تفسير سورة الفتح

لطائف الإشارات

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب لطائف الإشارات
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله " تشير إلى سموه في أزله، وعلوه في أبده، وسموه في أزله نفي البداية عنه بحق القدم، وعلوه في أبده نفي الانتهاء عنه باستحالة العدم ؛ فمعرفة سموه توجب للعبد سموا، ومعرفة علوه توجب للعبد علوا.

قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا فِتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾.
قضينا لك قضاءَ بَيَّناً، وحكمنا لك َ بتقويةِ دينِ الإسلام، والنصرةِ على عدوِّك، وأكرمناكَ بفتح ما انغلق على قلبِ مَنْ هو غيرك - مِنْ قِبْلِك - بتفصيلِ شرائعِ الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه.
نزلت الآيةُ في فتحِ مكة، ويقال في فتح الحُديبية.
ويقال : هديناك إلى شرائع الإسلام، وَيَسَّرْنا لك أمورَ الدين.
قوله جلّ ذكره :﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾.
كلا القسمين - المتقدِّم والمتأخِّر - كان قبلَ النبوة.
ويقال :﴿ مَا تَقَدَّمَ ﴾ من ذَنْبِ آدمِ بحُرْمتك، ﴿ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ : من ذنوب أُمَّتك.
وإذا حُمِلَ على تَرْك الأوْلَى فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها.
ولمَّا نزلت هذه الآية قالوا : هنيئاً لك ! فأنزل الله تعالى :﴿ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾. . . ويقال. حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين.
﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾.
يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، ويبسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غداً، وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقْسَمَ بحياتِهِ، وخصَّه بالعيان. وبسماعِ كلامه سبحانه ليلةَ المعراج، وبأن بَعَثَه إلى سائِرِ الأمم. . وغير ذلك من مناقبه.
﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هدايةً على هداية، ويهدي بك الخَلْقَ إلى الحقِّ.
ويقال : يهديك صراطاً مستقيماً بترك حَظِّك.
لا ذُلَّ فيه، وتكون غالباً لا يَغْلِبُكَ أحَدٌ :
ويقال : ينصرك على هواك ونَفْسِك، وينصرك بحُسْنِ خُلُقِك ومقاساةِ الأذى من قومك.
ويقال نصراً عزيزاً : مُعِزَّاً لك ولمن آمن بك.
وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوهٍ من الأفضال أكْرَمَ بها نبيَّه - صلى الله عليه وسلم- وخصَّه بها من الفتح والظَّفَرِ على النَّفْس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة. . ولكلٍّ من هذه الأشياء خصائصُ عظيمةٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤمِنِينَ ﴾.
السكينةُ ما يسكن إليه القلبُ من البصائر والحُجَج، فيرتقي القلبُ بوجودِها عن حدِّ الفكرة إلى رَوْحِ اليقين وثَلَج الفؤاد، فتصير العلومُ ضروريةٌ. . . وهذا للخواصَّ.
فأمّا عوامُّ المسلمين فالمرادُ منها : السكون والطمأنينة ُواليقين.
ويقال : من أوصافِ القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة.
وفي التفاسير : السكينة ريح هفَّافة. وقالوا : لها وجهٌ كوجه الإنسان. وقيل لها جناحان.
﴿ لِيَزْدَادُواْ إِيَماناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾.
أي يقيناً مع يقينهم وسكوناً مع سكونهم. تطلع أقمارُ عين اليقين على نجوم علم اليقين، ثم تطلع شمسُ حقِّ اليقين على بَدْرِ عين اليقين.
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾.
﴿ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ وقيل : هي جميع القلوب الدالَّةِ على وحدانية الله.
ويقال : مُلْكُ السماواتِ والأَرضِ وما به من قوىً تقهر أعداءَ اللَّهِ.
ويقال : هم أنصارُ دينه.
ويقال : ما سلَّطه الحقُّ على شيءٍ فهو من جنوده، سواء سلَّطَه على ولِّيه في الشدة والرخاء، أو سلَّطَه على عدوِّه في الراحة والبلاء.
قوله جل ذكره :﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾.
يَسْتَرُ ذنوبَهم ويحطها عنهم. . وذلك فوزٌ عظيم، وهو الظَّفَرُ بالبغية.
وسُؤْلُ كلِّ أحدٍ ومأمولُه، ومُبْتغاه ومقصودُه مختلِفٌ. . . وقد وَعَدَ الجميعَ ظَفَراً به.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السُّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾.
يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم.
و﴿ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ : هو ما كان بغير الإذن ؛ ظنوا أَنَّ الله لا ينصر دينَه ونَبيَّه عليه السلام.
﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ : عاقبته تدور عليهم وتحيقُ بهم.
﴿ وَلَعَنَهُمْ ﴾ : أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمتُه، وما سبقت لهم- من الله سبحانه - قِسْمِتُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾.
﴿ أَرْسَلْناكَ شَاهِداً ﴾ : على أُمَّتِكَ يوم القيامة. ويقال : شاهداً على الرُّسُلِ والكتب.
ويقال : شاهداً بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال : شاهداً لأمتك بتوحيدنا. ﴿ وَمُبَشِّراً ﴾ : لهم مِنَّا بالثواب، ﴿ وَنَذِيراً ﴾ للخَلْق ؛ زاجِراً ومُحَذِّراً من المعاصي والمخالفات.
ويقال : شاهداً مِنْ قِبَلنا، ومُبَشِّراً بأمرنا، ونذيراً من لَدُنَّا ولنا ومِنَّا.
قوله جلّ ذكره :﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾.
قرئ :" ليؤمنوا " بالياء ؛ لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويوقروه : أي : يُعَظِّموا الرسولَ. وتُسَبِّحوه : أي تُسَبِّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلاً.
وقرئ :" لتؤمنوا " - بالتاء - أيها المؤمنون بالله ورسوله وتُعَزروه - على المخاطَبة. وتعزيرُه يكون بإيثاره بكلِّ وجه على نَفْسك، وتقديمِ حُكْمهِ على حُكمِك. وتوقيرُه يكون باتباع سُنَّتِه، والعلم بأنه سيِّدُ بَريَّته.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللًّهَ ﴾.
وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سَمُرَة.
وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعث عثمانَ رضي الله عنه إلى قريش ليُكلِّمَهم فأرجفوا بقَتْلِه. وأتى عروة بن مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال :
جئتَ بأوشاب الناس لتفضَّ بَيْضَتَكَ بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنِّي بأصحابك قد انكشفوا عنك إذا مسَّهم حرُّ السلاح ! فقال أبو بكر : أتظن أنَّ نسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ؟
فبايعهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن يُقاتِلوا وألا يهربوا، فأنزل الله تعالى :﴿ إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ : أي عقْدُك عليهم هو عقد الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ ﴾.
أي ﴿ يَدُ اللَّهِ ﴾ : في المنة عليهم بالتوفيق والهداية :﴿ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ ﴾ بالوفاء حين بايعوك.
ويقال : قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فوقَ نَصْرِهم لدين الله ولرسوله.
وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع كما قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [ الأنفال : ١٧ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ فَمَنَ نَّكَثَ فإِِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾.
أي عذابُ النكثِ عائدٌ عليه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾.
أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجراً عظيماً.
وإذا كان العبد بوصف إخلاصِه، ويعامِل اللَّهَ في شيءٍ هو به متحقِّقٌ، وله بقلبه شاهدٌ فإنَّ الوسائطَ التي تُظْهِرُهاَ أماراتُ التعريفاتِ تجعله محواً في أسرارِه. . . والحكم عندئذ راجعٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسٍنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾.
لمَّا قَصَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّفَ قومٌ من الأعراب عنه. قيل : هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة وأشجع، وقالوا :﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ وليس لنا مَنْ يقوم بشأننا وقالوا : انتظروا ماذا يكون ؛ فما هم من قريش إلاَّ أكَلَهُ رأسٍ. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه مُعْتَذِرين بأنه لم يكن لهم أحدٌ يقوم بأَمورهم ! وقالوا : استغفر لنا.
فأطلعه الله – سبحانه - على كذبهم ونفاقهم ؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصاً، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا ﴾.
فضَحَهم. ويقال : ما شغل العبد عن الله شُؤمٌ عليه.
ويقال : عُذْرُ المماذِقِ وتوبةُ المنافِق كلاهما ليس حقائق.
قوله جلّ ذكره :﴿ بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السُّوءِ وَكُنتُمْ قَوْمَاً بُوراً ﴾.
حسبتم أن لن يرجعَ الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى أهليهم أبداً، وزَيَّنتْ لكم الأماني ألا يعودوا، وأنَّ الله لن ينصرهم. ﴿ وَكُنتُمْ قَوْمَا بُوراً ﴾ أي هالكين فاسدين.
ويقال : إنَّ العدوَّ إذا لم يقدر أن يكيدَ بيده يتمنَّى ما تتقاصر عنه مُكنتُهُ، وتلك صفةُ كلِّ عاجز، ونعتُ كلّ لئيم، ثم إن الله – سبحانه - يعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده
﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
ويقال : من العقوبات الشديدة التي يعاقِبُ اللَّهُ بها المُبْطِل أنْ يتصوَّرَ شيئاً يتمنَّاه يوطّن نَفَسْه عليه لفرط جَهْله. ويُلقى الحقُّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسهُ أن ذلك كالكائن. . ثم يعذبه الله بامتناعه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرينَ سَعِيراً ﴾.
وما هو آتٍ فقريب. . . وإنَّ الله ليرخي عنانَ الظَّلَمةِ ثم لا يفلتون من عقابه. وكيف - وفي الحقيقة - ما يحصل منهم هو الذي يجريه عليهم ؟
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يغفرُ - وليس له شريك يقول له : لا تفعل، ويعذّب من يشاء - وليس هناك مانعٌ عن فعله يقول له : لا تفعل.
قوله جلّ ذكره :﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انَطَلْقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ﴾.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم اللَّهُ خيبرَ، وأنَّ فيها سيظفرُ بأعدائه، فلمَّا هَمَّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة، فقال النبي صلى الله عليه ويسلم :" إنما يخرج معي إلى خيبر من خرج إلى الحديبية والله بذلك حكم ألا يخرجوا معنا ".
فقال المتخلفون : إنما يقول المؤمنون ذلك حَسداً لنا ؛ وليس هذا من قول الله ! فأنزل اللَّهُ تعالى ذلك لتكذيبهم، ولبيان حكمه ألا يستصحبَهم فهم أهل طمع، وكانت عاقبتُهم أنهم لم يجدوا مرادَهم ورُدُّوا بالمذلة وافتضح أمرهم.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾.
جاء في التفاسير أنهم أهلُ اليمامة أصحاب مسيلمة - وقد دعاهم أبو بكر وحاربهم، فالآية تدل على إمامته. . . وقيل هم أهل فارس - دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم ؛ فالآيةُ تدل عل صحة إمامته. وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبي بكر. ﴿ أُوْلِي بَأسٍ شَدِيدٍ ﴾ أولى شدَّة. فإنْ أطعتُم استوجبتم الثواب، وإن تخلَّفْتم استحقَقْتُم العقاب. ودلت الآيةُ على أن يجوز أن تكون للعبد بدايةٌ غيرُ مُرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح - كما كان لهؤلاء وأنشدوا :
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه فَرِّج له عَوْدَ الصلاح. . لعلَّه
قوله جلّ ذكره :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهّارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
وهؤلاء أصحاب الأعذار. . . رفع عنهم الحَرَج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين.
وكذلك مَنْ كان لهُ عذرٌ في المجاهدة مع النفس. " فإنَّ الله يحُبُّ أن تؤتى رُخصَهُ كما يحب أن تؤتى عزائمه ".
قوله جلّ ذكره :﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾.
هذا بيعة الرضوان، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى :﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عِنِ. . . الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وكانوا ألفاً وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة. وكانوا قصدوا دخولَ مكة، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادِّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجاً لحرب، فقصده المشركون، ثم صالحوه على أن ينصرفَ هذا العام، ويقيم بها ثلاثاً ثم يخرج، ( وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا ) وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشر بذلك أصحابه، فلما صدهم المشركون خامر قلوبَهم، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمةٌ حتى قال الصَّدِّيقُ : لم يَقُلْ العام ! فسكنت قلوبهم بنزول الآية ؛ لأن الله سبحانه علم في قلوبهم من الاضطراب والتشكك. فأنزل السكينة في قلوبهم. وثبَّتهم باليقين. ﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ هو فتحُ خيبر بعد مدة يسيرة، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرةٍ من خيبر. وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة.
وفي الآية دليلٌ على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطرُ مُشكِّكة، وفي الرَّيب موقعة، ولكن لا عبرة بها ؛ فإنّ الله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً لازم التوحيدُ قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه فلا يضرُّه كيدُ الشيطان، قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّن الشَّيَطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ].
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ ويدخل في ذلك جميعُ ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجَّل لكم هذه - يعني خيبر، وقيل : الحديبية.
﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ﴾ لما خرجوا من المدينة حرسهم اللَّهُ، وحفظ عيالهم، وحمى بَيْضَتهم حين هبَّ اليهود في المدينة بعد خروج المسلمين، فمنعهم اللَّهُ عنهم.
أو يقال : كفَّ أيدي الناس من أهل الحديبية.
﴿ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾.
لتكون هذه آيةٌ للمؤمنون وعلامةٌ يَسْتدلُّون بها على حراسة الله لهم.
﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ : في التوكل على الله والثقة به.
ويقال : كفُّ أيدي الناس عن العبد هو أنْ يَرْزُقَه من حيث لا يحتسب، لئلا يحتاجَ إلى أن يتكفَّفَ الناس.
ويقال : أنْ يَرْفَعَ عنه أيدي الظَّلَمة.
ويقال : ألا تحمله المطالبةُ بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه ؛ فيأخذ من الأشياء - برخصة التأويل - ما ليس بطيِّبٍ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيراً ﴾.
قيل : فتح الروم وفارس. وقيل : فتح مكة.
وكان الله على كل شيءٍ قديراً : فلا تُعلِّقوا بغيره قلوبكم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
يعني : خيبر وأسد وغطفان وغيرهم - لو قاتلوكم لانهزموا، ولا يجدون من دون الله ناصراً.
قوله جلّ ذكره :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾.
أي سُنَّةُ اللَّهِ خذلانُهم ولن تَجد لسنة الله تحويلاً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وََأيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾.
قيل إن سبعين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله ( فأخذناهم سِلْماً فاستحييناهم ) فأنزل اللَّهُ هذه الآيةَ في شأنهم.
وقيل أخذ اثني عشر رجلاً من المشركين - بلا عَهْدٍ - فَمنَّ عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقيل : هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين، وحصل ترامي الأحجار بينهم ؛ فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، فأنزل اللَّهُ هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدي بعضهم عن بعض عن قدرة المسلمين، لا من عجزٍ ؛ فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعْباً وخوفاً ؛ وأمَّا المسلمون فَنَهياً مِنْ قِبَلِ الله، لما في أصلابهم من المؤمنين - أراد الله أن يخرجوا، أو لِمَا عَلِمَ أن قوماً منهم يؤمنون.
والإشارة فيه : أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يَسْلَم الناسُ منك، وتسلم منهم. وإن الله يفعل بأوليائه ذلك، فلا من أَحد عليهم حَيف، ولا منهم على أحد حيفٌ ولا حسابٌ ولا مطالبة ولا صلحٌ ولا معاتبة، ولا صداقة ولا عداوة. وكذا من كان بالحق - وأنشدوا :
فلم يبْقَ لي وقتٌ لِذكرِ مُخَالِفٍ ولم يبق لي قلبٌ لذكر موافق
قوله جلّ ذكره :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾.
﴿ كَفَرُواْ ﴾ وجحدوا، ﴿ وَصَدُّكُمْ ﴾ ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية.
﴿ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً ﴾ : أي منعوا الهَدْيَ أن يبلغَ مَنحرَه، فمعكوفاً حالٌ من الهدي أي محبوساً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق تلك السَّنَة سبعين بَدَنَةٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾.
لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرَّة منكم بغير علم لَسَّلْطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم. وفي هذا تعريفٌ للعبد بأن أموراً قد تنغلق وتَتَعَسّر فيضيق قلب الإنسان. . ولله في ذلك سِرُّ، ولا يعدم ما يجري من الأمر أن يكون خيراً للعبد وهو لا يدري. . . كما قالوا :
كم مرة حفَّت بك المكاره خير لك اللَّهُ. . . وأنت كاره
قوله جلّ ذكره :﴿ إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمْيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِليَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أحقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾.
يعني الأنفة ؛ أي دَفَعْتهم أنفةُ الجاهلية أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سَنَةَ الحديبية، فأنزل اللَّهُ سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحِلْم.
﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ وهي كلمة ُ التوحيد تَصْدُرُ عن قلبِ صادق : فكلمةُ التقوى يكون معها الاتقاءُ من الشَّرْك.
﴿ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا ﴾ حسب سابق حُكْمِه وقديم علمه. . . ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيماً ﴾.
ويقال : الإلزامُ في الآية هو إلزامُ إكرامٍ ولطف، لا الإلزام إكراهٍ وعُنْفٍ ؛ وإلزامُ برِّ لا إلزام جبر. . .
وكم باسطين إلى وَصْلنا أكفهمو. . لم ينالوا نصيبا !
ويقال كلمة التقوى : التواصي بينهم بحفظ حق الله.
ويقال : هي أن تكون لك حاجةٌ فتسأل الله ولا تُبديها للناس.
ويقال : هي سؤالك من الله أن يحرُسَك من المطامع.
قوله جلّ ذكره :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدُخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾.
أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه ؛ صدقه فيما أره من دخول مكة ﴿ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأَخبر أصحابه. فوطَّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة. فلمَّا كان من أمر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شيء، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام، ثم أَذن الله في العام القابل، فأنزل الله :﴿ لَّقَدَ صََدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ ﴾ فكان ذلك تحقيقاً لما أراه، فرؤياه صلوات الله حق ؛ لأن رؤيا الأنبياء حق.
وكان في ذلك نوعُ امتحانٍ لهم :﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ أنتم من الحكمة في التأخير.
وقوله :﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ ﴾ معناه إذ شاء الله كقوله :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
وقيل قالها على جهة تنبيههم إلى التأدُّب بتقديم المشيئة في خطابهم.
وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى : إن شاء الله آمنين أو غير آمنين.
وقيل : يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلِّهم أو دخول بعضهم ؛ فإنْ الدخول كان بعد سنة، ومات منهم قومٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾.
أرسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحنفي، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين ؛ فما من دينٍ لقوم إلا ومنه في أيدي المسلمين سِرُّ ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات.
وقيل : ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام.
وقيل : في القيامة حيث يظهر الإسلامُ على كل الأديان.
وقيل : ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل.
قوله جلّ ذكره :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾.
﴿ أَشِدَّاءُ ﴾ جمع شديد، أي فيهم صلابةٌ مع الكفار.
﴿ رُحَمَاءُ ﴾ جمع رحيم، وصَفَهَم بالرحمة والتوادِّ فيما بينهم.
﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾.
تراهم راكعين ساجدين يطلبون من الله الفضل والرضوان.
﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾.
أي علامة التخشع التي على الصالحين.
ويقال : هي في القيامة يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ، وأنهم يكونون غداً محجلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من كثرت صلاته بالليل حَسُنَ وجههُ بالنهار ".
ويقال في التفسير :" معه " أبو بكر، و﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ﴾ عمر ؛ و﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ عثمان، و﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾ عليُّ رضي الله عنهم.
وقيل : الآيةُ عامةٌ في المؤمنين.
﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾.
هذا مثلهم في التوراة، وأما مثلهم في الإنجيل فكزرع أخرج شطأه أي : فراخه.
يقال : أشطأ الزرعُ إذا أخرج صغاره على جوانبه. ﴿ فَئَازَرَهُ ﴾ أي عاونه.
﴿ فَاسْتَغْلَظَ ﴾ أي غلظُ واستوى على سوقه ؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض. يعجب هذا الزرعُ الزرَّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار ؛ شَبَّهَ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ينبت حولها فتشتد، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين.
فمَنْ حمل الآية على الصحابة : فمن أبغضهم دخل في الكفر، لأنه قال :﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ أي بأصحابه الكفارَ. ومَنْ حمله على المسلمين ففيه حُجَّة على الإجماع، لأنَّ من خالف الإجماع - فالله يغايظ به الكفارَ- فمخالفُ الإجماع كافرٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾.
وَعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب، وأجراً عظيماً في الجنة فقوله :" منهم " للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان.
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).