تفسير سورة الفتح

تفسير أبي السعود

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود.
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الفتح مدنية، نزلت في مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وآيها تسع وعشرون.

﴿أَنَا فتحنا لَكَ﴾ فتحُ البلدِ عبارةٌ عن الظَّفرِ به عُنوةً أو صُلحاً بحِراب أو بدونِه فإنَّه ما لم يُظفرْ به منغلقٌ مأخوذٌ من فتحِ بابِ الدارِ وإسنادُه إلى نونِ العظمةِ لاستنادِ أفعالِ العبادِ إليه تعالى خلقاً وإيجاداً والمرادُ به فتحُ مكةَ شرَّفها الله وهو المرويُّ عن أنسٌ رضيَ الله عنه بُشّر به رسول الله ﷺ عند انصرافه من الحديبيةِ والتعبيرُ عنه بصيغةِ الماضِي على سَنَنِ سائِر الأخبارِ الربانية لللإيذان بتحققهِ لا محالةَ تأكيداً للتبشيرِ كَما أنَّ تصديرَ الكلامِ بحرفِ التحقيقِ لذلكَ وفيه من الفخامةِ المنبئةِ عن عظمةِ شأنِ المخِبرِ جلَّ جلالُه وعزَّ سلطانِه ما لا يخفى وقيل هو ما أتيحَ له عليه الصلاة والسلام في تلك السنةِ من فتحِ خيبرَ وهو المرويُّ عن مجاهدٍ وقيل هو صلحُ الحديبيةِ فإنَّه وإن لم يكُن فيه حِرابٌ شديدٌ بل ترامٍ بين الفريقينِ بسهامٍ وحجارةٍ لكن لما كان الظهورُ للمسلمين حيثُ سألهم المشركون الصُّلحَ كان فتحاً بلا ريبَ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما رَمَوا المشركين حتى أدخلُوهم ديارهم وعن الكلى ظهرُواً عليهم حتى سألُوا الصُّلحَ وقد رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ حين
103
٤ ﴿
بلغه أنَّ رجلاً قال ما هذابفتح لقد صُدِدْنا عن البيت وصُدّ هدْيُنا قال بل هو أعظمُ الفتوحِ وقد رضي المشركون أنْ يدفعوكم بالراحِ ويسألوكم القَضيّةَ ويرغبُوا إليكم في الأمانِ وقد رأوا منكم ما يكرهون وعن الشعبيِّ نزلتْ بالحديبيةِ وأصاب رسول الله ﷺ في تلك الغزوةِ ما لم يُصِبْ في غزوةٍ حيثُ أصاب أن بويعَ بَيعةَ الرضوانِ وغُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخرَ وبلغ الهديُ محِلَّه وأُطعِموا نخلَ خيبرَ وظهرتِ الرُّوم على فارسَ ففرحَ به المسلمون وكان في فتح الحديبيةِ آيةٌ عظييمة هي أنه نُزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرةٌ فتمضمضَ رسولُ الله ﷺ ثم مجَّه فيها فدرَّتْ بالماءِ حتى شربَ جميعُ من كان معه وشِبعَ وقيل فجاش الماءُ حتى امتلأتْ ولم ينفدْ ماؤها بعدُ وقيل هو جميعُ ما فتحَ له عليه الصلاةُ والسلامُ من الفتوحِ وقيل هو ما فتح الله له عليه الصلاةُ والسلامُ من الإسلامِ والنبوةِ والدعوةِ بالحجةِ والسيفِ ولا فتحَ أبينُ منه وأعظمُ وهو رأسُ الفتوحِ كافةً إذ لا فتحَ من فتوحِ الإسلامِ إلا وهو شعبة من شعبةٌ وفرعٌ من فروعِه وقيل الفتحُ بمعنى القضاءِ ومنه انفتاحة للحكومةِ والمعنى قضينا لك على أهلِ مكةَ أنْ تدخلَها من قابلٍ وهو المروى عن قتادة رضى الله عنه وأيَّا ما كانَ فحذفُ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ والإيذانِ بأن مناطَ التبشيرِ نفسُ الفتحِ الصادرِ عنه سبحانَهُ لا خصوصيةُ المفتوحِ {فَتْحاً مُّبِيناً﴾
بيناً ظاهرَ الأمرِ مكشوفَ الحالِ أو فارقاً بين الحقِّ والباطلِ وقولُه تعالى
104
﴿لّيَغْفِرَ لَكَ الله﴾ غايةٌ للفتحِ منْ حيثُ إنَّه مترتبٌ على سعيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إعلاءِ كلمةِ الله تعالى بمكابدةِ مشاقِّ الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ والالتفاتُ إلى اسم الذاتِ المستتبعِ لجميعِ الصفاتِ للإشعار بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا انتظم في سلك الغايةِ من أفعالِه تعالى صادرٌ عنه تعالى من حيثيةٍ غيرِ حيثيةِ الآخرِ مترتبةٍ على صفةٍ من صفاته تعلى ﴿مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ أي جميعَ ما فرَطَ منكَ من تركِ الأَوْلى وتسميتُه ذنباً بالنظرِ إلى منصبه الجليلِ ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بإعلاءِ الدِّين وضمِّ الملكِ إلى النبوةِ وغيرهما مما أفاضَه عليه من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ﴿وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً﴾ في تبليغِ الرسالةِ وإقامةِ مراسمِ الرياسةِ وأصلُ الاستقامةِ وإن كانتْ حاصلةً قبلَ الفتحِ لكنْ حصلَ بعد ذلكَ من اتِّضاحِ سبلِ الحق واستقامة مناهجه مالم يكُنْ حاصلاً قبلُ
﴿وَيَنصُرَكَ الله﴾ إظهارُ الاسمِ الجليلِ لكونِه خاتمةَ الغاياتِ ولإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ النصرِ كما يعربُ عنه تأكيدُه بقولِه تعالى ﴿نَصْراً عَزِيزاً﴾ أي نصراً فيه عزة ومنعة أو قوياً منيعاً على وصفِ المصدرِ بوصفِ صاحبِه مجازاً للمبالغةِ أو عزيزاً صاحبُه
﴿هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة﴾
104
٦ ٥
بيانٌ لما أفاضَ عليهم من مبادىء الفتحِ من الثباتِ والطُّمأنينةِ أي أنزلَها ﴿فِى قُلُوبِ المؤمنين﴾ بسبب الصلحِ والأمنِ إظهاراً لفضلِه تعالى عليهم بتيسيرِ الأمنِ بعد الخوفِ ﴿لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم﴾ أي يقيناً مُنضماً إلى يقينِهم أو أنزل فيها السكونَ إلى ما جاءَ به عليه والصلاة والسلامُ من الشرائعِ ليزدادُوا إيماناً بها مقروناً مع إيمانِهم بالوحدانيةِ واليومِ الآخرِ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أولَ ما أتاهُم به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم التوحيدُ ثم الصلاةُ والزكاةُ ثم الحجُّ والجهادُ فازدادُوا إيماناً معَ إيمانِهم أو أنزلَ فيها الوقارَ والعظمةَ لله تعالى ولرسولِه ليزدادوا باعتقادِ ذلك إيماناً إلى إيمانهم ﴿ولله جنود السماوات والأرض﴾ يدبرُ أمَرها كيفما يريدُ يسلطُ بعضَها على بعضٍ تارةً ويوقعُ بينهما السلمَ أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصاح ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ مُبالغاً في العلمِ بجميعِ الأمورِ ﴿حَكِيماً﴾ في تقديرِه وتدبيرِه وقولُه تعالى
105
﴿لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا﴾ متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ ما ذُكر من كونِ جنودِ السمواتِ والأرضِ لهُ تعالى من مَعْنى التصرفِ والتدبيرِ أي دبرَ ما دبرَ من تسليطِ المؤمنينَ ليعرفُوا نعمةَ الله في ذلكَ ويشكرُوها فيدخلَهم الجنةَ ﴿وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم﴾ أي يُغطيها ولا يُظهرها وتقديمُ الإدخالِ في الذكرِ على التكفيرِ مع أن الترتيبَ في الوجودِ على العكسِ للمسارعةِ إلى بيانِ ما هو المطلبُ الأَعْلى ﴿وَكَانَ ذلك﴾ أي ما ذُكِرَ من الإدخالِ والتكفيرِ ﴿عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ لا يُقادرُ قدره لأنَّه مُنتهى ما يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ من جلبِ نفعٍ ودفعِ ضُرَ وعندَ الله حالٌ منْ فَوزاً لأنَّه صفتُه في الأصلِ فلمَّا قدمَ عليهِ صارَ حالاً أي كائناً عَندَ الله أي في علمِه تعالى وقضائِه والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله
﴿وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ عطفٌ على يُدخل وفي تقديمِ المنافقينَ على المشركين مالا يَخفْى من الدلالةِ على أنَّهم أحقُّ منُهم بالعذابِ ﴿الظانين بالله ظَنَّ السوء﴾ أي ظنَّ الأمرِ السوءِ وهو أنْ لا ينصرَ رسولَه والمؤمنين ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء﴾ أي ما يظنونَهُ ويتربصونَهُ بالمؤمنينَ فهو حائقٌ بهم ودائرٌ عليهم وقُرِىءَ دائرةُ السُّوء بالضمِّ وهُمَا لُغتانِ من ساءَ كالكُره والكَره خلا أنَّ المفتوحَ غلبَ في أنْ يضافَ إليهِ ما يُرادُ ذمُّه من كلِّ شيءٍ وأما المضمومُ فجارٍ مَجْرى الشرِّ ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾ عطفٌ على ما استحقُّوه في الآخرةِ على ما استوجبُوه في الدينا والواوُ في الأخيرينِ مع أنَّ حقَّهما الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدَها للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الوعيدِ وأصالتِه من غيرِ اعتبارِ استتباعِ بعضِها لبعضٍ ﴿وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ أي جهنمُ
105
} ١ ٧
106
﴿ولله جنود السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ إعادةٌ لما سبقَ قالُوا فائدتُها التنبيهُ على أنَّ لله تعالى جنودَ الرحمةِ وجنودَ العذابِ وأنَّ المرادَ ههنا جنودُ العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لوصفِ العزةِ
﴿إِنَّا أرسلناك شَاهِداً﴾ أيْ على أُمتكَ لقولِه تعالى وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴿وَمُبَشّراً﴾ على الطاعةِ ﴿وَنَذِيرًا﴾ على المعصيةِ
﴿لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسلام ولأُمَّتهِ ﴿وَتُعَزّرُوهُ﴾ وتقوُّوه بتقويةِ دينِه ورسولِه ﴿وَتُوَقّرُوهُ﴾ وتُعظِّمُوه ﴿وَتُسَبّحُوهُ﴾ وتنزهوه أو تصلّوا له من السُّبحة ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ غدوة وعشياً عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا صلاةُ الفجرِ وصلاةُ الظهرِ وصلاةُ العصرِ وقُرىءَ الأفعالُ الأربعةُ بالياءِ التحتانيةِ وقُرِىءَ وتُعزِرُوه بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الزَّاي المكسورةِ وقُرِىءَ بفتحِ التَّاءِ وضمِّ الزَّاي وكسرِها وتُعززوه بزاءينِ وتُوقِروه منْ أوقَرهُ بمعنى وَقَّره
﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ﴾ أيْ على قتالِ قُريشٍ تحتَ الشجرةِ وقولُه تعالى ﴿إِنَّمَا يبايعون الله﴾ خبران يعني أنَّ مبايعتَكَ هي مبايعةُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّ المقصودَ توثيقُ العهدِ بمراعاةِ أوامِره ونواهِيه وقولُه تعالى ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ حال أو استئناف مؤكدله على طريقةِ التخييلِ والمَعْنى أنَّ عقدَ الميثاقِ مَعِ الرسولِ كعقدِه مع الله تعالى من غيرِ تفاوتٍ بينَهما كقولِه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وقُرِىءَ إنَّما يُبايعونَ الله أي لأجلِه ولوجهِه ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ﴾ أي فمنَ نقضَ عهدَهُ فإنَّما يعودُ ضررُ نكثِه على نفسِه وقُرِىءَ بكسرِ الكافِ ﴿وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله﴾ بضمِّ الهاءِ فإنَّه أبقَى بعد حذفِ الواوِ توسلاً بذلك الى تفخيم لامن الجلالةِ وقُرىءَ بكسرِها أيْ ومَنْ وفَّى بعهدِه ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ هُو الجنةُ وقُرِىءَ بما عَهد وقُرِىءَ فسنؤتيِه بنونِ العظمةِ
﴿سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب﴾ هم أعرابُ غِفارِ ومُزينةَ وجُهينةَ وأشجعَ وأسلمَ والدِّيلِ تخلفُوا عن رسولِ الله ﷺ حينَ استنفرَ من
106
} ﴿
حولَ المدينةِ من الأعرابِ وأهلِ البوادِي ليخرجُوا معه عند إرادتِه المسيرَ إلى مكةَ عامَ الحديبيةِ معُتمراً حذراً من قريشٍ أنْ يتعرضُوا له بحربٍ أو يصدُّوه عن البيتِ وأحرمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وساقَ معه الهديَ ليعلم أنَّه لا يريدُ الحربَ وتثاقلُوا عن الخروجِ وقالُوا نذهبُ إلى قومٍ قد غزَوه في عقرِ دارِه بالمدينةِ وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأَوْحَى الله تعالى إليه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّهم سيعتلونَ ويقولونَ {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا﴾
ولم يكُن لنا مَنْ يخلفنَا فيهم ويقومُ بمصالحِهم ويحميهمِ من الضياعِ وقُرِىءَ شَغَّلتنَا بالتشديدِ للتكثيرِ ﴿فاستغفر لَنَا﴾ الله تعالى ليغفرَ لنَا تخلفنَا عنْكَ حيثُ لم يكن ذلكَ باختيارٍ بلْ عنِ اضطرارٍ ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ﴾ بدلٌ من سيقولُ أو استئنافٌ لتكذيبِهم في الاعتذارِ والاستغفارِ ﴿قُلْ﴾ رَدَّاً لهم عندَ اعتذارِهم إليكَ بأباطيلِهم ﴿فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً﴾ أي فَمنْ يقدر لأجلكم من مشيئته الله تعالى وقضائِه على شيءٍ من النفعِ ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً﴾ أيْ مَا يُضرُّكم من هلاكِ الأهلِ والمالِ وضياعِهما حتَّى تتخلفُوا عنِ الخروجِ لحفظِهما ودفعِ الضررِ عنهُما وقُرىءَ ضُراً بالضمِّ ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ أيْ ومَنْ يَقْدِرُ على شَىْء من الضررِ إنْ أرادَ بكُم ما يُنفعكُم من حفظِ أموالِكم وأهليكِم فأيُّ حاجةٍ إلى التخلفِ لأجلِ القيامِ بحفظِهما وهذا تحقيقٌ للحقِّ ورَدٌّ لهم بموجبِ ظاهرِ مقالتِهم الكاذبةِ وتعميمُ الضرِّ والنفعِ لما يُتوقع على تقديرِ الخروجِ من القتلِ والهزيمةِ والظفرِ والغنيمةِ يردُّه قوله تعلى ﴿بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فإنه إضرابٌ عمَّا قالُوا وبيانٌ لكذبِه بعدَ بيانِ فسادِه عَلى تقديرِ صدقهِ أي ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ بلْ كانَ الله خبيراً بجميعِ ما تَعْمَلُونَ منَ الأعمالِ التي من جُملتها تخلفُكم وما هُو من مباديِه وقولُه تعالى
107
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ﴾ الخ بدلٌ من كان الخ مفسرٌ لما فيه من الإبهامِ أي بل ظننتُم ﴿أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾ بأن يستأصلَهم المشركون بالمرةِ فخشِيتم إنْ كنتُم معهم أن يصيبكم مااصابهم فلأجلِ ذلك تخلفتُم لا لما ذكرتُم من المعاذير الباطلةِ والأهلونَ جمعُ أهلٍ وقد يُجمع على أهلاتٍ كأرضات على تقديره تاءِ التأنيثِ وأمَّا الأهالي فاسمُ جمعٍ كالليالي وقُرِىءَ إلى أهلِهم ﴿وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ﴾ وقبِلتموه واشتغلتُم بشأنِ أنفسِكم غيرَ مُبالينَ بهم وقُرىءَ زَيَّنَ على البناءِ للفاعلِ بإسنادِه إلى الله سبحانَهُ أو إلى الشيطانِ ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء﴾ المرادُ به إما الظنُّ الأولُ والتكريرُ لتشديدِ التوبيخِ والتسجيلِ عليه بالسوءِ أو ما يعمُّه وغيرَهُ من الظنونِ الفاسدةِ التي من جُمْلتها الظنُّ بعدمِ صحةِ رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّ الجازمَ بصحتِها لا يحوم حول فكره ما ذُكِرَ من الاستئصال ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي هالكينَ عند الله مستوجبينَ لسخطِه وعقابِه على أنه جمعُ بائرٍ كعائذٍ وعوذٍ أو فاسدينَ في أنفسِكم وقلوبِكم ونياتكم لاخير فيكُم وقيلَ البُور من بار كالهلك من ملك بناء ومعنى لذلك وصفَ به الواحدُ والجمعُ المذكر والمؤنثُ
107
} ٥ ١ {
108
﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ﴾ كلامٌ مبتدأٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ مقررٌ لبوارهم ومبينٌ لكيفيتِه أي ومَنْ لم يؤمنْ بهما كدأبِ هؤلاءِ المخلفينَ ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً﴾ أي لَهم وإنما وُضع موضعَ الضميرِ الكافرونَ إيذاناً بأنَّ منْ لم يجمعْ بينَ الإيمانِ بالله وبرسولِه فهو كافرٌ وأنه مستوجبٌ للسعيرِ بكفرِه وتنكيرُ سعيراً للتهويلِ أو لأنَّها نارٌ مخصوصةٌ
﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ وما فيهما يتصرف في الكلِّ كيفَ يشاءُ ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾ أنْ يغفرَ له ﴿وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء﴾ أنْ يعذَبهُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منهُمَا وجُوداً وعدماً وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغةِ في استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يشاءُ ولا يشاءُ إلا لمن تقتضِي الحكمةُ مغفرتَهُ ممن يؤمنُ به وبرسولِه وأما من عداهُ من الكافرينَ فهمُ بمعزلٍ من ذلك قطعاً
﴿سَيَقُولُ المخلفون﴾ أي المذكورونَ وقوله تعالى ﴿إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ ظرفٌ لما قبله لا شرطٌ لما بعدَهُ أي سيقولونَ عند انطلاقِكم إلى مغانمِ خيبرَ لتحوزُوها حسبما وعدكُم إيَّاها وخصَّكم بها عوضاً مما فاتكُم من غنائمِ مكةَ ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ إلى خيبرَ ونشهدْ معكم قتالَ أهلها ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله﴾ بأنْ يشاركُوا في الغنائمِ التي خصَّها بأهلِ الحديبيةِ فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ رجعَ من الحديبيةِ في ذي الحجةِ من سنة ستَ وأقام بالمدينةِ بقيتها وأوائلَ المحرمِ من سنة سبعٍ ثم غزا خيبرَ بمن شهدَ الحديبيةَ ففتحَها وغنم أموالاً كثيرةً فخصَّها بهم حسبما أمره الله عزَّ وجلَّ وقُرىء كلمَ الله وهو جمع كلمة وأياما كانَ فالمرادُ ما ذُكِرَ من وعدِه تعالى غنائمَ خيبرَ لأهلِ الحديبيةِ خاصَّة لا قولُه تعالى لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا فإنَّ ذلكَ في غزوةِ تبوكَ ﴿قُلْ﴾ إقناطاً لهم ﴿لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ أي لا تتبعونا فإنه نفي مَعْنى النهي للمبالغةِ ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ أي عندَ الانصرافِ من الحديبيةِ ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ للمؤمنين عند سماعِ هَذا النهي ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي ليسَ ذلكَ النهيُ حكمَ الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائمِ وقرىء تحسدوننا بكسر السين وقوله تعالى ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ أي لا يفهون ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ إلا فهماً قليلا وهم فطنتهم لأمرور الدينا ردٌّ لقولِهم الباطلِ ووصفٌ لهم بما هُو أعظمُ من الحسدِ وأَطمُّ من الجهلِ
108
} ٨ ١٦
المفرطِ وسوءِ الفهمِ في أمورِ الدينِ
109
﴿قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب﴾ كررَ ذكرَهُم بهذا العنوانِ مبالغةً في ذمِّهم ﴿سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ هم بنُو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذابِ أو غيرُهم ممن ارتدُّوا بعد رسول الله ﷺ أو المشركونَ لقولِه تعالى ﴿تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي يكونُ أحدُ الأمرينِ إما المقاتلةُ أبداً أو الإسلامُ لا غيرُ كما يُفصحُ عنه قراءةُ أو يسلمُوا وأمامن عداهُم فينتهي قتالَهم بالجزيةِ كما ينتهِي بالإسلامِ وفيه دليلٌ على إمامةِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إذ لم تتفقْ هذه الدعوةُ لغيرِه إلا إذا صحَّ أنهم ثقيف وهوازن فإنَّ ذلك كان في عهدِ النبوةِ فيخصَّ دوامُ نفي الاتباعِ بَما في غزوةِ خيبرَ كما قالَهُ محيى السنةِ وقيلَ هم فارسُ والرومُ ومعنى يُسلمون ينقادونَ فإنَّ الرومَ نَصَارى وفارسَ مجوسٌ يُقبل منهم الجزيةُ ﴿فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً﴾ هو الغنيمةُ في الدنيا والجنةُ في الآخرةِ ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ عن الدعوةِ ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ﴾ في الحديبيةِ ﴿يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ لتضاعفِ جُرمكم
﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ أي في التخلفِ عنِ الغزوِ لِما بِهمْ من العذر والعاهة فإن التكلف يدورُ على الاستطاعةِ وفى نفي الحرجِ عن كلِّ من الطوائفِ المعدودةِ مزيدُ اعتناءٍ بأمرِهم وتوسيعٌ لدائرةِ الرُّخصةِ ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ فيما ذُكِرَ من الأوامر النواهى ﴿يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ وقُرِىءَ نُدْخِلْهُ بنون العظمة ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي عن الطاعةِ ﴿يُعَذّبْهُ﴾ وقرىء بالنونِ ﴿عذابا أليما﴾ لا يقدر قدرُهُ
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين﴾ هم الذينَ ذُكِرَ شأنُ مبايعتِهم وبهذهِ الآيةِ سُميتْ بَيعةَ الرضوانِ وقولُه تعالى ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾ منصوب برضى وضيغة المضارعِ لاستحضارِ صورتِها وتحتَ الشجرِة متعلقٌ به أو بمحذوف هو حال من مفعولِه رُويَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما نزلَ الحديبية بعثَ خراشَ بنَ أمية الخزاعى رسولا االى أهلِ مكةَ فهمُّوا بهِ فمنَعُه الأحابيشُ فرجعَ فبعثَ عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله عنه فأخبرَهُم أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يأتِ لحربٍ وإنما جاء زائراً لهذا البيتِ مَعظماً لحرمتِه فوقّرُوه وقالُوا إنْ شئتَ أنْ تطوفَ بالبيتِ فافعلْ فقالَ ما كنتُ لأطوفَ قبلَ أنْ يطوفَ رسول الله ﷺ واحتبسَ عندهُم فأُرْجِفَ بأنَّهم قتلُوه فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ لا نبرحُ حتى نناجزَ القومَ ودعا الناسَ إلى البيعةِ فبايعُوه تحتَ الشجرةِ وكانتْ
109
} ٩ ٢ ﴿
سَمُرةً وقيلَ سِدرةً على أن يقاتِلُوا قريشاً ولا يفرُّوا ورُويَ على الموتِ دونَهُ وأنْ لا يفرُّوا فقالَ لهم رسولُ الله ﷺ أنتمُ اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ وكانُوا ألفاً وخمسَمائةٍ وخمسةً وعشرينَ وقيلَ ألفاً وأربعمائةِ وقيلَ ألفاً وثلثَمائةِ وقولُه تعالى {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ﴾
عطفٌ على يُبايعونك لما عرفتَ من أنَّه بمعنى بايعوك لاعلى رضيَ فإن رضاهُ تعالى عنهم مترتبٌ على علمِه تعالى بِمَا فِي قُلُوبِهِم من الصدقِ والإخلاصِ عند مبايعتهم له ﷺ وقولُه تعالَى ﴿فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ﴾ عطفٌ على رضيَ أي فأنزلَ عليهم الطُّمأنينةَ والأمنَ وسكونَ النفسِ بالربطِ على قلوبِهم وقيلَ بالصلحِ ﴿وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً﴾ هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما مرَّ تفصيلُه وقُرِىءَ وآتاهُم
110
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ أي مغانمَ خيبرَ والالتفاتُ إلى الخطابِ على قراءةِ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ لتشريفِهم في مقامِ الامتنانِ ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً﴾ غالباً ﴿حَكِيماً﴾ مراعياً لمقتضَى الحكمةِ في أحكامِه وقضاياهُ
﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ هي ما يُفيؤُه على المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ ﴿تَأْخُذُونَهَا﴾ في أوقاتِها المقدرةِ لكلِّ واحدةٍ منها ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾ أي غنائمَ خيبرَ ﴿وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ﴾ أي أيدِي أهلِ خيبرَ وحلفائِهم من بني أسدٍ وغطفانَ حيثُ جاءُوا لنُصرتِهم فقذفَ الله في قلوبِهم الرعبَ فنكصُوا وقيلَ أيدِيَ أهلِ مكةَ بالصلحِ ﴿ولتكون آية لّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أمارةً يعرِفونَ بها صدق رسول الله ﷺ وعدِه إيَّاهُم عندَ رجوعِه من الحديبيةِ ما ذُكِرَ من المغانمِ وفتحِ مكةَ ودخولِ المسجدِ الحرامِ واللامُ متعلقةٌ إمَّا بمحذوفٍ مؤخرٍ أي ولتكونَ آيةً لهم فعلَ ما فعلَ من التعجيلِ والكفِّ أو بَما تعلَّق به علةٌ أخرى محذوفةٌ من أحدِ الفعلينِ أي فعجل لكم هذه أو كفَّ أيديَ الناسِ لتغتنمُوها ولتكونَ الخ فالواوُ على الأولِ اعتراضيةٌ وعلى الثانية عاطفةٌ ﴿وَيَهْدِيَكُمْ﴾ بتلك الآيةِ ﴿صراطا مُّسْتَقِيماً﴾ هو الثقةُ بفضلِ الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وما تذرون
﴿وأخرى﴾ عطف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانمَ ومغانمَ أُخرى ﴿لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ وهي مغانمُ هوازنَ في غزوةِ حُنينٍ ووصفُها بعدمِ القدرةِ عليها لما كانَ فيها من الجولةِ قبل ذلكَ لزيادةِ ترغيبِهم فيها وقولُه تعالى ﴿قَدْ أحاط الله بها﴾ صفةٌ أُخرى لأُخرى مفيدةٌ لسهولةِ تأتِّيها بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى بعد بيانِ صعوبةِ منالها بالنظرِ إلى قدرتهم أى قد قدَر الله عليها واستولَى وأظهركُم عليها وقيل حفظَها لكُم ومنعها من غيرِكم هذا وقد قيلَ إنَّ أُخرى منصوبٌ بمضمرٍ يُفسرِه قد أحاط الله بها أي وقضى الله أُخرى ولا ريب في أن الإخبارَ بقضاءِ الله إيَّاها بعد اندراجِها في جُملةِ المغانمِ الموعودةِ بقولِه تعالى وعدكم مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وإنما الفائدةُ
110
} ٢ ٢٥
في بيانِ تعجيلِها ﴿وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً﴾ لأن قدرتَهُ تعالى ذاتية لا تختص بشئ دون شئ
111
﴿وَلَوْ قاتلكم الذين كَفَرُواْ﴾ أي أهلُ مكةَ ولم يُصالِحوكُم وقيلَ حلفاءُ خيبرَ ﴿لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ مُنهزمينَ ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً﴾ يحرسُهم ﴿وَلاَ نَصِيراً﴾ ينصرُهم
﴿سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ﴾ أي سنَّ الله غلبةَ أنبيائِه سنةً قديمةً فيمَنْ مَضَى منَ الأممِ ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي تغييراً
﴿وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ أى أيدى سفار مكةَ ﴿عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ أي في داخلِها ﴿مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ وذلكَ أنَّ عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ خرج فى خمسمائة إلى الحديبيةِ فبعثَ رسولُ الله ﷺ خالدَ بنَ الوليدِ على جندٍ فهزَمَهُم حتى أدخلَهُم حيطانَ مكةَ ثم عادَ وقيلَ كانَ يومَ الفتحِ وبه استشهدَ أبو حنيفةَ على أنَّ مكةَ فتحتْ عنوةً لا صُلحاً ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من مقاتَلتهم وهزمِهم أولاً والكفِّ عنهم ثانياً لتعظيمِ بيتِه الحرام وقرئ بالياءِ ﴿بَصِيراً﴾ فيجازيكُم بذلكَ أو يجازِيهم
﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى﴾ بالنصبِ عطفاً على الضميرِ المنصوب فى صدوركم وقرئ بالجرِّ عطفاً على المسجدِ بحذفِ المضافِ أي ونحرِ الهدى وبالرفع على وصُدَّ الهَدْيُ وقولُه تعالَى ﴿مَعْكُوفاً﴾ حالٌ من الهَدْي أي محبوساً وقولُه تعالَى ﴿أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ بدلُ اشتمالٍ من الهَدْي أو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي محبوساً من أنْ يبلغَ مكانَهُ الذي يحلُّ فيهِ نحرُه وبه استدلَّ أبُو حنيفة رحمه الله تعالى على أنَّ المُحَصَر مَحِلُّ هديهِ الحرمُ قالُوا بعضُ الحديبيةِ منَ الحرمِ ورَويَ أن خيامه ﷺ كانت في الحلِّ ومصلاَّهُ في الحرمِ وهناكَ نحرتْ هداياه ﷺ والمرادُ صدُّها عن محلَّها المعهودِ الذي هُو مِنىً ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ لم تعرفُوهم بأعيانِهم لاختلاطِهم وهو صفةٌ لرجالٌ ونساءٌ وقولُه تعالى ﴿أن تطؤوهم﴾ أي تُوقعوا بهم وتُهلِكوهُم بدلُ اشتمالٍ منهُم أو من الضميرِ المنصوبِ في تعلمُوهم ﴿فَتُصِيبَكمْ مِنْهُمْ﴾ أي من جهتِهم ﴿مَّعَرَّةٌ﴾ أي مشقةٌ ومكروهٌ كوجوبِ الديةِ أو الكفارةِ بقتلِهم والتأسفِ عليهم وتعييرِ الكفارِ وسوءِ قالتِهم والإثمِ بالتقصيرِ في البحثِ عنهم وهي مَفْعَلةٌ من عَرَّهْ إذا عَرَاهُ ودَهَاهُ ما يكرهُهُ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلقٌ بأنْ تطؤهم أي غيرَ عالمينَ بهم وجوابُ لَولا
111
} ٦ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ والمَعْنى لولا كراهةُ أن تُهلكُوا ناساً مؤمنينَ بين الكافرين غير عالمينَ بهم فيصيبَكُم بذلكَ مكروه لما كف أيدييكم عنْهم وقوله تعالى ﴿لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ﴾ متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الجوابُ المحذوفُ كأنَّه قيل عَقِيبَهُ لكن كفَّها عنهُم ليُدخلَ بذلك الكفِّ المؤدِّي إلى الفتحِ بلا محذورٍ في رحمتِه الواسعةِ بقسميَها ﴿مَن يَشَآء﴾ وهم المؤمنونَ فإنَّهم كانوا خارجين من الرحمةِ الدنيويةِ التي منْ جُمْلتِها الأمنُ مستضعفينَ تحت أيدِي الكفرةِ وأما الرحمةُ الأخرويةُ فهم وإن كانُوا غيرَ محرومينَ منها بالمرةِ لكنهم كانُوا قاصرينَ في إقامةِ مراسمِ العبادةِ كما ينبغي فتوفيقُهم لإقامتِها على الوجهِ الأتمِّ إدخالٌ لهم في الرحمةِ الأخرويةِ وقد جوز أن يكون من يشاءُ عبارةً عمنْ رغبَ في الإسلامِ من المشركينَ ويأباهُ قولُه تعالَى ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ﴾ الخ فإن فرض التزيل وترتيبَ التعذيبِ عليه يقتضي تحقق الباينة بين الفريقينِ بالإيمانِ والكفرِ قبلَ التزيلِ حتماً أي لو تفرقُوا وتميَّز بعضُهم من بعضٍ وقُرىءَ لو تزايلُوا ﴿لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ بقتلِ مقاتلتهم وسبى ذرايهم والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلَها
112
﴿إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ﴾ منصوبٌ باذكُرْ على المفعوليةِ أو بعذابنا على الظرفيةِ وقيلَ بمضمرٍ هو أحسنَ الله إليكم وأياً ما كان فوضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليلِ الحكمِ بهِ والجعلُ إمَّا بمعنى الإلقاءِ فقولُه تعالى ﴿فِى قُلُوبِهِمْ الحمية﴾ أي الأنفةَ والتكبرَ متعلقٌ بهِ أو بمعنى التصييرِ فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو مفعولٌ ثانٍ له أي جعلُوها ثابتةً راسخةً في قلوبِهم ﴿حَمِيَّةَ الجاهلية﴾ بدلٌ من الحميةَ أي حميةٍ الملَّةِ الجاهليةِ أو الحميةَ الناشئةَ من الجاهليةِ وقولُه تعالَى ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ على الأولِ عطفٌ على جعلَ والمرادُ تذكيرُ حسنِ صنيع الرسول صلى الله عله وسلم والمؤمنينَ بتوفيقِ الله تعالَى وسوءِ صنيعِ الكفرةِ وعلى الثَّانِي على ما يدلُّ عليهِ الجملةُ الامتناعيةُ كأنَّه قيلَ لم يتزيّلوا فلمْ نعذبْ فأنزلَ إلخ وعلى الثالثِ على المضمرِ تفسيرٌ له والسكينةُ الثباتُ والوقارُ يروى أن رسول الله ﷺ لما نزلَ الحديبية بعثَ قريشٌ سهيلَ بْنَ عمروٍ القُرشيَّ وحُويطبَ بنَ عبدِ العزى ومكرز ابن حفص بن الأحنف عل أنْ يعرضُوا على النبيِّ ﷺ أنْ يرجعَ من عامهِ ذلكَ عَلى أنْ تخليَ له قريشٌ مكةَ من العامِ القابلِ ثلاثةَ أيامٍ ففعلَ ذلكَ وكتبُوا بينهم كتاباً فقالَ عليه الصلاةُ والسلام لعلي رضي الله عنْهُ اكتبْ بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ فقالُوا ما نعرفُ ما هَذَا اكتبْ باسمِك اللَّهم ثم قالَ اكتب هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكةَ فقالُوا لو كُنَّا نعلمُ أنَّك رسولُ الله ما صددناكَ عن البيتِ وما قاتلناكَ اكتُبْ هَذا ما صالحَ عليه محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أهلَ مكة فقال ﷺ اكتُبْ ما يُريدونَ فهمَّ المؤمنونَ أن يأْبَوا ذلكَ ويبطشُوا بهم فأنزلَ الله السكينةَ عليهم فتوقَّروا وحَلِمُوا ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ أي كلمةَ الشهادةِ أو بسْم الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ أو محمد رسول الله وقيل كلمةُ التَّقوى هي الوفاءُ بالعهدِ والثباتُ عليهِ وإضافتُها إلى التَّقوى لأنَّها سببُ التَّقوى وأساسُها أو كلمةُ أهلِها ﴿وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا﴾
112
متصفينَ بمزيدِ استحقاقٍ لَها على أن صيغة التفضيل للزيادة مُطلقاً وقيلَ أحقُّ بَها منَ الكُفارِ ﴿وَأَهْلُهَا﴾ أي المستأهلَ لها ﴿وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً﴾ فيعلم حقَّ كلِّ شيءٍ فيسوقه إلى مستحقِّهِ
113
﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا﴾ رَأَى رسولُ الله ﷺ قبلَ خروجِه إلى الحُديبيةِ كأنَّه وأصحابَهُ قد دخلُوا مكةَ آمنينَ وقد حلقُوا رؤسهم وقصَّروا فقصَّ الرؤيا على أصحابهِ ففرحوا واستبشرُوا وحسبُوا أنَّهم داخلُوها في عامِهم فلمَّا تأخرَ ذلكَ قال عبدُ اللَّه بنُ أبي وعبدُ اللَّهِ بن نُفيلٍ ورفاعة بن الحرث والله ما حلقنَا ولا قصَّرنَا ولا رأينا المسجد الحرامَ فنزلتْ أي صدَقه ﷺ في رُؤياهُ كَما في قولِهم صَدَقني سِنُّ بَكْرِهِ وتحقيقُه أراهُ الرؤيا الصادقةَ وقوله تعالى ﴿بالحق﴾ إما صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي صدقاً ملتبساً بالحقِّ أى بالغرض الصحيح والحمكة البالغة اليت هيَ التمييزُ بين الراسخِ في الإيمانِ والمتزلزلِ فيه أو حالٌ من الرُّؤيا أي ملتبسةً بالحقِّ ليستْ من قبيلِ أضغاثِ الأحلامِ وقد جوز أن يكون قسماً بالحقِّ الذي هُو من أسماءِ الله تعالى أو بنقيضِ الباطلِ وقولُه تعالَى ﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام﴾ جوابُه وهو عَلى الأولينِ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لتدخلنَّ إلخ وقولُه تعالَى ﴿إِنَّ شَاء الله﴾ تعليقٌ للعِدَة بالمشيئةِ لتعليمِ العباد أو للإشعارِ بأنَّ بعضَهُم لا يدخلونَهُ لموتٍ أو غَيبةٍ أو غيرِ ذلكَ أو هيَ حكايةٌ لما قالَهُ ملكُ الرُّؤيا لرسولِ الله ﷺ أول لما قالَه عليه الصَّلاةُ والسلام لأصحابه ﴿آمنين﴾ حالٌ من فاعلِ لتدخُلنَّ والشرطُ معترضٌ وكذا قولُه تعالى ﴿محلقين رؤوسكم وَمُقَصّرِينَ﴾ أي مُحلِّقاً بعضُكم ومُقصِّراً آخرونَ وقيلَ مُحلِّقينَ حالٌ منْ ضميرِ آمنينَ فتكون متداخلةً ﴿لاَ تخافون﴾ حالٌ مؤكدةٌ من فاعلِ لتدخلن أو آمنن أو محلِّقينَ أو مقصِّرينَ أو استئنافٌ أيْ لا تخافونَ بعدَ ذلكَ ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ﴾ عطفٌ على صدقَ والمرادُ بعلمِه تعالى العلم الفعلى المتعلق بأمرٍ حادثٍ بعد المعطوفِ عليه أي فعلمَ عَقيبَ ما أراهُ الرؤيا الصادقةَ مالم تعلمُوا منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى تقديمِ ما يشهدُ بالصدقِ علماً فعلياً ﴿فَجَعَلَ﴾ لأجلِه ﴿مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ أي من دونِ تحققِ مصداق ما رآه من دخولِ المسجدِ الحرامِ إلخ ﴿فَتْحاً قَرِيباً﴾ وهُو فتحُ خيبرَ والمرادُ بجعلِه وعدُه وإنجازُه من غير تسويفٍ ليستدل به على صدقِ الرُّؤيا حسبمَا قالَ ولتكونَ آيةً للمؤمنينَ وأمَّا جعلُ ما في قولِه تعالى ما لم تعلمُوا عبارةً عن الحكمةِ في تأخيرِ فتحِ مكةَ إلى العامِ القابلِ كما جنحَ إليه الجمهورُ فتأباه الفاءُ فإن علمَه تعالَى بذلكَ متقدمٌ على إراءةِ الرؤيا قطعاً
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى﴾ أي ملتبساً به أو بسببهِ ولأجلِه ﴿وَدِينِ الحق﴾ وبدينِ الإسلامِ ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ﴾ ليعليه على جنسِ الدينِ بجميعِ أفرادِه التي هي الأديانُ المختلفةُ بنسخِ ما كان حقاً من بعضِ
113
} ٩
الأحكامِ المتبدلةِ بتبدلِ الأعصارِ وإظهارِ بُطلانِ ما كانَ باطلاً أو بتسليطِ المسلمينَ على أهلِ سائرِ الأديانِ إذْ مَا من أهلِ دينٍ إلا وقَد قهرهُم المسلمونَ وفيه فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سبحانه سيفتحُ لهم من البلادِ ويتيحُ لهم من الغلبةِ على الأقاليمِ ما يستقلُّون إليه فتحَ مكةَ ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ على أنَّ ما وعده كائنٌ لا محالةَ أو على نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بإظهارِ المعجزاتِ
114
﴿مُحَمَّدٌ﴾ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى ﴿رَسُولِ الله﴾ بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ أيْ ذلكَ الرسولُ المرسلُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ محمد رسول الله وقيل محمدٌ مبتدأ رسولُ الله خبرُهُ والجملةُ مبينةٌ للمشهودِ بهِ وقولُه تعالَى ﴿والذين مَعَهُ﴾ مبتدأٌ خبرُهُ ﴿أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ وأشداءُ جمعُ شديدٍ ورحماءُ جمع رحيمٍ والمعنى أنَّهم يُظهرونَ لمن خالفَ دينَهُم الشدةَ والصَّلابةَ ولمن وافقَهُم في الدِّينِ الرحمةَ والرأفةَ كقولِه تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين وقُرىءَ أشداءَ ورحماءَ بالنَّصبِ على المدحِ أو على الحالِ من المستكنِّ في معه لوقوعِه صلةً فالخبرُ حينئذٍ قولُه تعالى ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ أي تشاهدُهم حالَ كونِهم راكعينَ ساجدينَ لمواظبتِهم على الصَّلواتِ وهُو عَلى الأولِ خبرٌ آخرُ أو استئنافٌ وقولُه تعالَى ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الله وَرِضْوَاناً﴾ أي ثواباً ورضاً إما خبرٌ آخرُ أو حالٌ من ضميرِ تراهُم أو من المستترِ في ركعا سجدا أو استئنافا مبني على سؤال نشأ من بيانِ مواظبتِهم على الركوعِ والسجودِ كأنَّه قيلَ ماذا يريدون بذلكَ فقيلَ يبتغُون فضلاً من الله إلخ ﴿سيماهم﴾ أى سمتهم وقرىء سيمياؤهم بالياءِ بعد الميمِ والمدِّ وهما لغتانِ وفيها لغةٌ ثالثةٌ هي السيماءُ بالمدِّ وهو مبتدأ خبره ﴿فى وُجُوهِهِمْ﴾ أيْ في جِبَاهِهم وقوله تعالى ﴿مّنْ أَثَرِ السجود﴾ حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ أي من التأثيرِ الذي يُؤثره كثرةُ السجودِ وما رُوي عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام لا تعبدوا صورَكم أي لا تَسِمُوها إنَّما هُو فيما إذا اعتمدَ بجبهته على الأرضِ ليحدثَ فيها تلكَ السمةَ وذلك محضُ رياءٍ ونفاقٍ والكلامُ فيما حدثَ في جبهةِ السَّجَّادِ الذي لا يسجدُ إلا خالصاً لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ كان الإمامُ زينُ العابدينَ وعليٌّ بن عبد الله بن العباس رضى عنهُمَا يقالُ لهما ذُو الثفناتِ لما أحدثتْ كثرةُ سجودِهما في مواقعهِ منهما أشباهَ ثفناتِ البعيرِ قالَ قائلُهم دِيارُ عَليَ والحُسينِ وجَعْفر وَحمزةَ والسَّجَّادِ ذِي الثَّفِنَاتِ وقيلَ صفرةُ الوجهِ من خشيةُ الله تعالى وقيلَ نَدى الطَّهورِ وترابُ الأرضِ وقيل استنارةُ وجوهِهم من طولِ ما صلَّوا بالليلِ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كثرُتْ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ وقُرِىءَ من آثارِ السجودِ ومن إِثْرِ السجودِ بكسرِ الهمزةِ ﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى ما ذكر
114
الحجرات ﴿
من نعوتِهم الجليلةِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ شأنِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {مّثْلُهُمْ﴾
أي وصفُهم العجيبُ الشأنِ الجارِي في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ وقولُه تعالَى ﴿فِي التوراة﴾ حالٌ من مثلُهم والعاملُ مَعْنى الإشارةِ وقولُه تعالى ﴿وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل﴾ عطفٌ على مثلُهم الأولِ كأنَّه قيلَ ذلكَ مثلُهم في التوراةِ والإنجيلِ وتكريرُ مثلُهم لتأكيدِ غرابتهِ وزيادةِ تقريرِها وقولُه تعالى ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ الخ تمثيلٌ مستأنفٌ أي هُم كزرعٍ أخرجَ فراخَهُ وقيل هو تفسيرٌ لذلك على أنه إشارةٌ مبهمةٌ وقيل خبر لقوله تعالى ومثلُهم في الإنجيلِ على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى مثلُهم في التوراةِ وقرىء شَطَأه بفتحات وقرىء شَطَاه بفتح الطاء وتخفيف الهمزة وشَطَاءَهُ بالمدِّ وشَطَه بحذفِ الهمزةِ ونقل حركتِها إلى ما قبلَها وشطوه بقلبها واو ﴿فَازَرَهُ﴾ فقوَّاهُ مِن المؤازرةِ بمعنى المعاونةِ أو من الإيزارِ وهي الإعانةُ وقُرِىءَ فأزَرَه بالتخفيف وأَزَّرهُ بالتشديدِ أي شدَّ أزْرَهُ وقولُه تعالى ﴿فاستغلظ﴾ فصارَ غليظاً بعد ما كانَ دقيقاً ﴿فاستوى على سُوقِهِ﴾ فاستقامَ على قَصَبهِ جمع ساقٍ وقُرِىءَ سُؤقهِ بالهمزةِ ﴿يُعْجِبُ الزراع﴾ بقوته وكثافته وغلطة وحسنِ منظرِه وهو مثلٌ ضربَهُ الله عزَّ وجلَّ لأصحابه عليه الصلاة والصلام قلُّوا في بدءِ الإسلامِ ثم كثروا واستحكمُوا فترقَّى أمرُهم يوماً فيوماً بحيثُ أعجبَ الناسَ وَقيلَ مكتوبٌ في الإنجيلِ سيخرُجُ قومٌ ينبُتون نباتَ الزرعِ يَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ وقولُه تعالى ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ علةٌ لما يعربُ عنه الكلام من تشبههم بالزرعِ في زكائِه واستحكامِه أو لما بعده من قولِه تعالى ﴿وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ فإنَّ الكفارَ إذا سمعُوا بما أُعدَّ للمؤمنينَ في الآخرةِ مع ما لهُم في الدُّنيا من العزةِ غاظَهُم ذلكَ أشدَّ غيظٍ ومنُهم للبيانِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الفتحِ فكأنَّما كانَ ممَّن شهدَ معَ رسُولِ الله ﷺ فتح مكة
سورة الحجرات مدنية وآياتها ثمانى عشرة
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
115
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).