تفسير سورة الفتح

تفسير السعدي

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تيسير الكريم الرحمن المعروف بـتفسير السعدي.
لمؤلفه السعدي . المتوفي سنة 1376 هـ
تفسير سورة الفتح وهي مدنية

﴿١-٣﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾.
هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول الله ﷺ لما جاء معتمرا في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله ﷺ على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عهد رسول الله ﷺ وعقده فعل.
وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضا، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل، وصار كل مؤمن بأي محل كان من تلك الأقطار، يتمكن من ذلك، وأمكن الحريص على الوقوف على حقيقة الإسلام، فدخل الناس في تلك المدة في دين الله أفواجا، فلذلك سماه الله فتحا، ووصفه بأنه فتح مبين أي: ظاهر جلي، وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله، وانتصار المسلمين، وهذا حصل بذلك (١) الفتح، ورتب الله على هذا الفتح عدة أمور، فقال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾
وذلك -والله أعلم- بسبب ما حصل بسببه من الطاعات الكثيرة، والدخول في الدين بكثرة، وبما تحمل ﷺ من تلك الشروط التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من المرسلين، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته صلى الله عليه وسلم، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بإعزاز دينك، ونصرك على أعدائك، واتساع كلمتك، ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ تنال به السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي.
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ أي: قويا لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، وقمع الكافرين، وذلهم ونقصهم، مع توفر قوى المسلمين ونموهم، ونمو أموالهم.
ثم ذكر آثار هذا الفتح على المؤمنين فقال:
(١) في ب: به.
﴿٤-٦﴾ ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.
يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله ﷺ والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. وقوله: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.
﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الجزاء المذكور للمؤمنين ﴿عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فهذا ما يفعل بالمؤمنين في ذلك الفتح المبين.
وأما المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، فإن الله يعذبهم بذلك، ويريهم ما يسوءهم؛ حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين، وظنوا بالله الظن السوء، أنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته، وأن أهل الباطل، ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، فأدار الله عليهم ظنهم، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا، ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ بما اقترفوه من المحادة لله ولرسوله، ﴿وَلَعَنَهُمْ﴾ أي: أبعدهم وأقصاهم عن رحمته ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
﴿٧﴾ ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
كرر -[٧٩٢]- الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل، وأنه سينصر جنوده المنسوبة إليه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ أي: قويا غالبا، قاهرا لكل شيء، ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه وتدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.
﴿٨-٩﴾ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾.
أي: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿شَاهِدًا﴾ لأمتك بما فعلوه من خير وشر، وشاهدا على المقالات والمسائل، حقها وباطلها، وشاهدا لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه، ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي، ومنذرا من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ومن تمام البشارة والنذارة، بيان الأعمال والأخلاق التي يبشر بها وينذر، فهو المبين للخير والشر، والسعادة والشقاوة، والحق من الباطل، ولهذا رتب على ذلك قوله: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
أي: بسبب دعوة الرسول لكم، وتعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه لتقوموا بالإيمان بالله ورسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور.
﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أي: تعزروا الرسول ﷺ وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ أي: تسبحوا لله ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها.
﴿١٠﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
هذه المبايعة التي أشار الله إليها هي ﴿بيعة الرضوان﴾ التي بايع الصحابة رضي الله عنهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لا يفروا عنه، فهي عقد خاص، من لوازمه أن لا يفروا، ولو لم يبق منهم إلا القليل، ولو كانوا في حال يجوز الفرار فيها، فأخبر تعالى: أن الذين بايعوك حقيقة الأمر أنهم ﴿يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ ويعقدون العقد معه، حتى إنه من شدة تأكده أنه قال: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: كأنهم بايعوا الله وصافحوه بتلك المبايعة، وكل هذا لزيادة التأكيد والتقوية، وحملهم على الوفاء بها، ولهذا قال: ﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ فلم يف بما عاهد الله عليه ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي: لأن وبال ذلك راجع إليه، وعقوبته واصلة له، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ أي: أتى به كاملا موفرا، ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ لا يعلم عظمه وقدره إلا الذي آتاه إياه.
﴿١١-١٣﴾ ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾.
يذم تعالى المتخلفين عن رسوله، في الجهاد في سبيله، من الأعراب الذين ضعف إيمانهم، وكان في قلوبهم مرض، وسوء ظن بالله تعالى، وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد، وأنهم طلبوا من رسول الله ﷺ أن يستغفر لهم، قال الله تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فإن طلبهم الاستغفار من رسول الله ﷺ يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعا لهم، لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء.
فظنوا ﴿أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسبب ذلك أمران:
أحدها: أنهم كانوا ﴿قَوْمًا بُورًا﴾ أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم.
الثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾
﴿١٤﴾ ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
أي: هو تعالى المنفرد بملك السماوات والأرض، يتصرف فيهما بما يشاء من الأحكام القدرية، والأحكام الشرعية، والأحكام الجزائية، ولهذا ذكر حكم الجزاء المرتب على الأحكام الشرعية، فقال: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وهو من قام -[٧٩٣]- بما أمره الله به ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ ممن تهاون بأمر الله، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أي: وصفه اللازم الذي لا ينفك عنه المغفرة والرحمة، فلا يزال في جميع الأوقات يغفر للمذنبين، ويتجاوز عن الخطائين، ويتقبل توبة التائبين، وينزل خيره المدرار، آناء الليل والنهار.
﴿١٥﴾ ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا﴾.
لما ذكر تعالى المخلفين وذمهم، ذكر أن من عقوبتهم الدنيوية، أن رسول الله ﷺ وأصحابه إذا انطلقوا إلى غنائم لا قتال فيها ليأخذوها، طلبوا منهم الصحبة والمشاركة، ويقولون: ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ﴾ بذلك ﴿أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ حيث حكم بعقوبتهم، واختصاص الصحابة المؤمنين بتلك الغنائم، شرعا وقدرا. ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ إنكم محرومون منها بما جنيتم على أنفسكم، وبما تركتم القتال أول مرة.
﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ مجيبين لهذا الكلام، الذي منعوا به عن الخروج: ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ على الغنائم، هذا منتهى علمهم في هذا الموضع، ولو فهموا رشدهم، لعلموا أن حرمانهم بسبب عصيانهم، وأن المعاصي لها عقوبات دنيوية ودينية، ولهذا قال: ﴿بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا﴾
﴿١٦-١٧﴾ ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
لما ذكر تعالى أن المخلفين من الأعراب يتخلفون عن الجهاد في سبيله، ويعتذرون بغير عذر، وأنهم يطلبون الخروج معهم إذا لم يكن شوكة ولا قتال، بل لمجرد الغنيمة، قال تعالى ممتحنا لهم: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي: سيدعوكم الرسول ومن ناب منابه من الخلفاء الراشدين والأئمة، وهؤلاء القوم فارس والروم ومن نحا نحوهم وأشبههم. ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي: إما هذا وإما هذا، وهذا هو الأمر الواقع، فإنهم في حال قتالهم ومقاتلتهم لأولئك الأقوام، إذ كانت شدتهم وبأسهم معهم، فإنهم في تلك الحال لا يقبلون أن يبذلوا الجزية، بل إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا على ما هم عليه، فلما أثخنهم المسلمون، وضعفوا وذلوا، ذهب بأسهم، فصاروا إما أن يسلموا، وإما أن يبذلوا الجزية، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾ الداعي لكم إلى قتال هؤلاء ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ وهو الأجر الذي رتبه الله ورسوله على الجهاد في سبيل الله، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ عن قتال من دعاكم الرسول إلى قتاله، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ ودلت هذه الآية على فضيلة الخلفاء الراشدين، الداعين لجهاد أهل البأس من الناس، وأنه تجب طاعتهم في ذلك.
ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ أي: في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ﴾ عن طاعة الله ورسوله ﴿يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فالسعادة كلها في طاعة الله، والشقاوة في معصيته ومخالفته.
﴿١٨-٢١﴾ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾.
يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول ﷺ تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها "بيعة الرضوان" لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها "بيعة أهل الشجرة" - أن رسول الله ﷺ لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له، فبعث رسول الله ﷺ عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله ﷺ من معه من المؤمنين، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الإيمان، ﴿فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ -[٧٩٤]- شكرا لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم، ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاءا لهم، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته.
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي: له العزة والقدرة، التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم، يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر.
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ وهذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمين إلى يوم القيامة، ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ أي: غنيمة خيبر أي: فلا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم سيتبعها، ﴿و﴾ احمدوا الله إذ ﴿كف أَيْدِي النَّاسِ﴾ القادرين على قتالكم، الحريصين عليه ﴿عَنْكُمْ﴾ فهي نعمة، وتخفيف عنكم.
﴿وَلِتَكُونَ﴾ هذه الغنيمة ﴿آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها، ﴿وَيَهْدِيَكُمْ﴾ بما يقيض لكم من الأسباب ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ من العلم والإيمان والعمل.
﴿وَأُخْرَى﴾ أي: وعدكم أيضا غنيمة أخرى ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ وقت هذا الخطاب، ﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ أي: هو قادر عليها، وتحت تدبيره وملكه، وقد وعدكموها، فلا بد من وقوع ما وعد به، لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾
﴿٢٢-٢٣﴾ ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾.
هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين، بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم ﴿لَوَلَّوُا الأدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يتولى أمرهم، ﴿وَلا نَصِيرًا﴾ ينصرهم ويعينهم على قتالكم، بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾
﴿٢٤-٢٥﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية، من شر الكفار ومن قتالهم، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي: أهل مكة ﴿عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم نحو ثمانين رجلا انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة، فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم، فتركوهم ولم يقتلوهم، رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم، ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ فيجازي كل عامل بعمله، ويدبركم أيها المؤمنون بتدبيره الحسن.
ثم ذكر تعالى الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضا صدوا ﴿الهدي مَعْكُوفًا﴾ أي: محبوسا ﴿أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم، ولكن ثم مانع وهو: وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن أن لا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطأوهم، أي: خشية أن تطأوهم ﴿فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء فيمن عليهم بالإيمان بعد الكفر، وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب.
﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ أي: لو زالوا من بين أظهرهم ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم.
﴿٢٦﴾ ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾.
يقول تعالى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ حيث أنفوا من كتابة ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ وأنفوا من دخول رسول الله ﷺ والمؤمنين إليهم في تلك السنة، لئلا يقول الناس: " دخلوا مكة قاهرين لقريش " وهذه الأمور ونحوها من أمور الجاهلية، لم تزل في قلوبهم حتى أوجبت لهم ما أوجبت -[٧٩٥]- من كثير من المعاصي، ﴿فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فلم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم الله، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت، ولم يبالوا بقول القائلين، ولا لوم اللائمين.
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ وهي " لا إله إلا الله " وحقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها وقاموا بها، ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا﴾ من غيرهم ﴿و﴾ كانوا ﴿أهلها﴾ الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير، ولهذا قال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾
﴿٢٧-٢٨﴾ ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾.
يقول تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ وذلك أن رسول الله ﷺ رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى، ورجعوا من غير دخول لمكة، كثر في ذلك الكلام منهم، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال: " أخبرتكم أنه العام؟ " قالوا: لا قال: "فإنكم ستأتونه وتطوفون به" قال الله هنا: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ أي: لا بد من وقوعها وصدقها، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها، ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ أي: في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام، وأدائكم للنسك، وتكميله بالحلق والتقصير، وعدم الخوف، ﴿فَعَلِمَ﴾ من المصلحة والمنافع ﴿مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ الدخول بتلك الصفة ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين، وخفيت عليهم حكمتها، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها، وهكذا سائر أحكامه الشرعية، فإنها كلها، هدى ورحمة.
أخبر بحكم عام، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ الذي هو العلم النافع، الذي يهدي من الضلالة، ويبين طرق الخير والشر.
﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ أي: الدين الموصوف بالحق، وهو العدل والإحسان والرحمة.
وهو كل عمل صالح مزك للقلوب، مطهر للنفوس، مرب للأخلاق، معل للأقدار.
﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ بما بعثه الله به ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ بالحجة والبرهان، ويكون داعيا لإخضاعهم بالسيف والسنان.
﴿٢٩﴾ ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
يخبر تعالى عن رسوله ﷺ وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.
﴿يَبْتَغُونَ﴾ بتلك العبادة ﴿فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه.
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ أي: قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا.
وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ﴾ أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء.
﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ ذلك الزرع أي: قوي وغلظ ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ جمع ساق، ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، -[٧٩٦]- كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
ولنسق قصة الحديبية بطولها، كما ساقها الإمام شمس الدين ابن القيم في ﴿الهدي النبوي﴾ فإن فيها إعانة على فهم هذه السورة، وتكلم على معانيها وأسرارها، قال -رحمه الله تعالى: - فصل في قصة الحديبية
قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول الله ﷺ إلى الحديبية في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان. قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت في ذي القعدة على الصواب.
وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، فذكر منهن عمرة الحديبية، وكان معه ألف وخمسمائة، هكذا في الصحيحين عن جابر، وعنه فيهما: كانوا ألفا وأربعمائة، وفيهما، عن عبد الله بن أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الجماعة الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وهم، وهو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة، قلت: وقد صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفا وأربعمائة، بخيلنا ورجلنا، يعني: فارسهم وراجلهم.
والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حزن، قال شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: كنا مع رسول الله ﷺ تحت الشجرة ألفا وأربعمائة، وغلط غلطا بينا من قال: كانوا سبعمائة، وعذره (١) أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة أو عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه الغزوة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم، لكانوا أربعمائة وتسعين رجلا وقد قال بتمام الحديث بعينه، أنهم كانوا ألفا وأربعمائة. فصل
فلما كانوا بذي الحليفة، قلد رسول الله ﷺ الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كانوا قريبا من عسفان، أتاه عينه، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
واستشار النبي ﷺ أصحابه: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت؟ فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذا" فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين"، فوالله ما شعر بهم خالد، حتى إذا هو بغبرة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" ثم قال: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها" ثم زجرها، فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله ﷺ العطش.
فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه، قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنها، وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله ﷺ أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت.
فدعا رسول الله ﷺ عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش، وقال: "أخبرهم أنا لم نأت لقتال، إنما جئنا عمارا، وادعهم إلى الإسلام"
وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق -[٧٩٧]- عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله ﷺ أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك.
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، فأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة، وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون" فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: "ذاك ظني به، أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه" واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله ﷺ أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة.
فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، فأخذ رسول الله ﷺ بيد نفسه، وقال: "هذه عن عثمان" ولما تمت البيعة، رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال: بئسما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله ﷺ ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا.
وكان عمر أخذ بيد رسول الله ﷺ للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد ابن قيس، وكان معقل بن يسار، أخذ بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من بايعه، أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.
فبينما هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي، في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا أماددهم ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن أبوا إلا القتال، فوالذي نفسي بيده، لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره" قال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا فإن شئتم عرضته عليكم، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي: منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي ﷺ نحوا من قوله لبديل، فقال له عروة عند ذلك: أي: محمد، أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فوالله إني لأرى وجوها، وأرى أوباشا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك.
وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله ص
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).