تفسير سورة الفتح

فتح الرحمن في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن.
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الفَتح
مدنية، نزلت على النّبيّ - ﷺ - منصرَفَهُ من الحديبية (١)، وهي بهذا في حكم المدني، وآيها: تسع وعشرون آية، وحروفها: ألفان وأربع مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، وكلمها: خمس مئة وثلاثون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾.
[١] ﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾ الأكثرون على أنّه صلح الحديبية (٢)، ونزلت السورة مؤانسة للمؤمنين، لأنّهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم، ومن تلك (٣) المهادنة الّتي هادنهم النّبيّ - ﷺ -، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت، ومذهِبَة ما كان في قلوبهم.
وملخص القصة: أن رسول الله - ﷺ - خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة معتمرًا، لا يريد حربًا، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة، وسار حتّى وصل إلى ثنية المزار مهبط الحديبية أسفل مكّة، والحديبية بئر،
(١) رواه مسلم (١٧٨٦)، كتاب: الجهاد، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك.
(٢) رواه البخاري (٣٩٣٩)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، عن أنس.
(٣) "تلك" زيادة من "ت".
330
ووقع من معجزاته - ﷺ - آية الماء في بئر الحديبية؛ حيث وضع فيه سهمه، وثاب الماء حتّى كفى الجيش.
وتأهبت قريش للقتال، وبعثوا رسولهم إلى النّبيّ - ﷺ -، فبعث إليهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يعلمهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائرًا ومعظمًا لهذا البيت، فلما وصل إليهم، أمسكوه وحبسوه، وبلغ رسول الله - ﷺ - أن عثمان قتل، فدعا النَّاس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايع النَّاس على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتّى قال سلمة بن الأكوع وغيره: "بايعنا رسول الله - ﷺ - على الموت" (١)، ثمّ أتاه الخبر أن عثمان لم يقتل، ثمّ وقع الصلح بين رسول الله - ﷺ - وبين قريش؛ فإنهم بعثوا سهيل بن عمرو في الصلح، فأجاب النّبيّ - ﷺ -، ثمّ دعا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: "اكتب: بسم الله الرّحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، فقال رسول الله - ﷺ -: اكتب: باسمك اللَّهُمَّ، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله - ﷺ -، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال لعلي: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبدًا، قال: فأرنيه، فأراه إياه (٢)، فمحاه النّبيّ - ﷺ -، ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن النَّاس عشر سنين، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
(١) رواه البخاريّ (٦٧٨٠)، كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام النَّاس، ومسلم (١٨٦٠)، كتاب: الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال.
(٢) "إياه" زيادة من "ت".
331
وعهدهم دخل فيه"، وأشهدوا في الكتاب على الصلح رجالًا من المسلمين والمشركين، ثمّ نحر رسول الله - ﷺ - هديه، وحلق رأسه، وفعل النَّاس كذلك (١)، ثمّ عاد إلى المدينة، حتّى إذا كان بين مكّة والمدينة، نزلت سورة الفتح.
ودخل في (٢) هذه السُّنَّة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر، فكان هذا الفتح الأعظم، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المسلمين خيرًا، واتفقت في ذلك الوقت (٣) ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله - ﷺ -، وسر بها والمؤمنون؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس، وانحصاد الشوكة العظمى من الكفرة، والفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحًا.
﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾ أي: قضينا لك قضاء بيِّنًا.
* * *
﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢)﴾.
[٢] ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ هى لام (كي)؛ لكنها تخالفها في المعنى. قرأ
(١) رواه مطولًا البخاري (٢٥٨١)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، من حديث المسْوَر بن مخرمة، ومسلم (١٧٨٤)، كتاب: الجهاد، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) "في" ساقطة من "ت".
(٣) "الوقت" زيادة من "ت".
أبو عمرو: (لِيَغْفِر لَّكَ) بإدغام الراء في اللام (١)، والمراد هنا: أن الله فتح لك؛ لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك؛ فكأنّها لام صيرورة، ولهذا قال - ﷺ -: "لقد أنزلت عليَّ اللَّيلة سورة هي أحبُّ إليَّ من الدنيا" (٢).
﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك.
﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ذنوب أمتك بدعوتك، وقيل: مقصد الآية: أنك مغفور لك، غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.
﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بإظهارك وتعليتك على عدوك، والرضوان في الآخرة.
﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي: إلى صراط؛ أي: يثبتك على الدِّين، فجمع الله لنبيه - ﷺ - في هذه السورة نعمًا مختلفة من الفتح المبين، وهو من أعلام الإجابة، والمغفرة، وهي من أعلام المحبة، وتمام النعمة، وهي من أعلام الاختصاص، والهداية، وهي من أعلام الولاية، فالمغفرة تبرئة من العيوب، وتمام النعمة بلاغ (٣) الدرجة الكاملة، والهداية هي الدّعوة إلى المشاهدة.
* * *
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣)﴾.
[٣] ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ وهو الّذي معه غلبة العدو، والظهور عليه،
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠١).
(٢) رواه مسلم (١٧٨٦)، كتاب: الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) في "ت": "إبلاغ".
والنصر غيرُ العزيز: هو الّذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط.
* * *
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤)﴾.
[٤] ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ﴾ الطمأنينة والوقار ﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتّى اطمأنوا وعلموا أن وعد الله على لسان رسول الله - ﷺ - حق.
﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا﴾ يقينًا ﴿مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ الأوّل، ويكثر تصديقهم.
قال ابن عبّاس: بعث - ﷺ - بشهادة أن لا إله إِلَّا الله، فلما صدقوه، زادهم الصّلاة، ثمّ الزَّكاة، ثمّ الصِّيام، ثمّ الحجِّ، ثمّ الجهاد (١).
واختلف الأئمة في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال أبو حنيفة: لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء فيه، وقال الثّلاثة: يزيد وينقص، ويجوز الاستثناء فيه.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلو أراد نصر دينه بغيركم، لفعل.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بخلقه ﴿حَكِيمًا﴾ في صنعه، وقوله: (وَكَانَ)؛ أي: كان ويكون، فهي دالة على الوجود بهذه الصِّفَة، لا معينة وقتًا ماضيًا.
* * *
(١) رواه الطّبريّ في "تفسيره" (٢٢/ ٢٠٣). وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٨)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٦٤)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٥١٤).
﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥)﴾.
[٥] روي أنه لما أنزلت: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩]، تكلم فيها أهل الكتاب، وقالوا: كيف نتبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾، فلما سمعها المؤمنون، قالوا: هنيئًا مريئًا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فنزل: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾. قال أهل المعاني: وإنما كررت اللام في قوله: (لِيُدْخِلَ) بتأويل تكرير الكلام، مجازه: إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، إنا فتحنا لك؛ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار (١).
﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ يسترها ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإدخال والتكفير.
﴿عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦)﴾.
[٦] روي أن النبي - ﷺ - أتي بجماعة، فقالوا: ما لنا عند الله؟ فنزل: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ أن الله لا ينصر محمدًا - ﷺ -.
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" (٩/ ٤٣).
﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ بالعذاب والهلاك. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (دَائِرَةُ السُّوءِ) بضم السين، وقرأ الباقون: بفتحها كالحرف الأول (١)، وهما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء، والمضموم جرى مجرى الشر الذي هو نقيض الخير، يقال: أراد به السُّوْء، وأراد به الخير، وسَمَّى المصيبة التي دعا بها عليهم: (دائِرَة) من حيث يقال في الزمان: إنه يستدير، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات، تذهب على ترتيب، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى، ومنه قول النبي - ﷺ -: "إن الزمانَ قد استدار كهيئته يومَ خَلَق الله (٢) السمواتِ والأرضَ" (٣)، ويحسُن أن تسمى المصيبة دائرة؛ من حيث إنها تدير: تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة.
﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أبعدهم من رحمته.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ جهنم.
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧)﴾.
[٧] ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾ الملائكة ﴿وَالْأَرْضِ﴾ الغزاة في سبيل الله.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠١).
(٢) لفظ الجلالة "الله" لم يرد في "ت".
(٣) رواه البخاري (٣٠٢٥)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين، ومسلم (١٦٧٩)، كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨)﴾.
[٨] ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا﴾ على أمتك يوم القيامة.
﴿وَمُبَشِّرًا﴾ بالجنة مَنْ عمل خيرًا من أهل الإيمان.
﴿وَنَذِيرًا﴾ منذرًا أعداءَ الله بالنار، ومن عمل سوءًا.
...
﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩)﴾.
[٩] ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ يُقَوُّوه وينصروه ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ يعظِّموه ويفخِّموه، والهاء في (يُعَزِّرُوهُ ويُوقِّرُوهُ) للنبي - ﷺ -، وهاهنا وقف، والهاء في ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ لله -عز وجل- أي: يصلوا له.
﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ بالغداة والعشي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (ليُؤْمِنُوا) (وَيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوه وَيُسَبِّحُوهُ) بالغيب في الأربعة على استمرار الخطاب للنبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالخطاب للناس (١)، على معنى: قل لهم.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ يا محمد بيعةَ الرضوان بالحديبية على ألَّا
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٢ - ٢٠٣).
يفروا، وخبر (إِنَّ) ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: حولُه وقُوَّتُه فوق حولهم وقوتهم؛ أي: في نصرك ونصرهم، وهذا تعديد نعمة عليهم مستقبَلة مخبر بها.
﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ نقضَ البيعةَ ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ﴾ فإنما يرجع وبالُ نقضه.
﴿عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ ثبت على البيعة. قرأ حفص عن عاصم: (عَلَيْهُ الله) بضم الهاء، حذفت الواو لسكونها، وبقيت الضمة تدل عليها، وقرأ الباقون: بكسر الهاء، أبدلوا من الضمة كسرة (١)، يقال: أوفى بالعهد، ووفَّى به: إذا لم ينقضه.
﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وهو الجنة فما فوقها. قرأ أبو عمرو، والكوفيون، ورويس عن يعقوب: (فَسَيُؤْتيِه) بالياء؛ أي: فسيؤتيه الله، وقرأ الباقون: بالنون التي للعظمة (٢).
...
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١)﴾.
[١١] ولما سار - ﷺ - إلى مكة عام الحديبية، طلب ناسًا من الأعراب
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٤).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و "تفسير البغوي" (٤/ ١٦٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٤).
ليرتحلوا معه، فتخلفوا عنه جبنًا، واعتلُّوا بالأموال والأولاد، فنزل: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ عنك ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ إذا رجعت من الحديبية.
﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ اللهَ ليغفر لنا تخلُّفَنا عنك، فكذبهم الله في اعتذارهم، فقال: ﴿يَقُولُونَ﴾ يُظهرون.
﴿بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لأنهم لا يبالون باستغفارك.
﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ سوءًا ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾ أي: لا يقدر على دفع ضر ولا جلب نفع إلا هو تعالى. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ضُرًّا) بضم الضاد، والباقون: بفتحها (١)، وهما لغتان، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي - ﷺ - يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم أنه إن أراد شيئًا من ذلك، لم يقدر أحد على دفعه ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ فيعلم تخلفكم وقصدَكم فيه.
...
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ لظنكم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون. قرأ الكسائي، وهشام: (بَل ظَّنَنْتُمْ) بإدغام اللام في الظاء، والباقون: بالإظهار (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٥).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٥).
﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فتمكن فيها ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ وهو سائر ما يظنون بالله ورسوله من الأمور الزائغة ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ هلكى جمع بائر؛ أي: لا تصلحون لشيء من الخير.
...
﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ وهي النار المؤججة، ونكر (١) (سَعِيرًا)؛ للتهويل.
...
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يدبره بقدرته وحكمته.
﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ رحمتُه سابقة لغضبه؛ حيث يكفِّر السيئات باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة.
...
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ عن الحديبية.
﴿إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ﴾ أي: غنائم خيبر.
(١) في "ت": "وتنكير".
﴿لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر، وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضًا من غنائم أهل مكة؛ لأنهم انصرفوا منها على صلح، ولم يصيبوا منها (١) شيئًا، قال الله تعالى:
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (كَلِمَ اللهِ) بكسر اللام من غير ألف، جمع كلمة، وقرأ الباقون: بفتح اللام وألف بعدها (٢)، والمعنى فيه متقارب، ومعناه: يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر.
﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ إلى خيبر.
﴿كَذَلِكُمْ﴾ أي: كقولي لكم ﴿قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ من قبلِ عَوْدِنا.
﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ فلذلك قلتم هذا القول.
﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ﴾ من الدين ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، وهم المؤمنون.
...
﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ عن الحديبية، وكرر ذكرهم بهذا الاسم
(١) في "ت": "منهم".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٦).
341
مبالغةً في الذم، وإشعارًا بشناعة التخلف؛ أي: قل لهم إن كنتم تريدون الغزو:
﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ وهم فارس والروم، أو هم بنو حنيفة والمرتدون، قال منذر بن سعيد: يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأن أبا بكر قاتل أهل الردة، وعمر قاتل فارس والروم (١).
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي: يكون أحد الأمرين لا غير، ومن عداهم يقاتل حتى يسلم، أو يعطي الجزية.
وعن رافع بن خديج قال: واللهِ لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم مَنْ هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم أريدوا (٢).
﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ تُعْرِضوا ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ عامَ الحديبية.
﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وهو النار.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٧٢)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٧٢).
(٢) رواه الطبري في "تفسيره" (١٩/ ٢١٩) عن ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٧٢)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٧٣).
342
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧)﴾.
[١٧] فلما نزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عز وجل ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ في التخلف عن الجهاد.
﴿وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ هذا عذر لهم في تخلفهم عن الحديبية.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُدْخِلْهُ) (نُعَذِّبْهُ) بالنون فيهما للعظمة، والباقون: بالياء فيهما؛ لقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) (١).
...
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كانوا ألفًا وثلاث مئة، وقيل غير ذلك.
﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ وكانت سَمُرة ﴿فَعَلِمَ﴾ الله ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٧٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٧).
من الصدق والوفاء ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ﴾ الطمأنينة ﴿عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ﴾ جازاهم ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ هو فتح خيبر بعد انصرافه من مكة.
...
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ من أموال اليهود، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله بينهم ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ غالبًا ﴿حَكِيمًا﴾ مراعيًا مقتضى الحكمة.
...
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ أي: مغانم خيبر.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ هم قبائل من أسد وغطفان هموا أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة في غيبتهم في غزوة خيبر، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
﴿وَلِتَكُونَ﴾ هذه الكفة ﴿آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ على صدقك.
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يثبتكم على الإسلام.
ولما رجع رسول الله - ﷺ - من الحديبية، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعضَ المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع من الهجرة إلى خيبر، وهي على ثماني بُرُد من المدينة، فأشرف عليها، وقال لأصحابه: "قفوا،
344
ثم قال: اللهمَّ ربَّ السمواتِ وما أَظْلَلْنَ، وربَّ الأَرَضِينَ وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشياطينِ وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما ذَرَيْنَ، نسألك خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله"، ونزل عليها ليلًا، وكان إذا غزا لم يُغر حتى يصبح، فإن سمع أذانًا، كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذانًا، أغار عليهم، فلما أصبحوا، خرجوا إلى عملهم بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوه عادوا وقالوا: محمدٌ والخميس، يعنون: الجيش، فقال النبي - ﷺ -: "الله أكبرُ خربتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساءَ صَباحُ المنذَرين"، ثم حاصرهم وضيق عليهم، فخرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:
قدْ علمتْ خيبرُ أَني مَرْحَبُ شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ
أطعنُ أحيانًا وحينًا أضربُ إذا الليوثُ أقبلتْ تلتهب
فبرز إليه عامر وقال:
قد علمتْ خيبرُ أني عامرُ شاكى السلاح بطلٌ مغامرٌ
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسُه، فمات رضي الله عنه فقال النبي - ﷺ -: "له أجرُه مرتين"، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد تخلف بالمدينة لرمد لحقه، فلما أصبحوا، جاء علي، فتفل النبي - ﷺ - في عينيه، فما (١) اشتكى رمدًا بعدها، فلما مات عامر، برز علي لمرحب بعد أن أعطاه رسول الله - ﷺ - الراية، وقال رضي الله عنه:
(١) في "ت": "فلما".
345
أنا الذي سمتني أُمِّي حَيْدَرَهْ أَكِيلُهم بالسيفِ كيلَ السَّنْدَرهْ
ليثٌ بغابات شديدُ القسوره
واختلف بينهما ضربتان، فسبقه علي -رضي الله عنه- وضرب رأسه فقتله، فسقط عدو الله ميتًا (١).
وكان فتح خيبر في صفر على يد علي رضي الله عنه، فأخذ رسول الله - ﷺ - الأموال، وفتح الحصون، ورجع إلى المدينة، وأصاب سبايا منهن صفية بنت حيي، فاصطفاها - ﷺ - لنفسه، وجعل عتقها صداقها، وهو مذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- مستدلًا بذلك، فإذا قال الرجل لأمته القن، أو المُدَبَّرة، أو المكاتبَة، أو أم ولده، أو المعلق عتقُها على صفة: أعتقتُك وجعلتُ عتقَك صداقَك، أو جعلت عتقَ أمتي صداقَها، أو صداق أمتي عتقها، أو قد أعتقتها (٢) وجعلت عتقها صداقها، أو أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك صداقك، صح إن كان متصلًا (٣) بحضرة شاهدين، وينعقد النكاح والإعتاق، ويصح جعل صداق مَنْ بعضُها رقيق عتقَ ذلك البعض، وإن طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمتها، فإن لم تكن قادرة، أجبرت على الاستسعاء، ولو أعتقها بسؤالها على أن تنكحه، أو قال: أعتقتك على أن تنكحيني، ورضيت، صح، ثم إن نكحته، وإلا لزمتها قيمة نفسها، وهذا من مفردات مذهب أحمد؛ خلافًا للثلاثة رضي الله عنهم.
(١) رواه مسلم (١٨٠٧)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قراد وغيرها. من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(٢) "أو قد أعتقتها" زيادة من "ت".
(٣) "متصلًا" زيادة من "ت".
346
وفي غزوة خيبر أهديت للنبي - ﷺ - (١) الشاة المسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها، ثم لفظها، وقال: "تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة" (٢).
...
﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَأُخْرَى﴾ أي: وعدكم فتح بلدة أخرى ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ يعني: بلاد فارس والروم، وقيل: الإشارة إلى مكة، قال ابن عطية: وهذا هو القوي الذي يتسق معه المعنى ويتأيد (٣)، وقيل: ومعنى (وَأُخْرَى)؛ أي: مغانم هوازن في غزوة حنين، ومعنى (لَمْ تقدِرُوا عَلَيْهَا)؛ لما كان فيها من اضطراب المسلمين.
﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ بالقدرة والقهر لأهلها؛ أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
...
(١) "أهديت للنبي - ﷺ - زيادة من "ت".
(٢) رواه أبو داود (٤٥١٢)، كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات، أيقاد منه؟، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (١/ ٦٨)، و"فتح الباري" لابن حجر (١٠/ ٢٤٥).
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ١٣٥).
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: أسد وغطفان وأهل خيبر.
﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾ لانهزموا ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يحرسهم.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم.
...
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه.
﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ تغييرًا.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ يعني: كفار قريش.
﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ بداخلها.
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ﴾ أي: أظهركم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمس مئة إلى الحديبية يطلبون غِرَّة في عسكر رسول الله - ﷺ -، فلما أحسَّ بهم المسلمون، بعث رسول الله - ﷺ - خالد بن الوليد، وسماه سيف الله في جملة من الناس، فهزمهم حتى أدخلهم مكة،
وأسر منهم جملة، فسيقوا إلى رسول الله - ﷺ -، فمنَّ عليهم وأطلقهم، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب، وكف أيدي المسلمين عنهم بدخولهم مكة، تلخيصه: حجز بينكم بعد ظفركم بهم.
﴿عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ فيجازيهم. قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب على ذكر الكفار وتمردهم، وقرأ الباقون: بالخطاب للكفار (١).
...
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: كفار مكة ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾ منعوكم ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ عن دخوله والوصول إليه ﴿وَالْهَدْيَ﴾ أي: وصدُّوا الهديَ، وكانت سبعين بدنة ﴿مَعْكُوفًا﴾ محبوسًا، نصب على الحال.
﴿أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ مكانه الذي ينحر فيه عادة، وهو الحرم، وتقدم ذكر اختلاف الأئمة في محل النحر للمُحْصَر في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [الآية: ١٩٦].
﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ يعني: المستضعفين بمكة.
﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ لم تعرفوهم؛ لاختلاطهم بالمشركين ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٨).
بالقتل. قرأ أبو جعفر: (تَطَوْهُمْ) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز مضمومًا (١).
﴿فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ﴾ من جهتهم ﴿مَعَرَّةٌ﴾ مشقة وإثم ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْ تَطَئُوهُمْ﴾، أي: تطؤوهم غيرَ عالمين بهم، وجواب (لَوْلاَ) محذوف، تقديره: لأذنَ لكم في دخولها، ولكنه حالَ بينكم وبين ذلك.
﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾ في دين الإسلام.
﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من أهل مكة بعدَ الصلح قبل أن تدخلوها.
﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ أي: تميزوا؛ يعني: المؤمنين من الكفار، وجواب (لَوْ تزَيَّلُوا):
﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ بدخولكم مكة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بالسبي والقتل بأيديكم.
...
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿إِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الأَنَفَة حين صدوا رسول الله - ﷺ - وأصحابه عن البيت، ولم يقروا ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنكروا محمد رسول الله، قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٩).
350
وإخواننا، ثم يدخلون علينا، فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا، فهذه.
﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ التي دخلت قلوبهم. قرأ أبو عمرو، وهشام: (إِذ جَّعَلَ) بإدغام الذال في الجيم، والباقون: بالإظهار (١).
﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ أي: الثبات والوقار ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ - ﷺ -.
﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ حتى لم يدخلهم ما دخل المشركين من الحمية، فيعصوا الله في قتالهم.
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ هي كلمة الشهادة؛ أي: يثبتهم عليها ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا﴾ ممن أباها من المشركين ﴿وَأَهْلَهَا﴾ في علم الله وسابق قضائه لهم، وقوله تعالى:
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن الكفار من قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك، ويقتضي ذلك أن رسول الله - ﷺ - كان في عام الحديبية في أربع عشرة مئة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بنحو عامين في عشرة آلاف فارس - ﷺ -.
...
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٠٩).
351
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧)﴾.
[٢٧] روي أن رسول الله - ﷺ - رأى في منامه قبل خروجه إلى الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين، ويحلقون ويقصرون، فأخبر بذلك أصحابه، ففرحوا، وظنوا أنه يكون في ذلك العام، فلما انصرفوا ولم يدخلوا، قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا﴾ التي رآها في النوم ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق.
قرأ الكسائي، وخلف: (الرُّؤْيَا) بالإمالة، والباقون: بالفتح (١).
﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ اللام لام القسم الذي يقتضيه (صدق)؛ لأنها من قبيل تبين وتحقق ونحوها مما يعطي القسم، تقديره: والله لتدخلن.
﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ودخول الاستثناء في إخبار الله -عز وجل- فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة؛ تعليمًا لعباده أن يقولوا في عِداتهم مثلَ ذلك متأدبين بأدب الله، ومقتدين بسنته، أو يريد: لتدخلن جميعًا إن شاء الله، ولم يمت منكم أحد، أو: كان ذلك على لسان ملك، فأدخل الملك إن شاء الله، أو: هي حكاية ما قال رسول الله - ﷺ - لأصحابه، وقص عليهم، وقيل: هو متعلق بـ (آمِنِينَ)، وقيل: (إنْ) بمعنى (إذْ)؛ فكأنه قال: إذ شاء الله، قال ابن عطية: وهذا أحسن في معناه، لكن كون (إن)
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٠).
بمعنى (إذ) غير موجود في لسان العرب، انتهى (١).
﴿مُحَلِّقِينَ﴾ حال من (آمِنِينَ) مفعوله ﴿رُءُوسَكُمْ﴾ أي: جميعَ شعورها ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ بعض شعورها، وتقدم حكم الحلق والتقصير في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [الآية: ١٩٦].
﴿لَا تَخَافُونَ﴾ أبدًا ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ من الحكمة في تأخير الفتح.
﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ﴾ أي: فتح مكة ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ هو فتح خيبر، وتحققت الرؤيا في العام القابل، فكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
...
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ ملتبِسًا به ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الإسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ليعليَه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقًّا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وهذا موجود الآن في دين الإسلام؛ فإنه قد عم أكثر الأرض، وظهر على كل دين.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أي: شاهدًا بهذا الخبر، ومعلمًا به، وعلى هؤلاء الكفار المنكرين أمرَ محمد - ﷺ - الرادين في صدره، ومعاقبًا لهم بحكم الشهادة.
...
(١) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ١٣٩).
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿مُحَمَّدٌ﴾ مبتدأ، خبره ﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ شهد له بالرسالة، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران، وفي الأحزاب، ثم قال مبتدئًا:
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ من المؤمنين ﴿أَشِدَّاءُ﴾ صفة الصحابة خاصة، فلا يكون - ﷺ - داخلًا مع الصحابة في الشدة ﴿عَلَى الْكُفَّارِ﴾ غلاظ عليهم كالأسد في فريسته.
﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ متعاطفون بعضهم على بعض كالوالد مع الولد.
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ لأنهم مشغولون في الصلاة في أكثر أوقاتهم.
﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبون ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ أن يدخلهم الجنة ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أن يرضى عنهم. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رُضْوَانًا) بضم الراء، والباقون: بكسرها (١).
﴿سِيمَاهُمْ﴾ علاماتهم ﴿فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ وهو نور وبياض يُعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وروي أن مواضع السجود تكون في وجوههم كالقمر ليلة البدر.
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١١).
354
﴿ذَلِكَ﴾ الوصف المذكور ﴿مَثَلُهُمْ﴾ أي: صفة محمد - ﷺ - وأصحابه.
﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ وتعطف عليه.
﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ أي: ذلك مثلهم في الكتابين ﴿كَزَرْعٍ﴾ تمثيل مستأنف؛ أي: هم كزرع ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ فرخه؛ يقال: أشطأ الزرع: إذا فرخ. قرأ ابن كثير، وابن ذكوان عن ابن عامر: بفتح الطاء، والباقون: بإسكانها (١)، وهما لغتان كالنهْر والنهَر، وقرأ أبو عمرو: (أَخْرَج شَّطْاَهُ) بإدغام الجيم في الشين (٢).
﴿فَآزَرَهُ﴾ قرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة، والباقون: بالمد (٣)؛ أي: قواه؛ من المؤازرة، وهي المعاونة ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ غلظ ذلك الزرع.
﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ جمع ساق؛ أي: قوي واستقام على أصوله، وهذا مثل ضربه الله لنبيه، خرج وحده، فآزره بأصحابه. قرأ قنبل عن ابن كثير: (سُؤْقِهِ) بهمزة ساكنة، وعنه وجه ثان: بهمزة مضمومة، وقرأ الباقون: بغير همز (٤).
﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ الذين زرعوه، وهذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وقوته
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٣).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ١٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٤).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٤ - ٢١٥).
355
بالصحابة بأن يكونوا قليلًا فيكثروا وضعفاء، فيقوون، يوضح ذلك أن علله بقوله:
﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ أي: إنما كثرهم وقواهم؛ ليكونوا غيظًا للكافرين.
قال عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب.
ومن غيظ الكفار قولُ عمر بمكة: "لا أعبد (١) الله سرًّا بعد هذا اليوم" (٢).
وعن رسول الله - ﷺ - أنه قال: "أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقُهم حياءً عثمان، وأقضاهم عليٌّ، وأقرؤهم أُبي بن كعب، وأفرضهم زيدُ بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدقَ من أبي ذر، ولكل أمة أمين، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنهم أجمعين (٣).
(١) في "ت": "لا عبد"
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٩٢).
(٣) رواه الترمذي (٣٧٩١)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وأبي عبيد بن الجراح رضي الله عنهم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (١٥٤) في المقدمة، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. دون قوله: "وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر". وقد رواه الترمذي (٣٨٠٢)، كتاب: المناقب. باب: مناقب أبي ذر رضي الله عنه، وابن حبان في "صحيحه" (٧١٣٢)، وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
356
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً﴾ و (مِنْهُمْ) لبيان الجنس وليست للتبعيض؛ لأنه وعد للجميع.
﴿وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني: الجنة، وقد اجتمع حروف المعجم التسعة والعشرون في هذه الآية، وهي ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ إلى آخر السورة، أول حروف المعجم فيها ميم من (محمد)، وآخرها صاد من (الصالحات)، وتقدم نظير ذلك في سورة آل عمران في قوله: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [الآية: ١٥٤]، وليس في القرآن آيتان كل آية حوت حروف المعجم غيرهما (١) من دعا الله بهما، استجيب له، والله أعلم.
...
(١) من قوله (ص: ٣٤٧): "وقيل: الإشارة إلى مكة" إلى هنا سقط من "ش".
357
سورة الحجرات
مدنية بإجماع من أهل التأويل، وآيها: ثماني عشرة آية، وحروفها: ألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلمها: ثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمة، وهذا أول المفصل على الراجح من مذهب الشافعي، وبعض (١) الأقوال المعتمدة عند أبي حنيفة، وعنه قول آخر معتمد: أن أوله (ق).
قال - ﷺ -: "فضلني ربي بالمفصل" (٢)، وتقدم في أول التفسير أن المفصل من القرآن هو ما بعد الحواميم وقصار السور إلى آخر القرآن، وسميت مفصلًا؛ لكثرة الفصولات فيها بسطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنها سور قصار يقرب تفصيل كل سورة من الأخرى، فكثر التفصيل فيها، والله أعلم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)﴾.
(١) في "ت": "وأحد".
(٢) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٤/ ١٠٧)، والطيالسي في "مسنده" (١٠١٢)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٢/ ٧٥)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢٤١٥)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
358
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).