تفسير سورة الفتح

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله عز وجل :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ﴾، رُوي أنه أراد فتح مكة، وقال قتادة :" قضينا لك قضاءً مُبيناً ".
والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر ؛ لأن القضاء لا يتناوله الإطلاق، وإذا كان المراد فتح مكة فإنه يدل على أنه فتحها عُنْوَةً إذ كان الصلح لا يُطلق عليه اسم الفتح وإن كان قد يعبَّر مقيداً ؛ لأن من قال :" فتح بلد كذا " عُقِلَ به الغلبة والقهر دون الصلح.
ويدل عليه قوله في نسق التلاوة :﴿ وَيَنْصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ﴾ وفيه الدلالة على أن المراد فتح مكة وأنه دخلها عنوة.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إِذا جاء نصر الله والفتح ﴾ [ النصر : ١ ] لم يختلفوا أن المراد فتح مكة.
ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ وقوله تعالى. ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ﴾، وذكره ذلك في سياق القصة يدلّ على ذلك ؛ لأن المعنى : سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة.
قوله تعالى :﴿ قُلْ للمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ ؛ رُوي أن المراد فارس والروم، ورُوي أنهم بنو حنيفة ؛ فهو دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ؛ لأن أبا بكر الصدّيق دعاهم إلى قتال بني حنيفة ودعاهم عمر إلى قتال فارس والروم، وقد ألزمهم الله اتّباع طاعة من يدعوهم إليه بقوله :﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عذاباً أَلِيماً ﴾ فأوعدهم الله على التخلّف عمن دعاهم إلى قتال هؤلاء، فدلّ على صحة إمامتهما، إذ كان المتولِّي عن طاعتهما مستحقّاً للعقاب.
فإن قيل : قد رَوَى قتادة أنهم هَوَازِنُ وثقيف يوم حُنَين. قيل له : لا يجوز أن يكون الداعي لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال :﴿ فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ]، ويدل على أن المراد بالدعاء لهم غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يَدْعُ هؤلاء القَوْمَ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصِدْقِ بصائرهم، فهم قوم بأعيانهم ؛ قال ابن عباس :" كانوا ألفين وخمسمائة "، وقال جابر :" ألفاً وخمسمائة "، فدلّ على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان. وقد أكّد ذلك بقوله :﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه.
وقوله تعالى :﴿ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني الصبر بصدق نياتهم ؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية، وهو مثل قوله :﴿ إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما ﴾ [ النساء : ٣٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ﴾ الآية. رُوي عن ابن عباس أنها نزلت في قصة الحديبية، وذلك أن المشركين قد كانوا بعثوا أربعين رجلاً ليصيبوا من المسلمين، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى فخلَّى سبيلهم. ورُوي أنها نزلت في فتح مكة حين دخلها النبي صلى الله عليه وسلم عنوة.
فإن كانت نزلت في فتح مكة فدلالتها ظاهرة على أنها فُتحت عنوة لقوله تعالى :﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، ومصالحتُهم لا ظَفَرَ فيها للمسلمين، فاقتضى ذلك أن يكون فتحها عنوة.
قوله تعالى :﴿ وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ يَحْتجّ به من يُجيزُ ذبح هَدْي الإحصار في غير الحرم، لإخباره بكونه محبوساً عن بلوغ محلّه، ولو كان قد بلغ الحرم وذُبح فيه لما كان محبوساً عن بلوغ المحل ؛ وليس هذا كما ظنّوا لأنه قد كان ممنوعاً بديّاً عن بلوغ المحل ثم لما وقع الصلح زال المنع فبلغ محلّه وذُبح في الحرم، وذلك لأنه إذا حصل المنع في أدنى وقت فجائز أن يقال قد مُنع كما قال تعالى :﴿ قالوا يا أبانا مُنع منا الكيل ﴾ [ يوسف : ٦٣ ] وإنما مُنع في وقت وأُطلق في وقت آخر.
وفي الآية دلالة على أن المحَلَّ هو الحرم، لأنه قال :﴿ وَالهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفاً عن بلوغه، فوجب أن يكون المحل في قوله :﴿ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] هو الحرم.

باب رمي المشركين مع العلم بأن فيهم أطفال المسلمين وأسراهم


قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري :" لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين، ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين، وكذلك إن تَتَرَّسَ الكفارُ بأطفال المسلمين رُمي المشركون، وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دِيَة ولا كفارة " ؛ وقال الثوري :" فيه الكفارة ولا دية فيه ".
وقال مالك :" لا تُحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين، لقوله تعالى :﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾، إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين، ولو تَزَيَّلَ الكفار عن المسلمين لعذب الكفار ". وقال الأوزاعي :" إذا تَتَرَّسَ الكفار بأطفال المسلمين لم يُرْمَوْا، لقوله :﴿ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ﴾ الآية ".
قال :" ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين، ويُرمى الحصنُ بالمَنْجَنِيقِ وإن كان فيه أسارى مسلمون، فإن أصاب أحداً من المسلمين فهو خطأ، وإن جاؤوا يتترّسون بهم رُمي وقُصِدَ العدوُّ "، وهو قول الليث بن سعد. وقال الشافعي :" لا بأس بأن يُرْمَى الحصن وفيه أسارى أو أطفال، ومن أُصيب فلا شيء فيه، ولو تترّسوا ففيه قولان، أحدهما : يُرْمَوْن، والآخر : لا يُرْمَوْن إلا أن يكونوا ملتحمين، فيُضرب المشرك ويتوفّى المسلم جهده، فإن أصاب في هذه الحال مسلماً فإن علمه مسلماً فالدية مع الرقبة وإن لم يعلمه مسلماً فالرقبة وحدها ".
قال أبو بكر : نقل أهل السِّيَرِ أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمّدهم بالقتل، فدلّ على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رَمْيَهم، إذْ كان القصد فيه المشركين دونهم. ورَوَى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن الصعب بن جثّامة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيُصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال :" هُمْ مِنْهُمْ ". وبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال :" أَغِرْ على أُبْنَى صَباحاً وَحَرِّقْ "، وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزو بهم، فإن أذّنوا للصلاة أمسكوا عنهم، وإن لم يسمعوا أذاناً أغاروا ؛ وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون.
ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم، فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شنّ الغارة عليهم ورَمْيِهم بالنشّاب وغيره وإن خِيفَ عليه إصابة المسلم.
فإن قيل : إنما جاء ذلك لأن ذراريَّ المشركين منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة. قيل له : لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريّهم أنهم منهم في الكفر ؛ لأن الصِّغار لا يجوز أن يكونوا كفاراً في الحقيقة ولا يستحقّون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة. وأما احتجاج من يحتجّ بقوله :﴿ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ ﴾ الآية، في مَنْع رَمْي الكفّار لأجل مَنْ فيهم من المسلمين، فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف ؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كَفَّ المسلمين عنهم لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم ؛ وذلك إنما يدلّ على إباحة ترك رَمْيهم والإقدام عليهم، فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين ؛ لأنه جائز أن يبيح الكفّ عنهم لأجل المسلمين وجائز أيضاً إباحة الإقدام على وجه التخيير، فإذاً لا دلالة فيها على حظر الإقدام.
فإن قيل : في فحوى الآية ما يدل على الحظر، وهو قوله :﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ فلولا الحظر ما أصابتهم معرَّةٌ مِنْ قتلهم بإصابتهم إياهم. قيل له : قد اختلف أهلُ التأويل في معنى المَعَرَّةِ ههنا، فرُوي عن ابن إسحاق أنه غُرْمُ الدية، وقال غيره : الكفارة، وقال غيرهما : الغمّ باتفاق قتل المسلم على يده ؛ لأن المؤمن يغتمّ لذلك وإن لم يقصده ؛ وقال آخرون : العيب. وحُكي عن بعضهم أنه قال :" المعرة الإثم "، وهذا بالط، لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منّا لقوله تعالى :﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه، ولم يضع الله عليه دليلاً، قال الله تعالى :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]، فعلمنا أنه لم يُرِدِ المأثم.
ويُحتمل أن يكون ذلك كان خاصّاً في أهل مكة لحرمة الحرم، ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يُقتل عندنا ؟ وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحَرَم لم يُقتل، وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه ؛ فمَنْعُ المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم.
ويحتمل أن يريد : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذا لم يقتلوا ؛ فمَنَعَنَا قَتْلَهُمْ لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين، وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم ؛ وقوله :﴿ لَوْ تَزَيَّلُوا ﴾ على هذا التأويل، لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولَدُوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم، وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترّسوا بالمسلمين ؛ لأن القصد في الحالين رَمْي المشركين دونهم ومن أُصِيبَ منهم فلا دِيَةَ فيه ولا كفارة، كما أن من أُصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية ولا كفارة ؛ ولأنه قد أُبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة، فصاروا في الحكم بمنزلة من أُبيح قتله فلا يجب به شيء. وليست المعرَّةُ المذكورة دِيَةً ولا كفارة، إذْ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره، والأظهر منه ما يصيبه من الغمّ والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك.
وقول من تأوله على العيب محتمل أيضاً ؛ لأن الإنسان قد يُعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة.
قوله تعالى :﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ ﴾. قيل إنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب صلح الحديبية أمر عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه فكتبه، وأملى عليه :" بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو "، فأبت قريش أن يكتبوا " بسم الله الرّحمن الرّحيم ومحمد رسول الله " وقالوا : نكتب باسمك اللهم ومحمد بن عبدالله، ومنعوه دخوله مكة ؛ فكانت أَنْفَتُهم من الإقرار بذلك من حَمِيَّة الجاهلية.
وقوله تعالى :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾، رُوي عن ابن عباس قال :" لا إله إلا الله "، وعن قتادة مثله.
وقال مجاهد :" كلمة الإخلاص ". وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ قال :" بسم الله الرّحمن الرحيم ".
قوله تعالى :﴿ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾. قال أبو بكر : المقصد إخبارهم بأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين متقرّبين بالإحرام، فلما ذكر معه الحلق والتقصير دلّ على أنهما قُرْبَةٌ في الإحرام وأن الإحلال بهما يقع، لولا ذلك ما كان للذكر ههنا وجه.
ورَوَى جابر وأبو هريرة :" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلّقين ثلاثاً وللمقصرين مرَّةً "، وهذا أيضاً يدلّ على أنهما قربة ونسك عند الإحلال من الإحرام.
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).