قيل هي مكية مائة وإحدي عشرة آية وهي مكية كلها. وقيل نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة. وقال ابن عباس وقتادة إلا أربع آيات قال القرطبي : قال العلماء ذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها فلم يقدر فخالف على معارضة ما تكرر ولا على معارضة ما لم يتكرر.
ﰡ
قال قتادة: مبين بينه الله ببركته ورشده فهذا من بأن أي ظهر، وقال الزجاج: مبين للحق من الباطل والحلال من الحرام فهذا من أبان بمعنى أظهر، قال مجاهد: بين الله حلاله وحرامه، وعن معاذ قال: بين الله الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف.
_________
(١) المستدرك، كتاب التفسير، ٢/ ٤٤١.
وعن ابن مسعود مثله وقال قتادة: نقص عليك من الكتب الماضية والقرون الخالية وأمور الله السابقة في الأمم أحسن البيان، واختلف في وجه كون هذه السورة أو القرآن هو أحسن القصص فقيل لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم، وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار العلماء والجهال والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن.
وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما وقيل أن أحسن هنا بمعنى أعجب، وقيل أن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة، قال خالد بن معد: أن سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما أهل الجنة في الجنة، وقال عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها.
(بما أوحينا) بإيحائنا (إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله) أي من قبل إيحائنا إليك (لمن الغافلين) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك،
(يا أبت) بكسر تاء التأنيث اللفظي التي هي عوض عن ياء المتكلم المحذوفة وأصله يا أبي وهذا التعويض مختص بلفظين يا أبت ويا أمت ولا يجوز في غيرهما من الأسماء وممن نص على كونها للتأنيث سيبويه والخليل ويدل عليه كتبهم إياها هاء وقياس من وقف بالتاء أن يكتبها تاء كبنت وأخت وجاز إلحاقها المذكر كما جاز حمامة ذكر وشاة ذكر ورجل ربعة وغلام يفعة
(إني رأيت) من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه لا تقصص رؤياك على إخوتك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء حق وكانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر فرأى أن أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر فسجدوا له وكان يوسف إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة وقيل سبع عشرة وقيل سبع سنين.
(أحد عشر كوكباً) وهي جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفلق والمصبح والصروخ والفرع ووثاب وذو الكتفين قاله البيضاوي وهذه نجوم غير مرصودة خصت بالرؤيا لغيبتهم عنه قاله الشهاب وورد في حديث أسماؤها هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور وفيه الضعفاء والمتروكون وقال ابن
(والشمس والقمر) أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة وقيل أن الواو بمعنى مع (رأيتهم لي ساجدين) مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك.
وإنما أجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء وهو كونها ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا نزلوا منزلته وقيل كررت للتأكيد لما طال الفصل بالمفاعيل والأول أولى وإليه نحا الزمخشري لأنه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس فحمله على الثاني أولى، والمراد حقيقة السجود لأنه كان التحية فيما بينهم السجود، وقيل المراد بالسجود تواضعهم له ودخولهم تحت أمره والأول أولى.
ولم تظهر رؤية يوسف إلا بعد أربعين سنة وهو قول أكثر المفسرين وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة حين اجتمع عليه أبواه وإخوته وخروا له ساجدين.
(فيكيدوا لك كيداً) وهذا جواب النهي أي فيفعلوا لأجلك كيداً مثبتاً
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين) مستأنفة كأن يوسف قال: كيف يقع ذلك منهم فنبه بأن الشيطان يحملهم على ذلك لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها وقد وردت أحاديث صحيحة في بيان الرؤيا الصالحة وأنها من الله والسوء وأنها من الشيطان وفي أن رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة وليس لها تعلق بهذه الآية بل هي تعم.
قال النحاس: الاجتباء أصله من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته ومعنى الاجتباء الاصطفاء واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء وببعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين وهذا يتضمن الثناء على يوسف وتعديد نعم الله عليه ومنها.
(ويعلمك من تأويل الأحاديث) أي تأويل الرؤيا قال مجاهد: عبارة الرؤيا، وقال ابن زيد: تأويل العلم والحلم وكان يوسف من أعبر الناس وسمى الرؤيا أحاديث لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة وأحاديث الشيطان إن كانت كاذبة، قال القرطبي: وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا وقد كان يوسف أعلم الناس بتأويلها.
وقيل المراد تأويل أحاديث الأمم السالفة والكتب المنزلة قاله الزجاج وقيل المراد به إحواج أخوته إليه وقيل إنجاؤه من كل مكروه وقيل إنجاؤه من القتل خاصة والأحاديث جمع تكسير فقيل لواحد ملفوظ به وهو حديث ولكنه شذ جمعه
(ويتم نعمته عليك) فيجمع لك بين النبوة والملك كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة (وعلى آل يعقوب) وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم مع كونهم أنبياء وبه قال أكثر المفسرين.
(كما أتمها على أبويك) أي إتماما مثل إتمامها عليهما وهي نعمة النبوة عليهما مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً ومع كون اسحق نجاه الله سبحانه من الذبح قاله عكرمة وصار لهما الذرية الطيبة وهم يعقوب ويوسف وسائر الأسباط (من قبل) أي من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه أو من قبلك (إبراهيم وإسحاق) عطف بيان لأبويك أو بدل منه أو على إضمار أعني وعبر عنهما بالأبوين مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام (إن ربك عليم) بمصالح خلقه (حكيم) في أفعاله والجملة مستأتفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم إشارة إلى قوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته وأنه لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية.
وكان هذا الكلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال أو علم ذلك من طريق الوحي، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية.
وقيل معنى آيات للسائلين عجب لهم، وقيل بصيرة وقيل عبرة للمعتبرين، فإن هذه القصة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف وما حقق الله فيها، ومنها حسد أخوته له وما آل إليه أمرهم، ومنها صبر يوسف على ما فعلوا به وما آل إليه أمره من الملك، ومنها حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد وغير ذلك من الآيات.
قال القرطبي: وأسماؤهم يعني أخوة يوسف وهم أحد عشر: روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهوذا وزبولون ويشجر وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب وولد له من سريتين زلفة وبلهة أربعة وهم دان وتفتونا وجاد وأوشير، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، فهؤلاء بنو يعقوب وهم الأسباط وعددهم اثنا عشر نفراً...
وقال السهيلي: أن أم يوسف اسمها وفقا وراحيل ماتت من نفاس بنيامين وهو أكبر من يوسف وعن قتادة في الآية يقول: من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قص الله عليكم وأنبأكم به وعن الضحاك نحوه وعن ابن إسحاق قال: إنما قص الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر يوسف وبغي أخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوته ليأتسي به.
(إذ) أي وقت أن (قالوا ليوسف وأخوه) هو بنيامين بكسر الباء وصحح بعضهم فتحها ففيه الوجهان وهو أصغر من يوسف وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً أخوته لأنه أخوه لأبويه كما تقدم واللام لام القسم أي والله ليوسف ووجد الخبر فقال (أحب إلى أبينا منا) مع تعدد المبتدأ لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرف وهو مبني من حب المبني للمفعول وهو شاذ قياساً فصيح استعمالاً لوروده في أفصح الفصيح وإذا بنيت أفعل التفضيل من مادة الحب والبغض تعدى إلى الفاعل المعنوي بإلى وإلى المفعول المعنوي باللام أو بفي وعلى هذا جاءت الآية الكريمة.
وإنما قالوا هذا لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده.
(ونحن عصبة) الواو للحال والعصبة الجماعة قيل وهي ما بين الواحد إلى العشرة وقيل ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل هي العشرة فما زاد وقيل من العشرة إلى خمسة عشر وقيل ستة وقيل تسعة وقيل من العشرة إلى الأربعين قاله قتادة. والمادة تدل على الإحاطة من العصابة لإحاطتها بالرأس وقيل الأصل فيه إن كل جماعة يتعصب بعضهم لبعض يسمون عصبة والعصبة لا واحد لها من لفظها بل هي كالنفر والرهط وقد كانوا عشرة.
(إن أبانا لفي ضلال مبين) أي لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الإنتساب إليه ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال إذ لو أرادوا ذلك لكفروا به قال ابن زيد: أي لفي خطأ من رأيه.
(يخل لكم وجه أبيكم) أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه (وتكونوا من بعده) أي بعد يوسف والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه وقيل من بعد الذنب الذي اقترفتموه في يوسف (قوماً صالحين) في أمور دينكم وطاعة أبيكم أو صالحين في أمور دنياكم بذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك وهو الحسد ليوسف وتكدر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه، أو صالحين مع أبيكم بعذر تمهدونه أو المراد بالصالحين التائبون من الذنب في المستقبل.
قرأ جماعة غيابة بالإفراد وغيرهم بالجمع، وأنكر أبو عبيد الجمع لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد، قال النحاس: وهذا تضييق في اللغة والجمع يجوز والغيابة كل شيء غيب عنك شيئاً وقيل للقبر غيابة والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع عليه البصر أو طاقة فيه.
قال الهروي: الغيابة سد أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما فيه من العيون وقال الكلبي: الغيابة تكون في قعر الجب لأن أسفله واسع ورأسه ضيق فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه وقال الزمخشري: هي غورة وما غاب منه من عين الناظر وأظلم من أسفله والمعاني متقاربة والجب البئر التي لم تطو ويقال لها قبل الطي ركية فإذا طويت قيل لها بئر وسميت جباً لأنها قطعت في الأرض قطعاً أو لكونه محفوراً في جبوب الأرض أي ما غلظ منها.
وجمع الجب جبب وجباب وأجباب وجمع بين الغيابة والجب مبالغة في أن يلقوه في مكان أسفل من الجب شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين قيل وهذه البئر ببيت المقدس قاله قتادة وقيل ببعض نواحي إيلياء، وقيل بالأردن، قاله وهب وقيل بالشام، وعن ابن زيد قال: بحذاء طبرية بينه وبينها أميال وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وجواب الأمر.
(يلتقطه بعض السيارة) قرئ بالتحيتة والفوقية ووجهه أن بعض السيارة سيارة وهي الجمع الذي يسير في الطريق جمع سيار أي المبالغ في السير والالتقاط هو أخذ شيء مشرف على الضياع من الطريق أهـ من حيث لا يحتسب ومنه اللقطة كأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد بحيث يخفى عن أبيه ومن يعرفه ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد فربما أن
(إن كنتم فاعلين) أي عاملين بما أشرت به عليكم في أمره كأنه لم يجزم بالأمر بل وكله إلى ما يجمعون عليه كما يفعله المشير مع من استشاره، وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً، وقيل كانوا أنبياء وكان ذلك منهم زلة قدم أوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم.
ورد بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب، وقلة الرأفة بالصغيرَ الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد، وقيل عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا ذلك لهلكوا جميعاً، وقيل أنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء بل صاروا أنبياء من بعد وكان كل ذلك قبل أن ينهاهم الله.
ولما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجب جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه.
والمعنى يتسع في الخصب، وكل مخصب راتع والرتع التمتع في أكل الفواكه ونحوها والثانية مأخوذة من رعي الغنم وقرئ بالتحتية فيهما ورفع يلعب على الاستئناف والضمير ليوسف وقال القتيبي: معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضاً من قولهم رعاك الله أي حفظك.
(ويلعب) من اللعب قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا نلعب وهم أنبياء فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء وقيل المراد به اللعب المباح وهو مجرد الانبساط لانشراح الصدر وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ويتقوون به عليه، وكان اللعب بالاستباق والانتضال تجرينا لقتال الأعداء كما في قولهم إنا ذهبنا نستبق لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، وسماه لعباً لشبهه به، ولذلك لم ينكر عليهم يعقوب لما قالوا ونلعب، ومنه قوله ﷺ لجابر: " فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ". (١) وقال ابن عباس: نرتع ونلعب نسعى وننشط ونلهو (و) الحال (إنا له لحافظون) من أن يناله مكروه.
_________
(١) مسلم ٧١٥ - البخاري ٢٩٢.
قال ثعلب: الذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت من كل وجه، قال: والذئب مهموز لأنه يجئ من كل وجه (وأنتم عنه غافلون) لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لكونكم غير مهتمين بحفظه.
أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والسلفي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تلقنوا الناس فيكذبون فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا أكله الذئب ".
(إنا إذاً) أي في ذلك الوقت وهو أكل الذئب له (لخاسرون) لهالكون ضعفاً وعجزا أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا وانتفاء القدرة عن أيسر شيء وأقله أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار، وقيل معناه لجاهلون حقه وهذه الجملة جواب القسم المقدر في الجملة التي قبلها.
(وأوحينا إليه) أي إلى يوسف تبشيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته بقلوب غليظة قد نزعت عنها الرحمة، وسلبت منها الرأفة فإن الطبع البشري دع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغتفره لضعفه عن الدفع وعجزه عن أيسر شيء يراد منه، فكيف بصغير لا ذنب له بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب.
فلقد أبعد من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين، وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوة حينئذ كما وقع في عيسى ويحيي بن زكريا وقيل معنى الوحي هنا الإلهام كقوله تعالى (وأوحى ربك إلى النحل) (وأوحينا إلى أم موسى) والأول أولى، وقد قيل أنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبلغ الرجال وهو بعيد جداً، فإن من كان قد بلغ مبلغهم لا يخاف عليه أن يأكله الذئب.
(لتنبئنهم) أي لتخبرن أخوتك (بأمرهم هذا) الذي فعلوه معك بعد
وقال مجاهد: وهم لا يشعرون بذلك الوحي، وقال قتادة فهون ذلك الوحي عليه ما صنع به وعن ابن عباس قال: وهم لم يعملوا بوحي الله إليه.
قال القشيري: نستبق أي في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام والغرض من المسابقة التدرب بذلك في القتال، وقال السدي: يعني نشتد ونعدو وقال مقاتل: نتصيد أي نستبق إلى الصيد (وتركنا يوسف عند متاعنا) أي ثيابنا ليحرسها (فأكله الذئب) الفاء للتعقيب أي أكله عقب ذلك وقد اعتذروا إليه بما خافه سابقاً عليه ورب كلمة تقول لصاحبها دعني.
(وما أنت بمؤمن) أي بمصدق (لنا) في هذا العذر الذي أبدينا والكلمة التي قلناها، وفي هذا الكلام منهم فتح باب اتهامهم كما لا يخفى على صاحب الذوق (ولو كنا) عندك أو في الواقع (صادقين) لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له، قال الزجاج: والمعنى ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذه القصة لشدة محبتك ليوسف وكذا ذكره ابن جرير وغيره.
وقد استدل يعقوب على كذبهم بصحة القميص وقال لهم متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص.
ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليه السلام فقال (قال بل سولت) أي زينت وسهلت وأمرت (لكم أنفسكم أمراً) قال النيسابوري: التسويل تقرير معنى في النفس مع الطمع في اتمامه وهو تفعيل من السول وهو الأمنية قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة وفي الشهاب من السول بفتحتين وهو استرخاء العصب ونحوه فكأن المسول بذله فيما حرص عليه.
(فصبر جميل) قال الزجاج: أي فشأني أو الذي اعتقده صبر جميل وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل وقيل فصبر جميل أولى بي قيل الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه لأحد غير الله وعنه - ﷺ - قال: " لا شكوى فيه من بث لم يصبر " أخرجه ابن جرير وهو مرسل وقال مجاهد: ليس فيه جزع وقرئ فصبراً جميلاً وكذا في
(والله المستعان) أي المطلوب منه العون والجملة إنشائية دعائية لا إخبار منه (على) أي على إظهار حال أو احتمال (ما تصفون) أي تذكرون من أمر يوسف عليه السلام، وقال قتادة على ما تكذبون.
(فأدلى دلوه) يقال أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها ودلاها إذا أخرجها قال الأصمعي والدلو مؤنث وقد يذكر والدالو الذي يستقى بها فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد (قال يا بشرى) ومعنى مناداته للبشرى أنه أراد حضورها في ذلك الوقت فكأنه. قال هذا وقت مجيئك وأوان حضورك.
وقيل أنه نادى رجلاً اسمه بشرى وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى وقد قرئ يا بشراي وعليه أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الشام قرأوا بإضافة البشرى إلى الضمير فالأول أولى، قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجباً أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر قال: وهذا مذهب سيبويه.
(هذا غلام) وكان يوسف أحسن ما يكون من الغلمان، وقد أعطى شطر الحسن وقيل ورثه من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن، فكان حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم ظهر النور من
قال الضحاك: فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاماً لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه وقال قتادة: تباشروا به حين استخرجوه من البئر وهي ببيت المقدس معلوم مكانها.
(وأسروه) أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف عن بقية الرفقة فلم يظهروه لهم وقيل أنهم لم يخفوه ولكن أخفوا وجدانهم له في الجب وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر. وقال مجاهد: أسره التجار بعضهم من بعض وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف وضمير المفعول ليوسف وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام فأتاه يوم خروجه من البئر فلم يجده فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه.
وعن ابن عباس: يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس والأول أولى.
(بضاعة) أي أخفوه حال كونه بضاعة أي متاعاً للتجارة والبضاعة ما يبضع من المال أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه.
(والله عليم بما يعملون) أي بما يترتب على عملهم القبيح بحسب الظاهر من الأسرار والفوائد المنطوية تحت باطنه، فإن هذا البلاء الذي فعلوه به كان سبباً لوصوله إلى مصر، وتنقله في أطوار حتى صار ملكها، فرحم الله به العباد والبلاد خصوصاً في سني القحط الذي وقع بها كما سيأتي، قيل وفيه وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال يجري البيع والشراء فيه وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلّى الله عليه وسلم في وصفه بذلك.
(وشروه) يقال شراه بمعنى اشتراه وشراه بمعنى باعه والمراد هنا الثاني أي باعه الوارد وأصحابه أو اشتراه السيارة من إخوته (بثمن بخس) ناقص أو زيف وقيل ظلم وقيل حرام لأن ثمن الحر حرام والحرام يسمى بخساً لأنه مبخوس البركة أي منقوصها فلم يحل لهم بيعه ولا أكل ثمنه قاله ابن عباس وقيل قليل (دراهم) بدل من ثمن أي لا دنانير (معدودة) قيل باعوه بعشرين درهماً، وقيل بأربعين درهماً وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعد ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً.
أخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنما اشتري يوسف بعشرين درهماً وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً رجالهم أنبياء ونساؤهم صديقات والله ما خرجوا مع موسى حتى كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً (١). وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره.
(وكانوا) الضمير يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال (فيه) أي في يوسف (من الزاهدين) أصل الزهد قلة الرغبة يقال زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها، قال سيبويه والكسائي: قال أهل اللغة: زهد فيه أي رغب عنه وزهد عنه أي رغب فيه، والمعنى أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس لأن غرضهم إبعاده عنهم لا تحصيل ثمنه، وقيل ذلك لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به، ولما دخلوا مصر وعرضوه للبيع ترافع الناس في ثمنه.
_________
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء وفرض الصلوات رقم ١٦٢ من حديث طويل فيه: " فإذا أنا بيوسف (ص) إذا هو قد أعطى شطر الحسن. وأخرجه الإمام أحمد ٣/ ١٤٨، ٢٨٦ ".
(وقال الذي اشتراه من مصر) هو العزيز الذي كان على خزائن مصر وكان وزيراً لملك مصر وهو الريان بن الوليد من العمالقة وقيل أن الملك هو فرعون موسى، وقال ابن عباس: كان اسم المشتري قطفير وعن محمد بن إسحاق أطفير بن روحب وكان اسم امرأته راعيل بنت رعابيل، واسم الذي باعه من العزيز مالك بن ذعر قيل اشتراه بعشرين ديناراً، وقيل تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكاً وعنبراً وحريراً وورقاً وذهباً ولآلئ وجواهر. وكان وزنه أربعمائة رطل.
روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
فلما اشتراه العزيز قال (لامرأته) عن شعيب الجبائي أن اسم امرأة العزيز زليخا بفتح الزاي وكسر اللام والمد كما في القاموس أو بضم الزاء وفتح اللام على هيئة المصغر كما قال الشهاب وقيل اسمها راعيل بوزن هابيل وقيل أحدهما لقبها والآخر اسمها (أكرمي مثواه) أي منزله الذي يثوي فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن يعني أحسني تعهده حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا وساكنة في كنفنا، ويقال للرجل كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسه بثوائك عنده وهل يراعي حق نزولك.
وقال ابن عباس وقتادة: أكرمي منزلته والمثوى محل الثوى وهو الإقامة
قلبي الذي يهواك طال نواه... آت إليك فأكرمي مثواه وعن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته (أكرمي مثواه) الآية والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها (يا أبت استأجره) وأبو بكر رضي الله تعالى عنه حين استخلف عمر.
(عسى أن ينفعنا) أي يكفينا بعض المهمات مما نحتاج فيه إلى مثله أو إن أردنا بيعه بعناه بربح (أو نتخذه ولداً) أي نتبناه فنجعله ولداً لنا قيل كان العزيز حصوراً لا يأتي النساء أو كان عقيماً لا يولد له كما جرى عليه القاضي والأصفهاني تبعاً للكشاف وقد كان تفرس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة.
(وكذلك) إشارة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب وعطف قلب العزيز عليه أي مثل ذلك التمكين البديع (مكنا ليوسف) يقال مكنه فيه أي أثبته فيه ومكن له فيه أي جعل له فيه مكاناً ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر يعني أعطيناه مكانة ورتبة عالية (في الأرض) أي في أرض مصر حتى صار متمكناً من الأمر والنهي وبلغ ما بلغ من السلطنة.
(ولنعلمه) هو علة معلل محذوف كأنه قيل فعلنا ذلك التمكين لنعلمه؛ أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة أو معطوف على مقدر وهو أن يقال مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه (من تأويل
(والله غالب على أمره) أي على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد لا دافع لأمره ولا راد لقضائه ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ما يتعلق بيوسف من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه وقيل المعنى إنه كان من أمر يعقوب أن لا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع وهذا بعيد جداً.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة وقيل المراد بالأكثر الجميع لأنه لا يعلم الغيب إلا الله وقيل أن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه كما في قوله (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول) وقيل المعنى لا يعلمون أن الله غالب على أمره وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر وقيل ما هو صانع بيوسف وما يريد منه.
قال الراغب: وفيه تنبيه على أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله ولم يقل هنا واستوى كما قال في شأن موسى في سورة القصص لأن موسى كان قد بلغ أربعين سنة وهي مدة النبوة فقد استوى وتهيأ لحمل أعباء الرسالة وأسرار النبوة وأما يوسف فلم يكن إذ ذاك بلغ هذا السن.
(آتيناه حكماً) هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر (وعلماً) هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه وقيل العقل والفهم والنبوة والفقه قاله مجاهد وقيل الحكم هو النبوة والعلم هو العلم بالدين وقيل علم الرؤيا ومن قال أنه أوتي النبوة صبياً قال المراد بهذا الحكم والعلم اللذين آتاهما الله هو الزيادة فيهما.
قال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهراً على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله كما فعل هذا بيوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة وأمكن لك في الأرض والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري، وقيل معنى المحسنين المؤمنين، وقيل الصابرين على النوائب قاله الضحاك وقيل المهتدين.
والمراودة الإرادة والطلب برفق ولين، وقيل هي مأخوذة من الرود أي الرفق والتأني يقال أرودني أي أمهلني وقيل مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء كأن المعنى أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها، وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة
وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء أطلق عليه اسمه لكونه سبباً للجزاء، وهذه قاعدة مطردة مستمرة فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن والجمال سبباً لراودة امرأة العزيز له مراوداً والمراد بالمفاعلة مجرد المبالغة وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك.
وإنما قال (التي هو في بيتها عن نفسه) ولم يقل امرأة العزيز أو زليخا قصداً إلى زيادة التقرير، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك، قيل لواحدة ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه: قالت قرب الوساد وطول السواد، ولإظهار كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت ملكها ينادى بكونه في أعلى معارج العفة والنزاهة، والعدول عن اسمها للمحافظة على الستر أو للاستهجان بذكرها قال قتادة: هي امرأة العزيز.
(وغلقت الأبواب) أي أطبقتها قيل في هذه الصيغة ما يدل على التكثير لتعدد الحال وهي الأبواب فيقال غلق الأبواب ولا يقال غلق الباب بل يقال أغلق الباب وقد يقال أغلق الأبواب قيل وكانت الأبواب سبعة كما في البيضاوي وغيره وأنها أغلقتها لشدة خوفها.
(وقالت هيت لك) قرأ أبو عمر وعاصم والأعمش والكسائي بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء وبها قرأ ابن عباس وابن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة
وقرأ أبو اسحق النحوي بكسر التاء وقرأ ابن كثير وغيره بضم التاء مع فتح الهاء وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وفتح التاء بوزن قيل وغيض وهذه القراءات سبعية وقرأ علي وابن عباس بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء وهذه كلها لغات في هذه الكلمة وهي في كلها اسم فعل بمعنى هلم وتعال أي اقبل إلا في قراءة كسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك وأنكرها أبو عمرو وقال: باطل جعلها بمعنى تهيأت اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحداً يقول هكذا، وأنكرها أيضاً الكسائي.
وقال النحاس: هي جيدة عند البصريين لأنه يقال هاء الرجل ويهيء هيأة ورجح الزجاج القراءة الأولى وتكون اللام في لك، على القراءة الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاث فالفتح للخفة والكسر لالتقاء الساكنين والضم تشبيهاً بحيث، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك، أقول هذا وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل.
وقال في الصحاح: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه، وقد روي عن ابن عباس والحسن: أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها وقال الكسائي: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال قال أبو عبيدة: فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم وعن ابن عَباس معناه: هلم لك بالقبطية.
وقال الحسن: أي عليك بالسريانية وقيل هي بالعبرانية ومن قال أنها بغير
(قال معاذ الله) أي أعوذ بالله معاذا مما دعوتني إليه يقال عاذ يعوذ عياذاً ومعاذاً وعوذاً مصدر بمعنى الفعل (إنه) أي الذي اشتراني (ربي) تعليل للإمتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز وقيل الضمير للشأن فكأنه قيل أن الشأن الخطير هذا وهو ربي أي سيدي الذي رباني العزيز (أحسن مثواي) حيث أمرك بقوله أكرمي مثواه فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك وقال الزجاج: أن الضمير لله سبحانه أي إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرمه.
قال مجاهد والسدي وابن اسحق: يبعد جداً أن يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ولو بمعنى السيد لأنه ليس مملوكاً في الحقيقة والأول فيه إرشادها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه (إنه لا يفلح الظالمون) تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح الظفر والمعنى أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف وقيل معناه أنه لا يسعد الزناة.
(ولقد) لام قسم (همت به وهم بها) يقال هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه والمعنى أنه هم بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية ولم يكن من يوسف عليه الصلاة والسلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدم من استعاذته بالله وإن ذلك نوع من الظلم بل قصد من غير رضا ولا عزم ولا تصميم، والقصد على هذا الوجه لا مؤاخذة فيه فلا خلاف في أن يوسف لم يأت بفاحشة وإنما الخلاف في وقوع الهم.
ولما كان الأنبياء معصومين عن الهم بالمعصية والقصد إليها أيضاً تكلم أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال: كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن فلما أتيت على قوله: (ولقد همت به وهم بها) قال: هذا على التقديم والتأخير كأنه قال ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: أي همت زليخاً بالمعصية وكانت مصرة وهم يوسف ولم يوقع ما هم به فبين الهمين فرق ومن هذا قول الشاعر:
هممت بهم من ثنية لؤلؤ | شفيت غليلات الهوى من فؤاديا |
ويدل على هذا قوله الآتي (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) وقوله: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) ومجرد الهم لا ينافي العصمة فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية وذلك المطلوب.
ويؤيده ما في البيضاوي المراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله انتهى. وقيل أنه هم بالفاحشة وأتى ببعض مقدماتها وقد أفرط الزمخشري في التشنيع عليه والصحيح نزاهته عن الهم المحرم أيضاً وقد أطنب الرازي في هذا المقام فليراجعه وقيل معنى الهم أنها اشتهته واشتهاها قال الخفاجي: وأنه أحسن الوجوه.
وجواب لو في (لولا أن رأى برهان ربه) محذوف أي لفعل ما هم به واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو فقيل أن زليخا قامت عند أن همت به وهم بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال ما تصنعين قالت استحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف أنا أولى إن استحي من الله تعالى، روي معنى هذا عن علي بن أبي طالب وفي رواية عن علي بن الحسين، وقيل أنه رأى في سقف البيت مكتوباً ولا تقربوا الزنا أنه كان فاحشة، وقيل رأى كفاً مكتوباً عليها وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين، وقيل أن البرهان هو تذكرة عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده.
وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء، وقيل
قال الخفاجي: هذا مع ما في القصص ونحوه مما لا يليق ذكره وتركه أحسن منه كله مما لا أصل له والنص ناطق بخلافه والبرهان ما عنده من العلم الدال على تحريم ما همت به وإنه لا يمكن الهم فضلاً عن الوقوع فيه هذا هو الذي يجب اعتقاده والحمل عليه ا. هـ.
وعلى الجملة إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما هم به والله أعلم بما هو وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه بلا دليل يدل عليه من السنة المطهرة واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كثيراً.
(كذلك) إشارة إلى الآراء المدلول عليها بقوله رأى برهان ربه أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك أي مثل تلك الآراء أريناه أو مثل ذلك التثبيت ثبتناه (لنصرف عنه السوء) أي كل ما يسوؤه (والفحشاء) هو كل أمر مفرط القبح وقيل السوء الخيانة للعزيز في أهله والفحشاء الزنا وقيل السوء الشهوة والفحشاء المباشرة وقيل السوء الثناء القبيح والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً قال أبو السعود: وفيه آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء وإنما توجه إليه ذلك من خارج فصرفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل.
(إنه من عبادنا المخلصين) تعليل لما قبله قرئ بكسر اللام وفتحها وهي
قال الخفاجي: قيل فيه إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءته فشهد الله بقوله لنصرف الخ وشهد هو على نفسه بقوله هي راودتني ونحوه وشهدت زليخاً بقولها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، وسيدها بقوله إنك كنت من الخاطئين وإبليس بقوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فتضمن إخباره بأنه لم يغوه ومع هذا كله لم يبرئه أهل القصص كما قيل:
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى | بي الحال حتى صار إبليس من جندي |
أيا صواحب أكباد مقطعة | فذلكن الذي لمتنني فيه |
(ولقد) اللام لام قسم (راودته عن نفسه فاستعصم) أي استعف وامتنع واستعصى مما أريده طالباً لعصمة نفسه عن ذلك وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن وأنهن قد أصابهن ما أصابها عند رؤيته ثم توعدته إن لم
(ولئن) لامُ قسم (لم يفعل ما آمره) أي ما قد أمرته فيما تقدم ذكره عند أن أغلقت الأبواب وقالت هيت لك (ليسجنن) أي ليعتقل في السجن (وليكوناً من الصاغرين) من صغر بكسر الغين يصغر صغراً وصغاراً والصغير من صغر بالضم صغراً أي من الأذلاء لما يناله من الإهانة ويسلب عنه النعمة والعزة في زعمها فلما سمع يوسف مقالتها هذه عرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز.
وهذا الكلام منه عليه السلام مبني على ما مر من انكشاف الحقائق لديه وبروز كل منها بصورتها اللائقة بها فصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له شائبة محبة لما دعته إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة.
قال بعضهم: لو لم يقل هذا لم يبتل به فالأولى للعبد أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من كان يسأل الصبر، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجن من حيث أن الصغار من فروعه ومستتبعاته وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوفنه من مخالفتها.
وقيل أنهن جميعاً دعونه إلى أنفسهن أو لأنه كان بحضرتهن والأول أولى ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعاً فقال:
وقيل أنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيماً لها أو عدولاً عن التصريح إلى التعريض، والكيد الاحتيال وجزم (أصب إليهن) على أنه جواب الشرط أي أمل إليهن وأتبعهن وأطاوعهن من صبا يصبو إذا مال واشتاق ومنه قول الشاعر؛
إلى هند صبا قلبي... وهند حبها يصبي
والصبوة الميل إلى الهوى ومنه ريح الصبا لأن النفس تستطيبها وتميل إليها لطيب نسيمها وروحها.
(وأكن من الجاهلين) أي ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه أو ممن يعمل عمل الجهال أو ممن يستحق صفة الذم بالجهل وفيه أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة قال أبو السعود: وهذا فزع منه عليه السلام والتجاء إلى ألطاف الله جرياً على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلب القوى والقدر عن أنفسهم مبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن.
(فصرف عنه كيدهن) حسب دعائه والمعنى أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها من صرف الكيد أي أنه هو السميع لدعوات الداعين له العليم بأحوال الملتجئين إليه وفيه أنه لا يقدر أحد على الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به وهو معنى قوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(من بعد ما رأوا الآيات) قيل هي القميص وشهادة الشاهد وقطع
وعن ابن زيد قال: من الآيات كلام الصبي وقال قتادة: والآيات حزهن أيديهن وقد القميص، وأقول: أن كان المراد بالآيات الآيات الدالة على براءته فلا يصح عد قطع أيدي النسوة منها لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي ينقطع عند مشاهدته عرى الصبر ويضعف عند رؤيته قوى التجلد وإن كان المراد الأيات الدالة على أنه قد أعطى من الحسن ما يسلب عقول المبصرين ويذهب بإدراك الناظرين فنعم يصح عد قطع الأيدي من جملة الآيات ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا.
(ليسجننه) اللام جواب قسم محذوف على تقدير القول أي قائلين والله ليسجننه وقرئ بالفوقية على الخطاب إما للعزيز ومن معه أو له وحده على طريق التعظيم وفي الخطط للمقريزي قال القضاعي سجن يوسف ببو صير من عمل الجيزة أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان وفيه أثر نبيين أحدهما يوسف سجن به المدة التي ذكر أن مبلغها سبع سنين والآخر موسى وقد بني على أثره بمسجد يعرف بمسجد موسى انتهى.
ثم أطال بيان حال ذلك السجن وموضعه وما يصنع هناك قيل وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه، وقيل أن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه تحمل نفسها
وقال سعيد بن جبير: إلى سبع سنين وقبل إلى خمس وقيل إلى ستة أشهر وقد تقدم في البقرة الكلام في تفسير الحين وحتى بمعنى إلى، قال السدي: جعل الله ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همه بالمرأة وعن ابن عباس قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: أما أول مرة فبالحبس لما كان من همه بها والثانية لقوله (أذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين) عوقب بطول الحبس، والثالثة حيث قال (أيتها العير إنكم لسارقون) فاستقبل في وجهه (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)
(قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً) أي رأيتني والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة والمعنى إني أراني أعصر عنباً فسماه باسم ما يُؤَوّل إليه لكونه المقصود من العصر وقراءة ابن مسعود وإني أعصر عنباً لا تدل على الترادف، قال الأصمعى: أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب فقال له
(وقال الآخر) أي الخباز (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً) ثم وصف الخبز هذا بقوله (تأكل) أي تنهش (الطير منه) ثم قالا ليوسف جميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه (نبئنا بتأويله) أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموح المرئيين أو بتأويل المذكور لك من كلامنا وقيل أن كل واحد منهما قال له عقب قص رؤياه عليه فيكون الضمير راجعاً إلى ما رآه كل واحد منهما وقيل أن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة بطريق الاستعارة فإن الإشارة يشار به إلى متعدد والتقدير بتأويل ذلك
(إنا نراك من المحسنين) أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا وكذا قال الفراء: أن معناه من العالمين الذين أحسنوا العلم وقال ابن إسحاق من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك أو من المحسنين إلى أهل السجن قد روي أنه كان كذلك قال قتادة: وكان يعزي حزنتهم ويداوي مرضاهم ورأوا منه عبادة واجتهاداً فأحبوه وعن الضحاك قال: كان إحسانه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه وإذا ضاق عليه المكان أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن ابن عباس قال: دعا يوسف لأهل السجن فقال اللهم لا تعم عليهم الأخبار وهون عليهم مر الأيام.
وإنما قال يوسف لهما بهذا ليحصل الانقياد له منهما فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي بينت لكما ماهيته وكيفيته وسماه تأويلاً بطريق المشاكلة لأن الكلام في الرؤيا أو المعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع.
(ذلكما) أي التأويل والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما (مما علمني ربي) مما أوحاه إليّ وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم
(إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله والمراد بالترك هو عدم التلبس بذلك من الأصل وعدم الالتفات إليه بالكلية لا أنه قد كان تلبس به ثم تركه كما يدل عليه قوله ما كان لنا أن نشرك بالله ثم وصف هؤلاء القوم بما يدل على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه فقال (وهم بالآخرة هم كافرون) أي هم يختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله.
(ما كان) أي ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع (لنا) معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومنا (أن نشرك بالله من شيء) أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلاً أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر قال الواحدي: لفظة من زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد.
(ذلك) أي الإيمان والتوحيد وعدم الإشراك والعلم الذي رزقنا (من فضل الله) أي ناشئ من تفضلاته (علينا) ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوة المتضمنة للعصمة عن معاصيه (و) من فضل الله (على الناس) كافة ببعثه الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم وتبين طرائق الحق لهم (ولكن أكثر الناس)
قال قتادة: إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله ويشكر ما بالناس من نعمة، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول يا رُبَّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ويا رب حامل فقه غير فقيه ثم دعاهم إلى الإسلام صريحاً فقال:
(أأرباب متفرقون) الاستفهام للإنكار مع التوبيخ والتقريع ومعنى التفرق هنا هو التفرق في الذوات والصفات والعدد أي هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم (خير) لكما يا صاحبي السجن (أم الله الواحد) أي المعبود بحق المتفرد في ذاته وصفاته الذي لا ضد له ولا ند ولا شريك (القهار) الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند وقيل استفهام تقرير أي طلب الإقرار بجواب الاستفهام أي أقروا واعلموا أن الله هو الخير والأول أولى.
أورد يوسف عليهما هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام وقد قيل أنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب ولهذا قال لهما
وقيل المعنى ما تعبدون من دون الله إلا مسمياته أسماء وقيل خطاب لأهل السجن جميعاً لا لخصوص الصاحبين، وهذا هو الأظهر وكذلك ما بعده من الضمائر لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم.
(سميتموها أنتم وآباؤكم) من تلقائكم بمحض جهلكم وضلالتكم وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر والتقدير سميتموها آلهة من عند أنفسكم (ما أنزل الله بها) أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة (من سلطان) من حجة تدل على صحتها (إن) أي ما (الحكم) في أمر العبادة المتفرعة على تلك التسمية (إلا لله) عز سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان (أمر أن لا) أي بأن لا (تعبدوا إلا إياه) حسبما تقضي به قضية العقل أيضاً والجملة مستأنفة أو حالية والأول هو الظاهر.
(ذلك) أي تخصيصه تعالى بالعبادة (الدين القيم) أي المستقيم الثابت العدل الذي تعاضدت عليه البراهين عقلاً ونقلاً (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) إن ذلك هو دينه القويم وصراطه المستقيم لجهلهم وبعدهم عن الحقائق أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقه.
ثم بعد تحقيق الحق ودعوتهما إليه وبيانه لهما مقداره الرفيع ومرتبة علمه الواسع شرع في تفسير ما استفسراه ولكونه بحثاً مغايراً لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال.
(وأما الآخر) وهو الخباز فيخرج بعد ثلاث (فيصلب فتأكل الطير من رأسه) تعبيراً لما رآه من أنه حمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وهو ما رأياه وقصاه عليه يقال استفتاه إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا والمراد بالأمر ما يؤول إليه أمرهما ولذلك وحده قاله البيضاوي.
وقال الزمخشري: المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا من
وقيل الظاهر أنه على معناه لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً، والأول أولى وأنسب بحال الأنبياء، ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما تقدم.
(اذكرني عند ربك) هي معقول القول، أمره بأن يذكره عند سيده ويقول له إن في السجن غلاماً محبوساً ظلماً منذ خمس سنين ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب فخرج.
(فأنساه الشيطان ذكر ربه) وكانت هذه المقالة منه صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان. ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف عليه السلام، هكذا قال أكثر المفسرين، ويكون المراد بربه في قوله ذكر ربه هو الله سبحانه، أي أنسى الشيطان يوسف عليه السلام ذكر الله تعالى في تلك الحال. فقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته، وذلك غفلة عرضت له عليه السلام فإن الإستعانة
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه وهو الذي نجا من الغلامين وهو الشرابي، والمعنى أنسى الشرابي الشيطان ذكر سيده، أي ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف عليه السلام من ذكره عند سيده، ويكون المعنى فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف عليه السلام مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك.
وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف عليه السلام ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه.
وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني (١). ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف عليه السلام لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين، وأجيب بأن النسيان بمعنى الترك وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف عليه السلام ما بعده من قوله (فلبث في السجن بضع سنين) ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي (الذي نجا منهما وادَّكر بعد أمة).
_________
(١) مسلم ٥٧٢.
وحكى عن أبي عبيدة أن البضع ما دون نصف العقد، يعني ما بين واحد إلى أربعة، وقيل ما بين ثلاث إلى سبع قاله مجاهد، وقيل هو ما دون العشرة. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس، وقد اختلف السلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف عليه السلام في السجن، فقيل سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة ووهب بن منبه، وقيل اثنتي عشرة سنة، قاله ابن عباس، وقيل أربع عشرة سنة قاله الضحاك، وقيل خمس سنين.
وعن أنس قال: أوحي إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلونك؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال: أنت يا رب، قال: فما لك نسيتني وذكرت آدمياً؟ قال: جزعاً وكلمة تكلم بها لساني، قال: فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين، فلبث فيه سبع سنين، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، فالبضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٤٧٩.
(و) رأيت (سبع سنبلات خضر) قد انعقد حبها (و) رأيت سبعاً (أخر يابسات) وهي التي قد بلغت حد الحصاد، وإنما حذف اسم العدد لأن التقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات وكان قد رأى إن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والْتَوَتْ عليها حتى غلبتها ولم يبق من خضرتهن شيء ولعل عدم التعرض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات، ولما شاهد الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى غلبه وقهره أراد أن يعرف ذلك فقال:
(يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي) الخطاب للأشراف منَ قومه، وقيل هم السحرة والكهنة والمعبرون للرؤيا، والمعنى أخبروني بحكم هذه الرؤيا (إن كنتم للرؤيا تعبرون) أي تعلمون عبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر وهو المجاوزة، فمعنى عبرت النهر بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها.
قال الزجاج: اللام في للرؤيا للبيان، وقيل هو لتقوية العامل وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل.
فتأمل حسن موقع الأضغاث مع السنابل، فللَّه در شأن التنزيل، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا. قال ابن عباس: أضغاث أحلام يقول مشتبهة، وعنه قال الكاذبة؛ وعن الضحاك مثله.
(وما نحن بتأويل الأحلام) المختلطة (بعالمين) يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، أي ليس لها تأويل عندنا وإنما التأويل للمنامات
وقيل إنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل مطلقاً ولم يدعوا أنه لا تعبير لهذه الرؤيا، وقيل إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة.
قيل وسمى الحين من الزمان أمة لأنه جماعة أيام، والأمة الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش: هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة، وقرئ بعد أمة أي بعد نسيان، وإمة بكسر الهمزة أي بعد نعمة، وهي نعمة النجاة. وعن الحسن: بعد أمة من الناس. وقال ابن عباس: بعد سبع سنين وقيل تسع سنين وقيل سنتين.
(أنا أنبئكم بتأويله) أي أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف عليه السلام أو أدلكم عليه أو أخبركم بمن عنده تأويله (فأرسلون) خاطب الملك بلفظ الجمع للتعظيم، أو خاطبه ومن كان معه من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف عليه السلام ليقص عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك أو إلى السجن.
(أفتنا) أي أخبرنا وبيِّن لنا (في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) وترك ذكر الرؤيا اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف عليه السلام بأن ذلك رؤيا وأن المطلوب منه تعبيرها.
ولما عاين علو رتبته عليه السلام في الفضل عبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولاً نبئنا بتأويله، وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتى وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير كما آذن بذلك حيث قال (لعلي أرجع إلى الناس) أي إلى الملك ومن عنده من الملأ بتأويل هذه الرؤيا أو إلى أهل البلد إذ قيل أن السجن لم يكن فيه.
(لعلهم يعلمون) ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا أو يعلمون فضلك ومنزلتك ومعرفتك لفن الرؤيا، وإنما لم يبت الكلام فيها لأنه لم يكن جازماً بالرجوع فربما اخترمته المنية دونه ولا يعلمهم.
وأصل معنى الدأب التعب ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ عن
(فما حصدتم) في كل سنة من السنين المخصبة (فذروه) أي ذلك المحصود (في سنبله) وقصبه ليكون القصب علفا للدواب ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها، قيل وهذه نصيحة منه لهم خارجة عن التعبير وما شرطية أو موصولة وسنبل فنعل بضم الفاء والعين الواحدة سنبلة، يقال سنبل الزرع أي أخرج سنبله.
(إلا قليلاً مما تأكلون) في هذه السنين المخصبة فإنه لا بد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم لأنه قد علم من قوله تزرعون.
(يأكلن ما قدمتم لهن) من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها في السنين المخصبات، وإسناد الأكل إلى السنين مجازي تطبيقاً بين المعبر والمعبر به كما في نهاره صائم.
وقال أبو عبيدة: معناه تحرزون وقيل تدخرون وقيل تخزنون والمعنى واحد والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع، أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط عليهم أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف عليه السلام وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر " (١)
_________
(١) وهو حديث مرسل وقد أورده ابن كثير في تفسيره ٢/ ٤٨١.
(وفيه يعصرون) الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون، وقيل أراد حلب الألبان، وقيل معناه ينجون مأخوذ من العصرة وهي المنجاة، قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك الملجأ والمنجى واعتصرت بفلان التجأت به وقرئ بتاء الخطاب ويعصرون بضم الياء وفتح الصاد ومعناه يمطرون ومنه قوله تعالى (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً) قال ابن عباس: يصيبهم فيه غيث يعصرون فيه العنب والزبيب ومن كل الثمرات ويحتلبون وعنه قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كان الله قد علمه إياه وفيه يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً والمراد كثرة الخير والنعم على الناس وكثرة الخصب في الزرع والثمار.
(قال) يوسف عليه السلام للرسول قاصداً إظهار براءته (ارجع إلى ربك) أي سيدك (فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن ولم يسارع إلى إجابة الملك ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً. قال ابن عباس: أراد يوسف عليه السلام العذر قبل أن يخرج من السجن ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والإناة ما تضيق الأذهان عن تصوره.
ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف عليه السلام لأجبت الداعي) (١) يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك، قال ابن عطية: كان هذا الفعل من يوسف عليه السلام أناة وصبراً وطلباً لبراءة ساحته وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون هذا الذي راود امرأة العزيز.
وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها وإنما قال فاسأله ما بال النسوة وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز أو خوفاً منه من كيدها وعظم شرها وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له تنزيهاً منه عن نسبة ذلك إليهن ولذلك لم ينسب
_________
(١) مسلم ١٥١ - البخاري ١٥٩٣.
(إن ربي بكيدهن عليم) فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنياً عن التصريح وقيل المراد بالرب هنا الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له والأول أولى وفيه تعظيم كيدهن والوعيد لهن على كيدهن.
ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز فأجبن عليه بقولهن (قلن حاش لله) أي معاذ الله تنزيهاً له عن أن يتصف بالعجز عن خلق بشر عفيف مثل هذا.
(ما علمنا عليه من سوء) أي من أمر سيء ينسب إليه من خيانة في شيء من الأشياء وغير ذلك ولما علمت زليخا أن هذه المناظرات والتفحصات إنما هي بسببها فعند ذلك كشفت الغطاء وصرحت بما هو الواقع.
و (قالت امرأة العزيز) منزهة لجانبه مقرة على نفسه بالمراودة له (الآن حصحص الحق) أي تبين وظهر بعد خفائه وأصله حص فقيل حصحص كما قيل في كبوا كبكبوا قاله الزجاج، واصل الحص استئصال الشيء يقال حص
قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، وقال ابن عباس: تبين، وعن مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد والسدي مثله.
ثم لما علمت أن يوسف عليه السلام راعى جانبها حيث قال: ما بال النسوة ولم يذكرها مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها، كافأته على ذلك باعترافها بأن الذنب منها وأوضحت ذلك بقولها (أنا روادته عن نفسه) ولم تقع منه المراودة لي أصلاً (وإنه لمن الصادقين) فيما قاله من تنزيه نفسه ونسبة المراودة إليها وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام فأخبر الرسول يوسف عليه السلام بجواب النسوة المذكورة فقال
قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. وهذه هي المرة الثالثة من مرات مجيء الرسول ليوسف عليه السلام في السجن، والمعنى فعلت ذلك (ليعلم) العزيز (أني لم أخنه) في أهله (بالغيب) والمعنى بظهر الغيب، أي وهو غائب عني أو وأنا غائب عنه. قال الزمخشري: أي مكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة.
قيل أنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة وما قالته امرأة العزيز، وقيل أنه قال ذلك وقد صار عند الملك والأول أولى. وذهب الأقلون من المفسرين إلى إن هذا كلام امرأة العزيز، والمعنى ذلك القول الذي قلته في تنزيهه والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف عليه السلام إني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني أو أنا غائبة عنه.
وقد قيل أن هذا من قول العزيز وهو بعيد جداً، ومعناه وما أُبرّئ نفسي من سوء الظن بيوسف عليه السلام والمساعدة على حبسه بعد أن علمت برائته.
(إن النفس لأمارة بالسوء) أي إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات وتأثيرها بالطبع وصعوبة قهرها وكفها عن ذلك (إلا ما رحم ربي) أي إلا من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء أو إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها.
وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء (إن ربي غفور رحيم) تعليل لما قبلها. أي إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم.
قال ابن عباس: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رآه غلاماً حدثا فقال: أيعلم هذا رؤياي ولم يعلمها السحرة والكهنة، واقعده قدامه وقال: لا تخف، وألبسه طوقاً من ذهب، وثياب حرير، وإعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر أن يوسف عليه السلام خليفة الملك.
وعنه قال: قال الملك ليوسف عليه السلام إني أحب إن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف إن تأكل معي، فغضب يوسف عليه السلام فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله، وهذه هي المرة الرابعة من مجيء الرسول ليوسف عليه السلام في السجن.
وقيل المكانة المنزلة والجاه، والمعنى قد عرفنا أمانتك ومنزلتك وصدقك وبراءتك مما نُسِبَ إليك، ومكين كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب في أمر الدين والدنيا واليوم ليس بمعيار لمدة المكانة والأمانة بل هو آن التكلم، والمراد تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونهما بعد حين.
قيل أنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره وقال له: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك، فعبرها له بأكمل بيان وأتم عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له: إنك اليوم لدينا مكين أمين.
فلما سمع يوسف عليه السلام منه ذلك
وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ويهدم ما أمكنه من الباطل أن يطلب ذلك
ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن النبي ﷺ من النهي عن طلب الولاية والمنع من توليه من طلبه أو حرص عليها، وكان يوسف عليه السلام طلبه ابتغاء لوجه الله لا لحب الملك والدنيا وبهذا يجمع بينهما.
(إني حفيظ) وهو الذي يحفظ الشيء أي إني حفيظ لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ولا أصرفها في غير مصارفها (عليم) بوجوه جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها ومصالحها.
عن شيبة بن نعامة الضبي قال: يقول اجعلني على جميع الطعام إني حفيظ لما استودعتني عليم بسنين المجاعة. وقيل حفيظ لما استودعتني عليم لما وليتني، وقيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني.
(يتبوأ منها حيث يشاء) أي ينزل منها حيث أراد بعد الضيق والحبس ويتخذه مباءة وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدم وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر كما يتصرف الرجل في منزله، وفي القصة إن الملك توَّجَهُ وختمه وولاه مكان العزيز وعزله فمات بعد، فزوجه امرأته فوجدها عذراء وولدت له ولدين وأقام العدل بمصر ودانت له الرقاب. قاله السيوطي.
(نصيب برحمتنا من نشاء) من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه والإنعام عليه وفي الآخرة بإدخاله الجنة وانجائه من النار (ولا نضيع أجر المحسنين) في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوبنا منهم، أي لا نضيع ثوابهم فيها ومجازاتهم عليها.
(خير للذين آمنوا) بالله (وكانوا يتقون) الوقوع فيما حرمه عليهم، والمراد بهم المحسنون الذين تقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتد به هو الإيمان والتقوى، وفي الكلام إظهار في مقام الإضمار للتوصل إلى وصفهم بالأيمان والتقوى بعد وصفهم بالإحسان.
(فدخلوا عليه) أي على يوسف عليه السلام وهو في مجلس ولايته (فعرفهم) لقوة
(وهم له منكرون) لم يعرفوه لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجب، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك ورونق الرياسة وعنده الخدم والحشم، وقيل أنهم أنكروه لكونه في تلك الحال على هيئة ملك مصر ولبس تاجه وتطوق بطوقه، وقيل كانوا بعيدي العهد منه فلم يعرفوه.
قيل كان بين إن قذفوه بالجب وبين دخولهم عليه مدة أربعين سنة؛ فِلذلك أنكروه، وقيل غير ذلك، وكل واحد من هذه الأسباب مانع من حصول المعرفة فكيف وقد اجتمعت فيه، ولما كان إنكارهم له مستمراً في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام.
وفي الآية تضمين ضمن جهز معنى أكرم، أي ولما أكرمهم بجهازهم أي بتحصيله لهم، قيل حمل لكل واحد منهم بعيراً من الطعام وأكرمهم في النزول وأحسن ضيافتهم، وجميع ما فعله يوسف عليه السلام معهم في هذه القصة كان بالوحي كما قاله بعض المفسرين.
(قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم) يعني أخاه بنيامين الذي تقدم ذكره،
ولعله عليه السلام إنما قاله لما قيل من أنهم سألوه عليه السلام حملاً زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به، لا لما قيل من أنه لما رأوه وكلموه بالعبرية.
قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟
فقالوا له: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار.
فقال لهم: لعلكم جئتم عيوناً.
فقالوا: معاذ الله نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب.
قال: كم أنتم؟
قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك وكان أحبنا إلى أبينا.
فقال: كم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة.
قال: فأين الحادي عشر؟
قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك.
قالوا: نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا.
قال: فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون فخلفوه عنده إذ لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل على تقدير عدم الإتيان به ولا جعل بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعهم ولا عدتهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلهم عند أبيهم إرسال أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالة، على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال.
ثم قال لهم (ألا ترون أني أوف الكيل) أي أتممه وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرة وغرضه ترغيبهم في العود إليه مرة أخرى، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله فقال:
(وأنا خير المنزلين) أي والحال أنا خير لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال، قال الزجاج: قال يوسف عليه السلام ذلك حين أنزلهم وأحسن ضيافتهم، وقال ابن عباس: أنا خير من يضيف بمصر، قال الرازي: وهذا الكلام يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ومن يشافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم ألا ترون الخ، وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم ذلك مع أنه يعرف براءتهم من هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بالصديق.
ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال
(ولا تقربون) أي لا تدخلوا بلادي فضلاً أن أحسن إليكم، وقيل معناه لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرة ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده والمعنى لا تدنوا مني ولا تقربون مجزوماً على أن لا ناهية أو على أنها نافية وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا، فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم.
وأيضاً فإن فتية أشبه من فتيان لأن فتية عند العرب لأقل العدد، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه، والجملة مستأنفة جواب سؤال كأنه قيل فما قال يوسف عليه السلام بعد وعدهم له بذلك فأجيب بأنه قال لفتيته.
قال الزجاج: الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك، وقال الثعلبي: هما لغتان جيدتان مثل الصبية والصبيان.
قال الكرخي: وكلاهما جمع فتى كإخوة وإخوان جمع أخ، الأول للقلة والثاني للكثرة قال البيضاوي وهم الكيالون.
(اجعلوا بضاعتهم) المراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام وكانت نعالاً وأدماً، وقال ابن عباس: أوراقاً.
(في رحالهم) وكل لكل رحل واحداً من غلمانه يدس فيه البضاعة التي اشتروا بها الطعام الذي في هذا الرحل، والرحال جمع رحل وهي الأوعية التي يحمل فيها الطعام وغيره والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث.
قال الواحدي: الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام.
قال ابن الأنباري: يقال للوعاء رحل وللبيت رحل، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم، وقيل ليستعينوا بها على الرجوع إليه سريعاً لشراء الطعام، وقيل ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلاًّ بثمن قاله الفراء، وجرى عليه الجلال.
ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في الرحال وهي معرفتهم لها فقال (لعلهم يعرفونها) أي بضاعتهم (اذا انقلبوا) رجعوا (إلى أهلهم) لأنهم لا يعلمون برد البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم.
ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله (لعلهم يرجعون) إلينا فإنهم إذا عرفوا ذلك علموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم وتفضل به من وصلوا إليه عليهم، نشطوا إلى العود ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع؛ وبهذا يظهر يوسف عليه السلام لم يرد البضاعة إليهم إلا لهذا المقصود وهو رجوعهم إليه فلا يتم تعليل ردها بغير ذلك.
(فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي) أي منع الكيل في المستقبل بعد هذه المرة وفيه دليل على أن الامتياز مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا برد بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد (فلما فتحوا متاعهم) الآية.
(فالله خير حافظاً) منصوب على الحالية وقرئ حفظاً على التمييز، ولعل هنا إضماراً والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم وقال فالله خير حافظاً والمعنى أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له وإنما أرسله معهم لأنه لم يشاهد فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف عليه السلام، أو أن شدة القحط وضيق الوقت أحوجه إلى ذلك.
(وهو أرحم الراحمين) فأرجو أن ينعم عليَّ بحفظه ولا يجمع عليَّ مصيبتين قيل لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه، ولما قال في يوسف عليه السلام (وأخاف أن يأكله الذئب) وقع له من الامتحان ما وقع، قال كعب: لما قال ذلك قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما.
وقال قتادة: ما نبغي وراء هذا، وقيل أن ما نافية أي ما نبغي في القول وما نزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا، وقرئ بالفوقية خطابا ليعقوب أي أيُّ شيء تطلب وراء هذا الإحسان أو أي شيء تطلب من الدليل على صدقنا.
ثم برهنوا على ما نفوه من التزيد في وصف الملك بقولهم (هذه بضاعتنا ردت إلينا) فإن من تفضل عليهم برد ذلك حقيق بالثناء عليه منهم، مستحق لما وصفوه به وهي جملة مقررة لما دل عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردت إليهم.
(ونمير أهلنا) نجلب إليهم الميرة وهي الطعام يقال مار أهله يميرهم إذا حمل لهم الطعام وجلبه من بلد آخر إليهم، والمائر الذي يأتي بالطعام، وقرأ السلمي بضم النون (ونحفظ أخانا) بنيامين مما تخافه عليه (ونزداد) بسبب
(ذلك) أي زيادة كيل بعير لاخينا (كيل يسير) يسهل على الملك ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه، وقيل أن المعنى ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا، واختار الزجاج الأول، وقيل أن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما نزله أولاده (ونزداد كيل بعير) يعني إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد وهو ضعيف لأن جواب يعقوب هو:
تقول العرب: أحيط بفلان إذا هلك أو قارب هلاكه، فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنْيامين إلا أن يغلبوا عليه أو يهلكوا دونه جميعاً فيكون ذلك عذراً لهم عنده.
(فلما آتوه موثقهم) أي أعطوه ما طلبه منهم من اليمين والعهد (قال: الله على ما نقول وكيل) أي قال يعقوب: الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية فهو المعاقب لمن خاس في عهده وفجر في الحلف به، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا.
ولم يكتف بقوله (لا تدخلوا من باب واحد) من قوله (وادخلوا من أبواب متفرقة) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة.
قال النخعي: أحب يعقوب أن يلقى أخاه في خلوة، قيل وكان قد علم أن ملك مصر هو ولده يوسف عليه السلام إلا أن الله لم يأذن له في إظهاره ذلك، فلما بعث أبناءه إليه قال لهم ذلك القول، والأول أولى، أعني أنه خاف عليهم العين، وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق وأصيب بها جماعة في عصر النبوة منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي، والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة.
وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب، وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته، وقيل ينفى، وأبعد من قال أنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك ويتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل.
ثم قال يعقوب لأولاده (وما أغني عنكم من الله من شيء) أي لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم.
والاستثناء بقوله (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) منقطع، والمعنى ولكن حاجة كانت في نفسه وهي شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم أظهرها ْيعقوب لهم ووصاهم بها غير معتقد إن للتدبير الذي دبره لهم تأثيراً في دفع ما قضاه الله عليهم، وقيل أنه خطر ببال يعقوب أن الله إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً وخوفاً منهم فأمرهم بالتفرق لهذه العلة.
وقد اختار هذا النحاس وقال لا معنى للعين هنا؛ وفيه أن هذا لو كان السبب لأمرهم بالتفرق لم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من
(وإنه) أي وإن يعقوب (لذو علم) جليل (لما علمناه) أي لتعليمنا بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد إن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر، وعلم أن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة وقيل غير ذلك، وهذا أولى، وفي تأكيد الجملة بإن واللام وتنكير العلم وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بذلك كما ينبغي، وقيل لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه وإن كان لا يغني من القدر شيئاً والسياق يدفعه، وقيل المراد بأكثر الناس المشركون.
(فلا تبتئس) أي فلا تحزن، والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس والضر والشدة (بما كانوا يعملون) إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها: وقيل أنه لم يخبره بأنه يوسف عليه السلام بل قال له إني أنا أخوك مكان أخيك يوسف عليه السلام فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً.
وقيل أنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله فقال لا أبالي فدس الصاع في رحله وهو المراد بالسقاية في قوله
وعبر بالفاء هنا إشارة إلى طلب سرعة سيرهم وذهابهم لبلادهم لأن الغرض منه قد حصل، وقد عرفت حالهم بخلاف المرة الأولى كان المطلوب طول مدة إقامتهم ليتعرف الملك حالهم.
والمعنى أنه جعل السقاية التي هي الصواع (في رحل أخيه) الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر (ثم) بعد ذلك (أذن) نادى (مؤذن) منادٍ وأعلم معلم، والأذان في اللغة الإعلام، وكان ذلك النداء مع رفع الصوت مراراً كثيرة بدليل التفعيل بعد انفصالهم عن مجلس يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وخرجوا من العمارة، ثم أرسل خلفهم من استوقفهم وحبسهم كما يشير له التعبير بثم التي للتراخي بل قيل أنهم وصلوا إلى بلبيس وردوا من عندها.
وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير، قاله الهيثم، وقيل قافلة الحمير. وقال أبو عبيدة: العير الإبل المرحولة المركوبة، ثم كثر ذلك في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير لأنه يعير أي يذهب ويجيء.
(إنكم لسارقون) نسبة السرقة إليهم على حقيقتها لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف عليه السلام. وقيل أن المعنى أن حالكم حال السارقين من كون الصواع صار لديكم من غير رضاً من الملك، وليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا ذلك بأمر يوسف عليه السلام، وهو الأقرب إلى ظاهر الحال؛ لأنهم طلبوا السقاية فلم يجدوها ولم يكن هناك أحد غيرهم، وغلب على ظنهم أنهم هم الذين أخذوها فقالوا ذلك بناء على غلبة ظنهم؛ وقيل غير ذلك وهذا أولى.
(ولمن جاء به حمل بعير) من الطعام جعلاً له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع (وجود) الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد في رحله، وهذا قول المؤذن وحده فهو الذي كفر وضمن والبعير الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار؛ والمراد بالحمل هاهنا ما يحمله البعير من الطعام.
ثم قال المنادي (وأنا به) أىِ بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية (زعيم) كفيل، قاله ابن عباس أي بلسان أهل اليمن.
وعن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك مثله، ولعل القائل بفقد صواع الملك هو المنادي، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحداً منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده لأنه القائل بالحقيقة وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم في ذلك الزمان.
وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم وطهارة ذيلهم عن التلوث بقذر الفساد في الأرض الذي من أعظم أنواعه السرقة لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرة الأولى وهذه المرة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا ممن يتجارى على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلا ردهم
ثم أكدوا هذه الجملة التي اقسموا بالله عليها بقولهم: (وما كنا سارقين) لزيادة التبري مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة الرذيلة الشنعاء.
(إن كنتم كاذبين) فيما تدعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة؛ وذلك بأن يوجد الصواع معكم.
فأجاب إخوة يوسف عليه السلام
قال الزجاج: هو زيادة في البيان أي جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير.
قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ثم يخلى سبيله فلذلك استفتوهم في جزائه.
(كذلك) أي مثل ذلك الجزاء الكامل (نجزي الظالمين) لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف عليه السلام، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف أي كذلك نحن نجزي الظالمين بالسرق.
ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر فأقبل يوسف عليه السلام على ذلك
(ثم استخرجها) أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث (من وعاء أخيه) فنكس إخوة يوسف عليه السلام رؤوسهم من الحياء ولاموا بنيامين فأخذوه وردوه إلى يوسف عليه السلام.
(كذلك) أي مثل ذلك الكيد العجيب (كدناه) أي دبرنا قاله القتيبي أو أردنا قاله ابن الأنباري (ليوسف) يعني علمناه إياه وأوحينا إليه واللام زائدة وإليه نحا السيوطي.
وفي أبي السعود: ما يقتضي أن اللام للتعليل أي صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه والكيد مبدؤه
وقال ابن الأعرابي: الكيد التدبير بالباطل وبالحق، وقيل الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف عليه السلام في الابتداء فعلنا بهم وقيل غير ذلك والأول أولى، وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً.
(ما كان) يوسف عليه السلام (ليأخذ أخاه) بنيامين (في دين الملك) أي ملك مصر وفي شريعته التي كان عليها بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته؛ وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره.
وهذه الجملة تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف عليه السلام أو تفسير له يعني أن ذلك الأمر كله كان إلهاماً من أمر الله ليوسف عليه السلام وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد وهو معنى قوله (إلا أن يشاء الله) أي إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له والاستثناء منقطع، إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد به، فالمعنى ولكن أخذه بشريعة يعقوب.
(نرفع درجات من نشاء) بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف عليه السلام بذلك؛ والآية على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف عليه السلام ورفع درجته
(وفوق كل ذي علم) ممن رفعه الله بالعلم من المخلوقين (عليم) أرفع رتبة منه وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه، وقيل معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم إلى أن ينتهي العلم إلى الله وهو سبحانه فوق كل عالم.
عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس فحدث بحديث؛ فقال رجل عنده وفوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس: بئس ما قلت؛ الله العليم الخبير وهو فوق كل عالم.
وعن محمد بن كعب: سأل رجل علياً كرم الله وجهه عن مسئلة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال عليّ: أصبت واخطأت وفوق كل ذي علم عليم.
وعن عكرمة قال: علم الله فوق كل عالم، قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه ولا يطمع نفسه بالغلبة لأنه لا يخلو عالم عن عالم فوقه، وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء. وكان يوسف عليه السلام أعلم منهم.
وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام، ما هي فقيل أنه كان ليوسف عليه السلام عمة هي أكبر من يعقوب وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسن أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً من ذكر أو أنثى، وكانت قد حضنت يوسف عليه السلام وأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع قال لها يعقوب سلمي يوسف إليّ فأشفقت من فراقه واحتالت في بقائه لديها فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها، ثم قالت قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف عليه السلام فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم. ذكره محمد بن إسحاق، وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة.
وقيل أن يوسف أخذ صنماً كان لجده أبي أمه فكسره، وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر فعيره بذلك إخوته، وقد روى معناه عن ابن عباس مرفوعاً. وعن سعيد بن جبير وقتادة مثله غير مرفوع، وقد روي نحوه عن جماعة من التابعين، وحكى عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب، وقيل من فضة، وقال عطية سرق في صباه ميلين من ذهب.
وعن ابن عباس سرق مكحلة لخالته، وقيل كان في النزل دجاجة فأعطاها لسائل، قاله سفيان بن عيينة، وقيل كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب.
وحكى الواحدي عن الزجاج قال: الله أعلم أسرق أخ له أم لا، وحكى القرطبي في تفسيره عنه أنه قال؛ كذبوا عليه فيما نسبوه إليه.
قال الزجاج وغيره الضمير في (فأسرَّها) يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل فأسر الجملة (يوسف في نفسه ولم يبدها لهم) ثم فسرها بقوله (قال أنتم شر مكاناً) وقد رد أبو علي الفارسي هذا فقال: أن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل؛ وعلى هذا يكون في الكلام رجوع الضمير على متأخر لفظاً ورتبة. وفيه أيضاً إطلاق الكلمة على الكلام، والأول سائغ في مقام التفسير كما هنا. والثاني سائغ في اللغة.
وقيل الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف عليه السلام إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل أسر في نفسه قولهم إن يسرق الخ. وهذا هو الأولى ويكون معنى ولم يبدها لهم أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرها في نفسه بإن يذكر لهم صحتها وبطلانها.
وجملة: قال أنتم شر مكاناً مفسرة على القول الأول ومستأنفة على القولين الأخيرين كأنه قيل فماذا قال يوسف عليه السلام لما قالوا هذه المقالة، أي أنتم شر موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة ورميتموه بها وهو بريء فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف عليه السلام في الجب والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم، ولم يكن من يوسف عليه السلام سرقة حقيقية.
ثم قال (والله أعلم بما تصفون) من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف
ثم عللوا ذلك بقولهم (إنا نراك من المحسنين) إلى الناس كافة، وإلينا خاصة فأتم إحسانك إلينا بإجابتنا إلى هذا المطلب، فأجاب عليهم يوسف و
وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة ولا هدمت أصلاً، ولعل الله أمر يوسف عليه السلام بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر، قاله ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب. وجزم صاحب الكشاف بأن هذه الواقعة كانت بوحي كما مر مراراً (إنا إذاً) أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده (لظالمون) في دينكم وما تقتضيه فتواكم.
قال أبو عبيدة: استيأسوا أي استيقنوا أن الأخ لا يرد عليهم، وقيل أيسوا من أخيهم أن يرد إليهم، والأول أولى.
(خلصوا نجياً) أي انفردوا عن الناس واعتزلوا مجلسه وانحازوا على حدة حال كونهم متناجين متحدثين فيما بينهم ليس فيهم غيرهم في التشاور في أمر هذه القضية وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كقوله (وقربناه نجياً).
قال الزجاج: معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم، وقال قتادة وحدهم.
(قال كبيرهم) قيل هو روبيل لأنه الأسن وهو الذي كان نهاهم عن قتله وكان أكبر القوم في الميلاد قاله قتادة، وقيل كبيرهم في العقل والعلم لا في السن وقيل يهوذا لأنه الأوفر عقلاً.
وقيل شمعون لأنه رئيسهم (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً)
(ومن قبل ما فرطتم في يوسف) أي وألم تعلموا أن تفريطكم في أمر يوسف عليه السلام كائن من قبل تفريطكم في بنيامين أو من قبل أخذكم العهد في شأنه، على أن ما مصدرية، ويجوز أن تكون زائدة والأول أولى، والمعنى قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه.
(فلن أبرح الأرض) يقال برح براحاً وبروحاً أي زال فإذا دخله النفي صار مثبتاً أي لن أبرح من أرض مصر بل ألزمها ولا أفارقها ولا أزال مقيماً فيها على أن أبرح هنا تامة (حتى يأذن لي أبي) في مفارقتها والخروج منها بالعود إليه وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الميثاق بإرجاعه إليه إلا أن يحاط بهم كما تقدم.
(أو يحكم الله لي) بمفارقتها والخروج منها، وقيل المعنى أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى أبي وأعود معه، وقيل المعنى أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأجازيه وأخذ أخي منه أو أعجز فأنصرف بعد ذلك قال مجاهد: أقاتل بسيفي حتى أقتل، وعن أبي صالح نحوه (وهو خير الحاكمين) لأن أحكامه لا تجري إلا على ما يوافق الحق ويطابق الصواب ومراده بهذا الكلام الالتجاء إلى الله في إقامة عذره إلى والده يعقوب.
ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم
قال الزجاج: إن سرق يحتمل معنيين أحدهما علم منه السرق والآخر اتهم بالسرق أمرهم بهذه المقالة مبالغة في إزالة التهمة عن أنفسهم عند أبيهم لأنهم كانوا متهمين عنده بسبب وقعة يوسف عليه السلام.
(وما شهدنا إلا بما علمنا) من استخراج الصواع من وعائه، وقيل
وقيل المعنى ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرج معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به، وقيل الغيب هو الليل ومرادهم أنه سرق وهم نيام وقيل مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم فخفى عليهم فعله. قال عكرمة: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق وعن قتادة نحوه، وقال ابن عباس: ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين.
ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه: لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند؛ قيل والأول أولى لأن مثل هذا النوع من المجاز مشهور في كلام العرب، وتعقبه الحافظ ابن القيم في البدائع وقال إنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس ونظائره كثيرة وليس منه قوله تعالى (واسأل القرية) وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه الشراب، والذنوب للدلو الملآن ماء والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.
ثم لكثرة استعمالهم هذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وسباقه، وإنما يفعلون
(والعير التي أقبلنا فيها) أي أصحابها وكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب من كنعان، حمل العير هنا إلى الدواب نفسها وهذا هو المعنى الحقيقي لها فاحتاج إلى تقدير المضاف وفيما سبق على المعنى المجازي وهو نفس أصحابها فاستغنى عن تقدير المضاف.
(وإنا لصادقون) فيما قلنا، جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد لأن ما قد تقدم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع، وهذا آخر الكلام الذي علمه لهم أخوهم الكبير.
فلما قالوا هذا ليعقوب
(فصبر جميل) أي فأمري صبر أو فصبر جميل أجمل بي وأولى لي، والصبر الجميل هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى بل يفوض أمره إلى الله ويسترجع، وقد ورد أن الصبر عند أول الصدمة.
(عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) أي بيوسف عليه السلام وأخيه بنيامين، والأخ الثالث الباقي بمصر وهو كبيرهم كما تقدم، وإنما قال هكذا على سبيل حسن الظن بالله عز وجل لأنه قد كان عنده أن يوسف عليه السلام لم يمت وأنه باق على الحياة وإن غاب عنه خبره، وإذا اشتد البلاء وعظم كان أسرع إلى الفرج قال تعالى (سيجعل الله بعد عسر يسراً) (إنه هو العليم) بحالي (الحكيم) فيما يقضي به.
عن ابن عباس أي يا حزناً، وعن قتادة مثله، وعن مجاهد يا جزعاً.
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف عليه السلام وانضمام فراقه لأخيه بنيامين وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
وقد روي عن سعيد بن جبير أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع والصبر على المصائب، ولو كان عنده ذلك لما قال يا أسفاً على يوسف عليه السلام يعني إن الاسترجاع خاص بهذه الأمة، ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره كأنه قال تعال يا أسفي وأقبل عَليّ وفيه شكوى إلى الله لا منه.
(وابيضت عيناه من الحزن) أي انقلب سواد عينه بياضاً من كثرة
وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً، قال بعض أهل اللغة الحزن بالضم والسكون البكاء وبفتحتين ضد الفرح، وقال أكثر أهل اللغة هما لغتان بمعنى، والبكاء بالمد رفع الصوت وبالقصر نزول الدمع من غير صوت وهو المناسب هنا وهو أحد قولين والذي جرى عليه المصباح والقاموس أنه لا فرق بينهما في أن كُلاًّ يستعمل في كليهما.
وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كُلاًّ أو بعضاً أنه إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف عليه السلام حيّ فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حيئنذ كفار، وقيل أن مجرد الحزن ليس بمحرم وإنما المحرم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي.
قال أبو السعود: وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند النوائب فإن الكف من ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله ﷺ على ولده إبراهيم وقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون انتهى.
ويؤيد هذا قوله (فهو كظيم) أي مكظوم فإن معناه أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه من كظم السقاء إذا سده على ما فيه والكظم بالفتح مخرج النفس، يقال أخذ بأكظامه، وقيل الكظيم بمعنى الكاظم أي المشتمل على حزنه الممسك له ومنه والكاظمين الغيظ.
قال الحسن: كان بين خروج يوسف عليه السلام من حجر أبيه إلى يوم التقيا ثمانون سنة ولم تجف فيها عينا يعقوب، وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه والله أعلم.
(حتى تكون حرضاً) أي دنفاً من المرض، قاله ابن عباس، وقال قتادة: هرماً، والحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والصفة المشبهة حرض بكسر الراء كدنف ودنف، وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، حكى ذلك عن أبي عبيدة وغيره، وقيل الحرض ما دون الموت، وقيل الحارض البالي الدائر، وقال الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل وكذا الحرض.
وقال المؤرج: هو الذائب من الهم، ويقال رجل محرض، قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق، وقال الأخفش الحارض الذاهب، وقال ابن الأنباري: هو الهالك، وفي المصباح حرض حرضاً من باب تعب أشرف على الهلاك.
وقد ذكر المفسرون أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً وهماً، وإن لم يقدر على كتمه وذكره لغيره كان ذلك بثاً، فالبث على هذا أعظم الحزن وأصعبه، وقيل البث الهم وقيل الحاجة وعلى هذا يكون عطف الحزن على البث واضح المعنى، وأما على تفسير البث بالحزن العظيم فكأنه قال: إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن القليل إلى الله لا إلى غيره من الناس ولا إليكم.
وعن مسلم بن يسار يرفعه قال: من بث لم يصبر، ثم قرأ هذه الآية. أخرجه ابن جرير وعبد الرزاق. قال ابن عباس: بثي همي.
(وأعلم من الله) أي من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة (ما لا تعلمون) أنتم وأنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، وقيل أراد علمه بأن يوسف عليه السلام حي لكنه لم يعرف أين هو، وقيل أراد علمه بأن رؤياه صادقة وأني لأسجد له، قاله ابن عباس، وقيل أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون.
(ولا تيأسوا من روح الله) أي لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه ورحمته.
قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح.
وحكى الواحدي عنه أيضاً الروح الاستراحة من غم القلب.
وقال أبو عمرو: الروح الفرج. وعن ابن زيد قال: من فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه.
وقال ابن عباس: الروح الرحمة، يعني أنه استعير الروح للرحمة، وقيل أنه مصدر بمعنى الرحمة.
(إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين) لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه وعظيم صنعه وخفيِّ ألطافه، والمؤمن يصبر عند البلاء وينتظر الفرج والرحمة فينال به خيراً ويحمد الله عند الرخاء، والكافر بضد ذلك.
قال قتادة: الضر في المعيشة وعدلوا إلى الشكوى لأن التحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق، والاعتراف بالعجز وضيق اليد وشدة الحاجة مما يرقق القلب، فقالوا نختبره بهذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا المقصود، وإلا شكونا. وفيه دليل على أنه يجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه، كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة.
وعبارة أبي السعود وإنما لم يبدءوا بما أمروا به استجلاباً للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدموا من رقة الحال رقة القلب والحنو انتهى. وهذه المرة التي دخلوا فيها مصر هي المرة الثالثة كما يفيده ما تقدم من سياق الكتاب العزيز.
(وجئنا ببضاعة مزجاة) البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء
وقال الواحدي الإزجاء في اللغة السوق والدفع قليلاً قليلاً، ومنه قوله تعالى (ألم تر أن الله يزجي سحاباً) والمعنى أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار.
قال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة. قال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة.
قال ابن عباس: دراهم مزجاة أي كأسدة، وعنه أيضاً مزجاة رثة المتاع خلقة الحبل والغرارة والشيء، وأيضاً الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها.
وفي القاموس زجاه ساقه ودفعه ومزجاة قليلة أو لا يتم صلاحها، وفي المصباح زجيته بالتثقيل دفعته برفق.
واختلف في هذه البضاعة ما هي، فقيل كانت قديداً وحيساً، وقيل صوف وسمن؛ وقيل الحبة الخضراء والصنوبر، وقيل دراهم رديئة زيوف، وقيل المنعال والأدم، ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل أي يجعله تاماً لا نقص فيه وأن يتصدق عليهم فقالوا:
(فأوف لنا الكيل وتصدق علينا) إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها، وبهذا قال أكثر المفسرين، وقد قيل كيف يطلبون التصدق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرمة عليهم. وأجيب باختصاص ذلك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جريج: معنى قولهم أردد علينا أخانا. وبه قال الضحاك. وقال ابن الأنباري وكان الذي يسألونه من المسامحة يشبه الصدقة لا نفس الصدقة.
وأما ما فعلوا بأخيه فقال جماعة من المفسرين هو ما أدخلوه عليه من الغم بفراق أخيه يوسف عليه السلام وما كان يناله منهم من الاحتقار والإهانة ولم يستفهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب مع أنه قد ناله منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى.
قال الواحدي؛ ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيماً له ورفعاً من قدره، وعلما بأن ذلك كان بلاء له من الله عز وجل ليزيد في درجته عنده تعالى.
(إذ أنتم جاهلون) نفى عنهم العلم وأثبت لهم صفة الجهل لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم، وقيل أنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم وتخفيف الأمر عليهم، فكأنه قال إنما اقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم وقصور معارفكم عن عاقبته وما يترتب عليه، أو أراد أنهم عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر اعتذاراً لهم ودفعاً لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً، وهذا الآية تصديق لقوله تعالى (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).
وقيل سبب معرفتهم له بمجرد قوله (ما فعلتم بيوسف وأخيه) أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلا هو، وقيل إنه لما قال لهم هذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه، وقيل إنه تبسم فعرفوا ثناياه.
(قال أنا يوسف) أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه، قال ابن الأنباري: أظهر الاسم فقال أنا يوسف ولم يقل أنا هو تعظيماً لما وقع له من ظلم إخوته، كأنه قال أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فاكتفى بإظهار الاسم عن هذه المعاني وقال (وهذا أخي) مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي (قد منَّ الله علينا) بالخلاص عما ابتلينا به، وقيل منَّ الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة وقيل بالجمع بيننا بعد التفرق وقيل بالسلامة في ديننا ودنيانا ولا مانع من إرادة جميع ذلك.
(إنه من يتق ويصبر) قرئ بالجزم على أن من شرطية وقرئ بإثبات الياء في يتقي وقيل من موصولة لا شرطية وهو بعيد والمعنى من يفعل التقوى أو يفعل ما يتقيه من الذنوب ويصبر على المصائب، وقيل يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل يتقي المعصية ويصبر على السجن، وقيل يتقي الله بأداء فرائضه ويصبر عما حرم الله، وقيل يتقي الفحشاء ويصبر على الطاعة والعموم أولى، ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع.
(فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) على العموم فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أولياً وجاء بالظاهر وكان المقام مقام المضمر أي أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان.
(وإن كنا لخاطئين) أي وإن الشأن كذلك، قال أبو عبيدة: خطأ وأخطأ واحد، وقال الأزهري: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره. ومنه قولهم المجتهد يخطئ ويصيب والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي، قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلابا لعفوه واستجذاباً لصفحه، وقيل آثر لفظ خاطئين على مخطئين موافقة لرؤوس الآي.
قال ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش، ومعناه إزالة التثريب كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع أي لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم.
وقد جوز الأخفش الوقف على (عليكم) فيكون اليوم متعلقاً بالفعل الذي بعده وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري عن عكرمة قال لا تثريب لا تعيير، وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتح رسول الله ﷺ مكة التفت إلى الناس فقال ماذا تقولون وماذا تظنون فقالوا: ابن عم كريم فقال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم (١).
ثم دعا لهم بقوله (يغفر الله لكم) على تقدير الوقف على اليوم وهو بمنزلة التعليل أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على
_________
(١) أنظر كامل القصة في سيرة ابن هشام ٤/ ٥٤، ٥٥؛ طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر ١٣٥٥هـ، ١٩٣٦م.
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألم تر إلى قول يوسف عليه السلام (لا تثريب عليكم اليوم) وقال يعقوب (سوف أستغفر لكم ربي).
أقول وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف عليه السلام أن يعفو عنهم لقولهم (لقد آثرك الله علينا) فقال (لا تثريب عليكم اليوم) لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلا بطلب ذلك منه إلى الله عز وجل وبين المقامين فرق، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم ولا سيما إذا صح ما تقدم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول.
وأخرج الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال: لما كان من أمر إخوة يوسف عليه السلام ما كان كتب يعقوب إلى يوسف عليه السلام وهو لا يعلم أنه يوسف عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو: أما بعد فإنّا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء كان جدي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأمر الله جدي أن يذبح له أبي (١) ففداه الله بما فداه، وكان لي ابن وكان أحب الناس إليَّ ففقدته فأذهب حزني عليه نور بصري وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب على بعض وجدي وهو المحبوس عندك في السرقة وإني أخبرك لم أسرق، ولم ألد سارقاً، فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب بكى وصاح وقال:
_________
(١) الصحيح والقول الراجح أن الذبيح هو نبي الله إسماعيل وهو الابن الأكبر للخليل صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه فلما أراد الله أن يرد يوسف عليه السلام على يعقوب وكان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل فوجد يعقوب ريحه، وليس يقع شيء من الجنة على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله.
(فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) المعنى يصير بصيراً على أن يأت هي التي من أخوات كان، قال الفراء: يرجع بصيراً، وقال السدي: يعود بصيراً ويشهد له (فارتد بصيراً) قيل كان ذلك بوحي الله وقيل بعث إليه قميصه ليزول بكاؤه وينشرح صدره، قال يهوذا أنا أحمل قميص الشفاء كما ذهبت بقميص الجفاء قيل حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً وقيل معناه يأت إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى.
ويؤيده قوله (وأتوني بأهلكم أجمعين) أي جميع من شمله لفظ الأهل
(قال أبوهم) يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله (إني لأجد ريح يوسف) أي أدركها بحاسة الشم أي أشمها أي ريح الجنة من قميص يوسف عليه السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة.
قيل إنها هاجت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة فأخبرهم بما وجد. قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، وقيل من مسيرة عشرة أيام؛ وقيل من مسيرة ثمانين فرسخاً.
ثم قال (لولا أن تفندون) أي لولا إن تنسبوني إلى الفند وهو ذهاب العقل من الهرم، يقال أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون فجعل الفند السفه.
وقال الزجاج وابن عباس: لولا أن تجهلون فجعل الفند الجهل، وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد التقبيح، وقيل هو الكذب، قاله ابن عباس، وقال ابن الأعرابي: لولا أن تضعفوا رأي. وروى مثله عن أبي عبيدة، وقال الأخفش: التفنيد اللوم وضعف الرأي.
وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي، يقال فنده تفنيداً إذا أعجزه التعجيز وأفند إذا تكلم بالخطأ، والفند الخطأ من الكلام. وعن الربيع
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست | على نفس مهموم تجلت همومها |
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني | نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر |
ولقد تهب لي الصبا من أرضها | فيلذ مسّ هبوبها ويطيب |
قال أهل المعاني: إنّ الله أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في مدة المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده | ولا الصبابة إلا من يعانيها |
لا تعذل المشتاق في أشواقه | حتى تكون حشاك في أحشائه |
(ألقاه على وجهه) أي ألقى البشير قميص يوسف عليه السلام على وجه يعقوب أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه (فارتد) الارتداد انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى عاد (بصيراً) ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره وقوته وسروره. وعن الحسن قال: لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال على أي دين خلفت يوسف؟ قال على الإسلام، قال الآن تمت النعمة.
(قال) يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم إني لأجد ريح يوسف عليه السلام (ألم أقل لكم) هذا القول فقلتم ما قلتم، ويكون قوله (إني أعلم من الله مما لا تعلمون) كلاماً مبتدأً لا يتعلق بالقول، ويجوز أن
وقال ابن عباس: أخرهم إلى السحر، وكان يصلي لأن دعاء السحر مستجاب. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال النبي ﷺ في قصة " هو قول أخي يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي، يقول حتى تأتي ليلة الجمعة (١) ".
قيل أخره إلى ليلة الجمعة لأنها اشرف الأوقات، وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف عليه السلام ولم يعلم أنه قد عفا عنهم أو ليعرف حالهم في صدق التوبة، وجملة (إنه هو الغفور الرحيم) تعليل لما قبلها.
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٤٩٠.
وقال مسروق: كانوا ثلاثة وسبعين، قيل وكان دخولهم يوم عاشوراء،
قال أبو هريرة: دخل يعقوب مصر في ملك يوسف عليه السلام وهو ابن مائة وثلاثين سنة وعاش في ملكه ثلاثين سنة ومات يوسف عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة، قال أبو هريرة: وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمسة وتسعين سنة.
(آوى إليه أبويه) أي ضمهما وأنزلهما عنده، قال المفسرون المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف عليه السلام لأن أمه قد ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين، وقيل أحيى الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له، وبه قال قتادة وسفيان بن عيينة.
قال الخازن: والأول هو المعتمد وهذا مبني على أنه تزوج راحيل في حياة أختها ليا، قال الحفناوي وهذا قول ضعيف وأن الراجح أن ليا ماتت قبل أن يتزوج راحيل، وعلى هذا فلعله كانت لهما أخت ثالثة تزوجها يعقوب بعدهما وأدركت هذه القضية انتهى، وقيل كانت أمه باقية فلا حاجة إلى التأويل وهو الأولى بظاهر النظم القرآني.
(وقال ادخلوا مصر) أي للإقامة بها (إن شاء الله آمنين) على أنفسكم وأهليكم مما تكرهونه من القحط وأصناف المكاره، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوار منهم، وقيل والتقييد بالمشيئة عائد إلى الدخول مع الأمن ولا مانع من عوده إلى الجميع لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه كما أنهم لا يكونون آمنين إلا بمشيئته.
ولمصر فضائل كثيرة ذكرها المقريزي في الخطط منها أن الله عز وجل ذكرها في كتابه العزيز بضعاً وعشرين مرة تارة بصريح الذكر وتارة إيماء وقال ابن عباس سميت مصر بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن وقد جاء في فضل مصر أحاديث أوردها المقريزي في تاريخه، ومن أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها ومن شاء أن يطلع على مواقع مصر ومجرياتها فعليما أن ينظر في الخطط وفي حسن المحاضرة للسيوطي.
وقيل الضمير في له راجع إلى الله سبحانه أي وخروا لله سجداً وهو بعيد جداً وقيل أن الضمير ليوسف عليه السلام واللام للتعليل أي وخروا لأجله وفيه أيضاً بعد، قال عدي بن حاتم في الآية كانت السجدة تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها، وعن قتادة نحوه، وعن ابن زيد قال ذلك سجود تشرفة كما
(وقال) يوسف عليه السلام (يا أبت هذا تأويل رؤياي) التي تقدم ذكرها (من قبل) أي من قبل هذا الوقت في حال الصغر (قد جعلها ربي حقاً) أي صدقاً بوقوع تأويلها في اليقظة على ما دلت عليه قيل وكان بين الرؤيا والتأويل أربعون سنة أو ثمانون أو ست وثلاثون أو اثنتان وعشرون، وقيل خمس وثلاثون، وقيل سبعون حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي والله أعلم كم كان بينهما.
(وقد أحسن بي) الأصل أن يتعدى فعل الإحسان بإلى وقد يتعدى بالباء كما في قوله وبالوالدين إحساناً ويقال بي وإليّ بمعنى واحد، وقيل أنه ضمن أحسن معنى لطف أي لطف بي محسناً (إذ أخرجني من السجن) بعدما ابتليت به، ولم يذكر إخراجه من الجب، لأن في ذكره نوع من تثريب وتخجيل للإخوة وقد قال (لا تثريب عليكم اليوم) وقد تقدم سبب سجنه ومدة بقائه فيه.
وقد قيل إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجب أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجب لأن دخوله الجب كان بحسد إخوته ودخوله السجن بسبب تهمة المرأة فإخراجه من السجن كان لزوال التهمة عنه، وكان ذلك من أعظم نعمه سبحانه عليه وفيه بعد وضعف، وقيل لأن إخراجه من السجن كان سبباً لوصوله إلى الملك، أو لأن مصيبة السجن عنده كانت أعظم لطول مدتها ولمصاحبة الأوباش وأعداء الدين فيه بخلاف مصيبة الجب لقصر مدتها ولكون المؤنس له فيها جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة.
(وجاء بكم من البدو) أي البادية أي أرض كنعان بالشام وكانوا أهل
(من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أي بعد أن أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض يقال نزغه إذا نخسه وأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدبا (إنّ ربي لطيف) قال الأزهري: هو من أسماء الله تعالى معناه الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان يلطف إذا رفق به.
وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك أَرَبَكَ (١) في لطف، قال الخطابي؛ اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون، وقيل اللطيف العالم بدقائق الأمور، قال قتادة: لطف بيوسف عليه السلام وصنع له حين أخرجه من السجن وجاء بأهله من البدو ونزع من قلبه نزع الشيطان وتحريشه على إخوته.
(لما يشاء) أي لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب (إنه هو العليم) بأموره (الحكيم) في أفعاله.
_________
(١) الإرْبَةُ، والَأرَبُ: الحاجة (مجمل اللغة لابن فارس/٩٣؛ تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت ١٤٠٦ هـ، ١٩٨٦ م.)
ولما أتمّ الله نعمته على يوسف عليه السلام بما خلصه من المحن العظيمة، وبما خوله من الملك وعلمه من العلم، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع فقال
قلت وسيملك خامس وهو عيسى بن مريم حين ينزل من السماء إلى الأرض كما وردت به الأحاديث الصحيحة.
(وعلمتني من تأويل الأحاديث) أي بعضها لأنه لم يعط جميع علم التأويل سواء أريد به مطلق العلم والفهم أو مجرد تأويل الرؤيا، وقيل من للجنس كما في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقيل زائدة كما تقدم.
(فاطر السماوات والأرض) أي يا فاطرهما أو منتصب بإضمار أعني أو على أنه صفة لرب أو بدل أو بيان، والفاطر الخالق والمنشئ والمخترع والمبدع
(توفني مسلماً) أي على الإسلام لا يفارقني حتى أموت، قيل إنه دعا بذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلماً إظهاراً للعبودية والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة وتعليماً لغيره، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر؛ والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى، قاله الرازي والخطيب والكرخُي.
قال ابن عباس: ما سأل نبي الوفاة غير يوسف عليه السلام اشتاق إلى لقاء الله واحب أن يلحق به وبآبائه، فدعا الله أن يتوفاه (و) قال (ألحقني بالصالحين) من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك، قال الضحاك: يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقال عكرمة: يعني أهل الجنة.
قيل إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عز وجل ولم يأت عليه أسبوع بعد هذا الدعاء، قيل كان عمره عند أن أَلقي في الجب سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله.
وليس في اللفظ ما يدل أنه طلب الوفاة في الحال ولهذا ذهب الجمهور إلى أنه لم يتمن الموت بهذا الدعاء في الحال وإنما دعا ربه أن يتوفاه على دين الإسلام ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله.
وقد عاش بعد ذلك سنين كثيرة وولد له من امرأة العزيز ثلاثة أولاد إفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب، ولما مات دفنوه في أعلى النيل في صندوق من رخام وقيل من حجارة المرمر لتعم البركة جانبيه، فسبحان من لا انقضاء لملكه، فبقي أربعمائة سنة إلى أن أخرجه موسى وحمله معه حتى دفنه بقرب آبائه بالشام في الأرض المقدسة فهو الآن هناك.
وفيه تعريض ساطع بكفار قريش لأنهم كانوا مكذبين له ﷺ بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً مع كونهم يعلمون حقيقة الحال، ودليل قاطع على صحة نبوته ﷺ لأنه كان أمياً بحتاً لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر إلى غير بلده الذي نشأ فيه، ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة على أحسن تركيب وأفصح عبارة فعلم إن إتيانه بها بوحي من الله سبحانه وتعالى.
(وما كنت لديهم) أي لدى إخوة يوسف وهو تعليل لكل من الخبرين (إذ أجمعوا أمرهم) إجماع الأمر العزم عليه أي إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجب (وهم) أي بنو يعقوب في تلك الحالة (يمكرون) بيوسف عليه السلام في هذا الفعل الذي فعلوه به ويبغونه الغوائل أو يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص ملطخاً بالدم وقالوا أكله الذئب.
وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك انتفى علمه بذلك مشاهدة ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة، ولا خالطهم ولا خالطوه، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير، فلم يبق بعلمه بذلك طريق إلا مجرد الوحي من الله سبحانه فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به.
فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار قال الله سبحانه ذاكراً لهذا
وقال الزجاج: معناه ما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم، لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، قال ابن الأنباري: أن قريشاً واليهود سألوا النبي ﷺ عن قصة يوسف وإخوته فشرحها شرحاً شافياً وأتى بها على وفق ما عندهم في التوراة، وهو يأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا ظنه ولم يسلموا فحزن رسول الله ﷺ لذلك فعزاه الله بقوله وما أكثر الناس. الآية.
والمعنى كم من آية كائنة (في السماوات) من كونها منصوبة بغير عمد مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت (والأرض) من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه، وأنه الخالق لذلك والرازق له المحيي المميت.
قال الضحاك: كم من آية في السماء، يعني شمسها وقمرها، ونجومها وسحابها، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور
(وهم عنها معرضون) وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة وهي التفكر والاعتبار والاستدلال.
أقول إن إيضاح ما تضمنه هذه الآية يتوقف على إيضاح ما ذكره أهل التفاسير المعتبرة وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر، وينضم إلى ذلك ما ذكرته أنا فيكون الوجوه ثلاثة عشر.
الوجه الأول: أن أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره من أصنامهم وطواغيتهم، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقربوهم إلى الله كما قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله والمعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عباد القبور.
فهذا الإقرار الصادر منهم بأن الله عز وجل خالقهم ورازقهم هو يصدق عليه أنه إيمان بالمعنى الأعم أي تصديق لا بالمعنى الأخص أعني إيمان المؤمنين، فهذا الإيمان الصادر منهم واقع في حال الشرك فقد آمنوا حال كونهم مشركين، وإلى هذا الوجه ذهب جمهور المفسرين، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه
الوجه الثاني: أن المراد بالآية المنافقون لأنهم كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الشرك فما كانوا يؤمنون ظاهراً إلا وهم مشركون باطناً. وروي هذا عن الحسن البصري.
الوجه الثالث: أنهم أهل الكتاب يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم في الكفر بغيره ويقولون المسيح ابن الله وعزير ابن الله، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حال كونهم مشركين.
الوجه الرابع: أن المقصود بذلك ما كان يقع في تلبية العرب من قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، فقد كانوا في هذه التلبية يؤمنون بالله وهم مشركون. روي نحو ذلك عن ابن عباس.
الوجه الخامس: أن المراد بهذه الآية المراؤون من هذه الأمة لأن الرياء هو الشرك المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل " (١) فالمراؤون آمنوا بالله حال كونهم مشركين بالرياء. وأخرج أحمد في السند من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله ﷺ قال: " أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال الرياء (٢)، يقول الله يوم القيامة: إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ".
الوجه السادس: أن المراد بالآية من نسي ربه في الرخاء وذكره عند الشدائد روى ذلك عن عطاء، وفيه أنه لا يصدق على ذلك أنه آمن بالله حال كونه مشركاً إلا أن يجعل مجرد نسيان الذكر والدعاء عند الرخاء شركاً مجازاً كأنه بنسيانه وتركه للدعاء قد عبد إلهاً آخر وهو بعيد، على أنه لا يمكن
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٣٦٢٤.
(٢) أحمد بن حنبل ٥/ ٤٢٨ - ٤٢٩.
الوجه السابع: أن المراد من أسلم من المشركين فإنه كان مشركاً قبل إيمانه حكم بذلك الحاكم في تفسيره وتقريره أنه ما يؤمن أحدهم بالله إلا وقد كان مشركاً قبل إيمانه والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله، والجواب الجواب.
الوجه الثامن: أن المراد بالشرك هاهنا ما يعرض من الخواطر والأحوال حال الإيمان، قاله الواسطي كما حكاه عنه البقاعي، وفيه أن هذه الخواطر والأحوال إن كانت مما يصدق عليه الشرك الأكبر أو الأصغر فذاك وإن كانت خارجة عن ذلك فهو فاسد.
الوجه التاسع: أنهم الذين يشبهون الله بخلقه، رواه الكشاف عن ابن عباس وتقريره أنهم آمنوا بالله حال تشبيههم له بما يكون شركاً أو يؤول إلى الشرك.
الوجه العاشر: هو ما تقوله القدرية من إثبات القدرة للعبد حكاه النسفي في مدارك التنزيل. وتقريره أنهم آمنوا بالله حال إثباتهم ما هو مختص به لغيره وهو شرك أو منزل منزلة الشرك.
الوجه الحادي عشر: ما قاله محيي الدين بن عربي في تفسيره أن أكثر الناس إنما يؤمنون بغير الله ويكفرون بالله دائماً، ففي بعض الأحيان يشركون الله سبحانه مع ذلك الإله الذي هم مؤمنون به فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حال كونه مشركاً، وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله والشرك بتشريك غيره معه لا يكون إلا بتشريكه مع غيره وبين المعنيين فرق.
الوجه الثاني عشر: ذكره ابن كثير في تفسيره، وهو أن ثمة شركاً خفياً
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " (٢) وفي لفظ لهما: الطيرة شرك وما منا الا. ولكن الله يذهبه بالتوكل.
وروى أحمد في المسند عن عدي بن عبد الرحمن قال دخلت على عبد الله ابن حكيم وهو مريض فقيل له لو تعلقت فقال أتعلق شيئاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلق شيئاً وكل إليه " (٣)، ورواه النسائي عن أبي هريرة.
وفي المسند عن عقبة: بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علق تميمة فقد أشرك " (٤) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول الله (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه) (٥).
وروى أحمد وغيره من حديث غيره؛ وفي المسند أيضاً من ردته الطيرة من حاجة فقّد أشرك قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك قال أن يقول أحدهم: " اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " (٦).
وأخرج أحمد من حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٦٠٨٠.
(٢) صحيح الجامع الصغير/١٦٢٨.
(٣) ابن كثير ٢/ ٤٩٤.
(٤) صحيح الجامع الصغير ٦٢٧٠.
(٥) مسلم ٢٩٨٥.
(٦) صحيح الجامع الصغير ٦١٤٠.
إذا عرفت ما تضمنته كتب التفسير من الوجوه التي ذكرناها وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه فاعلم أن هذه الأقوال إنما هي اختلاف في سبب النزول وأما النظم القرآني فهو صالح لحمله على كل ما يصدق عليه مسمى الإيمان مع وجود مسمى الشرك، والاعتبار بما يفيده اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في مواطنه.
فيقال مثلاً في أهل الشرك أنه ما يؤمن أكثرهم بأن الله هو الخالق الرازق إلا وهو مشرك بالله بما يعبده من الأصنام، ويقال فيمن كان واقعاً في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمين أنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشرك بذلك الشرك الخفي، ويقال مثلاً في سائر الوجوه بنحو هذا على التقرير الذي قررناه سابقاً، وهذا يصلح أن يكون وجهاً مستقلاً وهو أوجهها وأرجحها فيما أحسب وإن لم يذكره أحد من المفسرين.
فما قيل من أنه يشكل وجود اتصافهم بالإيمان في حال تلبسهم بالشرك استشكال واقع موقعه، وسؤال حال محله، وجوابه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلاً إن أهل الجاهلية كان إيمانهم المجامع للشرك هو مجرد الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق وهو لا ينافي ما هم عليه من الشرك.
وكذلك يقال إن أهل الإسلام كان شرك من وقع منهم في شيء من الشرك الخفي الأصغر غير مناف لوجود الإيمان منهم لأن الشرك الأصغر لا يخرج به فاعله عن مسمى الإيمان ولهذا كانت كفارته أن يتعوذ بالله من أن يشرك وأن يقول في الطيرة اللهم لا طير إلا طيرك ولا إله غيرك.
_________
(١) أحمد بن جنبل ٤/ ٤٠٢.
فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقي والشرك الخفي في بعض المؤمنين، واجتمع الإيمان بالمعنى الأعم والشرك الحقيقي في أهل الجاهلية، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمع فيهم الإيمان بما أنزل الله على أنبيائهم والإشراك بجعل بعض المخلوقين أبناء لله عز وجل وهكذا في بقية الوجوه.
(أو تأتيهم الساعة بغتة) أي فجأة من غير سابقه علامة والنصب على الحال قال المبرد جاء عن العرب حال بعد نكرة وهو قولهم وقع أمر بغتة يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم.
(وهم لا يشعرون) بإتيانها قيل تهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم غير مستعدين لها.
وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده، قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله أدعو إلى الله، ثم ابتدأ فقال على بصيرة أنا ومن اتبعني، قال قتادة على بصيرة أي على هدى.
(و) أسبح (سبحان الله) أي وأنزه تنزيهاً له عما لا يليق بجلاله من جميع النقائص والشركاء والأضداد والأنداد (وما أنا من المشركين) بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً.
وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب حتى، قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة:
أضحت نبيتنا انثى فطيف بها | وأصبحت أنبياء الله ذكرانا |
فلعنة الله والأقوام كلهم | على سجاح ومن باللوم أغرانا |
قال قتادة: ما نعلم إن الله أرسل رسولاً قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل المعمور، وقال الحسن: لم يبعث نبي من بدو ولا من الجن ولا من النساء.
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) أفلم يسر هؤلاء المشركون المنكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم وما حل بهم من عذاب الله حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب. قال الحسن: أي كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح والأمم التي عذبها.
(ولدار) الساعة (الآخرة) أو الحالة الآخرة أو الحياة الآخرة على حذف الموصوف. وقال الفراء: أن الدار هي الآخرة، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة وصلاة الأولى ومسجد الجامع، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب، والمراد بهذه الدار الجنة، وقرئ للدار الآخرة (خير) من دار الدنيا (للذين اتقوا أفلا تعقلون) على الخطاب، وقرئ بالتحتية أي يتفكرون ويعتبرون بهم فيؤمنوا.
وقيل المعنى ظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من النصر، وقيل المعنى وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم النصر، وقرأ الباقون كذبوا بالتشديد.
والمعنى عليها واضح، أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد، وقرأ مجاهد وحميد قد كذبوا بالتخفيف معروفاً على معنى وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا. وقد قيل أن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظن منهم، والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة، ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة، وقد أطال الخازن والخفاجي في بيان معنى هذه الآية بما ليس في ذكره كثير فائدة وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ.
(جاءهم نصرنا) أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين.
وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قال: قلت أكذبوا أم كذبوا يعني هل هذه الكلمة مخففة أومشددة؟ فقالت بل كذبوا تعني بالتشديد، قلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة، قالت معاذ الله لم
وقال ابن عباس: كذبوا مخففة يقول اخلفوا وكانوا بشراً حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، قال عروة: عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت: والله ما وعد الله رسوله من شيء إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرأها مثقلة.
وعن عائشة أن النبي ﷺ قرأ (وظنوا أنهم قد كذبوا) مخففة أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة، وعن ابن عباس أيضاً أنه كان يقرأ قد كذبوا مخففة وقال: يئس الرسل من قومهم أن يستجيوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاؤهم به جاؤوهم نصرنا أي الرسل، وبها قرأ ابن مسعود قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين إبطاء النصر أنهم قد كذبوا، وقال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة، وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة.
(فنجى من نشاء) من عبادنا عند نزول العذاب بالكافرين والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم وهلك المكذبون (ولا يرد بأسنا) أي عذابنا عند نزوله (عن القوم المجرمين) المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم فأخبروهم أن من أطاع الله نجا، ومن أعرض عُذب وغوى، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين.
(لقد كان في قصصهم) أي قصص الرسل ومن بعثوا إليهم من الأمم أو في قصص يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه قاله مجاهد (عبرة) هي الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة، وقيل هي نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول (لأولي الألباب) هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم.
وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدة بين النبي ﷺ وبين الرسل الذين قص حديثهم ومنهم يوسف عليه السلام وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم، وعبارة الكرخي وجه الاعتبار بقصصهم أنه قال في أول السورة (نحن نقص عليك أحسن القصص) ثم قال هاهنا لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصة إنما هو لأجل حصول العبرة منها ومعرفة الحكمة والقدرة.
(ما كان) هذا المقصوص الذي يدل عليه ذكر القصص أو القرآن المشتمل على ذلك المتقدم ذكره في قوله إنا أنزلناه قرآناً عربياً (حديثاً يفترى) قال قتادة: الفرية الكذب (ولكن تصديق الذي بين يديه) من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور، وقيل هو تصديق ذلك كله ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله.
(وتفصيل كل شيء) من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها لأن الله
وقيل تفصيل كل شيء من قصة يوسف عليه السلام مع إخوته وأبيه وقيل وليس المراد به ما يقتضيه من العموم بل المراد به الأصول والقوانين وما يؤول إليها، قال قتادة: فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، وقيل ما من شيء من أمر ديني إلا وله مستند في القرآن بواسطة أو بغير واسطة.
(وهدى) في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته (ورحمة) في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه بشرط الإيمان الصحيح ولهذا قال (لقوم يؤمنون) أي يصدقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى فلا يستحق ما يستحقونه.
تم بعون الله الجزء السادس من فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء السابع وأوله تفسير سورة الرعد.
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء السابع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
بسم الله الرحمن الرحيم
أوله تفسير سورة الرعد وتبدأ بقوله تعالى:المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)
- سورة إبراهيم
- سورة الحجر
- سورة الإسراء إلى آخرها
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد(وهي ثلاث وقيل أربع أو خمس أو ست وأربعون آية)
وقد وقع الخلاف هل هي مكيّة أو مدنيّة، وممن ذهب إلى الأول سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر وابن زيد، وإلى الثاني ابن الزبير والكلبي ومقاتل، والقول الثالث أنها مدنيّة إلا آيتين فإنهما نزلتا بمكة وهما قوله تعالى: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) وقيل قوله: (ولا يذل الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) وقيل هو الذي يريكم البرق -إلى قوله- له دعوة الحق. وعن جابر بن زيد كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)سورة يوسف
سورةُ (يوسُفَ) مِن السُّوَر المكية، وقد كان لها من اسمها الحظُّ الأكبر؛ فقد قامت السورةُ بأكملها على سرد قصة (يوسف) بالتفصيل، ولا يوجد في القرآن نظيرٌ لهذا السردِ والاختصاص؛ أن تَختصَّ سورةٌ بذكرِ قصة نبيٍّ من الأنبياء، وتُسمَّى باسمه. وقد بيَّنت هذه السورةُ قواعدَ التمكين في الأرض، ومُلئت بالعِبَر والعظات المستخلَصة من قصة يوسف؛ فهي مثال يحتذى في الصبر، والتحلِّي بمكارم الأخلاق، والخوف من الله في السِّر والعلن، وصِدْقِ التوكل على الله؛ فهو الذي بيده مقاليدُ كل شيء.
ترتيبها المصحفي
12نوعها
مكيةألفاظها
1794ترتيب نزولها
53العد المدني الأول
111العد المدني الأخير
111العد البصري
111العد الكوفي
111العد الشامي
111* قوله تعالى: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]:
عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال : «أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا؛ فأنزَلَ اللهُ: {الٓرۚ تِلْكَ ءَايَٰتُ اْلْكِتَٰبِ اْلْمُبِينِ} [يوسف: 1] إلى قولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اْلْقَصَصِ} [يوسف: 3]، فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حدَّثْتَنا؛ فأنزَلَ اللهُ: {اْللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اْلْحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا} [الزمر: 23]». أخرجه ابن حبان (٦٢٠٩).
* سورة (يوسُفَ):
وسببُ تسميةِ سورة (يوسُفَ) بهذا الاسمِ واضحٌ جليٌّ؛ فإنَّ قصةَ (يوسُفَ) هي موضوعها الرئيسُ.
جاء الموضوع الرئيسُ للسورة عن قصَّة (يوسف) عليه السلام على التفصيل الآتي:
1. من أدلة إعجاز القرآن الكريم (١-٣).
2. رؤيا يوسف عليه السلام (٤-٦).
3. تآمُرُ إخوته عليه عليه السلام (٧-١٨).
4. محنة يوسف عليه السلام في مصر (١٩- ٣٤).
5. محنة يوسف عليه السلام في السِّجن (٣٥-٥٣).
6. تسلُّمُه عليه السلام الحُكْمَ بعد السجن (٥٤- ٥٧).
7. لقاؤه عليه السلام مع إخوته مرة ثانية (٥٩- ٩٨).
8. لقاء العائلة (٩٩-١٠٢).
9. تعقيبات على القصة (١٠٣- ١١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /503).
لم تأتِ قصةُ (يوسف) عليه السلام لمجردِ السَّرد والتسلية؛ إنما جاءت للعِبْرة والعِظة في كثيرٍ من الأمور؛ من ذلك: لطفُ الله بمَن يصطفيه من عباده، والاقتداءُ بصبر الأنبياء - مثل: يعقوب ويوسف عليهما السلام - على البلوى، وكيف تكون لهم العاقبةُ؛ ليَتسلَّى بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ من سار بطريق الدعوة، كما أبانت السورةُ عن قواعدِ التمكين في الأرض، وما تخلَّلَ ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين؛ كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اْلْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، وقوله: {إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ اْلْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
ينظر " التحرير والتنوير" لابن عاشور (12 /200)