ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)﴾.التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿قُلْ أَعُوذُ﴾؛ أي: أتحصن وألتجىء، والأمر فيه (١) للنبي - ﷺ -، ويتناول غيره من أمته؛ لأن أوامر القرآن ونواهيه لا تخص فردًا دون آخر غالبًا.
وقرأ الجمهور (٢): بالهمزة في ﴿أَعُوذُ﴾، وقرىء بحذفها ونقل حركتها إلى اللام، وعبارة "البيضاوي" هنا: قرأ ورش في السورتين بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام. انتهى.
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾؛ أي: بمالك الناس وخالقهم وموجدهم من العدم، وخصوا (٣) بالذكر وإن كان رب جميع المخلوقات تشريفًا من حيث إنه تعالى أخدم لهم ملائكة قدسه، وجعل لهم ما في الأرض جميعًا، وأمدهم بالعقل والعلم، وكلفهم بخدمته، فإن قاموا بتلك الوظيفة كان لهم العز دنيا وأخرى، وإن لم يقوموا بها ردوا لأسفل السافلين، فلم يساووا كلبًا ولا خنزيرًا، وإذا علمت بذلك أنه رب الناس فهو رب غيرهم بالأولى، وقيل: خصوا بالذكر لمناسبته بالاستعاذة؛ لأنه لما أمر بالاستعاذة من شر الوسواس، فكأنه قال: قل أعوذ من شر الموسوس إلى الناس؛ أي: من شر ما يوسوس في صدورهم بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم وهو معبودهم، فإنه هو الذي يعيذ من شرهم.
والحاصل: أنه أمر رسوله أن يستعيذ بمن يربي الناس بنعمه ويؤدبهم بنقمه، وأصل الناس إما أناس حذفت الهمزة، أو نَوَس مأخوذ من ناس إذا تحرك خُص بالبَشَر، لأنه المتحرك الحركة المتعبد بها الناشئة عن رؤية وتدبر، تحركت الواو
(٢) الشوكاني.
(٣) الصاوي.
وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ | وَمَا الْقَلْبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ |
٢ - ﴿مَلِكِ النَّاسِ (٢)﴾؛ أي: مالكهم ومدبر أمورهم، وواضع الشرائع والأحكام التي فيها سعادتهم في معاشهم ومعادهم، قرىء هنا بإسقاط الألف باتفاق القراء حذرًا من التكرار، فإن أحد معاني اسم الرب في اللسان المالك، ولا ترد الفاتحة، فإن الراجح فيها عند المحققين هو المَلِك بحذف الألف لا المالك اهـ "روح".
بخلاف الذي في الفاتحة، ففيه قراءتان سبعيتان ثبوت الألف وحذفها كما مر هنالك، ومعنى المَلِك: المتصرف فيهم بأنواع التصرفات من إعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وغير ذلك، وهو (٢) عطف بيان جيء به لبيان أن ربِّيَّته سبحانه ليست كربِّيَّة سائر المُلَّاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والتصرف الشامل، وما ذكروه (٣) في ترجيح المالك على المَلِك من أن المالك مالك العبد، وأنه مطلق التصرف فيه، بخلاف الملك، فإنه إنما يملك بقهر وسياسة ومن بعض الوجوه فقياس لا يصح ولا يطرد إلا في المخلوقين لا في الحق سبحانه، فإنه من البيِّن أنه مطلق التصرف، وأنه يملك من جميع الوجوه، فلا يقاس ملكية غيره عليه، ولا تضاف الصفات والأسماء إليه تعالى إلا من حيث أكمل مفهوماته.
٣ - ﴿إِلَهِ النَّاسِ (٣)﴾؛ أي: معبودهم المستولي على قلوبهم بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه، بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم، ولا يدرون من أي جانب يأتهم ولا كيف يسلط عليهم.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وعبارة "المراغي" هنا: وإنما قدم (٢) الربوبية؛ لأنها من أوائل نعم الله تعالى على عباده، ثم ثنى بذكر المالكية؛ لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلًا مفكرًا، ثم ثلث بذكر الألوهية؛ لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة، وإنما قال: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣)﴾ وهو رب كل شيء، واله كل شيء من قِبَل أن الناس هم الذين أخطؤوا في صفاته، وضلوا فيها عن الطريق السوي، فجعلوا لهم أربابًا ينسبون إليهم بعض النعم، ويلجؤون إليهم في دفع النقم، ويلقبونهم بالشفعاء، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم ويرسمون لهم حدود أعمالهم، وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾ وقوله: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)﴾.
والخلاصة: أنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم وهم أناس مفكرون وملكهم وهم ذلك وإلههم وهم هكذا، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر.
(٢) المراغي.
أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ | هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ |
مُحَمَّدُ سَادَ النَّاسَ كَهْلًا وَيَافِعًا | وَسَادَ عَلَى الأَمْلَاكِ أَيْضًا مُحَمَّدُ |
مُحَمَّدُ كُل الْحُسْنِ مِنْ بَعْضِ حُسْنِهِ | وَمَا حُسْنُ كُلِّ الْحُسْنِ إِلَّا مُحَمَّدُ |
مُحَمَّدُ مَا أَحْلَى شَمَائِلَهُ وَمَا | أَلَذَّ حَدِيْثًا رَاحَ فِيْهِ مُحَمَّدُ |
٤ - وقوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤)﴾ متعلق بـ ﴿أَعُوذُ﴾؛ أي: من شر الشيطان ذي الوسوسة، وهي الهمس والصوت الخفي، والوَسواس - بفتح الواو - اسم مصدر بمعنى الحديث، أي: الوسوسة يُطلق على نفس الشيطان الموسوس؛ لكثرة ملازمته للوسوسة، فهو على حد زيد عدل؛ أي: شر الشيطان الموسوس، ويُطلق أيضًا على ما يخطر بالقلب من الشر، فالكلام حينئذ على حذف مضاف؛ أي: من شر الشيطان ذي الوسواس، كما أشرنا إليه أولًا.
والحاصل (٤): أن الوَسواس - بالفتح - اسم مصدر بمعنى الوسوسة، وهو:
(٢) روح البيان.
(٣) الصاوي.
(٤) روح البيان.
فقد أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخ، ولم يقل: من شر وسوسته؛ لتعم الاستعاذة شره جميعه، وإنما وصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا وأقواها تاثيرًا وأعمها فسادًا.
فإن قلت: ما الحكمة في وصف الله تعالى في هذه السورة بنفسه بثلاث أوصاف، وجعل المستعاذ منه شيئًا واحدًا، وفي السورة قبلها بعكس ذلك؛ لأنه وصف نفسه بوصف واحد، وجعل المستعاذ منه أربعة أشياء؟.
قلت: بأنه في السورة المتقدمة المستعاذ منه أمور تضر في ظاهر البدن، وهنا وإن كان أمرًا واحدًا إلا أنه يضر الروح، وما كان يضر الروح يُهتم بالاستعاذة منه.
فإن قلت: إن كان مقتضى الظاهر تقديم ما به الاهتمام؛ وهو الاستعاذة من شر الوسواس؛ إذ سلامة الروح مقدمة على البدن؟.
أجيب: بأن تقديم سلامة البدن وسيلة للمقصود بالذات، وهو: سلامة الروح.
وفي "آكام المرجان": وينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم في ست مراتب: المرتبة الأولى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذاك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تبعه، وهذا أول ما يريده من العبد، والمرتبة الثانية البدعة، وهي أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، فتكون كالعدم، والبدعة يظن صاحبها أنها صحيحة فلا يتوب منها، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة
ومن الشيطان شيطان الوضوء، ويقال له الوَلَهان - بفتحتين - وهو شيطان يولع الناس بكثرة استعمال الماء، قال النبي - ﷺ -: تعوَّذوا بالله من وسوسة الوضوء، ومنهم شيطان يقال له: خنزب، وهو الملبس على المصلي في صلاته وقراءته، قال أبو عمر والبخاري - رحمهما الله تعالى -: أصل الوسوسة ونتيجتها من عشرة أشياء:
أولها: الحرص، فقابله بالتوكل والقناعة.
والثاني: الأمل فاكسره بمفاجأة الأجل.
والثالث: التمتع بشوات الدنيا، فقابله بزوال النعمة وطول الحساب.
والرابع: الحسد، فاكسره برؤية العدل.
والخامس: البلاء، فاكسره برؤية المنة والعوافي.
والسادس: الكبر فاكسره بالتواضع.
والسابع: الاستخفاف بحرمة المؤمنين، فاكسره بتعظيمهم واحترامهم.
والثامن: حيث الدنيا والمحمدة، فاكسره بالإخلاص.
والتاسع: حب العلو والرفعة، فاكسره بالخشوع والذلة.
والعاشر: المنع والبخل، فاكسره بالجود والسخاء.
﴿الْخَنَّاسِ﴾ صفة للوسواس؛ لأنه بمعنى الموسوس؛ أي: من شر الشيطان الموسوس الذي عادته أن يخنس؛ أي: يتأخر ويختفي إذا ذكر الإنسان ربه، وهو صيغة مبالغة؛ أي: كثير الخنس؛ وهو التأخر من خنس يخنس - من باب دخل - أي: يتوارى ويختفي بعد ظهوره المرة بعد المرة، قال مجاهد: إذا ذكر الله خنس وانقبض، وإذا لم يُذكر انبسط على القلب، ووُصف بالخناس؛ لأنه كثير الاختفاء،
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بين يدي الكتابالحمد لله رافع منازل المتمسكين بالذكر المبين، وهادي المؤمنين المتقين، الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويتدبرون آياته للعمل والموعظة والادّكار، تكفل سبحانه بحفظه؛ فلم يغير صفاءه كدر التحريف، ولم تحم حوله أخطاء التصحيف، فنحن نقرؤه اليوم كما نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والصلاة والسلام الأتمان الأدومان الأكملان على من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وسراجا منيرا للمخبتين، وعلى آله الطهر الميامين، وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فقد أرسل المولى سبحانه رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ليدّبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب، كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فهو المعجزة الخالدة الذي فاق كل بيان، وأخرس كل لسان، وأبهر أهل الفصاحة من قحطان وعدنان، بل تحدّى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان المعجزة الدائمة، والبرهان الصادق، على ما أتى به رسوله من حقائق.
دامت لدينا ففاقت كل معجزة | عن النبيين إذ جاءت ولم تدم |
هاجرت في ثمان وتسعين | من بعد ألف وثلاث مئين |
والله سبحانه وتعالى أعلم
***
أمّا بعد: فلمّا فرغ واضع هذا التفسير «حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» منه، حبّذ له مقدمة وجيزة لتكون سفينة لمن أراد الخوض في بحاره، والمفتاح لمن أراد معالجة قفل أسراره، أسماها «نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان» وقد أشتملت هذه المقدمة على ثلاثين فصلا.
هاك مقدمة طابت فرعا | وطابا أصلها أصلا أصلا |
ألا إنما القرآن تسعة أحرف | سأنبيكها في بيت شعر بلا خلل |
حلال حرام محكم متشابه | بشير نذير قصة عظة مثل |
ما حوى العلم جميعا أحد | لا ولو مارسه ألف سنه |
إنما العلم بعيد غوره | فخذو من كل علم أحسنه |
الدكتور/ هاشم بن محمد علي مهدي الأربعاء ٥/ ٥/ ١٤٢٠ هـ
فقد ورد في فضله، وتعلُّمه، وتعليمه أحاديث كثيرة:
فمنها: ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في «صحيحة» عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى: خمّا، بين مكّة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثمّ قال: «أمّا بعد: ألا أيّها النّاس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإنّي تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي». زاد في رواية:
«كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ». وفي رواية: «كتاب الله هو حبل الله من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة». وفي رواية الترمذي عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي»، أحدهما أعظم من الآخر: وهو كتاب الله؛ «حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل
ومنها: ما أخرجه مسلم أيضا: عن عمر بن الخطاب قال: أما إنّ نبيّكم صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين».
ومنها: ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخرب». أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما أخرجه البخاريّ، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلّم القرآن، وعلّمه».
ومنها: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران». متّفق عليه.
(الماهر): الحاذق الكامل الحفظ، الجيّد التلاوة. (يتعتع)؛ أي: يتردّد في تلاوته؛ لضعف حفظه. (له أجران) يعني: أجر بسبب القراءة، وأجر بسبب تعبه فيها والمشقّة فيها، وليس معناه: أنّ له أجرا أكثر من أجر الماهر، بل الماهر أفضل منه، وأكثر أجرا.
ومنها: ما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ كمثل الأترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن،
متّفق عليه. فيه دليل على فضيلة حفّاظ القرآن، ومشروعيّة ضرب الأمثال؛ لإيضاح المقاصد.
ومنها: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ﴿الم﴾ * حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رجل: يا رسول الله! أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى؟ قال:
«الحالّ المرتحل»، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: «الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، كلّما حلّ ارتحل». أخرجه الترمذي.
ومنها: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلك عند الله آخر آية تقرؤها» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا ربّ! حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! زده، فيلبس حلّة الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! ارض
أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
ومنها: ما روي عن سهل بن معاذ الجهنيّ، عن أبيه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قرأ القرآن وعمل به، ألبس والداه يوم القيامة تاجا، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنّكم بالذي عمل بهذا» أخرجه أبو داود.
ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فاستظهره، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النار». أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وليس له إسناد صحيح.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به» متّفق عليه. ما أذن الله، أي: استمع لمن يتغنّى بالقرآن، أي: يحسّن صوته به.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».
ومنها: ما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة» أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والدارميّ، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
قال: «من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين». والآثار في معنى هذا الفصل كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفّق للهداية.
والله أعلم
* * *
روى البخاري، عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: (يمدّ مدّا، إذ قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ (١)، يمدّ بسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم).
وروى الترمذي، عن أمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطّع قراءته، يقول: «الحمد لله ربّ العالمين»، ثمّ يقف الرحمن الرحيم، ثمّ يقف، وكان يقرأ مالك يوم الدين. قال: حديث غريب. وأخرجه أبو داود بنحوه.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «أحسن الناس صوتا؛ من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى».
وروي عن زياد النّميري: «أنّه جاء مع القرّاء إلى أنس بن مالك، فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرّب؛ وكان رفيع الصّوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوادء، فقال: (يا هذا ما هكذا يفعلون)، وكان إذا رأى شيئا ينكره، كشف عن وجهه الخرقة.
وروي عن سعيد بن المسيب: أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤمّ الناس، فطرّب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله! إنّ الأمّة لا تقرأ هكذا، فترك عمر التّطريب بعد.
وروي عن القاسم بن محمد: أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم فطرّب، فأنكر ذلك القاسم وقال: يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآية.
وروي عن مالك: أنّه سئل عن النّبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر ذلك، وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به.
وروى ابن القاسم عنه: أنّه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا يعجبني، وقال: إنّما هو غناء يتغنّون به؛ ليأخذوا عليه الدّراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به؛ لأنّه إذا حسن الصوت به، كان أوقع في النّفوس وأسمع في القلوب، واحتجّوا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» رواه البراء بن عازب. أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم
وممّن ذهب إلى هذا أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ، وابن المبارك، والنضر بن شميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن بن بطّال، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم. قلت:
القول (١) الأول أصحّ لما ذكرناه ويأتي، وأمّا ما احتجّوا به من الحديث الأوّل؛ فليس على ظاهره؛ وإنّما هو من المقلوب، أي: زيّنوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطّابي، وكذا فسّره غير واحد من أئّمة الحديث. (زيّنوا أصواتكم بالقرآن) وقالوا: هو من المقلوب، كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة؛ وإنّما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة، فقدّم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح. قلت: وهذا الخلاف ما لم يمنع فهم معنى القرآن بترديد الأصوات، وكثرة التّرجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه، فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القرّاء بالديار المصريّة، الذين يقرؤون أمام الملوك والجبابرة، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضلّ سعيهم وخاب عملهم، فيستحلّون بذلك تغيير كتاب الله، ويهوّنون على أنفسهم الاجتراء على الله، بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه، جهلا
اللّحون: جمع لحن: وهو التّطريب، وترجيع الصوت، وتحسينه بالقراءة، والشعر، والغناء، قال علماؤنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قرّاء زماننا بين يدي الوعّاظ، وفي المجالس من اللّحون الأعجميّة، الّتي يقرؤون بها، ما نهى عنه رسول الله صلّى الله
عليه وسلم.
والترجيع في القراءة: ترديد الحروف، كقراءة النصارى.
والترتيل في القراءة: هو التّأنيّ فيها، والتمهّل، وتبيين الحروف، والحركات؛ تشبيها بالثغر المرتّل، وهو المشبه بنور الأقحوان، وهو المطلوب في قراءة القرآن، قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾. وسئلت أمّ سلمة؛ عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: (ما لكم وصلاته)، ثمّ نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة
والله أعلم
* * *
قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
روى مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة؛ رجل استشهد فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال: جرىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم، وعلّمه، وقرأ القرآن. فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت فيها من سبيل تحبّ أن ينفق فيها، إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «من طلب العلم لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوّأ مقعده من النار».
وأخرج ابن المبارك في «رقائقه» عن العباس بن عبد المطلّب. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار، وحتى تخاض البحار، بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى، ثمّ يأتي أقوام يقرءون القرآن، فإذا قرءوه قالوا»: من أقرأ منّا، من أعلم منّا؟ ثم التفت إلى أصحابه، فقال: «هل ترون في أولئكم من خير؟» قالوا: لا، قال: «أولئك منكم، أولئك من هذه الأمّة، وأولئك هم وقود النّار».
وروى أبو داود، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من تعلّم علما ممّا يبتغى به وجه الله، لا
يتعلّمه؛ إلّا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة».
يعني: ريحها. قال الترمذي: حديث حسن.
وروى الترمذي أيضا: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعوّذوا بالله من جبّ الحزن»، قالوا: يا رسول الله! وما جبّ الحزن؟ قال: «واد في جهنّم، تتعوّذ منه جهنّم في كلّ يوم
وفي كتاب أسد بن موسى: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ في جهنّم واديا، إنّ جهنّم تتعوّذ من شرّ ذلك الوادي، كلّ يوم سبع مرّات، وإنّ في ذلك الوادي لجبّا، إنّ جهنّم، وذلك الوادي؛ ليتعوّذان بالله من شرّ ذلك الجبّ، وإنّ في الجبّ لحيّة، وإنّ جهنّم والوادي والجبّ؛ ليتعوّذون بالله من شر تلك الحيّة سبع مرات، أعدّها الله تعالى للأشقياء من حملة القرآن، الذين يعصون الله». فيجب على حامل القرآن، وطالب العلم أن يتّقي الله في نفسه، ويخلص العمل لله، فإن كان تقدّم له شيء ممّا يكره؛ فليبادر التّوبة والإنابة، وليبتدىء الإخلاص في التوبة وعمله، فالذي يلزم حامل القرآن من التحفّظ، أكثر ممّا يلزم غيره، كما أنّ له من الأجر ما ليس لغيره.
وأخرج الطبريّ في كتاب «آداب النفوس» قال: حدّثنا أبو كريب، محمد بن العلاء، حدثنا المحاربيّ، عن عمرو بن عامر البجليّ، عن ابن صدقة، عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو عمّن حدّثه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تخادع الله؛ فإنّه من يخادع الله يخدعه الله، ونفسه يخدع لو يشعر» قالوا يا رسول الله. وكيف يخادع الله؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به، وتطلب به غيره، واتقوا الرياء، فإنّه الشرك، وإنّ المرائي يدعى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا
وروى علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: (كيف أنتم، إذا لبستكم فتنة يربوا فيها الصغير، ويهرم الكبير، وتتّخذ سنة مبتدعة، يجري عليها الناس؟ فإذا غيّر منها شيء)، قيل: قد غيرت السّنة، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثر قرّاؤكم، وقلّ فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقلّ أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدّين). وقال سفيان بن عيينة: بلغنا عن ابن عباس أنّه قال: (لو أنّ حملة القرآن أخذوه بحقّه، وما ينبغي؛ لأحبّهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا، فأبغضهم الله، وهانوا على الناس).
وروي عن أبي جعفر، محمد بن علي في قول الله تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ﴾ (٩٤)، قال: قوم وصفوا الحقّ والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره.
والله أعلم
* * *
فأوّل ذلك أن يخلص في طلبه لله عزّ وجلّ، كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن، في ليله، ونهاره، في الصلاة، أو في غير الصلاة؛ لئلّا ينساه.
روى مسلم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار؛ ذكره، وإن لم يقم به؛ نسيه».
وينبغي له: أن يكون لله حامدا، ولنعمه شاكرا، وله ذاكرا، وعليه متوكّلا، وبه مستعينا، وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت ذاكرا، وله مستعدّا.
وينبغي له: أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربّه، ويكون الخوف في صحّته أغلب عليه، إذ لا يعلم بم يختم له، ويكون الرّجاء عند حضور أجله، أقوى في نفسه؛ لحسن الظنّ بالله تعالى.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو محسّن بالله الظنّ» أي: أنّه يرحمه، ويغفر له.
وينبغي له: أن يكون أهمّ أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوى الله، ومراقبته فيما أمره به، ونهاه عنه. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ينبغي لقارىء القرآن: أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقظون، وببكائه إذا النّاس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون).
وقال عبد الله بن عمرو: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو، ويصفح لحقّ القرآن؛ لأنّ في جوفه كلام الله تعالى).
وينبغي له: أن يأخذ نفسه بالتّصاون من طرق الشّبهات، ويقلّل الضحك، والكلام في مجالس القرآن، وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له: أن يتواضع للفقراء، ويتجنّب التّكبّر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب.
وينبغي له: أن يكون ممّن يؤمن شرّه، ويرجى خيره، ويسلم من ضرّه، وأن لا يسمع ممّن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدلّه على الصدق، ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.
وينبغي له: أن يعرف المكّيّ من المدني؛ ليفرّق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أوّل الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أوّل الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ: هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكيّ المدني؛ لأنّ المنسوخ هو المتقدّم في النزول قبل الناسخ له.
ومن كماله: أن يعرف الإعراب والغريب، فذلك ممّا يسهّل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشكّ فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبريّ: سمعت الجرميّ يقول: أنا منذ ثلاثين سنة، أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال محمد بن يزيد: وذلك أنّ أبا عمر الجرميّ، كان صاحب حديث، فلمّا علم كتاب سيبويه، تفقّه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلّم منه النّظر، والتفسير، ثمّ ينظر
في السّنن المأثورة، الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزّ وجلّ في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وقد قال الضحاك في قوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا
قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقارىء القرآن، كان ماهرا
قال الحسن: كنّا نطلب العلم للدنيا، فجرّنا إلى الآخرة.
قاله سفيان الثوري. وقال حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه النية، ثمّ جاءت النيّة بعد.
والله أعلم
* * *
قال أبو بكر الأنباريّ: جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - من تفصيل إعراب القرآن، والحضّ على تعليمه، وذمّ اللّحن وكراهيته، ما وجب به على قرّاء القرآن، أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلّمه.
من ذلك: ما حدّثنا يحيى بن سليمان، الضبّيّ، قال: حدّثنا محمد يعني: ابن سعيد، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه». حدّثني أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن الهيثم، قال: حدّثنا آدم يعني: ابن أبي إياس. قال:
حدّثنا أبو الطيب المروزيّ قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قرأ القرآن فلم يعربه، وكّل به ملك يكتب له، كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه، وكل به ملكان يكتبان له بكلّ حرف عشرين حسنة، فإن أعربه، وكّل به أربعة أملاك يكتبون له بكلّ حرف سبعين حسنة».
(جوّدوا القرآن، وزيّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه، فإنّه عربيّ، والله يحبّ أن يعرب به).
وعن مجاهد، عن ابن عمر قال: (أعربوا القرآن). وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال: قال أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -: (إعراب القرآن، أحبّ إلينا من حفظ حروفه). وعن الشّعبيّ قال: قال عمر - رضي الله عنه: (من قرأ القرآن فأعربه، كان له عند الله أجر شهيد). وقال مكحول: بلغني أنّ من قرأ بإعراب، كان له من الأجر ضعفان ممّن قرأ بغير إعراب.
وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحبّ العرب لثلاث، لأنّي عربيّ، والقرآن عربيّ، وكلام أهل الجنّة عربيّ».
وروى سفيان، عن أبي حمزة قال: قيل للحسن في قوم يتعلّمون العربية، قال: (أحسنوا)، يتعلّمون لغة نبيّهم صلّى الله عليه وسلم. وقيل للحسن: إنّ لنا إماما يلحن، قال: (أخّروه). وعن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابيّ في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني ممّا أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجل (براءة) فقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بالجرّ، فقال الأعرابيّ: أو قد برىء الله من رسوله؟ فإن يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابيّ! أتبرأ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنّي
وعن عليّ بن الجعد، قال: سمعت شعبة يقول: مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية؛ مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها. وقال حماد بن سلمة: من طلب الحديث، ولم يتعلّم النّحو، أو قال العربية - فهو كمثل الحمار، تعلّق عليه مخلاة ليس فيها شعير. قال ابن عطيّة: إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأنّ بذلك تقوم معانيه التي هي الشّرع. قال ابن الأنباري: وجاء عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم - من الاحتجاج على غريب القرآن، ومشكله باللغة والشعر، ما بيّن صحّة مذهب النحويين في ذلك، وأوضح فساد مذاهب من أنكر ذلك عليهم.
من ذلك: ما حدّثنا عبيد بن عبد الواحد بن الشريف البزّاز، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أنبأنا ابن فرّوخ، قال: أخبرني أسامة، قال: أخبرني عكرمة أنّ ابن عباس قال: (إذا سألتموني
وحدّثنا إدريس بن عبد الكريم، قال: حدّثنا خلف، قال: حدّثنا حمّاد بن زيد، عن عليّ بن زيد بن جدعان، قال: سمعت سعيد بن جبير، ويوسف بن مهران يقولان: سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء فيقول فيه: (هكذا وهكذ، أما سمعتم الشاعر يقول: كذا، وكذا). وعن عكرمة، عن ابن عباس، وسأله رجل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (٤) قال: (لا تلبس ثيابك على غَدْرٍ) وتمثّل بقول غيلان الثقفيّ:
فإنّي بحمد الله لا ثوب غادر | لبست ولا من سوءة أتقنّع |
زنيم ليس يعرف من أبوه | بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم |
زنيم تداعاه الرجال زيادة | كما زيد في عرض الأديم أكارعه |
ما هاج شوقك من هديل حمامة | تدعو على فنن الغصون حماما |
تدعو أيا فرخين صادف طائرا | ذا مخلبين من الصّقور قطاما |
وفيها لحم ساهرة وبحر | وما فاهوا به لهم مقيم |
لا سِنَةٌ في طُوال اللّيل تأخذه | ولا ينام ولا في أمره فند |
* * *
قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: وأمّا ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة، والتابعين.
فمن ذلك: أنّ عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذكر جابر بن عبد الله، ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداءك، تصف جابرا بالعلم، وأنت أنت، فقال: (إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾). وقال مجاهد أحبّ الخلق إلى الله تعالى، أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن (والله ما أنزل الله آية، إلّا أحبّ أن يعلم فيما أنزلت، وما يعنى بها). وقال الشعبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إنّ الّذي يفسّرها رحل إلى الشام، فتجهّز ورحل إلى الشام، حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله جلّ وعزّ: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة، حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب، وسيأتي. وقال ابن عباس: (مكثت سنتين، أريد أن أسأل عمر، عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلّا مهابته، فسألته، فقال: هما حفصة، وعائشة). وقال إياس بن
والله أعلم
* * *
وأوّل ما بدئت دراسات القرآن وتفسيره، زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ففي عهده نرى أعرابيا يسأله عن معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قائلا: وأيّنا لم يظلم نفسه، وفسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالشرك، واستشهد عليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث، كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، كثير من الأحاديث التي تتعلّق بتفسير القرآن، وبعضها ينحصر في ذكر فضائله، وتفسير بعض كلماته تفسيرا مختصرا، يبيّن وجه التشريع، أو الموعظة في الآية.
وروي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «وإنّه ليأتي الرجل العظيم، السمين، يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا﴾» على أنّه قد لا يوضع الاعتبار، كلّ ما جاء من الحديث في التفسير، فأحمد ابن حنبل في القرن الثالث الهجري يقول: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير، والملاحم، والمغازي، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلّط فيه الناس بين الصحيح، وغير الصحيح من الحديث.
قسم: متحرّج من القول في القرآن، ومن هؤلاء: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكان عبد الله بن عمر يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر.
والقسم الثاني: الذين لم يتحرّجوا، وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو حسب فهمهم الخاصّ، بالمقارنة إلى الشعر العربيّ، وكلام العرب، ومن هؤلاء القسم: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب وغيرهم، وتبعهم: الحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة والسدّيّ وغيرهم ممّن لا يحصون.
والله أعلم
* * *
فمن ذلك: ما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: (ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفسّر من كتاب الله، إلّا آيا بعدد ما علّمه إيّاهنّ جبريل). قال ابن عطيّة: ومعنى هذا الحديث في مغيّبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا، ممّا لا سبيل إليه إلّا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به؛ كوقت قيام الساعة، ونحوها، ممّا يقرأ من ألفاظه، كعدد النّفخات في الصّور، وكرتبة خلق السموات والأرض.
ومنه ما روى الترمذي، عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اتّقوا الحديث عليّ إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النار. ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النار».
وروى أيضا: عن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ». وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أبو داود، وتكلّم في أحد رواته. وزاد رزين «ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر». قال أبو بكر، محمد بن القاسم بن بشار بن
أحدهما: من قال في مشكل القرآن، بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة، والتابعين؛ فهو متعرّض لسخط الله.
والجواب الآخر: وهو أثبت القولين، وأصحّهما معنى: من قال في القرآن قولا، يعلم أنّ الحقّ غيره؛ فليتبوّأ مقعده من النار.
ومعنى يتبوّأ: ينزل ويحلل. وقال في حديث جندب: فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث: على أنّ الرّأي معنيّ به الهوى، أي: من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمّة السلف، ولا اقتضته قوانين العلم، كالنحو، والأصول، فأصاب؛ فقد أخطأ؛ لحكمه على القرآن برأيه، وليس يدخل في هذا الحديث، أن يفسّر اللغويون لغته، والنحويون نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين علم، ونظر، فإنّ القائل على هذه الصفة، ليس قائلا لمجرّد رأيه.
قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإنّ من قال فيه بما سنح في وهمه، وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطىء، وإنّ من استنبط معناه، بحمله على الأصول المحكمة، المتّفق على معناها فهو ممدوح.
وقال بعض العلماء: إنّ التفسير موقوف على السماع؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وهذا قول فاسد؛ لأنّ النّهي عن تفسير القرآن لا يخلو: إمّا أن يكون المراد به
أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه، وهواه، ليحتّج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي، والهوى، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى، وهذا النوع يكون تارة مع العلم، كالذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبّس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل، وذلك: إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك. ذكره القرطبي.
والثاني: وقال ابن عطيّة: وكان جملة من السّلف - كثير عددهم - يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين ذلك - رضي الله عنهم - فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم، فعليّ بن أبي طالب
وعن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن تفسير حرف من القرآن، فقال: (أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني، وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر، والنّقل فيه). وقال ابن عطية: ومعنى هذا: أن يسأل الرجل عن معنى من كتاب الله جلّ وعزّ، فيتسوّر عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء عنه. وكان ابن مسعود يقول:
وكلّ ما أخذ من الصحابة فحسن مقدّم؛ لشهودهم التنزيل، ونزوله بلغتهم. وعن عامر بن واثلة قال: (شهدت عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يخطب، فسمعته يقول في خطبته: سلوني، فو الله، لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة، إلّا حدّثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا أنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل نزلت، أم في جبل، فقام إليه ابن الكوّاء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما الذاريات ذروا؟) وذكر الحديث. وعن المنهال بن عمرو قال: قال عبد الله بن مسعود:
(لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطيّ، لأتيته، فقال له رجل: أما لقيت عليّ ابن أبي طالب؟ فقال: بلى قد لقيته). وعن مسروق قال: وجدت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد، والإخاذ يروي الاثنين، والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم، وإنّ عبد الله بن مسعود من تلك الإخاذ. ذكر هذه المناقب: أبو بكر الأنباريّ في كتاب «الردّ»، وقال: الإخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير.
قال أبو بكر: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلّام، عن زيد العميّ، عن
قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطّان، عن سفيان قال: قال الكلبيّ: قال أبو صالح: كلّ ما حدّثتك كذب، وقال حبيب بن أبي ثابت: كنّا نسمّيه: الذّروغزن يعني: أبا صالح مولى أمّ هانىء، والذّروغزن: هو الكذّاب بلغة الفرس.
ثمّ حمل تفسير كتاب الله تعالى: عدول كلّ خلف، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه
تتمّة في بيان الفرق بين التفسير، والتأويل
والتفسير لغة: الكشف والإبانة.
والتأويل لغة: الرجوع والكشف.
والتفسير اصطلاحا: علم يبحث فيه، عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالته، على مراد الله - تعالى بحسب الطاقة البشريّة، ثمّ هذا العلم قسمان:
وتأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، ويسمّى الأول رواية، وهذا دراية. والسرّ في جواز التأويل بالرّأي بشروطه، كما تقدّم دون التفسير: أنّ التفسير كشهادة على الله، وقطع بأنّه عنى بهذا اللفظ هذا المعنى، ولا يجوز إلّا بتوقيف، ولذا جزم الحاكم أنّ تفسير الصحابيّ مطلقا في حكم المرفوع، والتأويل: ترجيح لأحد المحتملات بلا قطع فاغتفر.
والله أعلم
* * *
قال أبو عمر: روي من وجوه فيها لين: عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ومن تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة، الإمام المقسط، وذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه».
وقال أبو عمر: وحملة القرآن: هم عالمون بأحكامه، وحلاله، وحرامه، والعاملون بما فيه.
وروى أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن أفضل من كلّ شيء، فمن وقّر القرآن، فقد وقّر الله، ومن استخفّ بالقرآن، استخفّ بحقّ الله تعالى، حملة القرآن: هم المحفوفون برحمة الله، المعظّمون كلام الله، الملبسون نور الله، فمن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم، فقد استخفّ بحقّ الله تعالى.
والله أعلم
* * *
قال الترمذي الحكيم، أبو عبد الله في «نوادر الأصول»: فمن حرمة القرآن: أن لا يمسّه إلّا طاهرا.
ومن حرمته: أن يقرأه وهو على طهارة.
ومن حرمته: أن يستاك، ويتخلّل، فيطيّب فاه إذ هو طريقه.
قال يزيد بن أبي مالك: إنّ أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهّروها، ونظّفوها ما استطعتم.
ومن حرمته: أن يتلبّس كما يتلبّس للدخول على الأمير؛ لأنّه مناج.
ومن حرمته: أن يستقبل القبلة لقراءته، وكان أبو العالية: إذا قرأ اعتمّ، ولبس، وارتدى، واستقبل القبلة.
ومن حرمته: أن يتمضمض كلّما تنخّع. روى شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عباس: أنّه كان يكون بين يديه تور، إذا تنخّع مضمض، ثمّ أخذ في الذكر، وكان كلّما تنخّع مضمض.
ومن حرمته: إذا تثاءب، أن يمسك عن القراءة؛ لأنّه إذا قرأ فهو مخاطب ربّه، ومناج، والتّثاؤب من الشيطان. قال مجاهد:
ومن حرمته: أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ إن كان ابتداء قراءته من أوّل السورة، أو من حيث بلغ.
ومن حرمته: إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميّين من غير ضرورة.
ومن حرمته: أن يخلو بقراءته، حتّى لا يقطع عليه أحد بكلام، فيخلطه بجوابه؛ لأنّه إذا فعل ذلك، زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء.
ومن حرمته: أن يقرأ على تؤدة، وترسيل، وترتيل.
ومن حرمته: أن يستعمل فيه ذهنه، وفهمه، حتى يعقل ما يخاطب به.
ومن حرمته: أن يقف على آية الوعد، فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد، فيستجير بالله منه.
ومن حرمته: أن يقف على أمثاله، فيتمثّلها.
ومن حرمته: أن يلتمس غرائبه.
ومن حرمته: أن يؤدّي لكل حرف حقّه من الأداء، حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، فإنّ له بكلّ حرف عشر حسنات.
ومن حرمته: إذا قرأه أن لا يلتقط الآي من كلّ سورة فيقرأ؛ فإنّه روي لنا: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه مرّ ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا، فأمره أن يقرأ على السّور، أو كما قال.
ومن حرمته: إذا وضع الصحيفة أن لا يتركه منشورا، وأن لا يضع فوقه شيئا من الكتب، حتى يكون أبدا عاليا، لسائر الكتب علما
كان، أو غيره.
ومن حرمته: أن يضعه في حجره إذا قرأه، وعلى شيء بين يديه، ولا يضعه بالأرض.
ومن حرمته: أن لا يمحوه من اللّوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء.
ومن حرمته: إذا غسله بالماء، أن يتوقّى النجاسات من المواضع التي توطأ، فإنّ لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم: من يستشفى بغسالته.
ومن حرمته: أن لا يتّخذ الصحيفة إذا بليت ودرست، وقاية للكتب، فإنّ ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء.
ومن حرمته: أن لا يخلّي يوما من أيّامه من النظر في
ومن حرمته: أن يعطي عينيه حظّهما منه، فإنّ العين تؤدّي إلى النّفس، وبين النّفس والصدر حجاب، والقرآن في الصّدر، فإذا قرأه عن ظهر القلب، فإنّما يسمع أذنه فتؤدّي إلى النّفس، فإذا نظر في الخطّ، كانت العين، والأذن قد اشتركتا في الأداء، وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظّها كالأذن. روى زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظّها من العبادة»، قالوا يا رسول الله: وما حظّها من العبادة؟ قال: «النّظر في المصحف، والتّفكّر فيه، والاعتبار عند عجائبه». وروى مكحول، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل عبادة أمّتي قراءة القرآن نظرا».
ومن حرمته: أن لا يتأوّله عند ما يعرض له شيء من أمر الدنيا. حدّثنا عمر بن زياد الحنظليّ قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأوّل شيء من القرآن، [عند ما] يعرض له شيء من أمر الدنيا، والتأويل مثل قولك للرجل: إذا جاءك، جئت على قدر يا موسى.
ومثل قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)﴾ هذا عند حضور الطعام، وأشباه هذا.
ومن حرمته: أن لا يقال سورة كذا.
قلت: هذا يعارضه قوله صلّى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه» أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
ومن حرمته: أن لا يتلى منكوسا، كفعل معلّمي الصبيان، يلتمس أحدهم بذلك أن يري الحذق من نفسه، والعبارة، فإنّ تلك مخالفة.
ومن حرمته: أن لا يقعّر في قراءته كفعل هؤلاء المهمزين، المبتدعين، المتنطّعين، في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلّفا، فإنّ ذلك محدث ألقاه إليهم الشّيطان، فقبلوه منه.
ومن حرمته: أن لا يقرأه بألحان الغناء، كلحون أهل الفسق، ولا بترجيع النّصارى، ولا بنوح الرّهبانيّة، فإنّ ذلك كلّه زيغ كما تقدّم.
ومن حرمته: أن يجلل تخطيطه إذا خطّه، وعن أبي حكيمة: أنّه كان يكتب المصاحف بالكوفة، فمرّ عليّ - رضي الله عنه - فنظر إلى كتابه فقال له: (أجلّ قلمك)، فأخذت القلم، فقططته من طرفه قطّا، ثمّ كتبت وعليّ - رضي الله عنه - قائم ينظر إلى كتابتي فقال: (هكذا نوّره كما نوّره الله جلّ وعزّ).
ومن حرمته: أن لا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد
ومن حرمته: أن لا يماري، ولا يجادل فيه في القراءات، ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا هو، ولعلّه أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن، فيكون قد جحد كتاب الله.
ومن حرمته: أن لا يقرأ في الأسواق، ولا في مواطن اللّغط، واللّغو، ومجمع السّفهاء.
ومن حرمته: أن لا يتوسّد المصحف، ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله.
ومن حرمته: أن لا يصغّر المصحف. روى الأعمش، عن إبراهيم، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: (لا يصغّر المصحف).
قلت: وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنّه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال: (من كتبه) قال: أنا، فضربه بالدّرّة، وقال: (عظّموا القرآن). وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه نهى أن يقال: مسيجد، أو مصيحف.
ومن حرمته: أن لا يخلط فيه ما ليس منه.
ومن حرمته: أن لا يحلّى بالذهب، ولا يكتب بالذهب أو يعلّم عند رؤوس الآي، أو يصفر.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا زخرفتم مساجدكم، وحلّيتم مصاحفكم فالدّمار عليكم». وقال ابن عباس، ورأى مصحفا قد زيّن بفضة: (تغرون به السّارق، وزينته في جوفه).
ومن حرمته: أنّه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم، أن لا يصبّه على كناسة، ولا في موضع نجاسة، وعلى موضع يوطأ، ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس، أو يحفر حفيرة في موضع طاهر، حتى ينصبّ من جسده في تلك الحفيرة، ثمّ يكبسها، أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري.
ومن حرمته: أن يفتتحه كلّما ختمه، حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا ختم، يقرأ من أوّل القرآن قدر خمس آيات، لئلّا يكون في هيئة المهجور.
وروى ابن عباس قال: (جاء رجل، فقال يا رسول الله! أيّ العمل أفضل؟ قال: «عليك بالحالّ المرتحل» قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: «صاحب القرآن يضرب من أوّله، حتى يبلغ آخره، ثمّ يضرب من أوّله كلّما حلّ ارتحل». قلت: «ويستحبّ له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله». ذكر أبو بكر الأنباريّ، أنبأنا
ومن حرمته: أن لا يكتب التعاويذ منه، ثمّ يدخل به الخلاء، إلّا أن يكون في غلاف من أدم، أو فضّة، أو غيره، فيكون كأنّه في صدرك.
ومن حرمته: إذا كتبه، وشربه سمّى الله على كل نفس، وعظّم النية فيه، فإنّ الله يؤتيه على قدر نيّته. روى ليث، عن مجاهد: لا بأس أن تكتب القرآن، ثمّ تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة، فليكتب يس في جام بزعفران، ثمّ يشربه.
قلت: ومن حرمته: أن لا يقال سورة صغيرة، وكرهه أبو العالية أن يقال: سورة صغيرة، أو كبيرة، وقال لمن سمعه قالها: أنت أصغر منها، وأمّا القرآن فكلّه عظيم. ذكره مكيّ - رحمه الله -. قلت: وقد روى أبو داود ما يعارض هذا، من حديث عمرو بن
والله أعلم
* * *
واعلم: أنّ بيانه صلّى الله عليه وسلم، الكتاب بالسّنة على ضربين:
الأوّل: بيان ما أجمل في الكتاب، كبيانه للصلوات الخمس مواقيتها، وسجودها، وركوعها، وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة، ووقتها، وما الذي تؤخذ منه من الأموال، وبيانه لمناسك الحج، وقد قال صلّى الله عليه وسلم إذ حجّ بالناس: «خذوا عنّي مناسككم» وقال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» أخرجه البخاري.
وروى ابن المبارك، عن عمران بن حصين أنّه قال لرجل: إنّك رجل أحمق، أتجد الظّهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثمّ عدّد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو هذا، ثمّ قال: أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسّرا؟ إنّ كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإنّ السّنّة فسّرته، وبيّنته. وروى الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسّنة التي تفسّر ذلك.
وروى سعيد بن منصور، حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السّنة من السّنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال: قال يحيى بن أبي كثير: السّنة
والثاني: بيان الزيادة على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها، وخالتها، وتحريم الحمر الأهليّة، وكلّ ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد، وغير ذلك.
وروى أبو داود، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقّبهم بمثل قراه) أي: له أنّ يعاقبهم ويغلبهم؛ بأن يأخذ من أموالهم بقدر قراه، ويعقّبهم يروى مشدّدا، ومخفّفا.
والله أعلم
* * *
ذكر أبو عمرو الدانيّ في كتاب «البيان» له بإسناده عن عثمان، وابن مسعود، وأبيّ - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى، حتى يتعلّموا ما فيها من العمل، فيعلّمنا القرآن، والعمل جميعا: وذكر عبد الرزّاق، عن معمر، عن عطاء بن السّائب، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ قال: كنّا إذا تعلّمنا عشر آيات من القرآن، لم نتعلّم العشر الّتي بعدها، حتى نعرف حلالها، وحرامها، وأمرها، ونهيها.
وفي «الموطّأ» للإمام مالك: أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر، مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها. وذكر أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمّى: «ذكر أسماء من روى عن مالك»؛ عن مرداس بن محمد بن بلال الأشعري، قال: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها نحر جزورا). وذكر أبو بكر الأنباريّ: حدّثني محمد بن شهرباز، حدّثنا حسين بن الأسود، حدّثنا عبد الله بن موسى، عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو، عن زياد بن مخراق قال: قال عبد الله بن مسعود: (إنّا يصعب علينا
وقال أهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه، دون معرفته، وفهمه، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل، وليكن تحفّظه للحديث على التّدريج قليلا قليلا، مع اللّيالي، والأيّام، وممّن ورد عنه ذلك من حفّاظ الحديث: شعبة، وابن عليّة ومعمر، قال معمر: سمعت الزهريّ يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنّما يدرك العلم
إنّ العلوم وإن جلّت محاسنها | فتاجها ما به الإيمان قد وجبا |
هو الكتاب العزيز الله يحفظه | وبعد ذلك علم فرّج الكربا |
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه | نور النّبوّة سنّ الشّرع والأدبا |
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها | فاختر لنفسك يا من آثر الطّلبا |
والعلم كنز تجده في معادنه | يا أيها الطّالب ابحث وانظر الكتبا |
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت | كلّ العلوم تدبّره تر العجبا |
واقرأ هديت حديث المصطفى وسل | مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا |
من ذاق طعما لعلم الدّين سرّ به | إذا تزيّد منه قال واطربا |
* * *
روى مسلم، عن أبيّ بن كعب: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان عند إضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرف. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك». ثمّ أتاه الثانية. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرفين. فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك. ثمّ جاءه الثالثة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك» ثمّ جاءه الرابعة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا.
وروى الترمذيّ عنه قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل. فقال: «يا جبريل! إني بعثت إلى أمّة أميّة، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال لي: يا محمد! إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف». وقال: هذا حديث حسن صحيح. وثبت في الأمّهات البخاري، ومسلم،
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم، محمد بن حيّان البستيّ، نذكر منها هنا خمسة أقوال:
الأوّل: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، والطبري، والطحاوي، وغيرهم، أنّ المراد بها: سبعة أوجه من المعاني المتقاربة، بألفاظ مختلفة، نحو:
أقبل، وتعال، وهلمّ. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اقرأ على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف. فقال: اقرأ فكلّ شاف كاف، إلّا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة على نحو: هلمّ، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجّل، وبادر.
وروى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب: أنّه كان يقرأ ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا﴾ (للذين آمنوا أمهلونا) (للذين آمنوا أخّرونا)، وبهذا الإسناد عن أبيّ: كان يقرأ ﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ (مرّوا فيه) (سعوا فيه). وفي البخاريّ، ومسلم قال الزهريّ: إنّما هذه الأحرف في
روى أبو داود، عن أبيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبيّ! إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين، فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف»، ثمّ قال: ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.
وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وذكر من كلام ابن مسعود نحوه. قال القاضي ابن الطيّب: وإذا ثبتت هذه الرواية - يريد حديث أبيّ - حمل على أنّ
القول الثاني: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يمنها ونزارها؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه: أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللّغات السبع متفرّقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن. قال الخطّابيّ: على أنّ في القرآن ما قد قرىء بسبعة أوجه وهو قوله: ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ وقوله: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ وذكر وجوها، كأنّه يذهب إلى أنّ بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كلّه. وإلى هذا القول: بأنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات، ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلّام، واختاره ابن عطيّة، قال أبو عبيد، وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس: أنّ عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: «ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنّه نزل بلغتهم». ذكره البخاريّ. وذكر حديث ابن عباس قال: (نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش، وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الدّار واحدة). قال أبو عبيدة يعني: أنّ خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيّب - رحمه الله تعالى -: معنى قول
وقال ابن عبد البرّ: قول من قال: إنّ القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، والله سبحانه أعلم؛ لأنّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات، ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطيّة: معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف». أي: فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبّر عن المعنى في مرّة بعبارة قريش، ومرّة بعبارة هذيل، ومرّة بغير ذلك بحسب الأفصح. الأوجز في اللفظ، ألا ترى أنّ (فطر) معناه عند غير قريش: ابتدأ، فجاءت في القرآن، فلم تتّجه لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، قال ابن عباس: (ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى): ﴿فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقال أيضا: (ما كنت أدري معنى قوله تعالى): ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ﴾ (حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك): وكذلك قال
القول الثالث: إنّ هذه اللغات السبع إنّما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجّوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبّة، ومنها لقيس، قالوا: فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود، يحبّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلّها في مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل: كشكشة قيس، وتمتمة تميم فأمّا كشكشة قيس: فإنّهم يجعلون كاف المؤنث شينا، فيقولون في: ﴿جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ جعل ربّش تحتش سريّا، وأمّا تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النّات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.
وقال آخرون: أمّا إبدال الهمزة عينا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ بها الجلّة، واحتجّوا بقراءة ابن مسعود: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ ذكرها أبو داود.
وبقول ذي الرمّة:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها | ولونك إلّا أنّها غير طائل |
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة | ترى كلّ ملك دونها يتذبذب |
وقيل: سمّيت بذلك؛ لشرفها، وارتفاعها، كما يقال: لما ارتفع من الأرض سورة.
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول العرب للبقية سؤرة، وجاء في أسار الناس؛ أي: بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمز، ثم خففت فأبدلت واوا؛ لانضمام ما قبلها.
وقيل: سميت بذلك، لتمامها، وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وجمع سورة: سور بفتح الواو. وقال الشاعر:
سود المحاجر لا يقرنّ بالسّور
ويجوز أن يجمع على: سورات وسورات.
وأمّا الآية فهي لغة: العلامة.
واصطلاحا: قطعة من السورة، لها أوّل وآخر، سميت بذلك؛ لأنها علامة على انقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها، وانفصاله عنه؛ أي: هي بائنة من أختها، ومنفردة، وتقول العرب: بيني وبين فلان آية؛ أي: علامة. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾، وقال النّابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها | لستّة أعوام وذا العام سابع |
خرجنا من النّقبين لا حىّ مثلنا | بآيتنا نزجي اللّقاح المطا فلا |
واختلف النحويون في أصل آية:
فقال سيبويه: أيية على وزن فعلة، مثل: أكمة، وشجرة، فلمّا تحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، انقلبت ألفا، فصارت آية بهمزة بعدها مدة.
وقال الكسائيّ: أصلها آيية بوزن فاعلة، مثل: آمنة، فقلبت الياء ألفا، لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتباسها بالجمع.
وقيل أصلها: آئية بوزن قائلة، فحذفت الهمزة للتخفيف.
وقال الفرّاء: أصلها أيّية بتشديد الياء الأولى، فقلبت ألفا؛ كراهة التشديد، فصارت آية، وجمعها: آي، وآياء، وآيات. وأنشد أبو زيد:
لم يبق هذا الدهر من آيائه | غير أثافيه وأرمدائه |
ومن حروف المعاني: ما هو على كلمة واحدة، كهمزة الاستفهام، وواو العطف، إلا أنه لا ينطق به مفردا، وقد تكون الكلمة وحدها آية تامّة، نحو قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾ ﴿وَالضُّحى (١)﴾ ﴿وَالْعَصْرِ (١)﴾، وكذلك ﴿الم * (١)﴾ و ﴿المص (١)﴾ و ﴿طه (١)﴾ و ﴿حم * (١)﴾ في قول الكوفيين، وذلك في فواتح السور، فأمّا في حشوهن: فلا. قال أبو عمرو الدّانيّ: ولا أعلم كلمة، هي وحدها اية، إلّا قوله في الرحمن: ﴿مُدْهامَّتانِ (٦٤)﴾ لا غير، وقد أتت كلمتان متصلتان، وهما آيتان، وذلك في قوله: حم عسق على قول الكوفيين لا غير، وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامّة، والكلام القائم بنفسه، وإن كان أكثر، أو أقل. قال الله عز وجل: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾ قيل: إنما يعني بالكلمة ههنا: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآيتين. وقال عزّ وجل: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ قال مجاهد: هي لا إله إلا الله.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وقد تسمّي العرب القصيدة بأسرها، والقصة كلها كلمة، فيقولون: قال قس في كلمته كذا؛ أي: في خطبته. وقال زهير: في كلمته كذا أي: في قصيدته وقال فلان في كلمته؛ يعني: في
وأما الحرف فهو: الشبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة، والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع، والمجاز. قال أبو عمرو الدانيّ: فإن قيل: فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد، نحو: ﴿ص﴾ و ﴿ق﴾ و ﴿ن﴾ حرفًا، أو كلمةً؟.
قلت: كلمة لا حرفا؛ وذلك من جهة: أنّ الحرف لا يسكن عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة، ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكون عليها، منفصلة، كانفراد الكلم، وانفصالها، فلذلك سميت كلمات لا حروفا. قال أبو عمر: وقد يكون الحرف في غير هذا، المذهب والوجه. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ أي: على وجه، ومذهب. ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي: سبعة أوجه من اللغات، والله أعلم.
* * *
أمّا النّسخ لغة: فله معنيان: الإزالة، والنّقل. يقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته، وحلت محله، ونسخت الكتاب؛ إذا نقلته إلى كتاب آخر. وعبارة ابن حزم هنا: واعلم أن النسخ له اشتقاق عند أرباب اللسان، وحدّ عند أصحاب المعاني، وشرائط عند العالمين بالأحكام. أما أصله: فالنسخ في اللغة: عبارة عن إبطال الشيء، وإقامة آخر مقامه. وقال أبو حاتم: الأصل في النسخ: هو أن يحول العسل في خلية، والنحل في أخرى، ومنه نسخ الكتاب؛ إذا نقلته. وفي الحديث: (ما من نبوّة إلا وتنسخها فترة)، ثم إن النسخ في اللغة، موضوع بأزاء معنيين:
أحدهما: الإزالة على جهة الانعدام.
والثاني: الإزالة على جهة الانتقال؛ أمّا النسخ بمعنى الإزالة فهو: أيضا ينقسم إلى:
نسخٍ إلى بدلٍ، نحو: قولهم: نسخ الشّيب الشباب، ونسخت الشمس الظل؛ أي: أذهبته، وحلّت محله، وإلى:
وأمّا حدّه: فمنهم من قال: إنه بيان انتهاء مدة العبادة.
وقيل: انقضاء العبادة التي ظاهرها الدوام. وقال بعضهم: رفع الحكم بعد ثبوته. ونسخ الآية: بيان انتهاء التعبّد بتلاوتها، أو بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعا؛ لمصلحة تقتضي ذلك.
والنسخ أقسامه ثلاثة: إمّا نسخ التلاوة والحكم معا، كقوله: (عشر رضعات يحرمن) نسخ لفظه وحكمه، بخمس رضعات، وكما روي عن أنس بن مالك قال: (كنّا نقرأ سورة تعدل (سورة التوبة)، ما أحفظ منها إلا هذه الآية: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليهما ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى إليه رابعا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، كآية الحول في العدّة، نسخ حكمه بآية العدة بأربعة أشهر وعشرة أيام.
وأمّا شرائطه فأربعة:
الأول: أن يكون النسخ بخطاب؛ لأنّه بموت المكلّف ينقطع الحكم، والموت مزيل للحكم لا ناسخ له.
والثاني: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مسندها البراءة الأصليّة، لم تنسخ؛ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
والثالث: أن لا يكون الحكم السابق مقيّدا بزمان مخصوص، نحو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل، التي لا سبب لها مؤقت، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص ناسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ.
والرابع: أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، وبيان النسخ منتهى الحكم؛ لتبدّل المصلحة على اختلاف الأزمنة، كالطبيب ينهى عن الشيء في الصيف، ثم يأمر به في الشتاء،
وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخّرين جواز النسخ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا: طوائف من اليهود، وهم محجوجون أيضا بما جاء في توراتهم، بزعمهم أن الله تعالى، قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: (إني جعلت كل دابة مأكلا لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه)، ثم قد حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج، الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره، وبأنّ إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه، ثم قال له: (لا تذبح)، وبأنّ موسى أمر بني إسرائيل، أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبّد بها قبل بعثه، ثم تعبّد بها بعد ذلك على غير ذلك. وليس هذا من باب البداء الذي هو ظهور المصلحة بعد خفائها؛ بل هو من نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم؛ لضرب من المصلحة، وإظهارا لحكمته، وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء: أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينيّة، والدنيويّة؛ وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن
قال النحّاس: والفرق بين النسخ، والبداء: أن النسخ تحويل العباد من شيء إلى شيء، قد كان حلالا، فيحرم، أو كان حراما، فيحلل، وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، لظهور المصلحة في الترك، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق بالبشر، لنقصانهم. وكذلك إن قلت: إزرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهذا هو البداء. واعلم أنّه لا يمنع جواز النسخ عقلا لوجهين:
أحدهما: أنّ للآمر أن يأمر بما شاء.
وثانيهما: أنّ النفس إذا مرنت على أمر ألفته، فإذا نقلت عنه إلى غيره شقّ عليها؛ لمكان الاعتياد المألوف، فظهر منها بإذعان الانقياد لطاعة الأمر. وقد وقع النسخ شرعا؛ لأنه ثبت أنّ من دين آدم عليه السلام في طائفة من أولاده، جواز نكاح الأخوات، وذوات المحارم، والعمل في يوم السبت، ثم نسخ في شريعة الإسلام، كما مرّ آنفا.
واعلم: أنّ الناسخ في الحقيقة: هو الله سبحانه وتعالى،
واعلم أن لمعرفة الناسخ طرقا:
منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فأشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا» ونحوه.
ومنها: أن يذكر الراوي التاريخ مثل: أن يقول سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله، أو يقول: نسخ حكم كذا وكذا.
ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ، وأن ناسخه متقدم، وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبّهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفّق للهداية.
والله أعلم
* * *
واعلم: أنّ السّور باعتبار الناسخ، والمنسوخ أربعة أقسام:
قسم: ليس فيه منسوخ، ولا ناسخ وهو: ثلاث وأربعون سورة: (١) الفاتحة (٢) يوسف (٣) يس (٤) الحجرات (٥) الرحمن (٦) الحديد (٧) الصف (٨) الجمعة (٩) التحريم (١٠) الملك (١١) الحاقة (١٢) نوح (١٣) الجنّ (١٤) المرسلات (١٥) النبأ (١٦) النازعات (١٧) الانفطار (١٨) المطفّفين (١٩) الانشقاق (٢٠) البروج (٢١) الفجر (٢٢) البلد (٢٣) الشمس (٢٤) والليل (٢٥) والضحى (٢٦) ألم نشرح (٢٧) والقلم (٢٨) القدر (٢٩) القيامة (٣٠) الزلزلة (٣١) والعاديات (٣٢) القارعة (٣٣) التكاثر (٣٤) الهمزة (٣٥) الفيل (٣٦) قريش (٣٧) أرأيت (٣٨) الكوثر (٣٩) النصر (٤٠) تبت (٤١) الإخلاص (٤٢) الفلق (٤٣) الناس.
وقسمٌ: فيه ناسخ، ومنسوخ وهو: خمس وعشرون سورة: (١) البقرة (٢) آل عمران (٣) النساء (٤) المائدة (٥) الأنفال، (٦) التوبة (٧) إبراهيم (٨) مريم (٩) الأنبياء (١٠) الحج (١١) النور (١٢) الفرقان (١٣) الشعراء (١٤) الأحزاب (١٥) سبإ (١٦)
وقسم: فيه منسوخ فقط وهو: أربعون: (١) الأنعام (٢) الأعراف (٣) يونس (٤) هود (٥) الرعد (٦) الحجر (٧) النحل (٨) الإسراء (٩) الكهف (١٠) طه (١١) المؤمنون (١٢) النمل (١٣) القصص (١٤) العنكبوت (١٥) الروم (١٦) لقمان (١٧) ألم السجدة (١٨) فاطر (١٩) والصافات (٢٠) ص (٢١) الزمر (٢٢) حم سجدة (٢٣) الزخرف (٢٤) الدخان (٢٥) الجاثية (٢٦) الأحقاف (٢٧) محمد (٢٨) ق (٢٩) والنجم (٣٠) القمر (٣١) الامتحان (٣٢) المعارج (٣٣) القيامة (٣٤) الإنسان (٣٥) عبس (٣٦) الطارق (٣٧) الغاشية (٣٨) والتين (٣٩) الكافرون (٤٠) ن.
وقسم: فيه ناسخ فقط وهو ستّة: (١) الفتح (٢) الحشر (٣) المنافقون (٤) التغابن (٥) الطلاق (٦) الأعلى. اه. من أسباب النزول.
والله أعلم
* * *
واعلم: أنه ذكر الإعراض عن المشركين، في مائة وأربع عشرة آية: (١١٤) هنّ في سبع وأربعين: (٤٧) سورة:
(١) البقرة ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ نسخ عمومها ﴿لَنا أَعْمالُنا﴾ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ نسخ معنى؛ لأنّ تحته الأمر بالصفح قُلْ قِتالٌ ﴿لا إِكْراهَ﴾.
(٢) آل عمران ﴿فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾، ﴿مِنْهُمْ تُقاةً﴾.
(٣) النساء ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ في موضعين ﴿فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾.
(٤) المائدة ﴿وَلَا آمِّينَ﴾ ﴿عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ﴾ ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ أي: أمرتم ونهيتم.
(٥) الأنعام ﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ ﴿وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ و ﴿أَعْرِضْ﴾ ﴿فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿وَلا تَسُبُّوا﴾ ﴿فَذَرْهُمْ﴾ في موضعين ﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
(٦) الأعراف ﴿أَعْرِضْ﴾ وَ ﴿أُمْلِي﴾.
(٨) التوبة ﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾.
(٩) يونس ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي﴾ ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ﴾ ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ لأنّ معناه: الإمهال، والصبر.
(١٠) هود ﴿إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ معناه: أي: أنت تنذر ﴿وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ ﴿وَانْتَظِرُوا﴾.
(١١) الرعد ﴿عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾.
(١٢) الحجر ﴿ذَرْهُمْ﴾ ﴿فَاصْفَحِ﴾ ﴿وَلا تَمُدَّنَّ﴾. ﴿أَنَا النَّذِيرُ﴾ ﴿وأَعْرِضْ﴾.
(١٣) النحل ﴿فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ ﴿وَجادِلْهُمْ﴾ ﴿وَاصْبِرْ﴾ مختلف فيه.
(١٤) الإسراء ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾.
(١٥) مريم ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ معنى: ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ ﴿فَلا تَعْجَلْ﴾.
(١٦) طه ﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿قُلْ كُلٌّ﴾.
(١٧) الحج ﴿وَإِنْ جادَلُوكَ﴾.
(١٨) المؤمنون ﴿فَذَرْهُمْ﴾ ﴿ادْفَعْ﴾.
(١٩) النّور ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾.
(٢٠) النمل ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ معنى.
(٢١) القصص ﴿لَنا أَعْمالُنا﴾.
(٢٣) الروم ﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٢٤) لقمان ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾.
(٢٥) السجدة ﴿وَانْتَظِرْ﴾.
(٢٦) الأحزاب ﴿وَدَعْ أَذاهُمْ﴾.
(٢٧) سبإ ﴿قُلْ لا تُسْئَلُونَ﴾.
(٢٨) فاطر ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣)﴾.
(٢٩) يس ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ مختلف فيه.
(٣٠) الصافات ﴿فَتَوَلَّ﴾ و ﴿تَوَلَّ﴾ وما بينهما.
(٣١) ص ﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ﴾ معنى.
(٣٢) الزمر ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ معنى، ﴿فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ﴾ ﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ ﴿مَنْ يَأْتِيهِ﴾ ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ معنى ﴿أَنْتَ تَحْكُمُ﴾ معنى؛ لأنّه تفويض.
(٣٣) غافر ﴿فَاصْبِرْ﴾ في موضعين.
(٣٤) حم السجدة ﴿ادْفَعْ﴾.
(٣٥) الشّورى ﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿لَنا أَعْمالُنا﴾ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾.
(٣٦) الزخرف ﴿فَذَرْهُمْ﴾ ﴿فَاصْفَحِ﴾.
(٣٨) الجاثية ﴿يَغْفِرُوا﴾.
(٣٩) الأحقاف ﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٤٠) محمد صلّى الله عليه وسلم ﴿فَإِمَّا مَنًّا﴾.
(٤١) ق ﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿فَذَكِّرْ﴾.
(٤٢) المزّمل ﴿وَاهْجُرْهُمْ﴾ ﴿وَذَرْنِي﴾.
(٤٣) الإنسان ﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٤٤) الطارق ﴿فَمَهِّلِ﴾.
(٤٥) الغاشية ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾.
(٤٦) والتين ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)﴾ معنى.
(٤٧) الكافرون ﴿لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ نسخ بقوله عزّ وجلّ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ في سورة التوبة.
والله أعلم
* * *
والبحث عن قواعدها ينحصر في خمسة مطالب:
الأوّل: تعريف النزول: وهو منحصر في أمرين:
أحدهما: أن تحدث حادثة، فينزل القرآن بشأنها، كما في سبب نزول: ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ﴾ كما سيأتي في محلّه.
وثانيها: أن يسأل الرسول صلّى الله عليه وسلم عن شيء، فينزل القرآن ببيان الحكم فيه، كما في سبب نزول آية اللّعان.
والثاني: طريق معرفته، أمّا طريق معرفته: فالعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول، على صحة الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن الصحابيّ، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا له حكم الرفع. قال ابن الصلاح في كتابه «علوم الحديث»: وما قيل: إنّ تفسير الصحابي حديث مسند، فإنما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول الآية يخبر به الصحابيّ، كقول جابر - رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية، فأمّا سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة الشيء، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمعدود في الموقوفات. اه. ص (٤٦).
وأمّا قول التابعيّ نزلت في كذا: فهو مرسل، فإن تعدّدت
والثالث: (٣): العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والدليل على ذلك: أن الأنصاري الذي قبّل الأجنبية، ونزلت فيه: ﴿إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ الآية، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألي هذا وحدي يا رسول الله!. ومعنى هذا: هل حكم هذه الآية يختصّ بي، لأني سبب نزولها؟ فأفتاه النبي صلّى الله عليه وسلم: بأنّ العبرة بعموم اللفظ، فقال: (بل لأمتي كلهم). أما صورة السبب: فجمهور أهل الأصول أنها قطعية الدخول في العام، فلا يجوز إخراجها منه بمخصص، وهو التحقيق. وروي عن مالك: أنها ظنية الدخول، كغيرها من أفراد العامّ.
والرابع: قد تتعدّد الأسباب، والنازل واحد، كما في آية اللعان، وغيرها من الآيات، كما ستجده إن شاء الله تعالى في مواضعه، وكذا قد تتعدّد الآيات النازلة، والسبب واحد، كما في حديث المسيب - رضي الله عنه -: في شأن وفاة أبي طالب، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» فأنزل الله سبحانه: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)﴾ ونزل في أبي طالب أيضا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ستمرّ بك إن شاء الله تعالى في مواضعها.
والخامس: صيغة سبب النزول: إمّا أن تكون صريحة في السببية، وإمّا أن تكون محتملة فتكون نصّا صريحا، إذا قال
فهاتان صيغتان صريحتان في السببيّة، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى، وتكون الآية محتملة للسببيّة، ولما تضمّنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: نزلت هذه الآية في كذا، فذلك يراد به تارة: أنه سبب النزول، وتارة: أنه داخل في معنى الآية. وكذا إذا قال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في كذا، فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب، فهاتان صيغتان تحتملان السببية، وغيرها، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى. اه. مختصر من كتاب «مباحث في علوم القرآن» لمنّاع القطّان.
واعلم: أنّ من القرآن ما نزل لسبب، ومنه: ما نزل ابتداء بعقائد الإيمان، وشرائع الإسلام، وليس لكل آية، أو لكل حديث سبب، بل منهما ما له سبب خاصّ، ومنهما ما ليس له سبب، فانتبه لهذه المسألة.
والله أعلم
* * *
فمنهم: من الزنادقة، مثل: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشاميّ المصلوب في الزندقة، وغيرهما. وضعوا أحاديث، وحدّثوا بها؛ ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس. فما رواه محمد بن سعيد، عن أنس بن مالك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء، لا نبيّ بعدي إلّا ما شاء الله» فزاد هذا الاستثناء، لما كان يدعو إليه من الإلحاد، والزندقة.
قلت: وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب «التمهيد» ولم يتكلم عليه، بل تأوّل الاستثناء على الرؤيا، فالله أعلم.
ومنهم: قوم وضعوا الحديث، لهوى يدعون الناس إليه. قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا صيرناه حديثا.
ومنهم: جماعة وضعوا الأحاديث حسبة، كما زعموا، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال، كما روي عن أبي عصمة، نوح بن أبي
قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح، في كتاب «علوم الحديث» له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة، وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى، إلى من اعترف بأنه، وجماعة وضعوه، وأن أثر الوضع عليه لبيّن. وقد أخطأ الواحديّ المفسّر، ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم.
قلت: وأنا قد وضعتها في تفسيري، في فضائل بعض السور نقلا عن البيضاويّ، وغيره استئناسا بها، ولكن قد بيّنت وضعها في مواضعها.
ومنهم: قوم من السّؤّال والمكدّين، يقفون في الأسواق، والمساجد، فيضعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد. قال جعفر بن محمد الطيالسيّ صلى أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاصّ. قال: حدثنا أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين قالا: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله،
وجهه، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزىء بهما، فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن يجري مجراهم.
ويذكر: أن المهدي كان يعجبه الحمام، واللهو به، فأهدي إليه حمام، وعنده أبو البحتريّ القاصّ، فقال: روى أبو هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا سبق إلا في خفّ، أو حافر، أو جناح فزاده: أو جناح، وهي: لفظة وضعها للمهدي، فأعطاه جائزة. فلمّا خرج قال المهدي: والله، لقد علمت أنه كذاب، وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل له: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك العلماء حديثه ذلك، وغيره من
قلت: فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح، والمسانيد، وغيرهما من المصنّفات التي تداولها العلماء، ورواها الأئمة الفقهاء، لكان لهم في ذلك غنية. وخرجوا عن تحذيره صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «اتقوا الحديث عليّ إلّا ما علمتم فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار». الحديث، فتخويفه صلّى الله عليه وسلم أمّته على الكذب، دليل على أنّه كان يعلم أنّه سيكذب عليه، فحذار مما وضعه أعداء الدين، وزنادقة المسلمين في باب الترغيب، والترهيب، وغير ذلك، وأعظمهم ضررا؛ أقوام من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الأحاديث حسبة فيما زعموا، فيقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم، وركونا إليهم فضلّوا، وأضلّوا.
والله أعلم
* * *
واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة، ولا بين الأئمّة أهل السنة أنّ القرآن اسم لكلام الله تعالى، الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، معجزة له على ما سيأتي، وأنّه محفوظ في الصّدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحدّ، ولا في حصره بعدّ، فمن ادعى زيادة عليه، أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع وبهت الناس، وردّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن المنزّل عليه، وردّ قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ وأبطل آية رسوله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل، ولمّا قدر عليه لم يكن حجة، ولا آية، وخرج أن يكون معجزا.
فالقائل: بأن القرآن فيه زيادة، ونقصان ردّ لكتاب الله، ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع شهر
قال الإمام أبو بكر، محمد بن القاسم، بن بشار، بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل، والعقل يعرفون من شرف القرآن، وعلوّ منزلته، ما يوجبه الحقّ، والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين، وتمويه الملحدين، وتحريف الزائفين، حتى نبع في زماننا هذا، زائغ زاغ عن الملّة، وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسّها، وينمي فرعها، ويحرسها من معايب أولي الحيف، والجور، ومكايد أهل العداوة، والكفر، فزعم: أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على تصويبه فيما فعل، لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت بعضها، وسأقرأ بقيتها.
فمنها: (والعصر ونوائب الدّهر) فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين، (ونوائب الدهر).
ومنها: (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها) فادّعى هذا الإنسان، أنّه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها وذكر مما يدّعي حروفا كثيرة.
وادعى: أن عثمان، والصحابة - رضي الله عنهم - زادوا في
الله الواحد الصمد فأسقط من القرآن: ﴿قُلْ هُوَ﴾، وغير لفظ أحد، وادعى أنّ هذا هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل، والمحال. وقرأ في صلاة الفرض (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وطعن على قراءة المسلمين. وادّعى: أنّ المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيّرة.
منها: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾ فادّعى: أنّ الحكمة، والعزّة لا يشاكلان المغفرة، وأن الصواب (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم) وترامى به الغيّ في هذا، وأشكاله، حتى ادّعى: أنّ المسلمين يصحّفون ﴿وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ والصواب الذي لم يغيّر عنده: (وكان عبد الله وجيها) وحتى قرأ في صلاة مفترضة، على ما أخبرنا جماعة سمعوه، وشهدوه: (لا تحرّك به لسانك إنّ علينا جمعه - وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به). وحكى لنا آخرون عن آخرين: أنهم سمعوه يقرأ: (ولقد نصركم ببدر بسيف عليّ وأنتم أذلّة) وروى هؤلاء أيضا لنا عنه، قال: ﴿هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ وأخبرونا أنّه: أدخل في آية من القرآن، ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يدخل في لسان قومه، الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ فقرأ: (أليس قلت للناس) في موضع ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ وهذا لا يعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويّين؛ لأنّ
وادّعى: أنّ عثمان - رضي الله عنه -: لمّا أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب؛ لأنّ عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، كانا أولى بذلك من زيد؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ أمتي أبيّ بن كعب». ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أمّ عبد». وقال هذا القائل: لي أن أخالف مصحف عثمان، كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ (إنّ هذين) (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُون) (بَشِّرْ عِبادِيَ الذين) بفتح الياء (فَما آتانِيَ اللَّهُ) بفتح الياء، والذي في المصحف: ﴿إِنْ هذانِ﴾ بالألف ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ﴾ بغير واو ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ ﴿فَما آتان اللَّهُ﴾ بغير ياءين في الموضعين، وكما خالف ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائيّ مصحف عثمان فقرؤوا: (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم، ويسكّنها بعضهم، وفي المصحف نون واحدة، وكما خالف حمزة المصحف، فقرأ: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ﴾ بنون واحدة، ووقف على الياء، وفي المصحف نونان، ولا ياء بعدهما، وكما خالف حمزة أيضا المصحف، فقرأ: (أَلا إِنَّ ثَمُودًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) بغير تنوين، وإثبات الألف يوجب التنوين، وكلّ هذا الذي شنّع به على القرّاء ما يلزمهم به خلاف المصحف. قال أبو
وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان - رضي الله عنه - في جمعه القرآن يعتدّ له؛ بأنه من مناقبه العظام. وقد طعن عليه فيه
والله أعلم
* * *
واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة: أنه ليس في القرآن كلام مركّب على أساليب غير العرب، وأنّ فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب، كإسرائيل، وجبرائيل، وعمران، ونوح، ولوط، واختلفوا: هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب؟ فذهب القاضي أبو بكر بن الطيّب، والطبريّ، وغيرهما: إلى أنّ ذلك لا يوجد فيه، وأنّ القرآن عربيّ صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات؛ إنّما اتّفق فيها أن تواردت اللغات عليها، فتكلّمت بها العرب، والفرس، والحبشة، وغيرهم، وذهب بعضهم: إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلّتها، لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن كونه متكلّما بلسان قومه. فالمشكاة: الكوّة، ونشأ: قام من الليل ومنه ﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ و ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ أي: ضعفين، و ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾ أي: الأسد كله بلسان الحبشة، والغسّاق: البارد المنتن بلسان الترك، والقسطاس: الميزان بلغة الروم، والسجّيل: الحجارة، والطين بلسان الفرس، والطّود: الجبل، واليمّ: البحر بالسريانية والتنور: وجه الأرض بالعجميّة.
قلنا: ومن سلّم لكم أنكم حصرتم أوزانهم، حتى تخرجوا هذه منها؟ فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب، ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحويّة، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها، ولا عرفتها، استحال أن يخاطبهم الله تعالى بما لا يعرفون، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
المعجزة: واحدة معجزات الأنبياء الدالّة على صدقهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وسمّيت معجزة؛ لأنّ البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها.
وشرائطها: خمسة: فإن اختلّ منها شرط لا تكون معجزة.
فالشرط الأوّل: من شروطها: أن تكون مما لا يقدر عليها إلّا الله تعالى، وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة؛ لأنّه لو أتى آت في زمان مجيء الرّسل، وادّعى الرسالة، وجعل معجزته أن يتحرّك، ويسكن، ويقوم، ويقعد، لم يكن هذا الذي ادّعاه معجزة له، ولا دالّا على صدقه؛ لقدرة الخلق على مثله، وإنما يجب أن تكون المعجزات مما لا يقدر عليه البشر، كفلق البحر، وانشقاق القمر.
والشرط الثاني: أن تخرق العادة، وإنما وجب اشتراط. ذلك؛ لأنّه لو قال المدعي للرسالة: آيتي مجيء الليل بعد النهار، وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيه ادعاء معجزة؟ لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلّا الله، فلم تفعل من أجله، وقد
والشرط الثالث: هو أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله
والشرط الرابع: هو أن يقع على وفق دعوى المتحدّي بها، المستشهد بكونها معجزة له، وإنّما وجب اشتراط هذا الشرط؛ لأنّه لو قال: المدعي للرسالة: آية نبوّتي، ودليل حجّتي: أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده، أو الدابة بأن قالت: كذب، وليس هو بنبيّ فإنّ هذا الكلام الذي خلق الله تعالى، دالّ على كذب ذلك المدعي للرسالة؛ لأنّ ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه، وكذلك ما يروى: أنّ مسيلمة الكذاب لعنه الله تعالى، تفل في بئر؛ ليكثر ماؤها، فغارت البئر، وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعله الله سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذّبة لمن ظهرت على يديه، لأنّها وقعت على خلاف ما أراده المتنبىء الكذّاب.
والشرط الخامس: من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي على وجه المعارضة. فإن تمّ الأمر المتحدّى به، المستشهد به على النبوّة، على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة، فهي: معجزة دالّة على نبوّة من ظهرت على يده، فإن أقام الله تعالى من يعارضه، حتى يأتي بمثل ما أتى به، ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيّا، وخرج عن كونه معجزا، ولم يدلّ على صدقه، ولهذا قال المولى سبحانه: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)﴾ وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
والله أعلم
* * *
إذا ثبت هذا، فاعلم: أنّ المعجزات على ضربين:
الأول: ما اشتهر نقله، وانقرض عصره بموت النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: ما تواترت الأخبار بصحّته، وحصوله، واستفاضت بثبوته، ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة.
ومن شرطه: أن يكون الناقلون خلقا كثيرا، وجمّا غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريّا، وأن يستوي في النقل، أوّلهم، وآخرهم، ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأمّة - رضي الله عنها - لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك بالنبي صلّى الله عليه وسلم، المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلّة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام، وجبريل عن ربّه جلّ وعزّ، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة، والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه، ويسمعونه؛ لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم، فيما نقلوه من وجود محمد صلّى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على
ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة:
منها: النّظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب، وفي غيرها؛ لأنّ نظمه ليس من نظم الشيء في شيء، وكذلك قال ربّ العزّة الذي تولّى نظمه: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾. وفي «صحيح مسلم»: أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذرّ: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله تعالى أرسله، قلت: فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أفراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله، إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون، وكذلك أقرّ عتبة بن ربيعة، أنّه ليس بسحر، ولا شعر، لمّا قرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (حم فُصِّلت) على ما يأتي بيانه هناك، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة، والبلاغة، بأنّه ما سمع مثل هذا القرآن قطّ، كان في هذا القول مقرًّا له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس
ومنها: الأسلوب المخالف أساليب العرب.
ومنها: الجزالة التي لا تصحّ من مخلوق بحال، وتأمّل ذلك في سورة: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)﴾ إلى آخرها، وقوله سبحانه: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ إلى آخر السورة، وكذلك قوله: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ إلى آخر السورة. قال ابن الحصار فمن علم أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحقّ، علم أنّ مثل هذه الجزالة لا تصحّ في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، ولا أن يقول: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ﴾.
قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميّز مسموع كلّ آية، وكلّ سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدّي، والتعجيز، ومع هذا، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين.
أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمه، وسعته، وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أنّ المصدّقين به أكثر من أتباع سائر الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول
ومنها: التصرّف في لسان العرب على وجه لا يستقلّ به عربيّ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدّوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميّ من أمّة أميّة ليس لها بذلك علم بما عرفوا، من الكتب السالفة صحّته، فتحقّقوا صدقه. قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أنّ هذا ممّا لا سبيل إليه إلّا عن تعلّم، وإذا كان معروفا أنّه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا متردّدا إلى المعلّم منهم، ولا كان ممّن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنّه لا يصل إلى علم ذلك، إلّا بتأييد من جهة الوحي.
ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيّد،
ومنها: الإخبار عن المغيّبات في المستقبل التي لا يطّلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: ما وعد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلم، أنّه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الآية، ففعل ذلك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله تعالى في إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا، وغربا، برّا، وبحرا. قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وقال: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ وقال: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ﴾ وقال: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)﴾ فهذه كلّها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلّا ربّ العالمين، أو من أوقفه عليها ربّ العالمين، فدلّ على أنّ الله تعالى قد أوقف عليها رسوله؛ لتكون دلالة على صدقه.
ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في
ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا، وباطنا من غير اختلاف. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾.
قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا - رحمهم الله تعالى -، وزاد النظام، وبعض القدرية حادي عشرها، وهو: أنّ وجه الإعجاز: هو المنع من معارضته، والصّرفة عند التحدّي بمثله، وأنّ المنع، والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أنّ الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنّ إجماع الأمة قبل حدوث المخالف، على أنّ القرآن هو المعجز. فلو قلنا: إن المنع، والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك، علم أنّ نفس القرآن هو المعجز؛ لأن فصاحته، وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قطّ كلام على هذا الوجه، فلمّا لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ على أنّ المنع، والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين:
أحدهما: أنّهم صرفوا عن القدرة، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه.
الثاني: أنّهم صرفوا عن التعرّض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال: ابن عطيّة: وجه
والصحيح: أنّ الإتيان بمثل القرآن، لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبة، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده، فيأخذها بقريحة جامّة، فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر، والبدل. وكتاب الله تعالى، لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب، أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ومن فصاحة القرآن: أنّ الله جلّ ذكره، وثناؤه، ذكر في آية واحدة: أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الآية، وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عامّا، ثم استنثى استثناء بعد استثناء ثمّ أخبر عن حكمته، وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله سبحانه وتعالى. وأنبأ سبحانه: عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة، وثوابها، وعقابها، وفوز
عن قصص الأوّلين، والآخرين، ومآل المفترين، وعواقب المهلكين في شطر آية، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا﴾ وأنبأ جلّ وعزّ: عن أمر السفينة، وإجرائها، وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة، واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض، والسماء بقوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾ إلى قوله: ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ إلى غير ذلك، فلمّا عجزت قريش عن الإتيان بمثله، وقالت: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم تقوّله، أنزل الله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)﴾ ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ﴾ فلما عجزوا، حطّهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جلّ ذكره: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فأفحموا عن الجواب، وتقطّعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب، والعناد، وآثروا سبي الحريم، والأولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة، وأشدّ تأثيرا، هذا مع كونهم أرباب البلاغة، واللّحن، وعنهم تؤخذ الفصاحة، واللّسن، فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز، والبيان، بل تجاوزت حدّ الإحسان،
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، ومنه نرتجي قبول المتاب، عن كل ما وقع في السّطور، والكتاب، والحمد لله على ما حبانا، والشكر له على ما أولانا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويردّ عنه جدل منكره، وجاحده،
اللهمّ ربّنا! يا ربّنا! تقبّل منّا أعمالنا، وأصلح أقوالنا وأفعالنا إنّك أنت السميع العليم! وتب علينا يا مولانا إنّك أنت التوّاب الرحيم! وجد علينا ببحار فيضك إنّك أنت الجواد الكريم! وصلى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين (١).
تمّ تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه قبيل العشاء من الليلة الخامسة من شهر ربيع الآخر في تاريخ ٥/ ٤/ ١٤٢٠ هـ.
وما من كاتبٍ إلّا سيفنى | ويبقى الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفّك غير شيء | يسرّك في القيامة أن تراه |
أجلّ ما كسبت يد الفتى قلم | وخير ما جمعت يداه الكتب |
* * *
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الأول»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بورك حدائق الرّوح والريحان | كما بورك جنا الزّيتون والرمّان |
كتاب حوى من جنا التّفسير أفنانا | فالحمد للمولى على ما قد حبانا |
كتاب لو يباع بوزنه ذهبا | لقد كان البائع فيه المغبونا |
بلاد الله واسعة فضاء | ورزق الله في الدّنيا فسيح |
فقل للقاعدين على هوان | إذا ضاقت بكم الأرض فسيحوا |
سافر تجد عوضا عمن تفارقه | وانصب فإن اكتساب المجد في النصب |
فالأسد لولا فراق الخيس ما افترست | والسّهم لولا فراق القوس لم يصب |
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة | وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام |
فائدة: قال مؤلفه وكان التاريخ الشروعى لتفسيرنا هذا مع التوائق والمعائق بتاريخ ٢/ ١/ ١٤٠٦ هـ وكان التاريخ الانتهائي منه مع المقدمة بتاريخ ١/ ١٠/ ١٤١٧ هـ
فلله الحمد ما أسدى وأولى | ونعم المولي ونعم المولى |
إنّ مبادىء كلّ فن عشره | الحدّ والموضوع ثمّ الثمره |
وفضله ونسبة والواضع | والاسم الاستمداد حكم الشارع |
مسائل والبعض بالبعض اكتفى | ومن درى الجميع حاز الشرفا |
١ - حدّه لغة: الكشف والبيان، واصطلاحا: علم يعرف به معاني كلام الله بحسب الطاقة البشرية.
٢ - وموضوعه: آيات القرآن من حيث فهم معانيها.
٣ - وثمرته: أي فائدته: معرفة معاني كلام الله تعالى على الوجه الأكمل.
٤ - وفضله: فوقانه على سائر العلوم؛ لأنه أصل العلوم الشرعيّة.
٥ - ونسبته: تباينه لسائر العلوم.
٦ - وواضعه: الراسخون في العلم، من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الآن على التحقيق، كما شهد الله بذلك بقوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ الآية.
٧ - واسمه: علم التفسير.
٨ - واستمداده: من الكتاب والسنة والآثار وكلام الفصحاء من العرب العرباء.
٩ - وحكمه: الوجوب الكفائيّ.
١١ - وغايته: الفوز بسعادة الدارين، أمّا في الدنيا: فبامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأما في الآخرة: فبالجنة ونعيمها، ولذلك يقال له: «اقرأ وارق» كما في الحديث.
والله أعلم
* * *
فصل في مباحث الاستعاذة
في الاستعاذة مباحث:
الأول في لفظها: فالمختار في لفظها عند الجمهور (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لموافقة قوله تعالى: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أحمد: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع). ويؤيّد قول الجمهور: ما روي (١) عن ابن مسعود أنه قال: قلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا ابن أمّ عبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، هكذا أقرأني جبريل عن اللوح عن القلم».
والثاني في حكمها: وأمّا حكمها: فقد (٢) اتفق الجمهور على أنّ الاستعاذة سنّة في الصلاة، فلو تركها لم تبطل صلاته، سواء تركها عمدا أو سهوا، ويستحبّ لقارىء القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. وفي «القرطبي»: وحكى النقاش، عن عطاء: أنّ الاستعاذة واجبة في صدر كلّ قراءة في الصلاة وغيرها، واختلفوا في الاستعاذة في الصلاة، وكان ابن سيرين والنخعيّ وقوم يتعوّذون في الصلاة في كلّ ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعيّ يتعوذّان في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة
(٢) القرطبي.
والثالث في وقتها: وأمّا وقتها: فهو قبل القراءة عند الجمهور، سواء كان في الصلاة أو خارجها. وحكي عن النخعيّ: أنّه بعد القراءة؛ لظاهر قوله تعالى:
﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: إذا فرغت من قراءة القرآن فاستعذ بالله، وهو قول داود وإحدى الروايتين عن ابن سيرين. حجة (١) الجمهور: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبّر ثمّ يقول:
«سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك»، ثمّ يقول:
«لا إله إلّا الله ثلاثا»، ثمّ يقول: «الله أكبر كبيرا ثلاثا، أعوذ بالله السميع العليم؟
من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه». همزه: وسوسته. نفخه: كبره. نفثه:
شعره. رواه أبو داود. وهذا الحديث: نصّ في أنّ التعوذ قبل القراءة.
والرابع في معناها: وأما معناها: فالاستعاذة لغة: الالتجاء إلى الغير والاعتصام به، وشرعا: الالتجاء إلى الله والالتصاق بجانبه من شرّ كل ذي شرّ، انتهى من «الخازن» و «ابن كثير» بتصرف. وقال ابن كثير: ومعنى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أي: أستجير (٢) بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرّني في
(٢) ابن كثير.
والخامس في إعرابها: وأما إعراب هذه الجملة فتقول فيه: (أعوذ): فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المتكلم، تقديره: أنا، يعود على المستجير، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا نحويّا، لا محلّ لها من الإعراب. (بالله): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ، (من الشيطان): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ أيضا، وجوّز ذلك: اختلاف لفظهما ومعناهما، (الرجيم): صفة ذمّ للشيطان، مجرور بالكسرة الظاهرة.
والسادس في مفرداتها وتصاريفها: وأمّا مفرداتها وتصاريفها فتقول في بيانهما: الاستعاذة مصدر قياسيّ لاستعوذ، معناه: الالتجاء والاعتصام، كما مرّ آنفا. يقال: استعاذ يستعيذ استعاذة إذا تحصّن بشيء من شيء. وأصل الاستعاذة استعواذ، نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فقلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فالتقى ساكنان، وهما: ألف عين الكلمة وألف الاستفعال فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوضوا عنها التاء فصار استعاذة بوزن استفعالة، وهو أجوف واويّ؛ لأنّه من عاذ، يعوذ، عوذا، كقال:
يقول، قولا. والعوذ (٢) والعياذ: مصدران كاللّوذ واللّياذ والصوم والصيام. وقول القائل: (أعوذ): إخبار عن فعله، وهو في التقدير سؤال الله عزّ وجلّ من فضله،
(٢) روح البيان.
وعبارة «القرطبي» هنا (٢): الشياطين واحد الشيطان: على التكسير، والنون أصليّة؛ لأنّه من شطن إذا بعد عن الخير، وشطنت داره أي: بعدت. قال الشاعر:
نأت بسعاد عنك نوى شطون | فبانت والفؤاد بها رهين |
أيّام يدعونني الشّيطان في غزل | وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا |
(٢) القرطبي.
قد نخضب العير من مكنون فائله | وقد يشيط على أرماحنا البطل |
أيّما شاطن عصاه عكاه | ورماه في السجن والأغلال |
(الرجيم)؛ أي (١): المرميّ من السموات بإلقاء الملائكة حين لعن. أي:
المرميّ بشهب السماء إذا قصدها، وهذه صفة للشيطان، وله في القرآن أسماء مشؤومة وصفات مذمومة، فأجمع مساويه هو الرجيم؛ لأنه جامع لجميع ما يقع عليه من العقوبات، فلذلك خصّ به الابتداء من بين تلك الأسماء والصفات.
وفي القرطبي: (الرجيم) أي: المبعد (٢) من الخير، المهان، وأصل الرجم:
الرمي بالحجارة، وقد رجمته أرجمه فهو رجيم ومرجوم، والرّجم: القتل واللّعن والطرد والشتم، وقد قيل: هذا كلّه في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ وقول أبي إبراهيم: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾. وسيأتي إن شاء الله تعالى، انتهى. وعلى ما قاله القرطبي: يكون الرجيم صفة كاشفة للشيطان، ويحتمل كونه مؤسّسة، وعلى كلّ من هذه المعاني: فالرجيم فعيل إما بمعنى:
فاعل؛ لأنّه يرجم بالوسوسة والشرّ، أو بمعنى: مفعول أي: مرجوم بمعنى:
مطرود عن الرحمة وعن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى، أو مرجوم بالشّهب عند استراق السمع أو مرجوم بالعذاب.
(٢) القرطبي.
ومنها: الالتفات من الخطاب بقوله: أعوذ بك، إلى الغيبة بقوله: أعوذ بالله؛ لأنّ اسم الظاهر من قبيل الغيبة؛ لغرض التبرّك والتّلذّذ بلفظ الجلالة، ومنها: الإتيان بالصفة الكاشفة في قوله: (الرجيم)؛ لتأكيد معنى الموصوف.
والثامن في بيان لطيفة هذه الجملة: ومن (٢) لطائف الاستعاذة أنّ قوله:
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إقرار من العبد بالعجز والضعف، واعتراف من العبد بقدرة البارىء عزّ وجلّ، وأنّه هو الغنيّ القادر على دفع جميع المضرّات والآفات، واعتراف من العبد أيضا، بأنّ الشيطان عدوّ مبين، ففي الاستعاذة:
التجاء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغويّ الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا الله تعالى. والله أعلم.
[فائدتان من الاستعاذه]
فائدتان:
الأولى: فإن قلت: ما الحكمة في الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن، حيث قال تعالى في سورة النحل ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾؟.
قلت: الحكمة في الاستعاذة عندها الاستئذان، وقرع الباب؛ لأنّ من أتى باب ملك من الملوك لا يدخل إلا بإذنه، كذلك من أراد قراءة القرآن؛ إنّما يريد الدخول في المناجاة مع الحبيب، فيحتاج إلى طهارة اللسان؛ لأنّه قد تنجّس بفضول الكلام والبهتان، فيطهّره بالتعوذّ.
(٢) الخازن.
ذكور وإناث، يتوالدون ولا يموتون إلى النفخة الأولى، والجنّ: ذكور وإناث يتوالدون ويموتون، والملائكة: ليسوا بذكور ولا إناث، لا يموتون ولا يتوالدون، ولا يأكلون ولا يشربون، فثبت بهذا أنّ للشيطان، والجنّ حقيقة ووجودا، ولم ينكر وجود الجن إلّا شرذمة قليلة من جهّال الفلاسفة والأطبّاء ونحوهم.
حكي (٢): أنّ الإمام الغزاليّ محيي السنة كان مفتي الثقلين، فسألهم يوما عن الحوادث، قالوا: إنّ الزمخشري صنّف كتابا في التفسير وبلغ إلى النصف، فطلب منهم أن يأتوا به، فأتوه، فكتب جميع ما ألفه، ثمّ وضعوا النسخة في مكانها، فلمّا جاء الزمخشري إليه أراه إيّاه، فتعجّب الزمخشري وتحيّر وقال: إن قلت: هو لي وأنا خبّأته وما اطّلع عليه أحد غيري، فمن أين جاء هذا؟ وإن هو لغيري؛ فالتوارد في اللفظ والمعنى والوضع والترتيب في هذا القدر من الكتاب لا يقبله العقل، قال الإمام الغزالي: هو لك، وقد وصل إلينا من أيدي الجنّ، وكان الزمخشري ينكر الجن فاعترف في مجلسه.
ولا يلزم من هذا علم الجنّ بالغيب كما لا يخفى، قال تعالى: ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ﴾. ثمّ حقيقتهم عند من لم يقل بالمجردات: أجسام هوائية، وقيل: نارية قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، كصور الحيّات والعقارب والكلاب والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والطير وبني آدم، لها عقول وأفهام تقدم على الأعمال الشاقّة، كما كانوا يعملون لسليمان عليه السلام المحاريب والتماثيل والجفان والقدور. وعند من قال بالمجرّدات: فهم قسم من الملائكة، والمجرّدات: الموجودات الغير المتحيّزة، ولا الحالّة في المتحيز، والمراد بالشيطان هنا: إبليس وأعوانه كما مرّ.
ومما يدّل على تشكّلها (٣): ما روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله
(٢) روح البيان.
(٣) القرطبي.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (١) قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من المسجد، فإذا هو بإبليس، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما الذي جاء بك إلى باب مسجدي؟» قال: يا محمد، جاء بي الله، قال: «فلم ذا؟» قال: لتسألني عمّا شئت، فقال ابن عباس: فكان أوّل شيء سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة، فقال له: «يا ملعون، لم تمنع أمتي عن الصلاة بالجماعة؟» قال: يا محمد، إذا خرجت أمّتك إلى الصلاة، تأخذني الحمّى الحارّة، فلا تندفع حتى يتفرّقوا،» وقال عليه السلام: «لم تمنع أمّتي عن العلم والدعاء؟» قال: عند دعائهم يأخذني الصمم والعمى، فلا يندفع حتى يتفرّقوا، وقال عليه السلام: «لم تمنع أمّتي عن القرآن»؟
قال: عند قراءتهم أذوب كالرصاص، قال: «لم تمنع أمتي عن الجهاد»؟ قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتى يرجعوا، وإذا خرجوا إلى الحج أسلسل وأغلل حتى يرجعوا، وإذا همّوا بالصدقة توضع على رأسي المناشير فتنشرني كما ينشر الخشب.
وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه: - (الفرق بين صلاتنا وصلاة أهل الكتاب: وسوسة الشيطان؛ لأنّه فرغ من عمل الكفار، لأنّهم وافقوه والمؤمنون يخالفونه ويحاربونه، والمحاربة تكون مع المخالفة). وقال الحسن: من استعاذ بالله على وجه الحقيقة وهو ما يكون بحضور القلب، جعل الله بينه وبين الشيطان ثلاثمائة حجاب، كلّ حجاب كما بين السماء والأرض.
وفي «التفسير الكبير» للإمام الرازي: أنّ (أعوذ بالله): رجوع من الخلق إلى
على أن لا وسيلة إلى القرب من حضرة الربّ إلّا بالعجز. والعجز منتهى المقامات، انتهى.
فائدة: وفي الأثر: وأوّل ما نزل به جبريل عليه السلام، على النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستعاذة، ثمّ البسملة، ثمّ قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ الآيات، هكذا ذكره صاحب «روح البيان».
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ولمّا فرغنا من مباحث الاستعاذة شرعنا في مباحث البسملة، وقلنا:قال الله سبحانه جلّ وعلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (١)
وحكمة تأخيرها عن الاستعاذة (١): الإشعار بأنّ باب التحلية (بالمهملة)، مؤخرّ عن باب التخلية (بالمعجمة)، وبأنّ الإقبال على الله سبحانه، والتوجه إليه، مؤخر عن الإعراض عمّا سوى الله تعالى، والأصحّ المقبول عند متأخري الحنفية: أنّ البسملة آية فذّة ليست جزءا من السورة، أنزلت للفصل بين السور والتبرّك بالابتداء بها، كما بدىء بذكرها في كلّ أمر ذي بال، وهي: مفتاح القرآن، وأول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، وأول ما نزل على آدم عليه السلام.
وحكمة الابتداء بها (٢): أنّه كانت الكفّار يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون:
باسم اللات والعزّى، فوجب أن يقصد الموحّد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل، فلذلك قدّر المحذوف متأخرا؛ أي:
باسم الله أقرأ، أو أتلو، أو آكل، أو أشرب، أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له.
(٢) روح البيان.
فصل
وفي البسملة أبحاث:
[البحث الأول: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها]
الأول منها: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها، سوى (سورة براءة). فذهب أبو هريرة (١)، وعليّ، وابن عباس، وابن عمر، وبعض التابعين، كسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وابن المبارك، وبعض فقهاء مكة، وقرّائها، ومنهم: ابن كثير، وبعض قرّاء الكوفة، وفقهائها، ومنهم:
عاصم، والكسائي، والشافعيّ، وأحمد، إلى أنّ البسملة آية من كلّ سورة من سور القرآن الكريم، ومن أدلّتهم على ذلك:
- إجماع الصحابة ومن بعدهم، على إثباتها في المصحف أوّل كل سورة عدا (سورة براءة)، مع الأمر بتجريد القرآن عن كلّ ما ليس منه، ومن ثمّ لم يكتبوا (آمين) في آخر (الفاتحة).
- وما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» عن أنس - رضي الله عنه - أنّه قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: «نزلت عليّ آنفا سورة»، فقرأ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾، وذكر الحديث، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى. وروى أبو داود عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف إنقضاء السورة حتى ينزل عليه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾. وروى الدارقطنيّ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قرأتم «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فاقرؤوا ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، فإنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني، و ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إحدى آياتها».
- وإجماع المسلمين على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى، والبسملة
- وقول أمّ سلمة رضي الله عنها: (قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (الفاتحة)، وعدّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ آية)، ومن أجل قولها اختلف في أنها آية برأسها، أم بما بعدها. وذهب مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي، وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو، ويعقوب من قرّاء البصرة - وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - إلى أنّها آية مفردة من القرآن، أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها، فليست بآية من (الفاتحة) ولا من غيرها، ولم يختلفوا في أنها بعض آية في (سورة النمل). وذهب عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، وهو رأي بعض الحنفية، ومن أدلّتهم على ذلك: حديث أنس رضي الله عنه، قال: صلّيت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين، لا يذكرون ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوّل قراءة، ولا في آخرها.
وعبارة الشوكاني هنا: اختلف أهل العلم، هل هي آية مستقلة في أول كلّ سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كلّ سورة، أو هي كذلك في (الفاتحة) دون غيرها، أو أنّها ليست بآية في الجميع، وإنّما كتبت للفصل، والأقوال وأدّلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك.
وقد اتفقوا على أنّها بعض آية في (سورة النمل)، وقد جزم قرّاء مكة والكوفة بأنها آية من (الفاتحة)، ومن كلّ سورة، وخالفهم قرّاء المدينة، والبصرة، والشام، فلم يجعلوها آية لا من (الفاتحة)، ولا من غيرها من السور. قالوا: وإنّما كتبت للفصل، والتبرّك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أمّ سلمة: (أنّ رسول الله، قرأ البسملة في أول (الفاتحة) في الصلاة وغيرها آية)، وفي إسناده عمرو بن هارون البلخيّ، وفيه ضعف. وروى نحوه الدارقطنّي مرفوعا عن أبي هريرة.
وروى أبو داود، والترمذي، عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان يفتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال الترمذي: وليس إسناده بذاك، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، عن ابن عباس بلفظ، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قال: صحيح.
وأخرج البخاريّ في صحيحه، عن أنس، أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (كانت قراءته مدّا، ثمّ قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ يمدّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ويمدّ ﴿الرَّحْمنِ﴾، ويمدّ ﴿الرَّحِيمِ﴾.
وأخرج أحمد في «المسند»، وأبو داود في «السنن»، وابن خزيمة في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه» عن أمّ سلمة أنّها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾، وقال الدارقطني: إسناده صحيح. واحتجّ من قال: بأنّه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، بما في «صحيح مسلم» عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين).
وفي «الصحيحين»، عن أنس قال: (صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين)، ولمسلم لا يذكرون ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوّل قراءة، ولا في آخرها.
وأخرج أهل السنن نحوه، عن عبد الله بن مغفّل، وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة.
وأحاديث الترك وإن كانت أصحّ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجا من
والبحث الثاني في فضلها:
وورد في فضلها أحاديث.
منها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وابن خزيمة في كتاب البسملة، والبيهقي، عن ابن عباس قال: (استرق الشيطان من الناس، أعظم آية من القرآن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾).
وأخرج نحوه أبو عبيد، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا.
وأخرج الدارقطني بسند ضعيف، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره»، والحاكم في «المستدرك»، وصحّحه، والبيهقي في «شعب الإيمان»، عن ابن عباس أنّ عثمان بن عفّان، سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؟ فقال: «هو اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلّا كما بين سواد العين وبياضها من القرب».
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه، والثعلبيّ، عن جابر قال: (لمّا نزلت ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزّته، وجلاله أن لا تسمّى على شيء، إلّا بارك الله فيه).
ومنها: ما أخرجه أبو نعيم، والديلمي، عن عائشة قالت: لمّا نزلت ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ضجّت الجبال، حتى سمع أهل مكة دويّها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث الله دخانا، حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ موقنا، سبّحت معه الجبال، إلّا أنّه لا يسمع ذلك منها».
ومنها: ما أخرجه الخطيب في الجامع، عن أبي جعفر، محمد بن عليّ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مفتاح كلّ كتاب. اه. من «الشوكاني».
ومنها: ما أخرجه ابن العربي بسنده، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بالله العظيم، لقد حدّثني محمد المصطفى، وقال: «بالله العظيم، لقد حدّثني جبريل»، وقال: بالله العظيم، لقد حدّثني إسرافيل، وقال: قال الله تعالى: يا إسرافيل! بعزّتي، وجلالي، وجودي، وكرمي، من قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة؛ فاشهدوا أنّي غفرت له، وقبلت منه الحسنات، وتجاوزت عنه السيئات، ولا أحرق لسانه في النار، وأجيره من عذاب القبر وعذاب النار والفزع الأكبر، ويلقاني قبل الأنبياء، والأولياء أجمعين. اه. من المناوي على «الجامع الصغير».
وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها، والكلام عليها، بما يتبيّن به حكمها بعد البحث عنها إن شاء الله تعالى. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع.
منها: عند الوضوء، وعند الذبح، وعند الأكل، والشرب، وعند الجماع، وغير ذلك.
وهذا كلّه مما يدلّ على فضلها، ومما ورد في فضلها أيضا.
حديث: «من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إجلالا له ولاسمه عن أن يدنّس، كان عند الله من الصديقين، وخفّف عن والديه وإن كانا مشركين».
ومما ورد في فضلها:
والبحث الثالث في تفسيرها ومعناها:
والأحسن أن يقدر متعلّق الباء هنا (قولوا): لأنّ هذا المقام مقام تعليم، وهذا كلام صادر عن حضرة الربّ تعالى. اه. «جمل». وقال الطبري: إنّ الله سبحانه وتعالى، أدّب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم، بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل
ذلك لجميع خلقه سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتّبعونه عليها. اه.
فمعنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي: اقرأ يا محمد أنت وأمّتك كتابي، حالة كونكم متبركين باسم الله الواجب الوجود، المستحقّ لجميع المحامد.
الرَّحْمنِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بجلائل النعم، كنعمتي الإيجاد والإيمان.
الرَّحِيمِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بدقائقها، كالزيادة في الجمال، والعلم، وقوّة السمع، وحدّة البصر. وقال البيضاوي: والرحمن الرحيم: اسمان بنيا للمبالغة، كالغضبان من غضب، والعليم من علم. والرحمة في اللغة: رقّة القلب، وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان، ومنه: الرحم لانعطافها على ما فيه.
والحكمة في تخصيص التسمية بهذه الأسماء الثلاثة؛ ليعلم العارف أنّ المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولي النعم كلها عاجلها، وآجلها، جليلها، وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسّك بحبل التوفيق، ويشغل سرّه بذكره والاستغناء به عن غيره. اه. منه.
والبحث الرابع في حكم الجهر بها والإسرار:
إذا ثبت بما تقدم من الأدّلة؛ أنّ البسملة آية من (الفاتحة)، ومن غيرها من
وممن قال بالجهر بالبسملة من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومن التابعين فمن بعدهم: سعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعليّ بن الحسين، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، وابن سيرين، وابن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، ومسلم بن خالد، وإليه ذهب الشافعي، وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك، ويحكى أيضا عن ابن المبارك، وأبي ثور. وممن ذهب إلى الإسرار بها من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفّل، وغيرهم، ومن التابعين فمن بعدهم: الحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأعمش، والثوري، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم.
وأما حجة من قال بالجهر: فقد روى جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وأنس، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وأمّ سلمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، جهر بالبسملة، فمنهم من صرّح بذلك، ومنهم من فهم ذلك من عبارته.
ولم يرد في صريح الإسرار بها، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا روايتان:
إحداهما: ضعيفة، وهي رواية عبد الله بن مغفّل.
والأخرى: عن أنس، وهي في «الصحيح»، وهي معلّلة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها.
وروى نعيم بن عبد الله المجمر قال: صلّيت وراء أبي هريرة فقرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، ثمّ قرأ بأمّ القرآن، وذكر الحديث. وفيه ثم يقول إذا سلّم: (إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه النسائي، وابن خزيمة في صحيحه. وقال: أما الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد ثبت وصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: إسناده صحيح، وليس له علّة. وفي رواية عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني، وقال: صحيح ليس في إسناده مجروح. وأخرجه الترمذي وقال: ليس إسناده بذاك. قال الشيخ أبو شامة؛ أي: لا يماثل إسناده ما في الصحيح، ولكن إذا انضمّ إلى ما تقدم من الأدلة، رجح على ما في الصحيح.
وعن أنس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر بالقراءة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وفيه عن محمد بن أبي السريّ العسقلاني قال: صلّيت خلف المعتمر بن سليمان، ما لا أحصي صلاة الصبح، وصلاة المغرب، فكان يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما ألوي أن أقتدي، بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: (ما ألوي أن أقتدي، بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه الدارقطني وقال: كلهم ثقات. وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم كلّهم ثقات.
قلت: وفي الباب أحاديث وأدلّة وإيرادات وأجوبة من الجانبين يطول ذكرها، وفي هذا القدر كفاية، وبالله التوفيق. اه. من «الخازن».
البحث الخامس في مفرداتها، وتصاريفها:
فمنه البحث في الباء: فإن قلت (١): ما الحكمة والسر في أنّ الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء، واختارها على سائر الحروف لا سيّما على
فالجواب: إنّ الحكمة في افتتاح الله بالباء عشرة معان:
أحدها: أنّ في الألف ترفّعا وتكبّرا وتطاولا، وفي الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا، فمن تواضع لله رفعه الله.
وثانيها: أنّ الباء مخصوصة بالإلصاق بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف من حروف القطع.
وثالثها: أنّ الباء مكسورة أبدا، فلمّا كانت فيها كسرة، وانكسار في الصورة، والمعنى: وجدت شرف العندية من الله تعالى، كما قال تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي).
ورابعها: أنّ في الباء تساقطا وتكسّرا في الظاهر، ولكن رفعة درجة، وعلوّ همة في الحقيقة، وهي من صفات الصدّيقين، وفي الألف ضدّها. أمّا رفعة درجتها: فبأنّها أعطيت نقطة، وليست للألف هذه الدرجة. وأمّا علوّ الهمة: فإنه لمّا عرضت عليها النقط ما قبلت إلّا واحدة؛ ليكون حالها كحال محبّ لا يقبل إلّا محبوبا واحدا.
وخامسها: أنّ في الباء صدقا في طلب قربة الحق؛ لأنها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتها تحت قدمها، وما تفاخرت بها، ولا يناقضه الجيم، والياء؛ لأنّ نقطتها في وضع الحروف ليست تحتهما؛ بل في وسطهما، وإنّما موضع النقط تحتهما عند اتصالهما بحرف آخر؛ لئلا يشتبها بالخاء، والتاء، بخلاف الباء؛ فإنّ نقطتها موضوعة تحتها سواء كانت مفردة، أو متصلة بحرف آخر.
سادسها: أنّ الألف حرف علّة بخلاف الباء.
وسابعها: أنّ الباء حرف تامّ متبوع في المعنى، وإن كان تابعا صورة، من حيث إنّ موضعه بعد الألف في وضع الحروف؛ وذلك لأنّ الألف في لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الألف، فإنّ الباء لا يتبعه، والمتبوع في المعنى أقوى.
وتاسعها: أنّ الباء حرف كامل في صفات نفسه؛ بأنّه للإلصاق والاستعانة والإضافة، مكمّل لغيره؛ بأن يخفض الاسم التابع له، ويجعله مكسورا متصفا بصفات نفسه، وله علوّ وقدرة في تكميل الغير بالتوحيد والإرشاد، كما أشار إليه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: (أنا النقطة تحت الباء). فالباء له مرتبة الإرشاد والدلالة على التوحيد.
وعاشرها: أنّ الباء حرف شفوي، تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية؛ ولذلك كان أول انفتاح فم الذرة الإنسانية، في عهد ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ بالباء في جواب ﴿بَلى﴾، فلمّا كان الباء أول حرف نطق به الإنسان، وفتح به فمه، وكان مخصوصا بهذه المعاني، اقتضت الحكمة الإلهيّة اختياره من سائر الحروف، فاختارها ورفع قدرها، وأظهر برهانها، وجعلها مفتاح كتابه ومبتدأ لكلامه وخطابه تعالى وتقدس، كذا في التأويلات النجمية.
وأما الباء: فلا بحث فيها من جهة التصريف، كما قال ابن مالك في الخلاصة:
حرف وشبهه من الصّرف بري | وما سواهما بتصريف حري |
والاسم: هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة توصّلا للابتداء بالساكن؛ لسلامة لغتهم من كلّ لكنة، وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء.
وذهب أبو عبيدة، معمر بن المثنى؛ إلى أنّ لفظ (اسم) هنا صلة زائدة، واستشهدوا بقول لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
وتعظيمه. وقال الأخفش:
زيدت؛ ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرّك؛ لأنّ أصل الكلام: بالله.
واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه: هل دخلت على معنى الأمر، والتقدير: ابدأ بسم الله؟ أو معنى الخبر، والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان:
الأول للفرّاء، والثاني للزّجّاج؛ فبسم في موضع نصب على التأويلين. وقيل:
المعنى ابتدائي بسم الله؛ فبسم في موضع رفع خبر الابتداء. وقيل: الخبر محذوف؛ أي: ابتدائي مستقر، أو ثابت بسم الله، وإذا قلت: بسم الله يكتب بغير ألف، استغناء عنها بباء الإلصاق في الخطّ واللفظ؛ لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، فإنّها لم تحذف؛ لقلّة الاستعمال.
وعبارة البيضاوي هنا: والاسم عند أصحابنا البصريين، من الأسماء التي حذفت أعجازها؛ لكثرة استعمالها، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل؛ لأنّ من دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن، ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمي، ومجيء سمى، كهدى لغة فيه، قال:
والله أسماك سمى مباركا | آثرك الله به إيثاركا |
ألا لا بارك لاه في سهيل | إذا ما الله بارك في الرجال |
﴿الرَّحِيمِ﴾: صيغة فعيل، تدلّ على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة؛ ولهذا لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر.
والرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأنّ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبا، كما في قطّع، وقطع، وكبّار، وكبار، وخرج بقولنا غالبا نحو: حذر، وحاذر، وتلك المبالغة تارة تؤخذ باعتبار الكميّة، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنّه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة؛ لأنّه يخص المؤمن. وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة؛ لأن النعم الأخروية كلّها جسام، وأما النعم الدنيوية؛ فجليلة وحقيرة. وإنما قدم الرحمن، والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا؛ ولأنّه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى؛ لأنّ معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره تعالى، فإن من عداه فهو مستفيض بلطفه، وإنعامه، يريد به جزيل ثواب، أو جميل ثناء، أو يزيح رقة الجنسية، أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك؛ لأنّ ذات النعم، ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتقام بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد. أو لأنّ الرحمن
لما دل على جلائل النعم، وأصولها، ذكر الرحيم؛ ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له، أو للمحافظة على رؤوس الآي.
وأمّا وصف أهل اليمامة مسيلمة الكذاب به مضافا، فقالوا: رحمن اليمامة، فمن تعنّتهم، قال شاعرهم يمدح مسيلمة الكذاب:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا | وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا |
سموت بالخبث يا ابن الأخبثين أبا | وأنت شرّ الورى لا زلت شيطانا |
فمن بلاغتها: مجاز بالحذف في متعلّق ﴿{بِسْمِ اللَّهِ﴾}، والأولى تقديره:
فعلا خاصّا مؤخرا على مذهب الكوفيين؛ لأنّ الأصل في العمل أن يكون للأفعال، ولوقوعه في القرآن، والحديث، كقوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وكقوله صلّى الله عليه وسلّم: «باسم ربّي وضعت جنبي»، والتمسّك بالأصل أولى؛ ولأنه يفيد التجدد الاستمراري، وتقديره: اسما خاصا مؤخرا على مذهب البصريين، لأنّه يفيد الديموميّة والثبوت، كأنّما الابتداء باسم الله، حتم دائم في كل ما تمارسه من عمل، وتردّده من قول. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا «الباكورة الجنية في إعراب الآجرومية».
ومنها: الإيجاز بإضافة العام إلى الخاصّ في قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ويسمى إيجاز قصر.
ومنها: الاستعارة المكنية التبعية، إذا جعلنا الباء للاستعانة؛ لتشبيهها بارتباط يحصل بين المستعين، والمستعان به، وإذا جعلنا الباء للإلصاق يكون في الكلام مجاز مرسل، علاقته المحليّة، نحو: مررت بزيد؛ أي: ألصقت مروري بمكان يقرب إلى زيد، لا بزيد نفسه.
والبحث السابع في إعرابها:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ الباء: حرف جرّ واستعانة، أو تبرّك، (اسم): مجرور بالباء، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره. (اسم): مضاف، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهِ﴾: مضاف إليه، مجرور على التعظيم، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره.
﴿الرَّحْمنِ﴾: صفة أولى للجلالة، مجرور بكسرة ظاهرة في آخره. ﴿الرَّحِيمِ﴾:
البحث الثامن في فوائد تتعلّق بالبسملة:
الأولى: يقال لمن قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مبسمل، وهو ضرب من النحت اللغوي.
وهو لغة: مطلق الاختصار.
واصطلاحا: أن يختصر حرف، أو حرفان، أو أكثر من كلمة، أو كلمتين، أو أكثر، ك: ح، من التحويل، و: اه، من انتهى، وإلخ: من إلى آخره.
وبسمل: من البسملة وغير ذلك مما سيأتي، وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة، حيث قال:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها | فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل |
مولّدة (١). قلت: المشهور عن أهل اللغة: بسمل، قال يعقوب بن السكيت، والمطرّزي، والثعالبيّ، وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل إذا قال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾. ويقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي: من قول بسم الله، ومثله: حوقل الرجل إذا قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله، وهلّل إذا قال: لا إله إلا الله، وسبحل إذا قال: سبحان الله، وحمدل إذا قال: الحمد لله، وحيصل إذا قال:
حيّ على الصلاة، وجعفل إذا قال: جعلت فداك، وطبقل إذا قال: أطال الله
وهذا كله من النحت المولد، والنحت عند العرب خاصّ بالنسبة، أي:
إنّهم يأخذون اسمين، فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه، كقولهم:
حضرميّ، وعبقسيّ، وعبشسيّ: نسبة إلى حضرموت، وعبد القيس، وعبد شمس، على أنّ الفراء ذكر عن بعض العرب معنى: عشرة فأحدهنّ لي: صيّرهن لي أحد عشر. وقال الفرّاء: معنى اللهم: يا الله أمّنا بخير؛ أي: اقصدنا بخير، فكثرت في كلام العرب. ونحت العرب من اسمين، فقيل عن الصّلدم: إنه من الصّلد والصّدم، ومنه: بلحارث لبني الحارث، ولعلّ الحقلد: وهو السّيّء الخلق، والثقيل الروح منحوت من الحقد، والثقل. ونحتوا من اسم وحرف، فقالوا: من لا شيء: تلاشي، ونحتوا من حرفين، فقال الخليل: إنّ كلمة (لن) منحوتة من (لا) و (أن)، وإنها تضمنت بعد تركيبها، معنى لم يكن في أصليها مجتمعين.
وإنما أوردنا هذه الأقوال؛ لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف، كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها؛ لتتوافر همّ المشتغلين باللغة على النحت، ففيه ثروة جديدة للغتنا، وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها.
والثانية: كانت (١) قريش قبل البعثة تكتب في أوّل كتابها باسمك اللهمّ، وكان أميّة بن أبي الصلت، أوّل من كتب باسمك اللهمّ، إلى أن جاء الإسلام، ونزلت ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾. وروى محمد بن سعد في طبقاته: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كان يكتب كما تكتب قريش باسمك اللهمّ، حتى نزل قوله تعالى: ﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾ فكتب باسم الله، حتى نزل قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ﴾، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ، حتى نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، فكتب ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
«كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر»؛ أي: مقطوع الذّنب ناقص. وقد كان العرب قبل الإسلام، يبدؤون أعمالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزّى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا؛ مرضاة لملك، أو أمير يقول: أعمله باسم فلان، إنّ ذلك العمل لا وجود له، لولا ذلك الملك، أو الأمير.
وإذا: فمعنى ابتدىء عملي باسم الله الرحمن الرحيم: أنني أعمله بأمر الله، ولله، لا لحظّ نفسي وشهواتها، ويمكن أن يكون المراد: أنّ القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله، ولولا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمدّ القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله. وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم: أنّ جميع ما في القرآن من الأحكام، والشرائع، والأخلاق، والآداب، والمواعظ هو لله، ومن الله، ليس لأحد غيره فيه شيء.
وكأنّه قال: اقرأ يا محمد! هذه السورة ب ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي: اقرأها على أنّها من الله لا منك، فإنّه أنزلها عليك؛ لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، يقصد من تلاوتها على أمّته؛ أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه؛ أي: أنّها من الله لا منه، فإنّما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى، كما جاء في قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾.
والرابعة: ندب (٢) الشرع إلى ذكر البسملة في أوّل كلّ فعل، كالأكل،
(٢) القرطبي.
وقال لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، وقال: «إنّ الشيطان ليستحلّ الطعام إلّا أن يذكر اسم الله عليه»، وقال:
«من لم يذبح باسم الله». وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر»، هذا كلّه ثابت في الصحيح.
وروى ابن ماجه، والترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستر ما بين ما أعين الجنّ وعورات بني آدم إذا دخل أحد الكنيف أن يقول: بسم الله». وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا مسّ طهوره سمّى الله تعالى ثمّ يفرغ الماء على يديه».
الخامسة: روي عن عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه (١) -: أنه قال: في قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ شفاء من كلّ داء، وعون على كلّ دواء، وأمّا الرحمن: فهو عون لكلّ من آمن به، وهو اسم لم يسمّ به غيره تعالى، وأمّا الرحيم: فهو لمن تاب، وآمن، وعمل صالحا.
وقد فسّره بعضهم على الحروف. فروي عن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه -: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن تفسير ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؟ فقال:
وقد قيل: إنّ كلّ حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء: مفتاح اسمه بصير، والسين: مفتاح اسمه سميع، والميم: مفتاح اسمه مليك، والألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والهاء: مفتاح اسمه هادي، والراء:
مفتاح اسمه رازق، والحاء: مفتاح اسمه حليم، والنون: مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كلّه: دعاء الله تعالى عند افتتاح كلّ شيء.
إلى هنا انتهى ما يتعلّق بالاستعاذة، والبسملة في تاريخ: ٢٨/ ٢/ ١٤١٧ هـ.
والآن نريد الشروع في تفسير (الفاتحة) بعون الله سبحانه، وتوفيقه، إن شاء الله تعالى، وصلّى الله وسلّم، على سيدّنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين. آمين.
والله أعلم
* * *
[نزولها]
سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدّثّر، وهو قول أكثر العلماء، وقيل: نزلت بالمدينة، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت مرّتين: مرّة بمكة، ومرّة بالمدينة. وسبب تكرار نزولها؛ الدلالة على شرفها وفضلها. وقيل: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره، والقول (١) الأول أصحّ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، وهذه الآية في سورة الحجر و (الحجر) مكية بالإجماع، ولا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ يدلّ على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».
وهي سبع آيات، وسبع وعشرون كلمة، ومائة وأربعون حرفا. وقال القرطبي: أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب سبع آيات، إلّا ما روي عن حسين الجعفي: أنّها ستّ آيات، وهذا شاذّ، وإلّا ما روى عن عمرو بن عبيد:
أنّه جعل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ آية، وهي على هذا ثمان آيات، وهذا شاذ أيضا، ويردّ هذين القولين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي﴾، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكيه عن ربّه: «قسمت الصلاة».
وأجمعت الأمة أيضا على أنّها من القرآن، فإن قيل: لو كانت من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، ولمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده. فالجواب: ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب بسنده، عن إبراهيم قال: قيل لعبد الله بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني:
أسماؤها:
ولها نحو عشرين اسما:
الأول: فاتحة الكتاب؛ لأنّها مفتتحه، ومبدؤه، فكأنّها أصله ومنشؤه؛ ولذلك تسمّى أساس القرآن؛ أو لأنّها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله، والتعبّد بأمره، ونهيه، وبيان وعده، ووعيده.
والثاني: سورة الكنز؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش.
والثالث: الوافية.
والرابع: الكافية؛ لأنّها وافية كافية في صحة الصلاة عن غيرها، عند القدرة عليها، وقيل: سمّيت وافية؛ لأنها لا تقبل التنصيف؛ لأنّه لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ، ولو نصفت (الفاتحة) في ركعتين لم يجزىء.
والخامس: الشافية.
والسادس: سورة الشفاء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هي شفاء من كلّ داء».
والسابع: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنّى في كلّ ركعة وتكرّر.
والثامن: أمّ القرآن.
والتاسع: سورة النور.
والعاشر: سورة الرّقية.
والحادي عشر: سورة الحمد والشكر.
والثاني عشر: سورة الدعاء.
والرابع عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها عليه.
والخامس عشر: سورة المناجاة.
والسادس عشر: سورة التفويض.
والسابع عشر: أمّ القرآن.
والثامن عشر: أمّ الكتاب.
والتاسع عشر: سورة السؤال.
والعشرون: سورة الصلاة؛ لخبر: «قسمت الصلاة - أي: الفاتحة - بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾، يقول الله: حمدني عبدي» الحديث، وكثرة الأسماء يدلّ على فضلها وشرفها.
والسورة: طائفة من القرآن، مترجمة باسم مخصوص تتضمّن ثلاث آيات فأكثر، وفاتحة الشيء: أوّله، وهي مصدر بمعنى المفعول، أو صفة جعلت اسما للسورة، والتاء: للنقل كالذبيحة، وإضافة السورة إلى (الفاتحة)، أو إلى غيرها من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، وعلم النحو وهي؛ أي: إضافة (الفاتحة) إلى الكتاب لاميّة؛ لأنّ المضاف إليه ليس ظرفا للمضاف ولا جنسا له، وهو؛ أي: القرآن يطلق على مجموع ما في المصحف، وعلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه.
والله أعلم
* * *
فصل في ذكر فضائلها
فقد دلّ على فضلها أحاديث كثيرة.
فمنها: ما أخرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم أجبه ثمّ أتيته فقلت: يا رسول الله! إنّي كنت أصلّي، فقال: «ألم يقل الله: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ﴾؟ ثمّ قال لي:
لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثمّ أخذ بيدي»، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: يا رسول الله! ألم تقل: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني﴾، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه مالك في الموطأ عنه، وقال فيه: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، نادى أبيّ بن كعب، وهو يصلّي، وذكر نحوه.
ومنها: ما روي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: «ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل»، أخرجه الترمذي، والنسائي.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني»، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن ابن عباس قال: «بينا جبريل قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء، فتح اليوم ولم يفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة» لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته، أخرجه مسلم. قوله: (سمع نقيضا) بالقاف والضاد المعجمة؛ أي: صوتا كصوت فتح الباب.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام». قال:
(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) الحديث، أخرجه مسلم.
وقال ابن عبد البرّ: (١) الصحيح من القول: إلغاء تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، ويأتي بركعة بدلا منها، كمن أسقط سجدة سهوا، وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري: وأكثر أهل البصرة. والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأمّ القرآن مرّة واحدة في الصلاة أجزأه، ولم يكن عليه إعادة؛ لأنّها صلاة قد قرأ فيها بأمّ القرآن، وهي تامّة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن»، وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كلّ ركعة، وهو الصحيح، ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف. وقال أبو حنيفة والثوريّ، والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلّها، وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات.
وجه تسميتها:
سمّيت بفاتحة الكتاب: إمّا لافتتاح المصاحف، والتعليم، وقراءة القرآن، والصلاة بها؛ وإمّا لأنّ الحمد فاتحة كلّ كلام؛ وإمّا لأنها أوّل سورة نزلت؛ وإمّا لأنّها أوّل ما كتبت في اللوح المحفوظ؛ وإمّا لأنّها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا وأبواب الجنان في العقبى، وقيل: غير ذلك.
وهذه السورة الكريمة كلّها محكم، لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
ويجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام؛ لأنه جسم لطيف، وهو وإن كان مخلوقًا في الأصل من نار، لكنه ليس بمحرق؛ لأنه لما امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجًا مخصوصًا كتركيب الإنسان، كما ورد في الحديث الصحيح أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والمعنى: أي (١) ألجأ إليك رب الخلق ومالكهم وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء؛ لإنه يأتي من ناحية الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوأ مصير إذا انجرَّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال.
وهذه الأحاديث النفسية إذا سُلِّط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، وسكن الموسوس عند إلقائها، وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ، وبعثك على فعل السوء،
٥ - ثم ذكرته بأوامر الدين يخنس، ويمسك عن القول إلى أن تسنح له فرصة أخرى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الوسواس الخناس بقوله: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ﴾ ويحدث حديثًا خفيًا لا يُسمع له صوت ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾؛ أي: في
وذلك لأن الوسوسة حالة في القلب (٢)، فلا يطردها إلا الذكر الحال في القطر، فمن كان من أهل الذكر فلا تسلط للشيطان عليه، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ ولا يترك الإنسان الذكر اللساني إذا وجد الغفلة والوسواس في قلبه، بل يكثر الذكر ويديمه، فلعله يستيقظ قلبه ويتنور، قال بعض أهل المعرفة: الذكر اللساني كقدح الزناد، فإذا تكرر أصاب، قال بعضهم في ذلك:
اطْلُبْ وَلاَ تَضْجَرَنْ مِنْ مَطْلَبٍ | فَآفَةُ الطَّالِبِ أنْ يَضْجَرَا |
أَمَا تَرَى الْحَبْلَ لِتَكْرَارِهِ | فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا |
وقوله: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ يدل على أنه لا يوسوس في صدور الجن، قال في "آكام المرجان": لم يرد دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. اهـ.
(٢) الصاوي.
(٣) روح البيان.
قال في "الأسئلة المقحمة": من دعا غيره إلى الباطل، فإن تصوره في قلبه كان ذلك وسوسةً، وقد قال تعالى: ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ فإذا جاز أن توسوس نفسه جاز أن يوسوسه غيره، فإن حقيقة الوسواس لا تختلف باختلاف الأشخاص.
ويجوز أن تكون ﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ ﴿يُوَسْوِسُ﴾ وتكون لابتداء الغاية؛ أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن أنهم يعلمون الغيب ويضرون وينفعون، ومن جهة الناس كالكهان والمنجمين كذلك، ويجوز أن يكون قوله: ﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ بيانًا للوسواس، و ﴿النَّاسِ﴾ عطف على ﴿الْوَسْوَاسِ﴾ فلفظ ﴿شَرِّ﴾ مسلط عليه، كأنه قال: من شر الوسواس الذي يوسوس؛ وهو الجنة، ومن شر الناس، وعليه فالناس لا يصدر منهم وسوسة، وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس بتقدير العاطف كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ ثم بيَّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة: جني، كما أن واحد الإنس إنسي، وسيأتي بسط الكلام فيه، والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا يكون إلا بالمعنى الذي قد قدمنا، ويكون هذا البيان يذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة، وفي ختم (١) القرآن بهذه السورة
قيل: عدد (١) حروف هذه السورة غير المكرر: ثلاث وعشرون حرفًا، وكذلك عدد الفاتحة بعدد السنين التي أُنزل فيها القرآن، وهو سر بديع، وأول القرآن باء البسملة، وآخره سين والناس، كأنه قيل: بس؛ أي: تم وكمل، أو حسب؛ أي: حسبك من الكونين ما أعطيناك بين الحرفين، وفي أسئلة (٢) عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أخبرني يا محمد ما ابتداء القرآن وما ختمه؟ قال: "ابتداؤه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وختمه: صدق الله العظيم"، قال: صدقت، وفي "خريدة العجائب" يعني: ينبغي أن يقول القارىء ذلك عند الختم، وإلا فختم القرآن سورة الناس، وفي "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي - رحمه الله تعالى -: وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، وليقرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١)...﴾ وسورة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وليقل عند فراغه من كل سورة صدق الله تعالى، وبلَّغ رسوله - ﷺ -، اللهم انفعنا وبارك لنا فيه الحمد لله رب العالمين، واستغفر الله الحي القيوم.
الإعراب
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر تقديره: أنت يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿أَعُوذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا يعود على
(٢) روح البيان.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَعُوذُ﴾ من عاذ إليه يعوذ - من باب قال - إذا التجأ إليه مما يخافه.
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ الناس أصله إما أناس، فحذفت الهمزة، فصار ناس، أو. نَوَس تحركت الواو وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، مأخوذ إما من ناس إذا تحرك، خص بالبشر؛ لأنه المتحرك الحركة التامة الناشئة عن فكر واختيار، أو من الأنس ضد الوحشة؛ لأنه يؤنس به، أو من النسيان؛ لكونه مطبوعًا عليه.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾: وفي "السمين": قال الزمخشري: الوسواس اسم مصدر بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر، فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به هنا الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه؛ لأنها صنعته وشغله، أو أريد ذو الوسواس اهـ.
وفي "المصباح": أنه يطلق أيضًا على ما يخطر بالقلب من الشر، وكل ما لا خير فيه، وفي "المختار": الوسوسة حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسًا - بالكسر - ووسواسًا - بالفتح - كزلزال وزلزال.
﴿الْخَنَّاسِ﴾ صيغة مبالغة من خنس يخنس - من باب دخل - خنسًا - بالسكون - وخَنَسًا - بالتحريك - وخنوسًا، والخنس التأخر والتواري والاستتار، يقال: خنس عنه إذا تاخر وأخنسه غيره؛ أي: خلَّفه ومضى عنه، والخناس الشيطان؛ لأنه يخنس
﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ الجنة: اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالياء، فيقال: جن وجني كزنج وزنجي، وغالبًا يفرق بالتاء كتمر وتمرة، وزيدت التاء في الجنة لتأنيث الجماعة، سموا بذلك لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن العيون، وهم أجسام نارية هوائية يتشكلون بالصور الشريفة والخسيسة، وتحكم عليهم الصور، وتقدم ما فيهم اهـ من "الصاوي".
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه وتعظيمه في قوله: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وفي الآيتين بعدها.
ومنها: تخصيص الناس بالذكر في المواضع الثلاثة مع كونه رب جميع المخلوقات وملكهم وإلههم تكريمًا لهم من بين المخلوقات حيث أخدمهم الملائكة، وأمدهم بالعقل والعلم وسائر أنواع الكرامات كما مر.
ومنها: تكرير لفظ الناس ثانيًا وثالثًا؛ لإظهار شرف الناس وتعظيمهم، وللاعتناء بشأنهم، ولو قال: ملكهم إلههم لما كان لهم هذا الشأن العظيم.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿يُوَسْوِسُ﴾ و ﴿الْوَسْوَاسِ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿الْجِنَّةِ﴾ و ﴿النَّاسِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾؛ أي: في قلوبهم لعلاقة المحلية.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب (١)
* * *
إلى هنا تم تفسير سورة الناس بعون الله وتوفيقه أوائل ليلة الجمعة المباركة التاسعة عشرة من شهر صفر الخير من شهور سنة: ١٤١٧ هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة وبتمامه تم الكتاب الميمون، وكان تاريخ ابتدائه في اليوم الثاني من شهر الله المحرم من شهور سنة: ١٤٠٦ هـ ألف وأربع مئة وست سنوات، من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وقد مكثت في تسويده مع ما تراكم عليَّ من الشواغل والعوائق إحدى عشرة سنة وشهرين إلا ثمانية أيام، ولقد أجاد من قال:
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ أَمْرٍ يُحَاوِلُهُ | وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ |
إِنْ يَسْمَعُوْا سُبَّةَ طَارُوْا بِهَا فَرَحًا | مِنِّي وَمَا سَمِعُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا |
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ | وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوْءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوْا |
إِنْ يَعْلَمُوْا الْخَيْرَ أخْفَوْهُ وَإِنْ عَلِمُوْا | شَرًا أَذَاعُوْا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوْا كَذَبُوْا |
بِالذُّلِّ قَدْ وَافَيْتُ بَابَكَ عَالِمًا | إِنَّ التَّذَلُّلَ عِنْدَ بَابِكَ يَنْفَعُ |
اجعَلْ لِيَا مِنْ كُل خَطْأٍ مَخْرَجَا | وَاسْمَحْهُ لِيْ يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمَفْزَعُ |
مَا لِيْ سِوَى قَرْعِيْ لبَابِكَ حِيْلَةٌ | وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ |
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ أَخِيْرًا زَمَانُهُ | فَقَدْ جَمَعْتُ فِيْهِ مَا لَمْ يَجْمَعِ الأَوَائِلُ |
وَكُلُّ خَيْرٍ فِيْ اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ | وَكُلُّ شَرٍّ فِيْ ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ |
وما ألطف قول من قال في نداء ربه تعالى:
يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا مَن لَا شَرِيْكَ لَهُ | يَا سَامِعَ الصَّوْت يَا مَنْ جَلَّ عَنْ صَمَمِ |
يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَاذَا الْجُوْدِ يَا أَمَلِيْ | يَاذَا الْجَلَالِ وَيَاذَا اللُّطْفِ فِيْ الأُمَمِ |
حَمْدًا لِرَبِّنَا عَلَى جَمْعِهِ | ثُمَّ غُفْرَانَهُ لِمُؤَلِّفِهِ |
وَلنَاشِرِهِ وَطَابِعِهِ | وَلقَارئِهِ وَسَامِعِهِ |
وَلِوَالِدَيْهِ وَكُلِّ مَنْ | إِلَيْهِ انْتَمَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ |
وَلمَشَايِخِهِ وَكُلِّ مَنْ | أَسْدَى لَهُ الإِسْعَافَ فِيْ تَعَلُّمِهِ |
ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ عَلَى حِبِّهِ | مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ |
جَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِي | وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالعَفْوِ |
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضلِهِ | وَفِطْنَتِهِ أَسْتغفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ |
يَا قَارِىءَ الْخَطِّ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرُهُ | لَا تَنْسَ صَاحِبَهُ بِاللهِ وَاذْكُرُهُ |
وَهَبْ لَهُ دَعْوَةَ للهِ خَالِصَةً | لَعَلَّهَا فِي صُرُوْفِ الدَّهْرِ تَنْفَعُهُ |
أَلَا أَيُّهَا الْمَأمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ | إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ |
أَلَا يَا رَجَائِي أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِي | فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِي كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ |
فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أرَاهُ مُبَلِّغِيْ | عَلَى الزَّادِ أَبْكِي أَمْ لِبُعَدِ مَسَافَتِيْ |
أَتَيْتُ بِأعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ | وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كجِنَايَتِيْ |
إِلَى هُنَا وَقَفَتِ الْحَدَائقْ | مُبَشرَةً بَفَكِّ الدَّقَائِقْ |
يَا لَهَا جَوْهَرَةٌ مَكْنُوْنَةٌ | فِي صُدْفِهَا دُرَّةٌ مَصُوْنَةٌ |
وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى إِفْضَالِهِ | وَالشُّكْرُ لِلْمَوْلَى عَلَى إِكْمَالِهِ |