تفسير سورة الفتح

التفسير الوسيط للزحيلي

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي.
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الفتح
صلح الحديبية وآثاره
إن أهم شيء في حياة الشعوب والأمم المعاصرة الاعتراف بهم من الدول أو أنظمة الحكم الأخرى ليصير لهم وجود قانوني دولي، فيصبح التعامل معهم والتبادل وإبرام المعاهدات ذا صفة نظامية قوية، ومن هنا كان صلح الحديبية بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته وبين المشركين القرشيين أصحاب الزعامة العربية فتحا عظيما سمي فتحا مبينا، والفتح الأكبر أو الأعظم في السنة السادسة من الهجرة، تمهيدا لفتح مكة، قال الزهري: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه». ونزلت سورة الفتح المدينة (بعد الهجرة) بسببه، بعد انصراف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، فهي بهذا في حكم المدني.
أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: «نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها» وهذا مطلعها:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
«١» «٢»
(١) أي ذا عز ومنعة لا ذلّ فيه.
(٢) الطمأنينة.
2450
«١» [الفتح: ٤٨/ ١- ٧].
إنا فتحنا لك أيها النبي فتحا ظاهرا عظيما هو صلح الحديبية، عند جمهور الناس، وهو الصحيح، وليس فتح مكة، أي إن ما يسّر الله تعالى لك أيها الرسول في خروجك إلى مكة للعمرة فتح مبين تستقبله، ونزلت سورة الفتح مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا استوحشوا من ردّ قريش لهم، ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت الحرام، ومذهبة ما كان في قلوبهم.
ورأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية، حيث وضع فيه سهمه، وثاب (تفجر) الماء، حتى كفى الجيش، وتمت فيه بيعة الرضوان. وهي الفتح الأعظم، كما قال جابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وأدى ذلك إلى فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا، ولم يفتتحها إلا أهل الحديبية، ووقعت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس، انتصر فيها الروم، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لظهور أهل الكتاب على المجوس، وتخضيد شوكة الكفر الوثني.
ثم عظّم الله تعالى أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم وشرّفه بأن أنبأه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، والهداية إلى الصراط المستقيم، والنصر العزيز المنيع الذي لا ذل معه، أو الفريد الذي لا شبيه له.
ولكي يتم الله إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين، وانتشار الإسلام، وفتوح البلاد شرقا وغربا، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم، ولينصرك الله على أعدائك نصرا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل. وإتمام النعمة على النبي:
(١) أي دائرة هي السوء، والمراد: الهزيمة والشر. [.....]
2451
هو إظهاره، وتغلبه على عدوه، والرضوان في الآخرة، والنصر العزيز: هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه.
أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد أنزلت على آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول الله، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً.
إن الله عز وجل هو الذي أوجد الطمأنينة في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، يوم الحديبية، الذين استجابوا لله ولرسوله، ليزيدهم الله يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. ويسمى هذا اليوم: رفع الروح المعنوية للجيش، وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين: هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت، وعلموا أن وعد الله حق. فازدادوا بذلك إيمانا إلى إيمانهم الأول، وكثر تصديقهم.
وهذا دليل على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب.
ولله تعالى السلطان على جنوده في السماوات والأرض، من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والقوى الكونية في السماء والأرض، من بحار وأنهار وزلازل وبراكين وأعاصير. وكان الله ولا يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره، وهذا إشارة إلى تسكين النفوس أيضا، وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر من شاء، متى شاء، وعلى أي صورة شاء، مما لا يدبره البشر. ومن جنده السكينة التي أنزلها في قلوب الصحابة، فثبّتت بصائرهم.
ثم عرف الله نبيه ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين، فقد دبر الله ما دبر، من تسليط المؤمنين على الكافرين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك، ويشكروها، وليدخل
2452
المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من تحت قصورها، وهم ماكثون فيها على الدوام، وليكفّر (يستر) عنهم خطاياهم ولا يظهرها، وكان إنجاز ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله، وفي حكمه، فوزا عظيما كبيرا، ونجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب.
ولكي يعذب أهل النفاق وأهل الشرك بالهم والغم بسبب ما يشاهدونه، من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين، وقهر المخالفين، وبما أصيبوا به من القهر والقتل والأسر في الدنيا، وبما أعد لهم من العذاب في الآخرة، ولقد أصابهم ما أرادوا بالمسلمين فعليهم دائرة هي السوء، والمراد: الهزيمة والشر، أي دائرة السوء الذي أرادوه بالمسلمين في ظلهم السيئ.
ثم أكد الله تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فلله تعالى تدبير أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء، كما تقدم بيانه، وكان الله وما يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره.
مهام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومغزى بيعة الرضوان
إن مهمة تكليف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسّلام مهمة عظيمة وشاقة، وتتميز مهمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بمعان أو وظائف تتفق مع كونه خاتم النبيين وإمام المرسلين، فهو الشاهد على أمته والأمم المتقدمة بتبليغ الرسالة الإلهية، وهو المبشر أهل الطاعة برحمة الله تعالى، والمنذر لأهل الضلال من عذاب الله تعالى. والغاية من رسالته التوصل إلى الإيمان الحق بالله ورسوله، وتأييد دعوته، وتنزيه (تسبيح) الله بوصفه بكل صفات الكمال، وتجريده عن كل صفات النقصان. ومعنى بيعته بيعة الرضوان يوم الحديبية على الموت دفاعا عنه: بيعة لله تعالى ذاته، فمن نقض بنود البيعة عاد
2453
وبال نقضه على نفسه، ومن أوفى بالعهد مع الله، فسيلقى الثواب العظيم. وهذا ما سجلته الآيات التالية:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الفتح: ٤٨/ ٨- ١٠].
إنا أرسلناك أيها النبي لأداء وظائف ثلاث هي: الشهادة على الناس من أمتك وغيرهم، بأعمالهم وأقوالهم بتبليغ شرع الله إليهم، وتبشير المؤمنين الطائعين برحمة الله وجنته، وإنذار الكافرين والعصاة وتخويفهم من عذاب الله عز وجل.
والغرض السامي من إرسالك أيها الرسول: هو أن تؤمن أمتك بالله ورسوله- والخطاب للرسول وأمته- وأن يعظموك ويفخموك، وأن يحترموك ويقدروك، وينزهوا الله تعالى عما لا يليق به من الشريك والولد والصاحبة، والتشبّه بالمخلوقات، وذلك على الدوام، وبخاصة في الصباح والمساء، لقوله: بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في الغدو والعشي. وهذه هي صلاة البردين، أي صلاة الفجر والعشاء،
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي موسى: «من صلّى البردين دخل الجنة».
والفعلان: (تعزروه وتوقروه) عند جمهور المفسرين: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفعل (تسبحوه) لله تعالى. وقال بعض المتأولين: الضمائر في الأفعال الثلاثة هي كلها لله تعالى.
ثم بيّن الحق تعالى عظمة بيعة الرضوان في الحديبية مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي بيعة
(١) تعظموه وتفخموه وتكبّروه.
(٢) من التوقير: وهو التعظيم والاحترام.
(٣) التسبيح: تنزيه الله، وذلك غدوة وعشيا.
(٤) استعارة يراد بها اطلاع الله على مبايعتهم، ومجازاتهم عليها.
(٥) نقض العهد.
(٦) وفّى في مبايعته.
2454
الشجرة حين أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأهبة لقتال قريش، لما بلغه مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي أرسله لمفاوضة قريش، قبل أن ينصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وكان معه ألف وأربع مائة رجل، وبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت. وقال ابن عمر وجابر: على ألا نفرّ.
والمبايعة مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم صار اسم البيعة يطلق على معاقدة الخلفاء والملوك. وعلى هذا سمّت الخوارج أنفسها الشّراة، أي الذين اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم.
ومعنى الآية: إن الذين يبايعونك أيها الرسول بيعة الرضوان بالحديبية: تحت الشجرة على قتال قريش، إنما يبايعون الله، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره، وصفقتهم إنما يمضيها الله تعالى ويمنح الثمن، أي الثواب عليها، فمن بايع النبي في الظاهر، فقد بايع الله في الحقيقة والواقع.
وأكد الله هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي بأنّ عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله تعالى على السواء، وأن الله حاضر معهم، يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، والله تعالى هو المبايع حقيقة بوساطة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهو السفير المعبر عن الله، وسفارته بين الله وأوليائه المؤمنين.
فمن نقض البيعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنما وبال نقضه وضرره على نفسه، لا يجاوزه إلى غيره. ومن وفى بالعهد وثبت عليه، ونفّذ ما عاهد عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم في البيعة، فسيؤتيه الله ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة، كما عبر الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: ٤٨/ ١٨].
2455
إن هذه البيعة تعد وقفة مشرفة، وتضحية بالغة، وتصميما عاليا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لتحقيق أعظم الغايات، لذا كان هذا الموقف مما يغبطون عليه، وقد أكرمهم الله تعالى بهذا الرضوان الإلهي على مدى الدهر، وجعله قرآنا يتلى، وأنموذجا عظيما للأبطال والشجعان، في سجلات اللقاءات والإعداد للمعارك الفاصلة الخالدة.
أوضاع المتخلفين عن الحديبية
تخلف عن الذهاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمرته يوم الحديبية قوم من الأعراب «١» : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل وهم غفار وأشجع والدّليل، رأوا أنه يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان قد تمكن من قلوبهم، وقالوا: لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله تعالى في الآيات الآتية، وأعلم محمدا صلّى الله عليه وسلّم باعتذارهم في الظاهر قبل أن يصل إليهم، وبطلبهم المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد. قال الله تعالى:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١١ الى ١٧]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
«٢» «٣»
(١) قال الرّمّاني: لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة.
(٢) هم المتخلفون عن صحبة النبي.
(٣) أي هلكى عند الله بسبب هذا الظن الفاسد.
2456
[الفتح: ٤٨/ ١١- ١٧].
هذه أخبار أنبّأ الله تعالى بها نبيه قبل وقوعها، أولها اعتذار المتخلفين عن الذهاب معه في عمرته يوم الحديبية، فإنهم سيقولون له بعد عودته: شغلتنا الأموال والأهلون، فاستغفر لنا، لكنهم لم يصدقوا في هذا الاعتذار، وإنما قالوا ذلك بألسنتهم في الظاهر، وبما لا يعبر عن حقيقة نواياهم وقلوبهم، في أن محمدا وصحبه سينهزمون أمام قريش وثقيف والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، فقل أيها النبي لهم: من يحمي أموالكم وأهليكم إن أراد الله بكم سوءا، أو أراد بكم نفعا، ثم رد الله عليهم بقوله: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
ثم فسر لهم علة تخلفهم بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور، بل ظننتم أنه لن يعود الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه إلى أهليهم وأوطانهم أبدا، وأن العدو سيقتلهم، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن الله تعالى لن ينصر رسوله، وكنتم قوما هلكى أو هالكين عند الله تعالى، بسبب فساد هذا الاعتقاد.
ثم أخبر الله تعالى عن عقاب أهل الكفر: وهو أن من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله، ولم يخلص عمله لربه، كما صنع هؤلاء المتخلفون عن الحديبية، فجزاؤهم ما أعده الله لهم من عذاب السعير المتلظية بهم.
2457
وقدرة الله شاملة، فهو مالك السماوات والأرض، وسلطانه مطلق فيهما، يتصرف فيهما كيف يشاء، يغفر لمن شاء مغفرة ذنوبه، ويعذب من أراد تعذيبه على كفره وعصيانه، وكان الله وما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين رحيما يرحم جميع خلقه.
وسيقول لك أيها النبي هؤلاء الأعراب المتخلفون عنك في عمرة الحديبية: إذا سرتم إلى خيبر، وظفرتم بمغانمها: اتركونا نتبعكم في السير، ونشهد معكم الموقعة، وهذا دليل آخر على كذبهم في اعتذارهم بعد كشف أمرهم: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ إنهم يريدون في شأن غنائم خيبر تبديل حكم الله ووعده لأهل الحديبية، بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر الله رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعدهم بمغانمها وحدهم، فقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ معناه: أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر.
فقل أيها النبي لهم: لن تسيروا معنا إلى خيبر، وقد قال الله ذلك سابقا: وهو أن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، لا نصيب فيها لغيرهم. وحينئذ سيقول المخلفون عند سماع هذا القول: بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، فلذا لم تأذنوا لنا في الخروج، فرد الله عليهم: ليس الأمر أمر حسد كما تزعمون، بل إنكم لا تفهمون إلا فهما قليلا، أي لا تفهمون شيئا من أحكام الدين: وهو جعل القتال من أجل الله تعالى، والإخلاص فيه.
ومع ذلك، ميدان القتال متسع، فإنكم إن أردتم صدق الانتماء للمسلمين، فإنكم ستطالبون إلى قتال قوم أولي شدة وبأس، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما القتال وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وهذا يشمل مشركي العرب والمرتدين. قال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حنين ثم وعد الله وأوعد،
2458
وهو إن تطيعوا فيما تدعون إليه من الجهاد، يؤجركم الله أجرا حسنا، وإن أعرضتم كما فعلتم زمن الحديبية يعذبكم الله.
ثم استثنى الله تعالى أصحاب الأعذار من التكليف بفرضية الجهاد: ليس هناك حرج على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى، والعرج المستمر، والمرض المزمن، أو الطارئ في وقت طروئه، لعدم استطاعتهم. ثم رغب الله في الجهاد وطاعة الله ورسوله، فمن يطع الله ورسوله، يدخله جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، ومن يستنكف عن الطاعة، ويعص الله ورسوله، يعذبه الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: لما نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ قال أهل الزمانة:
كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. الآية.
بيعة الرضوان وآثارها الخيّرة
كان لبيعة الرضوان عام الحديبية أثر كبير في تاريخ المسلمين، وكانت بركة عليهم، حيث ظفروا برضوان الله تعالى، وبشّروا بغنائم كثيرة، يأخذونها، وبهزيمة أعدائهم الكفار، وبحمايتهم من إغارة ثمانين رجلا مسلحين من جبل التنعيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه.
أخرج مسلم والترمذي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية، هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم (موضع في الحل بين مكة وسرف) يريدون غرّة (غفلة) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم أي الرسول، فأنزل الله:
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ.. الآية.
وجاء النص على هذه الوعود والبشائر في الآيات الآتية:
2459

[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢٤]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
«١» [الفتح: ٤٨/ ١٨- ٢٤].
تالله لقد رضي الله عن المؤمنين المخلصين، الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة بيعة الرضوان، بالحديبية، على قتال قريش وعدم الفرار، بايعهم النبي على الموت، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ...
ورضاه لأنه تعالى علم ما في قلوبهم من الإيمان والإخلاص، والسمع والطاعة، فأنزل الطمأنينة وسكون النفس عليهم، وجازاهم بفتح خيبر، بعد انصرافهم من الحديبية، ثم أتبعه بفتح مكة وسائر الأقاليم المجاورة.
وأثابهم أيضا مغانم كثيرة يأخذونها، وهي غنائم خيبر، وكان الله وما يزال قويا غالبا قادرا، مدبرا أمور خلقه، على وفق الحكمة والسداد.
ووعدكم الله أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار، على ممر الدهر، إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر، وكف عن قتالكم أيدي قريش يوم الحديبية بالصلح، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم، من أسد وغطفان، كل ذلك
(١) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سنّ الله ذلك سنة.
2460
لتشكروه، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين، يعلمون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع ما يعدهم به، وليثبّتكم على طريق الهداية إلى الطريق القويم: طريق الحق، وطاعة الله ورسوله. ووعدكم أيضا غنائم وفتوحات أخرى، غير صلح الحديبية وفتح خيبر، لم تكونوا تقدرون عليها الآن، قد أحاط الله بها علما، أنها ستؤول إليكم، وتفتحونها وتأخذونها، مثل غنائم هوازن في معركة حنين، وفتوحات فارس والروم، وقد تحقق كل ذلك ولله الحمد، وأنجز الله وعده، وكان وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا، لا يعجزه شيء.
ولو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية، لنصر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزموا هزيمة منكرة، فارّين هاربين، ثم لا يجدون حارسا وحاميا، يحرسهم ويواليهم على قتالكم، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.
تلك سنة الله الدائمة في نصره جيش الإيمان على جيش الكفر، وإعلاء كلمة الحق وإبطال الباطل، على الرغم من عدم تكافؤ القوى، مثل النصر يوم وقعة بدر، وتلك السنة مستمرة ثابتة، لا تغيير لها.
والله تعالى بكرمه وفضله: هو الذي كف أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين، لما جاؤوا يصدّون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجنوده عن البيت الحرام، عام الحديبية، في داخل مكة وحدودها، حيث هبط ثمانون رجلا، كما تقدم، على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم، متسلحين بكامل أسلحتهم، يريدون مباغتة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وهذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين، بكف المشركين عنهم، وكف المسلمين عن قتال أعدائهم. وكان الله وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وكانت هذه الحملة مرسلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل، فلما أحسّ بهم
2461
المسلمون، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أثرهم خالد بن الوليد، وسماه حينئذ (سيف الله) في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، فسيقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمنّ عليهم وأطلقهم، فهذا هو كفّ الله تعالى أيديهم عن المسلمين بالرعب، وكفّ أيدي المسلمين عنهم بالنهي عن القتال في بيوت مكة وغيرها، وذلك هو (بطن مكة).
أسباب وآثار صلح الحديبية
أوضح الله تعالى في كتابه موقف المشركين من المسلمين قبل صلح الحديبية، من إعلان الكفر وصد المؤمنين عن البيت الحرام، وبيّن حكمة هذا الصلح، من أجل تعظيم حرمة المسجد الحرام، ونشر الإسلام وسلامة النساء والرجال المؤمنين، والقضاء على الحمية الجاهلية في مهدها، وكانت آثار هذا الصلح عظيمة، بإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
«١» «٢» «٣» [الفتح: ٤٨/ ٢٥- ٢٦].
المعنى: لم يكن كفّ المسلمين عن المشركين عام الحديبية لخير فيهم، فإنهم هم
(١) أي صدوكم وصدوا الهدي (وهو شاة ونحوها من الأنعام) محبوسا عن الوصول للحرم.
(٢) مكروه ومشقة.
(٣) تميزوا عن الكفار، أو تفرقوا عنهم.
2462
الذين كفروا بالله ورسوله، ومنعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام، وأنتم أحق به وأهلوه، وصدوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه، عن بلوغ محل ذبحه، بغيا وعدوانا، وكان الهدي مائة أو سبعين بدنة (ناقة أو جمل). ومحلّه: موضع نحره الذي يذبح فيه عادة، وهو منى، أو الحرم المكي، فصار محل الإحصار (المنع من دخول مكة) على طريق الرخصة محلّا للنحر، وكان ذلك خارج الحرم. وتم عقد صلح الحديبية بين سهيل بن عمرو مفاوض قريش، وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، على أن يعود الرسول عنهم، ويعتمر من العام القابل، فهذا كان صدّهم إياه.
وعلة صرف المسلمين عن القتال وعدم تمكينهم من دخول مكة: حماية أهل الإيمان سرا، وهو أنه كان بمكة مؤمنون، رجال ونساء، خفي إيمانهم، فلو استباح المسلمون أرض مكة، أهلكوا أو قتلوا أولئك المؤمنين، فتصيبهم من جهتهم مشقة وأسى أو مكروه، خطأ بغير قصد ولا علم، لوقوع القتل جهلا، فيقول المشركون:
إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم، فدفع الله تعالى عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين، وقد يدفع الله تعالى بالمؤمنين عن الكفار.
وقوله تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ أي لولا وطؤكم قوما مؤمنين، فهي على هذا في محل رفع، أو هو منصوب بدلا من ضمير لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي لم تعلموا وطأهم أنه وطء مؤمنين.
ولكن كفّ الله أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم، ليخلص المؤمنين من أسرهم، وليدخل في رحمته من يشاء، فيدخل كثير منهم الإسلام.
لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا وذهبوا عن مكة، وانفصل بعضهم عن بعض، لعذب الله الذين كفروا عذابا مؤلما وهو القتل، بأن نسلطكم عليهم، فتقتلوهم قتلا شديدا.
2463
ووقت هذا العذاب: حين جعل الذين كفروا في مكة في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تعرف المنطق والحق والعدل، وهو قولهم: «واللات والعزّى لا يدخلونها علينا» وإباؤهم كتابة البسملة ووصف محمد بأنه رسول الله، في مقدمة صلح الحديبية.
فأنزل الله تعالى الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وثبّتهم على الرضا والتسليم، وألزمهم كلمة التقوى: وهي عند الجمهور (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وتعظيم الحرم، وترك القتال فيه، ولم يستفزهم صنيع الكفرة المشركين، لانتهاك حرمة الحرم.
وكان المؤمنون أهل هذه الكلمة على الإطلاق، في علم الله تعالى وسابق قضائه سبحانه لهم، فهم أهل الحق والاعتقاد الصحيح، على نقيض المشركين ذوي العقيدة الفاسدة، وكان الله وما يزال عليما بمن يستحق الخير، ممن يستحق الشر، وهذا إشارة إلى علمه تعالى بالمؤمنين الذين دفع الله السوء بسببهم عن كفار قريش، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد هذا الصلح، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة، وامتزجوا، وعلت دعوة الإسلام، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد المسلمين في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية في ألف وأربع مائة، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس.
تحقيق رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأوصافه وأصحابه
رؤيا الأنبياء حق وجزء من الوحي، ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه عند خروجه إلى العمرة، أنه يطوف بالبيت الحرام هو وأصحابه، بعضهم محلّقون، وبعضهم مقصرون، وقال مجاهد: أري ذلك بالحديبية، فأخبر الناس بهذه الرؤيا، ووثق
2464
الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك (أي عام الحديبية) ولكن سبق في علم الله أن ذلك ليس في تلك الوجهة، وإنما في عام مقبل، وتحقق ذلك. وكانت مهمة الرسول وما زالت هداية إلى الطريق القويم وإلى الدين الحق. وأوصاف صحابته عجيبة: هي الشدة على الأعداء، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة العبادة، والحرص على الثواب وإرضاء الله، والتميز بالنور، وتوصيفهم في التوراة والإنجيل، وانتقالهم إلى مرحلة القوة والكثرة، ووعدهم من الله بالمغفرة والجنة، كما في هذه الآيات الآتية:
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الفتح: ٤٨/ ٢٧- ٢٩].
أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة، هو وأصحابه آمنين، محلّقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية، قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟
فنزلت: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ..
المعنى: تالله لقد صدق الله تعالى تأويل رؤياه، التي رآها، تصديقا مقترنا بالحق:
(١) أي لتحقيق إعلائه. [.....]
(٢) أي قساة، جمع شديد.
(٣) علامتهم.
(٤) فروعه التي تنبت حول الأصل.
(٥) أعانه وقوّاه.
(٦) صار غليظا وشديدا.
(٧) أي استقام.
(٨) أي المشركين.
2465
أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة الله تعالى، في عام قابل، وليس في عام الحديبية، حالة كونكم آمنين من العدو، محلقا بعضكم جميع رأسه، ومقصرا بعضكم الآخر، لا تخافون من أحد.
فعلم الله ما لم تعلموا من الحكمة والمصلحة في تأخير العمرة إلى العام القادم، وانتشار الإسلام ودخول الناس فيه، والحفاظ على من كان من المؤمنين في مكة، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا قريب الحصول: هو بيعة الرضوان، في رأي كثير من الصحابة، أو هو صلح الحديبية فيما روي عن مجاهد وابن إسحاق، أو هو فتح خيبر، وهو الأولى، فهو كالدليل على صدق الرؤيا وتحققها.
وليس الفتح القريب هو فتح مكة، لأن ذلك لم يكن من دون دخول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك بعام، لأن الفتح لمكة كان سنة ثمان من الهجرة.
وربط دخول المسجد الحرام بمشيئة الله، لتعليم العباد الأدب، وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة الله تعالى، سواء كان محقق الوقوع أو محتمل الوقوع.
وأكد الله تعالى تحقيق الرؤيا بتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء، فالله هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى، أي بالإرشاد إلى الطريق الأقوم، وإلى دين الإسلام، والعلم النافع، والعمل الصالح، ليحقق إعلاءه وإظهاره على كل الأديان، وإن بقي من الدين الآخر أجزاء. وكفى بالله شاهدا عندكم بهذا الخبر ومعلما به، وبهذا الوعد، من إظهار دينه على جميع الأديان، وهو رد على سهيل بن عمرو سفير أهل مكة لعقد صلح الحديبية، الذي أبى أن يكتب في مقدمة الصلح البسملة وكلمة (رسول الله). فالآية على هذا وعيد للمشركين الذين رفضوا هذه الكلمة، فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية.
محمد رسول من عند الله حقا بلا شك، وهو مبتدأ وخبر، وصحابته الذين معه
2466
يمتازون بالشدة والصلابة على الكفار الذين جحدوا بوحدانية الله، ويتراحمون فيما بينهم. وكلمة: وَالَّذِينَ مَعَهُ مبتدأ، وخبره: أشداء، ورحماء: خبر ثان. ووصف الشدة كما في آية أخرى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: ٩/ ١٢٣]. ووصف الرحمة كما جاء في حديث صحيح
أخرجه الإمام أحمد ومسلم، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».
وهاتان صفتان لهم، وبقية الصفات هي:
- إنك تشاهدهم يكثرون الصلاة بإخلاص، فتراهم راكعين ساجدين، يطلبون الثواب والرضا من الله، ويحتسبون عند الله تعالى جزيل الثواب: وهو الجنة.
- وعلامتهم المميزة لهم: وجود النور والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع.
- ذلك الوصف المذكور للصحابة هو وصفهم المذكور في التوراة، والإنجيل، كانوا ضعافا، فتقوّوا، وصاروا في تكاثرهم مثل الزرع الذي أخرج فروعه على جوانبه، فاشتد وقوي، وأعانه وشدّه، واستقام وقوي على سوقه أو أصله، يعجب هذا الزرع الزّرّاع لقوته وحسن منظره، وتكاثر ليكونوا غيظا للكافرين.
ويُعْجِبُ الزُّرَّاعَ جملة في موضع الحال، فإذا أعجب الزراع، فهو أحرى أن يعجب غيرهم. وقوله: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ابتداء كلام، قبله محذوف، تقديره:
جعلهم الله تعالى بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار، أي المشركين، وعد الله تعالى الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال، أي الواجبات، منهم: أن يغفر ذنوبهم، ويجعل لهم ثوابا جزيلا في الجنة و (من) لبيان الجنس لا للتبعيض.
2467
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).