تفسير سورة الفتح

جامع البيان في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الفتح مدنية
وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ الفتح : صلح الحديبية١، وما فتح الله تعالى على باطنه الأشرف، وروى محيي السنة أنه لما نزل قال عمر- رضي الله عنه- أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال :" نعم، والذي نفسي بيده " ٢ وهو صلح بسببه خير الدنيا والآخرة فيه بيعة الرضوان، وظهور الإسلام، وانتشار العلم، وهو سبب لفتح مكة نزلت في طريق الرجوع إلى المدينة،
١ وعن الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين، فسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام في قلوبهم، ومن هنا استقبل فتح خيبر لم يفتحها إلا أهل الحديبية لم يشاركهم أحد من المخلفين عنها، وهو خير الدنيا والآخرة فيه بيعة الرضوان وظهور الإسلام وانتشار العلم وهو سبب فتح مكة/١٢ وجيز..
٢ أخرجه أحمد(٣/٤٢٠) وغيره..
﴿ ليغفر لك الله ﴾ : لما كان ذلك الفتح متضمنا لأمور عظيمة القدر عند الله تعالى كان سببا للغفران، فجمع له عز الدارين، ﴿ ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ : من يجوز الصغائر على الأنبياء فمعناه ظاهر، وإلا فجميع ما فرط منك، ويفرط وسماه ذنبا تغليظا، وعن بعض ما تقدم في الجاهلية، وما تأخر مما لم يعمله كما تقول مبالغة : ضرب من لقيه ولم يلقه، وعن بعض ما تقدم أي : ذنوب أبويك آدم وحواء وما تأخر ذنوب أمتك بدعوتك، ﴿ ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ﴾ : يثبتك عليه، أو في تبليغ الرسالة،
﴿ وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾ : فيه عز،
﴿ هو الذي أنزل السكينة ﴾ : الطمأنينة والوقار، ﴿ في قلوب المؤمنين ﴾ : كما أنزل على الصحابة يوم الحديبية، واطمأنت قلوبهم بالصلح فانقادوا لله تعالى، ﴿ ليزدادوا إيمانا بعد إيمانهم ﴾ : يقينا مع يقينهم، وإيمانا بما أمر النبي- عليه السلام- ورآه من المصلحة مقرونا مع إيمانهم بالله ورسوله، ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ : هو المدبر والمتصرف فيهم، ﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ : فما أمر رسوله من الصلح لمصلحة وحكمة،
﴿ ليدخل١ المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾، في الصحيحين " لما نزل " " ليغفر لك الله " إلخ قالوا : هنيئا مريئا بين الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت إلى قوله تعالى :" فوزا عظيما " فعلى هذا الظاهر أنه أيضا علة " لإنا فتحنا "، أو لجميع ما ذكر، وقيل : لما دل عليه ﴿ ولله جنود السموات والأرض ﴾ من معنى التدبير أي : دبر ما دبر وسكن قلوبهم ليعرفوا نعمه ويشكروها، فيدخلوا الجنة، ويعذب المنافقين والكافرين لما غاظهم من ذلك وكرهوا، ﴿ ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ﴾، و " عند " حال من الفوز مقدم،
١ قوله:﴿ليدخل﴾ اللام متعلق بما دل عليه الكلام، فإنه لما قال:﴿ولله جنود السماوات والأرض﴾ كان فيه دليل على أنه يبتلى بتلك الجنود من شاء، فإن الجند لا يكون إلا لنصرة الموافقين على المخالفين، فكأنه قال ابتلى ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ ويعذب ﴾، عطف على يدخل، ﴿ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن١ السوء ﴾ : يظنون أن لن ينصر الموحدين أي : ظن الشيء السوء، ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ أي : عليهم خاصة ما يظنونه بالمؤمنين يحيط بهم إحاطة الدائرة بما فيها، والإضافة بمعنى من، ﴿ وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ﴾ : جهنم،
١ قال الإمام المقريزي في كتاب"تجريد التوحيد" بعد ذكر إساءة ظن المشركين برب العالمين قال: وبالجملة فأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، ولهذا يتوعدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد كما قال تعالى: ﴿الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا﴾ وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين﴾[الصفات: ٨٦-٨٧] أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره، وظننتم أنه يحتاج في الإطلاع على ضرورات عباده لمن يكون بابا للحوائج إليه ونحو ذلك، وهذا بخلاف الملوك فإنهم محتاجون إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطرين فأما من لا يشغله سمع عن سمع، وسبقت رحمته غضبه، وكتب على نفسه الرحمة فما تصنع الوسائط عنده، فمن اتخذ واسطة بينه وبين الله تعالى فقد ظن به أقبح الظن، ومستحيل أن يشرعه لعباده؛ بل ذلك ممتنع في العقول، والفطر.
واعلم أن الخضوع والتأله الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيح في نفسه كما قررناه لا سيما إذا كان المجعول له ذلك عبدا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب مملوكا له كما قال تعالى:﴿ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم﴾أي: إذا كان أحدهم يأنف أن يكون ملوكه شريكه في رزقه، فكيف تجعلون لي من عبيدي شريك فيما أنا منفرد به، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسوائي فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق تعظيمي إلى أن قال: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال، والبدع وجدت أضل ضلالهم راجعا إلى شيئين أحدهما: ظنهم بالله ظن السوء، والثاني: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره انتهى مختصرا، ومن شاء الإطلاع على تفاصيل ظن السوء وأصناف المسيئين الظن بالله فليرجع إلى كتاب الإمام شمس الدين ابن القيم زاد المعاد في هدى خير العباد في فضل غزوة أحد تحت قوله تعالى:﴿وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية﴾[آل عمران: ١٥٤] وقد مر بعض ذلك في سورة الأحزاب تحت قوله:﴿وتظنون بالله الظنون﴾[الأحزاب: ١٠] فتذكر/١٢..

﴿ ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما١ : فلا أحد يمنعه من الانتقام الذي فيه الحكم،
١ ولما قال:﴿إنا فتحنا لك﴾ وبين أمة الإجابة ومدحهم، وأمة الدعوة وذمهم ذكر إرساله إلى الجميع فقال:﴿إنا أرسلناك شاهدا﴾ الآية /١٢ وجيز..
﴿ إنا أرسلناك شاهدا ﴾ : على أمتك في القيامة، ﴿ ومبشرا ﴾ : للمؤمنين، ﴿ ونذيرا١ : للكافرين،
١ هذه الأحوال الثلاثة مقدر كما لا يخفى/١٢ منه..
﴿ لتؤمنوا بالله ورسوله ﴾، الضمير للأمة على أن جعل خطابه في " إنا أرسلناك " منزلا منزلة خطابهم، ﴿ وتعزروه ﴾ : تعظموه، ﴿ وتوقروه ﴾ : تجلوه، ﴿ وتسبحوه بكرة وأصيلا ﴾ : تنزهوه غدوة وعشيا،
﴿ إن الذين يبايعونك١ : في الحديبية، وهي بيعة الرضوان، ﴿ إنما يبايعون الله ﴾، نحو ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع٢ الله ﴾[ النساء : ٨٠ ] ﴿ يد الله فوق أيديهم٣ استئناف مؤكد له على سبيل التخييل يعني : يد رسوله يده، وعن بعض : نعمة الله تعالى عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة، أو كناية عن أن كمال القدرة والقوة لله تعالى فيكون مقدمة لقوله :﴿ فمن نكث ﴾ : نقض العهد، ﴿ فإنما ينكث على نفسه ﴾ : عليه وباله، ﴿ ومن أوفى بما عاهد عليه٤ الله فسيؤتيه أجرا عظيما ﴾.
١ أرسل- عليه الصلاة والسلام- عثمان بن عفان إلى قريش يخبرهم أنهم جاءوا معتمرين لا محاربين، فأرادوا قتل عثمان فبايع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المؤمنون على الصبر إلى أقصى الجهد، ولذلك قالوا: بايعنا على الموت/١٢ وجيز..
٢ يعني: إن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما/١٢ منه..
٣ الأصوب عدم التأويل بأن يقال إنه تمثيل فلله سبحانه يد لائقة لذاته الأقدس/١٢ وجيز..
٤ وقراءة "عليه" [لأن تفخيم لفظ الجلالة يرتبط بالعهد، فيوقع في نفوسهم الخوف والرحبة من نقض ذلك العهد] بضم الهاء ليبقى تفخيم لفظ الله على حاله/١٢ وجيز..
﴿ سيقول لك المخلفون من الأعراب ﴾ : الذين وعدوا أن يرافقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة عام الحديبية فتثاقلوا وأخلفوا الوعد، ﴿ شغلتنا ﴾ : عن الوفاء بالوعد، ﴿ أموالنا وأهلونا ﴾ : إذ ليس لنا من يقوم بأمرهم إذا خرجنا، ﴿ فاستغفر لنا ﴾ : على التخلف، ﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ : تكذيب لهم من الله تعالى، ﴿ قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا ﴾ أي : لا أحد يدفع ضره ولا نفعه فليس الشغل بالأهل والمال عذرا، فلا ذاك يدفع الضر إن أرادوه، ولا ملاقاة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، واللام في لكم للبيان أو للصلة، ﴿ بل كان بما تعملون خبيرا ﴾ : فيعلم قصدكم في التخلف،
﴿ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ﴾ : قالوا : هم أكلة رأس لقريش١، فهم يستأصلونهم، ﴿ وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء ﴾ أي : إنهم أكلة رأس، ﴿ وكنتم قوما بورا٢ : هالكين عند الله تعالى أو فاسدين لسوء العقيدة،
١ أي: هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل/١٢ منه..
٢ الظاهر أنه مصدر كالهلك قيل: جمع بائر، كحائل وحول/١٢ وجيز..
﴿ ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين ﴾ أي : لهم، ﴿ سعيرا ﴾، التنكير للتهويل،
﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ : له الاختيار المطلق في الأشياء، ﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ : لا يجب عليه شيء، ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ : لمن تاب وآمن فالغفران من دأبه،
﴿ سيقول المخلفون ﴾ : المذكورون، ﴿ إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ﴾ أي : غنائم خيبر، ﴿ ذرونا نتبعكم١ : إلى خيبر، ﴿ يريدون أن يبدلوا كلام الله ﴾ : فإن الله تعال وعد أهل الحديبية أن ييسر لهم الخيبر، ويعوضهم من مكة مغانم خيبر لا شريك لهم فيها، ﴿ قل لن تتبعونا ﴾ : في خيبر، نفى بمعنى النهي، ﴿ كذلكم قال الله من قبل ﴾ أي : من قبل أن تسألوا الخروج معهم، فإنه حكم بأن تكون غنيمته لأهل الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب، ﴿ فسيقولون بل تحسدوننا ﴾ : في أن نصيب الغنائم، وليس أمرا من الله تعالى، ﴿ بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ﴾ : إلا فهما قليلا، وهو فهمهم لبعض أمر دنياهم، رد من الله تعالى لهم،
١ وأصل القصة أنه لما انصرف النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين إلى الحديبية في ذي الحجة من سنة ست أقام بالمدينة بقية وأوائل المحرم من سنة سبع، وعدهم الله فتح خيبر وخص لغنائمها من شهد الحديبية، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون: ذرونا نتبعكم/١٢ فتح..
﴿ قل للمخلفين١ من الأعراب ﴾، كرر تسميتهم بهذا الاسم للشناعة٢، ﴿ ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ﴾ : هوازن وثقيف، وذلك في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- أو بني حنيفة وأصحاب مسيلمة، وذلك في خلافة أبي بكر- رضي الله عنه- أو أهل فارس، وذلك في خلافة عمر- رضي الله عنه- ﴿ تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ أي : أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام جملة مستأنفة للتعليل والأصح أن لا تقبل الجزية من المشركين، وقيل الإسلام الانقياد، فيشمل الجزية، ﴿ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل ﴾ : عام الحديبية، ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾
١ ولما بين أنهم مطرودون لتخلفهم وقع في النفوس أن طردهم هل هو أبدى، فقال:﴿قل للمخلفين﴾ الآية/١٢ وجيز..
٢ ينادي بجهلهم ﴿الأعراب أشد كفرا﴾[التوبة: ٩٧] الآية/١٢ وجيز..
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج١ ولا على المريض حرج ﴾، لما أوعد على التخلف نفى الحرج عن هؤلاء، ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا٢ أليما ﴾.
١ وإن وجد المركب لقصوره في التردد، والسفر/١٢ وجيز..
٢ ولما وعد المطيع، وأوعد العاصي أعقب بيان ما للمطيع، فقال:﴿لقد رضي الله﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين١، وهم ألف وأربعمائة على الأصح، ﴿ إذ يبايعونك ﴾ : بالحديبية على أن يكونوا متفقين على قتال قريش، فإنهم هموا قتل عثمان- رضي الله عنه- وهو رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم ﴿ تحت الشجرة ﴾، أي : سمرة٢ ﴿ فعلم ما في قلوبهم ﴾ : من الإخلاص، ﴿ فأنزل السكينة ﴾ : الطمأنينة، ﴿ عليهم وأثابهم ﴾ : جازاهم، ﴿ فتحا قريبا ﴾، هو الصلح، وما هو سبب له من فتح خيبر ومكة ثم فتح سائر البلاد،
١ وكفاهم فخرا/١٢ وجيز..
٢ وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفروا وروى أنه بايعهم على الموت والسمرة من شجر الطلح، وجمهور المفسرين على أنه المراد بالطلح في القرآن الموز، وفي الصحيح عن ابن عمر أن الشجرة أخفيت، والحكمة في ذلك أن لا يحصل الافتتان بها لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها حتى ربما اعتقدوا أن لها قوة نفع أو ضر كما نشاهد الآن فيما دونها، ولذلك أشار ابن عمر بقوله: كان خفائها رحمة من الله كذا في الفتح، وشرح المواهب وعن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، فأمر بها فقطعت، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف/١٢ فتح البيان في مقاصد القرآن..
﴿ ومغانم كثيرة يأخذونها ﴾ : عقار خيبر وأموالها، ﴿ وكان الله عزيزا ﴾ غالبا، ﴿ حكيما ﴾ : مراعيا للحكمة،
﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ﴾، هي الفتوح إلى يوم القيامة ﴿ فعجل لكم هذه ﴾ : غنيمة خيبر، أو صلح الحديبية، ﴿ وكف أيدي الناس عنكم ﴾، هم لما خرجوا إلى خيبر همت اليهود أن يغيروا على عيال المسلمين بالمدينة، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، أو المراد أيدي قريش، لأجل صلح الحديبية، ﴿ ولتكون ﴾ : هذه الكفة وسلامة عيالكم والغنيمة المعجلة، ﴿ آية للمؤمنين ﴾ : على صدقك، عطف على محذوف أي : لتكون سببا للشكر، ولتكون آية، ﴿ ويهديكم صراطا مستقيما ﴾ : التوكل وتفويض الأمور إليه،
﴿ وأخرى ﴾، عطف على هذه، وهي مكة أو فارس والروم، أو خيبر، وهذا على قول من فسر " عجل لكم هذه " بصلح الحديبية، ﴿ لم تقدروا عليها ﴾ : لشوكتهم، ﴿ قد أحاط الله بها ﴾ : استولى، ففتحها لكم، وجاز أن يكون أخرى مبتدأ، ولم تقدروا صفتها، وقد أحاط خبرها، ﴿ وكان الله على كل شيء قديرا ﴾
﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا ﴾ : من أهل مكة عام الحديبية، ﴿ لولوا الأدبار ﴾ : لانهزموا، ﴿ ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ﴾ : يحرسهم وينصرهم،
﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ﴾ أي : سن الله تعالى سنة الأنبياء المتقدمين أن عاقبة أعدائهم الخزي والهزيمة، ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾
﴿ وهو الذي كف أيديهم ﴾ : كفار مكة، ﴿ عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم١ عليهم ﴾ : من الله تعالى بصلح الحديبية، وحفظ المسلمين على أيدي الكافرين، وعن القتال بمكة، وهتك حرمة مسجد الحرام، وأما ظفرهم على المشركين فهو أن سبعين أو ثمانين٢ أو ثلاثين رجلا متسلحين هبطوا من جبل التنعيم يريدون غرة النبي- عليه الصلاة والسلام- فدعا عليهم فأخذوا، وعفا عنهم٣ فأطلقوا، وأما ما ذكر أن ابن أبي جهل خرج في عسكر يوم الحديبية، فبعث خالد بن الوليد، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة، ففيه شيء، وكيف لا وخالد بن الوليد لم يكن أسلم ! ؛ بل كان طليعة للمشركين يومئذ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، ﴿ وكان الله بما تعملون بصيرا ﴾ : فيجازيكم،
١ وأما ما قيل المراد به فتح مكة، فهو ضعيف فإن السورة مدنية نزلت قبل الفتح، والحمل على أن الماضي أعني "كف" إلى آخره للتحقيق، وهو بمعنى المضارع، فيكون وعدا من الله، فبعيد جدا/١٢ وجيز..
٢ كما في مسلم والنسائي وغيرهما/١٢ وجيز..
٣ أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، وأبو داود، والنسائي والترمذي، وغيرهم/١٢ فتح..
﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي ﴾ : منعوكم عن الزيارة ومنعوا الهدى، وهي سبعون بدنة ﴿ معكوفا ﴾ : محبوسا، ﴿ أن يبلغ محله ﴾ : مكانه١ الذي يحل فيه نحره، ﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ﴾ أي : المستضعفون بمكة، ﴿ لم تعلموهم ﴾ : لم تعرفوهم لاختلاطهم بالمشركين، ﴿ أن تطئوهم ﴾ : أن توقعوا بهم وتقتلوهم في أثناء القتال بدل اشتمال من رجال ونساء، أو من مفعول لم تعلموهم، ﴿ فتصيبكم منهم معرة ﴾ : مكروه كوجوب الدية، والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بأنهم قتلوا أهل دينهم، ﴿ بغير علم ﴾ أي : تطئوهم غير عالمين بهم، وجواب لولا محذوف، والمعنى : لولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم، لما كف أيديكم عنهم، والفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس، أو معناه معرة حاصلة من غير سبق علم وتوجه ذهن، ﴿ ليدخل الله في رحمته من يشاء ﴾ أي : تأخر العقوبة، وكف أيديكم عنهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام، ثم قال :﴿ لو تزيلوا ﴾ : لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم، ﴿ لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾ قيل : هذا جواب لولا، و " لو تزيلوا " كالتكرير " لولا رجال "، لأن مرجعهما واحد،
١ قال ابن عباس: نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا عليه، وهو الحديبية محلا للنحر، فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدى المحصر هو الحرم/١٢ فتح..
﴿ إذ جعل الذين كفروا ﴾ ظرف لعذبنا، أو صدوكم، ﴿ في قلوبهم الحمية ﴾ : الأنفة، ﴿ حمية الجاهلية١ : التي تمنع قبول الحق، ﴿ فأنزل الله سكينته ﴾ : وقاره، ﴿ على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ : حتى صالحوهم، فلم يدخلهم ما دخلهم من الحمية، فيعصوا الله تعالى في قتالهم، فإنه قد هم المؤمنون أن يأبوا كلام رسول الله في الصلح، ودخلوا في ذلك في أمر عظيم كادوا أن يهلكوا، ويدخل الشك في قلوب بعضهم٢ حتى إنه قال- عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات : قوموا وانحروا، ثم الحقوا، وما قام منهم رجل ثم أنزل الله تعالى السكينة عليهم فاطمأنوا، ﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾٣ : اختار كلمة الشهادة٤ لهم، أو بسم الله الرحمن الرحيم، فإنه لما أمر- عليه الصلاة والسلام- عليا- رضي الله عنه- أن يكتب في كتاب الصلح " بسم الله الرحمن الرحيم " قالوا : لا نعرف هذا اكتب باسمك اللهم، ﴿ وكانوا أحق بها ﴾ : من غيرهم، ﴿ وأهلها ﴾ : وكانوا أهلها في علم الله تعالى، ﴿ وكان الله بكل شيء عليما ﴾.
١ قال مقاتل بن سليمان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا، ويدخلون علينا في منازلنا، فتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفسنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا، فهذه الحمية هي حمية الجاهلية التي دخلت في قلوبهم/١٢..
٢ قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: ألست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت؟ نطوف به؟ قال: بلى، لكن هل أخبرتكم أنا نأتيه العام ؟ قالوا: لا، قال: فإنكم تأتونه، وتطوفون به، والحاصل أنه- عليه السلام- وعدهم دخول مكة، وتوجه فحسبوا لو منعوا هذه المرة من الدخول يكون فيه خلف وعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما منعوا دخل الشك في قلوب بعض فأزاح الله بفضله الشك عنهم، وتفضل عليهم/١٢ منه..
٣ المراد من كلمة التقوى الشهادة صرح بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما رواه الترمذي وغيره [صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود(٢٦٠٣)]/١٢ منه..
٤ فهو إلزام تشريف وإكرام/١٢ فتح..
﴿ لقد صدق الله ورسوله الرؤيا ﴾ أي : في رؤياه، فهو من نزع الخافض، وذلك أنه- عليه الصلاة والسلام- رأى في المنام قبل الحديبية أنه وأصحابه يدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين غير خائفين، فأخبر أصحابه ففرحوا فلما صدوا عن البيت شق ذلك عليهم فنزلت، ﴿ بالحق ﴾، حال من الرؤيا أي : متلبسة بالحق، فإنها كائنة لا محالة، وتحقيقها في العام المقبل، ﴿ لتدخلن ﴾، جواب قسم محذوف، ﴿ المسجد الحرام إن شاء الله ﴾، الاستثناء، لأجل تعليم العباد لا للشك، ﴿ آمنين ﴾، حال، والشرط معترض، ﴿ محلقين رءوسكم ومقصرين١ أي : محلقا بعضكم، ومقصرا آخرون حال مقدرة لأن الدخول ما كان في حال الحلق، ﴿ لا تخافون ﴾، حال مؤكدة، ﴿ فعلم ما لم تعلموا ﴾ : من الحكم والمصالح، ﴿ فجعل من دون ذلك ﴾ أي : من دون دخولكم المسجد، ﴿ فتحا قريبا٢ هو الصلح الحديبية على الأصح كما ذكرنا في أول السورة، أو هو فتح خيبر،
١ والحلق والتقصير خاص بالرجال، والحلق أفضل من التقصير كما يدل على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره- صلى الله عليه وسلم- للمحلقين في المرة الأولى، والثانية، والقائل يقول له: وللمقصرين، فقال في الثالثة:"وللمقصرين" وقد ورد في الدعاء للمحلقين، والمقصرين في البخاري ومسلم وغيرهما منها أحاديث ما قدمنا الإشارة إليه، وهو من حديث ابن عمر، وفيهما من حديث أبي هريرة أيضا/١٢ فتح..
٢ ولما أخبر بهذه الأمور الجليلة الدالة على إحاطة علمه وشرف رسوله، فقال:﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ الآية / ١٢ وجيز..
﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ﴾ : متلبسا بالعلم النافع، ﴿ ودين الحق ليظهره ﴾ : ليعليه، ﴿ على الدين ﴾ : على جنسه، ﴿ كله وكفى بالله شهيدا ﴾ : إنك مرسل بالحق، أو إن ما وعده كائن،
﴿ محمد رسول الله ﴾، جملة تامة مبينة للمشهود به، أو تقديره هو محمد، ويكون قوله :﴿ والذين معه ﴾ : الصحابة، ﴿ أشداء١ على الكفار رحماء بينهم ﴾، جملة معطوفة على جملة، أو محمد مبتدأ، أو رسول الله عطف بيان، والذين معه عطف على محمد، و " أشداء " إلخ خبرهما، أي : يغلظون على المخالفين يتراحمون فيما بينهم، ﴿ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴾ أي : علامتهم في وجوههم، و " من أثر " إما حال من ضمير في الخير، أو بيان لسيما أي : يوم القيامة يكونون منورى الوجوه، أو المراد خشوعهم وتواضعهم، أو صفاؤهم أو صفرة اللون من السهر أو أثر التراب على الجباه فإنهم كانوا يسجدون على الأرض من غير حائل، ﴿ ذلك ﴾ : المذكور، ﴿ مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ﴾ أي : صفتهم العجيبة في الكتابين، ﴿ كزرع ﴾ أي : هم كزرع أو " مثلهم في الإنجيل " مبتدأ وهو خبره٢ أو ذلك إشارة مبهمة، وهو تفسيرها، ﴿ أخرج شطئه ﴾ : فراخه، ﴿ فآزره ﴾ : قواه، ﴿ فاستغلظ ﴾ : صار من الدقة إلى الغلظ، أو المراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم، ونظائره، ﴿ فاستوى ﴾ : فاستقام، ﴿ على سوقه ﴾ : على قصبه، ﴿ يعجب الزراع٣ : لحسن منظره، وعن قتادة : مثل أصحابه في الإنجيل أنهم يكونون قليلا، ثم يزدادون، وعن بعض : إن أصل الزرع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والشطء الصحابة- رضي الله عنهم- ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾، علة للتشبيه، أو تقديره قواهم ليغيظ، وقيل : علة لقوله :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ﴾ أي : من الصحابة، ومن للبيان، ﴿ مغفرة وأجرا عظيما ﴾.
والحمد لله رب العالمين.
١ قال الحسن: بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم وتمسها، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وتلزق بها، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلم في كل زمان أن يراعوا هذا التذليل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم، ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة وكف الأذى والاحتمال عنهم/١٢ فتح..
٢ عطف جملة على جملة/١٢..
٣ الذين يعرفون حال الزرع، فكيف من لم يعرف حال الزرع!/١٢ وجيز..
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).