بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النحلوهي مكية سوى ثلاث آيات من آخرها، وهي قوله تعالى :( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) ( ١ ) إلى آخر السورة، وقيل : إن قوله :( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا ) ( ٢ ) الآية مدنية أيضا، وهذه السورة تسمى سورة النعم، وقيل : سورة الآلاء.
٢ - النحل: ١١٠..
ﰡ
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من أَمر الله هُوَ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام، ذكره الضَّحَّاك، وَهَذَا قَول ضَعِيف. وَزعم الْكَلْبِيّ وَغَيره أَن المُرَاد مِنْهُ الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿فَلَا تستعجلوه﴾ الاستعجال طلب الشَّيْء قبل حِينه، وَمَعْنَاهُ: لَا تطلبوه قبل وقته، وَرُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله: ﴿أَتَى أَمر الله﴾ رفع الْكفَّار رُءُوسهم، وظنوا أَنَّهَا قد أَتَت حَقِيقَة، لما قَالَ: ﴿فَلَا تستعجلوه﴾ خفضوا رُءُوسهم. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿أَتَى أَمر الله﴾ قَامَ رَسُول الله فَزعًا، فَقَالَ جِبْرِيل: فَلَا تستعجلوه "، قد ذكره مقَاتل فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ﴾ مَعْنَاهُ: تعاظم بالأوصاف الحميدة عَمَّا يصفه بِهِ (الْمُشْركُونَ).
وَقَوله: ﴿على من يَشَاء من عباده﴾ يَعْنِي: من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ.
وَقَوله: ﴿أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون﴾ مَعْنَاهُ: مُرُوهُمْ بقول لَا إِلَه إِلَّا الله منذرين ومخوفين لَهُم بِالْعَذَابِ؛ يَقُولُوا أَو لم يَقُولُوا. فَقَوله: ﴿فاتقون﴾ أَي: فخافون.
وَقَالَ بَعضهم: الدفء هُوَ النَّسْل، وَذكر الْآمِدِيّ أَن هَذَا من كَلَام الْعَرَب.
وَقَوله: ﴿وَمَنَافع﴾ الْمَنَافِع هِيَ الرّكُوب والنتاج، وَسَائِر مَا ينْتَفع بِهِ. وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ هُوَ التَّنَاوُل من لَحمهَا ولبنها.
وَإِنَّمَا خص [بقوله] :﴿حِين تريحون وَحين تسرحون﴾ الرواح فِي الْأَنْعَام هُوَ إِذا جَاءَت من مراعيها إِلَى أفنية ملاكها عشيا، والسراح هُوَ إِذا خرجت من الأفنية إِلَى المراعي بكرَة؛ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم الرواح، والسراح هُوَ الْمُقدم؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَالِك يكون أعجب بهَا إِذا راحت؛ وَلِأَن الْمَنَافِع مِنْهَا إِنَّمَا تُؤْخَذ بعد الرواح.
وَالْجَوَاب أَن السّفر لَا يَخْلُو عَن مشقة فِي الْجُمْلَة، وَالثَّانِي: أَن معنى الْآيَة لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس، لَوْلَا هَذِه الدَّوَابّ.
وَقَوله: ﴿إِن ربكُم لرءوف رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿لتركبوها﴾ زعم بَعضهم أَن ركُوب الْحمر الْغرَّة الحسان أبلغ فِي الزِّينَة من الْخَيل وَالْبِغَال؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿لتركبوها وزينة﴾ عقيب ذكر الْحمر، وَهَذَا
وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْجمال فِي الْخَيل أَكثر لِلْحسنِ والعيان؛ وَلِأَن الله تَعَالَى بَدَأَ بهَا بِالذكر.
وَقيل لخَالِد بن صَفْوَان: مَا لَك لَا تركب الْحمر؟ قَالَ: هِيَ بطيئة الْغَوْث كَثِيرَة الروث، إِذا سَار أَبْطَأَ وَإِذا وقف أدلى. ورؤي مرّة على حمَار؛ فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: أدب عَلَيْهِ دبيبا، وَألقى عَلَيْهِ حبيبا، ويمنعني أَن أكون جبارا عنيدا.
وَقد ثَبت أَن رَسُول الله ركب الْفرس والبغل وَالْحمار. وَفِي الْآثَار: أَن الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل كَانُوا يركبون الأتن. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كره لحم الْخَيل؛ قَالَ: لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿لتركبوها وزينة﴾. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر أَن النَّبِي أذن فِي لُحُوم الْخَيل "، وَثَبت أَيْضا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق أَنَّهَا قَالَت: " أكلنَا لحم فرس على عهد رَسُول الله " فَالْأولى هُوَ الْإِبَاحَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم.
وَقَوله: ﴿ويخلق مَا لَا تعلمُونَ﴾ قيل مَعْنَاهُ: ويخلق مَا لَا يخْطر ببال أحد،
فَقَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن الله تَعَالَى خلق آدم، فَقيل لَهُ: فَكيف لَا يفتنهم إِبْلِيس؟ قَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن لله فِي خلقه إِبْلِيس " وَهَذَا خبر غَرِيب، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا جَائِر﴾ مَعْنَاهُ: وَمن السَّبِيل جَائِر، وَقَرَأَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: " ومنكم جَائِر ". أَي: عَادل عَن الْحق، قَالَ الشَّاعِر:
(لما خلطت دماؤنا بدمائهم | وقف الثقال بهَا (وجار) الْعَادِل) |
وَقَوله: ﴿وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَفِيه رد على الْقَدَرِيَّة.
وَقَوله: ﴿وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون﴾ أَي: تسيمون الْمَوَاشِي فِيهَا، والإسامة هِيَ
وَقَوله: ﴿والنجوم مسخرات بأَمْره﴾ أَي: مذللات بأَمْره. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَترى الْفلك مواخر فِيهِ﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مواقر - أَي مَمْلُوءَة - وَيُقَال: مواخر أَي: مقبلة مُدبرَة برِيح وَاحِدَة، والمخر هُوَ الشق، والسفينة تمخر المَاء أَي: تشقه، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَرَادَ أحدكُم الْبَوْل فليتمخر الرّيح " أَي:
وَقَوله: ﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ يَعْنِي: للتِّجَارَة. وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ يَعْنِي: إِذا رَأَيْتُمْ صنع الله فِيمَا سخر لكم، وَرُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر؛ فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف، دود على عود، لَيْسَ إِلَّا السَّمَاء وَالْمَاء، إِن مَال غرق، وَإِن نجا برق، أَي: دهش وتحير.
وَقَوله: ﴿أَن تميد بكم﴾ أَي: أَن تميل بكم. وَقَوله: ﴿وأنهارا وسبلا﴾ يَعْنِي: طرائق. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ أَي: لَعَلَّكُمْ تهتدون بِالطَّرِيقِ وَالْجِبَال.
وَقَوله: ﴿غير أَحيَاء﴾ تَأْكِيد للْأولِ. وَقَوله: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون﴾ أَي: مَتى يبعثون؟ فَإِن قيل: هَل للأصنام بعث؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد ذكر فِي بعض التفاسير: أَن الْأَصْنَام تبْعَث، وَتجْعَل فِيهَا الْحَيَاة، وتتبرأ من عابديها، وَقد دلّ على هَذَا الْقُرْآن فِي مَوَاضِع، وَقيل فِي معنى الْآيَة: وَمَا تشعر الْأَصْنَام مَتى يبْعَث الْكفَّار؟ وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن مَعْنَاهَا: وَمَا يشْعر الْكفَّار مَتى يبعثون؟.
وَقَوله: ﴿وهم مستكبرون﴾ أَي: متكبرون، وَيُقَال: إِنَّه لَا يُنكر الدّين إِلَّا متكبر.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة أحد فِي قلبه ذرة من كبر ".
وَقَوله: ﴿قَالُوا أساطير الْأَوَّلين﴾ يَعْنِي: أكاذيب الْأَوَّلين، والأساطير وَاحِدهَا أسطورة، وَقيل: أقاصيص الْأَوَّلين.
وَقَوله: ﴿كَامِلَة﴾ إِنَّمَا ذكر الْكَمَال؛ لِأَن البلايا والمحن الَّتِي تلحقهم فِي الدُّنْيَا لَا تكفر عَنْهُم شَيْئا، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ بنية الْحَسَنَات.
وَقَوله: ﴿وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم﴾ وَمن ذنُوب الَّذين يضلونهم، وهم الأتباع.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحملون أوزار الأتباع، وَالله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحملوا ذنوبهم بِحكم الإغواء وَالدُّعَاء إِلَى الضلال؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى الْهدى (فَاتبع) ؛ فَلهُ أجره وَأجر من عمل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَأَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء ".
وَقَوله: ﴿بِغَيْر علم﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم رجعُوا إِلَى مَحْض التَّقْلِيد من غير دَلِيل، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: أَنهم دعوهم إِلَى الضلال من غير حجَّة. وَقَوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يزرون﴾ مَعْنَاهُ: أَلا بئس مَا يحملون من الذُّنُوب.
وَقَوله: ﴿فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد﴾ وَهَذَا مَذْكُور على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: قلع الله مَكْرهمْ من أَصله، ورد وبال مَكْرهمْ وضرره عَلَيْهِم، وَإِلَّا فَلَيْسَ ثمَّ بُنيان وَلَا أساس وَلَا سقف.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْآيَة نزلت فِي نمروذ بن كنعان لما بنى الصرح ليصعد إِلَى السَّمَاء، وَفِي الْقِصَّة: أَنه بنى قصرا طوله فِي السَّمَاء فرسخان، وَقيل: كَانَ خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَزِيَادَة شَيْء، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع؛ فَبعث الله جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَرمى بِرَأْسِهِ فِي الْبَحْر، ثمَّ خرب الْبَاقِي؛ فَسقط عَلَيْهِم وهم تَحْتَهُ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم﴾ وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
فَإِن قيل: قَالَ: ﴿فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم﴾ فأيش معنى قَوْله: ﴿من فَوْقهم﴾ وَقد فهم الْمَعْنى بقوله: ﴿فَخر عَلَيْهِم السّقف﴾ ؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك مَذْكُور على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم﴾، وَمثل قَوْله: ﴿فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم﴾.
جَوَاب آخر ذكره ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره: أَن الْعَرَب تَقول: خر على فلَان بيوته، إِذا سَقَطت، وَإِن لم يكن تحتهَا، فَإِذا قَالَت: خر على فلَان بَيته من فَوْقه يفهم أَنه كَانَ
فَإِن قيل: أَيْن شركائي؟ وَلَيْسَ لله شريك، فَكيف معنى الْآيَة؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهَا: أَيْن شكائي فِي زعمكم؟ ﴿وَمِنْهُم من قَالَ: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعونهم شُرَكَاء؟﴾
وَقَوله: ﴿قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الْيَوْم والهوان على الْكَافرين.
قَوْله: ﴿فَألْقوا السّلم﴾ أَي: استسلموا وانقادوا لملك الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿مَا كُنَّا نعمل من سوء﴾ أَي: مَا كُنَّا مُشْرِكين. وَقَوله: ﴿بلَى إِن الله عليم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَن الله عليم بأنكم عملتم عمل الْكفَّار - وَعمل الْكفَّار هُوَ ترك المهاجرة وَالْخُرُوج مَعَ الْمُشْركين - وَقد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام لَا يقبل
وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: ﴿أساطير الْأَوَّلين﴾ أَي: الْمنزل أساطير الْأَوَّلين، وَقَوله: ﴿قَالُوا خيرا﴾ مَعْنَاهُ: أنزل رَبنَا خيرا. وَقَوله: ﴿للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ إحسانهم هُوَ قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَوله: ﴿حَسَنَة﴾ اخْتلف القَوْل فِيهَا:
قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ تَضْعِيف الْأجر إِلَى الْعشْر فَمَا زَاد، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْحَسَنَة هُوَ النَّصْر وَالْفَتْح، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الرزق الْحسن، وَقَالَ غَيره: مَا فتح الله على الْمُسلمين من الْبلدَانِ، وأفاء عَلَيْهِم من الْغَنَائِم.
وَقَوله: ﴿ولدار الْآخِرَة خير﴾ مَعْنَاهُ: ولحال دَار الْآخِرَة خير.
وَقَوله: ﴿ولنعم دَار الْمُتَّقِينَ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد [مِنْهَا] الْجنَّة، وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هِيَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا دَار الْمُتَّقِينَ، وَمِنْهَا يتزود إِلَى الْآخِرَة، [و] فِيهَا يطْلب رضَا الله تَعَالَى، وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ إِذا فرق العطايا بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالَ: هَذَا لكم فِي الدُّنْيَا وَمَا ادخر الله لكم فِي الْآخِرَة.
قَوْله: ﴿يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم﴾ يُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، يبلغون سَلام الله إِلَيْهِم، وَفِي الْأَخْبَار: " أَنهم يَقُولُونَ لكل وَاحِد مِنْهُم: السَّلَام عَلَيْك يَا ولي الله ". وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن الْمَيِّت الْمُؤمن يزف إِلَى الله كَمَا تزف الْعَرُوس. وَقَوله: ﴿ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي: يُقَال لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة بإيمانكم وطاعتكم.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن أعوان ملك الْمَوْت سِتَّة أَمْلَاك: ثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ، وَثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْكفَّار، وَقيل: هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة بِالْعَذَابِ وَالْقَتْل للْكفَّار، أَو يَأْتِي أَمر رَبك؟ يَعْنِي: الْمَوْت. وَقَوله: ﴿كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم﴾ يَعْنِي: كَذَلِك كفر الَّذِي من قبلهم. وَقَوله: ﴿وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَمعنى التَّحْرِيم الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ مَا حرمُوا من الْبحيرَة والوصيلة والسائبة والحام، وَقد احتجت الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة، وَوجه احتجاجهم أَن الْمُشْركين قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا، [ ﴿وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء﴾ ] ثمَّ إِن الله تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: ﴿كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم﴾ ردا وَإِنْكَارا عَلَيْهِم، فَدلَّ على أَن الله تَعَالَى لَا يَشَاء الْكفْر، وَأَنَّهُمْ فعلوا مَا فعلوا بِغَيْر مَشِيئَة الله.
وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الزّجاج وَغَيره أَنهم قَالُوا هَذَا القَوْل على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَلَو قَالُوا على طَرِيق التَّحْقِيق لَكَانَ قَوْلهم مُوَافقا لقَوْل الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب: ﴿إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد﴾ فَإِنَّهُم قَالُوا هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يس، ﴿وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ﴾ وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ لِأَنَّهُ فِي نَفسه قَول حق يُوَافق قَول الْمُؤمنِينَ، كَذَلِك هَاهُنَا قَالُوا مَا قَالُوا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ فَلهَذَا أنكر الله تَعَالَى عَلَيْهِم، ورد قَوْلهم، وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد من هَذَا مَا ذكر من بعد وسنبين.
وَقَوله: ﴿فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾ يَعْنِي: لَيْسَ إِلَيْهِم الْهِدَايَة والإضلال، وَإِنَّمَا عَلَيْهِم التَّبْلِيغ.
وَقَوله: ﴿فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين﴾ مَعْنَاهُ: مآل أَمر المكذبين ومرجعهم.
وَقَوله: ﴿بلَى وَعدا عَلَيْهِ حَقًا﴾ مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا، وَلَكِن الله يَبْعَثهُم، ثمَّ قَالَ: ﴿وَعدا عَلَيْهِ حَقًا﴾ أَي: وَاجِبا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ﴾ يَعْنِي: أَن وعد الله حق؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعلمهُ
وَالْجَوَاب: أَن الْأَشْيَاء الَّتِي قدر الله كَونهَا هِيَ فِي علم الله كالكائنة (الْقَائِمَة) ؛ فاستقام قَوْله: ﴿إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه﴾ وَقيل: إِن هَذَا على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يكون شَيْئا إِذا أردنَا تكوينه.
وَقَوله: ﴿أَن نقُول لَهُ﴾ مَعْنَاهُ: أَن نقُول لأَجله: ﴿كن فَيكون﴾ أَي: كن فَكَانَ، وقرىء بقرائتين. " فَيكون " بِالنّصب، " وَيكون " بِالرَّفْع.
أما بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: فَهُوَ يكون، وَأما بِالنّصب فَهُوَ منسوق على قَوْله: ﴿أَن نقُول﴾ وَذَلِكَ يَقْتَضِي النصب.
وَقَوله: ﴿لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ وَالْحسن: هِيَ الْمَدِينَة، وَيُقَال: هِيَ قدم الصدْق، وَقيل: التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة.
وَقَوله: ﴿ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: أعظم لَو كَانُوا يعلمُونَ. وَقَوله: ﴿لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ منصرف إِلَى الْمُشْركين دون هَؤُلَاءِ النَّفر، فَإِنَّهُم كَانُوا يعلمُونَ أَن أجر الْآخِرَة أكبر.
قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ والزبر، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم بِالْبَيِّنَاتِ والزبر. ثمَّ قَالَ: ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾.
قَوْله: ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾. وَقد كَانَ الرَّسُول مُبينًا للوحي، وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِن بَيَان الْكتاب فِي السّنة. وَقَوله: ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ يَعْنِي: يتدبرون ويعتبرون.
وَقَوله: ﴿أَن يخسف الله بهم الأَرْض﴾ الْخَسْف مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بَيْنَمَا رجل يتبختر فِي حلَّة لَهُ فَخسفَ بِهِ الأَرْض، فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَحكى النقاش عَن بعض أهل الْعلم مُسْندًا: أَن قوما تدافعوا الْإِمَامَة بعد مَا أُقِيمَت الصَّلَاة فَخسفَ الله بهم الأَرْض.
وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يفتح للنَّاس مَعْدن، ويبدو من الذَّهَب أَمْثَال البخت؛ فيميل النَّاس إِلَيْهِ فيخسف الله بهم وبالمعدن، فهم يتجلجلون فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: ﴿أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى التخوف هُوَ أَن يَأْخُذ قوما وَلَا يَأْخُذ آخَرين، وتخوفهم بِأخذ هَؤُلَاءِ، قَول الْحسن وَالضَّحَّاك.
وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن اللَّيْث بن سعد أَنه قَالَ: سَمِعت أَنه على عجل.
وَقَوله: ﴿فَإِن ربكُم لرءوف رَحِيم﴾ رَحمته للْكفَّار هِيَ إمهالهم فِي الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿عَن الْيَمين﴾ أَي: عَن الْأَيْمَان؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ عَقِيبه: ﴿وَالشَّمَائِل﴾ والظل دائر من جَوَانِب الْإِنْسَان، فَمرَّة يكون عَن يَمِينه، وَمرَّة يكون عَن شِمَاله، وَمرَّة يكون قدامه، وَمرَّة يكون خَلفه.
وَقَوله: ﴿سجدا لله﴾ أَكثر السّلف أَن السُّجُود هَاهُنَا: هُوَ الطَّاعَة لله، وَأَن كل الْأَشْيَاء سَاجِدَة لله مطيعة من حَيَوَان وجماد، وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ الْحسن: يَا ابْن آدم، ظلك يسْجد لله تَعَالَى، وَأَنت لَا تسْجد، فبئس مَا صنعت.
وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: أَربع بعد الزَّوَال قبل الظّهْر يعدلن مِثْلهنَّ من السحر، وَمَا من شَيْء إِلَّا وَيسْجد لله فِي تِلْكَ السَّاعَة، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله﴾ الْآيَة.
قَالَ الضَّحَّاك: المُرَاد من سُجُود الظلال سُجُود الْأَشْخَاص، وَذكر بَعضهم أَن معنى قَوْله: ﴿سجدا لله﴾ أَي: خاضعة ذليلة خادمة فِيمَا أُرِيد لَهَا بِأَصْل الْخلقَة، والأشياء.
وَذكر بَعضهم: أَنه إِنَّمَا أضَاف السُّجُود إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى السُّجُود، فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفسهَا سَاجِدَة، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول ثمَّ الثَّانِي.
وَقَوله: ﴿وهم داخرون﴾ أَي: صاغرون.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ بعده: ﴿وَالْمَلَائِكَة﴾ ؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا لَهُم.
وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة الْمَذْكُورين أخيرا هم مَلَائِكَة الله فِي الأَرْض، يعْبدُونَ الله تَعَالَى ويسبحونه. وَقَوله: ﴿وهم لَا يستكبرن﴾ الاستكبار: طلب الْكبر بترك الإذعان للحق.
وَقَوله: ﴿ويفعلون مَا يؤمرون﴾ يَعْنِي: أَن الْمَلَائِكَة لَا يعصونه.
الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: على طَرِيق التَّأْكِيد، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَام
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهَا: وَقَالَ الله: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد. ﴿فإياي فارهبون﴾ يَعْنِي: فخافون.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن [طَاعَة] غير الله تَنْقَطِع وتزول، وَطَاعَة الله لَا تَزُول وَلَا تَنْقَطِع، وَقيل: واصبا أَي: خَالِصا، والوصب فِي اللُّغَة هُوَ التَّعَب، فَيُقَال على هَذَا: أَن معنى الْآيَة أَن الطَّاعَات كلهَا لله، وَإِن كَانَ فِيهَا الوصب والتعب.
وَقَوله: ﴿أفغير الله تَتَّقُون﴾ أَي: تخافون، وَهَذَا اسْتِفْهَام على طَرِيق الْإِنْكَار.
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِذا مسكم الضّر﴾ قيل: الْقَحْط، وَقيل: الْمَرَض. وَقَوله: ﴿فإليه تجأرون﴾ الجؤار هُوَ الصَّوْت على وَجه الاستغاثة، وَمِنْه جؤار الْبَقر، وَمعنى الْآيَة أَنكُمْ تدعون الله مستغيثين. قَالَ الشَّاعِر:
(يراوح فِي صلوَات المليك | فطورا سجودا وطورا وجؤارا) |
(نهين النُّفُوس ووهن النُّفُوس | ليَوْم الكريهة أبقى لَهَا) |
وَقَوله: (أم يدسه فِي التُّرَاب) أَي: يدفنه حَيا، وَعَن قَتَادَة قَالَ: رب أُنْثَى خير لأَهْلهَا من غُلَام، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا وضعت امْرَأَة بِنْتا إِلَّا وضع الْملك يَده على رَأسهَا وَقَالَ: ضَعِيفَة خرجت من ضَعِيفَة، الْمُنفق عَلَيْهَا معَان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: ﴿أَلا سَاءَ مَا يحكمون﴾ أَي: بئس مَا يحكمون، وحكمهم: وأد الْبَنَات وَترك الْبَنِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِد: " وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال﴾ وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى﴾ فَكيف وَجه الْجمع؟ وَالْجَوَاب أَن معنى قَوْله: ﴿فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال﴾ أَي: الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ الْأَشْبَاه فَإِن الله تَعَالَى لَا شبه لَهُ، وَأما قَوْله: ﴿وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى﴾ أَي: الصّفة الْعليا، وَهَذَا جَائِز لكل أحد أَن يَقُوله، بل وَاجِب. وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ قد بَينا.
وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي معنى الْآيَة: لَو أَخذ الظَّالِمين فَأهْلك الْآبَاء انْقَطع النَّسْل، وَلم يُوجد الْأَبْنَاء فَيهْلك من فِي الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ يَعْنِي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْحسنى قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا البنون، وَالْآخر: أَنَّهَا الْجنَّة. وَقَوله: ﴿لَا جرم أَن لَهُم النَّار﴾ " لَا " رد لقَولهم. وَقَوله: ﴿جرم﴾ أَي: حَقًا، وَقيل: لَا محَالة أَن لَهُم النَّار، وَقيل: لَا بُد، وَقد بَينا أَن رجم بِمَعْنى كسب، وَذكرنَا عَلَيْهِ الاستشهاد.
وَقَوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مفرطون﴾ أَكثر الْقُرَّاء قرأوا بِفَتْح الرَّاء، وَقَرَأَ نَافِع: " مفرطون " بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي: " مفرِّطون " بتَشْديد الرَّاء.
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى قَوْله: ﴿مفرطون﴾ بِفَتْح الرَّاء، قَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد: منسيون، وعنهما: متروكون، وَقيل: مضيعون، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ، مقدمون إِلَى النَّار، وَمِنْه الفارط، وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم إِلَى المَاء، قَالَ الشَّاعِر:
(استعجلونا فَكَانُوا من صحابتنا | كَمَا تقدم فراط لوراد) |
وَأما قَوْله: " مفرطون " بِكَسْر الرَّاء، هُوَ من الإفراط، يَعْنِي: مبالغون فِي الْإِسَاءَة، وَأما قَوْله: " مفرطون " هُوَ من التَّفْرِيط، يَعْنِي: أَنهم مقصرون.
وَقَوله: ﴿اخْتلفُوا فِيهِ﴾ أَي: فِي الْكتاب. وَقَوله: ﴿وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْكتاب هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين، وَقيل: إِن الرَّسُول هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين.
(سقى قومِي بني مجد وأسقي | نميرا والقبائل من هِلَال) |
(أَلا يَا سُهَيْل فالقطيخ قد فسد | وطاب ألبان اللقَاح فبرد) |
(بئس الضجيع وَبئسَ الشّرْب شربهم | إِذا جرى فيهم المزاء وَالسكر) |
وَقَوله: ﴿أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر﴾ أَي: خلايا، وَهِي الْأَمْكِنَة الَّتِي يضع النَّحْل فِيهَا الْعَسَل، وَيُقَال: إِنَّمَا يضع الْعَسَل فِي أَجْوَاف الْأَشْجَار، وَقد يضع على أَغْصَان الْأَشْجَار، وَقَوله: ﴿وَمِمَّا يعرشون﴾ يَعْنِي: يبنون، وَقد جرت عَادَة أَهلهَا أَنهم يبنون لَهَا الْأَمَاكِن فَهِيَ تأوي إِلَيْهَا بتسخير الله إِيَّاهَا لذَلِك.
وَقَوله: ﴿ذللا﴾ يحْتَمل وَجْهَيْن:
يحْتَمل أَنه رَاجع إِلَى الطّرق، يُقَال: سَبِيل ذَلُول، وسبل ذلل، إِذا كَانَت سهلة المسلك، وَيحْتَمل أَنه ينْصَرف إِلَى النَّحْل، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مطيعة منقادة لما خلقت لَهُ، وَيُقَال: إِن للنحل يعسوبا - وَهُوَ سيد النَّحْل - إِذا وقفت وقفت، وَإِذا سَارَتْ سَارَتْ، وَيُقَال: " ذللا " يَعْنِي لأربابها؛ فَإِنَّهُ قد جرت الْعَادة أَن أَرْبَابهَا ينقلونها من مَكَان إِلَى مَكَان، فَهِيَ مسخرة لذَلِك.
وَقَوله: ﴿يخرط من بطونها﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا يخرج من أفواهها لَا من بطونها؟، وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه إِنَّمَا ذكر بطونها لِأَن الاستحالة تقع فِي بطونها؛ وَلِأَنَّهُ يخرج من بطونها إِلَى أفواهها، ثمَّ تسيل من أفواهها كَهَيئَةِ الرِّيق، وَرُوِيَ أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - مر على عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وَهُوَ مقتول يَوْم الْجمل؛ فَقَالَ: هَذَا يعسوب قُرَيْش شفيت نَفسِي، وَقتلت قومِي، أَشْكُو إِلَى الله عجري وبجري، أَي: همومي وأحزاني.
وَقَوله: ﴿شراب مُخْتَلف ألوانه﴾ يَعْنِي: أَحْمَر، وأصفر، وأبيض. وَقَوله: ﴿فِيهِ شِفَاء للنَّاس﴾ لَا يشكل على أحد أَن فِي الْعَسَل شِفَاء لبَعض الْأَمْرَاض، وَقد يَجْعَل فِي المعجونات وَكثير من الْأَدْوِيَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِيهِ شِفَاء للنَّاس، أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْأَظْهَر فِي الْآيَة هُوَ القَوْل الأول.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رجلا أَتَى النَّبِي وَذكر أَن أَخَاهُ اشْتَكَى بَطْنه فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ، فَزَاد الوجع، فَعَاد وَذكر لَهُ؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فازداد وجعا، فَعَاد وَذَلِكَ لَهُ ذَلِك؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فبرأ، فَعَاد وَذكر ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: صدق الله، وَكذب بطن أَخِيك ".
وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من اشْتَكَى شَيْئا فليأخذ من امْرَأَته أَرْبَعَة
وَكَانَ ابْن عمر إِذا أَصَابَهُ وجع طلى على مَوضِع الوجع بالعسل حَتَّى الدمل: وَعَن أبي حرَّة أَنه كَانَ يكتحل بالعسل. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون﴾ أَي: يتدبرون.
وَقَوله: ﴿لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا﴾ يَعْنِي: ينتقص علمه وعقله، وَهَذَا دَلِيل على أَنه قد يذكر الشَّيْء، وَيُرَاد بِهِ الْأَغْلَب، فَإِنَّهُ إِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر لَا يذهب جَمِيع علمه إِذا، وَإِنَّمَا يذهب أَكثر علمه. وَقَوله: ﴿إِن الله عليم قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَمَا الَّذين فضلوا برادي رزقهم على مَا ملكت أَيْمَانهم﴾ فِي الْآيَة رد على الْمُشْركين فِي اتخاذهم الْأَصْنَام آلِهَة مَعَ الله، وَمعنى الْآيَة: أَن الْأَحْرَار المالكين مِنْكُم لَا تسخو أنفسهم بِدفع أَمْوَالهم إِلَى عبيدهم ليشاركوهم فِي الْملك، فَيَكُونُوا وهم سَوَاء؛ فَإِذا لم ترضوا هَذَا لأنفسكم؛ فَأولى أَن تنزهوا ربكُم عَنهُ، وَنَظِير هَذَا مَا ذكر فِي سُورَة الرّوم: ﴿ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم﴾ إِلَى قَوْله: ﴿فَأنْتم فِيهِ سَوَاء﴾.
وَقَوله: ﴿أفبنعمة الله يجحدون﴾ يَعْنِي: بِأَن أنعم عَلَيْكُم جحدتموه، واتخذتم غَيره إِلَهًا مَعَه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: خلق من أَنفسكُم أَزْوَاجًا أَي: من جنسكم أَزْوَاجًا.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفدة﴾ فِي الحفدة أَقْوَال: رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: هم الْأخْتَان، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: هم الأصهار، وَمعنى الْآيَة على هَذَا القَوْل: وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وَبَنَات تزوجونهم؛ فَيحصل لكم بسببهم الْأخْتَان والأصهار.
وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - وَمُجاهد وَغَيرهمَا أَنهم قَالُوا: الخدم، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الأعوان، وَقيل: [أَوْلَاد] الْأَوْلَاد، وَقيل: بَنو الْمَرْأَة من غَيره.
والحفد فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِسْرَاع فِي الْعَمَل، وَفِي دُعَاء الْقُنُوت: وَإِلَيْك نسعى ونحفد أَي: نسرع، وَقَالَ الشَّاعِر:
(حفد الولائد حَوْلهنَّ وَأسْلمت | بأكفهن أزمة الأجمال) |
وَقَوله: ﴿أفبالباطل يُؤمنُونَ﴾ وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار. وَقَوله: {وبنعمة الله هم
وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ القَوْل الثَّانِي - هُوَ ضرب مثلا للْكَافِرِ وَالْمُؤمن، فَقَوله: ﴿عبدا مَمْلُوكا﴾ أَرَادَ بِهِ الْكَافِر، وَقَوله: ﴿وَمن رزقناه منا رزقا حسنا﴾ أَرَادَ بِهِ الْمُؤمن، وَقيل: إِن القَوْل الأول أليق بِظَاهِر الْآيَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سبق ذكر الْأَصْنَام، (وَتَأَخر ذكر الْأَصْنَام).
وَمن نصر القَوْل الثَّانِي اسْتدلَّ على صِحَّته بقوله: ﴿عبدا مَمْلُوكا﴾ والصنم لَا يُسمى عبدا، وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الَّذِي رزقه الله رزقا حسنا، فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا، هُوَ عَمْرو بن هِشَام، وَأما [العَبْد] الْمَمْلُوك فَهُوَ هُوَ مَوْلَاهُ أَبُو الْجَواب، وَكَانَ يَأْمُرهُ بِالْإِيمَان وَيمْتَنع، أوردهُ
وَقَوله: ﴿هَل يستوون﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿هَل يستوون﴾، وَإِنَّمَا ضرب الْمثل لاثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن المُرَاد مِنْهُ الْجِنْس لَا وَاحِد بِعَيْنِه. وَقَوله: ﴿الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى. أَي: حمد نَفسه على علمه وجهلهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: قل الْحَمد لله على مَا أوضح من الدَّلِيل. وَبَين من الْحق بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ، وَيُقَال: الْحَمد لي فَإِنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد لَا مَا يشركُونَ بِي، بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ﴾ أَي: ثقل على مَوْلَاهُ. وَقَوله: ﴿أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير﴾ يَعْنِي: أَيْنَمَا يَبْعَثهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى خير. وَقَوله: ﴿هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ عَنى بِهِ نَفسه، وَالله تَعَالَى يَأْمر بِالْعَدْلِ، وَيفْعل الْعدْل.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: على طَرِيق قويم، وَالْمرَاد من الْآيَة: ضرب مثلا آخر لنَفسِهِ وللأصنام، فَالْأول هُوَ الصَّنَم، وَالْمرَاد من قَوْله: ﴿وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله: ﴿على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ لِأَن الله تَعَالَى على طَرِيق الْحق، وَلَيْسَ عَنهُ معدل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الأول: فَهُوَ أسيد بن أبي العيض. وَقَوله: ﴿وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ﴾ هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان، وَكَانَ عُثْمَان يَأْمُرهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يسلم.
وَقَوله: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾ يَعْنِي: أدنى من لمح الْبَصَر، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾، و " أَو " للشَّكّ وَلَا يجوز على الله هَذَا؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: ﴿أَو هُوَ أقرب﴾ يَعْنِي: بل هُوَ أقرب قَالَ الشَّاعِر:
(بَدَت مثل قرن الشَّمْس فِي رونق الضُّحَى | وبهجته أَو أَنْت فِي الْعين أَمْلَح) |
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ: أَو هُوَ أقرب فِي علمكُم. وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة﴾ أَي: الأسماع والأبصار والأفئدة، وَهِي جمع الْفُؤَاد. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ أَي: نعمتي عَلَيْكُم.
وَقَوله: ﴿مَا يمسكهن إِلَّا الله﴾ يَعْنِي: فِي حَال طيرانهن وقبضهن وبسطهن.
وَقَوله: ﴿تستخفونها﴾ يَعْنِي: يخف عَلَيْكُم حملهَا. وَقَوله: ﴿يَوْم ظعنكم﴾ يَعْنِي: يَوْم سفركم. وَقَوله: ﴿وَيَوْم إقامتكم﴾ أَي: حَال إقامتكم.
وَقَوله: ﴿وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا﴾ الأصواف للغنم، والأوبار لِلْإِبِلِ، والأشعار للمعز. وَقَوله: ﴿أثاثا﴾ الأثاث: مَتَاع الْبَيْت، وَهُوَ مَا يتأثث بِهِ أَي: ينْتَفع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(أهاجتك الظعائن يَوْم بانوا | على الزي الْجَمِيل من الأثاث) |
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من الْجبَال أكنانا﴾ أَي: الغيران والأسراب، والأكنان جمع الْكن. وَقَوله: ﴿وَجعل لكم سرابيل﴾ أَي: قمصا، وَقد تكون من الصُّوف، وَقد تكون من الْقطن، وَقد تكون من الْكَتَّان.
وَقَوله: ﴿تقيكم الْحر﴾ هَاهُنَا حذف، وَمَعْنَاهُ: تقيكم الْحر وَالْبرد. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا | أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني) |
وَقَوله: ﴿وسرابيل تقيكم بأسكم﴾ أَي: الدروع، والبأس هُوَ مَا يَقع بِهِ الْبَأْس، وَهُوَ السِّلَاح. وَقَوله: ﴿كَذَلِك يتم نعْمَته عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: منته عَلَيْكُم. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تسلمون﴾ أَي: تؤمنون، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَعَلَّكُمْ تسلمون " وَالْقِرَاءَة غَرِيبَة.
فَإِن قيل: كَيفَ ذكر هَذِه النعم من الْجبَال والظلال والسرابيل والقمص والأوبار والأصواف، وَللَّه تَعَالَى نعم كَثِيرَة فَوق هَذَا لم يذكرهَا؟ فَمَا معنى تَخْصِيص هَذِه النعم وَترك مَا فَوْقهَا؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب كَانُوا أَصْحَاب أنعام، وَكَانُوا أهل جبال، وَكَانَت بِلَادهمْ حارة؛ فَذكر من النعم مَا يَلِيق بحالهم، وَكَانَت هَذِه النعم عِنْدهم فَوق كل نعْمَة؛ فخصها بِالذكر لهَذَا الْمَعْنى، وَعَن قَتَادَة: أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة النعم.
وَعَن قَتَادَة: أَنهم يقرونَ أَن النعم من الله، ثمَّ إِذا قيل لَهُم: تصدقوا، وامتثلوا فِيهَا أَمر الله تَعَالَى، قَالُوا: وَرِثْنَاهَا من آبَائِنَا.
وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: إِنْكَار النِّعْمَة هُوَ أَن يَقُول: لَوْلَا كَذَا لَأُصِبْت كَذَا، وَلَوْلَا فلَان لأصابني كَذَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: النعم سِتَّة: مُحَمَّد،
وَقَوله: ﴿وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ﴾ يَعْنِي: وَكلهمْ الْكَافِرُونَ؛ لِأَن الْآيَة فِي الْكفَّار.
وَقَوله: (ثمَّ لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا) يَعْنِي: فِي الِاعْتِذَار، وَقيل: فِي الْكَلَام أصلا. وَقَوله: ﴿وَلَا هم يستعتبون﴾ يَعْنِي: لَا يردون إِلَى الدُّنْيَا ليتوبوا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الاستعتاب: هُوَ التَّعْرِيض لطلب الرِّضَا، وَهَذَا الْبَاب منسد على الْكفَّار فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿فَألْقوا إِلَيْهِم القَوْل إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ:
الْأَظْهر أَن هَذَا قَول الْأَصْنَام يَقُولُونَ للْمُشْرِكين: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ، يَعْنِي: فِي أَنا دعوناكم إِلَى عبادتنا، أَو فِي قَوْلكُم: إِن هَؤُلَاءِ آلِهَة، أَو فِي قَوْلكُم: إِنَّا نستحق الْعِبَادَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ.
وَقَوله: ﴿ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء﴾ أَي: بَيَانا للثَّواب وَالْعِقَاب، والحلال وَالْحرَام. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: تبيانا بِالسنةِ.
وَقَوله: ﴿وَهدى﴾ أَي: من الضَّلَالَة. وَقَوله: ﴿وَرَحْمَة﴾ أَي: عطفا على من أنزل عَلَيْهِم. وَقَوله: ﴿وبشرى﴾ أَي: بِشَارَة ﴿للْمُسلمين﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْإِنْصَاف وَترك [الْجور [، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ أَنه دَعَاهُ عمر بن عبد الْعَزِيز حِين ولي الْخلَافَة، فَقَالَ لَهُ: صف لي الْعدْل، فَقَالَ: كن للصَّغِير أَبَا، وللكبير ابْنا، ولمثلك أَخا، وعاقب النَّاس على قدر ذنوبهم، وَإِيَّاك أَن تضرب أحدا (بِغَضَبِك) وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ أَن الْعدْل هُوَ أَن تستوي سريرة الْمَرْء وعلانيته.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالْإِحْسَان﴾ أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته عِنْد الله، وَقَوله: ﴿وَالْإِحْسَان﴾ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الْإِحْسَان هُوَ الْعَفو، وَالْآخر: هُوَ أَدَاء الْفَرَائِض وَالثَّالِث: (أَنه) أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك، وَالرَّابِع: أَنه التفضل، وَقيل: الْإِحْسَان أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته.
وَقَوله: ﴿وإيتاء ذِي الْقُرْبَى﴾ أَي: صلَة ذَوي الْأَرْحَام، وَقيل: إِنَّه يدْخل فِي هَذَا جَمِيع بني آدم؛ لِأَن بَينه وَبَين الْكل وصلَة بِآدَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَأدنى مَا يَقع فِي الصِّلَة ترك الْأَذَى، وَأَن يحب لَهُ مَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، وَيكرهُ لَهُ مَا يكره لنَفسِهِ.
وَقَوله: ﴿وَينْهى عَن الْفَحْشَاء﴾ الْفَحْشَاء: كل مَا استقبح من الذُّنُوب، وَقيل: إِنَّه الزِّنَا، وَقيل: إِنَّه الْبُخْل، وَقيل الْفَحْشَاء: أَن تكون عَلَانيَة الْمَرْء أفظع من سَرِيرَته.
وَقَوله: ﴿وَالْمُنكر﴾ يَعْنِي: كل مَا يكون مُنْكرا فِي الدّين، وَقيل: إِنَّه الشّرك، فَإِنَّهُ أعظم الْمَنَاكِير.
وَقَوله: ﴿وَالْبَغي﴾ يُقَال: إِنَّه الظُّلم والاستطالة على النَّاس، وَقيل: إِنَّه الْكبر، وَقيل: إِنَّه الْغَيْبَة، وَعَن قَتَادَة قَالَ: جمع الله تَعَالَى كل مَا يحب، وكل مَا يكره فِي هَذِه الْآيَة.
وَفِي بعض المسانيد: أَن شتيرا جَاءَ إِلَى مَسْرُوق، فَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَن تُحَدِّثنِي عَن عبد الله فأصدقك، أَو أحَدثك عَن عبد الله فتصدقني، فَقَالَ: حدث أَنْت، فَقَالَ: سَمِعت عبد الله يَقُول: أجمع آيَة فِي الْقُرْآن للخير وَالشَّر قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان﴾ فَقَالَ لَهُ مَسْرُوق: صدقت.
وَيُقَال: إِن الْعدْل زَكَاة الْولَايَة، وَالْعَفو زَكَاة الْقُدْرَة، وَالْإِحْسَان زَكَاة النِّعْمَة، والكتب إِلَى الإخوان زَكَاة الجاه؛ يَعْنِي: كتب الْوَسِيلَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ يَعْنِي: تعتبرون.
وَعَن عمر قَالَ: الْوَعْد من الْعَهْد، وَمثله عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها﴾ أَي: بعد إحكامها ﴿وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا﴾ أَي: شَهِيدا، وَقيل: توثقتم باسمه كَمَا يتوثق بالكفيل. وَقَوله: ﴿إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ﴾ وَعِيد وتهديد.
وَقيل: كَانَت تَأمر جواريها بنقضه، فَشبه الله من نقض الْعَهْد بهَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لم تكف عَن الْعَمَل، وَلَا حِين عملت كفت عَن النَّقْض، فَكَذَلِك أَنْتُم لَا كففتم عَن الْعَهْد، وَلَا حِين عهدتم وفيتم.
وَقَوله: ﴿من بعد قُوَّة﴾ أَي: بعد إحكام. وَقَوله: ﴿أنكاثا﴾ أَي: إنقاضا وقطعا.
والدخل: مَا تدخل فِي الشَّيْء للْفَسَاد، وَيُقَال: إِن (الدغل) هُوَ أَن يظْهر الْوَفَاء، ويبطن النَّقْض، وَكَذَلِكَ الدخل.
وَقَوله: ﴿أَن تكون أمة هِيَ أربى﴾ أَي: أَكثر، وَأما مَعْنَاهُ: فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: كَانُوا يعاهدون مَعَ قوم، فَإِذا رَأَوْا أَقْوَامًا أعز مِنْهُم وَأكْثر، نقضوا عهد الْأَوَّلين، وعاهدوا مَعَ الآخرين؛ فعلى هَذَا قَوْله: ﴿أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة﴾ يَعْنِي: طلبتم الْعِزّ بِنَقْض الْعَهْد بِأَن كَانَت أمة أَكثر من أمة.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهِي نزلت فِي قوم عَاهَدُوا مَعَ النَّبِي ثمَّ نقضوا الْعَهْد مَعَه، وعاهدوا مَعَ قوم من الْكفَّار، فظنوا أَن قوتهم أَكثر، لِأَن عَددهمْ أَكثر، وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْمُؤمنِينَ، نَهَاهُم الله تَعَالَى عَن نقض الْعَهْد؛ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذا عاهدتم مَعَ قوم لمخافة، فَإِذا أمنتم فَلَا تنقضوا، ليَكُون جانبكم أقوى وَأكْثر.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ﴾ يَعْنِي: بِالْكَثْرَةِ والقلة، وَقيل: يبلوكم الله بِهِ يَعْنِي: بِالْأَمر بِالْوَفَاءِ بالعهد. وَقَوله: ﴿وليبين لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولتسألن عَمَّا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنِّي لَا أسأَل عَمَّا أفعل من الإضلال وَالْهِدَايَة، وَأَنْتُم تسْأَلُون عَمَّا تَعْمَلُونَ من الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَوله: ﴿فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا﴾ يَعْنِي: تزل عَن الْإِسْلَام بعد ثُبُوتهَا على الْإِسْلَام قَالَ:
(النَّحْو صَعب وطويل سلمه... إِذا ارْتقى فِيهِ الَّذِي لَا يُعلمهُ)
(زلت بِهِ إِلَى الحضيض قدمه... )
وَقَوله: ﴿وتذوقوا السوء﴾ بِالْعَذَابِ. وَقَوله: ﴿بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: سهلتم طَرِيق نقض الْعَهْد على النَّاس بنقضكم الْعَهْد. وَقَوله: ﴿وَلكم عَذَاب عَظِيم﴾ أَي: كَبِير.
وَقَوله: ﴿ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم﴾ يَعْنِي: صَبَرُوا عَن الدُّنْيَا. وَقَوله: ﴿أجرهم﴾ أَي: ثوابهم وجزاءهم. وَقَوله: ﴿بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ.
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة هِيَ الرزق الْحَلَال. وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: أَنَّهَا القناعة، وَفِي بعض دُعَاء النَّبِي: " اللَّهُمَّ قنعني بِمَا رزقتني " وَفِي منثور الْكَلَام: القناعة ملك خَفِي.
وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة فِي الْجنَّة، قَالَ الْحسن: وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَيَاة طيبَة، وَعنهُ أَنه قَالَ: الدُّنْيَا كلهَا بلَاء، فَمَا كَانَ فِيهَا من خير فَهُوَ ريح، وَرُوِيَ أَنه سمع رجلا يَقُول لآخر: لَا أَرَاك الله مَكْرُوها أبدا، فَقَالَ لَهُ: دَعَوْت الله لَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن الْمَكْرُوه.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة رزق يَوْم بِيَوْم، وَقيل: إِنَّه حلاوة الْعِبَادَة وَأكل الْحَلَال، وَيُقَال: إِنَّهَا عَيْش الْإِنْسَان فِي بَلَده مَعَ الْكِفَايَة والعافية، وَقيل: مُطلق الْكِفَايَة والعافية.
وَقَوله: ﴿ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
وَالأَصَح أَن الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة، وَقد رُوِيَ ذَلِك بروايات كَثِيرَة عَن النَّبِي وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي المتَوَكل النَّاجِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لَهُ: " إِذا افتتحت الْقِرَاءَة فَقل: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". وَثَبت
وَأما معنى الْآيَة: إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يأيها الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا﴾ يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَفِي بعض الْآثَار: أَنه لَا شَيْء أَشد على إِبْلِيس من الِاسْتِعَاذَة، والاستعاذة بِاللَّه هِيَ الِاعْتِصَام بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ أَي: الشَّيْطَان المرجوم.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين هم بِهِ مشركون﴾ قَالَ بَعضهم: بِرَبّ الْعَالمين مشركون، وَقَالَ ثَعْلَب: وَالَّذين هم بِهِ مشركون أَي: لأَجله مشركون أَي: لأجل إِبْلِيس، وَهَذَا معنى صَحِيح؛ لِأَن من يُشْرك بإبليس يكون مُؤمنا بِاللَّه، فَالْمَعْنى هَذَا.
وَقَوله: ﴿وَالله أعلم بِمَا ينزل﴾ يَعْنِي: وَالله أعلم بِمَنْفَعَة الْعباد فِيمَا ينزل.
وَقَوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر﴾ أَي: مختلق. وَقَوله: ﴿بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾ يَعْنِي: كلهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمنزل لجَمِيع الْآيَات النَّاسِخ والمنسوخ.
وَقَوله: ﴿وَهدى وبشرى للْمُسلمين﴾ قد بَينا الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ﴾ قرئَ: " يلحدون إِلَيْهِ " و " يلحدون "، والإلحاد: الْميل، والملحد هُوَ الَّذِي مَال عَن الْحق إِلَى التعطيل؛ فَقَوله: ﴿يلحدون إِلَيْهِ﴾ أَي: يميلون إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿يلحدون إِلَيْهِ﴾ أَي: يميلون القَوْل إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يومئون إِلَيْهِ،
وَقَوله: ﴿وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين﴾ أَي: كَلَام عَرَبِيّ مُبين، وَمعنى الْآيَة: أَنه كَيفَ يَأْخُذ مِنْهُم، وهم لَا يفصحون بِالْعَرَبِيَّةِ؟ وَقد رُوِيَ أَن ذَلِك الرجل الَّذِي كَانُوا يشيرون إِلَيْهِ أسلم، وَحسن إِسْلَامه.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم.
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب﴾ هَذَا إِخْبَار عَن فعل الْكَذِب، وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ﴾ نعت لَازم، وَمَعْنَاهُ: أَن هَذَا صفتهمْ ونعتهم، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: كذبت، وَأَنت كَاذِب أَي: كذبت فِي هَذَا القَوْل، وَمن صِفَتك الْكَذِب. وَفِي بعض المسانيد عَن يعلى بن الْأَشْدَق عَن عبد الله بن جَراد أَنه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله: الْمُؤمن يَزْنِي؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت: الْمُؤمن يسرق؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت الْمُؤمن يكذب؟ فَقَالَ: لَا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله﴾ " وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ
وَقَوله: ﴿من بعد مَا فتنُوا﴾ أَي: عذبُوا حَتَّى وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة، ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك هَاجرُوا، وَلَحِقُوا بِالنَّبِيِّ. وَقَوله: ﴿ثمَّ جاهدوا وصبروا﴾ يَعْنِي: على الْجِهَاد وَالْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم﴾ أَي: من بعد فعلتهم الَّتِي فَعَلُوهَا من إِعْطَاء الْكفَّار بعض مَا أَرَادوا مِنْهُم.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ ذَلِك رخصَة، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَنهم فعلوا مَا فعلوا ذَلِك قبل نزُول الرُّخْصَة.
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه عَاد كلمة كل على الْمُؤَنَّث؛ فَلهَذَا الْمَعْنى أنث، وَهَذَا كَمَا يُقَال: كل امْرَأَة قَائِمَة، وَمَا أشبه هَذَا.
وَقَوله: ﴿تجَادل عَن نَفسهَا﴾ أَي: تخاصم عَن نَفسهَا، ومجادلتهم هِيَ قَوْلهم: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين، وَقَوْلهمْ: رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا ندعوا من دُونك، وَمَا أشبه هَذَا من الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي الْقُرْآن.
وَقيل: تجَادل عَن نَفسهَا: تدفع عَن نَفسهَا. وَرُوِيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: تزفر جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة زفرَة، فَلَا يبْقى ملك مقرب، وَلَا نَبِي مُرْسل إِلَّا خر وجثى على رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُول: نَفسِي نَفسِي حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فَيَقُول: رَبِّي لَا أُرِيد إِلَّا نجاة نَفسِي، قَالَ كَعْب: وَهُوَ فِي كتاب الله تَعَالَى: ﴿يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا﴾.
وَرُوِيَ أَنه قَالَ هَذَا بَين يَدي عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَقد كَانَ عمر قَالَ لَهُ: حَدثنَا، ذكرنَا. وَقَوله: ﴿وَتوفى كل نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ الأنعم: جمع النِّعْمَة. وَقَوله: ﴿فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف﴾ ذكر الذَّوْق، لِأَن المُرَاد من لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف التعذيب، ويستقيم أَن يُقَال فِي التعذيب: ذُقْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾.
وَالْمعْنَى: أَن الْعَذَاب يَتَجَدَّد إِدْرَاكه كل سَاعَة كالذوق.
رُوِيَ أَن الله تَعَالَى سلط عَلَيْهِم الْقَحْط سبع سِنِين حَتَّى أكلُوا (الطَّعَام) الْمُحْتَرِقَة وَالْعِلْهِز، وَهُوَ الْوَبر بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ ينظر أحدهم إِلَى السَّمَاء فَيرى كشبه الدُّخان من الْجُوع ".
﴿وَالْخَوْف﴾ هُوَ الْخَوْف من الْقَتْل، وَمن سَرَايَا النَّبِي.
وَالْمرَاد من الْقرْيَة: أهل الْقرْيَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿آمِنَة﴾ أَي: آمن أَهلهَا، وَكَذَلِكَ مطمئنة.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه كل بلد من بلدان الْكفَّار.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنَّهَا الْمَدِينَة، وكفران أَهلهَا بأنعم الله هُوَ مَا فعلوا بعد النَّبِي من قتل عُثْمَان، وَمَا يعقبه من الْأُمُور، وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَأما ذكر اللبَاس فِي الْآيَة، فَلِأَن من جَاع لحقه من الهزال والشحوب والتغير مَا يزِيد ظَاهره عَمَّا كَانَ من قبل؛ فَجعل ذَلِك كاللباس لجلوده.
وَقَوله: ﴿بِمَا كَانُوا يصنعون﴾ أَي: يكفرون.
وَقَوله: ﴿فَكَذبُوهُ﴾ أَي: كفرُوا بِهِ. وَقَوله: ﴿فَأَخذهُم الْعَذَاب وهم ظَالِمُونَ﴾ أَي: كافرون.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
القَوْل الثَّانِي: كَانَ أمة، أَي: إِمَام هدى، وَالْقَوْل الثَّالِث: كَانَ أمة أَي: كَانَ مُؤمنا
وَقَوله: ﴿حَنِيفا﴾ أَي: مخلصا، وَقيل: مُسْتَقِيمًا على الدّين.
قَوْله: ﴿وَلم يَك من الْمُشْركين﴾ أَي: مِمَّن يعبد الْأَصْنَام، وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: كَانَ يرى الْعَطاء وَالْمَنْع من الله.
وَقد قَالَ بعض أهل الْأُصُول: إِن النَّبِي كَانَ مَأْمُورا بشريعة إِبْرَاهِيم إِلَّا مَا نسخ فِي شَرِيعَته بِدَلِيل هَذِه الْآيَة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالصَّحِيح أَنه كَانَ مَأْمُورا بِاتِّبَاع شَرِيعَته فِي بعض الْأَشْيَاء، وَصَارَ ذَلِك شَرِيعَة لَهُ.
وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ الله تَعَالَى أَمرهم بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا السبت فَشدد عَلَيْهِم فِيهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى أمروا بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا الْأَحَد، وَأعْطى الله تَعَالَى الْجُمُعَة لهَذِهِ الْأمة فقبلوا، وبورك لَهُم فِيهَا، وَفِي الْبَاب خبر صَحِيح قد بَيناهُ من قبل.
قَوْله: ﴿وَإِن رَبك ليحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة﴾ الموعظة هِيَ الدُّعَاء إِلَى الله بالترغيب والترهيب، وَقيل: الموعظة الْحَسَنَة هِيَ القَوْل اللين الرَّقِيق من غير غلظة وَلَا تعنيف.
وَقَوله: ﴿وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ أَي: مَعَ الْإِعْرَاض عَن أذاهم لَك وَالصَّبْر على مكروههم، وَقد نسخ هَذَا بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقد قَالَ زيد بن أسلم وَالضَّحَّاك: إِن الْآيَة مَكِّيَّة، وَلَيْسَت فِي حَمْزَة وَأَصْحَابه، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين﴾ يَعْنِي: لَئِن عفوتم ﴿لَهو خير للصابرين﴾ أَي: خير للعافين، وَقد تحقق هَذَا الْعَفو فِي حق وَحشِي قَاتل حَمْزَة بَعْدَمَا أسلم، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كل الْمُشْركين الَّذين أَسْلمُوا.
وَقَوله: ﴿وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون﴾ قرئَ: " فِي ضيق " وَمعنى الْقِرَاءَتَيْن: لَا يضيقن صدرك ﴿مِمَّا يمكرون﴾ أَي: يشركُونَ، وَقيل: مِمَّا فعلوا من الأفاعيل.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أسرى﴾تَفْسِير سُورَة بني إِسْرَائِيل
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا خمس آيَات، سنذكرها فِي موَاضعهَا.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه من تلادي، وَهن من الْعتاق الأول.
سورة النحل
سورةُ (النَّحْلِ) مِن السُّوَر المكية التي بيَّنتْ عظمةَ الله عز وجل وقُدْرتَه في هذا الكون، وقد جاءت بأدلةٍ وإثباتات على وَحْدانية الله عز وجل، لا سيما بديع صُنْعِه في خَلْقِه؛ ومن ذلك: إيحاؤه للنَّحْلِ أن تصنعَ بيوتها بهذه الكيفية وهذه الطريقة، وكذا ما أودَعه اللهُ عز وجل في هذا المخلوقِ من أسرارٍ وعجائبَ تدلُّ على قدرته تعالى، وتفرُّدِه في الألوهية، وقد جاءت السورةُ على ذِكْرِ مشاهدِ يوم القيامة، وما يَتبَع ذلك اليومَ من أهوالٍ.
ترتيبها المصحفي
16نوعها
مكيةألفاظها
1845ترتيب نزولها
70العد المدني الأول
128العد المدني الأخير
128العد البصري
128العد الكوفي
128العد الشامي
128* قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]:
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، أُصِيبَ مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رجُلًا، ومِن المهاجِرِين سِتَّةٌ؛ منهم حَمْزةُ، فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منهم يومًا مِثْلَ هذا، لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قال: فلمَّا كان يومُ فَتْحِ مكَّةَ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]، فقال رجُلٌ: لا قُرَيشَ بعد اليومِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كُفُّوا عن القومِ إلا أربعةً»». سنن الترمذي (٣١٢٩).
سورةُ (النَّحْلِ):
سُمِّيتْ سورةُ (النَّحْلِ) بذلك؛ لذِكْرِ النَّحْلِ فيها، ولم يُذكَرْ في سورةٍ أخرى غيرِها.
اشتمَلتِ السورةُ على عدَّة موضوعات؛ بيانها كالآتي:
1. إثبات وَحْدانية الله تعالى (١-٢).
2. أدلة على وحدانيته تعالى (٣-١٦).
3. اللهُ الخالق المنعم القادر، وعَجْزُ المعبودين غيرِه (١٧- ٢١).
4. ذمُّ المتكبِّرين، ومدحُ المتقين (٢٢-٣٥).
5. عاقبة المكذِّبين بالرُّسل واليوم الآخر، وجزاء المؤمنين (٣٦- ٥٠).
6. أدلةٌ أخرى على توحيد الألوهية (٥١- ٦٤).
7. تتمة نِعَم الله الدالة على التوحيد، يَتخلَّلها ضربُ الأمثلة (٦٦-٨٣).
8. من مشاهدِ يوم القيامة (٨٤- ٨٩).
9. توجيهات حول مكارمِ الأخلاق (٩٠- ٩٧).
10. التأدُّب بآداب القرآن، وردُّ الافتراءات (٩٨- ١١١).
11. ضربُ الأمثلة (١١٢- ١١٩).
12. أهمية الدعوة، وأساليبها (١٢٠- ١٢٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /131).
دلَّ اسمُ السورة على مقصودِها؛ وهو - كما ذكَره البقاعيُّ -: "الدَّلالة على أنَّه تعالى تامُّ القدرة والعلم، فاعلٌ بالاختيار، مُنزَّه عن شوائبِ النَّقص، وأدلُّ ما فيها على هذا المعنى: أمرُ النَّحْلِ؛ لِما ذُكِر من شأنها في دقةِ الفهم؛ في ترتيبِ بيوتها على شكل التَّسديسِ ترتيبًا لا يصل إليه أكابرُ المهندسين إلا بعد تكامُلٍ كبير، وقانونٍ يَقِيسون به ذلك التَّقدير، وذلك على وجهٍ هو أنفَعُ الوجوه لها، وفي رَعْيِها، وسائر أمرها؛ من اختلافِ ألوان ما يخرُجُ منها مِن أعسالها وشموعها، وجَعْلِ الشَّمْعِ نورًا وضياءً، والعسلِ بركةً وشفاءً، مع أَكْلِها من كلِّ الثمار، النافعِ منها والضارِّ، وغير ذلك من الأسرار". "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /213-214).