ﰡ
وقوعه.
وفى الحق: إن الأزمان بالنسبة للَّه تعالى لَا تختلف بين ماضٍ ومستقبل بل إن ذلك بالنسبة لنا؛ إذ يختلف الماضي الذي نعلمه واقعا عن المستقبل الذي لا نعلمه بل في الغيب المكنون المستور عنا.
على أن قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أي تقرر أمر اللَّه تعالى وما يقرر اللَّه تعالى قد أتى فيه قراره، وتعلقت به إرادته، وإذا كان قد أتى فلا تستعجلوه؛ لأنه قد قرر فهو واقع لَا محالة، واستعجالكم لَا يعجله، وسكوتكم لَا يؤجله، و (الفاء) في قوله تعالى: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، فسبب النهي عن الاستعجال أنه تقرر بالفعل، وقوله تعالى: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، أي تنزه وتقدس وتبرأ، وتعالى أي تسامى عما يشركون، و (ما) مصدر حرفي أو اسمي، وفي الجملة معنى النص السامي: تقدس سبحانه وتسامى في علوه عن أن يكون له شريك في السماوات والأرض.
وهذه العبارة السامية فيها تقرير أن اللَّه واحد لَا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شريك في قدسيته، وكبريائه، وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه أرسل الرسل بهذه الحقيقة لينذر المشركين بإرسالهم، فقال تعالى:
(الروح) فسره ابن كثير بأنه الوحي، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢). وتسمية الوحي روحا؛ لأنه يجيء بما فيه حياة الناس، فهو كالحياة لهم، أو يقوم مقام الروح في الأجساد. وقوله تعالى: (عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، أي من
وقوله تعالى: (مِنْ أَمْرِهِ)، أي أنها مقبلة بأمره سبحانه، أو من أجل أمره، وتنفيذ ما قدر وقرر، وأمره بينه سبحانه بقوله تعالى: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).
فهو تقرير للوحدانية جاء على لسان الحق جل جلاله (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) داخل عليها حرف جر، وهو الباء و (أنْ) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي أنه الحال والشأن (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) وقد ذكر ضمير المتكلم لتربية المهابة، ولفيض جلاله سبحانه وتعالى، والجملة دالة على القصر، فالألوهية مقصورة على الذات العلية، وما ينحلونها بالألوهية من أوثان باطل في أصله، وإنما هي أوهامهم التي أعطتها صبغة الألوهية، وإذا كان اللَّه تعالى جل جلاله هو وحده الإله فإن الوقاية من عذابه، وخوف عقابه أمران لازمان؛ ولذا رتب سبحانه على وصفه وحده بالألوهية قوله: (فَاتَّقُونِ) فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه إذا كان هو الإله وحده لَا شريك له، فلا يتقى غيره، وجاء على لسان الأمر، لكي يجتنبوا ما يعرضهم للعذاب، ومعنى (اتقوا) اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، واملأوا قلوبكم بتقواه، كما قال تعالى: (... اتَّقُوا اللَّهَ حقَّ تقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
وإن أسباب انحصار الألوهية في ذاته العلية هو أنه وحده خالق السماوات والأرض ومانح النعم؛ ولذا قال تعالى:
أنشأ اللَّه السماوات والأرض بالحق أي بالأمر الثابت، والنظام المحكم، ربط بين أجزاء السماء بسر الوجود فكل نجم في مداره، وبروجها ثابتة لَا تتغير وتسير إلى مستقرها وتتحرك في مدارها وكل شيء يجري بحسبان في السماء والأرض بطبقاتها، وما أودع باطنها من فلزات وأحجار، وعروق المعادن، والجبال
وقوله سبحانه: (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) كانت هذه الجملة مفصولة عما قبلها، لتمام الاتصال فإن تمام الاتصال يوجب فصل الجملتين، كما يوجبه كمال الانفصال، إذ الجملة الأولى سببا للثانية، فإن الخلق للسماوات والأرض سبب لكمال العلو عن المثل والشريك.
هذا هو الخلق العام، والإنسان نفسه فيه إثبات قدرة اللَّه بديع السماوات والأرض ومبدع الإنسان؛ ولذا قال تعالى:
وهو الماء الذي يخرج من بين الصلب الذي قالت آية أخرى: (... مِن مَّاء مَّهِينٍ)، وقوله تعالى: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبِينٌ) يشير إلى الأدوار التي مر بها من طين فنطفة، فعلقة، فمضغة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)، هذه أدوار الإنسان، وهو جنين لم يخرج إلى ظاهر الوجود، وإذا خرج إلى ظاهر الوجود كان معه السمع والأبصار والأفئدة، حتى تكون فيه كل قوى الإنسان من لسان وعينين وأذنين.
هذه الأدوار كلها يشير إليها قوله تعالى: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبِينٌ)، الخصيم الناطق المجادل الذي يحسن إدارة القول وتحويره وتحويله كعمرو بن العاص الذي
و (الفاء) و (إذا) يدلان على المفاجأة، والمفاجأة مع هذه الأدوار المتدرجة بأمر اللَّه وتقديره للدلالة على التفاوت البين بين ماء مهين، وخصيم مبين، سبحان من كون وأنشأ، وهدى وعلَّم.
بعد هذا أخذ سبحانه يبين النعم التي أنعمها على الإنسان فقال تعالى:
الأنعام جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وما يشبهها من غزال أو نحوه، وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية نعما على الإنسان، فقال تعالى:
(لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكلُونَ).
النعمة الأولى منها الدفء، وهي دفع البرد، وذلك بإلباس من وبرها وصوفها، ومن النفع اتخاذها أثاثا وبيوتا من الخيام، كما قال تعالى: (... وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)، والمنافع كما قال ابن عباس: النسل والركوب واتخاذها في الحرب لحمل المجاهدين، والثالث منها تأكلون أي من لحومها وألبانها.
وذكر سبحانه نعما للإنسان أخرى فيها، وهي قوله تعالى:
ترى الراعي للإبل أو القطيع ساقها إلى الرواح قد ذهب عنها الجوع وامتلأت شبعا من الكلأ والنبات، ويخرج بالنعم سارحا إلى حيث المرعى والمسقى، وحيث يرعاها ويشرف عليها في حركاتها وملاعبها ذلك هو معنى (تُرِيحونَ) و (تَسْرَحونَ).
و (الجَمال) هو الصورة التي تكون متناسقة وتؤثر في النفس، وهو يكون في الخلق والتكوين، كما ترى في جمال الأشخاص والصور والمناظر وتنفعل به النفس
وإن في منظر قطعان الإبل والغنم والبقر وهي سارحة متجهة إلى مراعيها، ما يشرح النفس؛ لأن منظر الحياة في الأحياء يفرح النفس، ويلقي فيها بهجة، ومنظرها وهي عائدة ريانة بالشبع والسقي يعطي ارتياحا أشد.
وقد ذكر رواحها، قبل سراحها مع أن الرواح خاتمة اليوم والسراح ابتداؤه، لأن الإحساس بالجمال في الرواح أشد، إذ تكون مزدهرة مملوءة بالشبع، ورواحها يكون أشد، وجمالها أوقع في نفس صاحبها، لأنه يكون بعد تعب رعيها والإشراف عليها، ولأنه يكون بعد انتصارها على مطامعها، وإشباع حاجتها.
وقد قال الزمخشري: منَّ اللَّه بالتجمل بها، كما من بالانتفاع بها؛ لأن من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة، فزينت بتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء أنس أهلها وفرح أربابها وأجملها في عيون الناظرين إليها وأكسبتهم الجاه والحرمة ونحوه.
وقد يسأل سائل لماذا ذكر جمال النعم في غدوها ورواحها وجمال الدنيا كثير؟ والجواب عن ذلك أن اللَّه تعالى ذكر زينة الأرض بنباتها، وزخرفها، وذكر أنها زينت بذلك للناظرين، وإن ذكر جمال النعم في تلك الأوقات ترغيبًا في تربيتها والعناية بها، لأن فيها نفعا وغذاء.
وذكر اللَّه تعالى مع ما ذكر من منافع للنعم حمل الأثقال فقال تعالت كلماته:
الأثقال: جمع ثقل، وهو ما يثقل حمله، ويشق بكسر الشين، وتفتح وهي قراءة بمعنى المشقة، وإن البلاد العربية كان الحمل فيها بالجمال حتى قيل: إن
فالضمير وإن كان يعود إلى الأنعام كلها، إلا أن حمل الأثقال عند العرب للجمال فقط، وفي الحق إن حمل الأثقال ظاهره حملها على الظهر، ولكنه يشمل بالتضمن جرها على العربات، وأن من البقر ما تجر العربات المحملة، كما يرى في مصر، وكما يرى في غيره من البلاد، وقد رأينا في باكستان الإبل تجر العربات.
وجملة معنى النص، وتحمل أثقالكم أو تجر ما يحملها إلى بلد نائية عن مقركم لم تكونوا بالغي هذا البلد لنأيه وبعد المسافة إلا بمشقة شديدة.
وإن ذلك من رحمة اللَّه تعالى بعباده ورأفته بهم؛ ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رحِيم)، أي أنه سبحانه يرأف بكم في خاصة أموركم ويرحمكم في عامة أحوالكم، وفي وجودكم، وهنا بعض إشارات نذكرها:
أولها - أن اللَّه تعالى عبر بـ (رَبَّكمْ) للإشارة إلى أن ذلك التمكين من مقتضيات الربوبية والقيام على شئونكم وهو سبحانه وتعالى: الحي القيوم الذي يحيط بكل شيء علما.
الثانية - أنه قال: (لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، والفرق بين الرأفة والرحمة فيما نحسب أن الرأفة فيما يكون في الإنسان في خاصة أمره من حيث الرفق والتسهيل والتيسير، والرحمة ما يكون بالإنسانية في عامة أمورها، وقد تكون الشدة في بعض الأحوال من مقتضيات الرحمة، لأن رحمة الكافة قد تقتضي شدة على الظالمين.
الثالثة - أن اللَّه تعالى أكد وصفه بالرأفة والرحمة بـ (إِنَّ)، وصيغ المبالغة، وبالجملة الاسمية، وباللام.
بعد أن ذكر سبحانه نعمته في الأنعام، وما تتخذ منها من منافع، وما يكون فيها ذكر نعمة في غيرها مما لَا يشمله اسمها وكان العرب يجدون فيها متاعا، وهي الخيل والبغال والحمير، فإن فيها نعمة التمكين من ركوبها أو نعمة أنها تتخذ زينة لهم في غدوهم ورواحهم، وقد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ...).
فالخيل المسومة من زينة الحياة، فالخيل ومثلها البغال والحمير تتخذ زينة، وقد قال العلماء في الخيل ومثلها البغال، وكلمة الخيل قد يدخل في عمومها البغال؛ ولذا يكون سهمها في الغزو واحدًا عند كثير من الفقهاء وعلى رأسهم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي اللَّه عنهما. إن الخيل تتخذ لأغراض ثلاثة: الغرض الأول: القنية، للإنتاج وهذه حسنة في ذاتها؛ لأن الإنتاج في الحيوان كالإنتاج في النبات مستحسن بل مطلوب.
الغرض الثاني: للجهاد، فإن في نواصيها الخير وذلك مطلوب.
الغرض الثالث: للخيلاء والتفاخر، والخيلاء منهي عنه.
والزينة هي ما يكون في الخيل من راحة للنفس، وفرق بين اتخاذها زينة والخيلاء بها، فإن الخيلاء تفسد القلب، أما التزين، أو طلب ما يكون فيه زينة فإنه لا شيء يمس القلب ليفسده.
ولقد قال تعالى بعد ذلك. (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أي يخلق ما نعلم وما لا نعلم، وما كان يعلمه العرب، وما لَا يعلمونه، ولو أن المتأمل المستبصر تعرف إعجاز القرآن في إخباره بما كان مغيبا في زمان نزوله لوجده في مثل هذه الآية،
* * *
نعم الله تعالى في المطر والشمس والقمر والبحار
قال تعالى:
(وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
* * *
يقرن الله تعالى الأمور الحسية بالمعنوية، فيذكر الحسي أولا، ثم يتجاوزه إلى المعنوي، وقد يكون ذلك في جملتين متصلتين سببية أو وصفية، كما قال تعالى: (... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى...)، فصدر القول التزود في الحج بزاد الدنيا، وجاء في التعليل الزاد المعنوي، وذلك ليجمع بينهما، وكما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ...).
وقد ذكر سبحانه في الأيات السابقة ركوب الخيل والبغال والحمير وزينتها وأن الله يخلق ما لَا نعلم من نزل فيهم القرآن، وقد خلق السيارة والطيارة، وقد أخرج روائع الأرض إلى السماء، حتى يصل الإنسان إلى الأفلاك ومواقع النجوم.
ذكر سبحانه تلك النعم المادية، وذكر بعدها المسالك المعنوية الهداية، والشقوة، فقال تعالى:
القصد مصدر بمعنى اسم الفاعل، والقصد والقاصد معناهما مستقيم لا انحراف فيه، وطيب لَا سوء فيه ثم إنه كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ...).
ومعنى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، أي على الله بيان السبيل المستقيم الموصل إلى الحق، ومعنى بيانها إقامة البنيان والأعلام الدالة على الطريق وإرسال الرسل للهداية وقد وهب إليهم القلوب المدركة للحق بفطرتها.
وليس معنى أن قصد الطريق على اللَّه أنه لازم عليه، بمعنى أنه واجب عليه، فاللَّه تعالى لَا يجب عليه شيء وليس في الوجود من يوجب عليه شيئا، سبحانه وتعالى، وإنما كتب الله تعالى على نفسه أن يضع لهم أسباب العلم والهداية ودراية الحق ليسلكوه مختارين، فليس فيه إلزام على اللَّه، كما أنه ليس فيه جبر للعباد.
(وَمِنْهَا جَائِرٌ)، (جائر) أي مائل منحرف حائد، ليس بمستقيم، والضمير في (منها) يعود إلى السبيل وهي الطريق، وتؤنث. وذكر هذه الجملة بعد الأولى يدل على أن الأصل هو الاستقامة؛ لأن الفطرة مستقيمة بذاتها، والانحراف من تسلط الشياطين بتسليط الأهواء، والشهوات.
وإن هذين الخبرين يدلان على أن الناس فيهم المستقيم، والمنحرف الجائر الحائد عن الطريق، وإن الله تعالى قد وضع للفريقين أسباب الهداية والصواب لعلمه القصد، فمنهم سلك القاصد ومنهم من انحرف عن الطريق السوي: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ)، أي لو شاء أن تكونوا جميعا على سواء في الرشاد، لهداكم أجمعين بأن جعلكم جميعا تسلكون سبل الهداية، وأنتم مختارون غير مجبرين كما قال تعالى: (وَلوْ شنَا لآتَيْنَا كلَّ نَفْسٍ هدَاهَا...).
عاد سبحانه وتعالى من بعد أن بين أن اللَّه سن طريق الهداية وهو طريق الفطرة، وأن الناس يجورون بالطريق فيرتكبون ما لَا يجوز، بعد ذلك بين النعم العادية الداعية إلى الشكر لمن أراد الحق وسلك سبيله، فقال تعالى:
الضمير يعود إلى اللَّه جل جلاله؛ لأنه حاضر دائما، ولأنه المتحدث عنه في القرآن دائما، ولأن القرآن كتابه، فهو منه والقرآن هو الذكر الحكيم.
أولاهما - أن منه الشرب، وري الأبدان، وقد عبر سبحانه بقوله تعالى:
(لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ)، وقال سبحانه: (لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ)، أي أن الماء لكم منه شراب، تشربونه وتدفعون به العطش، وعبر سبحانه بقوله تعالى لكم منه شراب ليشمل شربه ريا وسقيا، ويشمل اتخاذه محلى بمادة من مواد الحلوى، وليشمل الشراب الذي يكون من النبات والكروم غير المتخمر، فإن الماء أصل ذلك كله.
وثانيتهما - أن (وَمِنْهُ شَجَر فِيهِ تُسِيمُونَ)، والشجر يطلق على كل نبات سواء كان زرعا ينتج حبا متراكما، أم كان غرسا لكل ذلك يسمى، وقد ذكر البيضاوي شعرا في ذلك، وهو:
يعلفها اللحم إذا عز الشجر | والخيل في إطعامها اللحم ضرر |
وإن هذه بلا ريب نعم تستحق الشكر، فهل تشكرون.
وقد فصل سبحانه وتعالى القول فيما تكون من ماء السماء، فقال تعالى:
الضمير في (بِهِ) يعود إلى الماء، أي ينبت الله تعالى لكم بهذا الماء الزرع وهو الحب المتراكب والكلأ، ونحوه من أنواع الزيتون، والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات.
وإن الإنبات في ذاته نعمة؛ لأن الله تعالى فالق الحب والنوى، تنشق من الحبة أو النواة بأمر اللَّه فتخرج بالري عودّا، تجري إلى أعلى فيكون منه سيقان الزرع والشجر، وينشق إلى أسفل فتكون منه العروق والجذور التي تجري في باطن الأرض على امتداد قصير أو طويل على حسب نوع النبات والشجر، والضوء والحرارة يعاونان في تكوين الغصون والأوراق، وإن الزيتون إما أن يراد به الثمرة، أو يراد به الشجرة، وفي كل آيات، ويدرس العلماء إدام الزيتونة فيحسب بعض الباحثين أن فيها دواء للسرطان، ولا تزال آيات اللَّه تعالى قائمة في كل خلق، سبحانه وتعالى عما يصفون، وهو الخلاق العليم.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أي إن في ذلك الخلق العظيم الدقيق الحكيم لآيات دالات بينات على عظيم الخلق، وإحكام الأسباب التي سيرها بأمره، وهو العليم الخبير، سبحانه وتعالى، (لِقَوْم يَتَفَكَرُونَ)، أي لأناس متجمعين يتفكرون تفكر المتدبرين في أحكام صنيعه، وكريم نعمه، وعظم المن في فضله، سبحانه وتعالى.
هذه نعم اللَّه تعالى التي خلقها في الأرض أو بعضها، وقد عدد نعمه في الأرض ثم اتجه إلى نعمه على الإنسان في السماء، فقال عز من قائل:
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
ثم هناك أمر آخر في الليل والنهار، ففي الليل يكون الكربون الذي تنمو منه عروق الأشجار والأوراق وتنفث الزائد منه عن حاجتها.
وفى النهار تكون الحرارة، وتنفث الأشجار ما يكوِّن عناصر تدخل في تكوين الأحياء، وهكذا كان في الليل والنهار نعمة أو نعم نذكر منها ما أدركنا، وهو بعض قليل من نعم كثيرة مَنَّ بها علينا اللَّه سبحانه وتعالى، وهو الحكيم العليم.
وبعد ذلك ذكر سبحانه ما يكون في النهار من شمس مشرقة وهي ضياء تمد بكل العناصر التي يتغذى منها النبات، والنخيل والكروم والزيتون، وغيرها من الدوحات العظام والباسقات، ثم القمر وما يكون منه من نور، وإن لم يكن ذاتيا، فهو في ذاته نعمة، وثبت بالواقع أن له تأثيرًا في الأجنة في بطون أمهاتها، وفي حياة المرأة، وفي طمثها وطهورها، وحملها وولادتها وسر ذلك عند العليم الحكيم، والعلماء دائبون في البحث والتعرف.
ولذا قال تعالى وقد علق فكر ابن آدم بالسماء: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ).
ومعنى التسخير تذليلها لمنافع الناس، فليست مذللة بذاتها للناس، ولا سلطان لهم عليها ولكنه سبحانه وتعالى جعلها مذللة لمنافعهم، فالشمس والقمر يكون منهما الليل والنهار، ويكون ما ذكرنا وهو بعض مكمل، ويعلم بهما الحساب (... وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ...)،
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي في ذلك الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، لآيات بينات دالة على وحدة الخالق، وأنه وحده المستحق للعبادة، لقوم يعملون عقولهم في خلقِ السماوات، وإدراك حقيقة الوجود، ولا يقولون في عبادتهم: (... بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...).
ولقد قال في ذكر بديع خلقه:
الواو عاطفة على الليل والنهار، والعطف على نية تكرار الفاعل، والمعنى " سخر لكم ما ذرأ)، وذرأ: خلق وأباع، وقوله تعالى: (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) حال، فالبذر في أرض واحدة، أو تطع من الأرض متجاورات، وتسقى بماء واحد، وتسمد بسماد واحد ومع ذلك يخرج الزرع مختلفا ألوانه، والحيوان مختلف الألوان، والإنسان مع أن النطفة واحدة يكون مختلف الألوان، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ...).
وإن تسخير الله ما ذرأ مختلفا ألوانه، فيه نعمتان جليلتان أنعم اللَّه تعالى بهما على عباده:
النعمة الأولى - أن اختلاف الألوان يومئ إلى اختلاف الأنواع والأصناف، وكل يؤدي للإنسان غرضا فهذا يكون منه لباسه، وذاك يكون منه طعامه، وذلك منه أثاثه وزينته ومنه ما يكون أداة حربه وجهاده.
النعمة الثانية - أن اختلاف الألوان يكون فيه بهجة للناظرين، ويجعل الأرض ذات منظر بهيج. وإن المعادن التي ذرأها اللَّه تعالى في الأرض من حديد ونحاس وذهب وفضة وغيرها من فلزات، هي مختلفة الألوان، وفيها بهجة
ويلاحظ أن اللَّه سبحانه وتعالى في بديع نظم القرآن وإحكامه، قال في الآية الأولى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) ليدعوهم إلى التفكير، وفي الثانية الآيَاتٍ لِّقَوْم يَعْقلُونَ) ليدعوهم إلى أن يكون التفكير بعقولهم لَا بأهوائهم، وفي الثالثة: (لآيةً لِقًوْم يذَّكَّرُونَ) ليكون دعوة إلى اعتبارهم، وربط الأمور بعضها ببعض.
كانت الآيات السابقات تدعو إلى النظر في نعم اللَّه التي احتوتها الأرض من أشجار وزروع وثمار وإلى ما في السماء من شمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمره، وما في اتصال الأرض بالسماء، وفي الآية التالية دعوة إلى النظر في البحر وما فيه من نعم فقال تعالت كلماته:
الضمير (هُوَ) يعود إلى الله تعالى، وذكر الموصول لبيان سلطان الله تعالى، وللإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي ذلل البحر لمنافعهم، وتمكنهم مما فيه، وليس صيدهم هو الذي مكنهم، بل تسخير الله البحر لهم كان نعمة لهم وتمكينا من نفعهم، وقوله: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا)، ووجَّه الأكل إلى لحمه مباشرة وفيه إشارة إلى أنه لَا يزكى، بل يؤكل ميتا، ولذا روى في الأثر " أحل لنا ميتتان حلالان السمك والجراد " (١) وعبر سبحانه وتعالى أيضا بقوله: (لَحْمًا طَرِيًّا)،
________
(١) سبق تخريجه.
وقد وصف القرآن اللحم الذي يؤخذ من البحر بأنه لحم طري؛ لأنه فعلا طري، وعظمه قليل، ولا يتخلل أجزاء جسمه، بل هو في موضع معين والذي يتخلل جسمه شيء صغير يسميه العامة " سفا "، ويقول الزمخشري في وصفه بأنه طري للإشارة إلى أنه سريع العفن، وأنه ضار إذا تعفن، وفي ذلك نظر، فإنه إذا وضع الملح عليه لم يكن ضارا في تعفنه، وهو المتفسخ منه، وقد أنكره أطباء عصرنا وزماننا ثم أباحوه بل استحسنوه، وقرروا أن فيه سرا طبيا، وإن لم يعرفوه.
وحرم التفسخ الحنفية؛ لأنه ضار، وقد علمت ما فيه.
و (اللام) في قوله تعالى: (لِتَأْكُلُوا) هي لام الغاية أي ذلَّلَهُ وسخره لتأكلوا منه لحما بعد صيده، وإنضاجه، وفيه مواد غذائية كبيرة، مملوءة بالقشور، وغيرها.
وإذا كان ذلك الطعام فيه منفعة مرئية طيبة فالبحر وعاء للجواهر المختلفة، ولذا قال: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) وهي ما يسمونه بالأحجار الكريمة من لآلئ، وزمرد، وغيرهما مما يتحلى به النساء وبعض المرفهين من الرجال، وإن لم يتشبهوا بالنساء.
وتوهم بعض المفسرين أن التحلي بالجواهر حرام، وقاسوه على التحلي بالذهب، ولكن الثابت في الآثار أن التحريم مقصور على الذهب على أنه روي أن بعض الصحابة قال: إنه لَا تحريم، ولكن قالوا: إن ذلك من شواذ الأقوال ولقد ذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن هناك عشرين من الصحابة لم يحرموا الذهب على الرجال، ولكن لم يذكر من هم ولم يذكر من أسند هذا القول إلى النبي - ﷺ -.
والنفع الثالث الذي ذكره القرآن الكريم من المنافع التي سخرها الله تعالى:
الفلك، فقال تعالى: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)، (مَوَاخِرَ) جمح ماخرة، وهي السفينة التي تشق عباب الماء حتى يكون لها صوت يسمع، ولا يكون إلا للمراكب الكبيرة التي تحمل الأمتعة والأشياء، ولو كانت شراعية، وإنك لترى الراكب الشراعية ذوات الشراع المختلفة المتعددة وفي ذلك إشارة إلى نعمة التنقل في البحار، وقد كانت من بعد عصر القرآن الأساس في نقل البضائع والرجال من بلد إلى بلد، حتى إنه ليقاس عمران البلاد بمقدار شواطئها على البحار وتمكنها من الانتقال في الأقطار، وقد عمم اللَّه سبحانه بيان انتفاع الإنسان بالبحار، (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) سبحانه وتعالى، و (الواو) في قوله: (وَلِتَبْتَغُوا) عاطفة على فعل محذوف هو ثمرة لقوله تعالى: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) لتنقلهم من أرض إلى أرض وبلد إلى بلد، وإقليم إلى إقليم، ولترتبطوا بأقطار الأرض، ولتبتغوا من فضله، أي لتطلبوا فضل اللَّه الذي أفاض به في أقطار الأرض، فينقل كل إقليم ما يفيض من فضل اللَّه إلى الإقليم الآخر، والابتغاء: الطلب بالشدة.
وقوله في منفعة الفلك: (وَتَرَى الْفلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)، أي أن رؤيتها ذات متعة للأنظار، كما أن النعم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)، فالجواري تربط الأرض بعضها ببعض، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان حيثما كان وأنى سيكون.
وقال تعالى: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ)، أي أسبغ عليكم هذه النعم الظاهرة والباطنة لترجون شكر اللَّه على ما أنعم لَا ليكفروا بها، وكما قال تعالى: (... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧).
قلنا إن الجزء اليابس من الأرض هو ربعها والبحار ثلاثة أرباعها، وكانت على هذا الاتساع لتصل أجزاءها، فالبحار يجري فيها الفلك المشحون ناقلة من الشرق إلى الغرب، والشمال إلى الجنوب، وكان جزءًا من الأرض مجهولا لجزئها الآخر، وكلاهما يابس فكشفته جارية في البحر، جرت فاتصلت الأجزاء، والماء سبيل الاتصال.
وبعد أن تكلم سبحانه عما في الماء من خيرات ومنافع يبتغى ويطلب من فضل الله ذكر الأرض اليابسة في مقابل الماء، وذكر الجبال التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى أوتادًا فقال سبحانه: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ)، (رَوَاسِيَ) جمع راسٍ، وفواعل يكون لفاعل إذا كان وصفا مما لَا يفعل كشوامخ جمع شامخ، والرواسي هي الجبال، وقد قال تعالى: (وَأَلْقَى) ومعناها خلق وأنشأ، وجعل، ولكن عبر بـ ألقى، للإشارة إلى أنها ليست من جنس التراب الذي يكون في السفح من حيث قوتها وكونها في أكثر أحوالها حجارة، ولما لها من هذه القوة ولما يبدو أنها ثقيلة كانت كأنها رواسي؛ لأن الراسي هو الثابت المثبت، فكأنها ثبتت الأرض من أن تميد وتضطرب، والمعنى ألقى اللَّه الجبال الراسيات لئلا تميد الأرض وتضطرب، أو خوف أن تضطرب، والمعنى على الحالين أن الرواسي أرستها وثبتتها وقال تعالى: (وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا)، فالأنهار جزء من اليابس، وكذلك السبل في الأرض والصحارى، والمعنى أن اللَّه تعالى جعل في الجزء اليابس من الأرض أنهارا تجري بالماء من مكان إلى مكان رزقا للعباد، ويقول في ذلك ابن كثير: " ينبع في
وفى ذكر الأنهار بعد الجبال إشارة إلى أن الجبال كما أنها أوتاد الأرض تنزل من فوقها الأمطار، فتجري في الوديان والأنهار، كما ترى في نهر النيل ودجلة والفرات وغيرها.
(وَسُبُلًا)، أي طرقا يسير فيها السائرون كما قال تعالى: (... وَجَعَلْنا فيهَا فِجَاجًا سُبُلًا...)، وختم اللَّه تعالى الآية بقوله: (لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، أي رجاء أن تهتدوا وتدركوا الحق وتتركوا الباطل وتؤمنوا بمانح النعم، ومجريها وخالق الكون وكالئة، وحافظه.
ثم قال سبحانه:
أي أن الجبال والسبل والأنهار تكون علامات للأماكن وحدودا، وتعريفا بأماكن البلاد، وحدودها شرقا وغربا، وقوله: (وَعَلامَات)، معطوفة على جبال، أي جعل الجبال والأنهار علامات.
(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، أي أن النجوم ومواقعها في السماء، وتنقلاتها في مداراتها علامات للسائر فعلا، وكان العرب على علم واقعي بمواقع النجوم ينتفعون بها في أسفارهم، وقد أكد سبحانه اهتداءهم بالنجم بتقديم النجم، وإن ذلك أصل لعلم الفلك هدى اللَّه تعالى إليه.
والتفت سبحانه وتعالى من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن اللَّه يخاطب الناس بالنعم عليهم، وقد ذكر هذه النعم، وهي تعم الجميع، وتثبت للجميع، أما النجوم فمع عموم نفعها وهديها لَا يهتدي بها إلا السائرون في ظلمة الليل البهيم.
وفى الخطاب تذكير بالإنعام الدائم المثمر، وفي الحديث بالغيبة تقرير للحقائق الثابتة المستقرة ولو كان النفع الحسي فيها لبعض دون بعض.
* * *
قال تعالى:
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى خلقه، وأن الوجود كله يتمتع بنعمة خلقه، ومع هذه النعمة، خلق نعما للإنسان إذ سخر له الشمس والقمر والليل والنهار، وأتى بني الإنسان من كل ما سألوه، فالنبات والزيتون، وغيره من الثمرات والبحر، والفلك، وما فيه من لحم طري إلى آخره.
كل هذا، ومع ذلك يشركون باللَّه في عبادته سبحانه ما لَا يملك شيئا، ولذلك نبه سبحانه وتعالى إلى ضلال العقل في هذا الأمر، ويذكرهم بذلك؛ لأن
الاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع؛ لأنهم فعلا عبدوا الأحجار فجعلوا من خلق الوجود كمن لَا يخلق شيئا، وهو ذاته مخلوق ميت لَا حياة فيه إذ هو جماد من الجمادات وحجر من الأحجار، وإنكار الواقع توبيخ؛ لأنه يكون استفهامًا عن واقع غير معقول، فيكون الجواب منهم إقرارا بأنهم يفعلون أمرا غير معقول.
و (الفاء) في قوله: (أَفَمَن يَخْلُقُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على أن الله تعالى خالق الأشياء والنعم والأنفس، وبذلك يكون هو المعبود وحده، وإلا كان الأمر المستنكر عقلا، وواقعا، وهو أن يكون الخالق كالمخلوق، بل إن يكون الخالق كأصغر ما خلق، والفاء مؤخرة عن تقديم، فحق القول بيانيا أن يكون فأمن يخلق كمن لَا يخلق، ولكن الاستفهام له الصدارة في الجمل فأخرت الفاء، وكذلك في القرآن كل فاء جاءت بعد حرف الاستفهام، والواو العاطفة كذلك.
ويلاحظ في النص السامي ما يأتي:
أولا: أن الله تعالى عبر عن الأحجار التي كانوا يعبدونها بـ (مَن) الدالة على العقلاء، فقال سبحانه: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَا يَخْلُقُ) وكان ذلك لأنهم عدوها معبودة، فكأنَّهم يعاملونها معاملة العقلاء، فكان التعبير مساوقة لزعمهم، ولأن بعض الذين يعبدون غير اللَّه يعبدون عقلاء، كالثالوث المسيحي ففيه العقلاء، وقد أشركوا، وقد يكون ذلك للمشاكلة، والتسوية التي أرادوها بين الخالق والمخلوق، وذلك مثل قوله تعالى: (... فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَع يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ...)، وإن اللَّه سبحانه في أكثر من آية يعيد الضمير عليها كالعقلاء، كقوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
ولقد ذكر الزمخشري أن سياق البيان كان أن يشبهوا هم بالخالق لَا أن يشبه الخالق بهم، فكان يقال أفمن لَا يخلق كمن يخلق، وقد أجاب عن ذلك، أن الاستنكار موجه إلى المساواة بين الخالق والمخلوق، فكأنَّهم جعلوه في ضمن المخلوقات، وقد يجاب عن ذلك أيضا بأن سياق القول في بيان الخلق، فكان موجبه أن يذكر الخالق أولا، وكأنَّهم ينزلونه من مرتبته التي لَا تناهد إلى منزلة المخلوق، وهذا في ذاته موضع استنكار.
ويختم اللَّه سبحانه الآية بقوله: (أَفَلا تَذَكرُونَ) يقال في (الفاء) هنا ما قيل في (الفاء) في قوله تعالى: (أَفَمَن يَخْلُقُ كمَن لَا يَخْلُقُ) والاستفهام لإنكار الوقوع مع التوبيخ، والتعبير (أَفَلا تَذَكَرُونَ) فيه إشارة إلى أن عبادة الأحجار من غفلة العقول، وإنها تتذكر وتذهب الغفلة، حتى تتنبه إلى حكم العقل وهو الوحدانية، وذلك حق، لأن عبادة الأوثان من سيطرة الأوهام التي تجعل العقل في غفلة تامة، كما ترى في هذه العصور عند بعض النصارى.
بين اللَّه سبحانه وتعالى كيف سوى عبدة الأوثان بين المنعم والأوثان، وبين الخالق والمخلوق، وأنهم قد تجاوزوا المعقول وغفلوا عن الفطرة، فبدل أن يشكروا النعمة كفروها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك أن نعم الله تعالى أكثر من يضبطها العد والإحصاء، وإنها واجبة الشكر على قدر الطاقة فإن ما لَا يحصى لَا يعلم للإنسان، ولا يستطيع الشكر إلا من يعلم، ويقدر ما يعلم.
وإذا كانت معرفة هذه النعم لَا تبلغها طاقتكم، فأنتم أحرى بألا تبلغ طاقاتكم شكرها؛ ولذا قال تعالى بعد بيان أن الناس لَا يستطيعون إحصاء نعمه عليهم: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أكد سبحانه مغفرته ورحمته، فكانت المغفرة من الرحمة، إذ إنه سبحانه لَا يطالبكم بالشكر إلا فيما تعرفون وما تطيقون وفيما تعرفون يعفو عن كثير سبحانه وتعالى، وقد أكد سبحانه هذين الوصفين الجليلين أولا بـ (إن) المؤكدة، وبصيغة المبالغة، وباللام، واللَّه على كل شيء قدير. وإن الله تعالى يحاسب القلوب في خيرها لحبه المغفرة، ولإرادته الرحمة، ولعدله، ولكيلا يتساوى المحسن والمسيء؛ ولذا قال عز من قائل:
هذه العبارة فيها تهديد لأهل الشرك، وتقريب لأهل الإيمان، فهو يحاسبكم سبحانه على ما تعلنون من أعمال، وما تسرون من عقائد ونيات يصحبها عمل، فإن اتجهتم إلى شكر الخالق بعدم الإشراك به والإحساس بنعمه فإنه غافر لكم ما ترتكبون وتتوبون عنه إذا تبتم عن قريب، وإن أسررتم الخير ونويتموه، وهممتم أن تفعلوه فإنه غافر لكم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وبالنسبة للشر لَا تحاسبون إلا بما تفعلون، وما تعتقدونه من شرك وعبادة غيره، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ...)؛ لأن الغفران
وقد صرح الله تعالى ببعض الحقائق في معبوداتهم، فقال:
ذكر سبحانه وتعالى فضل خلقه ونعمه، وإنه الخالق المنعم، وبين المقايسة العادلة التي تفرق بين من يخلق ومن لَا يخلق، وبعد ذلك ذكر أن المعبودات التي يعبدونها لَا يمكن أن تخلق ثسيئا؛ ولذا قال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ)، فالواو عاطفة على قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) وعبر سبحانه وتعالى عن الأوثان بالذين التي هي للعقلاء مجاراة لهم في تفكيرهم إذ يعطونها بأوهامهم من الصفات ما هو أعلى من العقلاء، و (شَيْئًا) التنكير فيه للعموم، أي لَا تخلقون أي شيء مهما صغر وهان، ولقد قال تعالى في تصوير عجزهم المطلق: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)، إنها أحجار تنحت من صخورا الجبال، ولذا قال تعالى: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).
ولقد بين سبحانه أن المشركين أحسن خلقا من أوثانهم، فقال عز من قائل:
هذه الحجارة جماد لَا تجري فيه الحياة، وهؤلاء الجهلاء يدعونها وهي أحجار، ومعنى يدعونها يعبدونها، (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)، أي وكانت موصوفة بالموت؛ لأنها فاقدة الحياة ليس لها روح تسري فيها، كما تسري في الأحياء، والتعبير عنها بأموات لَا يخلو من مجاز؛ لأن الموت يكون للحي الذي فقد الحياة
وقوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) الضمير عائد إلى الأوثان، وأعيد الضمير المذكر العاقل، جريا على عدها آلهة تدرك وتعقل في زعمهم، ويزدلفون إليها، ويتقربون ويدعون.
والمعنى على هذا أن هذه الأوثان يعبدونها، رجاء خير منها، وهي لَا تشعر متى تبعث أو في أي مكان تبعث.
وهذا يقتضي أن ما يعبد يكون عنده قدرة على الجزاء بالثواب على العبادة، والعقاب على تركها، وهذه لَا تشعر متى تبعث وتجازى بالخير أو الشر.
ويصح أن يكون الضمير عائدا على الذين يدعونها أي يعبدونها، أي ما يشعر أولئك العباد أيان يبعثون، مع أن البعث آتٍ لَا محالة، وهم ينكرون البعث، ولذلك دعوا الحجارة وآمنوا بها، فالكفر بالبعث هو الضلال المبين وهو الذي أدى إلى هذه الأنواع المتكاثرة من أنواع الضلال المختلفة، ويجب أن نذكر تفسيرًا آخر له وجاهته، وهو أن الموت ليس في هذه الآية وصفا للأحجار إنما هو وصف لمن يدعونها ويعبدونها، فالمشرك ميت غير حي؛ إذ إن حياته لَا نفع فيها له، فهو كالميت؛ ولذا كان التصريح بأنه غير حي، وقد عبر القرآن عن المشرك بأنه ميت وعمن يخرج من الشرك إلى الإيمان بأنه حي، كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢).
فسمى اللَّه تعالى المشرك ميتا، وبذلك يكون الشرك موتا والمشركون أمواتا غير أحياء، ويكون قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ظاهرا في العودة على المشركين، واللَّه أعلم.
هذه الجملة منفصلة عما قبلها غير موصولة بها؛ لأنها بمنزلة النتيجة لما سبقها، فهي مقدمات، وتلك نتيجتها وهي بمنزلة السبب، وتلك بمنزلة المسبب، وإضافة الإله إلى المخاطبين معناه معبودكم أيها المؤمنون هو إله واحد لَا شريك له في حقيقة معنى الألوهية؛ لأنه وحده الخالق، فلا خالق سواه، وهو الواحد في ذاته وصفاته، ليس كمثله شيء، وإنه بذلك يجب أن يكون واحدا في عبادته لا يعبد سواه، ولا يلجأ إلا إليه.
وقد قال سبحانه بعد ذلك: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة) هذا النص السامي سبق لبيان كفر من كفر، أو شرك من أشرك، فذكر أن سبب ذلك لأنهم لَا يؤمنون بالآخرة، فذكر سبحانه أن عدم الإيمان بالآخرة يؤدي إلى وصفين:
الوصف الأول - أن تكون القلوب منكرة.
والوصف الثاني - أنهم مستكبرون، وذلك لأن عدم الإيمان بالآخرة، وأنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب يجعل الشخص يحسب أن الإنسان خلق عبثا، وأن الحياة الدنيا هي الحياة، وهي المتاع ولا متاع سواه، فيكون قالبا للحقائق، وجاحدا دائما، إذ الدنيا وما فيها من حسيات قد استغرقته وملأته، ولا موضع لغيرها في نفسه فقلبه منكر إلا للمحسوس، فلا يؤمن باللَّه، ولا بالرسالة الإلهية.
وأما أنهم مستكبرون، فلأن الدنيا تدليهم بغرور، ومن اغتر بهذه الحياة، وأوتي منها حظا طغى واستكبر وتجبر، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧).
و (الفاء) في قوله: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)، فاء الإفصاح، والمعنى إذا كان اللَّه واحد فلماذا يكفرون؟ فأجيب بأنهم يكفرون بالآخرة.
وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب، فالذين لَا يؤمنون إلا بالمحسوس، لا يؤمنون باللَّه ولا الملائكة ولا بالرسالة الإلهية، ولذا ذكر سبحانه أن أولى صفات المؤمنين بالغيب، فقال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقونَ).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى سعة علمه سبحانه فقال:
في الآية السابقة بين سبحانه أن الذين لَا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة، وهم مستكبرون فمظهرهم إثم ومخبرهم نكران وجحود، وهنا يبين سبحانه وتعالى أنه يعلم باطنهم الذي تنبعث منه أعمالهم ومظاهرهم: (لا جَرَمَ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنونَ) فلا تخفى عليه خافية من أمورهم، وهو مجازيهم بها يوم القيامة الذي أنكروه، وكاشف أمرهم الذي ستروه، (لا جَرَمَ) ذكر الزمخشري أن معناها (حقا) فهي لتأكيد علم اللَّه تعالى بما يسرون وما يعلنون أي ما يخفونه، ولا ينطقون به، وما يظهرون ويجهرون به من معاص تدل على مقدار عنتهم، ومجابهتهم الحق.
ونقول: إن لَا جرم فيها معنى (حقا) فيها رد لهم؛ لأن معنى جرم كسب و (اللام) تدل على النفي، فالمعنى لَا كسب لهم، ولا ثمرة لأعمالهم المكتومة والظاهرة، ويكون المعنى لَا كسب لهم فيما يفعلون من إنكار القلوب، واستكبار النفوس، لأن اللَّه تعالى يعاقبهم بما أسروا وبما أعلنوا، (... وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ...)، واللَّه أعلم.
وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)، وهي يشير إلى عذاب الله تعالى لهم، وأن هذا الإنكار من الاستكبار، وذلك لأنَّ النفس المستكبرة متعالية عن الناس وعن الحق، ومع الخضوع والتواضع يكون الإيمان؛ لأنَّ التواضع من غير صفة يكون معه اتساع القلب للحق فيدخله، ومعنى عدم حب الله تعالى أنه لَا يكون دانيا منه تريبا إليه، بل لأنه استكبر بعيد عن الله تعالى، وكلما بعد عن اللَّه تعالى لم يشعر بجلاله ولا يذكره، ولا يطمئن قلبه.
وإنه يترتب على عدم حب اللَّه تعالى للمستكبرين، ألا يغفر لهم؛ لأنهم لا يتوبون، والتوبة باب المغفرة؛ لأنَّ التوبة تدلل على الرجوع إليه سبحانه، والضراعة إلى الله تعالى، والتوسل إليه سبحانه وتعالى، والكبر والتوبة نقيضان لَا يجتمعان في قلب مؤمن.
ولأنهم يستكبرون عن الحق لَا يدركونه، ولا يريدونه؛ ولذا قال الله تعالى فيهم:
أي أنهم لَا يرون في القرآن إلا قصصا، ولا في قصصه إلا أنه أسطورة من أساطير الأولين، وذلك لاستكبارهم عن أن يفتحوا صدورهم وعقولهم لإدراك ما اشتمل عليه من أحكام، وما فيه أن أساليب البيان التي يعجزون عن أن يأتوا بمثلها، إن استكبارهم يمنعهم من الاتجاه إلى الحقائق ليدركوها، وإذا أدركوها خضعوا لها.
وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) فيه (قيل) مبني للمجهول فمن هو الفاعل الذي جهل وحذف؛ يصح أن يكون القائل النبي - ﷺ - أو من معه، وكأنه يتحداهم، ويدعوهم إلى التأمل، وإدراك معانيه ووجوه البيان الذي هو فوق البشر، ويوجه أنظارهم، ولكن قلوبهم معرضة مستكبرة، والاستكبار كما ذكرنا يسد مسالك الإدراك، فيكون العقل غافلا عن إدراك الحق، ولذا يجيبون (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، أي أحاديثهم التي لَا أصل لها ولا واقع يحققها وكأنهم نظروا إلى القصص الحكيم في القرآن، ولم يصفوه بوصفه، بل قالوا ما قالوا منصرفين عن الحق، غير مدركين لموضع العبر فيه، ولم ينظروا إلى ما فيه من دعوة إلى التوحيد، وبطلان الشرك، وما فيه من أحكام شرعية تصلحهم في دنياهم وآخرتهم.
هذا على أن الفاعل المحذوف هو النبي - ﷺ -، ومن معه، ويكون قوله تعالى (مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) المراد به القرآن الحكيم، والاستفهام هنا على حقيقته ليحملهم على التفكر والتدبر.
ويصح أن يكون من الكفار بعضهم لبعض، وكأنهم يتساءلون عن حقيقة ما جاء به محمد - ﷺ - في نظرهم، وما يمكن أن يردوا به على المصدقين، أو ما يمكن أن يشككوا فيه المؤمنين به، ويصدوا به الذين لم يؤمنوا عن أن يدخلوا فيه ويكون تعبيرهم (مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) من قبيل التهكم بالقرآن، ومن نزل عليه، إذ هم في ظاهر حالهم لَا يؤمنون بالقرآن ولا يصدقون أنه نزل من اللَّه تعالى على قلب محمد - ﷺ -
وإني أميل إلى الأخير وأرى الفاعل المحذوف يحتملهما جميعا، وربما تكرر السؤال، وتكرر الجواب، وهنا إشارة إلى أن القرآن أنزل من اللَّه وعبر بالرب، للإشارة إلى أنه أنزل من ربهم الذي أنشاهم ورباهم، ويعلم ما فيه صلاح أمرهم في دنياهم وعاقبة أمرهم.
وإن الذين قالوا هذا القول مضلين صادين عن سبيل اللَّه تعالى أيا كان السائل لهم الذي أجابوه، قد ضلوا في ذات أنفسهم، وأضلوا غيرهم؛ ولذا يتحملون وزرهم كاملا ويتحملون منِ أوزار الذين أضلوهم بغيرِ علم، فقال تعالى:
والوزر: الحمل الثقيل، وفيه إشارة إلى أنه حمل ثقيل كله أوزار وآثام كما قال تعالى: (وَلَيَحْملُنً أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ...)، وقوله تعالى: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيه إشارة إلى أن هذه الأوزار مآلها عذاب دائم أليم؛ لأن
وقد ذكر سبحانه أنهم يحملون وزرهم كاملا يوم القيامة، ويحملون من أوزار الذين يضلونهم، ولذا قال تعالى: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) لتحقيق معنى الإضلال؛ لأن الإضلال عادة يكون لمن لا يعلم، وقالوا: إن قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من المفعول في قوله تعالى: (يُضِلُّونَهُمْ)، أي أن ذلك لَا يكون إلا بغير علم، وذلك يزيد في جرمهم جرما، لأنهم لَا يكتفون بضلال، بل يتعدون به، فيضلون غير العالمين بحقيقة الدعوة المحمدية، فيذكرون ضلالهم فيها، ولا يذكرون حقيقتها.
وقال سبحانه: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) " ومن " هنا بمعنى بعض، فلا يحملون كل أوزار المضلَّلين، بل يحملون بعضه، ويبقى وزر شركهم، ذلك لأنهم باستجابتهم لهم من غير تبين وتعرف، قد وزروا في ذات أنفسهم، إذ أنهم كان عليهم أن يبحثوا ويتعرفوا الحق، وقد بُلغوه، وعلموا بأمره، فما كان لهم أن يكتفوا بكلام أعداء محمد - ﷺ -، بل كان عليهم أن يتعرفوا الحق من مصدره، وألا يكتفوا بالمعرفة من خصومه، وإن الإضلال يتضمن أمرين: أحدهما إيجابي، وهو المضل، والثاني استجابة المضلَّل، فبهذه الاستجابة يحاسبون.
وإن هذه الأوزار التي حملها المحلون كاملة لأنفسهم، وحملوا معها بعض أوزار الذين أضلوهم هي أسوأ ما يمحل الضالون والمضلون لأنها عذاب أليم، ولذا نبه سبحانه إلى عظم هذه الأوزار فقال تعالى: (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) و (أَلَا) أداة تنبيه لبيان أن هذا الحكم الذي يليها ثابت ثبوتا مؤكدا و (سَاءَ) فيها معنى التعجب، ومعناها ما أسوأ ما يحملون من أوزار؛ لأنها عذاب مقرر ثابت، وعبر عن هذا العذاب بقوله تعالى: (مَا يَزِرونَ) لما في الوزر والعذاب من توافق كامل، وتساو بينهما على ما بينا، واللَّه تعالى أعلم.
* * *
قال تعالى:
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
* * *
يضرب اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم الأمثال بحال المشركين الذين كفروا بالرسل، ودبروا التدبيرات ليمنعوا الرسل من تبليغ رسالات ربهم، كما يبين للمشركين الذين يعاندون النبي - ﷺ -، ويكفرون باللَّه ويدبرون التدابير لمنع الدعوة من أن تسري، حتى أنهم يسدون السبل على مكة فيلتقون بالركبان، ويصدونهم عن سبيل اللَّه، فقال تعالى:
وهذا يذكر المشركين في عصر النبي - ﷺ - بأن ما يدبرونه ضد النبي - ﷺ - من تدبير يريدون به إخفاقهم لهم سيكون من عوامل نصره، وإن اللَّه محيط بهم، وبما يدبرون.
وإن هذا عذاب الدنيا للمشركين، وقد تبين في عاد وثمود، ومدين، وفرعون وملئه، ثم يوم القيامة يكون الخزي والجزاء؛ ولذا قال تعالى:
الأمر الأول - إضافة الشركاء إليه سبحانه وتعالى هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة إذ هم قد عبدوها مع الله تعالى، فجعلوها للَّه شركاء بزعمهم، فكانت الإضافة أخذا بهذا الزعم تبكيتا لهم، إذ كيف يكون المخلوق شريكا للخالق، وكيف تكون الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر شريكة للنافع الضار، رب السماوات والأرض، والحي القيوم القائم على كل ما في هذا الوجود.
الأمر الثاني - في قوله تعالى: (الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)، أي تعادون الحق والأنبياء والدعاة المرشدين فيها، أي تكون في شق والحق في شق، و (في) هنا معناها المحل، أي محل المشاقة فيها، فيتنازعون، حيث لَا مكان للمنازعة؛ لأنها منازعة بين الخالق، وما هو أدنى المخلوقات، لأنها حجارة لَا تنفع ولا تضر.
الأمر الثالث - أن ثمة قراءة بكسر النون، والكسر يدل على ياء المتكلم، أي تشاقونني فيها أي تنازعونني أنا اللَّه الخالق رب الوجود فيها، ويكون في هذه القراءة معنى آخر جليل، وهو أن منازعة الرسل منازعة له سبحانه وتعالى.
ولقد شهد عليهم بهذا الخزي رسلهم الذين أرسلوا إليهم وأتباعهم، والملائكة (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، والذين أوتوا هم النبيون، فقد أوتوا علم النبوة، والذين اتبعوهم فقد اقتبسوا من علم النبوة، والملائكة، فقد أوتوا علم الرسالات بمقتضى تكوينهم، فهم عباد مكرمون لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وشهادة أولو العلم: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي الخزي والسوء على الكافرين بسبب كفرهم وعنادهم، ومشاقّتهم للَّه ولرسوله، وأهل الحق، وقد قال تعالى فيهم:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
وقوله تعالى: (فَألْقَوُا السَّلَمَ) وهو الاستسلام والخضوع والإخبات بعد أن عتوا واستكبروا، والفاء للتعقيب، أي أنهم بعد أن توفتهم الملائكة فوزا ألقوا السلم والخضوع، وانتقلوا من كبرياء ظلمة إلى ضعة صاغرة مستكينة، وعبَّر بـ (ألقوا) والإلقاء لَا يكون إلا للأجسام للإشارة إلى أنهم انحطوا كما تنحط الأجسام من أعلى إلى أسفل، ونسوا ما كانوا يعملون، وقالوا: (مَا كنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء)، و (مِنْ) لاستغراق النفي، أي ما كنا نعمل أي سوء، ونسوا أنفسهم ونسوا أعمالهم لقد زال كبرهم وغطرستهم، فزالت شخصيتهم الظالمة، وحسبوا أنهم لم يفعلوا سوءا.
(بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى تدل على الإضراب عن قولهم، والقائل هم الملائكة أو أهل العلم الذين أوتوه من النبيين أو أتباعهم، وعندي أن القائل هو الله تعالى، لأنه لم ينسب القول إلى غيره، وهو القائل المتولي أمرهم ابتداء وانتهاء.
وقد أكد اللَّه تعالى علمه بالوصف وبـ إن وبالجملة الاسمية وقوله تعالى: (بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) (ما) فيه موصولة بمعنى الذي، أي بالذي كنتم تعملونه، وهو استحضار لهذا العمل كأنه حاضر مهيأ يرى، وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي عملكم الذي استمررتم عليه، ولم تفارقوه حتى تستبين به خطاياكم.
(الفاء) هنا فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، فبسبب ظلمهم أنفسهم بما قدموا من ظلم للفِطَر، وشرك، يدخلون النار، وجاء إدخالهم بصيغة الأمر، للدلالة على أنهم مجبرون في هذا الدخول لَا مخيرون، وجاء بكلام يدل على أنهم دخلوا، ولم يقل (أُدخِلوا جهنم)، للتهكم بهم كأنهم اختاروها، وإنهم كذلك فقد اختاروها من يوم أن اختاروا الكفر على الإيمان واستكبروا على الحق فلم يؤمنوا به مع قيام بيناته ودلائله.
و (أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) كناية عن سعتها، وسهولة الوصول إليها لمن كتبت عليهم وأردوها بأفعالهم، كما قال تعالى: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)، وإنهم خالدون فيها لَا يزيلونها، وخالدين فيها حال، والخلود وهو الاستمرار في البقاء بها، وقد بين سبحانه أنها أسوأ مقام، فقال (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).
و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا سيدخلون جهنم خالدين، فلبئس مثواهم، و (اللام) لتأكيد ذمها، وأظهر في موضع الإضمار، فقال: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، ولم يقل بئس مثواهم، للدلالة على أن الكبر عن الحق وعدم الاستماع إليه، والإصغاء لأهله - هو الذي أودى بهم.
والتعبير بكلمة (مَثْوَى) وهي الإقامة، وغالبا ما تكون المختارة، لأنها طيبة من قبيل التهكم بهم.
ولقد قال ابن كثير: إن الآية تدل على أنهم يدخلون النار، أو يكونون في حرارتها بمجرد قبرهم، وأنه تكون أرواحهم في عذاب بحرارة جهنم، حتى يكون البعث فتلتقي الأجسام بالأرواح، ويكون العقاب، ويشير إلى ذلك قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦).
* * *
المتقون
قال تعالى:
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
* * *
هذه مقابلة بين الإيمان والتقوى، والكفر والاستكبار، قيل للمستكبرين ماذا أنزل ربكم قالوا: أساطير الأولين ولنَتْل الآية السابقة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وسئل هذا السؤال نفسه للمتقين، فقال تعالى:
(وَقِيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوْا)، الفاعل المحذوف هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) وقد كان الجواب غير الجواب الأول، وإن كان السؤال واحدا بيد أن السؤال هنا للمتقين وهناك
ووصفوا المنزَّل بأنه خير، ويشمل القرآن كما ذكرنا والشرائع الإسلامية كلها، وهي خير فيه صلاح الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: (... لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة...)، يصح أن تكون هذه الجملة من اللَّه تعالى فيها تتميم جواب الذين اتقوا، والظاهر أنها من تتمة إجابة المؤمنين وقولهم، وهم بهذا يرغبون في الإيمان، ويرغبون في الإحسان، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، أي خصلة حسنة، وأثر حسن، فالثمرة من جنس العمل، فإذا كان العمل حسنا كانت الثمرة حسنة، وهل ينتج الخير إلا خيرا، وهل ينتج الإحسان إلا إحسانا.
والعمل الصالح ينال به الشخص الخير الحسن؛ لأنه يكون بنية خالصة، والإخلاص في ذاته أمر حسن لَا يذوقه إلا الذين أخلصوا دينهم للَّه ولم يدنسوا قلوبهم بفساد، والإخلاص يدفع إلى الكلم الطيب، والكلم الطيب يدفع إلى العمل المستقيم والسلوك القويم، وكل هذا خير، وإذا كانت متاعب من عمل الخير، فإن الصبر عليها نعمة وحسنة يشعر بها الأبرار الذين يفتدون الحق بأنفسهم وبالبلاء ينزل بهم.
وقال تعالى: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ)، أي ثواب دار الآخرة، وإنما أضيف الخير إلى ذات الدار، لأنها كلها خير، فلا ينال الطيبون فيه إلا طيبا، ثم قال تعالى: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)، (اللام) لام التوكيد، وإنها كل موضع الثناء، والحمد، وهي نعم الدار، وذكر المتقين بالإظهار بدل الإضمار للإشارة إلى أن
ثم بين سبحانه ثواب الآخرة أو بعضه، فقال.
(جَنَّاتُ) بدل أو عطف بيان لدار المتقين، إنها (جَنَّاتُ عَدْن) بها إقامة دائمة ثابتة يجتمع فيها جمال المنظر، والري، (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وتلك متعة النظر، فيكون خرير الماء مع ما يحوطه من خضرة تسر الناظرين بنضرتها، وترتاح النفوس بمنظرها، وبين بعد ذلك أن هذا المنظر الجميل الذي يشرح الصدر معه التمكن من كل ما يحبون؛ ولذا قال بعد ذلك: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) من خير، وما يريدون من طيب لَا يمنع عنهم شيء، وإذا كانوا قد حرموا في الدنيا من مال ونسب فهم في الآخرة ممكنون، وإذا كانوا قد صبروا أنفسهم لله تعالى فإن الله تعالى قدر عناءهم بأن مكنهم من كل ما يريدون، منطلقة إرادتهم ومشيئتهم، وقال تعالى في آية أخرى: (... وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُن...).
(كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ)، أي كهذا الجزاء الذي نراه للذين اتقوا ربهم يجزى الله المتقين دائمًا، وهذا تشبيه أو تصوير لمعنى المكافأة الذي يكافئ الله تعالى بها عباده، فهو تصوير للمعنى الكلي في جزاء الله للمتقين بهذه الحال التي ينالها المتقون، وهم المحسنون الذين أتقنوا أعمالهم، بإحكامها وأحكام الخير وإحسانه يكون أولا بتطهير النفس من الأهواء، والآثام، ويكون بالنية الصادقة الصافية، وثانيا بالعمل الصالح.
وإذا كان سبحانه قد بين كيف يستقبل المستكبرون عندما تتوفاهم الملائكة، فقد بين أيضا ما يستقبل المخلصون، فقال:
ولقد وصف اللَّه سبحانه وتعالى المستكبرين بأنهم ظالمون أنفسهم، وهم في هذه الحال التي أوقعتهم في رجس وفسوق، فإنه سبحانه قد وصف المتقين بأنهم طيبون، والطيب ضد الخبيث، وضد الشرير، فوصفوا بأنهم طيبون؛ لأنهم خلصوا من الشرك والظلم والاستكبار، ولأنهم صالحون في ذات أنفسهم زكية نفوسهم طيبة راضية مرضية، وطيبة حياتهم من بعد.
والطيبة وصف للنفوس المطمئنة الراضية غير المعتدية الآثمة، وهو وصف جامع لكل الخلال الباطنة والظاهرة يوصف به كل الذين لَا يحملون ضغنا، ولا يحقدون، ولا يعتدون، وينصرفون لذات أنفسهم يصلحونها، ويراقبونها، ولا يكون منهم للناس إلا ما فيه مصلحتهم، و (طَيِّبِينَ) حال من المفعول، وقوله تعالى: (يَقُولُونَ) في الآية حال من الملائكة، والمعنى يتوفونهم قائلين لهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمُ) إيناسا لهم بالتحية ودعوة لهم بالأمن والاطمئنان، وبث روح الأمان، وبشرى لهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، ويقولون مع هذا السلام المؤمن المبشر: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الباء باء السببية، أي لسبب عملكم الذي عملتموه غير مدخرين في سبيل الخير، وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، تدل على استمرار العمل، لأن كان تدل على الماضي مع الدوان في مثل هذا المقام، كقوله تعالى؛ (... وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)، وقد جمع بين الماضي في (كان) والمستقبل في (تَعْمَلُونَ)، فكان دالا على استمرار عملهم، وكان صالحا، واللَّه تعالى يجزيهم أحسن الجزاء.
* * *
قال تعالى:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٣٤) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
* * *
جاءتهم المعجزة الكبرى التي تتحدى الأجيال كلها، وتحداهم اللَّه تعالى بها أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فطلبوا معجزات حسية كمعجزات الأنبياء السابقين، فجاءتهم، انشق القمر، فقالوا: سحر مستمر، أي أعينهم سحرت فتبين كذبهم، لأن المسافرين رأوه كذلك، وجاءهم بالإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى، وذكر لهم الأمارات الدالة.
أتى لهم بالمعجزة الكبرى، وهي التي تتناسب مع خلود شريعته، إذ يبقى صامدًا يقارع الزمان والأقوام ويقيم لهم الدليل على أنه من عند اللَّه، ولكنهم أرادوا آية مادية، فجاءتهم الآية تلو الآية، ومع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك قال تعالى:
لقد طلبوا أن يكون معه ملك، فقال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، (أَوْ يَأتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)، أي العذاب
وقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ) الاستفهام فيه للإنكار، وهو وصف لحالهم في كفرهم بالآيات، أي حالهم أنهم لَا ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتيهم أمر الله. وقد بين اللَّه أن أمره نزل بمن سبقوهم مثل قوم نوح، وعاد وثمود، وأصحاب الأيكة، وفرعون ذي الأوتاد أن ذلك لم يكن ظلمًا من اللَّه لهم، بل كان ظلما من أنفسهم لأنفسهم، فقال عز من قائل:
(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
إن المذنب إذا نزل به عقاب ذنبه لَا يقال إن من أنزل به العقاب هو الذي ظلم، إنما الظالم هو من ارتكب سبب العقاب فهؤلاء بارتكابهم سبب العذاب الذي جاء بأمر الله ظلموا أنفسهم، وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
الأمر الأول - التعبير بـ (كَانُوا) فهو دال على استمرارهم في أسباب ظلم أنفسهم من إنكار وجحود ومكابرة.
الأمر الثاني - تقديم كلمة (أَنفُسَهُمْ)، على (يَظْلِمُونَ) للإشارة إلى أن مما ارتكبوا من آثام كان يقع على أنفسهم، لَا على غيرهم وللاهتمام والتخصيص.
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه.
الفاء فيها بيان ترتيب الإساءة على ما ارتكبوا من سيئات، فهي تبين كيف ظلموا أنفسهم، فقال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)، أي فأصابهم جزاء سيئات مما عملوا، فالكلام على تقدير مضاف، وفي هذا التفسير بيان لأنهم ظلموا أنفسهم بأن تسببوا في العذاب الذي نزل، فكانوا به ظالمين لأنفسهم، وحذف المضاف مع بقاء المضاف إليه للإشارة إلى الجزاء كالسيئات تماما، حتى كأنه هو.
وإن السيئات تترادف يجيء بعضها تلو بعض، حتى تتراكم فيظلم القلب وحينئذ تفسد كل أسباب الإدراك وتكون قلوبهم غلفا، ويتوالى منهم الفساد، فيكون ذلك سببًا في أن ينزل بهم عذاب اللَّه، ويكونون ظالمين لأنفسهم. وقوله تعالى: (سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) فيه إشارة إلى أن اللَّه لَا يأخذهم إلا بالسيئات، وهي ما يسوء في ذات من الأفعال، وما يسوء الناس، وما يصدهم عن الحق المبين.
(وَحَاقَ بِهِم)، أي أحاط بقلوبهم عملهم السيئ، حتى أصبحوا لا يدورون إلا في فلكه، واستعمال (حاق) بمعنى أحاط لَا يكون إلا في السوء، فالحيق لَا يكون إلا في إحاطة الشر.
وقوله تعالى: (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي أحاط بهم القول الذي كانوا به يستهزئون، أي جزاؤه وحذف المضاف للإشارة إلى المساواة بين الجزاء والفعل كأنه هو.
ويصح أن نقول إن المراد، أن يحيط بهم الاستهزاء نفسه تقريعا ولوما، وإشعارا لهم بأنهم المستهزئون المحقرون، ومن كانوا موضع استهزائهم السخيف هم الأكرمون عند اللَّه.
إن الذين أشركوا وكانوا يخاصمون النبي - ﷺ - قوم خصمون يحتجون على النبي - ﷺ - لكل ما يتوهمون أن فيه حجة لهم، غير مدخرين قولا ولو كان باطلا في ذاته، ولا يؤمنون به.
قالوا متحدينِ النبي - ﷺ - بقولهم أن ينزل بهم عقاب ماحق، (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، أي لو شاء ألا نشرك، وألا نحرم شيئا حلالا مما حرمنا، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، لأنزل بنا عقوبة رادعة مانعة قاطعة، ولكنه لَا ينزل، وينذر ولا ينفذ، فهو تحد للنبي - ﷺ - أن ينزل بهم ما أنزل اللَّه على الأقوام قبلهم؛ ولذا قال تعالى من بعد ذلك: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي لَا يملك إنزال العذاب، وإنما الذي يملكه اللَّه تعالى، وهو ليس عليه إلا البلاغ، وقد بلغ وأنذر.
هذا تخريج الحافظ ابن كثير، وهو تخريج مستقيم تتناسق فيه العبارات، وتتلاقى المعاني.
وهناك تخريج آخر يقاربه ولا يباعده، وهو أنهم يقولون ذلك استهزاء بالنبي - ﷺ - وتهكما، بأنه لو كان يستطيع التغيير لغير، ولكن اللَّه رضي لنا ذلك، فيقول اللَّه (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهو قرب من الأول في معناه، وإن خالفه بعض المخالفة في مبناه.
ونقول إن التخريج الأول تكون الآية متناسقة في ألفاظها وعباراتها ومعانيها، والتخريج الأخير يجعل قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وفي ربطه ببقية الآيات تكلف، ولو كان المخرِّج له إمام البلاغة الزمخشري.
وهنا إشارات بيانية ترجح التخريج الأول ونشير إليها:
الأولى - في قوله تعالى: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل: وكذلك قال الذين من قبلكم، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء، وبذلك يترجح التخريج الأول أو الثاني ولا يترجح الأخير.
الثانية - قوله تعالى: (وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءً)، أي ما حرمنا من غير اللَّه من شيء، بل من ذات أنفسنا.
الثالثة - قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ تقديره إذا كنتم تتحدون وتطلبون إنزال العقاب فليس هذا لنا، إنما علينا البلاغ الواضح المبين الذي لَا يترك ريبة لمرتاب،
والآية هنا رجحنا أنها للتحدي أو الاستهزاء، وفي سورة الأنعام يرجح أنها لتعلاتهم في إثمهم وشركهم، ولذا كان الرد عليهم: (... قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨).
* * *
بعث الرسل بالتوحيد والبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
* * *
أكد سبحانه وتعالى بعثه للرسل بأن بعث لكل أمة رسولا، وأن محمدا - ﷺ - لم يكن بدعا من الرسل، أكد ذلك باللام وقد، ولقد عين سبحانه رسالة كل رسول من هؤلاء الرسل فقال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
(أَن) تفسيرية فهي مفسرة بمعنى الرسالة، وهي الأمر بعبادة اللَّه وحده واجتناب الطاغوت.
وقوله تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) فيه أمر بالوحدانية ودعوة إليها وتحريض عليها؛ لأن عبادة اللَّه تعالى لَا تكون إلا إذا كان يعبد وحده لَا شريك له.
وقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغوتَ)، أي ابعدوا عن أنفسكم الطاغوت، أي جانبوه، والطاغوت فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، ويشمل مجاوزة الحد في العقول فيعبد ما لَا ينفع ولا يضر، ويشرك مع اللَّه غيره وتتحكم فيه الأوهام، فيرى الباطل حقا والحق باطلا، ويشمل ظلم العباد، والطغيان عليهم، ويشمل الطغيان في المعاملات والظلم، وغير ذلك.
فالدعوة أي الوحدانية واجتناب الطاغوت جامعة لكل معاني الرسالة من عقيدة، وتعامل الناس بعضها مع بعض، هذه رسالة رسل الله في الأرض، اعتقاد سليم، وتعاون وعمل عادل مستقيم.
وقد تلقى الناس رسالة الرسل الهادية المرشدة ما بين مهتد مقتنع مؤمن، وما بين ضالٍّ قد حقت عليه الضلالة، ولذلك قال سبحانه: (فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّه وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ومن هدى اللَّه هو الذي سلك طريق الهداية، وأعد قلبه لقبول الحق والاقتناع به، ولم تكن ثمة غواش من حب المادة أو السلطان أو الجاه أو التأثر بما كان عليه الآباء، فيتبع من غير تفكير ولا تدبر بل نقول:
وأما من حقت عليه الضلالة، أي ثبتت وتأكدت، فهو الذي لَا يتفكر ولا يتدبر لغواش غشيت قلبه من حب الدنيا وجاهها، وسلطانها، وسيطر على عقله التقليد، والعناد والاستكبار، وبذلك تفسد فطرته التي فطر الناس عليها، ولذا حقت عليهم الضلالة.
وإن أولئك أنزل اللَّه تعالى بهم الدمار في الدنيا، وصاروا عبرة للمعتبرين؛ ولذا قال تعالى: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
(الفاء) الأولى دالة على الإفصاح عن شرط مقدر، أو كلام مقدر تقديره فنزل بهم الدمار والهلاك (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)، فستجدون الآثار لمن أهلكهم اللَّه، (فَانطرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِبِينَ)، أي انظر الحال التي آل إليها أمرهم بسبب تكذيبهم؛ ولذلك أظهر في موضع الإضمار للدلالة على أن ما أصابهم سببه التكذيب، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
كان النبي - ﷺ - حريصا على أن يهتدي قومه، لرأفته بهم ولرغبته في مصلحتهم، ولأنه يرى إيمانهم من كمال تبليغ رسالته، ويخشى أن يكون قد قصر في التبليغ إن لم يؤمنوا، ولأنه - كصاحب كل دعوة - يريد للناس أن يتبعوها في غير عوجاء ولا اعوجاج، ولكن الهداية ليست بيده، إنما هي بيد اللَّه؛ ولذا قال تعالى:
الخطاب للنبي - ﷺ - الذي كان حريصا على هداية قومه، والحرص هو الرغبة الشديدة في أمر من الأمور، وقد كان النبي - ﷺ - راغبا في هداية قومه، والضمير في (هُدَاهمْ) يعود على الذين قالوا: ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء.
(وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ)، أي لَا أحد ينصرهم، وهذا يومئ إلى أنهم يعتريهم عذاب أليم، لَا ينقذهم منه ولي ولا ناصر لهم، وفيه دلالة على أنهم ما داموا قد رتعوا في الغي، فلا يمكن أن يكِون لهم هاد مرشد، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاء...).
وإن هذا الجحود سببه أمران:
الأمر الأول - الاستكبار، وقد تكلمت الآيات القرآنية في آثاره.
والأمر الثاني - جحود اليوم الآخر، وقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وقد بين الله تعالى حالهم في جحودهم اليوم الآخر فقال تعالى:
(جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، الجهد مصدر بمعنى الطاعة والقوة، ومعنى أقسموا بالله جهد أيمانهم أي جاهدين بأقصى قوتهم في تأكيد يمينهم، والمقسم عليه (لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) مأسورين في ذلك بالحمال التي وقعت، وهي الوقت ويحسبونه فناء لَا حياة بعده، ويحسبون أنه لَا شيء غير المادة، ولا يؤمنون بالمنشئ الموجد، وإن كانوا يقولون: الله خالق كل شيء، ولكنه قول لَا يتغلغل في قلوبهم، ويستمكن في نفوسهم، روى البخاري أن رسول الله
- ﷺ - قال في حديث قدسي: " كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ " (١).
________
(١) رواه البخاري: تفسير القرآن (٤٥٩٢). كما أخرجه النسائي: الجنائز (٢٠٥١)، وأحمد: باقي مند المكثرين (٧٨٧٣).
وبين سبحانه أن أكثر الناس غلبتهم المادة، وسيطرت عليهم الأحوال التي يرونها، وتركوا المغيب عنهم فلم يدركوه، ولم يؤمنوا بالغيب، ولذا قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الاستدراك هنا من الوعد المؤكد الثابت الذي ألزم اللَّه تعالى به نفسه، إذ كان الواجب عليهم أن يعلموا من قياس القابل على الحاضر ولكن أكثرهم لَا يعلمون، أي ليس من شأنهم أن يدركوا، وأن يعلموا لأنهم لم يؤمنوا بالغيب، ولم يعرفوا قدرة ربهم، وما المراد (بالناس)؟ إن أريد المشركون فكلهم لَا يعلمون ذلك، وقيل المؤمنون، وإن أريد الناس جميعا، فإن أكثرهم لا يؤمنون بالعودة، ومن اعتقد منهم لَا يذعن، وإلا ما كانت المعاصي التي ترتكب جهارًا، فهي لَا ترتكب إلا من غفلة في الإيمان باليوم الآخر، وقد بين اللَّه تعالى الغاية من البعث، فقال تعالى:
(اللام) متعلقة بما قبلها، أي أنها في مقام التعليل لوعد اللَّه الحق الثابت المؤكد الذي ألزم اللَّه تعالى به ذاته العلية، والمعنى أن اللَّه تعالى ما خلق الناس عبثا كما في قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فالله تعالى لم يخلق الإنسان، ولم يجعله كالبهائم، بل خلقه ومعه عقل يتفكر ويتدبر، وحيث كان التفكير، كان الحساب على الأفعال، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والدنيا لَا تتسع لكل حساب الأعمال، فلابد من أخرى يحاسب فيها على جميع الأفعال، والأناسي منهم المظلوم المحروم، ومنهم الظالم
وذلك هو ما يكون بعد البعث، وهذا معنى ليبين لهم الذي يختلفون فيه من حق وباطل وعدل وظلم، ويكون كل ذلك أمام الحكم الذي يفتح بين الناس، ويفصل بينهم بالحق وهو خير الفاصلين، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِين كَفَرُوا أَئهُمْ كَانوا كاذِبِينَ).
(اللام) هنا للعاقبة، بينما اللام الأولى للتعليل؛ ولذا كررت اللام لتغاير معناها، ومعنى العاقبة أنهم كانوا يكفرون بالبعث، ويكذبون الرسل في الدعوة إلى الإيمان، ويشركون ويكذبون الرسل في الدعوة إلى التوحيد، فإذا كان البعث والحساب والعقاب لمن أنكر وكابر وأشرك، والثواب لمن آمن وأطاع وصبر وجاهد فإن عاقبة ذلك الذي يرونه حسيا أن يعلموا أنهم كانوا كاذبين في كل ما ادعوا وأنكروا، وباهتوا الرسل والمؤمنين، وعبر بالموصول (الَّذِين كفَرُوا) لبيان أن كفرهم هو السبب في تكذيبهم، وأكد سبحانه وتعالى علمهم بكذبهم، أولا:
بـ (أن) (المؤكدة، وثانيا: بـ " كان " الدالة على دوامهم على الكذب بدوام كفرهم، وثالثا: بالجملة الاسمية، واللَّه سبحانه يعلم الغيب في السماوات والأرض وإليه ترجعون.
وإن السبب في إنكارهم البعث هو أنهم مأسورون بالمادة والحاضر الذي بين أيديهم وأنهم لَا يقدرون قدرة اللَّه تعالى حق قدرها؛ ولذا أشار سبحانه وتعالى إلى كمال قدرته على الخلق والتكوين، وأنه ليس إلا أن يريد الشيء فيكون، فقال اللَّه تعالى:
________
(١) المجدود: اسم مفعول بمعنى المحظوظ. الصحاح/ جدد.
(إِنَّمَا) " أداة قصر " أي أن خلق الله للأشياء محصور في هذه الطريق السهلة التي لَا تمتنع عليه بشيء، ولسنا نبحث في سر الخلق والتكوين، فنسأل
وهذا كله للعاقل المستبصر المدرك، ولقد كانوا يعجبون كيف يعودون. ولقد فنيت أجسام الأموات فقال تعالى مبينا أن شيئا لَا يصعب على إرادته، فقال: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢).
* * *
المؤمنون
قال اللَّه تعالى:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
* * *
الهجرة ترك الدار لغاية سامية أو لطلب الرزق، وقد حبب اللَّه تعالى في هاتينِ الحالتين، فقال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثيرًا وَسَعَةَ...).
وقد كانت هجرتان: هجرة إلى الحبشة فرارًا بالدين من الذين ظلموا، ومن هؤلاء عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب وعدد من الصديقين والصديقات بلغت عدتهم ثمانين أو يزيد، والهجرة الكبرى إلى المدينة وفيها هجرة النبي - ﷺ -، وإن هذه السورة مكية، أي أنها كانت قبل الهجرة الكبرى فالذين هاجروا في الآية هم المهاجرون إلى الحبشة.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ) الفاء هنا للسببية، أي لأجل اللَّه تعالى، وذكر الفاء يومئ إلى أنهم فنوا في اللَّه فصاروا لَا يفكرون في غيره، وصار هو ملء قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، وأحاسيسهم فكلهم له سبحانه وتعالى لا يفكرون إلا فيه، ويهون كل عذاب في سبيله.
وقال سبحانه وتعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) و (مَا) هنا مصدرية، أي من بعد ظلمهم، وقد كتب اللَّه تعالى لهم الجزاء الحسن لصبرهم على الأذى، ونزول الظلم بهم، وهجرتهم ببعدهم عن الخلان والأحباب، والديار والأموال، وبيع أنفسهم للَّه تعالى حتى لَا يطلبوا إلا مرضاته.
وقد قال تعالى في جزائهم: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، (اللام) لام أقسم وهي مؤكِّدة، والقسم مؤكد، ونون التوكيد مؤكدة، والحسنة الأمر الذي يكون حسنا لَا إساءة فيه في ذاته ولا في مغبته، و (نبوئنهم) نمكنهم في الحسنة كأنهم يفتقدونها ويستمكنون منها، والحسنة في الدنيا التي نالت المؤمنين والمهاجرين من بعد هي العيش الحسن، وقد نزلوا من بعد الحبشة المدينة هم ومن كانوا في مكة يلاقون الظلم والإيذاء بكل أنواعه والاستهزاء والسخرية، فالتقوا في دار الهجرة.
هذه حسنة الدنيا (وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، (اللام) لام الابتداء للتوكيد، وأجر الآخرة أكبر لأنه نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فأكل الجنة دائم لَا ينتهي، وقال: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، والضمير في يعلمون يعود إلى المؤمنين، و (لَوْ) تكون للتمني، أي ليتهم يعلمون ذلك علم العيان والرؤية، لَا علم الخبر والذكر، وفي ذلك بيان لفضله، وعظم شأنه، كأنه فوق الخيال والتصور، واختار الزمخشري أن يكون للكفار ولكنه بعيد، وقد قال تعالى في سبب استحقاقهم ذلك الجزاء العظيم.
(الذينَ) عطف بيان للمهاجرين، لقد صبر المهاجرون أبلغ الصبر، صبروا على الذي نزل بهم، والظلم الذي وقع عليهم والاستهزاء والسخرية بهم، وتصغير شأنهم، وتحقير أمرهم، وكأنهم الأرذلون، وهم الأكرمون، وصبروا على ترك الأحباب، وترك الأموال وترك الديار.
صبروا على كل ذلك، وعلى أن المشركين حاولوا أن يسدوا باب الأمل في نفوسهم لولا فضل من اللَّه ورحمة، ولكنهم مع ذلك كان أمامهم ربهم فتح لهم السدود، بالتوكل عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، أي على ربهم وحده، لَا على أحد سواه يتوكلون، وعبر بالمضارع لدوام توكلهم، وقدم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص، أي على اللَّه وحده يتوكلون فهو الذي يفتح لهم الأبواب التي يسدها الشرك، ويكون من ورائها الانتصار.
ولقد كان المشركون يعترضون على الرسالة المحمدية بأنها لرجل، ويريدون ملائكة، فبين اللَّه تعالى أن الرسل جميعا من الرجال، فقال عز من قائل:
ليس عجبا أن يوحي اللَّه تعالى إلى رجل منكم، وما كان محمد - ﷺ - بدعا في الرسل، بل كان الرسل من أقوامهم يحسون بإحساسهم، ويتألفونهم ويعرفونهم في ماضيهم الطاهر المنزه، ولم يرسل رسولا إلا إذا كان من قومه وكان رجلا منهم؛ ولذا قال تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا)، فما أرسلنا ملكا؛ لأن طبيعته ليست من طبيعة الإنسان، وهو روح غير جسد، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، الأمر أهو ملك، أما إنسان، وإن امتياز هذا الرجل الرسول من بينهم أنه يوحى إليه، وينزل عليه جبريل الأمين برسالته؛ ولذا قال: (نُّوحِي إِلَيْهِمْ)، هذه قراءة بالنون المعظم للمتكلم، وهو اللَّه تعالى، وأي متكلم أكبر وأعظم من رب البرية، وهذا كقوله تعالى في آية أخرى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى...)، ولقد قال سبحانه وتعالى على لسان رسوله: (... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا).
ولقد نبههم سبحانه إلى أن عليهم أن يتعرفوا الأمر من أهل المعرفة، فقد كانوا أميين منقطعين عن الرسالة فأراد سبحانه أن يوجههم إلى سؤال أهل المعرفة: (فَأسْألُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِن كُنتمْ لَا تَعْلَمُونَ)، (الفاء) تفصح عن شرط مقدر، أو واقعة في جواب الشرط (إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وأهل الذكر هم أهل التفكر والتدبر والعلم بالأشياء على وجهها، ويدخل في هؤلاء أهل الكتاب، أي إن كنتم لا تعلمون هذه الحقائق، فلا تعجبوا في الأمر لمجرد أنه يثير عجبكم واستغرابكم، بل تعرفوا الأمر من أهل الذكر والحكمة والمعرفة وأهل الكتاب ليزول عجبكم واستغرابكم، وذلك مع المعجزة الكبرى التي قدمها لكم، وتحداكم أن تأتوا بسورة من مثله، وما زال يتحداكم وهكذا نرى القرآن الكريم يصرف الآيات ليدركوا وليستبينوا الحق.
والمعنى أن هؤلاء أرسلوا رجالا ولا يكونون إلا رجالا مصحوبين بالبينات أي المعجزات الدالة على أنهم مبعوثون من عند اللَّه، وجاءتهم منهم الكتب التي تبين فيها الشرائع التي أراد اللَّه تعالى أن يعلموها للناس، وقد جئتهم بذلك وبالحق فما لهم يستنكفون عن قبول ما تدعوهم إليه، ويعجبون من أن يجيئهم الحق من اللَّه على لسان رجل منهم.
ثم قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكرَ)، الذكر هو القرآن الكريم، وسمي القرآن هنا ذكرا، لأنه مذكر الأنبياء السابقين ورسائلهم، ما نسخ منها وما بقي، ولأنه الذكر الدائم إلى يوم القيامة، ولأن الذين نزل فيهم القرآن شهدوا على الناس بأن ما نزل إليهم من شرائع حق، واللَّه شهيد عليهم، ألم تر إلى الذين ادعوا أنهم أتباع عيسى وحرفوا العقيدة، وجعلوها وثنية مثلّثة صحح القرآن عقيدتهم وردها إلى أصلها، وشهد القرآن والمؤمنون بالصادق، وبطل ما صنعوا وحرفوا وثلثوا.
وقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، (اللام) هنا لام العاقبة، لتكون الثمرة والنتيجة والعاقبة أن تبين بالقرآن الذي نزل على قلبك للناس ما نزل إليهم من ربهم في الماضي والحاضر، وما هو شريعة ربهم الأزلية الخالدة الباقية، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
وقوله تعالى: (وَلَعَلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أي رجاء منهم أن يتفكروا ويتدبروا ويبتعدوا عن الجحود والكفر، وكان العطف بالواو للدلالة على أن هذه غاية وثمرة للنزول كتبيين النبي - ﷺ -.
* * *
تنبيه وإنذار
قال تعالى:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
* * *
كان المشركون من وقت أن بعث النبي - ﷺ - يدعوهم بأمر ربه لَا يفكرون فيما اشتملت عليه من حق، ولا في ماضيه الذي يدل على الصدق والأمانة، وأنه كان الأمين فيهم حتى سمي بذلك، ولا في حقيقة ما يدعو إليه، ولا في حقيقة ما هم عليه من عبادة الأحجار التي لَا تضر ولا تنفع لَا يفكرون في شيء من ذلك، إنما يفكرون في مقاومة الدعوة وصدوا عن غير المقاومة صدودا، ودبروا لإيذاء
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وهو حالهم التي هم عليها، ولكن تأخرت الفاء؛ لأن الصدارة تكون للاستفهام والمعنى أفعلوا ما فعلوا ودبروا السوء، وآذوا ودبروا الأمور المسيئة في نفسها أفأمنوا أن يخسف اللَّه تعالى بهم الأرض، بأن تنحط الأرض حتى تبتلع ديارهم وأموالهم، أغفلوا وأمنوا مكر اللَّه وقد دبروا السيئات وفعلوا وأرادوا، ويميل بعض المفسرين إلى أن السيئات وصف لموصوف محذوف تقديره " أفأمن الذين مكروا المكرات السيئات "، ونحن نرى أنه لَا حاجة إلى تقدير موصوف محذوف؛ لأن المكر وهو التدبير متجه إلى إنشاء السيئات فهم دبروا السيئات في إيذاء المستضعفين، ودبروا السيئات في الأقوال والأفعال طوال إقامة النبي - ﷺ - بينهم في مكة، لم يتركوا نوعا من السيئات إلا دبروها.
وهم يعلمون قوة اللَّه القاهرة، وأنه الذي يلجأ إليه في الملمات، فلم يكونوا جاهلين لها، وإن عبدوا مع اللَّه الأحجار والأوهام، فإذا نبههم اللَّه تعالى بأنه قادر على خسف الأرض من تحتهم فهم لَا يجهلون ذلك.
وقد قال تعالى منبها لهم، ومثيرا لعلمهم بقدرة اللَّه تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧).
ثم قال تعالى:.
(أو) عاطفة (الْعَذَابُ)، هو العذاب الدنيوي المدمر كالذي نزل بقوم لوط، فجعل اللَّه عالى الأرض سافلها، أو تأتيهم ريح صرصر عاتية، أو ريح فيها عذاب شديد، يكون
ثم يقول تعالى منذرًا بالعذاب الشديد:
إن أخذهم وهم لَا يشعرون يكونون وهم في مساكنهم مطمئنون أو قابعون في ديارهم وهم لَا يعرفون آثار مكرهم السيئات وتدبيرهم الفاسد لأهل الإيمان والكرامات، ولذا لَا يشعرون، وقد يأخذهم وهم متنقلون في الأسفار يسيرون في مسارها، ويتنقلون لمتاجرهم، وقد يأخذهم اللَّه وهم كذلك لَا يفكرون إلا في الكسب والخسارة والربح وسائر أبواب التجارة؛ ولذا قال تعالى: (أَوْ يَأخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ)، أي في انتقالاهم من بلد لبلد، يتقلبون في البلاد، والتقلب تعبير عربي قرآني يؤكد به الانتقال من بلد إلى بلد تاجرا، أو سائحا، وكان في ذلك مجازا إذ شبه التنقل من بلد إلى بلد بالكرة المتقلبة من وضع إلى وضع، وهي تنقله من مكان إلى مكان.
وإذا كانوا قد أحيط بهم، فهم في مأمنهم غير آمنين، وفي أسفارهم غير مطمئنين فهم في قبضة الله تعالى؛ ولذا فما هم بمعجزين الله تعالى أن ينزل بهم ما يريد، فاستقيموا على الطريقة، وإلا أخذكم أخذ عزيز مقتدر، كانت الصور السابقة في أخذ بالخسف أو العذاب من حيث لَا يشعرون، أو وهم في حال تقلبهم في البلاد بالمتاجر لَا يخافون، فقد ينزل العذاب وهم يتخوفون من العذاب، ولكنهم مصرون على سببه من مكر السيئات، وتدبير الموبقات للمؤمنين ضعفائهم وكبرائهم بالاستهزاء والسخرية.
ولذا قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ... (٤٧)
أي تخوف من العذاب أن ينزل بهم كما نزل بالأقوام قبلهم فهم يعروهم الخوف، ولكن لَا يصل إلى حملهم على الإيمان، ولكن يتخوفون أن ينزل بهم، وقد يفسر التخوف بمعنى النقص، أي
ولقد ذكر الزمخشري في ذلك ما نصه: " وقيل هو من قولك: تخوفته إذا تنقصته، قال زهير:
تخوَّف الرحل منها تَامكا قَرِدا | كما تخوف عود النبعة السَّفن |
ومعنى النص السامي أن العذاب يأتيهم وهم لَا يشعرون وهم في مأمنهم قابعون، أو يأتيهم في متاجرهم ومتقلبهم مقبلين، أو يأتيهم بنقص وهلاك بطسء فينتهون وهم قد عرفوا الابتداء ولم يعرفوا الانتهاء.
وقد ختم اللَّه سبحانه آيات الإنذار بقوله: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ).
ووصف اللَّه سبحانه وتعالى ذاته بالرأفة والرحمة مع هذا التهديد الشديد، لأن رأفته بهم، ورحمته العامة، اقتضت ألا يعاجلهم بالعقاب، فهو سبحانه يبين لهم أنه قادر على العقاب ينزله بهم في أي باب من هذه الأبواب، ولكنه لم يعجل رأفة بهم وهو رحيم رحمة عامة للناس.
وفوق ذلك فإن الإنذار بالعقوبة، بل العقوبة نفسها رحمة بالكافة، فليس من الرحمة بالكافة أن يترك الظالم في غيه يرتع ويلعب ويعبث بالكرامة الإنسانية، فقد روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: " من لَا يرْحَمْ لَا يُرْحم " (١)، وقد ثبت في
________
(١) سبق تخريجه.
ويوجه سبحانه وتعالى الأنظار إلى الخلق والمخلوقات ففيها الدلالة على وحدانية الخالق، وفيها الدلالة على قدرته القاهرة وإرادته الظاهرة وفيها الدلالة على خضوع الوجود كله له سبحانه ساجدا داخرا صاغرًا، فقال عز من قائل:
________
(١) رواه البخاري (٤٣١٨)، ومسلم: البر واصلة تحريم الظلم (٤٦٨٠).
الهمزة داخلة على فعل محذوف يقدره المقام والمعنى يفعلون ما يفعلون معاندين مجاهرين بالعصيان، ولم يروا ما خلق اللَّه من شيء، و (مِن) بيانية، أو لاستغراق النفي والاستفهام هنا إنكاري؛ لإنكار الوقوع وهو داخل على نفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى انظروا (وفكروا) إلى ما خلق من أشياء تتفيأ ظلاله، أي لها فيء، ولهذا الفيء ظل، وتتداخل ظلاله، فالجبال لها فيء والأشجار لها فيء، وكل فيء له ظل، فتتفيؤ هذه الأفياء، ويكون ظلال كما ترى الشجر المتداخل تتفيأ الظلال ذات اليمين وذات الشمال، وعبر عن الجانبين المقابلين باليمين والشمال، فقوله عن اليمين والشمائل، عن الجانب اليمين من ناحية الشرق، وعن الشمائل من جهة الغرب، وذلك بالنسبة للكعبة فما يكون على شرقيها يكون يمينا، وما يكون عن غربيها يكون شمالا، وعبر عن اليمين بالمفرد ويراد به الجمع؛ لأنه أفياء مختلفة تطول ابتداء وتقصر عند الظهيرة، ثم تكون الأفياء ناحية الغرب تبتدئ قصيرة من فيء الزوال ثم تكبر شيئا فشيئا حتى تستطيل طولا كثيرا.
وفى التعبير عن اليمين بالمفرد إشارة إلى نهايته، وإلى أنه لَا يرى إلا قصيرا
والتعبير بفيء ليضمنها معنى المجاوزة، أي إن تجاوز إلى اليمين أو تجاوز إلى الشمائل تكون أفياء، وقوله تعالى: (سُجَّدًا)، أي أن هذه الأفياء ساجدة خاضعة للَّه تعالى، تسبح بحمده كما يسبح الرعد بحمده، وقوله تعالى:
(دَاخِرُونَ)، أي صاغرون خاضعون، وجمعت جمع عقلاء، تنزيلا لها هذه المنزلة لخضوعها وتسبيحها بحمده سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير.
السجود هنا كالسجود في الآية السابقة الخضوع الكوني للَّه تعالى والتسبيح بحمده، ولكن لَا نفقه تسبيحهم، كما ذكر اللَّه تعالى في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥).
وذكر سبحانه ما في هذه الآية لعمومها ما في السماوات من كواكب ونجوم، وشمس وقمر وغير ذلك مما في السماوات ثم قال تعالى: (وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّة)، (من) هنا دالة على البيان، أي أن كل دواب الأرض خاضعة تسبح بحمده ولكن لَا تفقهون تسبيحهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى نوعين خاضعين ساجدين له، وهما الأجرام السماوية، وكل ما هو جسم يبدو لنا غير حي، ثم ذكر الأحياء وهي الدواب، ثم ذكر بعد ذلك قسما ثالثا، وهم الملائكة الأطهار والأرواح فقال: (وَالْمَلائِكَةُ وَهُم لا يَسْتَكْبِرُونَ) فالملائكة خاضعون للَّه لَا يعصون اللَّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، أو وصفهم اللَّه تعالى بأنهم لَا يستكبرون، أي أنهم ليسوا كإبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، وكما قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ...).
وقوله تعالى: (مِّن فَوْقِهِمْ)، قيل معناها يخافون ربهم أن يرسل عذابا من فوقهم، أو يخافونه، وهو فوقهم بالقهر، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ...)، ونحن نرى أن الفوقية هنا فوقيتهم هم، لَا فوقية اللَّه، واللَّه تعالى فوق كل شيء، ومعنى فوقيتهم علوهم في الخلق والتكوين، وكونهم أرواحا طاهرة، وإنهم مع هذه الفوقية يخافون اللَّه تعالى، فكلما علوا في الروحانية كان خوفهم بمقدار علوهم، وبذلك يستقيم الكلام من غير تقدير (يرسل) أو نحو ذلك، ويكون متفقا على ما ختمت به الآية السابقة في قوله تعالى عنهم: (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
وقد أكد سبحانه وتعالى نفي استكبارهم، وخضوعهم، وخوفهم من ربهم الذي خلقهم بقوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرونَ) وفيه إشارة إلى إبليس الذي استكبر، ولم يفعل ما أمره به ربه.
* * *
الله يأمر بالوحدانية
قال اللَّه تعالى:
(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
* * *
بعد ذلك بين أنه سبحانه واحد أحد، وهو إله وحده فقال:
هذه الجملة السامية متصلة بما قبلها بالواو العاطفة، والواو العاطفة على (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...)، أي اللَّه الذي يخضع الوجود كله له لَا فرق بين حي وجماد، ولا عاقل ولا غير عاقل، يقول لكم: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) وذكر (اثنين) مؤكدا معنى العدد المفهوم من المثنى؛ لأن المثنى في ذاته يدل على المثنوية، وكان التأكيد باثنين لأنه موضع النهي، إذ إن موضع النهي هو أن يكون إلهان اثنان، وذكر النهي عن اثنين، لأنه يتضمن النهي عن ثلاثة وأكثر؛ لأنه إذا كان الأقل منهيا عنه، فالأكثر أولى بالنهي؛ ولأن اتخاذ إلهين دلت الآية الأخرى على أنه يؤدي إلى الفساد في السماوات والأرض، إذ إن تعدد الآلهة يلغي معنى الألوهية ويفسد السماوات والأرض التي دلت الآيات المتلوة والآيات الكونية على أنهما منظمان أبلغ ما يكون النظام، قال اللَّه تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، وإن قياس البرهان على بطلان الشرك المبني على التنازع يفرض إلهين، فيقول لو كان إلهان لتنازعا، ولرجح أحدهما على الآخر على فرض التساوي بينهما، وإذا تنازعا مع هذا التساوي فسد الكون، وإذا لم يفرض على التساوي، كان المتفاضل منهما هو الإله.
ونقول: إن ذكر الإلهين الاثنين فيه إيماء إلى هذا الدليل العقلي، واللَّه
بعد ذلك التفت عن الخطاب إلى ضمير المتكلم. فقال: (فَإِيايَ فَارْهَبُونِ) الفاء الأولى للإفصاح والمعنى: إذا كان الإله واحدا، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) والفاء الثانية لربط الكلام، والمعنى إياي أنا وحدي فارهبون؛ لأنه لَا إله إلا أنا، وقد انتقل سبحانه من مقام التنبيه والتعليل بذكر أدلة الوحدانية في خلق السماوات والأرض والتوجيه، والبرهان إلى التخويف ومن لم يقنعه الخوف والإرهاب. وقد قال سبحانه وتعالى: إنه له الطاعة، والجزاء عليها والعبادة، والخضوع والعبودية وحده فقال تعالى:
سيق هذا الكلام الحكيم في سياق بياني، قد يؤخذ منه شكل منطقي، فقد قدم سبحانه وتعالى كلامه السامي، بقوله: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي له السماوات والأرض، وما فيها من أحياء وأجرام، وعقلاء وغير عقلاء، وإذا كان مالكا للوجود كله وهو وحده المتصرف بمقتضى الاختصاص الثابت بالملكية، فله العبادة وحده، وله الطاعة وحده، وهو الذي يملك الجزاء وحده؛ ولذلك قال بعد ذلك ما هو كالنتيجة لهاتين المقدمتين: (وَلَهُ الدِّين وَاصِبًا) الدِّين يطلق ويراد منه العبادة وقد يراد منه الطاعة، وكلمة (واصب) قد يراد بها الدائم، وقد يراد المفروض، وقد يراد ما فيه مشقة محتملة، وهذه المعاني تراد جميعها من هذه الآية الكاملة، فله وحده العبادة، وله وحده الطاعة، وله وحده الجزاء، فهو الذي يجزي كلا بما يستحق، وهو الذي اختص باللَّه وحده دائم، ومفروض، ومنه تكليف للنفس بما يوجب الصبر، والمجاهدة.
وقد ختم اللَّه تعالى الآية من الإخبار إلى الخطاب فقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)، الفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ذلك أنه يترتب على
بعد ذلك أخذ سبحانه وهو المنعم بالوجود يبين بعض نعمه على الناس، فقال تعالت كلماته:
الكلام موصول لبيان نعم الله تعالى، وقد ذكر أولا نعم اللَّه تعالى على الوجود الكوني كله بخلق السماوات والأرض ومن فيهن من أجرام وأحياء، وعقلاء وغير عقلاء، ثم يذكر في هذه نعمه على الإنسان خاصة، فيقول مخاطبا الناس، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ) (ما) اسم موصول بمعنى الذي، وهو يكون أحيانا في معنى الشرط، ولذا تدخل الفاء فيما بعده على أنه جواب الشرط الذي تضمنه الموصول، والمعنى على ذلك: الذي بكم من نعمة في الصحة والعقل والغذاء والكساء والمأوى، والماء الذي تشربون، والدفء الذي به تستدفئون، كل هذا وغيره مما غمركم به من نعم سابغات فمن الله تعالى المنعم المتفضل على غيره، (... وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا...).
وهو مع هذه النعم السابقة كاشف الضر، ورافع الأذى، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) أتى بـ (ثم)، هنا للتباعد بين حال النعمة وحال الضر، أي أنه منزل النعم، وكاشف النقم، والضر هو ما يصيب الإنسان من ضرر في جسمه بمرض، أو يصيبه من تعرض للغرق أو الحرق، وهكذا من أسباب الضرر، ومسكم: أصابكم أو نزل بكم فإليه وحده تضَّرعون، ولذا قال: (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)، يقال جأر يجأر جؤارا، أي تضرع ولجأ، وصاح لاجئًا إلى اللَّه تعالى، ولفظ جأر تدل الالتجاء إلى اللَّه تعالى لفزع وهلع، فإن كان الذي مسه مرضا جهش ودعا، وإذا كان الذي مسه ضررًا كان التجاؤه بصياح كخوار البقر.
وإذا كان يقتضي عبادة اللَّه وحده في السراء، ولكن إذا كشف الضر كان من الناس من يشرك بربه، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ) هنا على موضعها اللغوي من التباعد بين ما قبلها وما بعدها؛ إذ إن ذلك كان يقتضي الإيمان، ولا يقتضي الكفر، لقد جاروا إلى اللَّه وحده، ولم يلتجئوا إلى غيره، ولكنهم بعد أن زالت كربتهم، وكشفت غمتهم أشركوا بربهم؛ ولذا قال: (إِذَا فَرِيقٌ منكُم بِرَبِّهِمْ يشْرِكونَ).
هذه (إذا) التي تسمى الفجائية، وهي التي يكون ما قبلها يدل على عدم توقع ما يجيء بعدها، إذ إن كشف الضر يوجب شكر المنعم والتضرع له وإفراده بالعبودية، فإذا كان الإشراك كاذا على مقتضى ما يتوقع، لقد ضرعوا إليه وحده في شدتهم، وفي رخائهم كفروا به وأشركوا مع غيره من أحجار أو ما يشبه الأحجار.
وعدل اللَّه في حكمه أن جعل ذلك الكفر بالنعمة في بعض منهم، وليس في كلهم، وهم أولئك المشركون بمحمد، وقد أشار إلى أن هؤلاء ليسوا بكثرة الناس، ولكن دون الكثرة.
اللام هنا لام الأمر، كاللام في قوله تعالى: (... لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ...)، والأمر هنا معناه التهديد، ووصف أفعالهم بأنها سيئة، ومن أشرك بربه بعد نعمته التي أنعمها عليه بأن يؤمر بالسير في غيه، وهذا كقوله - ﷺ - " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (١)، فالأمر ليس للطلب، ولكن لبيان أنهم
________
(١) سبق تخريجه.
أو نقول: اللام للعاقبة، ويكون المعنى لتكون العاقبة بأنهم كفروا بما آتيناهم من حق، وكتاب مبارك لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كانوا على ذلك النحو من الفساد والضلال النفسي فجدير أن يتمتعوا كما تتمتع البهائم من غير تفكر ولا تدبر؛ ولذا (فَتَمَتَّعُوا) (الفاء) للإفصاح إذا كنتم على هذا الضلال وكفران النعمة، والإشراك بربكم (فَتَمَتَّعُوا) والأمر للتهديد، وقوله تعالى: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فيها بيان لما يستقبلهم، وسوف لتأكيد الفعل في المستقبل، أي إذا كنتم في حاضركم متمتعين بما تملكون من متع، فمستقبلكم المغيب عنكم ستعلمونه علم معاينة وهو عذاب شديد، فقوله تعالى: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يتضمن تهديدا بعذاب مهين.
وقد بين سبحانه نوعا من الاسترسال في عبادتهم الأوثان، وهو أن يجعلوا مما رزقهم الله تعالى من بهائم الأنعام نصيبا، فقال تعالى:
وذلك أن هؤلاء المشركين يسترسلون في شركهم، فيحسبون أن من القربى للأوثان أن ينذروا لهم نذورا من الأنعام والحرث، فيجعلون هذا بزعمهم للَّه وللأوثان بزعمهم، ويخافون الأوثان أكثر من خوفهم من اللَّه مع علمهم بأنه لا ينجيهم من كربهم إلا اللَّه تعالى، على ما تبين من قول، وقد قال تعالى في ذلك فى سورة الأنعام: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦).
ويصح أن يعود الضمير إليهم كالضمير في (وَيَجْعَلُونَ) والمعنى على هذا يكون: ويجعلون لما لَا يعلمون له حقيقة تسوغ لهم أن يعبدوها، إنما هو وهم قد سيطر عليهم من غير حقيقة ثابتة يعلمونها، أو هي صالحة لأن يعلموها إذ هو لا وجود له إلا على أنه حجر لَا يضر ولا ينفع، والخيال الناشئ هو الذي جعل لهم ذلك التصور الباطل.
وإن ذلك أعظم الافتراء على اللَّه وعلى الحقيقة، ولذا قال تعالى مؤكدا القول بالقسم بذاته العلية: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كنتُمْ تَفْتَرُونَ) وهذا تهديد شديد، قد أكده سبحانه بالقسم بذاته العلية وبتلك الصيغة القوية، وهي القسم بالتاء، وباللام، وبنون التوكيد الثقيلة، وأنهم مسئولون عن هذا الافتراء.
وسمى اللَّه سبحانه وتعالى ذلك افتراء وكذبا مقصودا؛ إذ أشركوا، وكذبوا على اللَّه وعلى أنفسهم، وضلوا إذ نذروا لما لَا يعلمون له حقيقة، وضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
* * *
ظلم البنات
قال تعالى:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
* * *
إن الأوهام إذا كانت هي مصدر علم طائفة من الناس فلا تعجب، والأمثال على ذلك واقعة بين أيدينا في هذا الزمان ومن شأن من تحكمه الأوهام أن يتخيل ثم يظن ثم يتوهم ثم يعتقد، كان العرب يعرفون الملائكة، ويعرفون اللَّه وإنه خالق كل شيء، وأنه المستغاث لكل مستغيث، وأنه الملجا في الشديد ولكن خلطوا بذلك أوهاما كثيرة أفسدت تفكيرهم، فأشركوا الأوثان مع اللَّه تعالى، ومن ذلك أنهم توهموا أن الملائكة إناث لَا ذكور، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات اللَّه تعالى، ثم ذهب بهم فرط أوهامهم إلى أن كان منهم من عبدها؛ ولذا قال تعالى:
ويقول
هكذا تدرج بهم الوهم من زعم أن للَّه ولدا، وإن هذا الولد من الإناث اللائي لَا يرغبن فيهن، ثم استرسل بهم الوهم حتى كان منهم من عبد الملائكة، وهم طائفة من الصابئة كانت تعبد الأرواح.
وإن رغبتهم في الذكور ورغبتهم عن الإناث تدفعهم إلى أن تسود وجوههم عند ولادة الأنثى؛ ولذا قال تعالى:
التبشير معناه الإخبار بالأمر السار، أي بالبشارة، وعبر اللَّه تعالى عن ولادة البنت بالتبشير؛ لأنها بشرى بسلامة الأم ولأنها في ذاتها رزق من اللَّه تعالى، ولأنها قلب يكون له فضل حنان وشفقة لذا كان التعبير بـ (بُشِّرَ)، وقد كان يجب أن يُسرَّ لهذه المعاني الكريمة السامية، ولكنه بدل أن يستبشر، بهذه النعمة التي أنعم اللَّه تعالى بها، وهذا الرزق الذي ساقه اللَّه تعالى يكتئب ويحزن؛ ولذا قال تعالى في جواب الفعل الذي هو البشرى: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ)، أي صار ودام وجهه مسودا، وذلك كناية عن الحزن والكمد والغيظ، فكان حال الوجه المكفهر تشبه بحال الوجه الأسود، للقتامة، فالبؤس يوجد سوادا في القلب.
وقال: (وَهُوَ كَظِيمٌ)، أي وهو ممتلئ غيظا، وحزنا وغما، و (كَظِيمٌ) مأخوذ من الكظامة، وهو شد فم القربة، والمهموم الحزين ينطبق فاه فلا يتكلم كمدا، والمشابه حاله بحال الكظامة التي تشد بها القربة، ولكن القربة تسد على الماء وقد يكون قراحا، أما هذا فيشد فمه على أقراح الهم والغم والحزن.
لَا يلقاهم خزيا وعارًا من سوء ما بشر به، وهنا جمع سبحانه بين السوء والبشرى، فسماه سوءًا بالنسبة له ولقومه، وسميت بشرى بشر بها في حقيقتها، لأنها نعمة، والإخبار بالنعمة بشرى.
وتحدثه نفسه في هذه النكبة في زعمه الفاسد، وإدراكه الباطل (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ)، والضمير في (أَيُمْسِكُهُ) يعود على لفظ (مَا بُشِّرَ بِهِ)، فهو يعود
على (ما)، ولذا ذُكِّر الضمير، وإن كان موضوع (ما) هو الأنثى، (عَلَى هُون)، أي على ذل وهوان كهذا المبشر به، والهوان في لغة قريش، وعذاب الهون هو عذاب الهوان والذل، (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)، أي يدفنه فيه، وعبر سبحانه بـ (يَدُسُّهُ)، بدل يدفن، لأن الدفن يكون للميت، وهذه على قيد الحياة وهي الموءودة، وكان يفعل ذلك قبائل من مضر ومن كندة وخزاعة وهي غلظة في الأكباد، وحمق في العقول وضلال في الفكر، وكان بجوار هؤلاء الحمقى القساة، فضلاء عقلاء رفقاء، فكانوا إذا علموا برجل يريد أن يوئد ابنته فدوها بالإبل، وقد قالوا: إن صعصعة بن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها، وقد قال الفرزدق مفتخرا بعمَه هذا.
وعمِّى الذي منع الوائدات... وأحيا الوئيد فلم يوده
وإن امتهان المرأة ذلك الامتهان لم يكن عند العرب وحدهم، بل كان عند الفرس، وكان عند الرومان، ولم يكن في القانون الروماني أي حماية للمرأة، بل كانت تعد المرأة أمة في بيت أبيها، لو قتلها لَا يسأل لم قتلها، وإذا انتقلت إلى بيت زوجها كانت أمة أيضا، ولو قتلها لَا دية لها، ولا ملام، وقال تعالى: (أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ألا للتنبيه وساء في فعل التعجب فالمعنى ما أسوأ ما يحكمون لأنه سخط وظلم وفساد في التفكير.
وإن سبب ذلك الانحدار في التفكير بالنسبة للأنثى هو الكفر باليوم الآخر، ولذا قال تعالى:
إن الإيمان بالآخرة إيمانا صادقا مذعنا يلقي في النفس الاطمئنان على المستقبل، فلا يكون في لهج وهلع من الناحية المالية؛ لأنه يعرف أن هناك يوما آخر، يعطي فيه من حرم من ملاذ الدنيا وشهواتها، ولا يكون حريصا شحيحا، ولا يكون خائفا من فقر ينزل به ما دام عاملا، وإن أصابه فقر فإلى ميسرة، وأما من لَا يؤمن بالآخرة فإنه في فزع، وخوف وتقتير، ويظن الظنون في قابله غير معتمد على اللَّه تعالى، فهو في الولد، يخشى الفقر فيئد البنت ويفرح بالولد؛ لأنه يكفيه عيشه، والبنت يخشى عليها القهر والذل، وفوات الكفء وغير ذلك.
ولذا قال تعالى في حال البشرى بالبنت، وخشية الفقر والعار والقهر لها مشيرا إلى أن سبب ذلك هو عدم الإيمان بالآخرة، فقال تعالى: (لِلَّذِين لَا يُؤْمِنونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ)، أي حال السوء دائما يخشون الفقر والقهر، والجوع كمثل الذين يحددون نسلهم الآن خشية الجوع، واللَّه تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ...)، فمن لَا يؤمن بالآخرة تكون حاله حال سَوْء وخوف، وهمٍّ دائم، وفي مقابل ذلك من يؤمن بالآخرة، فإنه مطمئن إلى ربه، طالبًا رضاءه يفوض أموره للَّه، وهو العزيز الحكيم، ولذا قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وللَّه الحال العليا التي لَا سَوْء
وختم سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، أي وهو الغالب الحكيم الذي قدر كل شيء تقديرا (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا...).
وإن اللَّه تعالى يعلم ظلم الناس وظلمهم للنساء؛ ولذا قال تعالت كلماته:
إن اللَّه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو القادر على كل شيء وهو العليم بما يفعله الناس، ولكنه لَا يؤاخذ الناس على ظلمهم، وقت نزول الظلم، بل يؤخرهم، ولذا قال تعالى:
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ).
(لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع عذاب اللَّه تعالى لأنه سبحانه لَا يؤاخذ الناس بظلمهم، وإن الناس منهم من يشركون باللَّه، وإن الشرك لظلم عظيم ومنهم من يقترف الآثام المخزية المفسدة للجماعات، ومنهم من يعتدي، ولا يعد القوي قويا إلا إذا اعتدى كما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلْمَى.
والظلم من شيم النفوس | فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم |