تفسير سورة الفتح

المصحف المفسّر

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب المصحف المفسّر
لمؤلفه فريد وجدي . المتوفي سنة 1373 هـ
سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون

تفسير الألفاظ :
﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ هذا وعد من الله لرسوله بفتح مكة، وعبر بالماضي لتحققه.
تفسير المعاني :
إنا قررنا يا محمد أن نفتح لك فتحا مبينا، هو استيلاؤك على مكة وإزالة الكفر منها.
تفسير المعاني :
ليغفر الله لك بسبب جهادك فيها ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوة، ويهديك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة وإقامة مراسيم الرياسة.
تفسير الألفاظ :
﴿ نصرا عزيزا ﴾ أي نصرا فيه عزة ومنعة.
تفسير المعاني :
وينصرك الله يا محمد نصرا مصحوبا بعز ومنعة.
تفسير الألفاظ :
﴿ السكينة ﴾ أي الثبات والطمأنينة.
تفسير المعاني :
هو الذي أنزل الثبات والطمأنينة في قلوب المؤمنين في المواقف الحرجة ووسط المخاوف الشديدة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، ولله جنود السماوات والأرض يدبر أمرها ويسلطها على من يشاء لتأديبه، وكان الله عليما حكيما.
تفسير الألفاظ :
﴿ ويكفر عنهم سيئاتهم ﴾ أي يسترها ويغطيها أو يمحوها.
تفسير المعاني :
ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويمحو عنهم أعمالهم السيئة، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما.
تفسير الألفاظ :
﴿ الظانين بالله ظن السوء ﴾ أي ظن الأمر السوء، والسوء هو السوء، وظن السوء هو الظن بأن الله لا ينصر رسوله. ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ أي عليهم دائرة ما يظنونه ويتوقعونه. ﴿ وأعد لهم ﴾ أي وهيأ لهم، مشتق من العدة وهي الأهبة.
تفسير المعاني :
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين يظنون أن الله لا ينصر رسوله عليهم تدور دائرة ظنهم السيئ وغضب الله عليهم ولعنهم وهيأ لهم جهنم وساءت مآلا.
تفسير المعاني :
ولله جنود السماوات والأرض يكبح بها جماح كل متجبر.
تفسير الألفاظ :
﴿ إنا أرسلناك شاهدا ﴾ أي على أمتك.
تفسير المعاني :
إنا أرسلناك يا محمد شاهدا على أمتك ومبشرا على الطاعة ونذيرا على المعصية.
تفسير الألفاظ :
﴿ وتعزروه ﴾ أي وتقووه، والتعزير التقوية. ﴿ وتوقروه ﴾ أي وتعظموه. ﴿ وتسبحوه ﴾ أي وتنزهوه عن النقص. ﴿ بكرة وأصيلا ﴾ أي غدوة وعشية. والغدوة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والأصيل ما قبل غروب الشمس، والعشية ما بعد الظهر إلى المغرب.
تفسير المعاني :
لتؤمنوا بالله ورسوله وتؤيدوه وتعظموه وتنزهوه عن النقص صباحا ومساء.
تفسير الألفاظ :
﴿ إنما يبايعون الله ﴾ أي يعاهدونه. ﴿ نكث ﴾ أي نقض العهد، مضارعه ينكث. ﴿ أوفى ﴾ أي وفى.
تفسير المعاني :
إن الذين يعاهدونك يا محمد على الثبات معك في نصر الإسلام وجهاد أعدائه، إنما يبايعون الله نفسه، يده فوق أيديهم.
فمن نقض عهده منهم فإنما ضرر ذلك عائد عليه، ومن وفى بعهده فسيؤتيه أجرا عظيما في الدنيا والآخرة.
تفسير الألفاظ :
﴿ المخلفون ﴾ أي الذين تخلفوا عن المضي مع رسوله إلى الحرب واعتلوا بالشغل، وهم بنو أسلم وبنو جهينة وبنو مزينة وبنو غفار، استنفرهم رسول الله للحرب عام الحديبية فتعللوا بأنهم مشغولون بأموالهم وأهليهم.
تفسير المعاني :
سيقول الذين تخلفوا عن نصرتك حين دعوتهم : شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم نفاقا، فقل لهم : من يملك لكم من الله شيئا إن أراد أن يضركم أو أراد أن ينفعكم، بل كان الله بما تعملون خبيرا، فيجازيكم بما يناسبكم.
تفسير الألفاظ :
﴿ ينقلب ﴾ أي يرجع، ﴿ السوء ﴾ هو السوء. ﴿ بورا ﴾ أي هالكين جمع بائر. يقال بار يبور بورا، أي هلك. ﴿ أعتدنا ﴾ أي هيأنا، مشتق من العتاد وهو الآلة. ﴿ سعيرا ﴾ أي نار متسعرة أي متوقدة. يقال سعرت النار أسعرها سعرا، أي أوقدتها فتسعرت أي اتقدت. ﴿ مغانم ﴾ جمع مغنم وهي الغنائم. ﴿ ذرونا ﴾ أي اتركونا.
تفسير المعاني :
بل خيل لكم أن لن يرجع الرسول ولا المؤمنون إلى أهليهم أبدا، فتبطش بهم قريش وتهلكهم، وزين الشيطان ذلك في قلوبكم، وظننتم ظن السوء وكنتم قوما هالكين.
تفسير الألفاظ :
﴿ أعتدنا ﴾ أي هيأنا، مشتق من العتاد وهو الآلة. ﴿ سعيرا ﴾ أي نار متسعرة أي متوقدة. يقال سعرت النار أسعرها سعرا، أي أوقدتها فتسعرت أي اتقدت.
تفسير المعاني :
ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا هيأنا للكافرين نارا متأججة.
تفسير المعاني :
ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. كل على ما تقضي به حكمته، ويمليه علمه المطلق بمصالح خلقه، وكان الله غفورا رحيما.
تفسير الألفاظ :
﴿ مغانم ﴾ جمع مغنم وهي الغنائم. ﴿ ذرونا ﴾ أي اتركونا.
تفسير المعاني :
سيقول المتخلفون إذا ذهبتم لتأخذوا مغانم خيبر، وكان رسول الله قد غزاها وفتحها في السنة السابعة من الهجرة، دعونا نتبعكم.. يريدون أن يغيروا وعد الله أن يعوض الجيش الذي كان معه حين أراد أن يعتمر فمنعه مشركو مكة- وكان في قدرته فتحها – عن مغانمها، مغانم خيبر.. قل : لن تتبعونا، كذلك قال الله من قبل، فسيقولون : بل تحسدوننا، بل كانوا لا يفهمون إلا فهما قليلا.
تفسير الألفاظ :
﴿ الأعراب ﴾ سكان البادية، واحدهم أعرابي. وهو غير العربي الذي يطلق على من كان جنسه عربيا.
تفسير المعاني :
قل للمتخلفين من الأعراب عن نصرتك : ستدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد، قيل هم بنو ثقيف وبنو هوزان، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا، وإن تتولوا كما توليتم من قبل عن الحديبية يعذبكم عذابا أليما.
تفسير المعاني :
ليس على الأعمى ولا على الأعرج ولا على المريض إثم في التخلف، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول يعذبه عذابا أليما.
تفسير المعاني :
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص، فأنزل عليهم الطمأنينة وسكون النفس، وجعل ثوابهم فتحا قريبا هو فتح خيبر بعد انصرافهم، وقيل فتح مكة أو هجر.
تفسير المعاني :
ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما. تشير هذه الآية إلى هذه الحادثة وهي أنه عليه السلام لما نزل الحديبية سنة ست، وهي قرب مكة، وكان قصده أن يعتمر، فبعث بخراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهموا بقتله، فحماه بعضهم فرجع. فبعث النبي عثمان بن عفان فحبسوه وأرجف بقتله، فدعا رسول الله أصحابه وكانوا ألفا وثلاثمائة، أو ألفا وأربعمائة، أو ألفا وخمسمائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا منهم، وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة وهي الشجرة المذكورة في الآية.
تفسير الألفاظ :
﴿ صراطا ﴾ أي طريقا جمعه صُرُط وأصله سراط.
تفسير المعاني :
وعدكم الله غنائم كثيرة تأخذونها، فعجل لكم هذه، يعني مغانم خيبر، ومنع أيدي الناس، أي أهل خيبر وخلفاءهم، أن تصيبكم بمكروه ولتكون هذه الغنيمة آية للمؤمنين ليهديكم إليه صراطا مستقيما.
تفسير الألفاظ :
﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ﴾ أي ومغانم أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها واستولى عليها وأظفركم بها.
تفسير المعاني :
وغنيمة أخرى لم تقدروا على أخذها قد أحاط الله بها فاستولى عليها وأظفركم بها، وكان الله على كل شيء قديرا.
تفسير الألفاظ :
﴿ لولوا الأدبار ﴾ أي لانهزموا. الأدبار جمع دبر ودبر، وهو مؤخر الإنسان. وتولية الدبر كناية عن الانهزام.
تفسير المعاني :
ولو قاتلكم الكفار لانهزموا، ثم لا يجدون معينا ولا نصيرا.
تفسير الألفاظ :
﴿ سنة الله ﴾ أي طريقته وعادته في تدبير الخلق. ﴿ قد خلت ﴾ أي مضت، والسنون الخالية أي الماضية.
تفسير المعاني :
عادة الله التي قد مضت من قبل في كل الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلا.
تفسير الألفاظ :
﴿ كف أيديهم ﴾ أي أيدي كفار مكة.
تفسير المعاني :
وهو الذي منع أيدي كفار مكة أن تصل إليكم بأذى، ومنع أيديكم عنهم أيضا ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم، وكان الله بما تعملون بصيرا.
تفسير الألفاظ :
﴿ والهدى ﴾ هو ما يهدى للبيت من الذبائح، ويقال له الهدي أيضا. ﴿ معكوفا ﴾ عكفه يعكفه منعه. ﴿ محله ﴾ أي مكانه الذي يحل فيه نحره. ﴿ أن تطئوهم ﴾ أي أن توقعوا بهم وتبيدوهم، وأصل الوطء الدوس. ﴿ معرّة ﴾ مكروه، من عرّه أي عراه مكروه. ﴿ لو تزيلوا ﴾ أي لو تفرقوا أو تميز بعضهم من بعض وقرئ تزايلوا.
تفسير المعاني :
هم الذين كفروا ومنعوكم عن المسجد الحرام وعن وصول الهدى إلى المكان الذي يحل فيه نحره. ولولا وجود رجال ونساء من المؤمنين مبثوثين بينهم لم تعرفوهم قد توقعون بهم وتبيدونهم فيصيبكم من ذلك مكروه، لما كف أيديكم عنهم " الجواب في الآية محذوف وهو لما كف أيديكم عنهم " ليدخل الله في رحمته من يشاء من مؤمنيهم ومشركيهم، ولو كان بعضهم تميز عن بعض لما كففنا أيديكم عنهم، ولعذبناهم بالقتل والسبي عذابا أليما.
تفسير الألفاظ :
﴿ الحمية ﴾ أي الأنفة. ﴿ سكينته ﴾ أي طمأنينته.
تفسير المعاني :
واذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم أنفة الجاهلية التي تمنع عن الإذعان للحق، فأنزل الله طمأنينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى، أي الثبات والوفاء بالعهد، وكانوا أحق بها من غيرهم وأهلها، وكان الله بكل شيء عليما.
تفسير الألفاظ :
﴿ فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ﴾ أي فجعل قبل فتح مكة فتح خيبر.
تفسير المعاني :
لقد حقق الله رؤيا رسوله التي رآها، إذ رأى أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين، قد حلق بعضهم رءوسهم وبعضهم قد قصّروا شعورهم، فعلم ما لم تعلموا من حكمة تأخير دخولها، وجعل من قبل ذلك فتحا قريبا، هو فتح خيبر.
تفسير الألفاظ :
﴿ أرسل رسوله بالهدى ﴾ أي متلبسا بالهدى أو بسبب الهدى أو لأجل الهدى. ﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ أي ليغلبه على الأديان كلها. وأل في كلمة الدين للجنس.
تفسير المعاني :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، أي الإسلام، ليغلبه على الأديان كلها، وكفى بالله شهيدا على نبوته.
تفسير الألفاظ :
﴿ سيماهم ﴾ أي علامتهم، وهي السمة أي العلامة التي تحدثت في الجبهة من كثرة السجود، من سامه إذا علمه. ﴿ أخرج شطأه ﴾ أي أخرج فراخه. يقال أشطأ الزرع إذا فرخ. ﴿ فآزره ﴾ أي فقواه، من المؤازرة وهي المعاونة. ﴿ فاستغلظ ﴾ أي فصار من الدقة إلى الغلظة. ﴿ فاستوى على سوقه ﴾ أي فاستقام على قصبه. وسوق جمع ساق.
تفسير المعاني :
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكافرين رحماء بينهم، تراهم راكعين ساجدين يطلبون فضلا من ربهم ورضوانا، علامة السجود في وجوههم، ذلك وصفهم في التوراة والإنجيل، كزرع أخرج فراخه فقواه، فاستحال من الدقة إلى الغلظة، فاستقام على سوقه يستدعي إعجاب الزراع به ليغيظ الله بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما.
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).