٢ راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، و ص ١٩٢، و ص ١٠٦، وص ١٧٣..
٣ راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، و ص ١٩٢، و ص ١٠٦، وص ١٧٣..
٤ راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، و ص ١٩٢، و ص ١٠٦، وص ١٧٣..
٥ راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، و ص ١٩٢، و ص ١٠٦، وص ١٧٣..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ. وَتُسَمَّى سُورَةُ النِّعَمِ بِسَبَبِ مَا عَدَّدَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ «١» بِهِ" الْآيَةَ، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ التَّمْثِيلِ بِحَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ. وَغَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ «٢» ". وَغَيْرَ قَوْلِهِ:" ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا «٣» " الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:" وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا «٤» " فَمَكِّيٌّ، فِي شَأْنِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ قَتْلِ حَمْزَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ:" وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا- إِلَى قَوْلِهِ- بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «٥» "
[سورة النحل (١٦): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قِيلَ:" أَتى " بِمَعْنَى يَأْتِي، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ:" وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «٦» ". وَ" أَمْرُ اللَّهِ" عِقَابُهُ لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ فَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ فَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كفار قريش
(٢). راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٣). راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٤). راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٥). راجع ج ٢٠٠ من هذا الجزء، وص ٢٠٢، وص ١٩٢، وص ١٠٦، وص ١٧٣.
(٦). راجع ج ٧ ص ٢٠٩.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٠.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٢٥.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٦٦.
[سورة النحل (١٦): آية ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)قَرَأَ الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ" تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ" وَالْأَصْلُ تَتَنَزَّلُ، فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَالْأَعْمَشُ" تُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ" غَيْرُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي بكر عن عاصم" تنزل الْمَلَائِكَةَ" بِالنُّونِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، الْبَاقُونَ" يُنَزِّلُ" بِالْيَاءِ مُسَمَّى الْفَاعِلِ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِاسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ" تُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ" بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تَنْزِلُ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، مِنَ النُّزُولِ." الْمَلَائِكَةُ" رَفْعًا مِثْلَ" تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ «١» ". (بِالرُّوحِ) أَيْ بِالْوَحْيِ وَهُوَ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. نَظِيرُهُ" يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «٢» ". الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: هُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَقِيلَ: أَرْوَاحُ الْخَلْقِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، لَا يَنْزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَصُوَرِ ابْنِ آدَمَ، لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ بِالرَّحْمَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: بِالْهِدَايَةِ، لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوبُ كَمَا تَحْيَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَبْدَانُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرُّوحُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ حَيَاةً بِالْإِرْشَادِ إِلَى أَمْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرُّوحُ هُنَا جِبْرِيلُ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:" بِالرُّوحِ" بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِكَ: خَرَجَ بِثِيَابِهِ، أَيْ مَعَ ثِيَابِهِ. (مِنْ أَمْرِهِ) أَيْ بِأَمْرِهِ. (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أَيْ عَلَى الَّذِينَ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ للنبوة. وهذا رد لقولهم:" لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «٣» ". (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) تَحْذِيرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْإِنْذَارُ، لِأَنَّ أَصْلَهُ التَّحْذِيرُ مِمَّا يُخَافُ منه. ودل على ذلك قوله:" فَاتَّقُونِ". و" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَنْ أَنْذِرُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، ف" أن" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِسُقُوطِ الْخَافِضِ أَوْ بِوُقُوعِ الإنذار عليه.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٩٩. [..... ]
(٣). راجع ج ١٦ ص ٨٢.
[سورة النحل (١٦): آية ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أَيْ لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ. وَقِيلَ:" بِالْحَقِّ" أَيْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ الْعِبَادَ بِالطَّاعَةِ وَأَنْ يُحْيِيَ الْخَلْقَ بَعْدَ الْمَوْتِ. (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تقدر على خلق شي.
[سورة النحل (١٦): آية ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْإِنْسَانَ وَمُنَاكَدَتَهُ وَتَعَدِّيَ طَوْرِهِ." والْإِنْسانَ" اسْمٌ لِلْجِنْسِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ فَقَالَ: أَتَرَى يُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا قَدْ رَمَّ. وَفِي هَذَا أَيْضًا نَزَلَ:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ" أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، فَنَقَّلَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ وُلِدَ وَنَشَأَ بِحَيْثُ يُخَاصِمُ فِي الْأُمُورِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ التَّعَجُّبُ مِنَ الْإِنْسَانِ" وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ»
" وقوله: (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أَيْ مُخَاصِمٌ، كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِبِ. أَيْ يُخَاصِمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي قدرته. و (مُبِينٌ) أَيْ ظَاهِرُ الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: يُبِينُ عَنْ نَفْسِهِ الْخُصُومَةَ بِالْبَاطِلِ. وَالْمُبِينُ: هُوَ الْمُفْصِحُ عَمَّا في ضميره بمنطقه.
[سورة النحل (١٦): آية ٥]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْسَانَ ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ. وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: نَعَمٌ وَأَنْعَامٌ لِلْإِبِلِ، وَيُقَالُ لِلْمَجْمُوعِ وَلَا يُقَالُ لِلْغَنَمِ مفردة. قال حسان:
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ | إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ «١» |
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ | تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ «٢» |
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ | خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ |
وَكَيْفَ يَضِيعُ صَاحِبُ مُدْفَآتٍ | عَلَى أَثْبَاجِهِنَّ من الصقيع «٦» |
(٢). الحساس: اسم رجل. والروامس: الرياح التي تثير التراب وتدفن الآثار.
(٣). راجع ص ١٢٢ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١١٧.
(٥). القطف (جمع قطيفة) كساء له خمل، أي وبر.
(٦). أثباج: جمع ثبج، وهو أوسطها. وقيل: ما بين كلها وظهرها.
الأولى : قوله تعالى :" والأنعام خلقها لكم " لما ذكر الإنسان ذكر ما من به عليه. والأنعام : الإبل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال : نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان :
عَفَتْ ذاتُ الأصابع فالجِوَاءُ | إلى عذراءَ منزلُها خَلاَءُ١ |
ديار من بني الحَسحاس قَفْرٌ | تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ والسَّمَاءُ٢ |
وكانت لا يزال بها أنيس | خلالَ مُرُوجها نَعَمٌ وشَاءُ |
الثانية : قوله تعالى :" دفء " الدفء : السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف٥. وروي عن ابن عباس : دفؤها نسلها، والله أعلم. قال الجوهري في الصحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، قال الله تعالى :" لكم فيها دفء ". وفي الحديث ( لنا من دفئهم ما سلّموا بالميثاق ). والدفء أيضا السخونة، تقول منه : دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدفء بالكسر وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع الأدفاء. تقول : ما عليه دفء ؛ لأنه اسم. ولا تقول : ما عليك دفاءة ؛ لأنه مصدر. وتقول : اقعد في دفء هذا الحائط أي ركنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وادَّفأ به وهو افتعل، أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفيء على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الإبل الكثيرة ؛ لأن بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الإبل الكثيرة الأوبار والشحوم، عن الأصمعي. وأنشد الشماخ :
وكيف يضيعُ صاحبُ مُدْفَآتٍ | على أَثْبَاجِهِنَّ من الصَّقِيعِ٦ |
الثالثة : دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله كموسى وغيره. وفي حديث المغيرة : فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين. . . الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي : وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا٧ ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية ؛ لأنه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد أنشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله :
تشاجر الناس في الصُّوفي واختلفوا | فيه وظنوه مشتقا من الصوفِ |
ولست أنحَلُ هذا الاسم غيرَ فتى | صافى فصُوفِي حتى سُمِّيَ الصوفي |
٢ الحسحاس: اسم رجل. والروامس: الرياح التي تثير التراب وتدفن الآثار..
٣ راجع ص ١٢٢ من هذا الجزء..
٤ راجع ج ١٢ ص ١١٧..
٥ القطف (جمع قطيفة) كساء له خمل، أي وبر..
٦ أثباج: جمع ثبج، وهو وسطها. وقبل: ظهرها. وقيل: ما بين كاهلها وظهرها..
٧ شيء مقارب (بكسر الراء): وسط بين الجيد والرديء..
تَشَاجَرَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا | فِيهِ وَظَنُّوهُ مشتقا من الصوف |
ولست أنحل هذ الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى | صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصوفي |
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
الْجَمَالُ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ وَيُتَزَيَّنُ. وَالْجَمَالُ: الْحُسْنُ. وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُلُ (بِالضَّمِّ) جَمَالًا فَهُوَ جَمِيلُ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَجَمْلَاءُ أَيْضًا، عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَأَنْشَدَ:
فهي جملاء كبدر طالع | بذت الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ |
جَمَالَكَ أَيُّهَا الْقَلْبُ الْقَرِيحُ «٢»
يُرِيدُ: الْزَمْ تَجَمُّلَكَ وَحَيَاءَكَ ولا تجزع جزع اقبيحا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، وَيَكُونُ فِي الافعال. فأما جمال الخلقة فهو
(٢). هذا صدر البيت، وعجزه كما في اللسان:
سنلقي من تحب فتستريح
[سورة النحل (١٦): آية ٧]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
فيه ثلاث مسائل: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) الْأَثْقَالُ أَثْقَالُ النَّاسِ مِنْ مَتَاعٍ وَطَعَامٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يُثْقِلُ الْإِنْسَانَ حَمْلُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَبْدَانُهُمْ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «١» " وَالْبَلَدُ مَكَّةُ، فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَقِيلَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَسْلَكُهُ عَلَى الظَّهْرِ. وَشِقُّ الْأَنْفُسِ: مَشَقَّتُهَا وَغَايَةُ جَهْدِهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِكَسْرِ الشِّينِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالشِّقُّ الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ"
وَذِي إِبِلٍ يَسْعَى «١» وَيَحْسِبُهَا له | أخى نصب من شقه ودءوب |
إِذَا مَا بَكَى مَنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ | بِشِقٍّ وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ |
(٢). الرسل بالسر (: اللبن.)
[سورة النحل (١٦): آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْخَيْلَ" بِالنَّصْبِ مَعْطُوفٌ، أَيْ وَخَلَقَ الْخَيْلَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ" وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ" بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا. وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْلًا لِاخْتِيَالِهَا فِي الْمِشْيَةِ. وَوَاحِدُ الْخَيْلِ خَائِلٌ، كَضَائِنٍ وَاحِدُ ضَيْنٍ. وَقِيلَ لَا وَاحِدَ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ «٢»، وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ هُنَاكَ. وَلَمَّا أَفْرَدَ سُبْحَانَهُ الْخَيْلَ والبغال والحمير بالذكر
(٢). راجع ج ٤ ص ٣٢.
إِلَى تَجْدِيدِ تحريم لحوم الحمر عام يبر وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ تَحْلِيلُ الْخَيْلِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَنْعَامَ ذَكَرَ الْأَغْلَبَ مِنْ مَنَافِعِهَا وَأَهَمُّ مَا فِيهَا، وَهُوَ حَمْلُ الْأَثْقَالِ وَالْأَكْلُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الرُّكُوبَ وَلَا الْحَرْثَ بِهَا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ، وَقَدْ تُرْكَبُ وَيُحْرَثُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تعالى:
(٢). هو غورك بن الحضري أبو عبد الله. (عن الدارقطني).
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا | غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ «٢» |
(٢). الغمر: الماء الكثير. ورجل الغمر الرداء، وغمر الخلق، أي واسع الخلق. كثير المعروف سخى.
(٢). كذا في الأصول. والمتبادر سادس.
[سورة النحل (١٦): آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُ قَصْدِ السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أَيْ عَلَى اللَّهِ بَيَانُهُ بِالرُّسُلِ وَالْحِجَجِ وَالْبَرَاهِينِ. وَقَصْدُ السَّبِيلِ: اسْتِعَانَةُ الطَّرِيقِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ قَاصِدٌ أَيْ يُؤَدِّي إِلَى الْمَطْلُوبِ. (وَمِنْها جائِرٌ) أَيْ وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ، أَيْ عَادِلٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُهْتَدَى بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمِنَ الطَّرِيقَةِ جَائِرٌ وَهُدًى | قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهُ ذُو دَخَلَ |
عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنِ | يَجُورُ بِهَا الْمَلَّاحُ طَوْرًا |
(٢). في ى: يحترثون.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٣٧
[سورة النحل (١٦): آية ١٠]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)
الشَّرَابُ مَا يُشْرَبُ، وَالشَّجَرُ مَعْرُوفٌ. أَيْ يُنْبِتُ مِنَ الأمطار أشجارا وعروشا ونباتا. و (تُسِيمُونَ) تَرْعَوْنَ إِبِلَكُمْ، يُقَالُ: سَامَتِ السَّائِمَةُ تَسُومُ سَوْمًا أَيْ رَعَتْ، فَهِيَ سَائِمَةٌ. وَالسَّوَامُ وَالسَّائِمُ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمَالُ الرَّاعِي. وَجَمْعُ السَّائِمِ وَالسَّائِمَةِ سَوَائِمُ. وَأَسَمْتُهَا أَنَا أَيْ أَخْرَجْتُهَا إِلَى الرَّعْيِ، فَأَنَا مُسِيمٌ وَهِيَ مُسَامَةٌ وَسَائِمَةٌ. قَالَ:
أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ «١»
وَأَصْلُ السَّوْمِ الْإِبْعَادُ فِي الْمَرْعَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُخِذَ مِنَ السُّومَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، أَيْ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ عَلَامَاتٌ بِرَعْيِهَا، أَوْ لِأَنَّهَا تُعَلَّمُ لِلْإِرْسَالِ فِي الْمَرْعَى. قُلْتُ: وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ تَكُونُ الْمَرْعِيَّةُ. وَتَكُونُ الْمُعَلَّمَةُ. وَقَوْلُهُ:" مُسَوِّمِينَ" قَالَ الْأَخْفَشُ تَكُونُ مُعَلَّمِينَ وَتَكُونُ مُرْسَلِينَ، مِنْ قَوْلِكَ: سَوَّمَ فِيهَا الْخَيْلَ أَيْ أَرْسَلَهَا، وَمِنْهُ السَّائِمَةُ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِالْيَاءِ وَالنُّونِ لان الخيل سومت وعليها ركبانها.
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله
[سورة النحل (١٦): آية ١١]
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ" نُنْبِتُ" بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ. الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى يُنْبِتُ الله لكم، يقال: ينبت الْأَرْضُ وَأَنْبَتَتْ بِمَعْنًى، وَنَبَتَ الْبَقْلُ وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى. وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ | قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ |
[سورة النحل (١٦): آية ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أَيْ لِلسُّكُونِ وَالْأَعْمَالِ، كَمَا قَالَ:" وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «٥» ". (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) أَيْ مُذَلَّلَاتٌ لِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَنُضْجِ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرا (ابن عباس «٦» و) ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ" وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مسخرات"
(٢). أبو حي من اليمن واسمه عمرو بن مالك.
(٣). الذي في القاموس: الينبوت شجر الخشخاش أو شجر آخر الخروب.
(٤). راجع ج ٧ ص ٩٩ فما بعدها.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٣٠٨.
(٦). في ج.
٢ راجع ج ٢ ص ٢٩..
[سورة النحل (١٦): آية ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما ذَرَأَ) أَيْ وَسَخَّرَ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ لَكُمْ." ذَرَأَ" أَيْ خَلَقَ، ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا خَلَقَهُمْ، فَهُوَ ذَارِئٌ، وَمِنْهُ الذُّرِّيَّةُ وَهِيَ نَسْلُ الثَّقَلَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ تَرَكَتْ هَمْزَهَا، وَالْجَمْعُ الذَّرَارِيُّ. يُقَالُ: أَنْمَى اللَّهُ ذَرْأَكَ وَذَرْوَكَ، أَيْ ذُرِّيَّتَكَ. وَأَصْلُ الذَّرْوِ وَالذَّرْءِ التَّفْرِيقُ عَنْ جَمْعٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «٣» " ذَرْءُ النَّارِ" أَيْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا لَهَا. الثَّانِيَةُ- مَا ذَرَأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ مُسَخَّرٌ مُذَلَّلٌ كَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ العظيم الذي ليس شي أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، مِنْ شَرٍّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ. وَفِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَشَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هذا الموضع.
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٩.
(٣). أي في حديث عمر رضى الله وقد كتب إلى خالد:. إنا أظنكم آل المغيرة ذرء النار.
[سورة النحل (١٦): آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) تَسْخِيرُ الْبَحْرِ هُوَ تَمْكِينُ الْبَشَرِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَتَذْلِيلِهِ بِالرُّكُوبِ وَالْإِرْفَاءِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا، فَلَوْ شَاءَ سَلَّطَهُ عَلَيْنَا وَأَغْرَقَنَا وَقَدْ مَضَى الكلام في البحر «١» وفى صيده. سَمَّاهُ هُنَا لَحْمًا وَاللُّحُومُ عِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: فَلَحْمُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ جِنْسٌ، وَلَحْمُ ذَوَاتِ الرِّيشِ جِنْسٌ، وَلَحْمُ ذَوَاتِ الْمَاءِ جِنْسٌ. فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ مِنْ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْبَقَرِ وَالْوَحْشِ بِلَحْمِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ مُتَفَاضِلًا، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الطَّيْرِ بِلَحْمِ الْبَقَرِ وَالْوَحْشِ وَالسَّمَكِ يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اللَّحْمُ كُلُّهَا أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ كَأُصُولِهَا، فَلَحْمُ الْبَقَرِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْغَنَمِ صِنْفٌ، وَلَحْمُ الْإِبِلِ صِنْفٌ، وَكَذَلِكَ الْوَحْشُ مُخْتَلِفٌ، كَذَلِكَ الطَّيْرُ، وَكَذَلِكَ السَّمَكُ، وَهُوَ جحد قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ النَّعَمِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيْرِ وَالسَّمَكِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَنْعَامِ فِي حَيَاتِهَا فَقَالَ:" ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ «٢» "
(٢). راجع ج ٧ ص ١١٣.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٠٢ فما بعد وص ١٦١ فما بعد.
(٣). راجع ج ٦ ص ٤١٩ فما بعد.
(٤). في ج وى: اللبن. [..... ]
(٥). في ى: وهذا حسن.
(٦). راجع ج ١٧ ص ٢٠٢ فما بعد وص ١٦١ فما بعد.
فَجَاءَ بِهَا مِنْ دُرَّةٍ لَطَمِيَّةٍ | عَلَى وَجْهِهَا مَاءُ الْفُرَاتِ يَدُومُ «١» |
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٨.
(٣). حديقة بالقرب من مسجد قباء.
وَطَلَبِ الرِّبْحِ. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تَقَدَّمَ جَمِيعُ هذا في" البقرة" والحمد لله.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٨٨ وج ٢ ص ١٩٤.
[سورة النحل (١٦): آية ١٥]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أَيْ جِبَالًا ثَابِتَةً. رَسَا يَرْسُو إِذَا ثَبُتَ وَأَقَامَ. قَالَ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً | تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ «١» |
وعلمت أن منيتي إن تأتني | لا ينجني منها الفرار الاسرع |
إِنَّ الْفَقِيرَ بَيْنَنَا قَاضٍ حَكَمْ | أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ |
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ | وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ «١» |
[سورة النحل (١٦): آية ١٧]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ يَخْلُقُ" هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. (كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) يُرِيدُ الْأَصْنَامَ. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أَخْبَرَ عَنِ الْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعمل عَلَى مَا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَذُكِرَتْ بِلَفْظِ" مَنْ" كَقَوْلِهِ:" أَلَهُمْ أَرْجُلٌ «١» ". وَقِيلَ: لِاقْتِرَانِ الضَّمِيرِ فِي الذِّكْرِ بِالْخَالِقِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الرَّاكِبُ وَجَمَلُهُ فَلَا أَدْرِي مَنْ ذَا وَمَنْ ذَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرُ إِنْسَانٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُسْأَلُ بِ" مَنْ" عَنِ الْبَارِئِ تَعَالَى وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ بِ" مَا"، لِأَنَّ" مَا" إِنَّمَا يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْأَجْنَاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِذِي جِنْسٍ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السلام حين قال له:" فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى «٢» " وَلَمْ يُجِبْ حِينَ قَالَ لَهُ:" وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «٣» " إِلَّا بِجَوَابِ" مَنْ" وَأَضْرَبَ عَنْ جَوَابِ" مَا" حِينَ كَانَ السُّؤَالُ فَاسِدًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ كَانَ بِالْعِبَادَةِ أَحَقُّ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ،" هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «٤» "" أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «٥» ".
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٨ الى ١٩]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها) تقدم في إبراهيم «٦». (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أَيْ مَا تُبْطِنُونَهُ وَمَا تظهرونه. وقد تقدم جميع هذا مستوفى.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٠٣.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٩٨.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٥٨ وص ٣٥٥. [..... ]
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٧٩.
(٦). راجع ج ٩ ص ٣٦٧.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
[سورة النحل (١٦): آية ٢٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) يَعْنِي وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ بِالْبَعْثِ" مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ". قِيلَ: الْقَائِلُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَكَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَةِ فَاشْتَرَى أَحَادِيثَ (كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ) فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: مَا يَقْرَأُ مُحَمَّدٌ عَلَى أَصْحَابِهِ إِلَّا أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، أي ليس هو من تنزيل
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٠.
(٣). في ج وى: لهم.
[سورة النحل (١٦): آية ٢٥]
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) قِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ: لَامُ الْعَاقِبَةِ، كَقَوْلِهِ:" لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «٤» ". أَيْ قَوْلُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالنَّبِيِّ أَدَّاهُمْ إِلَى أن حملوا أوزارهم، أي ذنوبهم. (كامِلَةً) لم يتركوا منها شي لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم. وقيل: هي لام الامر، والمعنى التهدد. بِكُفْرِهِمْ. (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُونَ وِزْرَ مَنْ أَضَلُّوهُ وَلَا ينقص من إثم المضل شي. وَفِي الْخَبَرِ" أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ من غير أن ينقص من أوزارهم شي وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أجورهم شي" خرجه مسلم بمعناه. و" من" لِلْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، فَدُعَاةُ الضَّلَالَةِ عَلَيْهِمْ مِثْلُ أوزار من اتبعهم. وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ يُضِلُّونَ الْخَلْقَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْآثَامِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا لَمَا أَضَلُّوا. (أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ) أَيْ بِئْسَ الْوِزْرُ الَّذِي يَحْمِلُونَهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ" وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ «٥» وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ" وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ" الْأَنْعَامِ «٦» " بَيَانُ قَوْلِهِ:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ".
(٢). راجع ج ٦ ص ٤٠٥.
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٦.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٥، ص ٣٣٠.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٢٥، ص ٣٣٠.
(٦). راجع ج ٧ ص ١٥٧.
[سورة النحل (١٦): آية ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ سَبَقَهُمْ بِالْكُفْرِ أَقْوَامٌ مَعَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِلرُّسُلِ. (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمَا: إنه النمروذ بْنُ كَنْعَانَ وَقَوْمُهُ، أَرَادُوا صُعُودَ السَّمَاءِ وَقِتَالَ أَهْلِهِ، فَبَنَوُا الصَّرْحَ لِيَصْعَدُوا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ صَنَعَ بِالنُّسُورِ مَا صَنَعَ، فَخَرَّ. كَمَا تَقَدَّمَ بيانه في آخر سورة" إِبْرَاهِيمَ «١» ". وَمَعْنَى" فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ" أَيْ أَتَى أَمْرُهُ الْبُنْيَانَ، إِمَّا زَلْزَلَةً أَوْ رِيحًا فَخَرَّبَتْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ. وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولَ فَرْسَخَيْنِ، فَهَبَّتْ رِيحٌ فَأَلْقَتْ رَأْسَهُ فِي الْبَحْرِ وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي. وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمئِذٍ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَابِلَ، وَمَا كَانَ لِسَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا السُّرْيَانِيَّةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ «٢» " وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" السُّقُفُ" بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ جَمِيعًا. وَضَمَّ مُجَاهِدٌ السِّينَ وَأَسْكَنَ الْقَافَ تَخْفِيفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" وَبِالنَّجْمِ" فِي الْوَجْهَيْنِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَقْفٍ. وَالْقَوَاعِدُ: أُصُولُ الْبِنَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَّتِ الْقَوَاعِدُ سَقَطَ الْبِنَاءُ. وَقَوْلُهُ: (مِنْ فَوْقِهِمْ) قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَكَّدَ لِيُعْلِمَكَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْتَهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنَا سَقْفٌ وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِطٌ إِذَا كَانَ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ. فَجَاءَ بِقَوْلِهِ:" مِنْ فَوْقِهِمْ" لِيُخْرِجَ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ:" مِنْ فَوْقِهِمْ" أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَعَ وَكَانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا وَمَا أُفْلِتُوا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّقْفِ السَّمَاءُ، أَيْ إِنَّ الْعَذَابَ أَتَاهُمْ مِنَ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ:" فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ"
(٢). راجع ج ١ ص ٢٨٣. [..... ]
[سورة النحل (١٦): آية ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أَيْ يَفْضَحُهُمْ بِالْعَذَابِ وَيُذِلُّهُمْ بِهِ وَيُهِينُهُمْ. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) أَيْ بِزَعْمِكُمْ وَفِي دَعْوَاكُمْ، أَيِ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمْ دُونِي، وَهُوَ سُؤَالُ توبيخ. (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) أَيْ تُعَادُونَ أَنْبِيَائِي بِسَبَبِهِمْ، فَلْيَدْفَعُوا عَنْكُمْ هَذَا العذاب. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" شُرَكَايَ" بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غير همز، والباقون بالهمز. نَافِعٌ" تُشَاقُّونِ" بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْإِضَافَةِ، أَيْ تُعَادُونَنِي فِيهِمْ. وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ. (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ) أَيِ الْهَوَانَ وَالذُّلَّ يوم القيامة. (وَالسُّوءَ) أي العذاب." عَلَى الْكافِرِينَ".
[سورة النحل (١٦): آية ٢٨]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
(٢). رجح بعض اللغويين بالذال المعجمة وجوز بعضهم الوجهين.
٢ راجع ج ١٥ ص ٣٣٥..
٣ راجع ج ٨ ص ٢٨..
٤ راجع ج ٧ ص ١٤٤ وما بعدها..
[سورة النحل (١٦): آية ٢٩]
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: هُوَ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، إِذْ هُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: لَا تَصِلُ أَهْلُ الدَّرَكَةِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا مَثَلًا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّرَكَةِ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةِ ثُمَّ الثَّالِثَةِ هَكَذَا. وقيل: لكل دركة
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٣٥.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٨.
(٤). راجع ج ٧ ص ١٤٤ وما بعدها.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) أَيْ قَالُوا: أنزل خيرا، وتم الكلام. و" ماذا" عَلَى هَذَا اسْمٌ وَاحِدٌ. وَكَانَ يَرِدُ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ مَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَيَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ أَوْ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ. وَيَسْأَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَيْرَ وَالْهُدَى، وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يُقَالُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ارْتَفَعَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ:" أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ" وَانْتَصَبَ فِي قَوْلِهِ:" خَيْراً"؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالتَّنْزِيلِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَالْمُؤْمِنِينَ آمَنُوا بِالنُّزُولِ فَقَالُوا: أَنْزَلَ خَيْرًا. وَهَذَا مَفْهُومٌ مَعْنَاهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ قِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَالْحَسَنَةُ هُنَا: الْجَنَّةُ، أَيْ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَلَهُ الْجَنَّةُ غَدًا. وَقِيلَ:" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا" الْيَوْمَ حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَالْغَنِيمَةِ: (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ)
(٢). في الطبري: أبو صخر أنه سمع.
(٣). استنقع الماء: اجتمع وثبت. أي إذا اجتمعت نفس المؤمن في فيه تريد الخروج، نما يستقع الماء في قراره، وأراد بالنفس الروح.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣)
قوله تعالى: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)
هَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ" يَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ" بِالْيَاءِ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى مَا تقدم. َوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
أَيْ بِالْعَذَابِ مِنَ الْقَتْلِ كَيَوْمِ بَدْرٍ، أَوِ الزَّلْزَلَةِ وَالْخَسْفِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْقَوْمُ لَمْ يَنْتَظِرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهَا، وَلَكِنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، فَأُضِيفَ ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
أَيْ أَصَرُّوا عَلَى الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. َ- ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ)
أي بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٤]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
[سورة النحل (١٦): آية ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ شَيْئًا، وَ" مِنْ" صِلَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً، وَلَوْ قَالُوهُ عَنِ اعتاد لكانوا مؤمنين وقد مضى هـ افي سورة (الانعام) مبينا وإعرابا فلا معنى للإعادة «١». (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ مِثْلَ هَذَا التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالرُّسُلِ فَأُهْلِكُوا. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَأَمَّا الهداية فهي إلى الله تعالى.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أَيْ بِأَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَوَحِّدُوهُ. (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أَيِ اتْرُكُوا كُلَّ مَعْبُودٍ دُونَ اللَّهِ كَالشَّيْطَانِ وَالْكَاهِنِ وَالصَّنَمِ، وَكُلَّ مَنْ دَعَا إِلَى الضَّلَالِ. فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أي أرشده إلى دينه وعبادته.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أَيْ إِنْ تَطْلُبْ يَا مُحَمَّدُ بِجَهْدِكَ هُدَاهُمْ. (فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) أَيْ لَا يُرْشِدُ مَنْ أَضَلَّهُ، أَيْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الضَّلَالَةُ لَمْ يَهْدِهِ. وهذه قراءة ابن مسعود واهل الكوفة. ف" يهدى" فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وَمَاضِيهِ هَدَى. وَ" مَنْ" فِي موضع نصب ب" يَهْدِي" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَدَى يَهْدِي بِمَعْنَى اهْتَدَى يَهْتَدِي، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: كَمَا قُرِئَ" أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى «١» " بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا غَيْرُ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ بِمُتَّهَمٍ فِيمَا يَحْكِيهِ. النَّحَّاسُ. حُكِيَ لِي عَنْ محمد ابن يَزِيدَ كَأَنَّ مَعْنَى" لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ" مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ وَسَبَقَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَهْدِي أَوْ يُهْدِي. وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ" يَهْدِي" بِمَعْنَى يَهْتَدِي، فَيَكُونُ" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَائِدُ إِلَى" مَنْ" الْهَاءُ الْمَحْذُوفَةُ مِنَ الصِّلَةِ، وَالْعَائِدُ إِلَى اسْمِ" إِنْ" الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي" يُضِلُّ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" لَا يُهْدَى" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، عَلَى مَعْنَى مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ لَمْ يَهْدِهِ هَادٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ" و" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ، وَالْعَائِدُ عَلَى اسْمِ إِنَّ مِنْ" فَإِنَّ اللَّهَ" الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي" يُضِلُّ". (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٨]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، إِذْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ وَبَالَغُوا فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ. وَوَجْهُ التَّعْجِيبِ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَعْظِيمَ اللَّهِ فَيُقْسِمُونَ بِهِ ثُمَّ يُعَجِّزُونَهُ عَنْ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُشْرِكٍ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ، وَكَانَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: وَالَّذِي أَرْجُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِنَّهُ لَكَذَا، فَأَقْسَمَ الْمُشْرِكُ بِاللَّهِ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عباس قال له رجل: يا بن عَبَّاسٍ، إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ السَّاعَةِ، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ أُولَئِكَ! إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ، لَوْ كَانَ عَلِيٌّ مَبْعُوثًا قَبْلَ الْقِيَامَةِ مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مِيرَاثَهُ. (بَلى) هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، أَيْ بَلَى لَيَبْعَثَنَّهُمْ. (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ" يَبْعَثُهُمْ «١» " يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ، أَيْ وَعَدَ الْبَعْثَ وَعْدًا حَقًّا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. وقد تقدم «٢»، ويأتي.
[سورة النحل (١٦): آية ٣٩]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أَيْ لِيُظْهِرَ لَهُمُ. (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أَيْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِالْبَعْثِ وَأَقْسَمُوا عَلَيْهِ (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وَقِيلَ: المعنى (هامش)
(٢). راجع ج ٢ ص ٥٨ [..... ]
[سورة النحل (١٦): آية ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
أَعْلَمَهُمْ سُهُولَةَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، أَيْ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ مَنْ يَمُوتُ فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا وَلَا نَصَبَ فِي إِحْيَائِهِمْ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُحْدِثُهُ، لِأَنَّا إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ" فَيَكُونُ" نَصْبًا عَطْفًا عَلَى أَنْ نَقُولَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ" كُنْ". الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى فَهُوَ يَكُونُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «١». وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْقَعَ لَفْظَ الشَّيْءِ عَلَى الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ قَبْلَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ وَشُوهِدَ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ:" كُنْ" مَخْلُوقًا لَاحْتَاجَ إِلَى قَوْلٍ ثَانٍ، وَالثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ وَتَسَلْسَلَ وَكَانَ مُحَالًا. وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا خَيْرِهَا وَشَرِّهَا نَفْعِهَا وَضُرِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَرَى فِي سُلْطَانِهِ مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ فَلِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ جَاهِلًا لَا يَدْرِي، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا لَا يُطِيقُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِاكْتِسَابِ الْعِبَادِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِنَا يَحْصُلُ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِنَا وَإِرَادَتِنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُرِيدًا لَهَا لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا قَوْلُ الطَّبِيعِيِّينَ، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده.
[سورة النحل (١٦): آية ٤١]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
٢ راجع ج ١٩ ص ١٤٢..
[سورة النحل (١٦): آية ٤٢]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
قِيلَ: (الَّذِينَ) بَدَلٌ مِنَ (الَّذِينَ) الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ فِي" لَنُبَوِّئَنَّهُمْ" وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ: خِيَارُ الْخَلْقِ مَنْ إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ صَبَرَ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَمْرٍ تَوَكَّلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٤٢.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" يُوحَى" بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ" نُوحِي إِلَيْهِمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا، فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ" إِلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ يَا مُحَمَّدُ" إِلَّا رِجالًا" آدميين. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الكتاب. (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) يُخْبِرُونَكُمْ أَنَّ جَمِيعَ الأنبياء كانوا بشرا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الذِّكْرِ أَهْلُ الْقُرْآنِ وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) قيل:" بِالْبَيِّناتِ" متعلق ب" أَرْسَلْنا". وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا- أَيْ غير رجال، ف" إِلَّا" بِمَعْنَى غَيْرٍ، كَقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ- نُوحِي إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ" أَرْسَلْنا" أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بالبينات والزبر. ولا يتعلق" بِالْبَيِّناتِ" ب" أَرْسَلْنا" الْأَوَّلِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ" إِلَّا" لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْسَلْنَا الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِ" تَعْلَمُونَ" وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ نُصِبَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَلَيْسَ مُجِيرًا إِنْ أَتَى الْحَيَّ خَائِفُ | وَلَا قَائِلًا إِلَّا هُوَ المتعيبا |
لَا، بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دَارٍ تَخَوَّنَهَا | مَرًّا سَحَابٌ وَمَرًّا بَارِحٌ تَرِبُ «١» |
تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي «٢»
أَيْ تَنَقَّصَ لَحْمَهَا وَشَحْمَهَا. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: التَّخَوُّفُ (بِالْفَاءِ) التَّنَقُّصُ، لُغَةٌ لِأَزْدِ شَنُوءَةَ. وَأَنْشَدَ:
تَخَوَّفَ غَدْرَهُمْ مَالِي وَأَهْدَى | سَلَاسِلُ فِي الْحُلُوقِ لَهَا صَلِيلُ |
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا | كَمَا تَخَوَّفَ عود النبعة السفن «٤» |
(٢). هذا عجز لبيت، وصدره كما في اللسان:
عذافرة تقمص بالردافي
(٣). كذا في الأصول، والذي في اللسان أنه لابن مقبل وقيل: لذي الرمة.
(٤). القرد: معناه هنا: المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي.
[سورة النحل (١٦): آية ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَحْيَى وَالْأَعْمَشُ" تَرَوْا" بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِجَمِيعِ النَّاسِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ، وهو الاختيار. (مِنْ شَيْءٍ) يَعْنِي مِنْ جِسْمٍ قَائِمٍ لَهُ ظِلٌّ مِنْ شَجَرَةٍ أَوْ جَبَلٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا سَمِيعَةً مُطِيعَةً لله تعالى. (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَغَيْرُهُمَا بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ الظِّلَالِ. الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. أَيْ يَمِيلُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، وَيَكُونُ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ وَيَتَقَلَّصُ ثُمَّ يَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، فَدَوَرَانُهَا وَمَيَلَانُهَا مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودُهَا، وَمِنْهُ قيل للظل بالعشي: في، لِأَنَّهُ فَاءَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، أَيْ رجع. والفيء الرجوع، ومنه" حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «١» ". رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الرَّعْدِ" «٢». وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي سُجُودَ الْجِسْمِ، وَسُجُودُهُ انْقِيَادُهُ وَمَا يُرَى فِيهِ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ جسم. ومعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) أَيْ خَاضِعُونَ صَاغِرُونَ. وَالدُّخُورُ: الصَّغَارُ والذل. يقال: دحر الرَّجُلُ (بِالْفَتْحِ) فَهُوَ دَاخِرٌ، وَأَدْخَرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَاخِرٌ فِي مخيس | ومنحخر «٣» في غير أرضك في حجر |
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٠٢.
(٣). كذا في كتب اللغة. يقال: انجحر الضب إذا دخل الحجر. والذي في الأصول وديوان ذى والبرمة:" متحجر في غير أرضك في حجر" بتقديم الحاء على الجيم في الكلمتين، وكذا في ج.
أَمَا تَرَانِي كَيِّسًا مكيسا | بنيت بعد نافع مخيسا |
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَا سَبَإٍ | قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ «٥» |
[سورة النحل (١٦): الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أَيْ مِنْ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. (وَالْمَلائِكَةُ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ لاختصاصهم
(٢). أي قائل في غير القرآن. [..... ]
(٣). راجع ج ١ ص ١٨٩.
(٤). راجع ج ٦ ص ١١٧.
(٥). البيت لجرير. ورواية ديوانه:
تدعوك تيم وتيم في قرى سبإ
إلخ
(٦). هكذا وردت هذه الجملة في الأصول. ولعل صوابها: لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذي في البحر لابي حيان:" وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل لان الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد تعدد الحالات".
[سورة النحل (١٦): آية ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) قِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَتَّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ. وَقِيلَ: جَاءَ قَوْلُهُ: «اثْنَيْنِ» تَوْكِيدًا. وَلَمَّا كَانَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا يَتَعَدَّدُ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَعَدَّدُ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ نفي التعدد. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) يَعْنِي ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالشَّرْعِيُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُهُ «٢» وَذَكَرْنَاهُ فِي اسْمِهِ الْوَاحِدِ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أَيْ خَافُونِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي البقرة «٣».
[سورة النحل (١٦): آية ٥٢]
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
(٢). راجع ج ٢ ص ١٩٠ وما بعدها.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٣٢.
لا أبتغي الحمدَ القليلَ بقاؤه*** بدم يكون الدهرَ أجمعَ واصبًا
أنشد الغزنوي والثعلبي وغيرهما :
ما أبتغي الحمد القليل بقاؤه*** يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقيل : الوصب التعب والإعياء، أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر :
لا يمسك الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ*** ولا يَعَضّ على شُرْسُوفِهِ الصفر٢
وقال ابن عباس :" واصبا " واجبا. الفراء والكلبي : خالصا. " أفغير الله تتقون " أي لا ينبغي أن تتقوا غير الله. " فغير " نصب ب " تتقون ".
٢ الشعر لأعشى باهلة. والشطر الأول من بيت، والثاني من بيت آخر. والبيتان:
لا يتأرّى لما في القدر يرقبه *** ولا يعض على شرسوفه الصفر
لا يغمز الساق من أين ولا نصب | ولا يزال أمام القوم يقتفر. |
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه | بدم يَكُونُ الدَّهْرَ أَجْمَعَ وَاصِبًا |
مَا أَبْتَغِي الْحَمْدَ الْقَلِيلَ بَقَاؤُهُ | يَوْمًا بِذَمِّ الدَّهْرِ أَجْمَعَ وَاصِبَا |
لَا يُمْسِكُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ | وَلَا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصُّفْرُ «٢» |
[سورة النحل (١٦): الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) قَالَ الْفَرَّاءُ." مَا" بِمَعْنَى الْجَزَاءِ. وَالْبَاءُ فِي" بِكُمْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَكُنْ بِكُمْ." مِنْ نِعْمَةٍ" أَيْ صِحَّةِ جِسْمٍ وَسَعَةِ رِزْقٍ وَوَلَدٍ فَمِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله هي. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ)
(٢). الشعر لأعشى باهله. والشطر الأول من بيت، والثاني من بيت آخر. والبيتان:
لا يتأرى لما في القير يرقبه | ولا يعض على شرسوفة الصفر |
لا يغمز الساق من أين ولا نصب | ولا يزال أمام القوم يقتفر |
فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ | وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ «٣» وَتَجْأَرَا |
وَالْكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ «٦»
(فَتَمَتَّعُوا) أَمْرُ تَهْدِيدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ" قُلْ تمتعوا". (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمركم.
[سورة النحل (١٦): آية ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) ذَكَرَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ جَهَالَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ- وَهِيَ الْأَصْنَامُ- شَيْئًا من أموالهم يتقربون به إليه، قال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. فَ" يَعْلَمُونَ" عَلَى هَذَا للمشركين. وقيل هي
(٢). كذا في الأصول. والذي في اللسان مادة" ضيف" وكتاب سيبويه ج ٢ ص ١٧٤ أنه للنابغة الجعدي.
(٣). في الأصول:" تطيف" بالطاء. والتصويب عن اللسان وكتاب سيبويه. وتضيف: تشفق ومحذر والنكير: الإنكار. والجؤار: الصياح. والمعنى: أن هذه البقرة فقدت ولدها فطافت تطلبه ثلاث ليال وأيامها، ولا إنكار عندها ولا انتصار مما عدا على ولدها إلا أن تشفق وتحذر وتصيح.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٨٤ وص ٨ و٢٣٥ ج ١١.
(٥). راجع ج ٨ ص ٣١٧. [..... ]
(٦). هذا عجز بيت من معلقة عنترة، وصدره:
نبئت عمرا غير شاكر نعمتي
[سورة النحل (١٦): آية ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ أَلْحِقُوا الْبَنَاتِ بِالْبَنَاتِ. (سُبْحانَهُ) نَزَّهَ نَفْسَهُ وَعَظَّمَهَا عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ مِنَ اتِّخَاذِ الْأَوْلَادِ. (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) أَيْ يَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ وَيَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ. وَمَوْضِعُ" مَا" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ" لَهُمْ" وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" سُبْحانَهُ". وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ كَوْنَهَا نَصْبًا، عَلَى تَقْدِيرِ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ. وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَجْعَلُونَ لأنفسهم.
[سورة النحل (١٦): آية ٥٨]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أَيْ أُخْبِرَ أَحَدُهُمْ بِوِلَادَةِ بِنْتٍ. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أَيْ مُتَغَيِّرًا، وَلَيْسَ يُرِيدُ السَّوَادَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَيَاضِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَمِّهِ بِالْبِنْتِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا: قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحُزْنًا قال الزَّجَّاجُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ سَوَادُ اللَّوْنِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. (وَهُوَ كَظِيمٌ) أَيْ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَمِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَزِينٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ الَّذِي يَكْظِمُ غَيْظَهُ فَلَا يُظْهِرُهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَغْمُومُ الَّذِي يُطْبِقُ فَاهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْغَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِظَامَةِ وَهُوَ شَدُّ فَمِ الْقِرْبَةِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" يوسف «٢» ".
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٤٩.
[سورة النحل (١٦): آية ٥٩]
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أَيْ يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ. (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) أَيْ مِنْ سُوءِ الْحُزْنِ وَالْعَارِ وَالْحَيَاءِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ الْبِنْتِ. (أَيُمْسِكُهُ) ذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى" مَا". (عَلى هُونٍ) أَيْ هَوَانٍ. وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ" عَلى هُونٍ" وَالْهُونُ الْهَوَانُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَحَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْقَلِيلُ بِلُغَةِ تَمِيمٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ الْبَلَاءُ والمشقة. وقالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفوس | يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَبْقَى لَهَا وَقَرَأَ |
وَعَمِّي «٢» الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ | وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ |
(٢). الرواية: وجدي، وأن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق كما في الاستيعاب.
(٣). في ج: فخبرته.
إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ الْمَهْرُ | أَلْفٌ وَعُبْدَانٌ وَخُورٌ «١» عَشْرُ |
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ:
لِكُلِّ أبى بنت يراعى شئونها | ثَلَاثَةُ أَصْهَارٍ إِذَا حُمِدَ الصِّهْرُ |
فَبَعْلٌ يُرَاعِيهَا وَخِدْرٌ يُكِنُّهَا | وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَخَيْرُهُمُ الْقَبْرُ |
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٠٢.
[سورة النحل (١٦): آية ٦٠]
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أَيْ لِهَؤُلَاءِ الْوَاصِفِينَ «١» لِلَّهِ الْبَنَاتِ (مَثَلُ السَّوْءِ) أَيْ صِفَةُ السَّوْءِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقِيلَ: أَيِ الْعَذَابُ وَالنَّارُ. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أَيِ الْوَصْفُ الْأَعْلَى مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا بِأَنَّهُ خَالِقٌ رَازِقٌ قَادِرٌ وَمُجَازٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" مَثَلُ السَّوْءِ" النَّارُ، وَ" الْمَثَلُ الْأَعْلى " شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٢» ". وَقِيلَ:" وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى " كَقَوْلِهِ:" اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ «٣» ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَضَافَ الْمَثَلَ هُنَا إِلَى نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ «٤» " فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ:" فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ" أَيِ الْأَمْثَالَ الَّتِي تُوجِبُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّقَائِصَ، أَيْ لَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ مَثَلًا يَقْتَضِي نَقْصًا وَتَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ. وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى وَصْفُهُ بِمَا لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم معناه «٥».
[سورة النحل (١٦): آية ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَعَاجَلَهُمْ. (مَا تَرَكَ عَلَيْها) أَيْ عَلَى الْأَرْضِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:" مِنْ دَابَّةٍ" فَإِنَّ الدَّابَّةَ لَا تَدِبُّ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنْ دَابَّةٍ كَافِرَةٍ فَهُوَ خَاصٌّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَهْلَكَ الْآبَاءَ بِكُفْرِهِمْ لَمْ تَكُنِ الْأَبْنَاءُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْعُمُومُ، أَيْ لَوْ أَخَذَ اللَّهُ الْخَلْقَ بما كسبوا ما ترك على
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧.
(٣). راجع ج ١٢ ص و٢٢.
(٤). راجع ص ١٤٦ من هذا الجزء.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٨٧ وج ٢ ص ١٣١.
٢ راجع ج ١٦ ص ٣٠..
٣ راجع ج ٧ ص ٢٠٢..
٤ في صحيح مسلم. "على أعمالهم"..
٥ راجع ج ٦ ص ٣٥٢ و ج ٧ ص ١٥٧..
[سورة النحل (١٦): آية ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) أَيْ مِنَ الْبَنَاتِ. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) قال مجاهدك هُوَ قَوْلُهُمْ إِنَّ لَهُمُ الْبَنِينَ وَلِلَّهِ الْبَنَاتِ." الْكَذِبَ" مفعول" تصف" و" أَنَّ" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٠.
(٣). راجع ج ٧ ص ٢٠٢.
(٤). في صحيح مسلم «على أعمالهم».
(٥). راجع ج ٦ ص ٣٥٢ وج ٧ ص ١٥٧.
فَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا | كَمَا تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ |
[سورة النحل (١٦): آية ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أَيْ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ. هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كَفَرَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٠
[سورة النحل (١٦): آية ٦٤]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أَيِ الْقُرْآنَ (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ فَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِكَ. وعطفك" هُدىً وَرَحْمَةً" عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ:" لِتُبَيِّنَ" لِأَنَّ مَحَلَّهُ نَصْبٌ. وَمَجَازُ الْكَلَامِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إلا تبيانا للناس. (وَهُدىً) أي رشدا (وَرَحْمَةً) للمؤمنين.
[سورة النحل (١٦): آية ٦٥]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أَيِ السَّحَابِ. (مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عَادَ الْكَلَامُ إِلَى تَعْدَادِ النِّعَمِ وبيان كمال القدرة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة على البعث وعلى وَحْدَانِيَّتِهِ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّ مَعْبُودَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ شيئا، فتكون هذه الدلالة (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُلُوبِ لَا بِالْآذَانِ، (فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «١»).
[سورة النحل (١٦): آية ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى | نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ |
(٢). راجع ج ١٨ ص ٥.
(٣). راجع ج ١ ص، ٤١٨
مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ
وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" مِمَّا فِي بُطُونِهِ" أَيْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ يُذَكَّرُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا رَجَعَ التَّذْكِيرُ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَنَّثَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ:" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «٢» " وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى انْتِظَامًا. حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ أَكْثَرَ من رمل «٣» يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْجِلَّةِ وَهُوَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنْ عَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ، أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُفِيدُ التحريم، وقال: إنما جئ بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى ذِكْرِ النَّعَمِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَحْسُوبٌ، وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يحرم حين أنكرته عائشة [رضى الله عنها «٤»] فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ" فَلِلْمَرْأَةِ السَّقْيُ وَلِلرَّجُلِ اللِّقَاحُ" فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بَيْنَهُمَا. وقد مضى قول فِي تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ فِي" النِّسَاءِ «٥» " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَالْفَرْثُ: الزِّبْلُ الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْكَرِشِ، فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يُسَمَّ فَرْثًا. يُقَالُ: أَفْرَثْتُ الْكَرِشَ إِذَا أَخْرَجْتُ مَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ فِيهِ مَا فِي الْكَرِشِ وَيَكُونُ مِنْهُ الدَّمُ، ثُمَّ يُخَلَّصُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ. وَقَالَ ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف
(٢). راجع ج ١٢ ص، ١١٨.
(٣). رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الحجر اليمامة. (ياقوت).
(٤). من ج. [..... ]
(٥). راجع ج ٥ ص ١١١.
بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ «٢» خُضْرِ الْمَنَاكِبِ
أَيْ بِيضُ الْأَكْمَامِ. وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كل شي بِالْمَصْلَحَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَقَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ وَأَخْذٌ شَنِيعٌ، اللَّبَنُ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْقُدْرَةِ لِيَكُونَ عِبْرَةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ، وَلَيْسَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ مِنَّةٍ أَعْظَمُ وَأَرْفَعُ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ الْمُكَرَّمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ «٣» "، وَقَالَ:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «٤» " وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِخُرُوجِهِ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، قُلْنَا: هُوَ مَا أَرَدْنَاهُ، فَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَأَصْلُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَخْرَجَهُ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، فَإِنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا وَمَخْرَجَ الْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى مَا قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ دَمٌ فَهُوَ نَجِسٌ، قُلْنَا يَنْتَقِضُ بِالْمِسْكِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ دَمٌ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفُرِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُفْرَكْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وكان سعد
(٢). الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٤.
(٤). راجع ص ١٤٢ من هذا الجزء.
فكانت سواغا أن جيزت بِغُصَّةٍ
وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٢). راجع ج ٥ ص ١١١.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٤٩.
الأولى : قوله تعالى :" وإن لكم في الأنعام لعبرة "، قد تقدم القول في الأنعام١، وهي هنا الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز. " لعبرة "، أي : دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه " فاعتبروا " ٢ [ الحشر : ٢ ]. وقال أبو بكر الوراق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر : بريء يحمل مذنبا.
الثانية : قوله تعالى :" نسقيكم "، قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل : هما لغتان. وقال لبيد :
سقَى قومِي بني مَجْدٍ وأسْقَى | نُمَيْرًا والقبائلَ من هِلاَلِ |
الثالثة : قوله تعالى :" مما في بطونه "، اختلف الناس في الضمير من قوله :" مما في بطونه " على ماذا يعود ؟ فقيل : هو عائد إلى ما قبله، وهو جمع المؤنث. قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي : وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل : لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث، فيقال : هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير، وقال الزجاج، وقال الكسائي : معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى :" إنها تذكرة، فمن شاء ذكره " ٤ [ عبس : ١١ - ١٢ ] وقال الشاعر :
مثل الفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه
ومثله كثير. وقال الكسائي :" مما في بطونه "، أي : مما في بطون بعضه ؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء : الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب : هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي : إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال :" نسقيكم مما في بطونها٥ " [ المؤمنون : ٢١ ]. وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة، والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل٦ يَبْرِين وتَيْهَاء فلسطين.
الرابعة : استنبط بعض العلماء الجِلة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال : إنما جيء به مذكرا ؛ لأنه راجع إلى ذكر النعم ؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم، حين أنكرته عائشة في حديث : أفلح أخي أبي القعيس ( فللمرأة السقي وللرجل اللقاح )، فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في " النساء٧ " والحمد لله. .
الخامسة : قوله تعالى :" من بين فرث ودم لبنا خالصا "، نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى : أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك، وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس : إن الدابة تأكل العلف، فإذا استقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف، فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو في الكرش، " حكمة بالغة فما تغن النذر٨ " [ القمر : ٥ ]. " خالصا " يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث، وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر : خالصا بياضه. قال النابغة :
بخالصة الأردَانِ٩ خُضْرِ المَنَاكِبِ
أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
السادسة : قال النقاش : في هذا دليل على أن المني ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا، كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع. اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه.
قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم، وقد قال تعالى :" يخرج من بين الصلب والترائب١٠ " [ الطارق : ٧ ]، وقال :" والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة١١ " [ النحل : ٧٢ ] وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا : هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل : إن مخرجه غير مخرج البول، وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قال العلماء. فإن قيل : أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري. قال الشافعي : فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد بن أبي وقاص يفرك المني من ثوبه. وقال ابن عباس : هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل : فقد ثبت عن عائشة أنها قالت : كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا : يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالأشياء التي تزال من الثوب كالنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الأحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والأوزاعي : هو نجس. قال مالك : غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون.
السابعة : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ؛ لأنه مانع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس، واللبن طاهر، فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال : إن الإنسان طاهر١٢ حيا وميتا، فهو طاهر. ومن قال : ينجس بالموت، فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ؛ لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ). ولم يخص. وقد مضى في " النساء " ١٣.
الثامنة : قوله تعالى :" سائغا للشاربين "، أي : لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال : أسغ لي غصتي، أي : أمهلني ولا تعجلني، وقال تعالى :" يتجرعه ولا يكاد يسيغه١٤ " [ إبراهيم : ١٧ ]. والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك. يقال : الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت :
فكانتْ سِوَاغًا أن جَئَزْت بغُصّة
وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
التاسعة : في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه، ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في " المائدة " ١٥ وغيرها. وفي الصحيح عن أنس قال : لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله : العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره القراء أكل الفالوذج١٦ واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن : كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.
العاشرة : روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن ). قال علماؤنا : فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة ؛ فقال في الصحيح :( فجاءني جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال لي جبريل : اخترت الفطرة، أما إنك لو اخترت الخمر غوت١٧ أمتك ). ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات، فهو مبارك كله.
٢ راجع ج ١٨ ص ٥..
٣ راجع ج ١ ص ٤١٨..
٤ راجع ج ١٩ ص ٢١٣..
٥ راجع ج ١٢ ص ١١٨..
٦ رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة. (ياقوت)..
٧ راجع ج ٥ ص ١١١..
٨ راجع ج ١٧ ص ١٢٨..
٩ الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الكم..
١٠ راجع ج ٢٠ ص ٤..
١١ راج ص ١٤٢ من هذا الجزء..
١٢ أي المسلم..
١٣ راجع ج ٥ ص ١١١..
١٤ راجع ج ٩ ص ٣٤٩..
١٥ راجع ج ٦ ص ٢٦٠ وما بعدها. و ج ٧ ص ١٩١..
١٦ الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة)..
١٧ غوت: ضلت وفسدت..
[سورة النحل (١٦): آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ، فَحَذَفَ" مَا" وَدَلَّ عَلَى حَذْفِهِ قَوْلُهُ:" منه". وقيل:
(٢). الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).
(٣). غوت: ضلت وفسدت.
(٤). من ج.
بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ | إِذَا جَرَى فِيهِمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ |
جَعَلْتَ عَيْبَ الْأَكْرَمِينَ سَكَرَا
أَيْ جَعَلْتَ ذَمَّهُمْ طُعْمًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ أَنَّ السَّكَرَ مَا يُطْعَمُ مِنَ الطَّعَامِ وَحَلَّ شُرْبُهُ مِنْ ثِمَارِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، وَهُوَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ، فَاللَّفْظُ مُخْتَلِفٌ والمعنى واحد، مثل"نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
«٢» لَى اللَّهِ" وَهَذَا حَسَنٌ وَلَا نَسْخَ، إِلَّا أَنَّ الزَّجَّاجَ قَالَ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ هَذَا لَا يُعْرَفُ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِفُ أَنَّهَا تَتَخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:" سَكَراً" مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ الِامْتِنَانُ إِلَّا بِمُحَلَّلٍ لَا بِمُحَرَّمٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ شُرْبِ مَا دُونَ الْمُسْكِرِ مِنَ النَّبِيذِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى السُّكْرِ لَمْ يَجُزْ، وَعَضَّدُوا هَذَا مِنَ السُّنَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرَ مِنْ غَيْرِهَا". وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عِنْدَ الرُّكْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَدَحَ فَرَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَوَجَدَهُ شَدِيدًا فَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ لَهُ حِينَئِذٍ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَرَامٌ هُوَ؟ فَقَالَ:" عَلَيَّ بِالرَّجُلِ" فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ الْقَدَحَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى فِيهِ فَقَطَّبَ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ أَيْضًا فَصَبَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَالَ:" إِذَا اغْتَلَمَتْ «٣» عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةُ فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ". وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ فَيَشْرَبُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ سَقَاهُ الْخَادِمُ إِذَا تَغَيَّرَ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا سَقَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَدْ رَوَى أَبُو عَوْنٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا الْقَلِيلُ مِنْهَا وَالْكَثِيرُ وَالسَّكَرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، خَرَّجَهُ الدارقطني أيضا.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٥١. [..... ]
(٣). الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذي لا يسكر إلى حدها الذي يسكر.
(٢). راجع ج ٢٨٥.
(٣). لعل ما يشربه النخعي وهو إمام- ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الإسكار.
[سورة النحل (١٦): آية ٦٨]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْوَحْيِ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى «٢» الْإِلْهَامِ، وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها «٣» وَتَقْواها". وَمِنْ ذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهَا وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عَنِ الْمَوَاتِ فَقَالَ:" تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «٤» ". قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ. لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَوَاتِ قُدْرَةٌ لَمْ يُدْرَ مَا هِيَ، لَمْ يَأْتِهَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهَا ذَلِكَ، أَيْ أَلْهَمَهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ" إِلَى النَّحَلِ" بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَسُمِّيَ نَحَلًا لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَحَلَهُ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّحْلُ وَالنَّحْلَةُ الدَّبْرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، حَتَّى يُقَالَ: يَعْسُوبٌ. وَالنَّحْلُ يُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَكُلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا الْهَاءُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
(٢). راجع ج ٤ ص ٨٥.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٧٥. وص ١٤٥.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ٧٥. وص ١٤٥.
[سورة النحل (١٦): آية ٦٩]
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٦٩ فما بعد.
(٣). كذا في ى. وفى أ: مالك.
(٤). الاجباح: خلايا النحل في الجبل وفيها تعسل. [..... ]
(٢). الجرس: الأكل. والعرفط (بالضم): شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. أي شربت عسلا أكلت نحلة من شجر الطلح.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٦٢.
(٢). الترياق: ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والماجين، وهو معرب.
(٣). أي دخلوا مجتمعين، ينقض آخرهم على أولهم. وقال ابن الاعرابي: إن القض الحصى الصغار، أي دخلوا بالكبير والصغير.
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٩٤.
(٥). الأكحل: عرق في وسط الذراع.
(٦). راجع ص ٣١٥ من هذا الجزء.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بَيِّنٌ مَعْنَاهُ. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يَعْنِي أَرْدَأَهُ وَأَوْضَعَهُ. وَقِيلَ: الَّذِي يُنْقِصُ قُوَّتَهُ وَعَقْلَهُ وَيُصَيِّرُهُ إِلَى الْخَرَفِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي إِلَى أَسْفَلِ الْعُمُرِ، يَصِيرُ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ يقول:
(٢). لم يصح هذا عند النحالين. محققة. [..... ]
[سورة النحل (١٦): آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أَيْ جَعَلَ مِنْكُمْ غَنِيًّا وفقيرا وَحُرًّا وَعَبْدًا. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) أَيْ فِي الرِّزْقِ. (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أَيْ لَا يَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا رُزِقَ شَيْئًا حَتَّى يَسْتَوِيَ الْمَمْلُوكُ وَالْمَالِكُ فِي الْمَالِ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَبِيدُكُمْ مَعَكُمْ سَوَاءٌ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ عَبِيدِي مَعِي سَوَاءً، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُشْرِكُهُمْ عَبِيدُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يُشَارِكُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْصَابِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا عُبِدَ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ. حَكَى مَعْنَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَالُوا عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ:" فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ" أَيْ لَا يَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ مِمَّا رُزِقَ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ فِي الْمَالِ شَرَعًا سَوَاءً، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِي مَا لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَجْعَلُونَ لِي وَلَدًا
[سورة النحل (١٦): آية ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ." مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً" يَعْنِي آدَمَ خَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ وَعَلَى خِلْقَتِكُمْ، كَمَا قَالَ:" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «٣» " أَيْ مِنَ الْآدَمِيِّينَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ «٤» تَزَوَّجَ منهم غولا وكان يخبؤها عَنِ الْبَرْقِ لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَعَ الْبَرْقُ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ «٥» فَقَالَتْ: عَمْرٌو! وَنَفَرَتْ، فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا. وَهَذَا مِنْ أَكَاذِيبِهَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ ينكرون وجود الجان وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ. (أَزْواجاً) زَوْجُ الرَّجُلِ هِيَ ثَانِيَتُهُ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ فَإِذَا انْضَافَتْ إِلَيْهِ كَانَا زَوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ دُونَهَا لِأَنَّهُ أَصْلُهَا في الوجود كما تقدم.
(٢). يريد بعد قليل." آنفا" إنما تستعمل في الماضي القريب لا في المستقبل القريب.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٠١.
(٤). كذا في نسخ الأصول وأحكام القرآن لابن العربي، والصواب أنه عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن مناة، قال علياء بن أرقم:
يا قبحا لله بنى السعلاة | عمرو بن يربوع شرار النات |
إذا لاح إيماض شرت وجوهها | كأني عمرو والمطي سعالي |
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَوْلَهُنَّ وَأَسْلَمَتْ | بِأَكُفِّهِنَّ أَزِمَّةَ الْأَجْمَالِ |
كَلَّفْتُ مَجْهُولَهَا نُوقًا يَمَانِيَةً | إِذَا الْحُدَاةُ عَلَى أَكْسَائِهَا حَفَدُوا «١» |
فَلَوْ أَنَّ نَفْسِي طَاوَعَتْنِي لَأَصْبَحَتْ | لَهَا حَفَدٌ مَا يُعَدُّ كَثِيرُ |
وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ عَلَيَّ أَبِيَّةٌ | عَيُوفٌ لِإِصْهَارِ «٢» اللِّئَامِ قَذُورُ |
حَفَدَ الْوَلَائِدُ بَيْنَهُنَّ...
الْبَيْتَ.
وَيُقَالُ: حَفَدَتْ وَأَحْفَدَتْ، لُغَتَانِ إِذَا خَدَمَتْ. وَيُقَالُ: حَافِدٌ وَحَفَدٌ، مِثْلَ خَادِمٍ وَخَدَمٌ، وَحَافِدٌ وَحَفَدَةٌ مِثْلَ كَافِرٍ وَكَفَرَةٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْحَفَدَةَ الْخَدَمَ جَعَلَهُ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ يَنْوِي بِهِ التَّقْدِيمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ حَفَدَةً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بنين. قلت: ما قال الْأَزْهَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْحَفَدَةَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ بَلْ نَصُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ:" وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً" فَجَعَلَ الْحَفَدَةَ وَالْبَنِينَ مِنْهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ" بَنِينَ وَحَفَدَةً" أَنَّ الْبَنِينَ أَوْلَادُ الرَّجُلِ لِصُلْبِهِ وَالْحَفَدَةَ أَوْلَادُ وَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ اللَّفْظِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَمِنَ الْبَنِينِ حَفَدَةً. وَقَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثَةُ- إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَالِكٍ وَعُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْحَفَدَةَ الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ، فَقَدْ خَرَجَتْ خِدْمَةُ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ، قاله ابن العربي
(٢). في البحر: لأصاب.
(٣). تقدم استشهاد ابن عباس به فلا يصح أن يكون لكثير عزة.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٣٧.
(٣). يفلي ثوبه مما يناله من بعض الجلساء أن عنصره صلوات الله عليه في غاية الصفا والنقا الخالص.
(٤). من ابن العربي.
(٥). كذا في ابن العربي والعبارة له. [..... ]
[سورة النحل (١٦): الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) يَعْنِي الْمَطَرَ. (وَالْأَرْضِ) يَعْنِي النَّبَاتَ. (شَيْئاً) قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِإِيقَاعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، أَيْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَهُمْ شَيْئًا. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شي، يَعْنِي الْأَصْنَامَ. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أَيْ لَا تُشَبِّهُوا بِهِ هَذِهِ الْجَمَادَاتِ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ قادر لا مثل له. وقد تقدم.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى ضَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُنْتَظِمٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعُدْمِ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ آلِهَتِهِمْ." ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا" أَيْ بَيَّنَ شَبَهًا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: (عَبْداً مَمْلُوكاً) أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي عِنْدَكُمْ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ مِنْ أمره على شي وَرَجُلٌ حُرٌّ قَدْ رُزِقَ رِزْقًا حَسَنًا فَكَذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ. فَالَّذِي هُوَ مِثَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَبْدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَمْلُوكٌ لا يقدر على شي مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَخَّرٌ بِإِرَادَةِ سَيِّدِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبِيدَ كُلَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تَقْتَضِي الشُّمُولَ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَتْ بَعْدَ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ مُضَافَةً إِلَى مَصْدَرٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ الشُّيُوعِيِّ، كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ رَجُلًا وَلَا تُهِنْ
(٢). الأسر: الخلق.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٤٠.
(٢). راجع ج ١ ص ١٧٧.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٦٥.
الأولى : قوله تعالى :" ضرب الله مثلا "، نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. " ضرب الله مثلا "، أي بين شبها، ثم ذكر ذلك فقال :" عبدا مملوكا "، أي : كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حر قد رزق رزقا حسنا، فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية، هو عبد بهذه الصفة، مملوك لا يقدر على شيء من المال، ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة، فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهي، أو مضافة إلى مصدر، كانت للعموم الشيوعي، كقوله : أعتق رجلا ولا تهن رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأي رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة : هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر ؛ لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى :" ومن رزقناه منا رزقا حسنا "، المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل التأويل. قال الأصم : المراد بالعبد المملوك : الذي ربما يكون أشد من مولاه أسرا١ وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي : فإذا كان هذا شأنكم، وشأن عبيدكم، فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته ؟ وهي لا تعقل ولا تسمع.
الثانية : فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق : الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال : يملك إلا أنه ناقص الملك ؛ لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر ؛ ولهذا قال أصحابنا : لا تجب عليه عبادات الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة : أن سيده لو ملكه جارية، جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها ؛ لأنها ملك غيره، ولا على العبد ؛ لأن ملكه غير مستقر. والعراقي يقول : لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى :" الله الذي خلقكم ثم رزقكم٢ " [ الروم : ٤٠ ]، فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام :( من أعتق عبدا وله مال. . . ) فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروي عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم.
الثالثة : وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الأمة طلاقها، معولا على قوله تعالى :" لا يقدر على شيء "، قال : فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شيء أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم.
والرابعة : قال أبو منصور في عقيدته٣ : الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى :" ومما رزقناهم ينفقون٤ " [ البقرة : ٣ ]. و " أنفقوا٥ مما رزقناكم " [ البقرة : ٢٥٤ ]، وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم :( جعل رزقي تحت ظل رمحي )، وقوله :( أرزاق أمتي في سنابك خيلها وأسنة رماحها ). فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب : أعلاها ما يغذي. وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله :( يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ). وفي معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفي ألسنة المحدثين : السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح.
الخامسة : قوله تعالى :" ومن رزقناه منا رزقا حسنا "، هو : المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذي لا يملك شيئا. " هل يستوون "، أي : لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان " من " ؛ لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل :" إن عبدا مملوكا "، " ومن رزقناه "، أريد بهما الشيوع في الجنس. " الحمد لله "، أي : هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه ؛ إذ لا نعمة للأصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله ؛ لأنه المنعم الخالق. " بل أكثرهم "، أي : أكثر المشركين. " لا يعلمون "، أن الحمد لي، وجميع النعمة مني. وذكر الأكثر، وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل : أي : بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون.
٢ راجع ج ١٤ ص ٤٠..
٣ العقيدة: اسم كتاب لأبي منصور الماتريدي، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة ٣٣٣ هـ..
٤ راجع ج ١ ص ١٧٧..
٥ راجع ج ٣ ص ٢٦٥..
[سورة النحل (١٦): آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) هَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَلِلْوَثَنِ، فَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ على شي هُوَ الْوَثَنُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَبْكَمُ عَبْدٌ كَانَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَيَأْبَى، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عُثْمَانُ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَثَلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمَوْلًى لَهُ كَافِرٌ. وَقِيلَ: الْأَبْكَمُ أَبُو جَهْلٍ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَنْسِيُّ، وَعَنْسٌ (بِالنُّونِ) حَيٌّ مِنْ مَذْحِجٍ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي مَخْزُومٍ رَهْطِ أَبِي جَهْلٍ، وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُعَذِّبُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُعَذِّبُ أُمَّهُ سُمَيَّةَ، وَكَانَتْ مَوْلَاةً لِأَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّمَا آمَنْتِ بِمُحَمَّدٍ لِأَنَّكِ تُحِبِّينَهُ لِجَمَالِهِ، ثُمَّ طَعَنَهَا بِالرُّمْحِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ مَاتَ فِي الْإِسْلَامِ، رَحِمَهَا اللَّهُ. مِنْ كِتَابِ النَّقَّاشِ وَغَيْرِهِ. وَسَيَأْتِي هَذَا فِي آيَةِ الْإِكْرَاهِ مُبَيَّنًا «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ لَا يَنْطِقُ بِخَيْرٍ. (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أَيْ قَوْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِمْ وَيُؤْذِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ كَافِرًا قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَبْكَمَ الْكَافِرُ، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْمُؤْمِنُ جُمْلَةً بِجُمْلَةٍ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّهُ يَعُمُّ. وَالْأَبْكَمُ الَّذِي لَا نُطْقَ لَهُ. وَقِيلَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَقِيلَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ. وَفَى التفسير إن الأبكم ها هنا الْوَثَنُ. بَيَّنَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا أَمْرَ، وَأَنَّ غَيْرَهُ يَنْقُلُهُ وَيَنْحِتُهُ فَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ الْآمِرُ بِالْعَدْلِ، الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شي. وقيل:" وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ" أَيْ ثِقْلٌ عَلَى وَلِيِّهِ وَقَرَابَتِهِ، وَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَابْنِ عَمِّهِ. وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ شَبَابِهِ | إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شديد |
[سورة النحل (١٦): آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ «٢» وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" أَيْ شَرْعَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مِمَّنْ يُحِيطُ بِالْعَوَاقِبِ وَالْمَصَالِحِ وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تُحِيطُونَ بِهَا فَلِمَ تَتَحَكَّمُونَ. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) وَتُجَازُونَ فِيهَا بِأَعْمَالِكُمْ. وَالسَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ، سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ فَيَمُوتُ الْخَلْقُ بِصَيْحَةٍ. وَاللَّمْحُ النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، يُقَالُ لَمَحَهُ لَمْحًا وَلَمَحَانًا. وَوَجْهُ التَّأْوِيلِ أَنَّ السَّاعَةَ لَمَّا كَانَتْ آتِيَةً وَلَا بُدَّ جُعِلَتْ مِنَ الْقُرْبِ كَلَمْحِ الْبَصَرِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يُرِدْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ سُرْعَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا، أَيْ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا مَثَّلَ بِلَمْحِ الْبَصَرِ لِأَنَّهُ يَلْمَحُ السَّمَاءَ مَعَ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا السَّنَةُ إِلَّا لَحْظَةٌ، وَشَبَهِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَلِكَ لَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً «٣» ". (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) لَيْسَ" أَوْ" لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّمْثِيلِ بِأَيِّهِمَا أَرَادَ الْمُمَثِّلُ. وَقِيلَ: دَخَلَتْ لِشَكِّ الْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ:" أَوْ" بِمَنْزِلَةِ بَلْ. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقدم «٤».
(٢). راجع ج ٩ ص ١٧٧.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٨٣.
(٤). راجع ج ١ ص ٢٢٤.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٨]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ذَكَرَ أَنَّ مِنْ نِعَمِهِ أَنْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ أَطْفَالًا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِشَيْءٍ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا- لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ. الثَّانِي- لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِمَّا قُضِيَ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ. الثَّالِثُ- لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِكُمْ، وتم الكلام، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أَيِ الَّتِي تَعْلَمُونَ بِهَا وَتُدْرِكُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْبُطُونِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْرَجَهُمْ، أَيْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا بِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْأَبْصَارَ لِتُبْصِرُوا بِهَا آثَارَ صُنْعِهِ، وَالْأَفْئِدَةَ لِتَصِلُوا بِهَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ." وَالْأَفْئِدَةَ" جَمْعُ الْفُؤَادِ نَحْوَ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ:" وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ" إِثْبَاتُ النُّطْقِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَإِذَا وُجِدَتْ حَاسَّةُ السَّمْعِ وُجِدَ النُّطْقُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ" أُمَّهاتِكُمْ" هُنَا وَفِي النُّورِ «١» وَالزُّمَرِ «٢» وَالنَّجْمِ «٣»، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ. وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَكَسَرَ الْهَمْزَةَ وَفَتَحَ الْمِيمَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْإِتْبَاعِ. الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ. وَأَصْلُ الْأُمَّهَاتِ: أُمَّاتٌ، فَزِيدَتِ الْهَاءُ تَأْكِيدًا كَمَا زَادُوا هَاءً فِي أَهْرَقْتُ الْمَاءَ وَأَصْلُهُ أَرَقْتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْفَاتِحَةِ «٤» ". (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَشْكُرُونَ نِعَمَهُ. الثَّانِي- يَعْنِي تُبْصِرُونَ آثَارَ صَنْعَتِهِ، لِأَنَّ إِبْصَارَهَا يُؤَدِّي إلى الشكر.
[سورة النحل (١٦): آية ٧٩]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٣٤.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١٠٥. [..... ]
(٤). راجع ج ١ ص ١٤٨.
[سورة النحل (١٦): آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
فِيهِ عَشْرُ «٢» مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَعَلَ لَكُمْ) مَعْنَاهُ صَيَّرَ. وَكُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ فَهُوَ سَقْفٌ وَسَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا أَقَلَّكَ فَهُوَ أَرْضٌ، وَكُلُّ مَا سَتَرَكَ مِنْ جِهَاتِكَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ جِدَارٌ، فَإِذَا انْتَظَمَتْ وَاتَّصَلَتْ فَهُوَ بَيْتٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَعْدِيدُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ فِي الْبُيُوتِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا بُيُوتَ الْمُدُنِ وَهِيَ الَّتِي لِلْإِقَامَةِ الطَّوِيلَةِ. وَقَوْلُهُ: (سَكَناً) أَيْ تَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَهْدَأُ جَوَارِحُكُمْ مِنَ الْحَرَكَةِ، وَقَدْ تَتَحَرَّكُ فِيهِ وَتَسْكُنُ فِي غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ. وَعَدَّ هَذَا فِي جُمْلَةِ النِّعَمِ فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ خَلَقَ الْعَبْدَ مُضْطَرِبًا أَبَدًا كَالْأَفْلَاكِ لَكَانَ ذَلِكَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، لَوْ خَلَقَهُ سَاكِنًا كَالْأَرْضِ لَكَانَ كَمَا خَلَقَ وَأَرَادَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَدَهُ خَلْقًا يَتَصَرَّفُ لِلْوَجْهَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَرَدَّدَهُ كَيْفَ وَأَيْنَ. وَالسَّكَنُ مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بيوت القلة والرحلة وهى:
(٢). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
ظَعَنَ الَّذِينَ فِرَاقُهُمْ أَتَوَقَّعُ | وَجَرَى بِبَيْنِهِمُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ |
أَلَا هَلْ هَاجَكَ الْأَظْعَانُ إِذْ بَانُوا | وَإِذْ جَادَتْ بِوَشْكِ الْبَيْنِ غِرْبَانُ |
أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا | بِذِي الزِّيِّ الْجَمِيلِ مِنَ الْأَثَاثِ |
(٢). من ج وى.
" قَالَ الْخَلِيلُ: مَتَاعًا مُنْضَمًّا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، مِنْ أَثَّ إِذَا كَثُرَ. قَالَ:
وَفَرْعٌ يَزِينُ المتن أسود فاحم | أثيث كقنو النخلة المتعثكل «٣» |
(٢). راجع ج ٧ ص ١٨٢.
(٣). البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم): العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته.
(٢). راجع ج ٦ ص ٤٧.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٥٨.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٨.
(٣). راجع ج ٩١ ص ١٨٨. [..... ]
(٤). في أ، ج، ح، و: الجمل.
(٥). اضطربت الأصول في عد هذه المسائل.
(٢). أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لأنه زي العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود محشوة تجعل على الرحل.
وَفَرْعٌ يَزِينُ المتن أسود فاحم | أثيث كقنو النخلة المتعثكل |
أَهَاجَتْكَ الظَّعَائِنُ يَوْمَ بَانُوا | بذي الزي الجميل من الأثاث |
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ظِلالًا) الظِّلَالُ: كُلُّ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ مِنَ الْبُيُوتِ وَالشَّجَرِ. وَقَوْلُهُ" مِمَّا خَلَقَ" يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ الْمُظِلَّةِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (أَكْناناً) الأكنان: جمح كِنٍّ، وَهُوَ الْحَافِظُ مِنَ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ هُنَا الْغِيرَانُ فِي الْجِبَالِ، جَعَلَهَا الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عَنِ الْخَلْقِ فِيهَا. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِي.. الْحَدِيثَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ | مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ |
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا | أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي |
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ | أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي |
(٢). أي حاذق سريع الفهم، لقن حسن التلقن لما يسمعه.
(٣). من الكيد، أي يطلب بهما ما فيه المكروه.
(٤). أي شاة تحلب أناء بالغداة وأثناء بالعشي.
(٥). الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمة. وينعق: يصيح.
(٦). يقول محققة: ذكر الله لهم تلك النعم وهى دالة على ما يقابلها على سبيل الاكتفاء. والقطنم مشهور باليمن ومنه الثياب السحولية وكذا صحار ومنه كفن عبية السلام فيثوبين صحاريين. وكذا الثلج في جبال ببلاد العرب.
[سورة النحل (١٦): آية ٨٢]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ والاستدلال والايمان. (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فإلينا.
[سورة النحل (١٦): آية ٨٣]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي يعرفون بوته" ثُمَّ يُنْكِرُونَها" وَيُكَذِّبُونَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرِيدُ مَا عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ النِّعَمِ، أَيْ يَعْرِفُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيُنْكِرُونَهَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ وَرِثُوا ذَلِكَ عَنْ آبَائِهِمْ. وَبِمِثْلِهِ قَالَ قَتَادَةُ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا فُلَانٌ مَا أَصَبْتُ كَذَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ النَّفْعَ وَالضُّرَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَّفَهُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ كُلِّهَا عَرَفُوهَا وَقَالُوا: نَعَمْ، هِيَ كُلُّهَا نِعَمٌ مِنَ الله، ولكنها (هامش)
(٢). لامة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفا. في ى: حربه. [..... ]
[سورة النحل (١٦): آية ٨٤]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) نَظِيرُهُ:" فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ فِي الِاعْتِذَارِ وَالْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» «٣» وَذَلِكَ حِينَ تُطْبِقُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ" الْحِجْرِ «٤» " وَيَأْتِي. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يَعْنِي يُسْتَرْضَوْنَ، أَيْ لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ، وَلَا يُتْرَكُونَ إِلَى رُجُوعِ الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْعَتْبِ وَهِيَ الْمَوْجِدَةُ، يُقَالُ: عَتَبَ عَلَيْهِ يَعْتِبُ إِذَا وَجَدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَاوَضَهُ مَا عَتَبَ عَلَيْهِ فِيهِ قِيلَ عَاتَبَهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَسَرَّتِكَ فَقَدْ أَعْتَبَ، وَالِاسْمُ الْعُتْبَى وَهُوَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يرضى العاتب، قال الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنْ كُنْتُ مَظْلُومًا فَعَبْدًا ظَلَمْتَهُ | وَإِنْ كُنْتَ ذَا عُتْبَى فَمِثْلُكَ يُعْتِبُ |
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أَيْ أَشْرَكُوا. (الْعَذابَ) أَيْ عَذَابَ جَهَنَّمَ بِالدُّخُولِ فِيهَا. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أَيْ لَا يُمْهَلُونَ، إِذْ لا توبة لهم ثم.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٩٧.
(٣). راجع ج ١٩ ص ١٦٤.
(٤). راجع ج ٣٠ ص فما بعد من هذا الجزء.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أَيْ أَصْنَامَهُمْ وَأَوْثَانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَعْبُودِيهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُمْ حَتَّى يُورِدُوهُمُ النَّارَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:" مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ" الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «١»، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ:" فَيُمَثَّلُ لِصَاحِبِ الصَّلِيبِ صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصَاوِيرِ تَصَاوِيرُهُ وَلِصَاحِبِ النَّارِ نَارُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «٢». (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أَيِ الَّذِينَ جَعَلْنَاهُمْ لَكَ شُرَكَاءُ. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أَيْ أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الْآلِهَةُ الْقَوْلَ، أَيْ نَطَقَتْ بِتَكْذِيبِ مَنْ عَبَدَهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آلِهَةً، وَلَا أمرتهم بعبادتها، في، نطق اللَّهُ الْأَصْنَامَ حَتَّى تَظْهَرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَضِيحَةُ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ. (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِعَذَابِهِ وَخَضَعُوا لِعِزِّهِ. وَقِيلَ: اسْتَسْلَمَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ زَالَ عَنْهُمْ مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ مِنْ شفاعة آلهتهم.
[سورة النحل (١٦): آية ٨٨]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
(٢). راجع الحديث في سنن الترمذي في باب صفة الجنة.
[سورة النحل (١٦): آية ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ شُهَدَاءُ عَلَى أُمَمِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فِي كُلِّ زَمَانٍ شَهِيدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَفِيهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ هُمْ خُلَفَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّانِي- أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ حَفِظَ اللَّهُ بِهِمْ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا لَمْ تَكُنْ فَتْرَةً إِلَّا وَفِيهَا مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ، كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَزَيْدِ بن عمرو ابن نُفَيْلٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ"، وَسَطِيحٍ «٢»، وَوَرَقَةَ ابن نَوْفَلٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَأَيْتُهُ يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ". فَهَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ مِثْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَهْلِ زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله:" وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ" تقدم في البقرة والنساء «٣». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) نَظِيرُهُ:" مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «٤» " وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تبيانا للحلال والحرام.
(٢). هو كاهن بنى ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه: ربيع بن ربيعة. (راجع سيرة ابن هشام ص ٩ طبع أوربا).
(٣). راجع ج ٣ ص ١٥٤ وج ٥ ص ١٩٧.
(٤). راجع ج ٦ ص ٤١٩.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَرَأْتُهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَعَجَّبَ فَقَالَ: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَفِي حَدِيثٍ- إِنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" الْآيَةَ، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" إلى آخرها، فقال: يا بن أَخِي أَعِدْ! فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُورِقٌ، وَأَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ بَشَرَ!. وَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ هُوَ الْقَارِئُ. قَالَ عُثْمَانُ: مَا أَسْلَمْتُ ابْتِدَاءً إِلَّا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنَا عِنْدَهُ فَاسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي، فَقَرَأَتْهَا عَلَى الْوَلِيدِ بن المغيرة فقال: يا بن أَخِي أَعِدْ! فَأَعَدْتُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ،... وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذِهِ أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِخَيْرٍ يُمْتَثَلُ، وَلِشَرٍّ يُجْتَنَبُ. وَحَكَى النَّقَّاشُ قَالَ: يُقَالُ زَكَاةُ الْعَدْلِ الْإِحْسَانُ، وَزَكَاةُ الْقُدْرَةِ الْعَفْوُ، وَزَكَاةُ الْغِنَى الْمَعْرُوفُ، وَزَكَاةُ الْجَاهِ كَتْبُ الرَّجُلِ إِلَى إِخْوَانِهِ. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَدْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِحْسَانُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ. وَقِيلَ: الْعَدْلُ الْفَرْضُ، وَالْإِحْسَانُ النَّافِلَةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْعَدْلُ ها هنا اسْتِوَاءُ السَّرِيرَةِ، وَالْإِحْسَانُ أَنْ تَكُونَ السَّرِيرَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ. عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ، وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
(٢). في ى: عزوف.
«١» وَقَوْلُهُ:" إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ «٢» " الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أَيِ الْقَرَابَةِ، يَقُولُ: يُعْطِيهِمُ الْمَالَ كَمَا قَالَ:" وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «٣» " يَعْنِي صِلَتَهُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِي إِيجَابِ إِيتَاءِ الْمُكَاتَبِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِنَّمَا خَصَّ ذَا الْقُرْبَى لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ أَوْكَدُ وَصِلَتَهُمْ أَوْجَبُ، لِتَأْكِيدِ حَقِّ الرَّحِمِ الَّتِي اشْتَقَّ اللَّهُ اسْمَهَا مِنَ اسْمِهِ، وَجَعَلَ صِلَتَهَا مِنْ صِلَتِهِ، فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ:" أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ «٤» ". وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) الْفَحْشَاءُ: الْفُحْشُ، وَهُوَ كُلُّ قَبِيحٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. ابن عباس: هو الزنى. وَالْمُنْكَرُ: مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ وَالدَّنَاءَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا. وَقِيلَ هُوَ الشِّرْكُ. وَالْبَغْيُ: هُوَ الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ وَالْحِقْدُ وَالتَّعَدِّي، وَحَقِيقَتُهُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْمُنْكَرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِهِ لِشِدَّةِ ضَرَرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا ذَنْبَ أَسْرَعَ عُقُوبَةً مِنْ بَغْيٍ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" الْبَاغِي مَصْرُوعٌ". وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ مَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ. وَفَى بَعْضُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ: لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجُعِلَ الْبَاغِي مِنْهُمَا دكا.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٥٥. [..... ]
(٣). راجع ص ٢٤٧ من هذا الجزء
(٤). راجع صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة محمد وكتاب الأدب والتوحيد. وصحيح مسلم في كتاب الأدب.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٨٩.
(٣). راجع ص ٢٠٠ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٣٨.
(٥). راجه ج ٤ ص ٣٧.
[سورة النحل (١٦): آية ٩١]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) لَفْظٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يُعْقَدُ بِاللِّسَانِ ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الآية مضمن قوله:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ" لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهَا: افْعَلُوا كَذَا، وَانْتَهُوا عَنْ كَذَا، فَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْتِزَامِ الْحِلْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالْوَفَاءِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالْعُمُومُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً" يَعْنِي فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِهِ وَالْمُوَاسَاةِ. وَهَذَا كَنَحْوِ حِلْفِ الْفُضُولِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ «١»، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، أَيْ حِلْفَ الْفَضَائِلِ. وَالْفُضُولُ هُنَا جَمْعُ فَضْلٍ لِلْكَثْرَةِ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرُ النَّعَمِ لَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لا جبت". وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ لَهُ، لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا أَحْلِفُ وَاللَّهِ لَئِنْ دَعَانَا «٢» لَآخُذَنَّ سَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وبلغت
(٢). في سيرة ابن هشام:" لئن دعا به".
(٢). من و.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٦٤.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٢]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) النَّقْضُ وَالنَّكْثُ وَاحِدٌ، وَالِاسْمُ النِّكْثُ وَالنَّقْضُ، وَالْجَمْعُ الْأَنْكَاثُ فَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّذِي يَحْلِفُ وَيُعَاهِدُ وَيُبْرِمُ عَهْدَهُ ثُمَّ يَنْقُضُهُ بِالْمَرْأَةِ تَغْزِلُ غَزْلَهَا وَتَفْتِلُهُ مُحْكَمًا ثُمَّ تَحُلُّهُ. وَيُرْوَى أَنَّ امْرَأَةً حَمْقَاءَ كَانَتْ بِمَكَّةَ تُسَمَّى رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَبِهَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ، وَحَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَالسُّدِّيُّ وَلَمْ يُسَمِّيَا الْمَرْأَةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَذَلِكَ ضَرْبُ مَثَلٍ، لَا عَلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وأَنْكاثاً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالدَّخَلُ: الدَّغَلُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْغِشُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَهُوَ دَخَلٌ. (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَتِ الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ إِذْ حَالَفَتْ أُخْرَى، ثُمَّ جَاءَتْ إِحْدَاهُمَا قَبِيلَةٌ كَثِيرَةٌ «١» قَوِيَّةٌ فَدَاخَلَتْهَا غَدَرَتِ الْأُولَى وَنَقَضَتْ عَهْدَهَا وَرَجَعَتْ إِلَى هَذِهِ الْكُبْرَى- قَالَهُ مُجَاهِدٌ- فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تَنْقُضُوا الْعُهُودَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ طَائِفَةً أَكْثَرُ مِنْ طَائِفَةٍ أُخْرَى أَوْ أَكْثَرُ أَمْوَالًا فَتَنْقُضُونَ أَيْمَانَكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْكَثْرَةَ وَالسَّعَةَ فِي الدُّنْيَا لِأَعْدَائِكُمُ الْمُشْرِكِينَ. وَالْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى لَا تَغْدِرُوا بِقَوْمٍ لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِكُمْ أَوْ لِقِلَّتِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ، وَقَدْ عَزَّزْتُمُوهُمْ بِالْأَيْمَانِ. (أَرْبى) أَيْ أَكْثَرُ، من ربى الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا كَثُرَ. وَالضَّمِيرُ فِي" بِهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْوَفَاءِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الرِّبَاءِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالتَّحَاسُدِ وَطَلَبِ بَعْضِهِمُ الظُّهُورَ عَلَى بَعْضٍ، وَاخْتَبَرَهُمْ بِذَلِكَ مَنْ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ فَيُخَالِفُهَا مِمَّنْ يَتَّبِعُهَا وَيَعْمَلُ بِمُقْتَضَى هَوَاهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من البعث وغيره.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أَيْ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ، عَدْلًا مِنْهُ فِيهِمْ. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ، فَضْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ بَلْ تُسْأَلُونَ أَنْتُمْ. وَالْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّامُ فِي" وَلَيُبَيِّنَنَّ ولَتُسْئَلُنَّ" مَعَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ يَدُلَّانِ عَلَى قَسَمٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَاللَّهِ ليبينن لكم ولتسئلن.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٤]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا. (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ فِي الدِّينِ وَتَرَدُّدِهِ فِي مُعَاشَرَاتِ النَّاسِ، أَيْ لَا تَعْقِدُوا الْأَيْمَانَ بِالِانْطِوَاءِ عَلَى الْخَدِيعَةِ وَالْفَسَادِ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، أَيْ عَنِ الْأَيْمَانِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ. وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْمُسْتَقِيمِ الْحَالِ يَقَعُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ وَيَسْقُطُ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَدَمَ إِذَا زَلَّتْ نَقَلَتِ الْإِنْسَانَ مِنْ حَالِ خَيْرٍ إِلَى حَالِ شَرٍّ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
سَيُمْنَعُ مِنْكَ السَّبْقُ إِنْ كُنْتَ سَابِقًا | وَتُقْتَلُ إِنْ زَلَّتْ بِكَ الْقَدَمَانِ |
فلما توافَيْنَا ثَبَتُّ وزَلَّتِ
والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة : زلت قدمه، كقول الشاعر :
سيمنع منك السَّبْقُ إن كنت سابقا*** وتُقْتَلُ إن زلت بك القدمانِ
ويقال لمن أخطأ في شيء : زل فيه. ثم توعد تعالى بعدُ بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الإيمان، ولهذا قال :" وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله "، أي : بصدكم. وذوق السوء في الدنيا، هو ما يحل بهم من المكروه.
[سورة النحل (١٦): الآيات ٩٥ الى ٩٦]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) نَهَى عَنِ الرُّشَا وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، أَيْ لَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ لِعَرَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا كَانَ قَلِيلًا وَإِنْ كَثُرَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَزُولُ، فَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ قَلِيلٌ، وهو المراد بقوله:" مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ" فَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الدُّنْيَا وَحَالِ الْآخِرَةِ بِأَنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وَتُحَوَّلُ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِهِ وَنَعِيمِ جَنَّتِهِ ثَابِتٌ لَا يَزُولُ لِمَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ وَثَبَتَ عَلَى الْعَقْدِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
الْمَالُ يَنْفَدُ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ... يَوْمًا وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامُهُ
لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لِإِلَهِهِ «١»... حَتَّى يَطِيبَ شَرَابُهُ وَطَعَامُهُ
آخَرُ:
هَبِ الدُّنْيَا تُسَاقُ إِلَيْكَ عَفْوًا... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إِلَى انْتِقَالِ
وَمَا دُنْيَاكَ إِلَّا مثل في... أَظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِالزَّوَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) أَيْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَاتِ وَعَنِ المعاصي. أَيْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَجَعَلَهَا أَحْسَنَ لِأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحُسْنِ مُبَاحٌ، وَالْجَزَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ حَيْثُ الْوَعْدِ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ كَثِيرٍ" وَلَنَجْزِيَنَّ" بِالنُّونِ عَلَى التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية" وَلا تَشْتَرُوا" أي هنا نزلت في امرئ القيس بم عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ وَخَصْمِهِ ابْنِ أَسْوعَ «٢»، اخْتَصَمَا فِي أَرْضٍ فَأَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ فَلَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ نَكَلَ وَأَقَرَّ لَهُ بِحَقِّهِ، والله أعلم.
ليس التقى بمن يمير بأهله
وفي ى: يميز، والتثويب عن أدب الدنيا والدين ص ٢١٢ طبع بولاق. [..... ]
(٢). الذي في كتب الصحابة في ترجمة امرى القيس بن عابس أنه ربيعة بن عيدان. وقال صاحب كتاب الإصابة في ترجمة عيدان بن أسوغ:" ذكر مقاتل في تفسيره أنه الذي حاصر امرأ القيس بن عابس الكندي في أرضه، وفية نزلت" إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ... " الآية.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَفِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ الرِّزْقُ الْحَلَالُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ. الثَّانِي- الْقَنَاعَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ وَهْبٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَرَوَاهُ الْحَكَمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّالِثُ- تَوْفِيقُهُ إِلَى الطَّاعَاتِ فَإِنَّهَا تُؤَدِّيهِ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فِي فَاقَةٍ وَمَيْسَرَةٍ فَحَيَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وَلَا عَمِلَ صَالِحًا فَمَعِيشَتُهُ ضَنْكٌ لَا خَيْرَ فِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ السَّعَادَةُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ أَنْ يُنْزَعَ عَنِ الْعَبْدِ تَدْبِيرُهُ وَيُرَدُّ تَدْبِيرُهُ إِلَى الْحَقِّ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، وَصِدْقُ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْخَلْقِ وَالِافْتِقَارُ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ. (بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ). وَقَالَ:" فَلَنُحْيِيَنَّهُ" ثُمَّ قَالَ:" وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ" لِأَنَّ" مَنْ" يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَأَعَادَ مَرَّةً عَلَى اللَّفْظِ ومرة على المعنى. وقد تقدم. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَفْضَلُ، وَقَالَ هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت.
[سورة النحل (١٦): آية ٩٨]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
فِيهِ مُسَالَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ:" وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ" فَإِذَا أَخَذْتَ فِي قِرَاءَتِهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَعْرِضَ لَكَ الشَّيْطَانُ فَيَصُدَّكَ عن
٢ راجع ج ٥ ص ٣٧٣..
٣ راجع ج ٧ ص ١٣٧..
٤ راجع ج ١٤ ص ٢٢٧..
٥ راجع ج ٦ ص ٨٠..
٦ راجع ج ١ ص ٨٦..
«٣» وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «٤» " وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَسْأَلَهَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بَعْدَ سُؤَالِ مُتَقَدِّمٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِذَا قُلْتَ فَاصْدُقْ، وَإِذَا أَحْرَمْتَ فَاغْتَسِلْ، يَعْنِي قَبْلَ الْإِحْرَامِ. وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ: إِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى «٥»، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الاستعاذة مستوفى «٦».
[سورة النحل (١٦): الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ بِالْإِغْوَاءِ وَالْكُفْرِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بِحَالٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى صرف
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٧٣.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٣٧.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٢٢٧.
(٥). راجع ج ٦ ص ٨٠.
(٦). راجع ج ١ ص ٨٦.
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) قِيلَ: الْمَعْنَى بَدَّلْنَا شَرِيعَةً مُتَقَدِّمَةً بِشَرِيعَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. مُجَاهِدٌ: أَيْ رَفَعْنَا آيَةً وَجَعَلْنَا مَوْضِعَهَا غَيْرَهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَسَخْنَا آيَةً بِآيَةٍ أَشَدَّ مِنْهَا عَلَيْهِمْ. وَالنَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ رَفْعُ الشَّيْءِ مع وضع غير مَكَانَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي النَّسْخِ فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «٣». (قالُوا) يُرِيدُ كُفَّارَ قُرَيْشٍ. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أَيْ كَاذِبٌ مُخْتَلِقٌ، وَذَلِكَ لِمَا رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ الْأَحْكَامَ وَتَبْدِيلَ البعض بالبعض. وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٤٨.
(٣). راجع ج ٢ ص ٦١ وما بعدها.
[سورة النحل (١٦): آية ١٠٣]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) اخْتُلِفَ فِي اسْمِ هَذَا الَّذِي قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ، فَقِيلَ: هُوَ غُلَامٌ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَاسْمُهُ جَبْرٌ، كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَضَى وَمَا هُوَ آتٍ مَعَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ جَبْرٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أَيْ كَيْفَ يُعَلِّمُهُ جَبْرٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أَنْ يُعَارِضُوا مِنْهُ سُورَةً وَاحِدَةً فَمَا فَوْقَهَا. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ مَوْلَى جَبْرٍ كَانَ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ، بَلْ هُوَ يُعَلِّمُنِي وَيَهْدِينِي. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، عَبْدُ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: اسْمُهُ يَعِيشُ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقِّنُهُ القرآن، ذكره المارودي. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ غُلَامٌ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ يَعِيشُ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ الْأَعْجَمِيَّةَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، فَنَزَلَتْ. المهدوي عن عكرمة:
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٢٨.
لِسَانَ الشَّرِّ تُهْدِيهَا إِلَيْنَا | وَخُنْتَ وَمَا حَسِبْتُكَ أَنْ تَخُونَا |
[سورة النحل (١٦): آية ١٠٤]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ (لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.)
[سورة النحل (١٦): آية ١٠٥]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ١٠٥ (قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) هَذَا جَوَابُ وَصْفِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِافْتِرَاءِ. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْكَذِبِ، أَيْ كُلُّ كَذِبٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَذِبِهِمْ. وَيُقَالُ: كَذَبَ فُلَانٌ وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ كَاذِبٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ لازما. فأما النعت فيكون لازم وَلِهَذَا يُقَالُ: عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ عَاصٍ غَاوٍ. فَإِذَا قِيلَ: كَذَبَ فُلَانٌ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَانَ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ بالكذب، قاله القشيري.
[سورة النحل (١٦): آية ١٠٦]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها" فَكَانَ مُبَالَغَةً فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَرْتَدُّوا عَنْ بَيْعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَارْتَدَّ فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سرح ومقيس بن ضبابة وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ «١»، وَقَيْسِ بْنِ الْوَلِيدِ بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ" بَدَلٌ مِمَّنْ يَفْتَرِي الْكَذِبَ، أَيْ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، لِأَنَّهُ رَأَى الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرَ تَامٍّ فَعَلَّقَهُ بِمَا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" مَنْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، اكْتُفِيَ مِنْهُ بِخَبَرٍ" مَنِ" الثَّانِيَةِ، كَقَوْلِكَ: مَنْ يَأْتِنَا مَنْ يُحْسِنُ نُكْرِمْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ قَارَبَ بَعْضَ مَا نَدَبُوهُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَخَذُوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ، وَرُبِطَتْ سُمَيَّةُ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَوُجِئَ قُبُلُهَا بِحَرْبَةٍ، وَقِيلَ لَهَا إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ الرِّجَالِ، فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ، وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا عَمَّارٌ فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ"؟ قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ". وَرَوَى مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ شَهِيدَةٍ فِي الْإِسْلَامِ أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول
(٢). الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة،. هما أبو قبيس والأحمر.
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٤٥.
(٣). راجع ج ٥ ص ٣٤٥.
، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقَّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا أُحْصِنَّ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
(٢). عبارة الموطأ:" أو جاءت تدمى إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أوتيت وعلى ذلك... " إلخ.
(٢). ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرا، في شرح القسطلاني، كتاب اليبوع ج ٤ ص ١٢٢ طبعه بولاق. الغط هنا هو العصر الشديد والكبس، والركض الضرب بالرجل.
(٢). المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء. وأعرض الكلام ومعارضة ومعاريضه: كلام يشبه بعضه بعضا في المعاني.
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى | مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ «٣» |
(٢). هو طليحة ابن خويلد بن نوفل الأسدي، ارتد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادعى النبوة ثم أسلم. [..... ]
(٣). الرتم (بالتاء والثاء): الدق والكسر. ويريد بالنبي المكان المرتفع. والكائب: الرمل المجتمع.
(٤). يريد الإسلام.
(٢). عبارة الدر المنثور: (" أما صاحبك فمضى على إيمانه".)
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
(٢). البعث: الجيش.
(٣). هذا المصدر لم تورده كتب اللغة في هذه المادة.
[سورة النحل (١٦): آية ١١٠]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) هَذَا كُلُّهُ فِي عمار. عَلَى الْجِهَادِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَذَّبُوهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ «٢». وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاسْتَجَارَ بِعُثْمَانَ فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي سُورَةِ النَّحْلِ." مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ" فَنَسَخَ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:" ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ عَلَى مِصْرَ،. كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سُورَةَ النحل (١٦): آية ١١١]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١)
(٢). راجع ص ١٨٠ من هذا الجزء.
[سورة النحل (١٦): آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
[سورة النحل (١٦): آية ١١٣]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
(٢). من ج وى.
[سورة النحل (١٦): آية ١١٤]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أَيْ كُلُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ بِطَعَامٍ رِقَّةً عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتُلُوا بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ، وَقَطَعَ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلُوا الْعِظَامَ الْمُحْرَقَةَ وَالْجِيفَةَ وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِلْهِزَ، وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ. ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا «١» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَهِدُوا وَقَالُوا: هَذَا عَذَابُ الرِّجَالِ فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْعَفْوِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَذِنَ لِلنَّاسِ «٢» بِحَمْلِ الطعام إليهم وهم بعد مشركون.
[سورة النحل (١٦): آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" الْقَوْلُ فِيهَا مُسْتَوْفًي «٣».
[سورة النحل (١٦): الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
(٢). في ى: أمر الناس.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢١٦ وما بعدها.
[سورة النحل (١٦): آية ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا" بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ حَلَالٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَمَّا اليهود فحرمت عليهم منها أشياء. (حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ" أَيْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ «٢». (وَما ظَلَمْناهُمْ) أَيْ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ عُقُوبَةً لهم، كما تقدم في النساء «٣».
[سورة النحل (١٦): آية ١١٩]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أَيِ الشِّرْكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي النساء «٤».
[سورة النحل (١٦): آية ١٢٠]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) دَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ كَانَ أَبَاهُمْ وَبَانِيَ الْبَيْتِ الَّذِي بِهِ عِزُّهُمْ، وَالْأُمَّةُ: الرَّجُلُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَحَامِلُهُ «٥». وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود
(٢). راجع ج ٧ ص ١٢٤.
(٣). راجع ج ٦ ص ١٢.
(٤). راجع ج ٥ ص ٩٢.
(٥). راجع ج ٢ ص ١٢٧.
٢ ج ٢ ص ٨٦ و ج ٣ ص ٢١٣..
٣ ذكر في الأنعام في موضعين (ج ٧ ص ٢٨، ١٥٢). ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما تكلم عليه في سورة البقرة ج ٢ ص ١٣٩ فراجعه..
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: شاكِراً أَيْ كَانَ شَاكِرًا. (لِأَنْعُمِهِ) الْأَنْعُمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. و (اجْتَباهُ) أَيِ اخْتَارَهُ. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قِيلَ: الْوَلَدُ الطَّيِّبُ. وَقِيلَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ مَقْرُونَةٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّشَهُّدِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ أَهْلُ دِينٍ إِلَّا وَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُ. وَقِيلَ: بَقَاءُ ضِيَافَتِهِ وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّهُ وَزَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)." مِنْ" بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا مَعَ الصَّالِحِينَ. وَقَدْ تقدم هذا في البقرة «٣»
[سورة النحل (١٦): آية ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مَنَاسِكَ الْحَجِّ كَمَا عَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالتَّزَيُّنِ بِالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ فِي جَمِيعِ مِلَّتِهِ إِلَّا مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالصَّحِيحُ الِاتِّبَاعُ فِي عَقَائِدِ الشَّرْعِ دُونَ الْفُرُوعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً»
".
(٢). ذكر في الانعام في موضعين، (ج ٧ ص ٢٨، ١٥٢) ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما تكلم عليه في سورة البقرة ج ٢ ص ١٣٩ فراجعه.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٣٣.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢١١.
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول - لما تقدم في الأصول - والعمل به، ولا درك٢ على الفاضل في ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال :" فبهداهم اقتده٣ " [ الأنعام : ٩٠ ]. وقال هنا :" ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ".
٢ الدرك: التبعة..
٣ راجع ج ٧ ص ٣٥..
[سورة النحل (١٦): آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا فِي دِينِهِ، بَلْ كَانَ سَمْحًا لَا تَغْلِيظَ فِيهِ، وَكَانَ السَّبْتُ تَغْلِيظًا عَلَى الْيَهُودِ فِي رَفْضِ الْأَعْمَالِ وترك التبسيط فِي الْمَعَاشِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ فَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَاحِدًا. فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ عِيدِنَا، فَاخْتَارُوا الْأَحَدَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ وَعَيَّنَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضِيلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَنَاظَرُوهُ أَنَّ السَّبْتَ أَفْضَلُ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ:" دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ". وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِتَعْظِيمِ يَوْمٍ فِي الْجُمْعَةِ فَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ فِي تَعْيِينِهِ، فَعَيَّنَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ. وَعَيَّنَتِ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ فِيهِ بِالْخَلْقِ. فَأُلْزِمَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَعَيَّنَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكِلَهُمْ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَةً، فَكَانَتْ خَيْرَ الْأُمَمِ أُمَّةً. رَوَى الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فهذا يومهم الذي
(٢). كذا في ى. وفى أوج وو: في الأصول. [..... ]
(٣). الدرك: التبعة.
(٤). راجع ج ٧ ص ٣٥.
[سورة النحل (١٦): آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِمُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ وَلِينٍ دُونَ مُخَاشَنَةٍ وَتَعْنِيفٍ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَهِيَ مُحْكَمَةٌ فِي جِهَةِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَمَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ فِي حَقِّ الْكَافِرِينَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ أَمْكَنَتْ مَعَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنَ الْكُفَّارِ وَرُجِيَ إِيمَانُهُ بِهَا دُونَ قِتَالٍ فَهِيَ فِيهِ مُحْكَمَةٌ. والله أعلم.
[سورة النحل (١٦): آية ١٢٦]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)
الأولى : أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا ؛ لأنها تتدرج الرتب من الذي يُدعى ويُوعظ، إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت. روى الدارقطني عن ابن عباس قال : لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شُقّ بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال :( لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير، لأمثلن مكانه بسبعين رجلا ) ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية :" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة - إلى قوله - واصبر وما صبرك إلا بالله " فصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية : واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة : له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ). رواه الدارقطني وقد تقدم هذا في " البقرة " مستوفى١. ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له :( أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ). وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له، كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة، نسختها :" واصبر وما صبرك إلا بالله ".
الثالثة : في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى٢. والحمد لله
الرابعة : سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، وهذا بعكس قوله :" ومكروا ومكر الله٣ " [ آل عمران : ٥٤ ] وقوله :" الله يستهزئ بهم٤ " [ البقرة : ١٥ ] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة، قاله ابن عطية.
٢ راجع ج ٣ ص ٣٥٥..
٣ راجع ج ٤ ص ٩٨..
٤ راجع ج ١ ص ٢٠٧..
[سورة النحل (١٦): الآيات ١٢٧ الى ١٢٨]
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. أَيِ اصْبِرْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُعَاقَبَةِ بِمِثْلِ مَا عَاقَبُوا فِي الْمُثْلَةِ. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ فَإِنَّهُمْ صَارُوا إِلَى رحمة الله. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) ضَيْقٍ جَمْعُ ضَيْقَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَشَفَ الضَّيْقَةَ عنا وفسح «٤»
(٢). راجع ج ٤ ص ٩٨.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٠٧.
(٤). هذا عجز بيت للأعشى. وصدره في اللسان وديوانه:
فلئن ربك من رحمته
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ «٢» " نزلت حِينَ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ، وَحِينَ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتْ هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى" إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ" الْآيَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ" إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ" الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ [وَمَرْيَمَ]: إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُنَّ من تلادي، يريد من قديم كسبه.
(٢). راجع ص ٣٠١، وص ٣٢١، وص ٢٨١ فما بعد، وص ٣٤٠ من هذا الجزء.
سورة النحل
سورةُ (النَّحْلِ) مِن السُّوَر المكية التي بيَّنتْ عظمةَ الله عز وجل وقُدْرتَه في هذا الكون، وقد جاءت بأدلةٍ وإثباتات على وَحْدانية الله عز وجل، لا سيما بديع صُنْعِه في خَلْقِه؛ ومن ذلك: إيحاؤه للنَّحْلِ أن تصنعَ بيوتها بهذه الكيفية وهذه الطريقة، وكذا ما أودَعه اللهُ عز وجل في هذا المخلوقِ من أسرارٍ وعجائبَ تدلُّ على قدرته تعالى، وتفرُّدِه في الألوهية، وقد جاءت السورةُ على ذِكْرِ مشاهدِ يوم القيامة، وما يَتبَع ذلك اليومَ من أهوالٍ.
ترتيبها المصحفي
16نوعها
مكيةألفاظها
1845ترتيب نزولها
70العد المدني الأول
128العد المدني الأخير
128العد البصري
128العد الكوفي
128العد الشامي
128* قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]:
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، أُصِيبَ مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رجُلًا، ومِن المهاجِرِين سِتَّةٌ؛ منهم حَمْزةُ، فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منهم يومًا مِثْلَ هذا، لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قال: فلمَّا كان يومُ فَتْحِ مكَّةَ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]، فقال رجُلٌ: لا قُرَيشَ بعد اليومِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كُفُّوا عن القومِ إلا أربعةً»». سنن الترمذي (٣١٢٩).
سورةُ (النَّحْلِ):
سُمِّيتْ سورةُ (النَّحْلِ) بذلك؛ لذِكْرِ النَّحْلِ فيها، ولم يُذكَرْ في سورةٍ أخرى غيرِها.
اشتمَلتِ السورةُ على عدَّة موضوعات؛ بيانها كالآتي:
1. إثبات وَحْدانية الله تعالى (١-٢).
2. أدلة على وحدانيته تعالى (٣-١٦).
3. اللهُ الخالق المنعم القادر، وعَجْزُ المعبودين غيرِه (١٧- ٢١).
4. ذمُّ المتكبِّرين، ومدحُ المتقين (٢٢-٣٥).
5. عاقبة المكذِّبين بالرُّسل واليوم الآخر، وجزاء المؤمنين (٣٦- ٥٠).
6. أدلةٌ أخرى على توحيد الألوهية (٥١- ٦٤).
7. تتمة نِعَم الله الدالة على التوحيد، يَتخلَّلها ضربُ الأمثلة (٦٦-٨٣).
8. من مشاهدِ يوم القيامة (٨٤- ٨٩).
9. توجيهات حول مكارمِ الأخلاق (٩٠- ٩٧).
10. التأدُّب بآداب القرآن، وردُّ الافتراءات (٩٨- ١١١).
11. ضربُ الأمثلة (١١٢- ١١٩).
12. أهمية الدعوة، وأساليبها (١٢٠- ١٢٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /131).
دلَّ اسمُ السورة على مقصودِها؛ وهو - كما ذكَره البقاعيُّ -: "الدَّلالة على أنَّه تعالى تامُّ القدرة والعلم، فاعلٌ بالاختيار، مُنزَّه عن شوائبِ النَّقص، وأدلُّ ما فيها على هذا المعنى: أمرُ النَّحْلِ؛ لِما ذُكِر من شأنها في دقةِ الفهم؛ في ترتيبِ بيوتها على شكل التَّسديسِ ترتيبًا لا يصل إليه أكابرُ المهندسين إلا بعد تكامُلٍ كبير، وقانونٍ يَقِيسون به ذلك التَّقدير، وذلك على وجهٍ هو أنفَعُ الوجوه لها، وفي رَعْيِها، وسائر أمرها؛ من اختلافِ ألوان ما يخرُجُ منها مِن أعسالها وشموعها، وجَعْلِ الشَّمْعِ نورًا وضياءً، والعسلِ بركةً وشفاءً، مع أَكْلِها من كلِّ الثمار، النافعِ منها والضارِّ، وغير ذلك من الأسرار". "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /213-214).