تفسير سورة النحل

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه

تفسير سورة سورة النحل من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾:
من تأَوَّل (أن) السَّكَرَ في الآية: خمورُ الأعاجم، قال: هو منسوخبتحريم الخمر في المائدة وغيرها.
وقيل: إن هذا لم يُنْسَخ لأن الله لم يأمرنا باتخاذ ذلك ولا أباحه لنافي هذه الآية، إنما أخبرنا بما كانوا يصنعون من النخيل من السَّكَر الذيحرَّمه الله (في المائدة).
وقيل: إن هذا الخبرَ وشبهه جائزٌ نسخه، والأخبار على ضربين:
- ضربٌ يُخْبِرُنا الله به عن شيءٍ أنه كان أو أنه يكون، وهذا لا يجوزنسخُه (وكذلك إذا أخبرنا عن شيءٍ) بأن يخبرنا الله أنه ما كان أو أنه لايكون - تعالى الله عن ذلك.
- والضَّرْبُ الثاني من الخبر هو الذي يجوز نسخُه: وهو أن يخبرناأن قوماً فعلوا شيئاً، أو استباحوا أَمراً، وتمتعوا به، ولم يُحَرِّم ذلك عليهم، ثم يخبرُنا الله أنه محرَّمٌ علينا، فينسخُ ما أخبرنا به أنه كانمباحاً لمن كان قبلنا، فهذا نسخ المسكوت عنه من فهم الخطاب لأنه قد فُهِم من قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً﴾ أنه كان مباحاً لهم، فسكت عنحكمنا فيه، فجاز أن يكونَ (مباحاً) لنا أيضاً، ثم نَسَخَ جوازَ إباحته لنابالتحريم في المائدة، ولو أخبرنا في موضعٍ آخر أنهم (لم) يتخذوا منهسَكَراً لكان هذا نسخَ الخبر، وهذا لا يجوز على الله - جلَّ ذكره - لأنه تعالى لا يخبر بالأخبار إلا على حقيقتها.
ومن قال: إن السَّكَر: الطعم، وهو (قول) أبي عبيدة، أو قالالسَّكَر: ما سدَّ الجوع، فلا يجوز فيه نسخٌ على هذا.

﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ الآية:
أَمر اللهُ عبادَه في هذه الآية أن لا يحنثوا في يمين أَكَّدوها بالْحَلْف، وكان هذا قبلَ نزول الكفَّارة في المائدة في اليمين، وقبلَ نزول قوله:﴿ولاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنكُمْ﴾ - الآية - في حَلْفِ أَبي بكر - رضي الله عنه -أَلاَّ يُنيلَ مسطحاً شيئاً أبداً لما نالَ (من) عائشةَ - رضي الله عنها - في أمرالإِفك.
فنسخَ اللهُ (ذلك و) منع نقضَ الأَيْمان بالكفَّارة المذكورة في المائدة، (وبما) أَمَر به أَبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه في قوله: ﴿ولاَيأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنكُمْ﴾ [النور: ٢٢]، وبقوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَِيْمَانِكُمْأَن تَبَرُّوا﴾ [البقرة: ٢٢٤] - الآية -، والنَّحْل مَكِّيَة، والمائدة والبقرة والنور مدنيات، فَحَسُنَ نَسْخُ المدني للمَكِّي.
وكان أبو بكر إذا حلف أَحبَّ أَلاَّ يحنث، فَحَنَث أَبو بكرٍ وكفَّر (عنيمينه) وَرَجَعَ إلى مسطح ما كان يُعْطيه، وقال: لا أقطعه عنه أبداً.
فذلك كُلُّه ناسخٌ لقوله: ﴿وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ﴾، لأن الكفارة عن اليمينهي نقضُ اليمين وارتكابُ ما حَلَف عليه وأَكَّد، نَسَخَ ذلك أَيضاً قولُه - صلى الله عليه وسلم - "مَن حَلَف على يمين فرأى (غيرَها) خيراً منها فليأتِ الذي هو خير منها، وليُكَفِّرْ عن يمينه" - وهو حديث صحيح قد تواترت بهالأخبار بمعنى (واحد) وإن اختلفت الألفاظ -.
وقيل: إن الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخة يُراد بها العهود والحِلْف التيكانت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين العرب، (وبين بعض العرب وبعض)(أمروا) أَلاَّ ينقضوا عهودهم بعد أن عقدوها وأكَّدوها بالْحَلْف - وعلىهذا أكثر الناس في الآية -.

﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿مَن كَفَر باللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّبالإِيمانِ، وَلكِن مَن شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْراً﴾ الآية:
قال ابنُ حبيب: هذا منسوخٌ بقولِه: ﴿ثُمَّ إِنَّ ربَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنبَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ [النحل: ١١٠].
قال أبو محمد: وهذا لم يقلْه أحد غيره، وهو غلط ظاهر، لأنَّنسخَ هذا بأن يجازوا بغير ما أخبرنا الله به من مجازاتهم، وذلك لا يجوز على الله - جلّ ذكره -. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ [النحل: ١١٠]: نزل في صِنْفٍ آخر غيرِ الصِّنْفِ الأَوَّل، وهم قوم أسلموا فَفُتِنواعن دينهم ومُنِعوا من الهجرة، فأخبرنا اللهُ أنهم إذا هاجروا وجاهدواوصبروا، فإنَّه لَهم غفور رحيم. وقد قُرِىءَ: فَتَنوا - بالفتح - على معنىأنهم فتنوا غيرَهم عن دينهم. ﴿والله غفور رحيم﴾ لهم إذا أسلموا وهاجروا، وجاهدوا. الآية الأولى نزلت في قوم أُكْرِهوا على الكفر، وفي قوم شرحوا صدورَهم بالكفر، وفي قوم كفروا بعد إيمانهم، وهذا كُلُّه في أصنافٍ مختلفةٍيختلف الحكمُ فيهم وفي مجازاتهم، فلا يَنْسَخُ شيءٌ منه شيئاً.
وأيضاً فإنه خبر، والخبر لا يُنْسَخ، لأنه يصير المنسوخُ أخبر به علىغير ما هو عليه - ويتعالى الله عن ذلك - وأخبار الله - جلّ ذكره -كُلُّها جاريةٌ على حقيقة ما هي به لا يجوز فيها غير ذلك.
وإذا كانت كذلك لم يَجُزْ نسخُها إلا بشيءٍ على خلاف ما هو به، وهذا كُلُّه لا يجوز ولا يَحْسُن من الآدميين، فكيف من علاّم الغيوب!- تعالى الله عن ذلك -.

﴿ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بالّتِي هِيَ أَحْسَن﴾:
قيل: إن هذا منسوخ بالأمر بالقتال.
وقيل: هو مُحكم. والمجادلة بالتي هي أحسن: الانتهاء إلى ما أمر الله به، والكفّ عمّا نهى الله عنه. وهذا لا يجوز نسخه. فالآية محكمة.

سورة النحل
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النَّحْلِ) مِن السُّوَر المكية التي بيَّنتْ عظمةَ الله عز وجل وقُدْرتَه في هذا الكون، وقد جاءت بأدلةٍ وإثباتات على وَحْدانية الله عز وجل، لا سيما بديع صُنْعِه في خَلْقِه؛ ومن ذلك: إيحاؤه للنَّحْلِ أن تصنعَ بيوتها بهذه الكيفية وهذه الطريقة، وكذا ما أودَعه اللهُ عز وجل في هذا المخلوقِ من أسرارٍ وعجائبَ تدلُّ على قدرته تعالى، وتفرُّدِه في الألوهية، وقد جاءت السورةُ على ذِكْرِ مشاهدِ يوم القيامة، وما يَتبَع ذلك اليومَ من أهوالٍ.

ترتيبها المصحفي
16
نوعها
مكية
ألفاظها
1845
ترتيب نزولها
70
العد المدني الأول
128
العد المدني الأخير
128
العد البصري
128
العد الكوفي
128
العد الشامي
128

* قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، أُصِيبَ مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رجُلًا، ومِن المهاجِرِين سِتَّةٌ؛ منهم حَمْزةُ، فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منهم يومًا مِثْلَ هذا، لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قال: فلمَّا كان يومُ فَتْحِ مكَّةَ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]، فقال رجُلٌ: لا قُرَيشَ بعد اليومِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كُفُّوا عن القومِ إلا أربعةً»». سنن الترمذي (٣١٢٩).

سورةُ (النَّحْلِ):

سُمِّيتْ سورةُ (النَّحْلِ) بذلك؛ لذِكْرِ النَّحْلِ فيها، ولم يُذكَرْ في سورةٍ أخرى غيرِها.

اشتمَلتِ السورةُ على عدَّة موضوعات؛ بيانها كالآتي:

1. إثبات وَحْدانية الله تعالى (١-٢).

2. أدلة على وحدانيته تعالى (٣-١٦).

3. اللهُ الخالق المنعم القادر، وعَجْزُ المعبودين غيرِه (١٧- ٢١).

4. ذمُّ المتكبِّرين، ومدحُ المتقين (٢٢-٣٥).

5. عاقبة المكذِّبين بالرُّسل واليوم الآخر، وجزاء المؤمنين (٣٦- ٥٠).

6. أدلةٌ أخرى على توحيد الألوهية (٥١- ٦٤).

7. تتمة نِعَم الله الدالة على التوحيد، يَتخلَّلها ضربُ الأمثلة (٦٦-٨٣).

8. من مشاهدِ يوم القيامة (٨٤- ٨٩).

9. توجيهات حول مكارمِ الأخلاق (٩٠- ٩٧).

10. التأدُّب بآداب القرآن، وردُّ الافتراءات (٩٨- ١١١).

11. ضربُ الأمثلة (١١٢- ١١٩).

12. أهمية الدعوة، وأساليبها (١٢٠- ١٢٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /131).

دلَّ اسمُ السورة على مقصودِها؛ وهو - كما ذكَره البقاعيُّ -: "الدَّلالة على أنَّه تعالى تامُّ القدرة والعلم، فاعلٌ بالاختيار، مُنزَّه عن شوائبِ النَّقص، وأدلُّ ما فيها على هذا المعنى: أمرُ النَّحْلِ؛ لِما ذُكِر من شأنها في دقةِ الفهم؛ في ترتيبِ بيوتها على شكل التَّسديسِ ترتيبًا لا يصل إليه أكابرُ المهندسين إلا بعد تكامُلٍ كبير، وقانونٍ يَقِيسون به ذلك التَّقدير، وذلك على وجهٍ هو أنفَعُ الوجوه لها، وفي رَعْيِها، وسائر أمرها؛ من اختلافِ ألوان ما يخرُجُ منها مِن أعسالها وشموعها، وجَعْلِ الشَّمْعِ نورًا وضياءً، والعسلِ بركةً وشفاءً، مع أَكْلِها من كلِّ الثمار، النافعِ منها والضارِّ، وغير ذلك من الأسرار". "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /213-214).