ﰡ
الخصيم المحتج في الخصومة، والمبين هو المفصح عما في ضميره١. وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة.
الثاني : ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة.
الثالث : يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر، قاله الحسن. وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال : أنُعادُ إذا صرنا هكذا.
أحدها : أنه اللباس، قاله ابن عباس.
الثاني : ما ستدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، قاله الحسن.
الثالث : أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب، حكاه الكلبي. ﴿ ومنافِعُ ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : النسل، قاله ابن عباس.
الثاني : يعني الركوب والعمل. ﴿ ومنها تأكلون ﴾ يعني اللبن واللحم.
أحدهما : أن الرواح من المراعي إلى الأفنية، والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي.
الثاني : أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان :
أحدهما : قول الحسن إذا رأوها : هذه نَعَمُ فلان، قاله السدي.
الثاني : توجه الأنظار إليها، وهو محتمل.
وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ.
أحدهما : أنه مكة١ لأنها من بلاد الفلوات.
الثاني : أنه محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر.
﴿ إلا بشق الأنفس ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنكم لولاها ما بلغتموه إلا بشق الأنفس.
الثاني : أنكم مع ركوبها لا تبلغونه إلا بشق الأنفس، فكيف بكم لو لم تكن.
وفي شق الأنفس وجهان :
أحدهما : جهد النفس، مأخوذ من المشقة.
الثاني : أن الشق النصف فكأنه يذهب بنصف النفس.
الثاني : أنها النجوم أيضاً لأن من النجوم ما يهتدي بها، قاله مجاهد وقتادة والنخعي.
الثالث : أن العلامات الجبال. وفي ﴿ النجم ﴾ قولان :
أحدهما : أنه جمع النجوم الثابتة، فعبر عنها بالنجم الواحد إشارة إلى الجنس.
الثاني : أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه.
وفي المراد بالاهتداء بها قولان :
أحدهما : أنه أراد الاهتداء بها في جميع الأسفار، قاله الجمهور.
الثاني : أنه أراد الاهتداء به في القِبلة.
قال ابن عباس : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ وبالنجم هم يهتدون ﴾ قال " هو الجدي يا ابن عباس عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم " ١.
أحدهما : لا تحفظوها، قال الكلبي. الثاني : لا تشكروها١ وهو مأثور. ويحتمل المقصود بهذا الكلام وجهين :
أحدهما : أن يكون خارجاً مخرج الامتنان تكثيراً لنعمته أن تحصى.
الثاني : أنه تكثير لشكره أن يؤدى. فعلى الوجه الأول يكون خارجاً مخرج الامتنان. وعلى الوجه الثاني خارجاً مخرج الغفران.
﴿ مَاذَا أنزل ربكم ﴾ يحتمل القائل ذلك لهم وجهين :
أحدهما : أنه قول بعض لبعض، فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم، لأنهم منكرون لنزوله من ربهم.
والوجه الثاني : أنه من قول المؤمنين لهم اختباراً لهم، فعلى هذا يكون محمولاً على حقيقة نزوله منه.
﴿ قالوا أساطير الأولين ﴾ وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي أحاديث الأولين استرذالاً له واستهزاءَ به.
الثاني : أنه مثل ما جاء به الأولون، تكذيباً له ولجميع الرسل.
أحدهما : أن الجنة خير من النار، وهذا وإن كان معلوماً فالمراد به تبشيرهم بالخلاص منها.
الثاني : أنه أراد أن الآخرة خير من دار الدنيا، قاله الأكثرون.
﴿ ولنعم دار المتقين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولنعم دار المتقين الآخرة١. الثاني : ولنعم دار المتقين الدنيا، قال الحسن : لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة.
قيل معناه صالحين.
ويحتمل طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى.
ويحتمل وجهاً ثالثاً أن تكون وفاتهم وفاة طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض عليه روح الكافر.
﴿ يقولون سلام عليكم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون السلام عليهم إنذاراً لهم بالوفاة.
الثاني : أن يكون تبشيراً لهم بالجنة، لأن السلام أمان.
﴿ ادخلوا الجنة ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة.
الثاني : أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة.
﴿ بما كنتم تعملون ﴾ يعني في الدنيا من الصالحات.
﴿ لنبوئنهم في الدنيا حسنة ﴾ فيه أربعة أقاويل : أحدها : نزول المدينة، قاله ابن عباس والشعبي وقتادة.
الثاني : الرزق الحسن، قاله مجاهد.
الثالث : أنه النصر على عدوهم، قاله الضحاك.
الرابع : أنه لسان صدق، حكاه ابن جرير. ويحتمل قولاً خامساً : أنه ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات.
ويحتمل قولاً سادساً : أنه ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف١.
وقال داود بن إبراهيم : نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهل، وقال الكلبي : نزلت في بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرتّ عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا في الدنيا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال : هذا ما وعدكم الله في الدنيا، وما خولكم في الآخرة أكثر، ثم تلا عليهم هذه الآية.
أحدها : في إقبالهم وإدبارهم، قاله ابن بحر.
الثاني : في اختلافهم، قاله ابن عباس. الثالث : بالليل والنهار، قاله ابن جريج.
الرابع : في سفرهم.
أحدها : يعني على تنقص١ بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك.
الثاني : على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
الثالث : على عجل، وهذا قول الليث.
الرابع : أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى، قاله الحسن.
الخامس : أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم، قاله الزجاج٢. ﴿ فإن ربكم لرءُوف رحيم ﴾ [ أي لا يعاجل بل يمهل ].
لا بل هو الشوق من دار تخوفها | مرا سحاب ومرا بارح ترب |
والتخوف بمعنى التنقص في لغة هذيل..
٢ ولم يذكر الوجه السادس..
(فلم يبق إلا داخرُ في مخيس | ومنحجر في غير أرضك حُجر) |
أحدهما : أن سجوده خضوعه لله تعالى.
الثاني : أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه.
وفي تخصيص الملائكة بالذكر، وإن دخلوا في جملة من في السماوات والأرض وجهان :
أحدهما : أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها.
الثاني : لخروجهم من جملة من يدب، لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة، فلذلك ذكروا.
وجواب ثالث : أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر١.
﴿ وهم لا يستكبرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يستكبرون عن السجود لله تعالى.
الثاني : لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله.
أحدهما : يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء.
الثاني : يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات.
﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من العبادة، قاله ابن عباس.
الثاني : من الانتقام من العصاة.
(لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ | ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ) |
(لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه | يوماً بذم الدهر أجمع واصبا) |
لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ | ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ |
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه | يوماً بذم الدهر أجمع واصبا |
في ﴿ الضر ﴾ هاهنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه القحط، قاله مقاتل.
الثاني : الفقر، قاله الكلبي.
الثالث : السقم، قاله ابن عباس.
﴿ فإليه تجأرون ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : تضجون، قاله ابن قتيبة.
الثاني : تستغيثون.
الثالث : تضرعون بالدعاء، وهو في اللغة الصياح، مأخوذ من جؤار الثور، وهو صياحه.
(نهينُ النفوس وهون النفو | س يوم الكريهة أبقى لها) |
نهينُ النفوس وهون النفو | س يوم الكريهة أبقى لها٣ |
أحدهما : أنها الموءُودة التي تدس في التراب قتلاً لها.
الثاني : أنه محمول على إخفائه عن الناس حتى لا يعرفوه، كالمدسوس في التراب لخفائه عن الأبصار. وهو محتمل.
أحدهما : صفة السوء من الجهل والكفر. الثاني : وصفهم الله تعالى بالسوء من الصاحبة والولد.
﴿ ولله المَثلُ الأعلى ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : الصفة العليا بأنه خالق ورزاق وقادر ومُجازٍ. الثاني : الإخلاص والتوحيد، قاله قتادة.
(فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا | كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ) |
أحدهما : أن لهم البنين مع جعلهم لله ما يكرهون من البنات، قاله مجاهد.
الثاني : معناه أن لهم من الله الجزاء الحسن، قاله الزجاج.
﴿ لا جرم أن لهم النار ﴾، فيه أربعة أوجه :
أحدهما : معناه حقاً أن لهم النار.
الثاني : معناه قطعاً أن لهم النار.
الثالث : اقتضى فعلهم أن لهم النار.
الرابع : معناه بلى إن لهم النار، قاله ابن عباس.
﴿ وأنهم مفرطون ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه منسيون، قاله مجاهد.
الثاني : مضيّعون، قاله الحسن.
الثالث : مبعدون في النار، قاله سعيد بن جبير.
الرابع : متروكون في النار، قاله الضحاك.
الخامس : مقدَّمون إلى النار، قاله قتادة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" أنا فَرَطكم على الحوض١ " أي متقدمكم، وقال القطامي :
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا | كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ |
وقرأ نافع :﴿ مُفْرِطون ﴾ بكسر الراء وتخفيفها، ومعناه مسرفون في الذنوب، من الإفراط فيها.
وقرأ الباقون من السبعة :﴿ مفرطون ﴾ أي معجلون إلى النار متروكون فيها.
وقرأ أبو جعفر القارئ :﴿ مفَرِّطون ﴾ بكسر الراء وتشديدها، ومعناه من التفريط في الواجب.
(يصونون أجساداً قديمها نعيمُها | بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب) |
(بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم | إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ) |
٨٩ (وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا} ٩
﴿ مِن بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : خالصاً من الفرث والدم.
الثاني : أن المراد من الخالص هنا الأبيض، قاله ابن بحر، ومنه قول النابغة :
يصونون أجساداً قديمها نعيمُها | بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب |
أحدهما : حلال للشاربين.
الثاني : معناه لا تعافه النفس. وقيل : إنه لا يغص أحد باللبن١.
أحدها : أن السكر : الخمر، والرزق الحسن : التمر والرطب والزبيب. وأنزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، ثم حرمت من بعد. قال ابن عباس : السَّكر : ما حرم من شرابه، والرزق الحسن : ما حل من ثمرته، وبه قال مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير. ومن ذلك قول الأخطل :
بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم | إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ١ |
واختلف من قال بهذا، هل خرج مخرج الإباحة، أو مخرج الخبر ؟ على وجهين :
أحدهما : أنه خرج مخرج الإباحة، ثم نسخ. قاله قتادة.
الثاني : أنه خرج مخرج الخبر، أنهم يتخذون ذلك وإن لم يحل. قاله ابن عباس٢.
الثاني : أن السّكَر : النبيذ المسكر، والرزق الحسن : التمر والزبيب. قاله الشعبي والسدي.
وجعلها أهل العراق دليلاً على إباحة النبيذ.
الثالث : أن السكر : الخل بلغة الحبشة، الرزق الحسن : الطعام.
الرابع : أن السكر ما طعم من الطعام، وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب، وهو : الرزق الحسن، وبه قال أبو جعفر الطبري، وأنشد قول الشاعر :
وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا
خف القطين فر احوا منك أو بكروا | وازعجتم نوى في صرفها غير.. ٢ سقط من ق.. |
(ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت | لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ) |
(ولكنها نفس عليَّ أبيّة | عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور) |
(حفد الولائدُ حولهم وأسلمت | بأكفهن أزِمّةَ الأجمال) |
(يحفدون الضيف في أبياتهم | كرماً ذلك منهم غير ذل) |
(كلفت مجهولها نوقاً ثمانية | إذا الحداة على أكسائها حفدوا) |
أحدهما : أنه لا يملك ما لم يؤذن وإن كان باقياً معه.
الثاني : أن لسيده انتزاعه من يده، وإن كان مالكاً له. ﴿ ومَن رزقناه مِنا رزقاً حسناً ﴾، يعني : الحُرّ، وفيه وجهان :
أحدهما : ملكه ما بيده.
الثاني : تصرفه في الاكتساب على اختياره.
وفي هذا المثل قولان :
أحدهما : أنه مثل ضربه الله للكافر ؛ لأنه لا خير عنده، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، هو : المؤمن، لما عنده من الخير، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة.
الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه والأوثان ؛ لأنها لا تملك شيئاً، وإنهم عدلوا عن عبادة الله تعالى الذي يملك كل شيء، قاله مجاهد١.
(وما أدري إذا يممتُ أرضاً | أريد الخير أيهما يليني.) |
أحدهما : البيوت، قاله الكلبي.
الثاني١ : الشجر، قاله قتادة.
﴿ وجعل لكم من الجبال أكناناً ﴾، الأكنان : جمع كِنّ، وهو الموضع الذي يستكن فيه٢، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ظل الجبال.
الثاني : أنه ما فيها من غار أو شَرَف٣.
﴿ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ ﴾، يعني : ثياب القطن والكتان والصوف.
﴿ وسرابيل تقيكم بأسكم ﴾، يعني : الدروع التي تقي البأس، وهي : الحرب.
قال الزجاج : كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال٤.
فإن قيل : فكيف قال :﴿ وجعل لكم من الجبال أكناناً ﴾، ولم يذكر السهل، وقال :﴿ تقكيم الحر ﴾، ولم يذكر البرد ؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم، قاله عطاء.
الثاني : أنه اكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر، إذ كان معلوماً أن من اتخذ من الجبال أكناناً اتخذ من السهل، والسرابيل التي تقي الحر تقي البرد، قاله الفراء، ومثله قول الشاعر :
وما أدري إذا يممتُ أرضاً | أريد الخير أيهما يليني٥. |
الثالث : أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً ﴾، وذكر الحرَّ دون البرد تحذيراً من حر جهنم وتوقياً لاستحقاقها بالكف عن المعاصي. ﴿ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون٦ ﴾، أي : تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم. وقرأ ابن عباس :﴿ لعلكم تسلمون ﴾، بفتح التاء، أي : تسلمون من الضرر، فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد، واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل، واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم٧.
٢ ويقي الإنسان من المطر والريح وغير ذلك..
٣ الشرف: المكان العالي..
٤ سقط من ق..
٥ البيت للمثقب العبدي، وبعده قوله:
أ أ لخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
انظر معجم شواهد العربية للأستاذ عبد السلام هارون (النون المكسورة) وقد استشهد القرطبي بهذين البيتين في هذا الموضع دون أن ينسبهما..
٦ رويت هذه القراءة عن ابن عباس بإسناد ضعيف، وقراءة العامة بضم التاء أرجح وهي المختارة..
٧ سقط من ق..
أحدها : أنه عنى [ بالنعمة ] النبي صلى الله عليه وسلم، يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه، قاله السدي.
الثاني : أنهم يعرفون ما عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم، وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، قاله مجاهد.
الثالث : أن إنكارها أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلانٌ ما أصبت كذا، قاله عون بن عبد الله.
الرابع : أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم، وإنكارهم قولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
الخامس : يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها.
ويحتمل سادساً : يعرفونها في الشدة، وينكرونها في الرخاء.
ويحتمل سابعاً يعرفونها بأقوالهم، وينكرونها بأفعالهم. قال الكلبي : هذه السورة تسمى سورة النعم، لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه.
﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : معناه وجميعهم كافرون، فعبر عن الجميع بالأكثر، وهذا معنى قول الحسن.
الثاني : أنه قال :﴿ وأكثرهم الكافرون ﴾ ؛ لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعاً لغيره كالصبيان والمجانين، فتوجه الذكر إلى المكلفين.
أحدهما : استسلامهم لعذابه، وخضوعهم لعزه.
الثاني : إقرارهم بما كانوا ينكرون من طاعته.
﴿ وضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وبطل ما كانوا يأملون.
الثاني : خذلهم ما كانوا به يستنصرون.
أحدهما : أن الزيادة هي عذاب الدنيا، مع ما يستحق من عذاب الآخرة.
الثاني : أن أحد العذابين على كفرهم، والعذاب الآخر على صدهم عن سبيل الله ومنعهم لغيرهم من الإيمان.
﴿ بما كانوا يفسدون ﴾، في الدنيا بالمعاصي.
(أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه | نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر) |
أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه | نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر |
٢ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة قد أخلتها، غدرت الأولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى، قاله مجاهد..
أحدهما : يريد به أن الدنيا فانية، والآخرة باقية.
الثاني : أن طاعتكم تفنى، وثوابها يبقى.
أحدها : ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر، قاله سفيان.
الثاني : ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي، قاله مجاهد.
الثالث : ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم باللَّه منه، لقوله تعالى :﴿ وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه١ هو السميع العليم ﴾ [ فصلت : ٣٦ ].
الرابع : أنه ليس له عليهم سلطان بحال ؛ لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال عدو الله إبليس :﴿ ولأغوينهم أجميعن٢ إلا عبادَك منهم المخلصين٣ ﴾، فقال الله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين٤ ﴾
وفي معنى السلطان وجهان :
أحدهما : الحجة، ومنه سمي الوالي سلطاناً ؛ لأنه حجة الله تعالى في الأرض.
الثاني : أنها القدرة، مأخوذ من السُّلْطَة٥، وكذلك سمي السلطان سلطاناً لقدرته.
٢ الآيتان ٣٩ و ٤٠ من سورة الحجر..
٣ الآيتان ٣٩ و ٤٠ من سورة الحجر..
٤ آية ٤٢ من سورة الحجر..
٥ في ك: السلاطة وهو تحريف لأن السلاطة حدة اللسان..
﴿ والذين هُمْ به مشركون ﴾، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : والذين هم بالله مشركون، قاله مجاهد. الثاني : والذين أشركوا الشيطان في أعمالهم، قاله الربيع بن أنس.
الثالث : والذين هم لأجل الشيطان وطاعته مشركون، قاله ابن قتيبة.
(لسان السوء تهديها إلينا | وخُنْتَ وما حسبتُك أن تخونا) |
(فأكرمه الأقوام من كل معشر | كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم) |
أحدها : أن الحسنة النبوة، قاله الحسن.
الثاني : لسان صدق، قاله مجاهد.
الثالث : أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه، قاله قتادة.
الرابع : أنها تنويه الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه. حكاه ابن عيسى.
ويحتمل خامساً : أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره.
﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : في منازل الصالحين في الجنة.
الثاني : من الرسل المقربين١.
أحدهما : اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
الثاني : اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام، قاله أبو جعفر الطبري.
أحدهما : اصبر على ما أصابك من الأذى، وهو محتمل.
الثاني : واصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة بقتلى أُحد، قاله الكلبي.
﴿ وما صبرك إلا بالله ﴾، يحتمل وجهين :
أحدهما : وما صبر إلا بمعونة الله.
الثاني : وما صبرك إلا لوجه الله.
﴿ ولا تحزن عليهم ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : إن لم يقبلوا.
الثاني : إن لم يؤمنوا.
﴿ ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون ﴾، قرأ بن كثير :﴿ ضيق ﴾، بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح. وفي الفرق بينهما قولان :
أحدهما : أنه بالفتح ما قل، وبالكسر ما كثر، قاله أبو عبيدة.
الثاني : أنه بالفتح ما كان في الصدر، وبالكسر ما كان في الموضع الذي يتسع ويضيق، قاله الفراء.
وقوله :﴿ مع الذين اتقوا ﴾، أي : ناصر الذين اتقوا.
وقال بعض أصحاب الخواطر : من اتقى الله في أفعاله أحْسَنَ إليه في أحواله، والله أعلم.
سورة النحل
سورةُ (النَّحْلِ) مِن السُّوَر المكية التي بيَّنتْ عظمةَ الله عز وجل وقُدْرتَه في هذا الكون، وقد جاءت بأدلةٍ وإثباتات على وَحْدانية الله عز وجل، لا سيما بديع صُنْعِه في خَلْقِه؛ ومن ذلك: إيحاؤه للنَّحْلِ أن تصنعَ بيوتها بهذه الكيفية وهذه الطريقة، وكذا ما أودَعه اللهُ عز وجل في هذا المخلوقِ من أسرارٍ وعجائبَ تدلُّ على قدرته تعالى، وتفرُّدِه في الألوهية، وقد جاءت السورةُ على ذِكْرِ مشاهدِ يوم القيامة، وما يَتبَع ذلك اليومَ من أهوالٍ.
ترتيبها المصحفي
16نوعها
مكيةألفاظها
1845ترتيب نزولها
70العد المدني الأول
128العد المدني الأخير
128العد البصري
128العد الكوفي
128العد الشامي
128* قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]:
عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، أُصِيبَ مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رجُلًا، ومِن المهاجِرِين سِتَّةٌ؛ منهم حَمْزةُ، فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منهم يومًا مِثْلَ هذا، لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قال: فلمَّا كان يومُ فَتْحِ مكَّةَ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]، فقال رجُلٌ: لا قُرَيشَ بعد اليومِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كُفُّوا عن القومِ إلا أربعةً»». سنن الترمذي (٣١٢٩).
سورةُ (النَّحْلِ):
سُمِّيتْ سورةُ (النَّحْلِ) بذلك؛ لذِكْرِ النَّحْلِ فيها، ولم يُذكَرْ في سورةٍ أخرى غيرِها.
اشتمَلتِ السورةُ على عدَّة موضوعات؛ بيانها كالآتي:
1. إثبات وَحْدانية الله تعالى (١-٢).
2. أدلة على وحدانيته تعالى (٣-١٦).
3. اللهُ الخالق المنعم القادر، وعَجْزُ المعبودين غيرِه (١٧- ٢١).
4. ذمُّ المتكبِّرين، ومدحُ المتقين (٢٢-٣٥).
5. عاقبة المكذِّبين بالرُّسل واليوم الآخر، وجزاء المؤمنين (٣٦- ٥٠).
6. أدلةٌ أخرى على توحيد الألوهية (٥١- ٦٤).
7. تتمة نِعَم الله الدالة على التوحيد، يَتخلَّلها ضربُ الأمثلة (٦٦-٨٣).
8. من مشاهدِ يوم القيامة (٨٤- ٨٩).
9. توجيهات حول مكارمِ الأخلاق (٩٠- ٩٧).
10. التأدُّب بآداب القرآن، وردُّ الافتراءات (٩٨- ١١١).
11. ضربُ الأمثلة (١١٢- ١١٩).
12. أهمية الدعوة، وأساليبها (١٢٠- ١٢٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /131).
دلَّ اسمُ السورة على مقصودِها؛ وهو - كما ذكَره البقاعيُّ -: "الدَّلالة على أنَّه تعالى تامُّ القدرة والعلم، فاعلٌ بالاختيار، مُنزَّه عن شوائبِ النَّقص، وأدلُّ ما فيها على هذا المعنى: أمرُ النَّحْلِ؛ لِما ذُكِر من شأنها في دقةِ الفهم؛ في ترتيبِ بيوتها على شكل التَّسديسِ ترتيبًا لا يصل إليه أكابرُ المهندسين إلا بعد تكامُلٍ كبير، وقانونٍ يَقِيسون به ذلك التَّقدير، وذلك على وجهٍ هو أنفَعُ الوجوه لها، وفي رَعْيِها، وسائر أمرها؛ من اختلافِ ألوان ما يخرُجُ منها مِن أعسالها وشموعها، وجَعْلِ الشَّمْعِ نورًا وضياءً، والعسلِ بركةً وشفاءً، مع أَكْلِها من كلِّ الثمار، النافعِ منها والضارِّ، وغير ذلك من الأسرار". "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /213-214).