ﴿تعصرون﴾ بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة. وقَرأ جعفر بن محمَّد، والأعرج، وعيسى البصرة: ﴿يُعصَرون﴾ بضم الياء، وفتح الصاد مبنيًّا للمفعول. وعن عيسى أيضًا: ﴿تعصرون﴾ بالتاء على الخطاب مبنيًّا للمفعول، ومعناه: يُنْجَونَ من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾. وحكى النقاش أنه قُرِىء: ﴿يعصرون﴾ بضم الياء وكسر الصاد، وشدِّها من عَصَّر مشددًا للتكثير. وقرأ زيد بن علي: ﴿وفيه تعصرون﴾ بكسر التاء، والعين، والصاد، وشدها وأصلُه تعتصرون فأدغم التاء في الصاد، ونقَلَ حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاءِ لحركة العين، واحتمل أن يكونَ من اعتصر العنبَ، ونحوَه، ومن اعتصر بمعنى نجا.
٥٠ - فلما رجع الساقي إلى المَلِك وأخْبَره بما ذكره يوسف استَحْسَنَه المَلِك ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾؛ أي: ملك مصر، وهو رَيَّان بن الوليد ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾، أي: جيئوني بيُوسُفَ عليه السلام كي أستمع كَلاَمَه مِنْ فمه، وأعْرِفُ دَرَجَة عَقْلِهِ، وأعلم تفضيلَ رَأْيِهِ ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ﴾؛ أي: يوسف ﴿الرَّسُولُ﴾؛ أي: رسول الملك، وهو الساقي، وبلغه أمر الملك، وطلب إليه إنفاذه ﴿قَالَ﴾ يوسف للرسول ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾؛ أي: سيدك قبل شخوصي إليه، ومثولي بَيْنَ يديه ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ والبَالُ هو (٤) الأمر الذي
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
ولم يذكر (١) سيدته تأدُّبًا ومراعاةً لحقها، واحترازًا من مكرها، حيث اعتقدَها مقيمةً في عَدْوَةِ العَداوة، وأما النسوة فقد كان يَطْمَعُ في صَدْعهن بالحقِّ وشهادتهن بإقرارها، بأنها رَاوَدَتهُ عن نفسِهِ ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾.
قال العلماء (٢): إنما أبَى يُوسُفَ عليه السلام أن يخرجَ من السجن، إلا بعد أن يتفحَّص المَلِكُ عن حاله مع النسوة. لتنكشفَ حقيقة الحال، عنده لا سيما عند العزيز، ويَعلم أنه سجِنَ ظُلمًا، فلا يقدِر الحاسد إلى تقبيح أمره، وليظْهَر كمال عقله، وصبْرِه ووقَارِه، فإن مَنْ بَقِيَ في السجن ثنتي عشرة سنةً إذا طلبه الملك، وأمر بإخراجه، ولم يبادر إلى الخروج، وصَبَرَ إلى أن تتبين براءتَهُ من الخيانة في حق العزيز، وأهله دَلَّ ذلك على براءته من جميع أنواع التُّهَمِ. وفي الحديث: "مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فلا يقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَم". ومنه قال عليه السلام للمارين به في معتكفه وعنده بعض نساءه: "هِيَ فُلانةُ" نفيًا للتهمة.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه اسْتَحْسَنَ حَزْمَ يُوسُفَ وصَبْره حين دعاه الملك، فلم يُبَادِر إلى الخروج حيث قال عليه السلام: "لقد عَجِبْتُ من يوسُفَ وكرمه، وصبْرِه، والله يَغْفِرُ له حينَ سُئل عن البقرات العِجاف والسمانِ، ولو كنتُ مَكَانَه ما أخبرتهم حتى اشْتَرطت أن يُخْرِجوني، ولقد عَجِبْتُ حين أتاه الرسول فقال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾، الآية. ولو كنت مكانَه ولبثتُ في السجن ما لَبث.. لأسْرَعْتُ الإجابة، وبادَرْتُهم الباب، وما ابتغيت العذرَ، إنه كان حليمًا ذَا أناة". الحِلْمُ، بكسر الحاء: تأخير مكافأة الظُلّم، والأَناة على وزن القَنَاة: التأني وترك العجلة. قال ابن الملك: هذا ليس إخبارًا عن نبينا عليه الصلاة والسلام بتَضَجُّره، وقلة صبره، بل فيه دلالة على مدح صبر يوسف، وترك الاستعجال بالخروج، لِيَزُولَ
(٢) روح البيان.
وقال الطَّيبِي: هذا من رسول الله - ﷺ - على سبيل التواضع لا أنه كان مستعجلًا في الأمور غير متأن، والتَّواضُعُ لا يصغِّر كبيرًا، ولا يَضعُ رفيعًا، بل يُرحِّب لصاحبه فَضلًا، ويُورِثُه جَلالًا وقدرًا.
﴿إِنَّ رَبِّي﴾ سبحانه وتعالى، أو إن سيدي (١) ومربي، وهو ذلك الملك، قاله ابن عطية، ورُدَّ عليه. ﴿بِكَيْدِهِنَّ﴾؛ أي: بمكرهن ﴿عَلِيمٌ﴾ حين، قلنَ لي: أطع مَوْلاَتَكَ. وفيه استشهاد بعلم الله على أنهن كِدْنَه، وأنه بريء من التهمة كأنه قيل: احمله على التعرف، يتبيَّنُ له براءة ساحتي، فإنَّ الله يعلم أنَّ ذلك كان كيدًا منهن. والمعنى: أنه (٢) تعالى هو العالم بخفيات الأمور، وهو الذي صرَف عنِّي كيدهُن، فلم يَمْسَسْنِي منه سوء.
وقد دلَّ هذا التمهل، والتأني من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
١ - جميلُ صبره، وحُسْنُ أناته، ولا عَجَب، فمِثْلُه ممَّن لقيَ الشدائد جدير به أن يكون صبورًا حليمًا، ولا سيما ممن ورَثَ النبوة كابرًا عن كابر، وقد وَرد في "الصحيحين" مرفوعًا: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدَّاعي"، وفي رواية أحمد: "لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغَيْتُ العُذْرَ".
٢ - عِزَّة نفسه وصون كرامته، إذ لم يَرْضَ أن تكون التهمة بالباطل عالقةً به، فطلب إظهار براءته، وعفَّتِه عن أن يَزِنَ بريبة، أو تَحُومَ حول اسمه شائبة السوء.
٣ - أنه عَفَّ عن اتهام النسوة بالسوء، والتصريح بالطعن عليهن، حتى يتحقق الملك بنفسه، حِينَ ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي، ويعلمُ ذلك
(٢) المراغي.
٤ - أنه لم يذكر سيدَتَهُ معهن، وهي السبب في تلك الفتنة الشَّعواء وَفاءً لزوجها ورحمةً بها، وإنما اتَّهمها أولًا دِفاعًا عن نفسه، حين وَقَفَ موقفَ التهمة لدى سيدها، وبعد أن طَعنَتْ فيه. وقرأ (١) أبو حيوة، وأبو بكر، عن عاصم في رواية ﴿النُّسوة﴾ بضم النون وقرأت فرقة ﴿اللائي﴾ بالياء وكلاهما جمع التي.
ومعنى قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾؛ أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى عَالِمُ بصنيعهنّ، وما احتَلْنَ في هذه الواقعة من الحِيل العظيمة؛ فلمَّا أبي يُوسُفُ أن يَخْرُجَ من السجن، قبل تبين الأمر رَجَعَ الرسول إلى المَلِكِ، فأخبره بما قال يوسف عليه السلام، فأمر الملك بإحضارهنَّ، وكانت زليخا معهن،
٥١ - فلما حَضَرْنَ ﴿قَالَ﴾ الملك لهن ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾؛ أي: ما شأنكن وأمركن ﴿إِذْ رَاوَدْتُنَّ﴾ وطالبتن ﴿يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ والخطب: الشَّأْنُ (٢) العظيم الذي يقع فيه التخاطب، إما لغرابته، وإما لإنكاره، ومنه قولُه تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧)﴾، وعن موسى عليه السلام: ﴿فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾. وإنما (٣) خاطَبَ الملكُ جميعَ النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأةُ العزيز، وَحْدَها لِيَكُون أسْتَر لها. وقيل: إنَّ امرأة العزيز راودته عن نفسه، وَحْدَها وسَائِر النسوة أمَرْنَه بطاعتها، فلذلك خاطبهن بهذا الخطاب؛ أي: فلمَّا اجْتَمَعْنَ بأمره سألهن بقوله: ما خطبكن الذي حَمَلَكُنَّ على مراودته عن نفسه، هل كان عن ميل منه إليكن؟ وهل رأيتُنَّ منه مواتاة واستجابةً بعدها؟ وماذا كان السببُ في إلقائِهِ في السجن مع المجرمين؟ ﴿قُلْنَ﴾؛ أي: جماعةُ النسوة مجيبات للملك ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾؛ أي: مَعاذًا وتنزيهًا لله تعالى عن كلِّ ما لا يليقُ به. وأصله: حَاشَا بالألف فحُذِفَت للتخفيف، وهو في الأصل حَرفٌ وضِعَ هنا موضعَ المصدر؛ أي: التنزيه، و (اللام) لبيان من يبرأ، وينزَّهُ وقد سبقَ في هذه السورة، فهو تنزيه له
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
وإنَّما أقرَّت زُليخَا واعترفت بذنبها، وشَهِدَتْ ببراءة يوسف من الذنب، مُكَافأةً ليوسف على فعله، حيثُ تَرَكَ ذِكْرَهَا، وقال: ما بال النسوة اللَّاتي قَطَّعْنَ أيديهن، مع أنَّ الفِتَنَ كُلَّها إنما نشأت من جهَتِها، وقد عَرَفَتْ أنَّ ذلك لرعاية حقها، ولتعظيمها، ولإخفاء الأمر عليها. وفي هذا الاعتراف شهادةٌ مُريحة من امرأة العزيز، ببراءة يوسف من كلِّ الذنوب، وطهارته من كلِّ العيوب.
٥٢ - ﴿ذَلِكَ﴾ الاعترافُ منّي بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علِمْتُهُ منه ﴿لِيَعْلَمَ﴾ يوسف ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أَنَلْ من أمانته، أو أطْعَنَ في شَرَفِه، وعفَّتِه بالغيبة، بل صرَّحَت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه، فاستعصم، وها أنا ذا أُقِر بهذا أمام الملك، ورجال دولته، وهو غائب عنَّا، وإن كنتُ قد قلت فيه ما قلت في حضرته، ثمَّ بالغت في تأكيد هذا القول فقالت ﴿و﴾ ليعلم يوسف ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾؛ أي: لا ينفذه، ولا يسدِّدُهُ بل يبطله، ويُزْهِقُهُ، وتكون عاقبته الفَضِيحَةُ، والنَّكال، ولقد كِدنا له، فصرف رَبّهُ عنه كيدنا، وسجَّنَّاه فبَرَّأه الله تعالى، وفَضَحَ مكرنا حتى شَهِدْنَا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب، والمقام المنيف، ببراءته من كل
تنبيه: واختلفَ المفسِّرون في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ على قولين (١):
أحدهما: أنه من قول المرأة، وهو الظاهر كما جَرَيْنا عليه في حَلِّنا سابقًا. ووجه هذا القول: أنَّ هذا كلام متَّصِلٌ بما قبله، وهو قول المرأة: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾، ثم قالت: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ إلخ. والمعنى عليه (٢): كما تقدَّم ذلك الإقرار، والاعتراف بالحق، ليعلم يوسُفُ أنّي لم أخنه في غيبته، وهو في السجن، ولم أكذب عليه بذنب، وهو بريء منه، بل قلت: أنا راودته عن نفسه، ثم اعتذرت عمَّا وقعت فيه، ممَّا يقع فيه البشرُ من الشهوات بقولها: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾. والنفوسُ مائِلةٌ إلى الشهوات، أمَّارةٌ بالسوء. وقال الزمخشري: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ مع ذلك من الخيانة، فإني قَدْ خنته حين قذفته وقلتُ: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ﴾ تريد الاعتذارَ لما كان منها؛ بأنَّ كل نفس لأمارة بالسوء إلّا نفسًا رَحِمَها الله تعالى بالعصمة، إنَّ ربي غفورٌ رحيمٌ، استغفرت ربَّها واسْتَرْحَمْتُهُ ممَّا ارتَكَبْت.
والقول الثاني: أنه من كلام يُوسُفَ عليه السلام اتصلَ بقول امرأة العزيز: أنا راودتُه عن نفسه من غير تمييز بين الكلامين لمعرفة السامعين، لذلك مع غموض فيه؛ لأنه ذَكَرَ كلامَ إنسان، ثمَّ أتْبَعَه بكلام إنسان آخر، من غير فصل بين الكلامين.
وقال الفراء: ولا يبعد وصْلُ كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلَّتِ القرينة
(٢) البحر المحيط.
ومعنى الآية على هذا القول ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: طَلَب (١) البراءة أو ذلك التثبتُ، والتَّشَمُّرُ لظهور البراءة ﴿لِيَعْلَمَ﴾ أي العزيز ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ في حرمه؛ لأنَّ المعصية خيانة ﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: بظهر الغيب، وهو حال من الفاعل؛ أي: لم أخنْهُ، وأنا غائِبٌ عنه خفي على عينه، أو من المفعول؛ أي: وهو غائب عني خفي عن عيني، أو ظرف؛ أي: بمكان الغيب؛ أي: وراءَ الأستار والأبواب المغلَقة. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: وليعلم العزيز أنَّ الله سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي﴾ ولا ينفذ، ولا يسدِّد، ولا يتمِّم ﴿كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ بل يبطله، ويزهقه كما لم يسدد كَيْدَ امرأته، حتى أقرت بخيانة أمانة زوجها، وسُمِّي فعل الخائن كيدًا؛ لأنَّ شأنَه أنْ يُفْعَلَ بطريق الاحتيال، والتلبيس، فمعنى هداية الكيد، إتمامُه وجعله مؤدِّيًا إلى ما قُصِدَ به. وفيه تعريض، بامرأة العزيز في خِيَانَتِها أمانَتَهُ، وبنفس العزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسِ يوسف بعدما رأوا آيات نَزَاهَتِه. ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته، وأنه لو كان خائنًا.. لمَا هَدَى الله أمره وأحسن عاقِبَتَهُ. وفيه إشارة إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى يُوصِلُ عبادَه الصَّادِقين بعد الغمِّ إلى السرور، ويُخرِجُهم من الظلمات إلى النور. وفي (٢) الآية دلالة على أنَّ الخيانة من الصفات الذميمة، كما أنَّ الأمانَةَ من الخصال المحمودة. ثمَّ أراد (٣) يُوسُفُ أن يَتَوَاضَعَ لله، ويهضم نفسه لئلا يكون مُزَكِّيِّا لها، ولحالها في الأمانة مُعْجِبًا، وليبيِّنَ أنَّ ما فيه من الأَمانةِ ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله، ولُطْفِهِ، وعصمته فقال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ من الزلل، وما أشهدُ لها بالبراءة بالكلية، ولا أزكِّيها ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ بالعصمةِ ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
الإعراب
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)﴾.
﴿وَدَخَلَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. (دخل) فعل ماض. ﴿مَعَهُ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق به. ﴿السِّجْنَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق به. ﴿فَتَيَانِ﴾ فاعل مرفوع بالألف، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فسجنوه، ودَخَل معه السجن. ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا﴾ فعل وفاعل، والجملةُ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئتَ قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَانِي﴾ فعل ومفعول أول ونون وقاية وفاعله ضمير يعود على أحدهما. ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على أحدهما، وجملة ﴿أَعْصِرُ﴾ في محل النصب مفعول ثاني لـ ﴿أَرَى﴾ الحلمية، وجملة ﴿أَرَانِي﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَالَ الْآخَرُ﴾ فعل وفاعل، معطوف على قال الأول. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَانِي﴾ فعل ومفعول أول و (نون) وقاية وفاعله ضمير يعود على الآخر. ﴿أَحْمِلُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الآخر. ﴿فَوْقَ رَأْسِي﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَحْمِلُ﴾. ﴿خُبْزًا﴾ مفعول لـ ﴿أَحْمِلُ﴾. ﴿تَأْكُلُ الطَّيْرُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، وجملة
﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلتَ: ﴿لا﴾ نافية. ﴿يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿تُرْزَقَانِهِ﴾ فعل ونائب فاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿طَعَامٌ﴾. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. ﴿نَبَّأْتُكُمَا﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ متعلِّق به، والجملة في محل الجر بإضافة المستثنى المحذوف، والتقدير: لا يأتيكما طعام ترزقانه في حال من الأحوال إلا في حال تنبئني إياكما بتأويله. ﴿قَبْلَ﴾ منصوب على الظرفية. ﴿أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الطعام، والجملةُ في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: قبل إتيانه إياكما، والظرفُ متعلق بـ ﴿نَبَّأْتُكُمَا﴾. ﴿ذَلِكُمَا﴾ مبتدأ. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور خبرُ المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مما علَّمنِيه ربي، والجملة صلةٌ لـ (ما) أو صفةٌ لها، والعائد، أو الرابطُ الضمير المحذوف. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿تَرَكْتُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ مفعول، ومضاف إليه، وجملةُ ﴿تَرَكْتُ﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إنَّ) مستأنفة على كونها مقولَ ﴿قَالَ﴾. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به والجملة في محل الجر
﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿وَاتَّبَعْتُ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِلَّةَ آبَائِي﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿تَرَكْتُ﴾ على كونها خبرًا لـ (إن). ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل من ﴿آبَائِي﴾ بدل تفصيل من مجمل مجرور بالفتحة. ﴿وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ معطوفان على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص. ﴿لَنَا﴾ خبرها مقدم على اسمها. ﴿أَنْ نُشْرِكَ﴾ ناصب وفعل، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿نُشْرِكَ﴾. ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ مفعول ﴿نُشْرِكَ﴾ و (من) زائدة، وجملة ﴿نُشْرِكَ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ والتقدير: ما كان إشراكُنَا بالله شيئًا كائنًا لنا، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿عَلَيْنَا﴾ متعلق بـ ﴿فَضْلِ اللَّهِ﴾. ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ معطوف على ﴿عَلَيْنَا﴾. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ خبر ﴿لكن﴾ والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وهو من إضافة الوصف إلى الظرف؛ أي: يا صاحبين لي في السجن، أو من باب الإضافة إلى الشبيه بالمفعول، والمعنى: يا ساكني السجن. ﴿أَأَرْبَابٌ﴾ (الهمزة) للاستفهام التقريري. ﴿أرباب﴾ مبتدأ. ﴿مُتَفَرِّقُونَ﴾ صفة له، والجملة
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)﴾.
﴿مَا﴾ نافية. ﴿تَعْبُدُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ متعلق به، والمستثنى منه محذوف تقديره: ما تعبدون من دونه شيئًا. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿أَسْمَاءً﴾ منصوب على الاستثناء. ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لتاء المخاطبين، ليُعْطَفَ عليه ما بعده. ﴿وَآبَاؤُكُمْ﴾ معطوف على (تاء) الفاعل والمفعول الثاني لـ ﴿سميتم﴾ محذوف تقديره: سميتموها آلهةً، وجملة ﴿سَمَّى﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿أسماء﴾. ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (ما) نافية. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾ و ﴿من﴾ زائدة. ﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ ﴿إن﴾ نافية. ﴿الْحُكْمُ﴾ مبتدأ. ﴿إلا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَمَرَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة على كَوْنِها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَعْبُدُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ (أن). ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿إِيَّاهُ﴾ ضمير نصب منفصل في محل النصب مفعول ﴿تَعْبُدُوا﴾، وجملة ﴿تَعْبُدُوا﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أمَرَ بعدم عِبَادَتِكم إلَّا إياه. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿الدِّينُ﴾ خبره. ﴿الْقَيِّمُ﴾ صفة لـ ﴿الدِّينُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ ناصب، واسمه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾.
﴿وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿أما﴾ حرف شرط. ﴿الْآخَرُ﴾ مبتدأ. ﴿فَيُصْلَبُ﴾ (الفاء) رابطة لجواب ﴿أما﴾. ﴿يصلب﴾ فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الآخر﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿أما﴾ معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى. ﴿فَتَأْكُلُ﴾ (الفاء) عاطفة. ﴿تأكل الطير﴾ فعل وفاعل. ﴿مِنْ رَأْسِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة (يصلب). ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿الَّذِي﴾ في محل الرفع صفة لـ ﴿الأمر﴾. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بما بعده. ﴿تَسْتَفْتِيَانِ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير فيه.
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿قال﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾. ﴿لِلَّذِي﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿ظَنَّ﴾ فعل ماض ناسخ، وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة الموصول. ﴿أَنَّهُ نَاجٍ﴾ ناصب واسمه وخبره. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستتر في ﴿نَاجٍ﴾؛ أي: حَالَة الناجي من جملة الاثنين، وجملة (أن) في تأويل مصدر سَادٍّ مسدَّ مفعولي ﴿ظَنَّ﴾ تقديره:
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي أَرَى﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرَى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الملك. ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿سِمَانٍ﴾ صفة لـ ﴿بَقَرَاتٍ﴾. ﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل. ﴿عِجَافٌ﴾ صفة لـ ﴿سَبْع﴾ وجملة ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَى﴾ وجملة ﴿أَرَى﴾ في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ﴾ معطوف على ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾. ﴿خُضْرٍ﴾ صفة لـ ﴿سُنْبُلَاتٍ﴾. ﴿وَأُخَرَ﴾ معطوف على ﴿سَبْعَ﴾ لا على ﴿سُنْبُلَاتٍ﴾ ويكون، قد حُذِفَ اسمُ العدد من قوله: ﴿وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ والتقدير: وسبعًا آخر، وإنما حذفَ لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، اهـ "سمين". ﴿يَابِسَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿أُخر﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾.
﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الْمَلَأُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَفْتُونِي﴾
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا﴾ مقول محكي، لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئتَ قلت: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه أضغاث أحلام، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾ نافية حجازية، أو تميمية. ﴿نَحْنُ﴾ اسمها أو مبتدأ. ﴿بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بما بعده. ﴿بِعَالِمِينَ﴾ خبر ﴿ما﴾ الحجازية أو خبر المبتدأ و ﴿الباء﴾ زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِي﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾. ﴿نَجَا﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿نَجَا﴾. ﴿وَادَّكَرَ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال. ﴿ادكر﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي نَجَا﴾. ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ادكر﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نَجَا﴾. ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿تَزْرَعُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت:
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿يُوسُفُ﴾ منادى مفرد العلم حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَيُّهَا﴾ منادى نكرة مقصودة حذفت منه حرف النداء للتخفيف. ﴿الصِّدِّيقُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿أَفْتِنَا﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جَوابَ النداء. ﴿فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَفْتِنَا﴾. ﴿سِمَانٍ﴾ صفة لـ ﴿بَقَرَاتٍ﴾. ﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾ فعل ومفعول. ﴿سَبْعٌ﴾ فاعل. ﴿عِجَافٌ﴾ صفة لـ ﴿سَبْعٌ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿سَبْعٌ﴾، ولكنها سببية، أو في محل النصب حال من ﴿سَبْعٌ﴾. ﴿وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ﴾ معطوف على ﴿سَبْعِ بَقَرَاتٍ﴾. ﴿خُضْرٍ﴾ صفة لـ ﴿سَبْعِ﴾. ﴿وَأُخَرَ﴾ معطوف على ﴿سَبْعِ﴾ على كونه صفة لمحذوف تقديره: وسبعًا أخر مجرور بالفتحة للوصفية، والعدل؛ لأنه معدول عن الآخَر. ﴿يَابِسَاتٍ﴾ صفة لـ ﴿أُخر﴾. ﴿لَعَلِّي﴾ ناصب واسمه. ﴿أَرْجِعُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي نَجَا﴾. ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لَعَلِّي﴾ وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل قوله ﴿أَفْتِنَا﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿لعلَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل الترجي قبلها.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿تَزْرَعُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿دَأَبًا﴾ مصدر واقع موقع الصفة، فهو صفة لـ ﴿سَبْعَ سِنِينَ﴾؛ أي: سبع سنين متواليةً متتابعة، أو واقع موقِع الحال، فهو حال من (واو) ﴿تَزْرَعُونَ﴾؛ أي: حَالَة كونكم متدائبين؛ أي: مستمرين في الزراعة في تلك السبع. ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ (الفاء) فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنَّكم تزرعون سَبْعَ سنين، وأرَدْتُم بَيَانَ ما تفعلون بالمحصود من الزرع، فأقول لكم: ﴿ما حصدتم﴾. ﴿مَا﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿حَصَدْتُمْ﴾ فعل، وفاعل في محل الجزم بما، والرابط محذوف تقديره: فما حصدتموه. ﴿فَذَرُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب. ﴿ذروه﴾ فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم على كونه جواب الشرط. ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾ متعلق به، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إلا﴾ أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على الاستثناء. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلًا﴾. ﴿تَأْكُلُونَ﴾ فعل وفاعل صلة لـ (ما)، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: مما تأكلونه.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿يَأْتِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْتِي﴾. ﴿سَبْعٌ﴾ فاعل. ﴿شِدَادٌ﴾ صفة أولى له. ﴿يَأْكُلْنَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صفة ثانية لـ ﴿سَبْعٌ﴾ ولكنها صفة سببية، وجملة ﴿يَأْتِي﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تَزْرَعُونَ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَأْكُلْنَ﴾. ﴿قَدَّمْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿لَهُنَّ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف. ﴿يَأْتِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ متعلق به. ﴿عَامٌ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ثُمَّ يَأْتِي﴾ الأول. ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُغَاثُ﴾. ﴿يُغَاثُ النَّاسُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿عَامٌ﴾. ﴿وَفِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْصِرُونَ﴾. وجملة ﴿يَعْصِرُونَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يُغَاثُ﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)﴾.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ فعل، وفاعل معطوف على محذوف تقديره: فلما رجع الساقي إلى الملك، وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك، وقال: ائتوني به، كما مرَّ في مبحث التفسير. ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ائتوني﴾ فعل وفاعل، ومفعول. ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم. ﴿جَاءَهُ الرَّسُولُ﴾ فعل ومفعول، وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على محذوف تقديره: فرجع الرسول إلى يوسف من عند الملك ليخرجه من السجن، فلما جاءه الرسول، قال يوسف: ارجع إلى ربك. ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ارْجِعْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ متعلق به. ﴿فَاسْأَلْهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿اسأله﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الرسول، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الملك، والجملة مستأنفة. ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ مقول محكي، لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾ اسم استفهام للاستفهام الاستخباري في محل الرفع مبتدأ. ﴿خَطْبُكُنَّ﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿خَطْبُكُنَّ﴾ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى ما فعلتن، وما أردتن به في ذلك الوقت، اهـ "سمين". ﴿رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ متعلق بـ ﴿رَاوَدْتُنَّ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿قُلْنَ﴾ فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْنَ﴾ وإن شئت قلت ﴿حَاشَ﴾ فعل ماض بمعنى بَعُدَ مبني بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة، للتخفيف لكثرة الاستعمال، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق به، ولكنه على حذف مضاف، والتقدير: حاش يوسف عن المعصية لطاعة الله تعالى وخوفه كما ذكره أبو البقاء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾ نافية. ﴿عَلِمْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿سُوءٍ﴾ مفعول به؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾؛ أي: في صحبته؛ أي: صَاحَبَاهُ في الدخول فَدَخَلَ الثلاثةُ في وقت واحد. ﴿فَتَيَانِ﴾ تثنية فتى قلبت ألفه ياء في التثنية، لكونها أصله؛ لأنه من فتِيَ بوزن رَضِيَ بمعنى شَبَّ، وذلك يدل على أنهما عبدان للملك الأكبر. ويحتمل أن يكون الفتى اسمًا للخادم، وإن لم يكن مملوكًا. ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾؛ أي: عِنبًا فسمَّاه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود. ﴿خُبْزًا﴾ الخُبْزُ معروف، وجمعه خبز ومعانيه خبَّازٌ. ﴿الطَّيْرُ﴾ اسم جنس مفرده الطائر. ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾؛ أي: أَخبرنا بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: من العالمين بتعبير الرؤيا، والإحسان هنا: بمعنى العلم. وكذا قال الفراء: إن مَعْنَى ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ من العالمين الذين أحسنوا العِلْمَ. وقال ابن إسحاق: من المحسنين إلينا، إن فسرت ذلك، أو من المحسنين إلى أهل السجن. ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ التَّرْكُ هنا عبارةٌ عن عدم التلبُّس بالشيء من أول الأمر، وعدم الالتفات إليه بالكلية، اهـ "خازن". ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾؛ أي: مُصَاحبين للسجن لطول مقامهما فيه. وقيل: المرادُ يا صاحبي في السجن؛ لأن السِّجْنَ ليس بمصحوب، بل مصحوب فيه، وأنَّ ذلك من باب يا سارق الليلة، وعلى الأول من باب قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾، ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾. ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ﴾؛ أي: من أجناس مختلفة من حيوان، أو جماد، كذهب، وفضة، وحديد، وخشب، وحجارة.
﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ السجن: المَحْبَسُ. والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، قاله قتادة. وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة. وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة. وقال الفراء: ولا يُذْكَر البِضع إلا مع العشرات، ولا يُذْكَر مع مئة ولا ألف. ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ جمع سمينة، ويُجمع سَمِينٌ أيضًا عليه يقال: رِجالٌ سِمَانٌ كما يقال: نساء كرام، ورجال كرام. والسِّمَنَ مصدر سَمِن، يَسْمَنُ من باب فَرِح فهو سمين، فالمصدر واسم الفاعل جاءا على غير قياس، إذ قياسُهُما سَمْنًا بالفتح، فهو سَمِنٌ نحو: فَرِحَ فَرَحًا فهو فَرِح. وفي "المصباح": سَمِنَ يسمن من باب تَعِبَ، وفي لغة: من
فُعْلٌ لِنَحْوِ أحْمَرٍ وَحَمْرَا
لكنه حُمِل على سمان، لأنه نَقِيضُه كما ذكره "البيضاوي". والعجفاء: المهزولة جِدًّا. ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ عبَر الرؤيا إذا فَسَّرها من باب نصر، ينصر، ويستعمل أيضًا بالتشديد، كعلَّم يعلِّم تَعْلِيمًا، اهـ شيخنا؛ أي: إن كنتم عَالِمين بعبارة الرؤيا، وهي الانتقالُ من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالُها من العبور، وهو المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها بالتشديد تعبيرًا، واللام للبيان أو لتقوية العامل، اهـ "بيضاوي". وفي "السمين": وحقيقةُ عَبَرْتُ الرؤيا ذَكَرْتُ عَاقِبَتَها وآخِرَ أمرها كما تقول: عَبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ أخر عرضه، اهـ. وفي "المصباح": عبرت النهر عَبْرًا من باب قتل، وعُبُورًا أيضًا إذا قطعته إلى الجانب الآخر، وعَبَرْت الرؤيا عَبْرًا أيضًا، وعبارةً إذا فسرتها، وبالتثقيل مبالغةً، وفي التنزيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ اهـ. ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾؛ أي: هي تخاليط المنامات الباطلة التي لا معنَى لها جمع ضغث، وأصله: ما جمِعَ وحُزِم من أخلاط النبات، كالحزمة من الحشيش، فاستعير للرؤيا الكاذبة، والأحلام: جمع حلم، وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها، والإضافةُ على معنى منْ؛ أي: هي أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تؤولُ إليها، والأضغاث: جمع ضِغْثٍ بكسر الضاد، وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنسًا واحدًا أو أجناسًا مختلطة، وهو أصغر من الحزمة وأكبر من القبضة.
﴿وَادَّكَرَ﴾ أصله: إذْتَكَرَ بوزن افْتَعَلَ من الدَّكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال، فأبدلت دالًا، فاجتمع متقاربان، فأبدل الأولُ من جنس الثاني، وأدغم، وكذا الحكمُ في (مدّكر) كما سيأتي في صورته إن شاء الله تعالى. ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونة، وهيَ المدة الطويلة. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وغيره: (بعد أَمَهٍ) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهاء منونةٌ والأَمهُ: هو النسيان يقال: أمَهَ يأْمَهُ أَمَهًا، وأَمْهًا، والسكونُ غيرُ مقيس، والمعنى: ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾؛ أي: بعد حين، وهو سنتان، أو سبع، أو تسع، وسمِّي الحين من الزمان، أمة لأنه
﴿دَأَبًا﴾ قرأ حفص بفتح الهمزة والباقون بسكونها، وهما لغتان في مصدر دَأَبَ يَدْأَبُ؛ أي: دَاومَ على الشيء ولازمه، وهذا كما قالوا: ضَأَنَ وضَأْن ومعَز ومعْز، بفتح العين وسكونها، وأصل معنى الدأب التعب، ويُكنى به عن العادة المستمرة، لأنها تنشأ عن مداومة العمل اللازم له التعبُ، اهـ "شهاب". ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾ وفي "المصباح": وسُنبُل بضم الفاء والعين، الواحدة سُنْبلةً، والسبل مثله، الواحدة سَبَلَة، مثل قَصَب وقَصَبَة، وسَنْبَل الزرع أخرج سُنْبُلَهُ وأسبل أخرج سبله، اهـ.
﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ من الغيث على أنَّ الألف منقلبة عن ياءٍ، أو من الغوث على أنها منقلبة عن واو. والغيث مصدر غاث الله البلادَ يغيثها غيثًا، إذا أنزل بها الغيثَ، وهو المطر، والغوث الفرجُ، وزوالُ الهم، والكرب، وعلى هذا يكون فعله رُباعِيًّا يقال: استغاثَ اللهَ، فأغاثه؛ أي: أنْقَذَه من الكرب الذي هو فيه، كالحقط، اهـ "زاده". وفي "السمين": قوله: يغاث الناس، يجوز أن تَكُونَ الألف عن واو، وأن تكونَ عن ياء إمَّا من الغَوْثِ، وهو: الفَرَجُ، وفعلُه رباعي، يقال: أغاثنا الله من الغيث، اهـ. وفي "المصباح" أغاثه إغاثةً إذا أَعانَهُ، ونَصَره، فهو مُغِيث والغوث اسم منه، واستغاث به فأَغَاثَه، وأَغاثهم الله برحمته، كَشَفَ شدتَهم، وأغاثَنا المطر من ذلك فهو مغيث، وأغاثنا الله بالمَطر، والاسم الغِيَاث بالكسر، اهـ. وفيه أيضًا: الغَيْثُ المطرُ وغاث الله البلاد غَيثًا من باب ضَرب، أنزلَ بها الغيثَ، ويبنى للمفعول: فيقال: غِيثتِ الأرضُ تُغاثُ، وغاث الغيث الأرض غيثًا، من باب ضرَبَ نزل بها. وسمى النَّبَات غَيْثًا تسمية باسم السبب، ويقال: رعينا الغيثَ، اهـ. ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ بكسر الصاد من باب ضرب كما في "المصباح" و"القاموس".
﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ والخطب الأمر والشأن الذي فيه خطر، وهو في الأصل مصدر خطب يخْطُب، وإنما يُخْطَبُ في الأمور العظام، اهـ "سمين". وفي "المختار": الخَطْبُ: الأمر، تقول: ما خَطْبُك. قال الأزهري: أي: ما أمْرُكَ، وتقول: هذا خطب جليل، وخَطْبُ يسير، وجمعه خُطُوب، اهـ. ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾؛ أي: ظَهَرَ ووضح، وتبيَّنَ بعد خفاء، قاله الخليل. قال بعضهم: هو
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ لأنه أطْلَقَ الخمر على العنب، باعتبار ما يؤول إليه، كما يطلق الشيء على الشيء، باعتبار ما كان كقوله تعالى: ﴿وءاتُواْ الْيَتامَي﴾.
ومنها: التعبير بالمضارع في قوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي﴾ في الموضعين حكايةً للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتني، وكذا قول الملك: ﴿إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ فيه حكايةٌ للحال الماضية، وحق العبارة أن يقال: إني رأيتُ.
ومنها: الطّباق بين قوله: ﴿سِمَانٍ﴾، وقوله: ﴿عِجَافٌ﴾، وبين قوله: ﴿خُضْرٍ﴾، وقوله: ﴿يَابِسَاتٍ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ فإنَّها من أبلغِ الاستعارة وألْطفها، فإن الأضغاثَ حقيقةُ في المختلط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض، فشبَّه اختِلاطَ الأحلام، وما فيها من المحبوب، والمكروه، والخير، والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرةٍ.
ومنها: براعة الاستهلال في قوله: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ حيث قدَّم الثناء قبل السؤال، طَمَعًا في إجابة مطلبه.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ لأن السِّنينَ لا تأكل،
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، وفي قوله: ﴿سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ وفي غير ذلك.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾؛ لأن هدايةَ الكيد مجاز عن تنفيذه، وإمضائه، أو المراد لا يَهْدِي الخَائِنين بسبب كيدِهم، فأوقع الهدايةَ المنفيةَ على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزًا للمبالغة؛ لأنه إذا لم يهد السببُ علمَ منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى، اهـ "شهاب".
ومنها: الزيادة والحذفُ في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بمراد كلامه
* * *
_________
(١) إلى هنا تَمَّ ما أردنا إيرادَهُ من تفسير الجزء الثاني عشر من القرآن الكريم، وكان الفراغُ من تأليفه ليلةَ الخميس المباركة، الخامس عشر من ربيع الأول، الشهر الثالث من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكَى التحية، والحمد لله في هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأسأل الله الإعانةَ على الكمال والتمام، وأن يُضَاعِفَ لنا البركةَ في أعمارنا إلى تمامه، ونشره بين المسلمين، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا دائمًا إلى يوم الدين.
تمَّ المجلد الثالث عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن في تاريخ ١٥/ ٣/ ١٤١١ هـ ويليه المجلد الرابع عشر وأوّلُه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ الآية.
وَقُلْ بِذُلٍّ رَبِّ لا تَقْطَعْنِي | عَنْكَ بقَاطِعٍ وَلاَ تحْرِمْنِي |
منْ سِرِّكَ الأبْهَى الْمُزِيلِ لِلْعَمَى | وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ يَا رحِيْمَ الرُّحَمَا |
والْحمْدُ للهِ عَلَى مَا أَوْلَى | فَنِعْمَ مَا أَوْلَى ونِعْمَ الموْلَى |
وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةً الإِفَاقَةِ عَالِيًا | كَعْبِي وَأَرْدَافُ الملُوْكِ شُهُوْدُ |
إِني إِذَا مَا القَوْم كَانُوْا أنْجِيَهْ | وَاضْطَرَبَ القَوْمُ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَهْ |
وفي "الكرخي" قوله: ﴿نَجِيًّا﴾ حال من فاعل ﴿خَلَصُوا﴾؛ أي: اعتزلوا في هذه الحالة متناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ إما لأن النجي فعيل
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾؛ أي: رأيًا وتدبيرًا وعلمًا؛ وهو شمعون. قاله مجاهد، أو كبيرهم في السنن، وهو روبيل. قاله قتادة، وقيل: في العقل والرأي؛ وهو يهوذا ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾.
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾: ﴿أَبْرَحَ﴾ هنا تامة ضمِّنت معنى أفارق، فالأرض مفعول به، ولا يجوز أن تكون تامة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر وذهب، ومعنى الظهور والذهاب لا يصل إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة في تقول: ذهبت في الأرض، ولا يجوز ذهبت الأرض. وقد جاء شيء لا يقاس عليه. واعلم أنه لا يجوز في أبرح أن تكون ناقصة؛ لأنه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ومن الأرض مبتدأ وخبر، ألا ترى أنك لو قلت: أنا الأرض، لم يجز من غير في بخلاف: أنا في الأرض. اهـ. "كرخي".
﴿الْقَرْيَةَ﴾: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعًا، ويستعمل في كل واحد منهما. قاله الراغب.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ﴾؛ أي: زينت وخيلت لكم ﴿أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾؛ أي: كيدًا آخر ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾؛ أي: فشأني صبر جميل؛ أي: حسن، أو صبر جميل أولى بي وأليق.
واعلم: أن الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم لمجريه عليه؛ وهو العليم الحكيم، ويقتدي بيعقوب وسائر النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقال سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾؛ أي: يا حزني عليه، والأسف أشد الحزن على ما فات، ومنه قول كثير:
فَيَا أَسَفًا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ | وَلِلنَّفْس لَما سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ |
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾؛ أي: مملوء غيظًا على أولاده ممسك له في قلبه لا يبثه لأحد، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم؛ أي: المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه قوله:
فَإِنْ أكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ | فَإنِّيْ اليَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ وفي قوله: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾؛ لأن المراد منه أصحاب الإبل ونحوها، والعلاقة فيه المجاورة كما في "السمين".
ومنها: التعريض في قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ لما فيه من التعريض إلى
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾؛ لأن هذه الجملة من كلام المؤذن؛ لأنه هو الذي كفل وضمن.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام إشعارًا بأنه المقصود من العام في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ بعد قوله: ﴿مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾؛ لأن هذه الجملة بمعنى قوله: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ﴾، فهي مؤكدة لها.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾. ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾؛ لأن حق العبارة: ثم استخرجها منه.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ وفي قوله: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾؛ لأن صيغة المضارع في كلا الموضعين لاستحضار الصورة الماضية كما في "روح البيان".
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿أَخٌ لَهُ﴾ لغرض الإبهام.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿شَيْخًا كَبِيرًا﴾ لغرض الاستعطاف؛ لأن كبر السن معلوم من لفظ الشيخ.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهلها، والعلاقة فيه المحلية، وفي قوله: ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾؛ أي: أصحابها، والعلاقة فيه
ومنها: نداء غير العاقل تنزيلًا له منزلة العاقل في قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظي الأسف ويوسف في قوله: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ وقال الزمخشري: والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعًا غير مستعمل، فيملح ويبدع، ونحوه ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾، ﴿أَرَضِيتُمْ﴾، ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾، ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾، ﴿مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ انتهى. ويسمى هذا تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف، ذكره أبو حيان.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاه﴾؛ لأنه كناية عن فقدان البصر وذهابه عنه.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ فإنه غيا الأمر بغايتين؛ إحداهما خاصة؛ وهي إذن أبيه، والثانية عامة؛ لأن إذن أبيه له في الانصراف من حكم الله تعالى. اهـ. "كرخي".
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿يَحْكُمَ﴾ و ﴿الْحَاكِمِينَ﴾ في قوله: ﴿حَتَّى﴾ ﴿يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٨٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أولاد يعقوب الذين جاؤوا عن مصر وعن معهم عن أولاد الأولاد الحاضرين عند يعقوب حين قال يعقوب: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾: ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾؛ أي: والله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به، ولا تفتر عن حبه ﴿حَتَّى تَكُونَ﴾؛ أي: تصير بذلك ﴿حَرَضًا﴾؛ أي: مريضًا مشرفًا على الهلاك ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾؛ أي: من الميتين.
وأصل ﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ﴾؛ أي: والله لا تفتأ ولا تزال، فلا (٣) محذوفة في جواب القسم للتخفيف لعدم الالتباس؛ لأنه لو كان الجواب مثبتًا.. للزمه اللام ونون التوكيد عند البصريين، أو إحداهما عند الكوفيين، وذلك نظير قول العرب: والله أقصدك أبدًا، يعنون: لا أقصدك. وقال الفراء إن (لا) مضمرة؛ أي: لا تفتأ. قال النحاس: والذي قال صحيح، وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء، وأنشد الفراء محتجًا على ما قاله قول امرئ القيس:
فَقُلْتُ يَمِيْنَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا | وَلَوْ قَطَعُوْا رَأسِيْ لَدَيْكِ وَأوْصَالي |
وقالت الخنساء:
فَأقْسَمْتُ آسَى عَلَى هَالِكٍ | أوَ أسْألُ نَائِحَةً مَالَهَا |
وقال الآخر:
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْـ | ـعُرْفِ وَلا الحَامِلُوْنَ مَا حَمَلُوْا |
تَاللهِ أَنْسَى مُصِيْبَتي أبَدَا | مَا أسْمَعَتْنِي حَنِيْنَهَا الإِبِلُ |
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
(٤) زاد المسير.
(٥) القرطبي.
قال الشاعر:
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا | سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تَرَفَّعُ |
﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره، ومنه قول الشاعر:
سَرَ هَمِّي فَأمْرَضَنِيْ | وَقَدْمَا زَادَنِي مَرَضَا |
كَذَاكَ الحُبُّ قَبْلَ الْيَوْ | مِ مِمَّا يُوْرِثُ الْحَرَضَا |
إِنِّيْ امْرُؤٌ لَجَّ بِيْ حُبٌّ فَأحْرَضَنِيْ | حَتَّى بَلِيْتُ وَحَتَى شَفَّنِيْ السَّقَمُ |
٨٦ - فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن كما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: ﴿قَالَ﴾ يعقوب عليه السلام، وهذه الجملة مستأنفة في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قال يعقوب لهم حين قالوا له ما قالوا؟ فقيل: قال يعقوب جوابًا لأولاده اللائمين له: لا تلوموني يا أولاد على حزني وبكائي، وأنا لم أشك إليكم حزني ولا إلى أحد من خلق الله، بل ﴿إِنَّمَا أَشْكُو﴾ وأظهر ﴿بَثِّي﴾؛ أي:
(٢) القرطبي.
فإن قيل (٤): لِمَ قال يعقوب ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾، ثم قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾، وقال: ﴿إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾؟ فكيف يكون الصبر مع الشكوى؟
قيل: ليس هذا إلا شكاية من النفس إلى خالقها، وهو جائز، ألا ترى أن أيوب عليه السلام قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وقال تعالى مع شكواه إلى ربه في حقه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ لأنه شكا منه إليه، وبكى منه عليه، فهو المعذور لديه؛ لأن حقيقة الصبر ومعناه الحقيقي حبس النفس ومنعها عن الشكوى إلى الغير، وترك الركون إلى الغير، وتحمل الأذى والابتلاء لصدوره من قضائه وقدره، كما قيل بلسان الحقيقة:
كُلُّ شَيءٍ مِنَ الملِيْحِ مَلِيْحُ | لَكنِ الصَّبْرُ عَنْهُ غَيْرُ مَلِيْحِ |
وَالصَّبْرُ عَنْكَ فَمَذْمُوْمٌ عَوَاقِبُهُ | وَالصَّبْرُ فِي سَائرِ الأَشْيَاءِ مَحْمُوْدُ |
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
وروى الحاكم (١) - أبو عبد الله - في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك عن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "كان ليعقوب أخ مؤاخ" فقال له ذا يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك، وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوّس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أما تستحيي أن تشكو إلى غيري؛ فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب؛ أما ترحم الشيخ الكثير أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد عليَّ ريحانتاي أشمهما شمة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يقعوب إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: أبشر فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، إصنع طعامًا للمساكين، فإن أحب عبادي إلي المساكين، وهل تدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؛ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها، فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديًا فنادى ألا من أراد الغداء من المساكين.. فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائمًا أمر مناديًا فنادى من كان صائمًا.. فليفطر مع يعقوب.
وقال وهب بن منبِّه (٢): أوحى الله تعالى إلى يعقوب: أتدري لما عاقبتك، وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقًا، وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها.
(٢) زاد المسير.
فقد أجاب المفسرون عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى وهو الأظهر.
والثاني: لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله شدة فاقتهم.
والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور. والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء، وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيمًا، ولا يقدر على دفع سببه.
﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: أعلم (١) من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ـه أنتم، وقيل: أراد علمه بأن يوسف حي، وقيل: أراد علمه بأن رؤياه صادقة، وقيل: أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون، فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي.
والخلاصة (٢): أي وأنا أعلم في ابتلائي بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فاعلم أنه حي يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقَّ، وتحسبون أني بحزني ساخط على قضاء الله تعالى في شيء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلًا هو بالغه، وإني لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم في يوسف من قبل وبأخيه الذي كان يسليني عنه من بعده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أنا أعلم أن رؤيا يوسف حق، وأنني سأسجد له.
٨٧ - وقال السدي (٣): لما أخبره أولاده بسيرة الملك.. أحست نفسه، فطمع وقال: لعله يوسف، فقال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا﴾ إلى مصر
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: اذهبوا فتعرفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه، وإنما (٢) خصهما ولم يذكر الثالث، وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض واحتبس بمصر؛ لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها؛ لأنه إنما أقام مختارًا.
﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾؛ أي: ولا تقنطوا من فرجه سبحانه وتعالى وتنفيسه عن النفس هذا الكرب بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب. وقرأ (٣) الجمهور: ﴿تَيْأَسُوا﴾، وفرقة: ﴿تَيْأَسُوا﴾. وقرأ الأعرج: ﴿تَئَسُوا﴾ - بكسر التاء - والقراءتان اللتان عدا قراءة الجمهور شاذتان. واليأس والقنوط: انقطاع الرجاء. و ﴿رَوْحِ اللَّهِ﴾ - بفتح الراء -: رحمته وفرجه وتنفيسه؛ أي: إزالته الكرب عن النفس. قال ابن عطية: وكان معنى هذه القراءة: لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه يرجى حضوره، ومن هذا قول الشاعر:
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وكُلُّ ذِيْ غَيْبةِ يؤُوْبُ | وَغَائِبُ الْموْتِ لاَ يَؤوْبُ |
﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿لَا يَيْأَسُ﴾ ولا يقنط ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ ورحمته ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ بالله سبحانه وتعالى وبقدرته وسعة رحمته (١)، ويجهلون ما لله في عباده من حكم بالغة ولطف خفي، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر، أو جلب خير بخعوا أنفسهم - انتحروا - همًّا وحزنًا، أما المؤمن حقًّا فلا تقنطه المصائب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، يعني: أن المؤمن يصبر عند البلاء، وينتظر الفرج والرحمة، فيسأل به خيرًا، ويحمد الله عند الرخاء، والكافر بضد ذلك. ومن ثم قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء. وقرأ أبي شذوذًا: ﴿من رحمة الله﴾.
٨٨ - وقوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ فيه حذف واختصار (٢)، والتقدير: فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر، فذهبوا كما أمرهم أبوهم ليتحسسوا من يوسف وأخيه ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾؛ أي: على يوسف عليه السلام ﴿قَالُوا﴾ ليوسف ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾؛ أي: أيا أيها الملك الممتنع القادر الغالب ﴿مَسَّنَا﴾؛ أي: أصاب إيانا ﴿وَأَهْلَنَا﴾؛ أي: وعيالنا وأولادنا وهم من خلفوهم ﴿الضُّرُّ﴾؛ أي: الفقر والحاجة، والهزال والضعف؛ لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام، وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب، مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه؛ ليروا تأثير الشكوى فيه، فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجح أنه هو يوسف، فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه، وقالوا: ﴿وَجِئْنَا﴾ إليك
(٢) الخازن.
روي (٢): أن يعقوب أمر بعض أولاده، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء؛ أما جدي إبراهيم فإنه ابتلي بنار النمروذ، فصبر وجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأما أبي إسحاق فابتلي بالذبح، فصبر ففداه الله بذبح عظيم، وأما أنا فابتلاني الله بفقد ولدي يوسف فبكيت عليه حتى ذهب بصري، ونحل جسمي، وقد كنت أتسلى بهذا الغلام الذي أمسكته عندك، وزعمت أنه سارق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف كتاب أبيه اشتد بكاؤه وعيل صبره، وأظهر نفسه لأخوته.
٨٩ - ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر رد يوسف عليهم بقوله: ﴿قَالَ﴾ يوسف
(٢) روح البيان.
روي: أنه لمَّا قرأ كتاب يعقوب بكى وكتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى يعقوب إسرائيل الله من ملك مصر أما بعد: أيها الشيخ فقد بلغني كتابك وقرأته، وأحطت به علمًا، وذكرت فيه آباءك الصالحين، وذكرت أنهم كانوا أصحاب البلايا، فإنهم إن ابتلوا وصبروا ظفروا، فاصبر كما صبروا والسلام. فلما قرأ يعقوب الكتاب قال: والله ما هذا كتاب الملوك، ولكنه كتاب الأنبياء، ولعل صاحب الكتاب هو يوسف.
(٢) روح البيان.
وكان سؤاله (٢) إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه هو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداية إلى النهاية مصدقًا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه في غيابة الجبّ من قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. إذ يبعد أن يعرف هذا سواه.
٩٠ - ولما أرادوا أن يثبتوا من ذلك ويستيقنوا به وجهوا إليه سؤالًا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع وقالوا: ﴿أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾؛ أي: قالوا هل من المؤكد قطعًا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه، وهو يعرفهم، ويكتم نفسه، والاستفهام فيه للتقرير.
قرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن (٣): ﴿أَإِنَّكَ﴾ على لفظ الخبر بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة، ويبعد حمله على الخبر المحض. وقرأ (٤) نافع: ﴿أينك﴾ - بفتح الألف غير ممدودة وبالياء -. وقرأ أبو عمرو: ﴿آينك﴾ - بمد الألف وبالياء - وهو رواية قالون عن نافع. والباقون: ﴿أإنك﴾ بهمزتين وكل ذلك
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراح.
وقال: من قرأ على الخبر إن الأخوة لم يعرفوا يوسف حتى رفع التاج عن رأسه، فرأوا في قرنه علامة تشبه الشامة البيضاء كما كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك.
﴿قالَ﴾ يوسف عليه السلام جوابًا لهم ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله تعالى فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجبّ، ثم صرت إلى ما ترون ﴿وَهَذَا﴾؛ أي: بنيامين ﴿أَخِي﴾؛ أي: شقيقي الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾؛ أي: أنعم الله تعالى علينا، فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة وآنسنا بعد الوحشة، وخلصنا مما ابتلينا به. وقيل: منَّ علينا بكل عز وخير في الدنيا والآخرة. وقيل: منَّ علينا بالسلامة في ديننا ودنيانا. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين؛ لأنه أخي لا أخوكم.
قال بعض العلماء (١): إنما أظهر الاسم في قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ ولم يقل أنا هو تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته له، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك؛ فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني، وقصدتم قتلي بأن ألقيتموني في الجبّ، ثم بعتموني بأبخس الأثمان، ثم صرت إلى ما ترون، فكان تحت ظهور الاسم هذه المعاني كلها. ولهذا قال: ﴿وَهَذَا أَخِي﴾ وهم يعرفونه؛ لأنه قصد به أيضًا وهذا أخي المظلوم كما ظلمتموني، ثم صرت أنا وهو إلى ما ترون، وهو قوله: ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ بكل عز وخير في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشأن والحال ﴿مَنْ يَتَّقِ﴾ الله سبحانه وتعالى بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات ﴿وَيَصْبِر﴾ على المحن والبلايا والإذاية ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يُضِيعُ﴾ ولا يبطل ﴿أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالتقوى والصبر؛
والمعنى (١): أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإن الله لا يضيع أجره في الدنيا، ثم يؤتيه أجره في الآخرة.
وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين لله، وبأن من كان مطيعًا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعًا لنزغات الشيطان.. فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة إلا من تاب وعمل صالحًا، ثم اهتدى. وقرأ (٢) قنبل ابن كثير: ﴿من يتقي﴾ - بالياء - وصلًا ووقفًا. فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغةً، وقيل غير ذلك. وقرأ الباقون بحذفها وصلًا ووقفًا، والإعراب على قراءتهم ظاهر واضح.
تنبيه: فإن قيل: لِمَ لَمْ يعرف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة وجاه، فيكون في ذلك السرور كل السرور له؟
فالجواب عن ذلك: ما أجاب به ابن القيم في كتابه "الإغاثة الكبرى" قال رحمه الله تعالى: لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه سنَّة الله تعالى في الغايات العظيمة الحميدة إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابًا من المحن والبلايا والمشاق،
(٢) البحر المحيط.
٩١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال إخوة يوسف له ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى واختارك وفضلك ﴿عَلَيْنَا﴾ بالعلم والحلم والفضل والعقل والملك ﴿وَإِنْ كُنَّا﴾؛ أي: وإن الشأن والحال كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك ﴿لَخَاطِئِينَ﴾؛ أي: لآثمين متعمدين للخطيئة غير متقين الله؛ ولا عذر لنا فيها عند الله، ولا عند الناس، وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار.
٩٢ - وبعد أن قدموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا ولذلك ﴿قَالَ﴾ يوسف عليه السلام: ﴿لَا تَثْرِيبَ﴾؛ أي: لا لوم ولا تعنيف ولا تقريع ولا تعيير ﴿عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم الذي هو مظنته، ولكن لكم عندي الصفح والعفو، وهو إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى. والتثريب (١): تفعيل من الثرب، وهو الشحم الذي يغشي الكرش، ومعناه: إزالة الثرب، فكأن التعيير والاستقصاء في اللوم يذيب جسم الكريم وثربه لشدته عليه كما في "الكواشي". وقال ابن الشيخ: سمي التقريع تثريبًا تشبيهًا له بالتثريب في اشتمال كل منهما على معنى التمزيق، فإن
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا | وَالْيَوْمَ نَتْبَعُ مَنْ كَانُوْا لَنَا تَبَعَا |
ثم ابتدأ، فقال: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ويعفو ﴿لَكُمْ﴾ عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم.
وفي "الخازن" (١): وفي محل قوله: ﴿الْيَوْمَ﴾ قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى ما قبله، فيكون التقدير: لا تثريب عليكم اليوم، والمعنى: إن هذا اليوم هو يوم التثريب والتقريع والتوبيخ، وأنا لا أقرعكم اليوم ولا أوبخكم ولا أثرب عليكم، فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾، ويبتدأ بقوله: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
والقول الثاني: أن اليوم متعلق بقوله: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فعلى هذا يحسن الوقف على قوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾، ويبتدأ بـ ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ كأنه لما نفى عنهم التوبيخ والتقريع بقوله: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ بشرهم بقوله: ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم، فيجازي، محسنهم، ويغفر لمسيئهم؛ لأن (٢) رحمة الراحمين أيضًا برحمته، أو لأن رحمتهم جزء من رحمته تعالى، والمخلوق إذا رحم فكيف الخالق. قال في "بحر العلوم" الذنب للمؤمن سبب للوصلة، والقرب من الله تعالى، فإنه سبب لتوبته، وإقباله على الله تعالى.
(٢) روح البيان.
وقد تمثل النبي - ﷺ - بهذه الآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت، وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال: "ما تظنون أني فاعل بكم"؟ قالوا: نظن خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: وأنا أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ فخرجوا كأنما نشروا من القبور". أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن أبي هريرة.
٩٣ - روي (١): أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره، فعند ذلك أعطاهم قميصه، وقال: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾ الذي على بدني أو بيدي ﴿فَأَلْقُوهُ﴾؛ أي: فألقوا هذا القميص ﴿عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾ حين وصولكم إليه دون تأخير ﴿يَأْتِ بَصِيرًا﴾؛ أي: يصير بصيرًا على أن ﴿يأت﴾ هي التي من أخوات (كان)، قال الفراء: يرجع بصيرًا. وقال السدي: يعد بصيرًا، وقيل: معناه يأت إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى. وقد علم هذا؛ إما بوحي من الله تعالى، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما إصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس، فإذا ألقي عليه قميصه شرح صدره، وسر أعظم السرور، وقوي بصره، وزالت عنه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتي بعد. ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ من الرجال والنساء والذراري وغيرهم. وقد روي أن أهله كانوا سبعين رجلًا وامرأة وولدًا. فإن الأهل يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء، وبالأقارب وبالأصحاب وبالمجموع.
روي (٢) أن يهوذا حمل القميص، وقال: أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه، فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، ومعه سبعة
(٢) روح البيان.
٩٤ - ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾؛ أي: ولما انفصلت عير بني يعقوب عن حدود مصر، وخرجت منها قافلة إلى أرض الشام ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعقوب عليه السلام لمن حضره من حفدته ومن غيرهم: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾؛ أي: لأشم رائحة يوسف كما عرفتها في صغره. وفي "التبيان" هاجت الريح، فحملت ريح القميص من مسافة ثمانين فرسخًا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص انتهى. وهذا موافق لما سبق من أنه كان في القميص ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلا عوفي، فالخاصية في ريح الجنة لا في ريح يوسف كما ذهب إليه "البيضاوي". وأما الإضافة في قوله: ﴿رِيحَ يُوسُفَ﴾ فللملابسة كما لا يخفى ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾؛ أي: لولا أنا تنسبوني إلى الفند، وهو الخرف ونقصان العقل وفساد الرأي من هرم. وجواب ﴿لَوْلَا﴾ محذوف تقديره: لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني فيما أقول لكم، فوجد ريحه من ثمانية أيام. وفي رواية من ثمانين فرسخًا، والمراد: من مسافات بعيدة جدًّا. والفند (٢): وهو نقصان العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة؛ إذ لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها؛ أي: نقصان عقلها ذاتي لا حادث من عارض الهرم.
واعلم: أن الخرف لا يطرأ على الأنبياء والورثة؛ لأنه نوع من الجنون الذي هو من النقائص، وهم مبرأون مما يشين بهم من الآفات.
(٢) روح البيان.
سَلْوَتِيْ عَنْكُمُ احْتِمَالٌ بَعِيْدٌ | وَافْتِضَاحِيْ بِكُمْ ضَلاَلٌ قَدِيْمُ |
كُلُّ مَنْ يَدَّعِيْ الْمَحَبَّةَ فِيْكُمُ | ثُمَّ يَخْشَى الْمَلاَمَ فَهُوَ مُلِيْمُ |
قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها له.
٩٦ - و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ صلة؛ أي: زائدة لتأكيد (٢) الفعلين واتصالهما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان من غير فاصل وقت؛ أي: فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف، وهو الذي حمل إليه قميصه الملطخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة ﴿أَلْقَاهُ﴾؛ أي: ألقى البشير القميص وطرحه ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾؛ أي: على وجه يعقوب ﴿فَارْتَدَّ﴾ يعقوب؛ أي: عاد ورجع يعقوب من فوره ﴿بَصِيرًا﴾؛ أي: ذا بصر كما كان قبل فراق يوسف. والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، وهو من الأفعال الناقصة؛ أي: عاد ورجع بصيرًا بعدما كان قد عمي، ورجعت قوته وسروره بعد الضعف والحزن، بل قد قيل: إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثيرًا ما شفى السرور من الأمراض، وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك، وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعي من ربه بصدق ما يقول، كما قال سبحانه: ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوب: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾ يا بني حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتجسس، ونهيتكم عن اليأس من روح الله: - والاستفهام فيه تقريري - {إِنِّي
(٢) روح البيان.
نبذة في تعليل شم يعقوب رائحة يوسف (٢)
أثبت العلم حديثًا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلًا إلى أوروبا، وهي مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام، وهي بلا شك تحمل رائحة ماله منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منهما شمًّا. فالكلب ذو حاسة قوية في الشم حتى ليدربه الآن رجال الشرطة، ويستخدمونه في حوادث الإجرام من قتل وسرقة، لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلم، فيشم المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلًا قويًّا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلًا قاطعًا في بعض الدول.
والروائح منها القوي والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواص عالم الغيب، لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر. وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به؛ لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد. وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه، أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا: إنه لشدة تفكره في أمر ولده، وتذكره لرائحته حين كان يضمه ويشمه شعر
(٢) المراغي.
٩٧ - وقوله: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا﴾ مرتب على محذوف تقديره: ولما رجع أولاد يعقوب من مصر، ووصلوا إلى أبيهم إثر مجيء البشير قالوا يا أبانا: ﴿اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾؛ أي: اسأل الله سبحانه وتعالى، واطلب منه أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا ﴿إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾؛ أي: متعمدين لهذه الخطيئة عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قومًا صالحين، الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه.
وإنما سألوه المغفرة (١)؛ لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لا يسقط المأثم عنهم إلا بإحلاله. قلت: وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلمًا في نفسه أو ماله، أو غير ذلك ظالمًا له، فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينفع، فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها، والله أعلم.
وفي "صحيح البخاري" وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء.. فليحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه".
وعن الشعبي (٢): ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ قال: أسأل يوسف، إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي، فإن عفو المظلوم شرط المغفرة، فأخر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف، فلما قدموا عليه في مصر قام إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة، وكانت ليلة عشوراء، فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر جزعي على يوسف، وقلة صبري منه، واغفر لأولادي ما أتوا به أخاهم، وقام يوسف خلفه يؤمِّن، وقام إخوته خلفهما أذلة خاشعين، فأوحى الله تعالى إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين، ثم لم يزل يدعو لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة إلى أن حضرت الوفاة.
وقال في "روح البيان": سوف وعسى ولعل في وعد الأكابر والعظماء يدل على صدق الأمر وجده، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وترك استعجالهم، فعلى ذلك جرى وعد يعقوب كأنه قال: إني أستغفر لكم ربي لا محالة، وإن تأخر كما في "بحر العلوم".
فائدة: والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة:
١ - أن حال أبيهم معهم حال المربي المرشد للمذنب، لا حال المنتقم
(٢) روح البيان.
٢ - أن ذنبهم لم يكن موجهًا إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم إلا أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره.
٣ - أن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية، وأعمال كان لها خطرها، فلا يمحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس والأرجاس التي باضت وفرخت فيها. فلا يحسن بعدئذ من المربي الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه، حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبث في الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه، ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.
٤ - أن حال يوسف معهم كان حال القادر، بل المالك القادر مع مسيء ضعيف لديه عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلًا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم في ذلك أحسن الأسوة. وفي هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا في وجل مما سيحل بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا في قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابًا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عامًّا، والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك، وهو العليم الحكيم.
تأويل رؤيا يوسف من قبل
٩٩ - وقوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه ﴿آوَى﴾ يوسف وضم ﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾؛ أي: أباه وخالته
روي (١): أن يوسف وجه إلى أبيه جهازًا كثيرًا ومئتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فتوجه مع أولاده وأهاليهم إلى مصر على رواحلهم، فلما قربوا من مصر أخبر بذلك يوسف، فاستقبله يوسف والملك الريان - في أربعة آلاف من الجند، أو ثلاث مئة ألف فارس - والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، ومع كل واحد من الفرسان جنة من فضة وراية من ذهب، فتزينت الصحراء بهم واصطفُّوا صفوفًا، وكان الكل غلمان يوسف ومراكبه، ولما صعد يعقوب تلًّا ومعه أولاده وحفدته؛ أي: أولاد أولاده ونظر إلى الصحراء مملوءة من الفرسان مزينة بالألوان نظر إليهم متعجبًا، فقال له جبريل: انظر إلى الهواء، فإن الملائكة قد حضرت سرورًا بحالكم كما كانوا محزونين مدة لأجلك، ثم نظر يعقوب إلى الفرسان، فقال: أيهم ولدي يوسف؟ فقال جبريل: هو ذاك الذي فوق رأسه ظلة، فلم يتمالك أن أوقع نفسه من البعير، فجعل يمشي متوكئًا على يهوذا، فقال جبريل: يا يوسف إن أباك يعقوب قد نزل لك، فانزل له، فنزل من فرسه وجعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر، فلما تقاربا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام، فقال جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب به؛ لأنه أفضل وأحق، فابتدأ به
﴿وَقَالَ﴾ يوسف لجميع أهله قبل أن يدخلوا مصر: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ للإقامة بها ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى دخولكم حالة كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الجوع والخوف وسائر المكاره قاطبة على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدًا؛ لأنهم كانوا قبل ولاية يوسف يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بإجازتهم لكونهم جبابرة. قيل (١): المراد بالدخول الأول في قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ أرض مصر، وذلك حين استقبلهم، ثم قال: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ يعني البلد. وقيل: إنه أراد بالدخول الأول دخولهم مصر، وأراد بالدخول الثاني الاستيطان بها؛ أي: ادخلوا مصر مستوطنين فيها.
والمشيئة في قوله: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ متعلقة بالدخول والأمن معًا كقولك للغازي: إرجع سالمًا غانمًا إن شاء الله، فالمشيئة متعلقة بالسلامة والغنم معًا. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله تعالى.
والمعنى: أي (٢) وقال لهم يوسف: ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله تعالى آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سني القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة في كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم، وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم. وهذا من شأن المؤمنين، ولا سيما الأنبياء والصديقون.
(٢) المراغي.
فلما جاءت هذه الشريعة نسخت تلك الفعلة، فقوله: ﴿سُجَّدًا﴾ حال مقدرة كما أشرنا إليه في الحال؛ لأن السجود إنما يكون بعد الخرور.
وقيل: المراد بالسجود هنا: الانحناء لا وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: أهوى أبوا يوسف وإخوته عن القيام والانتصاب تحية وتكرمة له حالة كونهم سجدًا؛ أي: منحنين بظهورهم، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء في عهدهم كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير.
والرفع في قوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ مؤخر عن الخرور في قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ﴾؛ إذ السجود له كان قبل الصعود على السرير في أول الملاقاة؛ لأن ذلك هو وقت التحية إلا أنه قدم لفظًا؛ للاهتمام بتعظيمه لهما، والترتيب الذكري لا يجب كونه
فائدة: قال لقمان الحكيم رضي الله عنه: خدمت أربعة آلاف نبي، واخترت من كلامهم ثماني كلمات: إن كنت في الصلاة.. فاحفظ قلبك، وإن كنت في بيت الغير.. فاحفظ عينيك، وإن كنت بين الناس.. فاحفظ لسانك، واذكر اثنين وانس اثنين، أما اللذان تذكرهما فالله والموت، وأما اللذان تنساهما إحسانك في حق الغير وإساءة الغير في حقك. ذكره في "روح البيان".
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ أي: من البادية، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية، وهي أرض كنعان بالشام. وقال علي بن طلحة؛ أي: من فلسطين. ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾ وأفسد ﴿بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ بالحسد، وحمل بعضنا على بعض، وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرمًا منه وتأدبًا؛ أي: وقد أحسن بي ربي من بعد أن أفسد الشيطان ما بيني وبين إخوتي من عاطفة
الإعراب
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم والله، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿تَفْتَأُ﴾: فعل مضارع ناقص من أخوات زال منفي بلا المحذوفة؛ لأن جواب القسم الخالي من اللام ونون التوكيد.. يجب كونه منفيًّا، فلا بدّ من تقدير لا معه، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبًا تقديره: أنت يعود على يعقوب. ﴿تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿تَفْتَأُ﴾، وجملة ﴿تَفْتَأُ﴾: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿أَشْكُو بَثِّي﴾: فعل ومفعول. ﴿وَحُزْنِي﴾: معطوف على ﴿بَثِّي﴾، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَشْكُو﴾. ﴿وَأَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿أعلم﴾؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة ﴿أعلم﴾: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَشْكُو﴾.
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧)﴾.
﴿يَا بَنِيَّ﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿بني﴾: منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء المدغمة في ياء المتكلم؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، لأن أصله: يا بنين لي، حذفت النون للإضافة، واللام للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿اذْهَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَتَحَسَّسُوا﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿تحسسوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اذْهَبُوا﴾. ﴿مِنْ يُوسُفَ﴾: متعلق به. ﴿وَأَخِيهِ﴾: معطوف
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فخرجوا من عند أبيهم، فذهبوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿دَخَلُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الْعَزِيزُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿مَسَّنَا﴾: فعل ومفعول. ﴿وَأَهْلَنَا﴾: معطوف على ضمير المفعول. ﴿الضُّرُّ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَجِئْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَسَّنَا﴾. ﴿بِبِضَاعَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جئنا﴾. ﴿مُزْجَاةٍ﴾: صفة لـ ﴿بضاعة﴾. ﴿فَأَوْفِ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿أوف﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يوسف. ﴿لَنَا﴾: متعلق به. ﴿الْكَيْلَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَجِئْنَا﴾. ﴿وَتَصَدَّقْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿أوف﴾، وفاعليه ضمير يعود على يوسف. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التوبيخي. ﴿عَلِمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به؛ لأنه بمعنى عرف. ﴿فَعَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِيُوسُفَ﴾: متعلق به. ﴿وَأَخِيهِ﴾: معطوف على ﴿يوسف﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما فعلتموه. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿فَعَلْتُمْ﴾.
﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿أَإِنَّكَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿إنك﴾: ناصب واسمه. ﴿لَأَنْتَ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿أنت يوسف﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، ويجوز أن يكون ﴿أنت﴾: ضمير فصل، ولا يجوز أن يكون توكيدًا لاسم ﴿إن﴾؛ لأن هذه اللام لا تدخل على التوكيد. اهـ. "سمين"، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَهَذَا أَخِي﴾: مبتدأ وخبر معطوف على جملة قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾. ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب. ﴿يَتَّقِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على
﴿فَإِنَّ﴾: (الفاء): رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، والرابط بين جملة الشرط وبين جوابها؛ إما العموم في ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾، وإما الضمير المحذوف؛ أي: المحسنين منهم، وإما لقيام أل مقامه، والأصل محسنهم، فقامت أل مقام ذلك الضمير، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وهذا الإعراب على قراءة الجمهور في ﴿يَتَّقِ﴾. وأما قراءة قنبل فاختلف الناس فيها على قولين:
أجودهما: أن إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب.
والثاني: أنه مرفوع غير مجزوم، و ﴿مَنْ﴾ موصولة، والفعل صلتها، فلذلك لم تحذف لامه. اهـ. "سمين"، وحذفت الضمة في ﴿يصبر﴾ على هذه القراءة فرارًا من ثقل توالي الحركات، أو نوى الوقف عليه وأجرى الوصل مجرى الوقف.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا تقديره: أقسم والله، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لَقَدْ﴾: (اللام): موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آثَرَكَ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب القسم. ﴿وَإِنْ﴾: (الواو): عاطفة. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿كان﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة معطوفة على جواب القسم.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يوسف، والجملة مستأنفة. ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ إلى قوله: ﴿أَجْمَعِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَثْرِيبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْكُمُ﴾: خبر ﴿لَا﴾. ﴿الْيَوْمَ﴾: خبر ثان لها، أو متعلق باسم ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)﴾.
﴿اذْهَبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِقَمِيصِي﴾: متعلق به على أنه مفعول به، أو حال من واو ﴿اذهبوا﴾. ﴿هَذَا﴾. بدل من ﴿قميصي﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَلْقُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿اذْهَبُوا﴾. ﴿عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ألقوه﴾. ﴿يَأْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿بَصِيرًا﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتِ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأْتُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول ونون وقاية معطوف على ﴿ألقوه﴾. ﴿بِأَهْلِكُمْ﴾: متعلق به أو حال من واو الفاعل. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لـ ﴿أهلكم﴾.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة. ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَأَجِدُ﴾: (اللام): حرف ابتداء. ﴿أجد ريح يوسف﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على أبيهم، وجملة وجد في
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): استئنافية. ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿أَنْ﴾: زائدة. ﴿جَاءَ الْبَشِيرُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿أَلْقَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْبَشِيرُ﴾. ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾: مستأنفة. ﴿فَارْتَدَّ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿ارتد﴾: فعل ماضٍ ناقص من أخوات صار، واسمه ضمير يعود على يعقوب. ﴿بَصِيرًا﴾: خبره، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَلْقَاهُ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَلَمْ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿أَقُلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾ وفاعله ضمير يعود
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَبَانَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَانَا﴾: منادى منصوب بالألف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿اسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿لَنَا﴾: متعلق به ﴿ذُنُوبَنَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا خَاطِئِينَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها تعليلًا لما قبلها.
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على يعقوب، والجملة مستأنفة. ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿سَوْفَ﴾: حرف تنفيس. ﴿أَسْتَغْفِرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على يعقوب. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿رَبِّي﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَفُورُ﴾: خبر أول لـ ﴿إن﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: (الفاء): عاطفة على محذوف تقديره: فرحل يعقوب وأولاده إلى
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾.
﴿وَرَفَعَ﴾ (الواو): عاطفة. ﴿رفع أبويه﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آوَى﴾. ﴿وَخَرُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾: متعلق به. ﴿سُجَّدًا﴾: حال مقدرة من فاعل ﴿وَخَرُّوا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آوَى﴾. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿يُوسُفَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿خروا﴾. ﴿يَا أَبَتِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا أَبَتِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿رُؤْيَايَ﴾. ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾: فعل ومفعول أول وفاعل ومفعول ثان؛ لأن جعل هنا بمعنى صير، والجملة في محل النصب حال مقدرة من ﴿رُؤْيَايَ﴾.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ
﴿وَقَدْ﴾ (الواو): حالية، أو عاطفة. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَحْسَنَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الرب. ﴿بِي﴾: جار ومجرور بمعنى إليّ متعلق بـ ﴿أَحْسَنَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿رَبِّي﴾، أو معطوفة على جواب النداء. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿أَحْسَنَ﴾. ﴿أَخْرَجَنِي﴾: فعل ومفعول ونون وقاية. ﴿مِنَ السِّجْنِ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَجَاءَ﴾: فعل ماضٍ معطوف على ﴿أَخْرَجَنِي﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنَ الْبَدْوِ﴾: متعلق به أيضًا. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله. ﴿أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَزَغَ﴾. ﴿وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾: ظرف ومضاف إليه معطوف على الظرف قبله. ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لما قبلها. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿لَطِيفٌ﴾؛ لأنه بمعنى مدبر. ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: لما يشاءه. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر أول. ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿تَاللَّهِ تَفْتَأُ﴾ (١) مضارع فتىء من أخوات كان الناقص، قال أوس بن حجر:
فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارَهَا | سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِيْ رِيَاحٍ تُرْفَعُ |
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوْبُ وَتَدَّعِيْ | وَيَلْحَقُ مِنْهَا لاَحِقٌ وَتَقَطَّعُ |
﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ والحرض (١): المشفي على الهلاك: يقال: حرض فهو حرض - بكسر الراء - حرضًا - بفتحها - وهو المصدر، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع، وأحرضه المرض فهو محرض.
قال الشاعر:
أَرَى الْمَرْءَ كَالأَزْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا | كَإِحْرَاضِ بَكْرٍ فِيْ الدِّيَارِ مَرِيْضُ |
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي﴾ البث في (٢) الأصل: إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل في إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم والشر. والبث (٣): ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها كذا قال أهل اللغة، وهو مأخوذ من بثثته؛ أي: فرقته، فسميت
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
قال ذو الرمة:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْع لِمَيَّةَ يَا فَتَى | فَمَا زِلْتُ أَبْكِيْ عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ |
وَأَسْقِيْهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ | تُكَلَّمُنِيْ أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ |
﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾؛ أي: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء، فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتف به، فهو روح. وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضًا أنه قال: الروح الاستراحة من غم القلب. وقال أبو عمرو: الروح الفرج، وقيل: الرحمة، ويقال: أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.
﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ البضاعة: هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء، يقال: أبضعت الشيء واستبضعته إذا جعلته بضاعة. وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال (٢):
أحدها: كانت دراهم.
والثاني: كانت متاعًا رثًّا كالحبل والغرارة.
والثالث: كانت أقطا.
والرابع: كانت نعالًا وأدمًا.
(٢) زاد المسير.
والسادس: كانت حبة الخضراء وصنوبرًا.
والسابع: كانت صوفًا وشيئًا من سمن.
﴿مُزْجَاةٍ﴾؛ أي: مردودة يردها كل بائع على المشتري لردائتها. وفي "القاموس": زجاه إذا ساقه ودفعه كزجاة وأزجاه، وبضاعة مزجاة: قليلة، أو لا يتم صلاحها. اهـ. وفي "المصباح": زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب: تسوقه رفيقًا، يقال: أزجاه بوزن أرضاه، وزجاه بالتثقيل كزكّاه. اهـ.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ جمع خاطئ، والخاطىء: هو الذي يأتي بالخطيئة عمدًا، والمخطىء من إذا أراد الصواب صار إلى غيره، والخطء: الذنب، وخطأته: قلت له: أخطأت. وفي "الخازن": يقال: خطىء إذا كان عن عمد، وأخطأ إذا لم يكن عن عمد، ولهذا قيل هنا: خاطئين، ولم يقل: مخطئين. اهـ.
﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾؛ أي: لا تعيير ولا توبيخ؛ أي: لا أوبخكم ولا أقرعكم اليوم. اهـ. "خازن". وفي "المصباح": ثرب عليه يثرب - من باب ضرب -؛ إذا عتب ولام عليه، وبمضارعه الذي بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة الرسول - ﷺ -، فسميت المدينة باسمه. قال السهيلي: وَثرَّب - بالتشديد - مبالغة وتكثير، ومنه قوله تعالى: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾. والثَرْبُ - وزان قلس - شحم رقيق على الكرش والأمعاء. اهـ. وفي "المختار": عتب عليه وجد، وبابه ضرب ونصر. اهـ. وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم، والمعنى: أي: لا تعداد للذنوب ولا توبيخ عليكم، يقال: ثرب فلان على فلان إذا بكته بفعله، وعدد عليه ذنوبه. اهـ. "كرخي".
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ يقال: فصل عن البلد إذا انفصل وجاوز حيطانه ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾؛ أي: تنسبوني إلى الفند، وهو فساد الرأي وضعف العقل والخرف من الكبر. وفي "السمين": التفنيد الإفساد يقال: فندت فلانًا؛ أي: أفسدت رأيه ورددته. وفي "المختار": الفَنَد - بالتحريك الكذب وهو أيضًا ضعفُ الرأي من
﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾؛ أي: ضمهما إليه واعتنقهما أصله: أأوى من باب أفعل الرباعي، فقلبت الهمزة الثانية ألفًا، فصار أوى. ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ أي: أصعدهما عليه، والعرش، كرسي تدبير الملك، لا كل سرير يجلس عليه الملك. ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾؛ أي: أهوى أبواه وإخوته إلى الأرض، وسقطوا له ساجدين.
﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ أي: من البادية، والبدو: هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني: يظهر، والبدو خلاف الحضر، والبادية خلاف الحاضرة، وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية، فسكنوا البادية. اهـ. "خازن". وفي "القرطبي": وقيل: كان يعقوب تحول إلى البادية وسكنها، وإن الله تعالى لم يبعث نبيًّا عن أهل البادية. اهـ.
﴿مِنْ بَعْدِ﴾. ﴿أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ﴾ في "المختار": نزغ الشيطان بين القوم: أفسد، وبابه قطع. اهـ. وفي "الخازن": وأصل النزغ: الدخول في أمر لإفساده، اهـ.
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ وفي "البيضاوي": لطيف لما يشاء؛ أي: من أحوال خلقه؛ أي: لطيف التدبير له؛ إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها. اهـ. يعني: إن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته إذا أراد شيئًا سهل أسبابه، فيطلق عليه اللطيف؛ لأن ما يلطف يسهل نفوذه. اهـ. "شهاب".
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة، وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾؛ لأنه في تقدير: لا تفتأ وهو من قبيل التورية كما في "الصاوي".
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾، وفيه أيضًا الإظهار في مقام الإضمار؛ لأن حق العبارة: إنه لا ييأس منه.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ استعير الروح؛ وهو تنسيم الريح الذي يلذ شميمها، ويطيب نسيمها للفرج الذي يأتي بعد الكرية واليسر الذي يأتي بعد الشدة.
ومنها: وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ حق العبارة: إن الله يجزيك، عدلوا إلى الظاهر لشكهم في إيمانه، فعبروا بهذه العبارة المحتملة.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿تصدق﴾ و ﴿الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ﴾ والاستفهام التقريرى في قوله: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾.
ومنها: الإتيان بالاسم الظاهر بدل الضمير في قوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ لم يقل: أنا هو، بل عدل إلى هذ الظاهر تعظيمًا لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من النصر والظفر والملك، فكأنه قال: أنا يوسف المظلوم الذي ظلمتموني وقصدتم قتلي.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وحق العبارة: فإن الله لا يضيع أجرهم.
ومنها: الاعتراض بالجملة الشرطية بين الحال وصاحبها في قوله: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ لغرض التبرك، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ لأن المراد بهما الأب والأم، فهو من باب التغليب.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٠١ - ولمّا أتمّ الله (١) سبحانه نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه منه من المحن العظيمة، وبما خوله من الملك وعلمه من العلم.. تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع، فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾؛ أي: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له في الأرض: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي﴾؛ أي: (٢) أعطيتني بعض الملك؛ أي: بعضًا منه عظيمًا، وهو ملك مصر، إذ لم يكن له ملك كل الدنيا، وجعلتني متصرفًا فيها بالفعل، وإن كان لغيري بالاسم، ولم يكن لي فيها حاسد ولا باغٍ؛
(٢) روح البيان.
روي (٢): أن يعقوب أقام مع يوسف في مصر أربعًا وعشرين سنة، وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج، فوافق يوم وفاة عيص، فدفنا في قبر واحد، وكانا ولدا في بطن واحد، وكان عمرهما مئة وسبعًا وأربعين كما في تفسير أبي الليث، فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثًا وعشرين سنة، وكان عمره مئة وعشرين سنة، فلما جمع الله شمله وانتظمت أسبابه، واطردت أحواله، ورأى أمره على الكمال.. علم أنه أشرف على الزوال، وأن نعيم الدنيا لا يدوم على كل حال، قال قائلهم:
إِذَا تَمَّ أَمْرٌ دَنَا نَقْصُهُ | تَوَقَّعْ زَوَالًا إِذَا قِيْلَ تَمّ |
قال ابن الكمال (٤): الأحاديث مبني على واحده المستعمل، وهو الحديث كأنهم جمعوا حديثًا على أحدثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع. والمراد بالأحاديث: الرؤى جمع الرؤيا، وتأويلها بيان ما تؤول هي إليه في الخارج، وعلم التعبير من العلوم الجليلة، لكنه ليس من لوازم النبوة والولاية، فقد يعطيه الله تعالى بعض خواصه على التفصيل، وبعضهم على الإجمال. {فَاطِرَ
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
أحدهما: أنه سأل الله الوفاة في الحال. قال قتادة: لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف. قال أصحاب هذا القول: إنه لم يأت عليه أسبوع بعد هذا الدعاء حتى توفاه الله.
والقول الثاني: - وعليه الجماهير -: أنه سأل الوفاة على الإسلام، ولم يتمن الموت في الحال. قال الحسن: إنه عاش بعد هذه الدعوة سنين كثيرة. وعلى هذا القول يكون معنى الآية: توفني إذا توفيتني على الإسلام، فهو طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه طلب الوفاة في الحال. قال بعض العلماء: وكلا القولين محتمل؛ لأن اللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد من الرجل العاقل الكامل أن يتمنى الموت لعلمه أن الدنيا ولذاتها فانية زائلة سريعة الذهاب، وأن نعيم الآخرة باق دائم لا نفاد له ولا زوال. ﴿وَأَلْحِقْنِي﴾ يا رب ﴿بِالصَّالِحِينَ﴾؛ أي: بآبائي المرسلين إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك في النعمة والكرامة، فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
فإن قلت: (١) كيف قال يوسف ذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلمًا؟.
فالجواب: إما أنه حصل له حالة غلب عليه الخوف فيها، فذهل عن ذلك العلم، أو أنه دعا بذلك مع علمه إظهارًا للعبودية، والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليمًا لغيره، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر، والمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى. اهـ. "كرخي".
١٠٢ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من نبأ يوسف يا محمد ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: من الأخبار التي غاب عنك علمها ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ على لسان جبريل، وهو خبر ثان لقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿لَدَيْهِمْ﴾؛ أي: عند إخوة يوسف ﴿إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾؛ أي: حين عزموا على إلقاءهم يوسف في غيابة الجبّ، فإن الإجماع العزم على الأمر، يقال: أجمعت الأمر وعليه ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم يحتالون بيوسف ليقتلوه وبأبيه يعقوب ليرسله معهم؛ أي: ذلك (٢) الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي. وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه. ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور، فيكون معجزًا؛ لأن محمدًا - ﷺ - لم يطالع الكتب، ولم يأخذ عن أحد من البشر، وما كانت بلده بلد العلماء، فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزًا.
وإنما نفي الحضور وانتفاؤه معلوم بغير شبهة تهكمًا بالمنكرين للوحي من قريش وغيرهم (٣)؛ لأنه كان معلومًا عند المكذبين علمًا يقينًا أنه عليه السلام ليس من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا قرأ على أحد، ولا سمع منه، وليس من علم قومه، فإذا أخبر به لم يبق شبهة في أنه من جهة الوحي لا من عنده، فإذا أنكروه تهكم بهم، وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرين أنه لا سماع له من أحد ولا قراءة، ولا حضور ولا مشاهدة لمن مضى من القرون الخالية.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
١٠٣ - وخلاصة هذا: أن الله تعالى أطلع رسوله على أنباء ما سبق؛ ليكون فيها عبرة للناس في دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ عام لأهل مكة وغيرهم ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات الدالة على صدقك لهم. والحرص: طلب الشيء باجتهاد في إصابته ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ لعنادهم وتصميمهم على الكفر؛ أي: وما أكثر الناس من مشركي مكة وغيرهم ولو حرصت على أن يؤمنوا بك، ويتبعوا ما جئتهم به من
(٢) المراغي.
فإن قلت (١): فما فائدة التكليف والأمر بما يعلم عدم وقوعه؟
قلتُ: فائدته تمييز من له استعداد ذلك؛ لتظهر السعادة والشقاوة وأهلهما. فإن قلت: لم كان الكفرة أكثر مع أن الله تعالى خلق الخلق للعبادة؟.. قلت: المقصود ظهور الإنسان الكامل، وهو واحد كألف.
١٠٤ - ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ﴾ يا محمد ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك وعلى تبليغ القرآن ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: من مال يعطونك كما يفعله حملة الأخبار ونقال الآثار. والمراد: إنا أرخينا العلة في التكذيب حيث بعثناك مبلغًا بلا أجر. وقرأ بشر بن عبيد: ﴿وما نسألهم﴾ - بالنون -؛ أي: وما (٢) تسأل يا محمد هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته، وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله سبحانه وتعالى.
والخلاصة: أنك لا تسألهم على ذلك مالًا ولا منفعة، فيقولوا: إنما تريد بدعائك إيانا إلى اتباعك أن ننزل لك من أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حاله من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرًا على التبليغ والهدى. والقرآن مليء بنحو هذا كما في سورتي هود والشعراء وغيرهما.
وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرًا، فقد كان حقًّا عليهم أن يعلموا أنك
(٢) المراغي.
١٠٥ - ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بمعنى: كم الخبرية مبتدأ، خبره جملة ﴿يَمُرُّونَ﴾ الآتي؛ أي: وكثير من آيات وعلامات دالة على توحيد الله تعالى، وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر، ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار كائنة في السموات والأرض. وجملة قوله: ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ خبر ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ أي: يمر أكثر الناس على تلك الآيات ويشاهدونها ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم عن الاعتبار بتلك الآيات معرضون ولا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون بها، وهم غافلون عما فيها من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء، فأحسن تدبيره. وبالجملة (١) فما في السموات والأرض من عجائب وأسرار، وإتقان وإبداع؛ ليدل أتم الدلالة على العلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة التامة.
والذين يشتغلون بعلم ما في السموات والأرض وهم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره، يمتعون عقولهم بلذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة في لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل؛ إذ الفكر وحده، وإن كان مفيدًا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة.
والمشهور في ﴿كأين﴾ عندهم أنه (٢) مركب، من كاف التشبيه ومن أي،
(٢) البحر المحيط.
١٠٦ - ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: وما يصدق ويقرُّ أكثر الناس بوحدانية الله تعالى وبألوهيته، وبكونه الخالق الرازق المحيي المميت في حال من الأحوال ﴿إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ بالله تعالى؛ أي: إلا في حال إشراكهم بالله تعالى في عبادتهم سواه من الأصنام والأوثان والملائكة والبشر، فالكافرون مقرون بوجود الله تعالى، لكنهم يثبتون له شريكًا في المعبودية.
قال ابن عباس (١): فأهل مكة قالوا: ربنا الله وحده لا شريك له والملائكة بناته. وقال عبدة الأوثان والأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده. وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا. وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك معه.
وقال ابن عباس أيضًا (٢): وأهل مكة كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؛ وهذا هو الشرك الأعظم إذ يعبد مع الله غيره. وفي "صحيح مسلم" أنهم كانوا إذا قالوا: لبيك لا
(٢) المراغي.
١٠٧ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَأَمِنُوا﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أغفل هؤلاء المشركون عن مكر الله تعالى فأمنوه ولم يخافوا ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ في الدنيا ﴿غَاشِيَةٌ﴾؛ أي: عقوبة تغشاهم وتشملهم ﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾ والقيامة ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة من غير سبق علامة ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانها غير مستعدين لها؛ أي: أفأمن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ربهم، ويشركون به في عبادتهم غيره تعالى أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم وكفرهم بربهم، فيخلّدهم في نار جهنم. والآية كقوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧)﴾. وقوله: ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾.
وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لَقِحَتِهِ - الناقة ذات الدر - فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته - لقمته - إلى فيه فلا يطعمها". والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم، فلا يشعرون إلا وقد أتتهم. والحكمة في إبهام وقتها أن الفائدة لا تتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها في هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم، فيلتزموا الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشرور والمعاصي.
﴿و﴾ قل يا محمد: ﴿سبحان الله﴾؛ أي: أسبح الله سبحانه وتعالى تسبيحًا، وأنزهه تنزيهًا عما لا يليق بجلاله من جميع العيوب والنقائص والشركاء والأضداد والأنداد، ومن أن يكون معبود سواه، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)﴾. وقل يا محمد: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أشركوا بالله غيره تعالى، والمعنى: أنا بريء من أهل الشرك به لست منهم، ولا هم مني. وهذا معطوف على: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ عطف جملة على جملة.
وجملة قوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ صفة أولى لـ ﴿رَجُلًا﴾؛ أي: نوحي إليهم على لسان الملك كما نوحي إليك. وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ صفة ثانية له، وكأن (١) تقديم هذه الصفة على ما قبلها أكثر استعمالًا؛ لأنها أقرب إلى المفرد؛ أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لغلبة الجهل والقسوة والجفاء عليهم. والمراد بالقرية: الحضر خلاف البادية، فتشمل المصر الجامع وغيره؛ لأن أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل عقلًا من أهل البوادي. قال الحسن: لم يبعث نبيٌّ من بدو ولا من الجن ولا من النساء. والمعنى: كيف تعجَّبوا من إرسالنا إياك يا محمد وسائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك!.
فإن قلت: (٢) إن قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ يعارضه قوله: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾؛ لأنه يقتضي أن يعقوب وأولاده كانوا من أهل البادية.
قلت: لم يكن يعقوب وأولاده من أهل البادية، بل خرجوا إليها لمواشيهم. وقرأ أبو (٣) عبد الرحمن وطلحة وحفص: ﴿نُوحِي﴾ - بالنون وكسر الحاء - مبنيًّا
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف وتقديره: أغفلوا عن مكرنا، فلم يسيروا في الأرض؛ أي: أفلم يسر هؤلاء المشركون من أهل مكة ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ فيما وطئوا من البلاد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن كانوا قبلهم من الأمم الماضية كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا حتى ينزجروا عما هم فيه من التكذيب، وإلا يحيق بهم مثل ما حاق بهم؛ لأن التماثل في الأسباب يوجب التماثل في المسببات، ثم رغب في العمل للآخرة، فقال: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وهو من إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع، وصلاة الأولى؛ أي: إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله، واتقوا الشرك به، وارتكاب الآثام والمعاصي خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل، والذين لا حظ لهم من هذه الحياة إلا التمتع بلذاتها. فإن نعيمها (١) البدني أكمل من نعيم الدنيا لدوامه وثباته، ولخلوه من المنغصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته.
ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة، والذي قدمنا تخريج كوفي، وهذا الأخير تخريج بصري. وقرىء شاذًا: ﴿وللدار الآخرة﴾. وإنما (٢) أضاف الدار إلى الآخرة مع أن المراد بالدار هي الجنة؛ وهي نفس الآخرة؛ لأن العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه كقولهم: حق اليقين، والحق: هو اليقين نفسه. اهـ. "خازن".
(٢) الخازن.
١١٠ - ثم ذكر سبحانه وتعالى تثبيتًا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق وانتظار الفرج كما قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون في تكذيبهم، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ ﴿حَتَّى﴾: غاية لمحذوف دل عليه السياق تقديره: لا يغررهم (٢) تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير رادع ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال المكسورة، والمعنى عليه: وظن القوم أن الرسل قد أخلفوا في وعدهم بالنصر؛ أي: أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها. وقال الواحدي معناه: وظن الأمم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم، وإهلاك أعدائهم، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد. وقرأ الباقون: بالتشديد.
والمعنى عليه: وظن الرسل وأيقنوا أنهم قد كذبتهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاؤوا به من الله تعالى، وارتدوا عن الإيمان بهم، وهذا المعنى منقول عن عائشة رضي الله عنها، وهو أحسن الوجوه، وقالت: إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى
(٢) المراح وروح البيان.
وهذه سنة الله تعالى في الأمم يرسل إليهم الرسل بالبينات (٣)، ويؤيدهم بالمعجزات حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل، واستشعروا بالقنوط من تمادي التكذيب وتراخي النصر.. جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذابُ بغتة كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادًا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)﴾. وفي هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم.. حل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل، كما قال في سورة القمر ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)﴾. وقد نصر الله نبيه - ﷺ - في غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون التابعون لهم، وإنما لم يعينهم؛ للدلالة على أنهم هم الذين يستحقون النجاة لا يشاركهم فيها غيرهم. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب (١): ﴿فَنُجِّيَ﴾ - بنون واحدة وجيم مشددة مكسورة وفتح الياء - فعلًا ماضيًا مبنيًّا للمفعول، و ﴿مَنْ﴾ الموصولة نائب فاعله. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء شذوذًا، وخرج على أنه ماض مبني للمجهول، ولكن سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء كقراءة من قرأ: ﴿ما تطعمون أهاليكم﴾ - بسكون الياء - ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع في الشاذ، والمعنى على هذه: فنجي الرسل ومن آمن معهم من أقوامهم؛ لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال في طهارة النفوس وزكائها هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم، كما قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
وقرأ باقي العشرة: ﴿فَنُنْجِي﴾ - بنونين أولاهما مضمومة وثانيتهما ساكنة وبياء ساكنة - مضارع أنجى الرباعي، وفاعله ضمير يعود على الله، والموصول مفعول به؛ أي: فننجي نحن من نشاء نجاتهم؛ وهم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ
وقد جرت سنة الله أن يبلغ الرسل أقوامهم، ويقيموا عليهم الحجة، وينذروهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون ويصر المعاندون، فينجي الله الرسل ومن آمن من أقوامهم، ويهلك المكذبين، ولا يخفى ما في الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبي - ﷺ -.
١١١ - واللامُ في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ﴾: موطئة للقسم. ﴿فِي قَصَصِهِمْ﴾ - بفتح القاف -: مصدرُ قصَّ الخبر؛ إذا حدث به؛ أي: قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم السلام وخبرهم. وقرىء شاذًا بكسر القات جمع قصة؛ أي: قصص الأنبياء وأممهم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان في قصص يوسف مع أبيه وإخوته وخبرهم ﴿عِبْرَةٌ﴾ أي: عظة عظيمة ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛ أي: لأصحاب العقول الكاملة الراجحة والأفكار الثاقبة؛ لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم في النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.
﴿مَا كَانَ﴾ هذا القرآن المشتمل على هذا المقصوص ﴿حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ ويختلق من عند البشر؛ لأن الذي جاء به من عند الله تعالى؛ وهو محمد - ﷺ - لا يصح منه أن يفتريه ويختلقه من عند نفسه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يخالط العلماء، ثم إنه جاء بهذا القرآن المعجز، فدل ذلك على صدقه، وأنه ليس بمفتر، فهو دليل ظاهر وبرهان قاهر على أنه جاء بطريق الوحي والتنزيل، ومن ثم قال: ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: ولكن كان هذا القرآن مصدق الذي كان قبله من الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى من السماء على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور؛ أي: تصديق ما عندهم من الحق فيها لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدق لما عندهم من خرافات فاسدة وأوهام باطلة؛ لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاج إليه في الدين والدنيا؛ أي: إن في هذا القرآن المنزل عليك يا محمد تفصيل كل شيء تحتاج إليه من الحلال والحرام، والحدود والأحكام، والقصص والمواعظ والأمثال، وغير ذلك مما يحتاج إليه العباد في أمر دينهم ودنياهم ﴿و﴾ كان ﴿هدى﴾ إلى
الإعراب
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، وهو مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قاَلَ﴾. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿آتَيْتَنِي﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ونون وقاية. ﴿مِنَ﴾: حرف جر وتبعيض. ﴿الْمُلْكِ﴾: مجرور بـ ﴿مِنَ﴾: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿آتَيْتَنِي﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له؛ لأنه بمعنى أعطى، وقيل: ﴿مِنَ﴾ زائدة، وقيل المفعول الثاني محذوف تقديره: عظيمًا من الملك كما ذكره أبو البقاء. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَعَلَّمْتَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْتَنِي﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾: مفعول ثان
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿نُوحِيهِ﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب حال من المبتدأ، أو من الضمير في الخبر، ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا لذلك كما في "السمين". ﴿وَمَا﴾ (الواو): عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَدَيْهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر كان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ على كونها معللة للخبرين. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بكان. ﴿أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَهُمْ﴾: (الواو): واو الحال. ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَمْكُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿أَجْمَعُوا﴾.
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤)﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ (الواو): استئنافية. ﴿كأين﴾: اسم بمعنى كم الخبرية؛ أي: بمعنى عدد كثير في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿آيَةٍ﴾: تمييز ﴿كأين﴾ منصوب. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آيَةٍ﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿يَمُرُّونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: (الواو): حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿عَنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿مُعْرِضُونَ﴾. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَمُرُّونَ﴾، والمعنى: وآيات كثيرة كائنة في السموات والأرض مارون عليها حالة كونهم معرضين عنها.
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يُؤْمِنُ﴾.
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة. ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَدْعُو﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَدْعُوا﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَمَنِ﴾: الموصولة معطوفة على المبتدأ، وجملة ﴿اَتَّبَعَنِي﴾: صلة ﴿من﴾ الموصولة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. وفي "السمين": قوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ﴾ يجوز أن يكون مستأنفًا؛ وهو الظاهر، وأن يكون حالًا من الياء، و ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾: حال من فاعل ﴿أَدْعُوا﴾؛ أي: أدعو إلى الله حالة كوني كائنًا على بصيرة، وقوله: ﴿وَمَنِ اَتبَعَنِي﴾: عطف على فاعل ﴿أَدْعُوا﴾، ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: ﴿وَمَنِ اَتبَعَنِي﴾ يدعو أيضًا، ويجوز أن يكون ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ وحده حالًا، و ﴿أَنَا﴾: فاعل به، ﴿وَمَنِ اَتَّبَعَنِي﴾: عطف عليه، ومفعول ﴿أَدْعُوا﴾ يجوز
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾.
﴿وَمَا﴾ (الواو): استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿رِجَالًا﴾: مفعول به. ﴿نُوحِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب صفة أولى لـ ﴿رجال﴾. ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: جار ومجرور صفة ثانية لـ ﴿رِجَالًا﴾، والأكثر استعمالًا عندهم تقديم هذه الصفة الثانية على الأولى؛ لأنها أقرب إلى المفرد منها كما تقدم تحريره في المائدة.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ (الهمزة): للاستفهام التوبيخي الإنكاري داخلة على محذوف. (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أغفلوا عن مكرنا فلم يسيروا. ﴿لم يسيروا﴾: جازم وفعل وفاعل. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿ينظروا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدّم عليه وجوبًا. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ﴾: اسمها ومضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل النصب مفعول لـ ﴿ينظروا﴾ معلق عنها باسم الاستفهام. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾: (الواو): استئنافية. (اللام): حرف ابتداء، ﴿دار الآخرة﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف ابتداء لدخولها على الجملة، وغاية لكونها غاية لمحذوف وتقديره: لا يغررهم تماديهم فيما هم من الراحة والرخاء، فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيأس الرسل. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿وَظَنُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَيْأَسَ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿قَدْ كُذِبُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن تقديره: وظنوا تكذيبهم. ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾: من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بمحذوف تقديره: فإن من قبلهم أمهلوا إلى مجيء نصرنا وقت يأس الرسل عن نصرهم، وظن الأتباع كونهم مكذوبين. ﴿فَنُجِّيَ﴾: (الفاء): عاطفة. ﴿نُجِّيَ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاء﴾. ﴿نَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من نشاء نجاته من عبادنا. ﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَنِ الْقَوْمِ﴾: متعلق به. ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾؛ أي: بعض الملك، والمراد بذلك البعض: ملك مصر؛ إذ لم يملك جميع أقطار الأرض إلا أربعة: إثنان مسلمان: إسكندر، وسليمان بن داود واثنان كافران: بختنصر وشداد بن عاد، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعد يوسف مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا من دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام. اهـ. "أبو السعود". والملك عبارة عن الاتساع في الشيء المقدور لمن له السياسة التدبير كما مر.
﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق، وأصل الفطر: الشق، يقال: فطر ناب البعير إذا شق وظهر، وفطر الله الخلق:
﴿أَنْتَ وَلِيِّ﴾؛ أي: معيني ومتولي أمري ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾؛ أي: اقبضني إليك مسلمًا.
﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ وفي "المصباح": حرص عليه حرصًا - من باب ضرب - إذا اجتهد، والاسم الحِرص - بكسر الحاء - وحرص على الدنيا من باب ضرب أيضًا، وحَرِص حرصًا - من باب تعب لغة -، إذا رغب رغبة مذمومة. اهـ.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ﴾ و ﴿كَأَيِّنْ﴾ هنا بمعنى كم الخبرية التي بمعنى عدد كثير وإن وردت للاستفهام، والآية هنا بمعنى الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته.
﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾؛ أي: يشاهدونها ولا يعبئون بها. ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: لا يعتبرون بها. ﴿غَاشِيَةٌ﴾ والغاشية: العقوبة تغشاهم وتعمهم ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا﴾ البصيرة: الحجة الواضحة، وقيل: هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل. اهـ. "خازن". ﴿وَظَنُّوا﴾ الظن هنا: إما بمعنى اليقين، وإما معنى الحسبان والتقدير. ﴿بَأْسُنَا﴾ والبأس العقاب.
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ والقَصَص - بفتح القاف -: مصدر قَصَّ إذا تتبع الأثر والخبر، والمراد هنا المقصوص المحكي بدليل القراءة الشاذة: ﴿قِصصهم﴾ - بكسر القاف - كما في "الجمل".
﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ المراد بالعبرة: التأمل والتفكر. وفي "الخازن": معنى الاعتبار والعبرة: الحالة التي يتوصل بها الإنسان من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والمراد منه التأمل والتفكر.
﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ والألباب: العقول واحدها لبّ، وسمي بذلك؛ لكونه خالص ما في الإنسان من قواه. وقال الشوكاني: والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل: هي نوع من الاعتبار، وهي العبور من الطريق المعلوم إلى الطريق المجهول، وأولوا الألباب: هم ذووا العقول السليمة
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من الفصاحة وأنواعًا من البلاغة والبيان والبديع:
فمنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ فإنه إنما أعطي ملك مصر فقط، لا ملك الأرض كلها كما مر.
ومنها: في قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ ما يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي؛ وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحدًا ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته.. لم تقع شبهة في أنه ليس منه، بل من وحي الله تعالى إليه، ذكره أبو حيان.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾؛ لأنه بمعنى الماضي.
ومنها: الجملة الاعتراضية في قوله: ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ لاعتراضها بين ﴿مَا﴾ الحجازية وخبرها، وجيء بهذا الاعتراض؛ لإفادة أن الهداية بيد الله سبحانه وتعالى وحده.
ومنها: حكاية الحال الماضية أيضًا في: ﴿إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾؛ لأنه بمعنى الماضي.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
جملة ما في هذه السورة من الموضوعات تسعة وثلاثون موضوعًا:
١ - قص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب.
٢ - نهي يعقوب لولده عن قصه قصصه على إخوته.
٣ - تدبيرهم المكيدة ليوسف وإلقائه في غيابة الجبّ.
٤ - ادعاؤهم أنَّ الذئب قد أكله.
٥ - عثور قافلة ذاهبة إلى مصر عليه والتقاطها له.
٦ - بيعها إياه في مصر بثمن بخس لعزيز مصر.
٧ - وصية العزيز لامرأته بإكرام مثواه.
٨ - مراودة المرأة له عن نفسه، وإعداد الوسائل لذلك.
٩ - تمنعه من ذلك إكرامًا لسيده الذي أكرم مثواه.
١٠ - قدها لقميصه وادعاؤها عليه أنه هو الذي أراد الفاحشة.
١١ - شهادة شاهد من أهلها بما يجلي الحقيقة.
١٢ - افتضاح أمرها في المدينة لدى النسوة.
١٣ - تدبيرها المكيدة لأولئك النسوة وإحكام أمرها.
١٤ - إدخاله السجن اتباعًا لمشيئتها.
١٥ - تعبيره رؤيا فتيين دخلا معه السجن.
١٦ - رؤيا الملك وطلبه تعبيرها.
١٧ - إرشاد أحد الفتيين للملك عن يوسف، وأنه نعم المعبر لها.
١٨ - طلب الملك إحضاره من السجن، واستخلاصه لنفسه.
١٩ - توليته رئيسًا للحكومة ومهيمنًا على ماليتها.
٢٠ - مجيء إخوة يوسف إليه، وطلبه منهم أن يحضروا أخاهم لأبيهم.
٢٢ - إحضارهم أخاه إليه بعد إعطائهم الموقف لأبيهم.
٢٣ - طلب أبيهم أن يدخلوا المدينة من أبواب متعددة.
٢٤ - إخبار يوسف لأخيه عن ذات نفسه.
٢٥ - أذان المؤذن أن العير قد سرقوا.
٢٦ - قول الإخوة: إن أخاه قد سرق من قبل.
٢٧ - طلبُ الإخوة من يوسف أن يأخذ أحدهم مكانه.
٢٨ - وجود غشاوة على عيني يعقوب من الحزن.
٢٩ - تعريف يوسف بنفسه لإخوته.
٣٠ - حين جاء البشير بقميص يوسف ارتد يعقوب بصيرًا.
٣١ - طلب الإخوة من أبيهم أن يستغفر لهم.
٣٢ - رفع يوسف أبويه على العرش.
٣٣ - قول يوسف لأبيه: هذا تأويل رؤياي من قبل.
٣٤ - دعاؤه بحسن الخاتمة.
٣٥ - في هذا القصص إثبات لنبوة محمَّد - ﷺ -.
٣٦ - تحذير المشركين من نزول العذاب بهم كما حَدَث لمن قبلهم.
٣٧ - لم يرسل الله تعالى إلا رجالًا وما أرسَل ملائكة.
٣٨ - نصر الرسل بعد الاستيئاس.
٣٩ - في قصص الرسل أو يوسف وإخوته عبرة لأولي الألباب.
والله أعلم
* * *
سورة الرعد مكية (١) إلا آيتين فهما مدنيتان، وهما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾ الآية، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾. وقيل: مدنية سوى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ الآيتين.
وآياتها ثلاث - أو خمس - وأربعون آية، وكلماتها ثمان مئة وخمس وخمسون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وخمس مئة وستة أحرف. وسميت بالرعد؛ لذكره فيها.
فضلها: ومن فضائلها أن قراءتها عند المحتضر تسهل خروج الروح.
وقد أخرج (٢) ابن أبي شيبة والمروزي في "الجنائز" عن جابر بن زيد قال: كان يُستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد؛ فإن ذلك يخفف عن الميت، وإنه أهون لقبضه، وأيسر لشأنه.
المناسبة: ومناسبةُ هذه السورة لما قبلها من وجوه (٣):
١ - أنه سبحانه وتعالى أجمل في السورة السابقة الآيات السماوية والأرضية في قوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (١٠٥)﴾، ثم فصلها هنا أتم تفصيل في مواضع منها.
٢ - أنه أشار في سورة يوسف إلى أدلة التوحيد بقوله: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾، ثم فصل الأدلة هنا بإسهاب لم يذكر في سالفتها.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
٤ - جاء في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، وفي أول هذه السورة قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله تعالى (١): في سورة الرعد من المنسوخ آيتان فقط؛ آيةٌ مُجمع على نسخها، وآيةٌ مختلف في نسخها. فالمجمع على نسخها قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا﴾ الآية (٤٠) منسوخة بآية السيف. الآية الثانية قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ الآية (٦) منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية (٤٨، ١١٦) النساء. والظلم هاهنا: الشرك.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١)﴾.المناسبة
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه قد مر لك في آخر السورة السابقة وصف القرآن بقوله: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، ووصفه في هذه الآية بقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، كما مرّ آنفًا.
وعبارة أبي حيان هنا: ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس.. ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد، وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل، ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والحكمة انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) إنكارهم لوحدانيته تعالى مع وضوح الأدلة على ذلك من خلق السموات بلا عمد، وتسخير الشمس والقمر يجريان إلى أجل مسمى، ومن مد الأرض وإلقاء الجبال الرواسي فيها إلى آخر ما ذكر من الآيات الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه لمن يتأمل ويتفكر في ذلك الملكوت العظيم.. ذكر هنا إنكارهم للبعث والنشور على وضوح طريقه وسطوع دليله قياسًا على ما يرون ويشاهدون، فإن من قدر على خلق السماوات والأرض وسائر العوالم على هذا النحو الذي يحار الإنسان في الوصول إلى معرفة كنهه.. لا يعجز عن إعادته في خلق جديد، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ﴾.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له كما حكى عنهم بقوله: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي
(٢) المراغي.
سورة يوسف
سورةُ (يوسُفَ) مِن السُّوَر المكية، وقد كان لها من اسمها الحظُّ الأكبر؛ فقد قامت السورةُ بأكملها على سرد قصة (يوسف) بالتفصيل، ولا يوجد في القرآن نظيرٌ لهذا السردِ والاختصاص؛ أن تَختصَّ سورةٌ بذكرِ قصة نبيٍّ من الأنبياء، وتُسمَّى باسمه. وقد بيَّنت هذه السورةُ قواعدَ التمكين في الأرض، ومُلئت بالعِبَر والعظات المستخلَصة من قصة يوسف؛ فهي مثال يحتذى في الصبر، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والخوف من الله في السِّر والعلن، وصِدْقِ التوكل على الله؛ فهو الذي بيده مقاليدُ كل شيء.
ترتيبها المصحفي
12نوعها
مكيةألفاظها
1794ترتيب نزولها
53العد المدني الأول
111العد المدني الأخير
111العد البصري
111العد الكوفي
111العد الشامي
111* قوله تعالى: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]:
عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال : «أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا؛ فأنزَلَ اللهُ: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حدَّثْتَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: {اْللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اْلْحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا} [الزمر: 23]». أخرجه ابن حبان (٦٢٠٩).
* سورة (يوسُفَ):
وسببُ تسميةِ سورة (يوسُفَ) بهذا الاسمِ واضحٌ جليٌّ؛ فإنَّ قصةَ (يوسُفَ) هي موضوعها الرئيسُ.
جاء الموضوع الرئيسُ للسورة عن قصَّة (يوسف) عليه السلام على التفصيل الآتي:
1. من أدلة إعجاز القرآن الكريم (١-٣).
2. رؤيا يوسف عليه السلام (٤-٦).
3. تآمُرُ إخوته عليه عليه السلام (٧-١٨).
4. محنة يوسف عليه السلام في مصر (١٩- ٣٤).
5. محنة يوسف عليه السلام في السِّجن (٣٥-٥٣).
6. تسلُّمُه عليه السلام الحُكْمَ بعد السجن (٥٤- ٥٧).
7. لقاؤه عليه السلام مع إخوته مرة ثانية (٥٩- ٩٨).
8. لقاء العائلة (٩٩-١٠٢).
9. تعقيبات على القصة (١٠٣- ١١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /503).
لم تأتِ قصةُ (يوسف) عليه السلام لمجردِ السَّرد والتسلية؛ إنما جاءت للعِبْرة والعِظة في كثيرٍ من الأمور؛ من ذلك: لطفُ الله بمَن يصطفيه من عباده، والاقتداءُ بصبر الأنبياء - مثل: يعقوب ويوسف عليهما السلام - على البلوى، وكيف تكون لهم العاقبةُ؛ ليَتسلَّى بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ من سار بطريق الدعوة، كما أبانت السورةُ عن قواعدِ التمكين في الأرض، وما تخلَّلَ ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين؛ كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اْلْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، وقوله: {إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ اْلْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
ينظر " التحرير والتنوير" لابن عاشور (12 /200)