تفسير سورة الفتح

التفسير الواضح

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير الواضح
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

هذا العام فلا يدخلونها، وإذا كان العام القابل خرجت قريش من مكة ودخلها المسلمون ثلاثة أيام، معهم سلاح الراكب: السيوف في القرب.
رجع المسلمون عن مكة بعد الصلح، وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض بعض كبار المسلمين إلا أبا بكر فحينما اعترض عمر بن الخطاب على الصلح قال له: الزم غرزه (أى ركابه وسر مع النبي) يا ابن الخطاب، وقد أثبتت الأيام أنه كان فتحا جديدا ونصرا مبينا للمسلمين، ونزلت في شأنه: هذه السورة الكريمة.
صلح الحديبية [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
477
المفردات:
فَتَحْنا الفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، مأخوذ هذا المعنى من فتح باب الدار وهذا على أن المراد فتح مكة، وقيل: هو صلح الحديبية، والمراد: أوجدنا لك سبب الفتح «١». عَزِيزاً: ذا عز لا ذل معه، أو عزيزا أى: فريدا لا شبيه له.
السَّكِينَةَ: الطمأنينة. السَّوْءِ ساءه يسوءه سوءا ومساءة: نقيض سرّه، والاسم: السوء، والمراد: الهزيمة والشر. دائِرَةُ وهي في الأصل: عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان كإحاطة الدائرة بالمركز إلا أن أكثر استعمالها في الشر والمكروه والمراد: دائرة هي السوء.
المعنى:
يخبر الله تعالى عن نفسه بنون العظمة أنه فتح للنبي صلّى الله عليه وسلّم فتحا عظيما بعقد صلح الحديبية بينه وبين المشركين بمكة، فقد كانت هذه أول مرة اعترفت فيها قريش بمحمد لا على أنه ثائر خارج، أو طريد لا يعبأ به، بل اعتبرت محمدا وصحبه قوة يحسب لها حساب، ويجب أن يعقد معها صلح، ثم إن تسليمها بحق الزيارة للمسلمين في العام القابل اعتراف صريح بأن الإسلام دين مقرر معترف به، وهذه الهدنة قد جعلت المسلمين يأمنون شر عداوة المشركين ألد أعدائهم الخطرين، ويوجهون عنايتهم لنشر دعوتهم الإسلامية في أرجاء الجزيرة العربية، ولذا نرى الرسول بعث البعوث وأوفد الرسل لكسرى والمقوقس وهرقل وأمراء الغساسنة وعمال كسرى في اليمن، وإلى نجاشى الحبشة، وفيها صفى حسابه مع اليهود وقد انتشر الإسلام بعد هذا الصلح انتشارا واسعا بسبب تلك الهدنة التي اندفع الدعاة للدين الجديد يشرحون للناس الإسلام حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وها هو ذا محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخل مكة بعدها بعامين اثنين في عشرة آلاف مقاتل.
(١) - وعلى ذلك فهو مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب، أو هو استعارة تبعية في فتحنا حيث إنه أطلق الفتح وأراد الصلح لعلاقة المشابهة في الظهور والغلبة.
478
وقد كان أشد شيء على نفوس المسلمين وخاصة أمثال عمر- رضى الله عنه- شرطا قبله النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلاصته أن من ارتد من المسلمين قبله المشركون، ومن جاء من المشركين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم رده النبي ولم يقبله، وحجة النبي في ذلك أن من ارتد عن الإسلام فلا حاجة لنا به، ومن جاء مسلما منهم وحاول اللحاق بالمسلمين فليصبر وسيجعل الله له مخرجا.
وقد أثبتت الحوادث أن هذا العهد كله- خاصة هذا الشرط الذي ظنه المسلمون مجحفا بهم- حكمة سياسية، وبعد نظر كان له أكبر الأثر في الدعوة الإسلامية. فهذا أبو بصير وقد إلى النبي مسلما ينطبق العهد عليه برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأى مولاه، فقال له النبي حينما طلب إليه الرجوع: يا أبا بصير إنا قد أعطينا لهؤلاء عهدا ولا يصح لنا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق إلى قومك، قال أبو بصير: أتردنى إلى المشركين يفتنونى في ديني؟! وأخيرا بعد حوار مع مرافقيه نزل في مكان على ساحل البحر الأحمر في طريق قريش إلى الشام، واجتمع معه جمع من المسلمين الفارين بدينهم، وأخذوا يقطعون على قريش سبيل تجارتهم حتى ضجوا وطلبوا من النبي بإلحاح أن يجيرهم من هؤلاء، وأن يبقيهم معه في المدينة، وسقط بذلك الشرط الذي أقلق عمر وغيره.
أليس هذا فتحا مبينا فتح الله به على المسلمين، وكان فتحا مبينا، وفوزا عظيما؟! نعمه هو أعظم الفتوح فقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح- الراحة- ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ويعاملوكم معاملة الأنداد وقيل: هو فتح مكة، ولتحقق وقوعه عبر عنه الله بقوله: فتحنا.
وهل الفتح علة لمغفرة الله لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وقد أجاب العلامة الزمخشري عن ذلك بقوله: لم يجعل علة للمغفرة فحسب، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة- هو يرى أن الفتح لمكة- ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين والجزاء العاجل والآجل، ويجوز أن يكون الفتح من حيث هو جهاد للعدو سببا للغفران والثواب والهداية للصراط المستقيم، والنصر العظيم وما تقدم من الذنب وما تأخر المراد به: ما فرط من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المعصوم عن
479
معصية ربه- من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: المراد ما هو ذنب في نظره العالي، وإن لم يكن في الواقع كذلك، ولعل الإضافة في قوله: (ذنبك) تشير إلى هذا المعنى، وبعض العلماء يفسر المغفرة للذنب بالستر بينه وبين صاحبه فلا يقع منه، أو بالستر بين الذنب وبين عقابه، والمعنى الأول يعامل به المعصومون من الأنبياء، والثاني يعامل به بقية البشر، ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره ودخول الناس فيه أفواجا، وما أفاضه عليك ربك من نعم الدنيا والآخرة.
ويريك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة، وينصرك الله نصرا عزيزا ذا عز، لا ذل معه، أو هو عزيز المنال فريد المثال، والنصر لا يكون إلا من عند الله، ولذا أظهر لفظ الجلالة معه.
وهذا فضل الله على نبيه، أما فضل الله على المؤمنين من أصحابه فقال الله فيه: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين، ووضع فيها الطمأنينة والثبات بعد التزعزع والاضطراب الذي جعل عمر يقول: ألسنا مسلمين؟ ألسنا على الحق؟ فعلام نعطى الدنية في ديننا؟!، ولكن الله بعد هذا أنزل الطمأنينة في قلوبهم وأثلج صدورهم ببرد اليقين، وشرحها لما رآه النبي، وصدقت الأيام رأيه كما مر، أنزل في قلوبهم السكينة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويقينا على يقينهم، ولا غرابة في ذلك فلله جنود السموات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وكان الله عليما كامل العلم بجميع الأمور حكيما كامل الحكمة فلا يضع الشيء إلا في موضعه.
دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة الله- تعالى- في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة «١»، ويكفر عنهم سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما وفعل ذلك أيضا ليعذب المنافقين والمنافقات لغيظهم من تمام النعمة على المسلمين، ولا شك أن ازدياد الإيمان بالعمل مما يغيظ المنافقين والمشركين، ولعل تقديم المنافقين والمنافقات على المشركين والمشركات لأنهم أكثر ضررا على المسلمين، أعنى بهم
(١) - العلة في الحقيقة معرفة النعمة والشكر عليها لكنها لما كانت سببا في دخول الجنة أقيم المسبب- دخول الجنة- مقام السبب. [.....]
480
الظانين بالله ظن السوء، أى: ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله- عز وجل- لا ينصر رسوله والمؤمنين.
على هؤلاء وحدهم دائرة السوء، وما يتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم، ودائر عليهم، وغضب الله عليهم وطردهم من رحمته شر طردة، وأعد لهم جهنم، وساءت مصيرا، ولا عجب في ذلك فهم وإن كثروا عدة وعددا فلله جنود السموات والأرض، وكان الله عزيزا لا يغالب، حكيما في كل أفعاله، انظر إلى تذييل الآية السابقة بقوله: وكان الله عليما حكيما، وهنا: عزيزا حكيما لأن المقصود أولا التدبير التام لأمر الخلق فيناسب العلم والإحاطة، وهنا المراد تهديد المنافقين والمشركين فيناسبه العزة والغلبة.
المتعاهدون مع الله ورسوله [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
المفردات:
شاهِداً: تشهد على أمتك بالبلاغ. وَتُعَزِّرُوهُ: تعظموه وتفخموه، والتعزير والتعظيم والتوقير: المنع، ومنه التعزير في الحد. وَتُوَقِّرُوهُ: من التوقير وهو التعظيم، وقيل: المراد تسودوه. يُبايِعُونَكَ المبايعة: مبادلة المال بالمال، وهم
481
عاهدوا النبي على الثبات في محاربة الكفار، وعاهدهم النبي على ضمان الجنة لهم، فأطلق المبايعة على المعاهدة «١» التي عقدها النبي صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين، وهي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة بالحديبية- قرية بينها وبين مكة حوالى مرحلة، وهي في حدود الحرم. نَكَثَ: نقض البيعة. أَوْفى بِما عاهَدَ يقال: أوفى ووفى بالعهد: إذا أتمه.
المعنى:
إنا أرسلناك يا محمد شاهد صدق تبلغ الدعوة الإلهية لإنقاذ البشرية، وتبشر من اهتدى إلى الصراط المستقيم بجنة عرضها السموات والأرض، وتنذر من حاد وتردى في الهوى وسلك سبيل الغي والضلال لتنذره بجهنم ونارها التي أعدت للكافرين وإنما فعل ذلك ربكم لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتنصروا رسوله، وتوقروه وتعظموه، وتسبحوه وتنزهوه وتصلوا له- سبحانه- بكرة وأصيلا في الغداة والعشى، وهما طرفا النهار، وما بينهما تبع لهما، ولا شك أن نصرة رسول الله نصرة لله، والتفانى في تبليغ دعوة الله من أكبر الدواعي لرضا الله ورضا رسوله، وهذا كله يتطلب من المسلمين عقد العهود، وتأكيد المبايعة مع النبي على نصرة دينه مهما كلفهم ذلك، وقد كان ذلك، وتعاهد المسلمون وعقدوا معه بيعة الرضوان.
ولما بين الله أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينقذ البشرية من جهالتها، ويرفعها من وهدتها، ومن كانت هذه منزلته عند الله يكون من بايعه في الظاهر فقد بايع الله حقيقة وفي الواقع، ومن بايع رسول الله على ألا يفر في القتال حتى ينصر الله دينه أو يستشهد في سبيل ذلك إنما كان يقصد بذلك رضا الله ورسوله وثواب جنته إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ فالرسول سفير محض بين الله وبين أوليائه من المؤمنين يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وهذا استئناف مؤكد لما تضمنه الكلام السابق من أن مبايعة الرسول مبايعة لله.
(١) - هذا الإطلاق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، ووجه الشبه: اشتمال كل على المبادلة.
482
والسلف- رضوان الله عليهم- يفهمون في مثل هذه الآيات المعنى العام والغرض من السياق، مع تنزيه المولى- جل شأنه- عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح له، ويكلون أمر ذلك لله قائلين: إن معرفة حقيقة «اليد» التي وردت هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات، وأنى لمخلوق ذلك؟ وهيهات ثم هيهات له ذلك! فالأولى التفويض لعلام الغيوب مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة.
وأما الخلف فيؤولون ذلك بأن في الآية استعارة «١» أو المراد باليد القوة لا الجارحة والمعنى: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فثق بالله وحده فالنصر من عنده لا من عند غيره، أو المعنى: نعمة الله عليهم بالهداية، وتوفيقهم لمبايعتك فوق مبايعتهم ونصرتهم لك وهذا على أن اليد تطلق أيضا على النعمة لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [سورة الحجرات آية ١٧].
وإذا كان الأمر كذلك فمن نكث العهد ونقضه فإنما وبال إثمه وعاقبة فعله على نفسه فقط لا على غيره، ومن أتم عهده وأدى واجبه كاملا فله جزاء الحسنى، وسيؤتيه ربك أجرا عظيما، حتى يرضى.
روى الشيخان عن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: «على أى شيء بايعتم رسول الله؟ قال: على الموت»... وروى مسلم عن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتنى يوم الشجرة- التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية- والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر» قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين. فجماعة كانت مع سلمة وجماعة مع معقل.
(١) - بالكناية في لفظ الجلالة حيث شبه بالمبايع وذكر اليد قرينة وإسنادها له تخييل، وفي ذكر اليد مع أيدى الناس مشاكلة، ويقول علماء البلاغة: إن في الآيات محسنات بلاغية كثيرة.
483
المتخلفون عن الحديبية [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١١ الى ١٧]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
484
المفردات:
الْمُخَلَّفُونَ: هم المتخلفون الذين خلفهم الله عن السير إلى مكة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الْأَعْرابِ المشهور: أنهم سكان البوادي من العرب. ضَرًّا: هو الضد للنفع من هزيمة أو هزال أو سوء حال. يَنْقَلِبَ: يرجع. بُوراً أى:
هلكى وفاسدين لا تصلحون لخير. ذَرُونا: اتركونا نسير معكم.
لا يَفْقَهُونَ: لا يفهمون ولا يعلمون من أمر دينهم إلا قليلا. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ: أصحاب قوة وشدة. حَرَجٌ: إثم وذنب. الْأَعْرَجِ: من في رجله آفة.
المعنى:
خرج رسول الله عام الحديبية إلى مكة معتمرا لا يريد حربا ولا اعتداء، واستنفر القبائل العربية الضاربة حول المدينة أن يخرجوا معه إلى مكة، ليشهد أكبر عدد ممكن على أنه لا يريد حربا، فإن اعتدت عليه قريش أو منعته ظهر أمرهم للعرب كافة، وليكون في أكبر عدد ممكن من أنصاره حتى لا تتعرض لهم قريش بسوء.
وكان ممن طلبهم للخروج معه قبائل غفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم. وأشجع، والديل، فتخلف من هؤلاء أكثرهم حذرا من قريش مع أن النبي أحرم بالعمرة، وساق الهدى معه ليعلم الناس أنه لا يريد حربا.
ومع هذا تخلفت الأعراب، وتثاقلوا عنه، واعتلوا بالشغل، وقالوا: شغلتنا أموالنا التي جمعناها، وأهلونا، وليس لنا من يقوم بها فاستغفر لنا ربك يا محمد وادعه ليقبل العذر، قالوا هذا بألسنتهم، والله يعلم أنهم كاذبون ففضحهم، وأنزل في شأنهم قرآنا
485
يخبر بخبرهم قبل أن يقولوه، وقال الله تعالى: يقولون هذا الكلام السابق بألسنتهم فقط ولم يكن لهم عذر، ولم يطلبوا المغفرة حقّا.
بعد ذلك أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً من يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله- تعالى- إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا؟ لا أحد يقدر على ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فليس الشغل بالأهل والمال عذرا، لأنه لا يدفع ضرّا، ولا لقاء العدو يمنع نفعا أراده الله.
بل الأمر أخطر من هذا، والله بما تعملون أيها المخلفون خبير وبصير وسيجازيكم عليه بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم! والمعنى: السبب الحقيقي في تخلفكم ليس هو كما تقولون، وإنما هو ظنكم أن محمدا وأصحابه قلة فكيف يحاربون قريشا ومن حولها وكانوا بالأمس يحاربونهم على أبواب المدينة- في غزوة الخندق- وزين ذلك في قلوبكم أيها المتخلفون، والذي زينه هو الشيطان وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل ٢٤] أو هو الله وزَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل ٤] وظننتم ظنا سيئا، وكنتم قوما هلكى، لا خير فيكم أبدا.
ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فإنا أعتدنا له وهيأنا له نارا وسعيرا لأنه في عددا الكفار ولا عجب فلله ملك السموات والأرض يدبر أمره بحكمة تامة وعلم كامل فيعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، ويغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة، وهو أعلم بخلقه، وكان الله غفورا رحيما.
سيقول الذين خلفهم الله عن الخروج معكم، وأقعدهم عن السير مع رسول الله وصحبه، سيقولون وقت انطلاقكم إلى مغانم- هي مغانم خيبر-: ذرونا نتبعكم ونسير معكم في الغزو، قالوا هذا لأنهم ظنوا أن المسلمين سيغنمون، هؤلاء المتخلفون يريدون بطلبهم هذا أن يبدلوا كلام الله، إذ هو قد وعد من حضر صلح الحديبية وبيعة الرضوان بالمغانم خاصة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ على من حضر بيعة الرضوان وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [سورة الفتح الآيتان ١٨، ١٩].
قل يا محمد لهم: لن تتبعونا في غزو بعد هذا فإنا عرفناكم، مثل ذلك القول الصادر منى أى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو لن تتبعونا- قال الله وحكم به، وهو خير الحاكمين، فهو
486
قد حكم بأنكم لا تتبعون النبي، وأن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية فقط ولما كان هؤلاء المنافقون لا يعتقدون شيئا من هذا، بل يظنون أن هذه حيل يحتال بها المسلمون حتى يفوتوا عليهم غنائم خيبر، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغضاء قالوا- أى:
المنافقون المتخلفون-: بل «١» تحسدوننا فليس الأمر كما تدعون بل إنما قلتم هذا حسدا وبغيا علينا، هذا ما كان منهم، وقد رد الله عليهم مضربا عن كلامهم مبينا أنهم قوم لا يفقهون من أمر دينهم إلا قليلا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذا تراهم يخادعون الله ورسوله، وما يخادعون إلا أنفسهم، وما يشعرون قل يا محمد لهؤلاء المتخلفين:
ستدعون إلى محاربة قوم أولى بأس شديد، والظاهر- والله أعلم- أنهم المرتدون بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد دعا أبو بكر خليفة رسول الله المسلمين- ومنهم هؤلاء المتخلفون- إلى قتالهم حتى يسلموا، والمشركون من العرب والمرتدون هم الذين يقاتلون حتى يسلموا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم من المشركين والوثنيين والمجوس وأهل الكتاب فإنه يقبل منهم الإسلام أو الجزية أو القتال، وهذا رأى أبى حنيفة بخلاف الشافعى، والحق مع أبى حنيفة.
أيها المتخلفون: إن تطيعوا الله وأمر إمامكم يؤتكم أجرا حسنا، ويقبل منكم التوبة، وإن تتولوا وتعرضوا كما أعرضتم سابقا يعذبكم الله عذابا أليما فهذه فرصة لكم فاهتبلوها بتوبة خالصة صادقة.
وهذه رحمة الإسلام لا يحاسب إلا القادر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولذا يقول: ليس على الأعمى حرج، وليس عليه ذنب أو إثم في تخلفه عن رسول الله، وليس على الأعرج حرج كذلك، ولا على المريض حرج أيضا في ترك الجهاد حيث لا قدرة له عليه، تلك أعذار مقبولة، والله- سبحانه- هو العليم بذات الصدور،
وصدق رسول الله «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ مّا نوى».
وهناك القانون العام الذي يجمع الخلائق كلها حتى لا يكون عذر لمعتذر: من يطع الله ويطع رسول الله في كل أمر ونهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، جنات عرضها السموات والأرض، ومن يتول معرضا عن أمر الله ورسوله مؤثرا نفسه وهواه يعذبه عذابا أليما، ويدخله جهنم، وساءت مصيرا..
(١) - بل هنا للإضراب في الموضعين.
487
بيعة الرضوان وما فيها من خير [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢٦]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
488
المفردات:
الشَّجَرَةِ: المعهودة التي كان تحتها بيعة الرضوان. وَأَثابَهُمْ: كافأهم على عملهم. آيَةً: علامة على أن الله يدافع عن المؤمنين. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أى: فهي محصورة لا تفوتكم. بِبَطْنِ مَكَّةَ المراد: بالحديبية. وَصَدُّوكُمْ:
منعوكم. الْهَدْيَ: هو ما يهدى للحرم ويذبح فيه. مَحِلَّهُ أى: محل ذبحه وهو منى. مَعْكُوفاً أى: محبوسا. أَنْ تَطَؤُهُمْ المراد: الإيقاع بهم بالقتل أو غيره. مَعَرَّةٌ: وهي العيب. تَزَيَّلُوا: تفرقوا. الْحَمِيَّةَ: هي الأنفة، يقال: حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. سَكِينَتَهُ المراد: الطمأنينة والوقار. كَلِمَةَ التَّقْوى: هي كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله..
بيعة الرضوان بيعة مشهورة كان لها أثر كبير في سياسة المسلمين العامة، وقد كتب عنها كثير من المؤرخين وكتاب السيرة وعلماء التفسير، وقد ذكرنا طرفا من أخبارها في أول السورة، والذي عجل بعقدها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أرسل عثمان بن عفان رسولا له إلى قريش يبلغهم قصده، وأنه لا يريد إلا العمرة بدليل أنه ساق الهدى وليس معه إلا السيوف في القرب وقد أشيع وقتذاك أن عثمان قتل، وقد كانت قريش احتبسته أياما، وكان وقع هذا الخبر شديدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، فدعا إلى عقد بيعة، وفي صحيح مسلم عن أبى الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ
489
بيده تحت الشجرة- شجرة الطلح- فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصارى اختبأ تحت بطن بعيره، بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت، وفي رواية: بايعناه على الموت، فلما علمت قريش بأمر المبايعة خافوا وأرسلوا سهيل بن عمرو لعقد الصلح الذي سمى (صلح الحديبية)،
وكتب علىّ- رضى الله عنه-: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف:
باسمك اللهم، فكتب، وكتب بعدها: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لا تبعناك ولما قاتلناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «امحه» فما استطاع أن يمحوه، فطلب النبي من علىّ أن يريه هذا.
فمحاه النبي بنفسه
، وهكذا نرى اندفاع قريش نحو جاهليتهم وحميتهم في حين أن النبي كانت تنزل عليه من ربه السكينة والطمأنينة وقد ألزمه كلمة التقوى، وكان النبي وصحبه أحق بها وأهلها، وكان هذا الصلح الذي لم يرض عنه بعض الصحابة فتحا مبينا، ونصرا عظيما للدعوة الإسلامية، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
المعنى:
لقد رضى الله عن المؤمنين الراسخين في الإيمان الكاملين في الإخلاص، حيث فعل معهم فعل الراضي عنهم، بما جعل لهم من الفتح المبين والتوفيق السديد، وما قدر لهم من الثواب الجزيل، لقد رضى الله عن المؤمنين جميعا الذين بايعوك إلا جد بن قيس الأنصارى فقد كان منافقا ولم يبايع، وفهم من ذلك أنه لم يرض عن الكفار حيث خذلهم في الدنيا، وأعد لهم سوء المصير في الآخرة، ولأجل هذا الرضا سميت تلك البيعة بيعة الرضوان.
لقد رضى الله عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة، شأن الواثق بنفسه المطمئن لنصرة الله له، فعلم الله ما استقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق في مبايعتهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا هو فتح خيبر، وقد كان نزول هذه الآيات عند منصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم هو وصحبه من الحديبية، أى: قبل فتح خيبر، فيكون هذا وعدا من الله وقد تحقق، وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها فقد كانت قرية خيبر غنية بالزروع والثمار، وكان سكانها من اليهود على جانب من الثراء، وانظر إلى ختام الآية
490
بقوله: وكان الله عزيزا لا يغلبه غالب، حكيما فيما صنع لأوليائه، ولا شك أن هذا تذبيل مناسب جدّا.
وعدكم الله مغانم كثيرة في حروبكم- أيها المسلمون- ما دمتم صادقي النية تجاهدون في سبيل الله ولإعلاء كلمته، وهذه المغانم ممتدة إلى يوم القيامة بهذا الشرط، فجعل لكم هذه- أى: غنيمة خيبر- جزاء لكم على امتثالكم أمر الله وأمر رسوله، وكف أيدى الناس عنكم، والظاهر أن المراد بالناس هنا أهل خيبر وحلفاؤها من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة حلفائهم فقذف الله في قلوبهم الرعب، وقيل المراد بالناس: أهل مكة حينما كان المسلمون بالحديبية، والرأى الأول أصح لأن الكف وهم في الحديبية سيأتى خبره، كف أيدى الناس عنكم لتشكروه على ذلك، ولتكون هذه آية للمؤمنين، وأن الله يدافع عن المؤمنين ما داموا مؤمنين، والله بهذا يهديكم إلى صراط مستقيم هو طريق التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
فعجل لكم مغانم خيبر هذه، وعجل لكم أخرى هي غنائم هوازن يوم حنين لم تقدروا عليها في أول الأمر حيث ر كنتم إلى قوتكم، ولم تتوكلوا على الله، ولكن الله أحاط بها واستولى عليها فهي في قبضته وتحت تصرفه يظهر من يشاء عليها، وقد أظهركم عليها حينما لجأتم إليه وتوجهتم له، وكان الله على كل شيء قديرا وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (الآيتان: ٢٥، ٢٦ من سورة التوبة)، فهل لنا أن نعتبر ونفوض الأمر إلى الله إنه بصير بالعباد؟!! ولو قاتلكم الذين كفروا من أهل مكة ولم يصالحوكم لولوا الأدبار وانهزموا هزيمة شنيعة، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا، وتلك سنة الله مع رسله وأوليائه التي قد مضت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وهو الذي كف أيدى كفار مكة عنكم، وكف أيديكم عنهم، وأنتم ببطن مكة، فإن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في حرم مكة، كف أيديكم عنهم من بعد أن أظفركم عليهم فقد روى عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلحين يريدون أخذ النبي وصحبه على غرة فأخذناهم
491
سلما- باستسلام منهم وإذعان- فهم قد أخذوا قهرا واستسلموا عجزا، واستحييناهم فأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكان الله بما تعملون بصيرا وسيجازيكم على ذلك بالجزاء الأوفى.
ولم يكن كفهم عنكم لخير فيهم فإنهم كفروا بالله ورسوله، وأخرجوا رسول الله من مكة، وصدوكم عن المسجد الحرام. وصدوا الهدى- ما يهدى إلى البيت من النعم حالة كون الهدى معكوف ومحبوسا من أن يبلغ محله، وكل ذلك يقتضى قتالهم، فلا يعقل أن يقال: إن الفريقين اتفقوا على عدم القتال، واصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع بل النزاع مستمر لأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدى من أن يبلغ محله.
وإنما كان الكف والمنع لحكم إلهية الله يعلمها، منها أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أشخاصهم، والله يعلمهم، فإذا كان القتال ولم يكن الكف لقتلتم هؤلاء، وأنتم لا تعلمونهم فتصيبكم منهم معرة وعيب ومكروه ومشقة حيث تجب الكفارة ويحصل الأسف لقتلهم، وخلاصة المعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا في الحرب رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بين ظهراني الكفار، وأنتم لا تعلمونهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم، والله يكره أن يصيبكم مكروه ومعرة، ولكن الله- سبحانه- كفكم عنهم، وكفهم عنكم ليدخل الله بذلك الكف من يشاء في رحمته، أى: في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام ومنع إيذاء من لا يستحق من المؤمنين الذين يعيشون في مكة.
لو تميز المؤمنون عن الكفار في مكة، وافترق بعضهم عن بعض، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر غير عذاب الآخرة «١».
اذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى حيث أنفوا من كتابه بسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصف النبي بأنه رسول الله، ومن تمسكهم بشروط هي في ظنهم مجحفة بالمسلمين، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين
(١) - وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وجوز بعضهم أن يكون (لو تزيلوا) كالتكرار لقوله تعالى: لولا رجال مؤمنون، وقوله: (لعذبنا) هو جواب لولا.
492
حيث قبلوا كل ما عرض عليهم في سبيل ترك الحرب المهلكة، وقد كان هذا فتحا ونصرا مبينا، فانظر إلى توفيق الله ورعايته للمسلمين.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
تحقيق رؤيا الرسول [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
المفردات:
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أصل الإظهار: جعل الشيء على الظهر، ثم كنى به عن الإعلاء.
رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا شعور رءوسهم وقصروا، فقص رؤياه على المسلمين ففرحوا واستبشروا، وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول الله حق، فلما تأخر ذلك، وردهم المشركون عن مكة عام الحديبية تكلم بعض المنافقين في ذلك قائلين: والله ما حلقنا ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.
493
المعنى:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا، ولم يجعلها أضغاث أحلام، وإن كان تفسيرها عمليا لم يقع إلا بعد عام، والصدق يكون بالقول أو بالفعل، وما في الآية صدق بالفعل فالله- سبحانه وتعالى- صدقه في رؤياه صدقا ملتبسا بالحق، أى: بالحكمة البالغة، والقصد الصحيح الذي يظهر به الإيمان الكامل والنفاق الصريح، ولهذا أخر تفسير الرؤيا ووقوعها إلى العام القابل.
والله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله، ولعل سائلا يسأل ويقول: الله خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق بالمشيئة في فعله؟
الجواب: أنه تعليم للعباد، وإيذان بأن منهم من يدخل ومنهم من يتخلف لموت أو مرض، ولعل هذا التعليق- إن شاء الله- حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو حكاية كلام النبي لأصحابه، وإيذان بأن دخولهم مكة بأمر الله ومشيئته لا بشيء آخر.
لتدخلن المسجد الحرام حالة كونكم آمنين من العدو، محلقين شعور رءوسكم ومقصرين له، لا تخافون بعد الدخول «١» فعلم ما لم تعلموا من الأمور «٢»، فجعل من دون ذلك، أى: من قبل تحقيق الرؤيا عمليا فتحا قريبا، وهو فتح خيبر، جعله كالدليل على صدق الرؤيا وتحقيقها.
وكيف تشكون في تحقيق رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقد أرسله ربه بالهدى ودين الحق، فلا يصح أن يريه في المنام خلاف الواقع، فيكون ذلك داعيا لتكذيبه وزعزعة الناس فيه وفي أخباره، هو الذي أرسل رسوله هاديا للناس، ومصاحبا للهدى وملتبسا به ومؤيدا بالحجة والبرهان، والنور والقرآن، أرسله بالهدى ودين هو الحق لا شك فيه، ليعليه على الأديان كلها فيقر الحق منها، ويبطل الباطل ويغير من أحكامها ما لا يصلح في هذا الزمان، وكفى بالله شهيدا على ذلك، وأنك رسوله وخاتم أنبيائه. أليس في هذا تسلية؟ وأى تسلية أقوى من ذلك؟ على رد سهيل بن عمرو لرسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
(١) - وقيل: هي جملة مستأنفة واقعة جواب سؤال: كيف الحال بعد الدخول؟ فقيل: لا تخافون.
(٢) - والفاء عاطفة لعلم على صدق، والترتيب باعتبار التعليق الفعلى بالمعلوم لا بنفس المعلوم، وإلا فهو متقدم على تصديق الرؤيا.
494
محمد وصحبه الأبرار [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
المفردات:
أَشِدَّاءُ: جمع شديد، وهو الغليظ القاسي. رُحَماءُ: جمع رحيم، وهو من في قلبه رحمة. سِيماهُمْ السيما: العلامة. مَثَلُهُمْ: صفتهم. شَطْأَهُ الشطء: فراخ النخل والزرع، أو هو ورقه والمراد بالفراخ فروع الشجر التي تنبت حول الأصل. فَآزَرَهُ: أعانه. فَاسْتَغْلَظَ: صار نظيفا وشديدا. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أى: استقام وقوى على أصوله التي هي قضبانه.
وتلك خاتمة سورة الفتح، وبيان أسباب النصر، ودعائم الفوز.
المعنى:
ذلك الرسول الذي أرسل بالهدى ودين الحق، هو محمد رسول الله وخاتم أنبيائه وإمامهم، الذي قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.
هذا هو محمد الرسول الأمين الصادق الصدوق، الذي يصلى عليه الله في علاه، وملائكته الأبرار وصالحو المؤمنين- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
495
هو محمد رسول الله وهؤلاء هم أصحابه الذين معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم، هؤلاء هم أصحابه أعلام الهدى وأئمة الدين، الذين
يقول فيهم النبي ما معناه:
«أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»
أى: نصفه، ويقول الله فيهم: هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
فالمؤمن حقا الذي لا يلين مع الكفار الذين حاربوا دينه، فهو شديد عليهم رحيم بالمؤمنين، غضوب عبوس في وجه الكافرين، بشوش في وجه أخيه المؤمن. وإنما المؤمنون إخوة،
ويقول النبي: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى»
هؤلاء هم المؤمنون الذين قامت على رءوسهم دعوة الإسلام، وفتحت بسواعدهم الحصون والقلاع، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وما ضل المسلمون، ولا كسرت شوكتهم إلا يوم أن تفرقوا، وأصبحوا أذلة مع غيرهم أعزة على بعضهم، وكانت بينهم الفتن والمحن والإحن التي تهد كيان الإسلام، وتقيم صروح الكفر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!! أيها الناس! نحن في عصر يكاد يتخطفنا فيه أعداء الإسلام من كل جانب، وهم قوم برعوا في السياسة والدعاية، والدعوة إلى الإلحاد بكل طريق، وبكل أسلوب، وسلاحهم في ذلك الاقتصاد والعلم المادي، وهذه الفرقة البادية، والخلاف الظاهر في صفوف المسلمين، لا ينتج إلا كل شر، وللأسف لا يتحمل تبعة هذا إلا الإسلام الذي قل ناصره، وضعف ساعده، حتى أصبح يستهزأ بسوره، ويتندر بأحكامه أيها الناس! ماذا نقول؟!!! اللهم لطفا من عندك، ونصرا لدينك وحماية لقرآنك إنك يا رب نعم السميع المجيب.
هؤلاء المسلمون تراهم ركعا سجدا فهم كثير والعمل والصلاة، ولا يقصدون بذلك إلا وجه الله، ولا يبتغون إلا فضل الله وإحسانه، ولا يرجون إلا رضا الله ورضوانه وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «١» هؤلاء سيماهم في وجوههم من أثر السجود
(١) - سورة التوبة آية ٧٢.
496
وما هي علامتهم؟ أهو الأثر الذي يظهر من أثر السجود في جبهة المصلى؟؟ ربما يكون صاحبها أقسى قلبا من فرعون، والظاهر- والله أعلم- أنها نور في الوجه، وهدوء في النفس، ولين في الجانب، وخشوع وخضوع، فإن من أصلح سريرته أصلح الله- تعالى- علانيته، وعلامة الإيمان الصحيح أن تكون قرآنا يتحرك، وصورة صحيحة للإسلام وعنوانا كاملا لتهذيبه فلا تفسق ولا ترفث، ولا تكذب ولا تغش، ولا تخادع ولا تضلل، ولا تقسو ولا تفجر، فشر الناس من خافه الناس اتقاء شره، تلك بعض علامات الإيمان تبدو في وجه المسلم الكامل.
ذلك مثل المؤمنين في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وهذا تكريم لهم من الله كبير ولقد ضرب الله لهم مع النبي مثلا من أروع الأمثلة، فقد بدأ النبي صلّى الله عليه وسلّم الدعوة وحده ثم آمن به قليل من الناس، هذا القليل كثر وزاد حتى أصبح الكل قوة لا يستهان بها كما تقوى الطاقة الأولى من الزرع بالفروع التي تنبت حول الأصل حتى تعجب الزراع، فعل الله معهم ذلك ليغيظ بهم الكفار، وقد غاظ بهم الكفار فعلا، وانهدم عزهم ودالت دولة الروم وفارس، وعلت راية الإسلام حتى امتلأ قلب الكفر وأهله غيظا منه، وحقدا عليهم إلى اليوم، فهذه آثار التبشير وحملات أعداء الإسلام تترى، والمدهش أنهم يجدون في شباب الإسلام المثقف ثقافة غير دينية مرعى خصبا ويستغلون قلة ثقافتهم الدينية فينفثون سمومهم، أيها المسلمون: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم مغفرة كبيرة، وأجرا عظيما، والله صادق الوعد، وهو لكل من يعمل صالحا في كل زمان ومكان. نسأل الله التوفيق والخير للإسلام والمسلمين.
497
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).