تفسير سورة الفتح

إيجاز البيان

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب إيجاز البيان عن معاني القرآن المعروف بـإيجاز البيان.
لمؤلفه بيان الحق النيسابوري . المتوفي سنة 553 هـ

﴿ إنا فتحنا ﴾ صلح الحيبية١. [ الحديبية : بوزن ( تريقية ) تصغير ترقوة ]٢. وعده الله فتح مكة عند انكفائه منها٣. وهي بئر، وفيها تمضمض٤ صلى الله عليه وسلم، وقد غارت ففارت بالعذب الرواء٥، و عندها بويع بيعة الرضوان، و أطعموا نخل خيبر، و ظهرت الروم على فارس٦. فيكون معنى الفتح المبين : القضاء الفصل في مهادنته٧ أهل مكة/.
وقيل : هو فتح المشكلات عليه في الدين كقوله :﴿ وعنده مفاتح الغيب ﴾ ٨ فيكون معنى ( ليغفر ) لتهتدي أنت و المسلمون. وعلى المعنى الظاهر لم يكن الفتح ليغفر له بل لينصره نصرا عزيزا، ولكنه لما عد عليه هذه النعمة وصلها٩ بما هو أعظم النعم١٠.
١ قاله جمهور المفسرين..
٢ سقط من ب. والحديبية : قرية بالقرب من مكة، سميت ببئر فيها عند مسجد الشجرة التي بايع رسول اله صلى الله عليه وسلم تحتها، وقيل : بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وهي أبعد الحل من البيت. انظر معجم البلدان ج٢ ص٢٢٩..
٣ في أ وعد الله فتح مكة عند الكفاية منها..
٤ في ب مضمض..
٥ أي: العذب. انظر تفسير الماوردي ج٥ ص٣١٠..
٦ قاله الشعبي. انظر جامع البيان ج٢٦ ص٧١..
٧ في أ مهادنة..
٨ سورة الأنعام : الآية ٥٩. وقال بهذا القول ابن بحر. تفسير الماوردي ج٥ ص٣٠٩..
٩ في أ وصله..
١٠ ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف ج٣ ص٥٤١. وقال الواحدي :( وغلط من قال: ليس الفتح سبب المغفرة، ولكن المعنى: ليجمع لك مع المغفرة تمام النعمة) الوسيط ج٤ ص١٣٤..
وعد الله فتح مكة عند اللفاية «١» منها، وهي بئر وفيها تمضمض ﷺ وقد غارت ففارت بالعذب للرواء، وعندها «٢» بويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الرّوم على فارس «٣»، فيكون معنى «الفتح المبين» القضاء الفصل في مهادنة أهل مكة. وقيل «٤» : هو فتح المشكلات عليه في الدين، كقوله «٥» : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ فيكون معنى لِيَغْفِرَ لتهتدي أنت والمسلمون وعلى المعنى الظاهر لم يكن الفتح ليغفر له بل لينصره نصرا عزيزا، ولكنه لما عدّ عليه هذه النعمة وصله بما هو أعظم النعم.
٢ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ: ما كان قبل الفتح، أو قبل البعثة «٦».
وغفران/ الصّغيرة مع أنها مكفّرة: سترها سترا دائما ودفع الضّرر [٨٩/ أ] عليها «٧».
٤ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ: الثقة بوعد الله والصّبر على حكم الله «٨».
لِيَزْدادُوا إِيماناً: يقينا «٩».
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ: أي: لو شاء نصركم بها عاجلا ودمّر على
(١) كذا في الأصل، ولم أتبين معنى هذه الكلمة، وفي «ك» و «ج» : الكفاية منها، وفي وضح البرهان: ٢/ ٣٠٣: عند انكفائه منها.
(٢) في الأصل: «وعندهما»، والمثبت في النص عن نسخة «ك».
(٣) ورد هذا المعنى في أثر أخرجه الطبري في تفسيره: ٢٦/ ٧١ عن الشعبي.
وأورده السيوطي في الدر المنثور: ٧/ ٥٠٩، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث».
وانظر معجزات هذه الغزوة في السيرة لابن هشام: ٢/ ٣١٠، وفتح الباري: ٧/ ٥٠٧.
(٤) ذكر الماوردي نحو هذا القول في تفسيره: ٤/ ٥٦، ونقله المؤلف- رحمه الله- في وضح البرهان: ٣٤٢ عن ابن بحر.
(٥) سورة الأنعام: آية: ٥٩. [.....]
(٦) ينظر تفسير الماوردي: ٤/ ٥٧، وتفسير القرطبي: ١٦/ ٢٦٣.
(٧) في «ك» :«وغفران الصغيرة على قول من يقول إنها تقع مكفرة... ».
(٨) عن تفسير الماوردي: ٤/ ٥٧.
(٩) في «ك» : إيقانا.
من منعكم الحرم، لكنه أنزل السكينة عليكم ليكون ظهور كلمته بجهادكم وثوابه لكم.
٩ تُعَزِّرُوهُ: تنصروه «١»، وَتُسَبِّحُوهُ: تنزهوه من كلّ ذمّ وعيب، أو تصلّوا عليه «٢».
١٠ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ: هي بيعة الرضوان على أن تنصروا ولا تفروا.
وسمّيت بيعة لقوله تعالى «٣» : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ولأنها في تواجب الجنة بالشّهادة كالبيع.
١٠ يَدُ اللَّهِ: أي: في الثواب، فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: في النّصر. أو منّة الله عليهم بالهداية فوق طاعتهم، أو عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم، لأنّهم بايعوا الله ببيعة نبيّه «٤».
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ: لما أراد النّبيّ ﷺ المسير إلى مكة عام الحديبية استنفر من حول المدينة.
مِنَ الْأَعْرابِ: جهينة ومزينة «٥».
شَغَلَتْنا أَمْوالُنا: ليس لنا من يقوم بأموالنا [ومن] «٦» يخلفنا في أهلينا.
(١) ذكره ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن: ٤١٢ عن أبي صالح، وأخرجه الطبري في تفسيره:
٢٦/ ٧٤ عن قتادة.
وهو قول الزجاج في معانيه: ٥/ ٢١، والبغوي في تفسيره: ٤/ ١٩٠.
(٢) كذا في «ك»، وفي تفسير البغوي: ٤/ ١٩٠: «تصلوا له»، قال أبو حيان في البحر المحيط:
٨/ ٩١: «والظاهر أن الضمائر عائدة على الله تعالى».
واختاره ابن الجوزي في زاد المسير: ٧/ ٤٢٧، والفخر الرازي في تفسيره: ٢٨/ ٨٦.
(٣) سورة التوبة: آية: ١١١.
(٤) ينظر ما سبق في معاني القرآن للزجاج: ٥/ ٢٢، وتفسير الماوردي: (٤/ ٥٩، ٦٠)، وزاد المسير: (٧/ ٤٢٧، ٤٢٨)، وتفسير القرطبي: ١٦/ ٢٦٧.
(٥) ينظر خبرهم في السيرة لابن هشام: ١/ ٣٠٨، وتفسير الطبري: ٢٦/ ٧٧، وزاد المسير:
٧/ ٤٢٩، وتفسير القرطبي: ١٦/ ٢٦٨.
(٦) ما بين معقوفين عن «ك».
١٢ ظَنَّ السَّوْءِ: أنّ الرسول لا يرجع «١».
١٥ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ: وعده أهل الحديبية أنّ غنيمة خيبر لهم خاصة «٢».
١٦ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ: الرّوم وفارس «٣». وقيل «٤» : بني حنيفة مع مسيلمة.
١٨ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ: وهي سمرة «٥»، وكانوا ألفا وخمسمائة «٦»
(١) نقل الماوردي هذا القول في تفسيره: ٤/ ٦٠ عن مجاهد، وقتادة.
وانظر تفسير البغوي: ٤/ ١٩١، وتفسير القرطبي: ١٦/ ٢٦٩.
(٢) ورد هذا المعنى في أثر أخرجه الطبري في تفسيره: ٢٦/ ٨٠ عن قتادة.
واختار الطبري هذا القول، وكذا البغوي في تفسيره: ٤/ ١٩٢.
(٣) أخرج الطبري هذا القول في تفسيره: (٢٦/ ٨٢، ٨٣) عن الحسن، وقتادة، وابن زيد، وابن أبي ليلى.
ونقله ابن الجوزي في زاد المسير: ٧/ ٤٣١ عن الحسن، ومجاهد.
(٤) ذكره الفراء في معانيه: ٣/ ٦٦ عن الكلبي، وأخرجه الطبري في تفسيره: ٢٦/ ٨٣ عن الزهري، ونقله ابن الجوزي في زاد المسير: ٧/ ٤٣١ عن الزهري، وابن السائب الكلبي، ومقاتل.
وعقب الطبري- رحمه الله- على الأقوال التي قيلت في «القوم» فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولى بأس في القتال، ونجدة في الحروب، ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن، ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم، ولا أعيان بأعيانهم، وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس، وجائز أن يكون عني بهم غيرهم، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جل ثناؤه: إنهم سيدعون إلى قوم أولى بأس شديد اه-. [.....]
(٥) السّمرة: ضرب من شجر الطلح، وهي نوع من شجر العضاة، والعضاة: كل شجر يعظم وله شوك.
النهاية: ٢/ ٣٩٩، واللسان: ٤/ ٣٧٩ (سمر).
وقد ورد القول الذي ذكره المؤلف في معاني القرآن: ٣/ ٦٧، وتفسير الطبري: ٢٦/ ٨٦، ومعاني الزجاج: ٥/ ٢٥.
(٦) ورد هذا القول في أثر أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: ٥/ ٦٣، كتاب المغازي، باب «غزوة الحديبية»
عن قتادة عن سعيد بن المسيب.
وأخرجه الطبري في تفسيره: (٢٦/ ٨٥، ٨٧) عن قتادة.
ونقله الماوردي في تفسيره: ٤/ ٦١ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً: فتح خيبر «١».
٢١ وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: فارس وروم «٢».
قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها: قدر عليها «٣»، أو علمها «٤»، بل المعنى: جعلهم بمنزلة ما قد أدير حولهم فيمنع أن يفلت أحد منهم، وهذه غاية في البلاغة ليس وراءها.
٢٤ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ: بعث المشركون أربعين رجلا [ليصيبوا] «٥» من المسلمين، فأتي بهم النّبي ﷺ أسرى فخلّاهم «٦».
٢٥ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً: مجموعا موقوفا «٧»، وكان ساق
(١) ورد هذا المعنى في أثر أخرجه الطبري في تفسيره: ٢٦/ ٩١ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقتادة.
وذكره الزجاج في معانيه: ٥/ ٢٥، والماوردي في تفسيره: ٤/ ٦٢، وابن الجوزي في زاد المسير: ٧/ ٤٣٥.
وفي معنى هذه الآية قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ٧/ ٣٢٢: «وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة... ».
(٢) أخرج الطبري هذا القول في تفسيره: ٢٦/ ٩١ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه- أيضا- عن قتادة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
(٣) نقل الماوردي هذا القول في تفسيره: ٤/ ٦٣ عن ابن بحر.
(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير: ٧/ ٤٣٦، والقرطبي في تفسيره: ١٦/ ٢٧٩.
(٥) في الأصل: «ليصبو»، والمثبت في النص عن «ك» و «ج».
(٦) ينظر صحيح مسلم: ٣/ ١٤٤٢، كتاب الجهاد، باب قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ.
وتفسير الطبري: ٢٦/ ٩٤، وأسباب النزول للواحدي: ٤٤٣، وتفسير ابن كثير: ٧/ ٣٢٣.
(٧) تفسير الماوردي: ٤/ ٦٤، عن أبي عمرو بن العلاء.
وانظر معاني الفراء: ٣/ ٦٧، ومعاني القرآن للزجاج: ٥/ ٢٧، والمفردات للراغب:
٣٤٣، واللسان: ٩/ ٢٥٥ (عكف).
أربعين «١» بدنة.
مَعَرَّةٌ: إثم «٢»، أو شدّة «٣».
تَزَيَّلُوا: تميّزوا «٤» حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم/. [٨٩/ ب]
٢٦ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ: لما أرادهم سهيل «٥» بن عمرو أن يكتبوا:
باسمك اللهم «٦».
كَلِمَةَ التَّقْوى: سمعنا وأطعنا «٧». وقيل «٨» : شهادة أن لا إله إلّا الله.
(١) في «ك» : سبعين بدنة، وقد ورد كلا العددين.
ينظر مسند الإمام أحمد: ٤/ ٣٢٣، والسيرة لابن هشام: (٢/ ٣٠٨، ٣٠٩)، وتفسير الطبري: (٢٦/ ٩٥، ٩٦)، وتفسير ابن كثير: ٧/ ٣٢٧.
(٢) تفسير الطبري: ٦/ ١٠٢، وتفسير الماوردي: ٤/ ٦٤ عن ابن زيد.
(٣) ذكر الماوردي هذا القول في تفسيره: ٤/ ٦٤ عن قطرب.
(٤) معاني القرآن للفراء: ٣/ ٦٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٢/ ٢١٧، وتفسير الطبري:
٢٦/ ١٠٢، والمفردات للراغب: ٢١٨.
(٥) هو سهيل بن عمرو بن شمس بن عبد ود القرشي العامري، أبو زيد.
صحابي جليل، وكان أحد الأشراف من قريش وساداتهم في الجاهلية.
ترجمته في الاستيعاب: ٢/ ٦٦٩، وأسد الغابة: ٢/ ٤٨٠، والإصابة: ٣/ ٢١٢. [.....]
(٦) ينظر خبر سهيل رضي الله عنه في صحيح البخاري: ٣/ ١٨١، كتاب الشروط، باب «الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب وكتابة الشروط».
والسيرة لابن هشام: ٢/ ٣١٧، وتفسير الطبري: ٢٦/ ٩٩، وتفسير ابن كثير: ٧/ ٣٢٧.
(٧) ذكره الماوردي في تفسيره: ٤/ ٦٥، وقال: «وسميت «كلمة التقوى» لأنهم يتقون بها غضب الله».
(٨) ورد هذا القول في أثر أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ٥/ ١٣٨ عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه- أيضا- الترمذي في سننه: ٥/ ٣٨٦، كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح عن الطفيل من طريق الحسن بن قزعة ثم قال: «هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة، وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه».
وأخرجه الطبري في تفسيره: (٢٦/ ١٠٤، ١٠٥) عن الطفيل ورفعه.
وأخرجه- أيضا- عن علي، وابن عباس، وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد، والضحاك، وعكرمة.
٢٧ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ: الاستثناء للتأديب على مقتضى الدين، يعني:
لتدخلنه بمشيئة الله. أو الاستثناء في دخول جميعهم، إذ ربّما يموت بعضهم، أو إن] بمعنى: إذ شاء الله «١».
٢٩ مَثَلُهُمْ: صفتهم «٢».
شَطْأَهُ: الشّطأ والشّفاء والبهمى: شوك السّنبل «٣». وقيل «٤» : فراخه الذي يخرج في جوانبه من شاطئ النّهر.
فَآزَرَهُ: قوّاه وشدّ أزره «٥»، أي: شدّ فراخ الزّرع أصوله.
فَاسْتَغْلَظَ: قوي باجتماع الفراخ مع الأصول «٦».
عَلى سُوقِهِ: السّاق: قصبه الذي يقوم عليه.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ: أهل مكة، وهذا مثل المؤمنين إذ كانوا أقلاء فكثروا وأذلاء فعزوا «٧».
(١) هذا قول أبي عبيدة كما في تفسير البغوي: ٤/ ٢٠٥، وتفسير القرطبي: ١٦/ ٢٩٠، والبحر المحيط: ٨/ ١٠١ وردّه النحاس في إعراب القرآن: ٤/ ٢٠٤ بقوله: «وهذا قول لا يعرج عليه، ولا يعرف أحد من النحويين «إن» بمعنى «إذ»، وإنما تلك «أن» فغلط، وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين».
(٢) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: ٤١٣، وتفسير الطبري: ٢٦/ ١١٢، ومعاني الزجاج: ٥/ ٢٩.
(٣) نص هذا القول في تفسير الماوردي: ٤/ ٦٦ عن قطرب.
وانظر اللسان: ١/ ١٠٠، وتاج العروس: ١/ ٢٨١ (شطأ).
(٤) نقله الماوردي في تفسيره: ٤/ ٦٧ عن الأخفش، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة:
٢/ ٢١٨، وتفسير المشكل لمكي: ٣١٧، والمفردات للراغب: ٢٦١.
(٥) ينظر معاني القرآن للفراء: ٣/ ٦٩، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة: ٤١٣، وتفسير المشكل لمكي: ٣١٧، والمفردات للراغب: ١٧.
(٦) عن تفسير الماوردي: ٤/ ٦٧.
(٧) ينظر تفسير الطبري: ٢٦/ ١٥، وتفسير الماوردي: ٤/ ٦٧.
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).