تفسير سورة الفتح

مختصر تفسير ابن كثير

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير.
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

- ١ - إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
- ٢ - لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
- ٣ - وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزًا
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عن الوصول إلى المسجد الحرام، وحالوا بينه وبين العمرة، ثُمَّ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَأَنْ يَرْجِعَ عَامَهُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِيَ مِنْ قَابِلٍ، فَأَجَابَهُمْ إلى ذلك على كره مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنه، فَلَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ وَرَجَعَ، أَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ هذه السورة، وَجَعَلَ ذَلِكَ الصُّلْحَ فَتْحًا بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، كَمَا روى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّكُمْ تَعُدُّونَ الْفَتْحَ (فَتْحَ مَكَّةَ) وَنَحْنُ نعد الفتح صلح الحديبية، وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرَكَائِبُنَا (أخرجه البخاري)، وروى الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عليَّ، قَالَ: فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا ابن الخطاب،
339
ألححت، كررت على رسول الله ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْكَ! قَالَ: فَرَكِبْتُ راحلتي فحركت بعيري، فَتَقَدَّمْتُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فيَّ شَيْءٌ، قال: فإذا أنا بمناد: يا عُمَرُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ نَزَلَ فيَّ شَيْءٍ، قَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نزل عليّ البارحة سُورَةٌ هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخر﴾ " (أخرجه أحمد ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق). وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عليَّ الليلة آيَةٌ أَحَبُّ إليَّ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ» ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله، بيّن الله عزَّ وجلَّ ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم: ﴿لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً﴾ (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد). وروى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي حتى تورمت قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟» (أخرجه البخاري ومسلم وبقية الجماعة إلا أبا داود)، وروى الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رَجُلَاهُ، فَقَالَتْ لَهُ عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» (أَخْرَجَهُ مسلم والإمام أحمد)
فقوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ أَيْ بَيِّنًا ظَاهِرًا، وَالْمُرَادُ بِهِ (صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ) فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَكَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْكَافِرِ، وَانْتَشَرَ الْعِلْمُ النافع والإيمان، وقوله تعالى: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله ما تقدم من ذنبه وما تَأَخَّرَ﴾ هذا من خصائصه ﷺ التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لِغَيْرِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهو ﷺ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَالِاسْتِقَامَةِ الَّتِي لَمْ يَنَلْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ، لَا مِنَ الأولين ولا من الآخرين، وهو ﷺ أَكْمَلُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت فيه الناقة، حبسها حابس الفيل، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا يُعَظِّمُونَ بِهِ حُرُمَاتِ الله إلاّ أجبتهم إليها» (أخرجه البخاري وهو جزء من حديث طويل) فَلَمَّا أَطَاعَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ إِلَى الصلح قال الله تعالى لَهُ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي بما شرعه لَكَ مِنَ الشَّرْعِ الْعَظِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ، ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾ أَيْ بِسَبَبِ خُضُوعِكَ لِأَمْرِ الله عزَّ وجلَّ يَرْفَعُكَ اللَّهُ وَيَنْصُرُكَ عَلَى أَعْدَائِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ إلاّ رفعه الله تعالى»، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال: ما عاقبتَ أَحَدًا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تطيع الله تبارك وتعالى وفيه.
340
- ٤ - هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا
- ٥ - لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً
- ٦ - وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
- ٧ - وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ﴾ أَيْ جَعَلَ الطُّمَأْنِينَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَقَارُ في قلوب المؤمنين، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَانْقَادُوا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم؛ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَانْتَصَرَ من الكافرين، فقال سبحانه: ﴿ولله جنود السموات وَالْأَرْضِ﴾ أَيْ وَلَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا لَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى شَرَّعَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الجهاد، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، والحجة القاطعة، ولهذا قال جلت عظمته: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا، ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أَيْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبَهُمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ وَيَسْتُرُ، ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً﴾، كَقَوْلِهِ جلَّ وعلا: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السوء﴾ أي يتهمون الله تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول ﷺ وَأَصْحَابِهِ أَنْ يُقْتَلُوا وَيَذْهَبُوا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أَيْ أَبْعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، ﴿وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾
، ثم قال عزَّ وجلَّ مُؤَكِّدًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ؛ أَعْدَاءِ الإسلام من الكفرة والمنافقين ﴿ولله جنود السموات وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا﴾.
- ٨ - إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
- ٩ - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
- ١٠ - إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ أَيْ عَلَى الْخَلْقِ، ﴿وَمُبَشِّراً﴾ أي للمؤمنين، ﴿ونذيراً﴾ أي للكافرين، ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغير واحد: تعظموه، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ مِنَ التَّوْقِيرِ، وَهُوَ الِاحْتِرَامُ وَالْإِجْلَالُ وَالْإِعْظَامُ، ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ أي تسبحون اللَّهَ، ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أَيْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، ثم قال عزَّ وجلَّ لرسوله تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾، كقوله جلَّ وعلا:
341
﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فقد أطاع الله﴾، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أَيْ هُوَ حَاضِرٌ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى مَكَانَهُمْ، وَيَعْلَمُ ضَمَائِرَهُمْ وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله، كقوله تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بايع الله» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي جرير مرفوعاً)، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجَرِ: «وَاللَّهِ ليبعثنه الله عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يَنْظُرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ وَيَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ، فمن استلمه فقد بايع الله تعالى» ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس)، ولهذا قال تعالى ههنا: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَى النَّاكِثِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أَيْ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَهَذِهِ الْبَيْعَةُ هِيَ (بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) وَكَانَتْ تَحْتَ شجرة سمرة بالحديبية، وكان الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ألفاً وأربعمائة، روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، حتى رووا كلهم، وفي رواية في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أنهم كانوا خمس عَشْرَةَ مِائَةً.
«ذِكْرُ سَبَبِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ الْعَظِيمَةِ».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلَظِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بِهَا مِنِّي، عثمان بن عفان رضي الله عنه نبعثه إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لم يأت لحرب، وأنه إنما جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عثمان رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ، حَتَّى بلَّغ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرسله به، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، فَقَالَ: مَا كنتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عثمان رضي الله عنه قَدْ قُتِلَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الله ابن أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: «لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ»، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ فَكَانَتْ (بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ) تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَوْتِ. وَكَانَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا على أن لا نَفِرَّ، فَبَايَعَ النَّاسُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس فكان جابر رضي الله عنه يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبِطِ ناقته قد صبأ إِلَيْهَا، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أَتَى رسول الله ﷺ إن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل، قال أنَس بن مالك رضي الله عنه: لَمَّا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
342
بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وَحَاجَةِ رَسُولِهِ» فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعثمان رضي الله عنه خيراً من أيديهم لأنفسهم (أخرجه الحافظ البيهقي عن أَنَس بن مالك). قال البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ، فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يعني عمر رضي الله عنه، يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَدْ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عمر رضي الله عنه فخرج فبايع (أخرجه البخاري في صحيحه)، وروى البخاري عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بن الأكوع رضي الله عنه قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ يَزِيدُ: قُلْتُ يَا أبا مسلمة عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يومئذٍ؟ قَالَ: على الموت. وثبت في الصحيحين عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: "كَانَ أُبيّ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا مِنْ قَابَلٍ حاجين، فخفي علينا مكانها" (أخرجه الشيخان عن سعيد بن المشيب)، وروى الحميدي عن جابر رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ» قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة (أخرجه البخاري ومسلم من حديث سفيان). وروى الإمام أحمد عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ النار أحد ممن بايع تحت الشجرة». ولهذا قال الله تَعَالَى فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عظيماً﴾.
343
- ١١ - سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
- ١٢ - بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً
- ١٣ - وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا
- ١٤ - وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ ﷺ بِمَا يَعْتَذِرُ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ، الَّذِينَ اختاروا المقام في أهليهم، وَتَرَكُوا الْمَسِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ وَالْمُصَانَعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ أَيْ لَا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم، وهو العليم بسرائركم وضمائركم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، ولهذا قال تعالى: ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾، ثُمَّ قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ
343
إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أَيْ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَتُسْتَأْصَلُ شَأْفَتُهُمْ، وَتُسْتَبَادُ خَضْرَاؤُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي هلكى، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال قتادة: فاسدين، ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أَيْ مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلَ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِلَّهِ، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ وَخَضَعَ لَدَيْهِ.
344
- ١٥ - سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الأعراب، الذين تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عمرة الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلى خيبر يفتحوها، أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُمْ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَقَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ وَقْتِ مُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ، فأمر اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا يَأْذَنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، مُعَاقَبَةً لَهُمْ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، ولهذا قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قوله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين﴾ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ فِيهِ نَظَرٌ، لأن الْآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تبوك، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية، وقال ابن جريح: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي بِتَثْبِيطِهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْجِهَادِ، ﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ أَيْ وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ سُؤَالِكُمُ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ، ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أَيْ أَنْ نُشْرِكَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ، ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ
يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾
أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَكِنْ لَا فَهْمَ لهم.
- ١٦ - قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
- ١٧ - لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً
اخْتَلَفَ المفسرون في هؤلاء القوم الَّذِينَ هُمْ أُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ عَلَى أَقْوَالٍ، (أحدها): أنهم هوازن، قاله سعيد بن جبير وعكرمة، (الثَّانِي): ثَقِيفٌ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، (الثَّالِثُ): بَنُو حَنِيفَةَ، قاله جويبر، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدٍ وَعِكْرِمَةَ، (الرَّابِعُ): هُمْ أهل فارس، قاله ابن عباس ومجاهد، وقال كعب الأحبار: هم الروم، وعن عطاء والحسن: هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُمْ أَهْلُ الأوثان، وقال ابن أبي حاتم عن الزهري في قوله تعالى:
344
﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قَالَ: لَمْ يَأْتِ أُولَئِكَ بعد، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ ذُلْفَ الأنوف كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» قَالَ سُفْيَانُ: هُمُ الترك، وقوله تعالى: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ يعني شرع لَكُمْ جِهَادَهُمْ وَقِتَالَهُمْ، فَلَا يَزَالُ ذَلِكَ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمْ وَلَكُمُ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ، ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ فَيَدْخُلُونَ فِي دِينِكُمْ بِلَا قِتَالٍ بَلْ بِاخْتِيَارٍ، ثُمَّ قال عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾ أَيْ تَسْتَجِيبُوا وَتَنْفِرُوا فِي الْجِهَادِ وَتُؤَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ فِيهِ ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ﴾ يَعْنِي زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ دُعِيتُمْ فَتَخَلَّفْتُمْ، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. ثم ذكر تعالى الْأَعْذَارَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ فَمِنْهَا لَازِمٌ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ الْمُسْتَمِرِّ، وَعَارِضٌ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَطْرَأُ أَيَّامًا ثُمَّ يَزُولُ، فَهُوَ فِي حَالِ مَرَضِهِ مُلْحِقٌ بِذَوِي الْأَعْذَارِ اللَّازِمَةِ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى مُرَغِّبًا فِي الْجِهَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يتولَّ﴾ أَيْ يَنْكُلُ عَنِ الْجِهَادِ وَيُقْبِلُ عَلَى الْمَعَاشِ ﴿يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً﴾ في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار، والله تعالى أعلم.
345
- ١٨ - لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيبًا
- ١٩ - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وقد تقدم أنهم كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ كَانَتْ سَمُرَةً بأرض الحديبية، روى البخاري عن عبد الرحمن رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ نَسِينَاهَا، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ﴿فأَنزل السَّكِينَةَ﴾ وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ ﴿عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وَهُوَ مَا أَجْرَى الله عزَّ وجلَّ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِمْ، وما حصل بذلك من الخير العام بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ فَتْحِ سَائِرِ البلاد والأقاليم، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾، روى ابن أبي حاتم عن إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ: الْبَيْعَةَ البيعة، نزل روح القدس، قال: فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة سَمُرَةٍ فَبَايَعْنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾ قال: فَبَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان رضي الله عنه بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو مكث كذا وكذا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ».
- ٢٠ - وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
345
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
- ٢١ - وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا
- ٢٢ - وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
- ٢٣ - سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
- ٢٤ - وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قوله تعالى: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ تَأْخُذُونَهَا﴾ هِيَ جَمِيعُ الْمَغَانِمِ إِلَى الْيَوْمِ ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ يَعْنِي فَتْحَ خَيْبَرَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ يَعْنِي صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ أَيْ لَمْ يَنَلْكُمْ سُوءٌ مِمَّا كَانَ أَعْدَاؤُكُمْ أَضْمَرُوهُ لَكُمْ مِنَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ الَّذِينَ خلفتموهم وراء ظهوركم عَنْ عِيَالِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ
﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ يعتبرون بذلك، فإن الله تعالى حَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْدَاءِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا بِصَنِيعِ اللَّهِ هَذَا بِهِمْ أَنَّهُ العالم بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْخِيَرَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كِرِهُوهُ فِي الظَّاهِرِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي بسبب انقيلدكم لأمره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ أَيْ وَغَنِيمَةً أُخْرَى وَفَتْحًا آخَرَ مُعَيَّنًا لَمْ تَكُونُوا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، قَدْ يَسَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَأَحَاطَ بِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ عِبَادَهُ المتقين مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ فَقَالَ ابن عباس: هي خيبر، وقال الضحاك وقتادة: هي مكة، واختاره ابن جرير، وقال الحسن الْبَصْرِيُّ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ يقول عزَّ وجلَّ مُبَشِّرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَنَّهُ لَوْ نَاجَزَهُمُ الْمُشْرِكُونَ لَنَصَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَلَانْهَزَمَ جيش الكفر فَارًّا مُدْبِرًا ﴿لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ لِأَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِحِزْبِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قال تبارك وتعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ أَيْ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ وَعَادَتُهُ فِي خَلْقِهِ، مَا تَقَابَلَ الكفر والإيمان في موطن فيصل، إلا نَصْرِ اللَّهِ الْإِيمَانُ عَلَى الْكُفْرِ، فَرَفَعَ الْحَقَّ وَوَضَعَ الْبَاطِلَ، كَمَا فَعَلَ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ، نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مع قلة عدد المسلمين وكثرة المشركين، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ هَذَا امْتِنَانٌ من الله تعالى عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، حِينَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ سُوءٌ، وَكَفَّ أيدي المؤمنين عن الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ صَانَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَوْجَدَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا، فِيهِ خِيَرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَاقِبَةٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرة، روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ هَبَطَ عَلَى رسول الله ﷺ وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح، مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ عَفَّانُ: فَعَفَا عَنْهُمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَهُوَ الَّذِي
346
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عليهم} (أخرجه أحمد ورواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي). وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيَّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عنه وسهيل بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بِيَدِهِ، وَقَالَ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، اكْتُبْ في قضيتنا ما نعرف، فقال: «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ - وَكَتَبَ - هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ مَكَّةَ» فَأَمْسَكَ سهيل بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ، وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ! اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ، فَقَالَ: «اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ، فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَسْمَاعِهِمْ فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ؟ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟» فَقَالُوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى: ﴿وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ (أخرجه أحمد والنسائي) الآية. وروى ابن إسحاق عن عكرمة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصِيبُوا مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَأُخِذُوا أَخْذًا، فأُتي بِهِمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنْهُمْ، وَخَلَّى سَبِيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا إِلَى عَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى:
﴿وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم﴾ الآية.
347
- ٢٥ - هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ونساء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تطؤوهم فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
- ٢٦ - إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن الكفار ومشركي الْعَرَبِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَالَأَهُمْ عَلَى نُصْرَتِهِمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أَيْ هُمُ الْكُفَّارُ دُونَ غَيْرِهِمْ ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أَيْ وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ أَيْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَحَلِّهِ، وَهَذَا مِنْ بغيهم وعنادهم، وكان الهدي سبعين بدنة، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ أَيْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِمَّنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْهُمْ، خِيفَةً على أنفسهم من قومهم، لكنا سلطانكم عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ وَأَبَدْتُمْ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَكِنْ بَيْنَ أَفْنَائِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَقْوَامٌ لَا تَعْرِفُونَهُمْ حَالَةَ القتل، ولهذا قال تعالى: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تطأوهم فَتُصِيبَكُمْ
347
مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} أَيْ إِثْمٌ وَغَرَامَةٌ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أَيْ يُؤَخِّرُ
عُقُوبَتَهُمْ لِيُخَلِّصَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْجِعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ﴾ أَيْ لَوْ تَمَيَّزَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً. عن جنيد بن سبيع قال: "قَاتَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ النَّهَارِ كَافِرًا، وَقَاتَلْتُ مَعَهُ آخِرَ النَّهَارِ مسلماً، وفينا نزلت: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ومؤمنات﴾، قَالَ: كُنَّا تِسْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ رِجَالٍ وَامْرَأَتَيْنِ" (أخرجه الحافظ الطبراني، قال ابن كثير: الصواب عن حبيب بن سباع). وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ يَقُولُ: لَوْ تَزَيَّلَ الْكَفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَعَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا بِقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَبَوْا أَنْ يَكْتُبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ وَهِيَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إلا الله، كما قال ابن جرير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: «لَا إِلَهَ إلا الله» (أخرجه ابن جرير ورواه الترمذي، وقال: حديث غريب)، وقال ابن أبي حاتم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ"، وأنزل الله عزَّ وجلَّ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾، وَقَالَ اللَّهُ جلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية، فكاتبهم رسول الله ﷺ على قضية المدة (أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: ورواه بهذه الزيادات ابن جرير، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري)، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَلِمَةَ التَّقْوَى الْإِخْلَاصُ، وَقَالَ عَطَاءُ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى شيء قدير، وقال علي رضي الله عنه: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وقال ابن عباس ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ يَقُولُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ رَأْسُ كُلِّ تَقْوَى، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَحَقَّ بِهَا وَكَانُوا أَهْلَهَا ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْخَيْرَ ممن يستحق الشر.
(ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقِصَّةِ الصلح).
روى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إِذَا كَانَ بِعَسَفَانَ، لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها
348
عليها عَنْوَةً أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهُ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا وَيْحَ قُرَيْشٍ قَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؟ فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرْنِي اللَّهُ تعالى دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ؟ فَوَاللَّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي الله تعالى به حتى يظهرني الله عزَّ وجلَّ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَسَلَكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحَمْضِ عَلَى طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ وَالْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَسَلَكَ بِالْجَيْشِ تِلْكَ الطَّرِيقَ، فلما رأت خيل قريش فترة الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا سَلَكَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: خَلأت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتْ» وَمَا ذَلِكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ، وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إلا أعطيتهم إياها" ثم قال ﷺ لِلنَّاسِ: «انْزِلُوا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاءٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ، فَغَرَزَهُ فِيهِ، فَجَاشَ بِالْمَاءِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَالَ لَهُمْ
كَقَوْلِهِ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم، إن مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم (هذا جزء لحديث طويل أخرجه الإمام أحمد وعبد الرزاق، وقد اقتصرنا على هذا القدر لنذكر رواية البخاري رحمه الله).
وروى البخاري رحمه الله في صحيحه، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً مِنْ خُزَاعَةَ وَسَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم: «أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ عَلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يصدونا عن البيت، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ»؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا البيت لا تريد قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبًا، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صدنا عنه قَاتَلْنَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فامضوا على اسم الله تعالى»، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ منها بركت به راحلته، فقالت النَّاسُ: حَلِّ حَلِّ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ»؛ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ تعالى إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» ثُمَّ زَجَرَهَا، فَوَثَبَتْ، فَعَدَلَ عَنْهُمْ، حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا فَلَمْ يَلْبَثِ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ، وشُكي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ العطش، فانتزع ﷺ مِنْ كِنَانَتِهِ سَهْمًا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ (بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ من قومه من
349
خزاعة وكانوا عبية نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عدا مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا لم نجيء لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ فَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن اللَّهُ أَمْرَهُ» قَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ،
فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ: أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قال: وألست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، وَدَعُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ نَحَوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُ الأُخْرى فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ وَنَدَعُهُ؟ قَالَ: مَنْ ذَا؟ قالوا: أبا بَكْرٍ، قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يد لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما
كلمه أخذ بلحيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المغفر، وكلما أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وقال: أخر يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأَسَهُ، وَقَالَ: مَنْ هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، قال: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ؟ - وَكَانَ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فلست منه في شيء»، ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدَّون النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ. فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ»، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فقام رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذا مكرز وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»
350
فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينما هو يكلم إذ جاءه سهيل بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ». قَالَ مُعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: هَاتِ أَكْتُبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كِتَابًا، فدعا النبي ﷺ بعلي رضي الله عنه، وقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل بْنُ عَمْرٍو: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كذا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ» ثم قال: «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد ابن عبد الله".
(يتبع... )
351
(تابع... ١): ٢٥ - هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والهدي مَعْكُوفاً أَن يبلغ......
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «وَاللَّهِ لَا يَسْأَلُونِي خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سهيل: وَعَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جاء (أبو جندل) بن سهيل بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أظهر المسلمين، فقال سهيل: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إليَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ»، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأجزه لي»، قال: مَا أَنَا بِمُجِيزٍ ذَلِكَ لَكَ، قَالَ: «بَلَى فَافْعَلْ»، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ مِكْرَزٌ: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندي: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَاباً شَدِيداً فِي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى»، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلَى»، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي»، قُلْتُ: أَوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ ونطوف به؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ»، قُلْتُ: لَا، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ»، قَالَ، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ تَأْتِيهِ وَتَطُوفُ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قال عمر رضي الله عنه: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أحد دخل
صلى الله عليه وسلم على أُمّ سلمة رضي الله عنها، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ له أُم سلمة رضي الله عنها: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٍ
351
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ - حَتَّى بَلَغَ - بِعِصَمِ الكوافر﴾ فطلق عمر رضي الله عنه يومئذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إحدهما معاوية بن أبي سفيان، والأُخْرى صفوان ابن أُميّة، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ (أَبُو بَصِيرٍ) رَجُلٌ من قريش وهو مسلم، فأرسولا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ، حَتَّى إذا بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: «لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا»، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي، وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله تعالى مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أَحَدٌ»، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سَيْفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ، إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَهُوَ الذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ - حَتَّى بَلَغَ - حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بينهم وبين البيت (أخرجه البخاري في صحيحه)
وقال الإمام أحمد، عن أنَس رضي الله عنه قال: أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وفيهم (سهيل بْنُ عَمْرٍو) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: لَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ»، قَالَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَاتَّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ»، واشترطوا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَنْ جَاءَ منكم لا نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعد الله» (أخرجه أحمد وروا مسلم في صحيحه). وروى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا صُدَّتْ عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تحن إلى أولادها (أخرجه الإمام أحمد).
352
- ٢٧ - لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيبًا
- ٢٨ - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
352
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا سَارُوا عَامَ الحُدَيبية لَمْ يَشُكَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا تَتَفَسَّرُ هَذَا الْعَامَ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ قَضِيَّةِ الصُّلْحِ وَرَجَعُوا عَامَهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَعُودُوا مِنْ قَابَلَ، وَقَعَ في نفس بعض الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، حَتَّى سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: أَفَلَمْ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: «بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا؟» قَالَ: لَا، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ»، وَبِهَذَا أَجَابَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أيضاً، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿لقد صدق الله الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَن شَآءَ الله﴾ هَذَا لِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَتَوْكِيدِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الاستثناء فِي شَيْءٍ، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿آمِنِينَ﴾ أَيْ فِي حَالِ دُخُولِكُمْ، وَقَوْلُهُ: ﴿مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ﴾ حال مقدرة، لأنهم في حال دخولهم لَمْ يَكُونُوا مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي ثَانِي الْحَالِ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَهُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «والمقصرين» في الثالثة أوالرابعة، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ولا تَخَافُونَ﴾ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الْأَمْنَ حَالَ الدُّخُولِ، وَنَفَى عَنْهُمُ الْخَوْفَ حَالَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْبَلَدِ، لَا يَخَافُونَ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الحُدَيْبية فِي ذِي الْقِعْدَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَخَرَجَ فِي صِفْرَ إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْضَهَا عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا صلحاً، وَقِسَّمَهَا بَيْنَ (أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ) وَحْدَهُمْ وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ (جعفر بن أبي طالب) وأصحابه و (أبو موسى الأشعري) وأصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ ولم يغب منهم أحد، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذي القعدة من سنة سبع خرج النبي ﷺ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، هُوَ وَأَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، قِيلَ: كان ستين بدنة، فلبى وصار أصحابه يلبُّون، فلما كان ﷺ قَرِيبًا مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ بَعَثَ (مُحَمَّدَ بْنَ سلمة) بِالْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ أَمَامَهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُشْرِكُونَ رُعِبُوا رُعْبًا شَدِيدًا، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ وَأَنَّهُ قَدْ نَكَثَ العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا، فأخبروا أهل مكة، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (مِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ) فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: دَخَلْتَ عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَالْقِسِيِّ والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَقَدْ بَعَثْنَا بِهِ إِلَى يَأْجُجَ»، فَقَالَ: بِهَذَا عَرَفْنَاكَ بِالْبِرِّ وَالْوَفَاءِ، وَخَرَجَتْ رؤوس الكفَّار مِنْ مَكَّةَ لِئَلَّا يَنْظُرُوا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ غَيْظًا وَحَنَقًا. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَجَلَسُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ، وَالْهَدْيُ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى ذِي طُوًى وَهُوَ رَاكِبٌ (نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ) الَّتِي كَانَ رَاكِبُهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهَا وَهُوَ يَقُولُ:
خُلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ * إِنِّي شَهِيدٌ أَنَّهُ رَسُولُهُ
خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ * يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
353
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ * كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
روى الإمام أحمد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا سُوءًا، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قوم وَهَّنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا، وَجَلَسَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تَلِي الحِجْر فَأَطْلَعَ الله تعالى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالُوا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، قَالَ: فَرْمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ حَيْثُ لَا يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَمْنَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الحمى قد أوهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا (أخرجه أحمد والشيخان). قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّمَا سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته، وروى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا عَلَيْهِمْ إِلَّا سُيُوفًا وَلَا يُقِيمُ بِهَا إلاَّ ما أحبوا، فاعتمر ﷺ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا، كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمروه أن يخرج فخرج ﷺ (رواه البخاري ومسلم). وقوله تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي فعلم الله عزَّ وجلَّ مِنَ الْخِيَرَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي صَرْفِكُمْ عَنْ مَكَّةَ وَدُخُولِكُمْ إِلَيْهَا عَامَكُمْ ذَلِكَ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ أَيْ قَبْلَ دُخُولِكُمُ الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحًا قَرِيبًا، وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ المشركين.
ثم قال تبارك وتعالى مبشراً للمؤمنين بنصرة الرسول ﷺ عَلَى عَدُوِّهِ وَعَلَى سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ أَيْ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ تَشْتَمِلُ على شيئين: علم، وعمل ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ أَيْ عَلَى أَهْلِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَمِلِّيِّينَ وَمُشْرِكِينَ ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾ أي أنه رسوله وهو ناصره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
354
- ٢٩ - مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
يُخْبِرُ تَعَالَى عن محمد ﷺ أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ فقال: ﴿مُّحَمَّدٌ رسول الله﴾ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ ثَّنى بالثناء على أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ
354
بَيْنَهُمْ}، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ شَدِيدًا على الكفار، رحيماً بالأخيار، عبوساً في وجه الكافر، بشوشاً في وجه المؤمن، كما قال تعالى: ﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجسد بالحمى والسهر» (أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير). وفي الصَّحِيحِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وَشَبَّكَ بين أصابعه.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾ وصفهم بكثرة الصَّلَاةِ، وَهِيَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا لله عزَّ وجلَّ، والاحتساب عند الله تعالى جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَهُوَ (الْجَنَّةُ) الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ الله عزَّ وجلَّ، وَرِضَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، كما قال جلا وعلا: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أكبر﴾ وقوله جل جلاله: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ قَالَ ابن عباس: يعني السمت الحسن، وقال مجاهد: يعني الخشوع والتواضع، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الصَّلَاةُ تُحَسِّنُ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُن وَجْهُهُ بالنهار (أسنده ابن ماجة في سننه وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ، وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ. وَقَالَ عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلا أبداها الله تعالى عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ» وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَّعَ الله تَعَالَى، أصلح الله عزَّ وجلَّ ظاهره للناس، كما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْلَحَ سريرته أصلح الله تعالى علانيته»، وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسَرَّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» (أخرجه الطبراني عن جندب بن سفيان البجلي). وفي الحديث: «إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ، وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ، وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة» (أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عباس)، فَالصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ خَيْرٌ من الحوارين فِيمَا بَلَغَنَا، وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه الله تبارك وتعالى بِذِكْرِهِمْ، فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَلِهَذَا قال سُبْحَانَهُ وتعالى ههنا: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ أَيْ فِرَاخَهُ ﴿فَآزَرَهُ﴾ أَيْ شَدَّهُ ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ أَيْ شَبَّ وَطَالَ ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع﴾ أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ، فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ انتزع الإمام مالك رحمه الله بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُمْ، وَمَنْ غَاظَ الصَّحَابَةُ فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ على ذلك.
355
والأحاديث في فضل الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِيهِمْ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ، ثم قال تبارك وتعالى: ﴿وَعَدَ الله الذيم آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم﴾ مِنْ هَذِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ ﴿مَّغْفِرَةٌ﴾ أَيْ لِذُنُوبِهِمْ ﴿وَأَجْراً عَظِيماً﴾ أَيْ ثَوَابًا جَزِيلًا، وَرِزْقًا كَرِيمًا، وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ، لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقتفى أثر الصحابة رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ، الَّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُمْ. روى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ (أخرجه مسلم في صحيحه).
356
- ٤٩ - سورة الحجرات
357
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).