تفسير سورة الفتح

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة الفتح من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الفتح
هذه السورة مدنية، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، ولعل بعضاً منها نزل، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، سنة ست من الهجرة، فهي تعد في المدني.
ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم :﴿ وإن تتولوا ﴾ الآية، وهي خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله بالفتح العظيم، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال، وآمن كل من كان بها، وصارت مكة دار إيمان.

ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ
سورة الفتح
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٢٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
479
ظَفِرَ بِالشَّيْءِ: غَلَبَ عَلَيْهِ، وَأَظْفَرَهُ: غَلَبَهُ. الْمَعَرَّةُ: الْمَكْرُوهُ وَالْمَشَقَّةُ اللَّاصِقَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُرِّ وَالْعُرَّةِ، وَهُوَ الْجَرَبُ الصَّعْبُ اللَّازِمُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهُوَ رَاتِعُ الشَّطَءُ: الْفَرَاخُ، أَشْطَأَ الزَّرْعُ: أَفْرَخَ، وَالشَّجَرَةُ: أَخْرَجَتْ غُصُونَهَا. آزَرَ: سَاوَى طولا. قال الشاعر:
بمخيبة قَدْ آزَرَ الضَّالَّ نَبْتُهَا بِجَرِّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ
أَيْ سَاوَى نَبْتَهَا الضَّالُّ طُولًا، وَهُوَ شَجَرٌ، وَوَزْنُهُ أَفْعَلَ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمُضَارِعِ: يُوزِرُ.
481
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً، لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَلَعَلَّ بَعْضًا مِنْهَا نَزَلَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرِيقِ مُنْصَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَهِيَ تُعَدُّ فِي الْمَدَنِيِّ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا «١» الآية، وهي خِطَابٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَخْبَرَ رَسُولَهُ بِالْفَتْحِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ بِهَذَا الْفَتْحِ حَصَلَ الِاسْتِبْدَالُ، وَآمَنَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهَا، وَصَارَتْ مَكَّةُ دَارَ إِيمَانٍ. وَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، تَكَلَّمَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا وَدِينُهُ حق، مَا صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَضَافَ عَزَّ وَجَلَّ الْفَتْحَ إِلَى نَفْسِهِ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا بِكَثْرَةِ عَدَدٍ وَلَا عُدَدٍ، وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُبِينٌ، مُظْهِرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الفتح هو فتح مكة. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِآخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ لَمَّا قَالَ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ «٢» الْآيَةَ، بَيَّنَ أَنَّهُ فَتَحَ لَهُمْ مَكَّةَ، وَغَنِمُوا وَحَصَلَ لَهُمْ أَضْعَافُ مَا أَنْفَقُوا وَلَوْ بَخِلُوا، لَضَاعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ بُخْلُهُمْ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ «٣»، بَيَّنَ بُرْهَانَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْأَعْلَيْنِ.
وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «٤»، كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُمْ وَهَنٌ، وَلَا دَعُوا إِلَى صُلْحٍ، بَلْ أَتَى صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَسْلِمِينَ مُسَلِّمِينَ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُشْرَى بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، وَكَوْنُ هَذَا الْفَتْحِ هُوَ فَتْحَ مَكَّةَ بَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَالَهُ:
السُّدِّيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى. وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قتال
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٣٨.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ٣٨.
(٣) سورة محمد: ٤٧/ ٣٥.
(٤) سورة محمد: ٤٧/ ٣٥.
482
شَدِيدٌ، وَلَكِنْ تَرَامٍ مِنَ الْقَوْمِ بِحِجَارَةٍ وَسِهَامٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَمَوُا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ دِيَارَهُمْ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى سَأَلُوهُ الصُّلْحَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ، وَأَطْعَمُوا كُلَّ خَيْبَرَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، اخْتَلَطَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ، وَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَأَسْلَمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَثُرَ بِهِمْ سَوَادُ الْإِسْلَامِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ إِلَّا وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَ رَجُلٌ مُنْصَرَفَهُمْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ: مَا هَذَا الْفَتْحُ؟ لَقَدْ صَدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ، قَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ عَنْ بِلَادِكُمْ بِالرَّاحِ، وَيَسْأَلُونَكُمُ الْقَضِيَّةَ، وَيَرْغَبُوا إِلَيْكُمْ فِي الْأَمَانِ، وَرَأَوْا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا». وَكَانَ فِي فَتْحِهَا آيَةٌ عَظِيمَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ نُزِحَ مَاؤُهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا قَطْرَةٌ، فَتَمَضْمَضَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَجَّهُ فِيهَا، فَدَرَّتْ بِالْمَاءِ حَتَّى شَرِبَ جَمِيعُ مَنْ كَانَ مَعَهُ. وَقِيلَ: فَجَاشَ الْمَاءُ حَتَّى امْتَلَأَتْ، وَلَمْ يَنْفَدْ مَاؤُهَا بَعْدُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ فَتْحًا، وَقَدْ أُحْصِرُوا فَنَحَرُوا وَحَلَقُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ؟ قُلْتُ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهُدْنَةِ، فَلَمَّا طَلَبُوهَا وَتَمَّتْ كَانَ فَتْحًا مبنيا. انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ اتَّفَقَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَفِيهِ اسْتُقْبِلَ فَتْحُ خَيْبَرَ وَامْتَلَأَتْ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، وَلَمْ يَفْتَحْهَا إِلَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ.
وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ: شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، إِذِ النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقِيلَ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالُوا: أَوْحَى اللَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نَرْجُفُ، فَوَجَدْنَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ، قَرَأَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ الله عنه: أو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ». فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفَتْحُ: حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَكَانَ الصُّلْحُ مِنَ الْفَتْحِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَتَنَاوَلَ الْفَتْحَيْنِ: الْحُدَيْبِيَةَ وَمَكَّةَ. وَقِيلَ: فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَالنُّبُوَّةِ وَالدَّعْوَةِ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ، وَلَا فَتْحَ أَبْيَنُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ، وَهُوَ رَأْسُ الْفُتُوحِ كُلِّهَا، إِذْ لَا فَتْحَ مِنْ فُتُوحِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَهُ وَمُتَشَعِّبٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ
483
تَدْخُلَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ مِنْ قَابِلَ، لِيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنَ الْفُتَاحَةِ، وَهِيَ الْحُكُومَةُ، وَكَذَا عَنْ قَتَادَةَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جُعِلَ فَتْحُ مَكَّةَ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ؟ قُلْتُ: لَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلَكِنْ لِاجْتِمَاعِ مَا عَدَّدَ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَنَصَرْنَاكَ عَلَى عَدُوِّكَ، لِنَجْمَعَ لَكَ بَيْنَ عِزِّ الدَّارَيْنِ وَأَغْرَاضِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَتْحُ مَكَّةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جِهَادٌ لِلْعَدُوِّ، وَسَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَالثَّوَابِ وَالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ بِالْبَلَدِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، بِحَرْبٍ أَوْ بِغَيْرِ حَرْبٍ، لِأَنَّهُ مُنْغَلِقٌ مَا لَمْ يَظْفَرْ، فَإِذَا ظَفِرَ بِهِ وَحَصَلَ فِي الْيَدِ فَقَدْ فَتَحَ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُرَادُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ فَتَحَ لَكَ لِكَيْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لغفرانه لك، فكأنها لام صَيْرُورَةً، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا».
انْتَهَى.
وَرُدَّ بِأَنَّ لَامَ الْقَسَمِ لَا تُكْسَرُ وَلَا يُنْصَبُ بها، ولو جاز هذا بِحَالٍ لَجَازَ: لِيَقُومَ زَيْدٌ، فِي مَعْنَى:
لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ. انْتَهَى. أَمَّا الْكَسْرُ، فَقَدْ عُلِّلَ بِأَنَّهُ شُبِّهَتْ تَشْبِيهًا بِلَامِ كَيْ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ هَذَا نَصْبًا، لَكِنَّهَا الْحَرَكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ وُجُودِ النُّونِ، بَقِيَتْ بَعْدَ حَذْفِهَا دَلَالَةً عَلَى الْحَذْفِ، وَبَعْدَ هَذَا، فَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَا يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ: وَاللَّهِ لِيَقُومَ، وَلَا بِاللَّهِ لِيَخْرُجَ زَيْدٌ، بِكَسْرِ اللَّامِ وَحَذْفِ النُّونِ، وَبَقَاءِ الْفِعْلِ مَفْتُوحًا. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، بِإِظْهَارِكَ عَلَى عَدُوِّكَ وَرِضَاهُ عَنْكَ، وَبِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَخَيْبَرَ نَصْراً عَزِيزاً، أَيْ بِالظَّفَرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِالْغَنِيمَةِ وَالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ نَصْرًا فِيهِ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ. وَأُسْنِدَتِ الْعِزَّةُ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَالْعَزِيزُ حَقِيقَةً هُوَ الْمَنْصُورُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً، لَمَّا بَعُدَ عَنْ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، إِذْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَلِيَكُونَ الْمَبْدَأُ مُسْنَدًا إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَالْمُنْتَهَى كَذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْغُفْرَانُ وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالنَّصْرِ يَشْتَرِكُ فِي إِطْلَاقِهَا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «١»، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «٢» وَكَانَ الْفَتْحُ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْنَدَهُ تَعَالَى إِلَى نُونِ الْعَظَمَةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَسْنَدَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْأَرْبَعَةَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ، وَاشْتَرَكَتِ الْخَمْسَةُ فِي الْخِطَابِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأْنِيسًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. وَلَمْ يَأْتِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْمُخَاطَبِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِاسْمِ الظَّاهِرِ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ: وَهِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالسُّكُونُ قِيلَ: بِسَبَبِ الصلح والأمن،
(١) سورة النساء: ٤/ ٤٨.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٧٢.
484
فَيَعْرِفُونَ فَضْلَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِتَيْسِيرِ الْأَمْنِ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالْهُدْنَةِ بَعْدَ الْقِتَالِ، فَيَزْدَادُوا يَقِينًا إِلَى يَقِينِهِمْ. وَقِيلَ: السَّكِينَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من الشَّرَائِعِ، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا بِهَا إِلَى إِيمَانِهِمْ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْوَقَارُ وَالْعَظَمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ لِيَتَرَاحَمُوا، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: إِشَارَةٌ إِلَى تَسْلِيمِ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ تَعَالَى، يَنْصُرُ مَنْ شَاءَ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَمِنْ جُنْدِهِ السَّكِينَةُ ثَبَّتَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ. لِيُدْخِلَ: هَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ، قِيلَ: بإنا فَتَحْنَا لَكَ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ:
لِيَزْدادُوا. فَإِنْ قِيلَ: وَيُعَذِّبَ عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالِازْدِيَادُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ، أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ ذُكِرَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْمُؤْمِنِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِسَبَبِ ازْدِيَادِكُمْ فِي الْإِيمَانِ يُدْخِلُكُمُ الْجَنَّةَ وَيُعَذِّبُ الْكُفَّارَ بِأَيْدِيكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ: أَيْ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِيهَا بُعْدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُسَلِّطُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ. وَمِنْ قَضَيَّتِهِ أَنْ صَلَحَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَإِنْ وَعَدَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَضَى ذَلِكَ لِيَعْرِفَ الْمُؤْمِنُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيهِ وَيَشْكُرُونَ، فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوَابَ، فَيُثِيبَهُمْ، وَيُعَذِّبَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لِمَا غَاظَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَكَرِهُوهُ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ هَذَا مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. كَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي بِتِلْكَ الْجُنُودِ مَنْ شَاءَ، فَيَقْبَلُ الْخَيْرَ مَنْ قَضَى لَهُ بِالْخَيْرِ، وَالشَّرَّ مَنْ قَضَى لَهُ بِالشَّرِّ. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ جَنَّاتٍ، وَيُعَذِّبَ الْكُفَّارَ. فَاللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِيَبْتَلِي هَذِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالِابْتِلَاءِ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَيُكَفِّرَ: مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُدْخِلَ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ فِي الذِّكْرِ لَا تَرْتِيبٌ فِي الْوُقُوعِ. وَكَانَ التَّبْشِيرُ بدخول الجنة أهم، فبدىء بِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُنَافِقُونَ أَكْثَرَ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ من المشركين، بدىء بِذِكْرِهِمْ فِي التَّعْذِيبِ.
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى مَا يَسُوءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ وَلَا يُنْصَرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وبَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً «١». وَقِيلَ: ظَنَّ السَّوْءِ: مَا يَسُوءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِيصَالِ الْهُمُومِ إِلَيْهِمْ، بِسَبَبِ عُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَسْلِيطِ رَسُولِهِ قَتْلًا وَأَسْرًا وَنَهْبًا.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِمُ السَّوْءُ وَيُحِيطُ بِهِمْ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا حَقِيقَةً، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَا بَعْدَهُ دُعَاءً عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ براءة. وقيل:
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١٢.
485
ظَنَّ السَّوْءِ يَشْمَلُ ظُنُونَهُمُ الْفَاسِدَةَ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ «١»، وَمِنِ انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَشْيَاءَ وَعِلْمِهِ بِهَا كَمَا قَالَ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً «٢» بُطْلَانُ خَلْقِ الْعَالَمِ، كَمَا قَالَ: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «٣». وَقِيلَ: السَّوْءِ هُنَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا فِعْلُ سَوْءٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: السُّوءُ فِيهِمَا بِضَمِّ السِّينِ.
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً: لَمَّا تَقَدَّمَ تَعْذِيبُ الْكُفَّارِ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ، نَاسَبَ ذِكْرَ الْعِزَّةِ. وَلَمَّا وَعَدَ تَعَالَى بِمُغَيَّبَاتٍ، نَاسَبَ ذِكْرَ الْعِلْمِ، وَقَرَنَ بِاللَّفْظَتَيْنِ ذِكْرَ جنود السموات وَالْأَرْضِ فَمِنْهَا السَّكِينَةُ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنِّقْمَةُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ جُنُودِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، وَالْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتُؤْمِنُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الزَّايِ خَفِيفٌ وَهُوَ أَيْضًا، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الزَّايَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْيَمَانِيُّ: بِزَاءَيْنِ مِنَ الْعِزَّةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَعَزَّرُوهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمَائِرَ عَائِدَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ يَجْعَلُهَا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْضُهَا لِلَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ يَلِيقُ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ: هِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَبَيْعَةُ الشَّجَرَةِ، حِينَ أَخَذَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْأُهْبَةَ لِقِتَالِ قُرَيْشٍ، حِينَ أُرْجِفَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مُعْتَمِرًا لَا مُحَارِبًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ الْمُتَنَاهِي فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ إِلَى أَقْصَى الْجَهْدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَغَيْرُهُ: بَايَعْنَا عَلَى الْمَوْتِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ: عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. وَالْمُبَايَعَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ البيع، لأن اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «٤»، وَبَقِيَ اسْمُ الْبَيْعَةِ بَعْدُ عَلَى مُعَاهَدَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَيْ صَفْقَتُهُمْ، إِنَّمَا يُمْضِيهَا وَيَمْنَحُ الثَّمَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ تَمَّامُ بْنُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّمَا يُبَايِعُونَ لِلَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ وَلِوَجْهِهِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَكَ لِلَّهِ.
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْجُمْهُورُ: الْيَدُ هنا النِّعْمَةُ، أَيْ نِعْمَةُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ، لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ مَحَاسِنِهَا، فَوْقَ أَيْدِيهِمُ الَّتِي مَدُّوهَا لِبَيْعَتِكَ. وَقِيلَ: قُوَّةُ اللَّهِ فَوْقَ
(١) سورة يونس: ١٠/ ٦٦.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٢٢.
(٣) سورة ص: ٣٨/ ٢٧. [.....]
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١١١.
486
قُوَاهُمْ فِي نَصْرِكَ وَنَصْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا قَالَ: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، أَكَّدَ تَأْكِيدًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ فَقَالَ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ يَدَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تَعْلُو يَدَيِ الْمُبَايِعِينَ، هِيَ يَدُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْجَوَارِحِ وَعَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ. وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: تَقْرِيرُ أَنَّ عَقْدَ الْمِيثَاقِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَعَقْدِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «١»، وفَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، فَلَا يَعُودُ ضَرَرُ نَكْثِهِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَنْكُثُ، بِكَسْرِ الْكَافِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا نَكَثَ أَحَدٌ مِنَّا الْبَيْعَةَ إِلَّا جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ مُنَافِقًا، اخْتَبَأَ تَحْتَ إِبِطِ بَعِيرِهِ، وَلَمْ يَسِرْ مَعَ الْقَوْمِ فَحُرِمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَيْهُ اللَّهَ: بنصب الهاء. وقرىء: بِمَا عَهِدَ ثُلَاثِيًّا. وَقَرَأَ الْحُمَيْدِيُّ: فَسَيُؤْتِيهِ بِالْيَاءِ وَالْحَرَمِيَّانِ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
بِالنُّونِ. أَجْراً عَظِيماً: وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَأَوْ فِي لُغَةِ تِهَامَةَ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَدَخَلَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: هُمْ جُهَيْنَةُ، وَمُزَيْنَةُ، وَغِفَارٌ، وَأَشْجَعُ، وَالدِّيلُ، وَأَسْلَمُ. اسْتَنْفَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا، لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ وَأَحْرَمَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يريد حربا، ورأى
(١) سورة النساء: ٤/ ٨٠.
487
أُولَئِكَ الْأَعْرَابُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ عَدُوًّا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَكِنَانَةَ وَالْقَبَائِلِ وَالْمُجَاوِرِينَ بمكة، وهو الْأَحَابِيشُ وَلَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَعَدُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَلَّفُوا وَقَالُوا: لَنْ يَرْجِعَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ هَذِهِ السَّفْرَةِ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَ رسوله ﷺ بِقَوْلِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ.
شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا: وَهَذَا اعْتِلَالٌ مِنْهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ غَيْرُهُمْ، وبدأوا بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ بِهَا قَوَامَ الْعَيْشِ وَعَطَفُوا الْأَهْلَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى حِفْظِ الْأَهْلِ أَكْثَرَ مِنْ حفظ المال. وقرىء:
شَغَلَتْنَا، بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُوحِ بْنِ بَاذَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ.
وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ عَنِ الرسول كَانَ مَعْصِيَةً، سَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمَقُولَتَيْنِ مِنَ الشُّغْلِ وَطَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: شَغَلَتْنَا، كَذِبٌ وَطَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ: خُبْثٌ مِنْهُمْ وَإِظْهَارٌ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَاصُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: فَاسْتَغْفِرْ لَنَا، يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مُصَانَعَةً مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا نَدَمٍ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أَيْ مَنْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ؟ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا: مِنْ قَتْلٍ أَوْ هَزِيمَةٍ، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، مِنْ ظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ؟ أَيْ هُوَ تَعَالَى الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ، وَلَيْسَ حِفْظُكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِمَانِعٍ مِنْ ضَيَاعِهَا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضَرًّا، بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْأَخَوَانِ: بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُمُ الْعِلَّةَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهِيَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَهْلِ، وَكَيْفَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي قَوْلِهِ: مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ «١». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
إِلَى أَهْلِهِمْ، بِغَيْرِ يَاءٍ وَزُيِّنَ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ غَيْرُهُ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ التَّزْيِينُ مَجَازًا. وقرىء: وَزَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ:
احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّنَّ السَّابِقَ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنْ لَا يَنْقَلِبُوا، وَيَكُونَ قَدْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ الظَّنُّ وَأَحْزَنَهُمْ حَيْثُ أَخْلَفَ ظَنَّهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِأَجْلِ الْعَطْفِ، أَيْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْلِفُ وَعْدَهُ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَإِعْزَازِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بُوراً: هَلْكَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ الْمُفْرَدُ الْمُذَكَّرُ، كَقَوْلِ ابْنِ الزبعري:
(١) سورة المائدة: ٥/ ٨٩.
488
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِيَ رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
وَالْمُؤَنَّثُ، حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ: امْرَأَةٌ بُورٌ، وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ بَائِرٍ، كَحَائِلٍ، وَحُولٍ هَذَا في المعتل، وباذل وبذل فِي الصَّحِيحِ، وَفُسِّرَ بُورًا:
بِفَاسِدِينَ هَلْكَى. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَشْرَارٌ. وَاحْتَمَلَ وَكُنْتُمْ، أَيْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَصِرْتُمْ بِذَلِكَ الظَّنِّ، وَأَنْ يَكُونَ وَكُنْتُمْ عَلَى بَابِهَا، أَيْ وَكُنْتُمْ فِي الْأَصْلِ قَوْمًا فَاسِدِينَ، أَيِ الْهَلَاكُ سَابِقٌ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ قَوْمٌ بُورٌ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ جَزَاؤُهُ السَّعِيرُ. وَلَمَّا كَانُوا لَيْسُوا مُجَاهِدِينَ بِالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ اعْتَذَرُوا وَطَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، مَزَجَ وَعِيدَهُمْ وَتَوْبِيخَهُمْ بِبَعْضِ الْإِمْهَالِ وَالتَّرْجِئَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُدَبِّرُهُ تَدْبِيرَ قَادِرٍ حَكِيمٍ، فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَابِعَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَحِكْمَتُهُ الْمَغْفِرَةُ لِلتَّائِبِ وَتَعْذِيبُ الْمُصِرِّ.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، رَحْمَتُهُ سَابِقَةٌ لِرَحْمَتِهِ، حَيْثُ يُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ:
رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يغزو خَيْبَرَ، وَوَعَدَهُ بِفَتْحِهَا، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْمُخَلَّفِينَ إِذَا رَأَوْا مَسِيرَهُ إِلَى خَيْبَرَ، وَهُمْ عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ، طَلَبُوا الْكَوْنَ مَعَهُ رَغْبَةً فِي عَرَضِ الدُّنْيَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَكَانَ كَذَلِكَ.
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ: مَعْنَاهُ أَنْ يُغَيِّرُوا وَعْدَهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنْ مَغَانِمِ مَكَّةَ خَيْبَرَ، إِذَا قَفَلُوا مُوَادِعِينَ لَا يُصِيبُونَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَلامَ اللَّهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «١»، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مَرْجِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من تَبُوكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَيْضًا فَقَدْ غَزَتْ مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفَضَّلَهُمْ بَعْدُ عَلَى تَمِيمٍ وَغَطَفَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَلَامَ اللَّهِ، بِأَلِفٍ وَالْأَخَوَانِ: كَلِمَ اللَّهِ، جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَنْ تَتَّبِعُونا، وَأَتَى بِصِيغَةِ لَنْ، وَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَيْ لَا يَتِمُّ لَكُمْ ذَلِكَ، إِذْ قَدْ وَعَدَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَطْ. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ: يُرِيدُ وَعْدَهُ قَبْلَ اخْتِصَاصِهِمْ بِهَا. بَلْ تَحْسُدُونَنا: أَيْ يَعِزُّ عَلَيْكُمْ أَنْ نُصِيبَ مَغْنَمًا مَعَكُمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ أَنْ نُقَاسِمَكُمْ فِيمَا تَغْنَمُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: بِكَسْرِ السِّينِ، ثُمَّ رَدَّ عليهم تعالى
(١) سورة التوبة: ٩/ ٨٣.
489
كَلَامَهُمْ هَذَا فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَظَاهِرُهُ لَيْسَ لَهُمْ فِكْرٌ إِلَّا فِيهَا، كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «١». وَالْإِضْرَابُ الْأَوَّلُ رَدُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوهُمْ وَإِثْبَاتَ الْحَسَدِ. وَالثَّانِي، إِضْرَابٌ عَنْ وَصْفِهِمْ بِإِضَافَةِ الْحَسَدِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْهُ، وَهُوَ الْجَهْلُ وَقِلَّةُ الْفِقْهِ.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ: أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُونُوا أَهْلًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ. وَأَبْهَمَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: هُمْ هَوَازِنُ وَمَنْ حَارَبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: الرُّومُ الَّذِينَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَامَ تَبُوكَ، وَالَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: أَهْلُ الرِّدَّةِ، وَبَنُو حَنِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا مَضَى، وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ أُرِيدُوا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: هُمُ الْفُرْسُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَوْمٌ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ. وَالَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ تَمْثِيلَاتٌ مِنْ قَائِلِيهَا، لَا أَنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ مَا ذَكَرُوا، بَلْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُبْهَمًا دَلَالَةً عَلَى قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَانْتِشَارِ دَعْوَتِهِ، وَكَذَا وَقَعَ حُسْنُ إِسْلَامِ تِلْكَ الطَّوَائِفِ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ زَمَانَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانُوا فِي فُتُوحِ الْبِلَادِ أَيَّامَ عُمَرَ وَأَيَّامَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُقَاتِلِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْإِسْلَامَ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَيْسَ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ وَتُقْبَلُ مِمَّنْ عَدَاهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، دُونَ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُدْعَوْا إِلَى حَرْبٍ فِي أَيَّامِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَضَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مع جعفر في مؤتة، وَحَضَرُوا حَرْبَ هَوَازِنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَضَرُوا مَعَهُ فِي سَفْرَةِ تَبُوكَ.
وَلَا يَتِمُّ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَيَّنَ أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ. وَقَرَأَ الجمهور: أو
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٧.
490
يُسْلِمُونَ، مَرْفُوعًا وَأُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِحَذْفِ النُّونِ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرِ الْجَرْمِيِّ، وَبِهَا فِي قَوْلِ الْجَرْمِيِّ وَالْكِسَائِيِّ، وَبِالْخِلَافِ فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. فَعَلَى قَوْلِ النَّصْبِ بِإِضْمَارِ أَنْ هُوَ عَطْفُ مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَكُونُ قِتَالٌ أَوْ إِسْلَامٌ، أَيْ أَحَدُ هَذَيْنِ، وَمِثْلُهُ فِي النَّصْبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنًا إِنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وَالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى تُقَاتِلُونَهُمْ، أَوْ عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ أَوْ هُمْ يُسْلِمُونَ دُونَ قِتَالٍ.
فَإِنْ تُطِيعُوا: أَيْ فِيمَا تُدْعَوْنَ إِلَيْهِ. كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ: أَيْ فِي زَمَانِ الْخُرُوجِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي زَمَانِ الْحُدَيْبِيَةِ. يُعَذِّبْكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَوِي الْعَاهَاتِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَمَعَ ارْتِفَاعِ الْحَرَجِ، فَجَائِزٌ لَهُمُ الْغَزْوُ، وَأَجْرُهُمْ فِيهِ مُضَاعَفٌ، وَالْأَعْرَجُ أَحْرَى بِالصَّبْرِ وَأَنْ لَا يَفِرَّ. وَقَدْ غَزَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَ أَعْمَى، فِي بَعْضِ حُرُوبِ الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُمْسِكُ الرَّايَةَ، فَلَوْ حَضَرَ الْمُسْلِمُونَ، فَالْغَرَضُ مُتَوَجَّهٌ بِحَسَبِ الْوِسْعِ فِي الْغَزْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُدْخِلْهُ وَيُعَذِّبْهُ، بِالْيَاءِ وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَشَيْبَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَنَافِعٌ: بِالنُّونِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً، وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ السَّفَرِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ
491
الْخُلَّصِ الَّذِينَ سَافَرُوا مَعَهُ. وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلِذَا سُمِّيَتْ: بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَكَانُوا فِيمَا رُوِيَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: وَثَلَاثَمِائَةٍ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ، بَعَثَ جَوَّاسَ بْنَ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيَّ رَسُولًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: الثَّعْلَبُ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مُعْتَمِرًا، لَا يُرِيدُ قِتَالًا. فَلَمَّا أَتَاهُمْ وَكَلَّمَهُمْ، عَقَرُوا جَمَلَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ الْأَحَابِيشُ، وَبَلَغَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَادَ بَعْثَ عُمَرَ. فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ فَظَاظَتِي، وَهُمْ يَبْغَضُونِي، وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَنْ يَحْمِينِي، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ، عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَبَعَثَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَإِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. وَكَانَ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي حِينَ لَقِيَهُ، نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَأَجَارَهُ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: إِنْ شِئْتَ فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَأَمَّا دُخُولُكُمْ عَلَيْنَا فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَطُوفَ بِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ، فَصَرَخَ صَارِخٌ مِنَ الْعَسْكَرِ: قُتِلَ عُثْمَانُ، فَحَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون وقالو: لَا نَبْرَحُ إِنْ كَانَ هَذَا حَتَّى نَلْقَى الْقَوْمَ. فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، فَنَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ، فَبَايَعُوا كُلُّهُمْ إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ الْمُنَافِقُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ أَبُو سِنَانِ بْنُ وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ رَضِيَ. وَالرِّضَا عَلَى هَذَا بِمَعْنَى إِظْهَارِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ صِفَةُ فِعْلٍ، لَا صِفَةُ ذَاتٍ لِتَقْيِيدِهِ بِالزَّمَانِ وَتَحْتَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَيُبَايِعُونَكَ، أَوْ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَحْتَهَا جَالِسًا فِي أَصْلِهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ: وَكُنْتُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ، وَبِيَدِي غُصْنٌ مِنَ الشَّجَرَةِ أَذُبُّ عَنْهُ، فَرَفَعْتُ الْغُصْنَ عَنْ ظَهْرِهِ. بَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ دُونَهُ، وَعَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَقَالَ لَهُمْ:
«أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ». وَكَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةَ.
قَالَ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشْجَعِ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ.
قَالَ نَافِعٌ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ عُمَرَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا. وَكَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ».
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: مِنَ الرِّضَا بِالْبَيْعَةِ أَنْ لَا يَفِرُّوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: مِنَ الْإِيمَانِ وَصِحَّتِهِ، وَالْحُبِّ فِي الدِّينِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مِنَ الْهَمِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْأَنَفَةِ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى نَحْوِ مَا خَاطَبَ بِهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ يَتَرَتَّبُ مَعَهُ نُزُولُ السَّكِينَةِ وَالتَّعْرِيضِ
492
بِالْفَتْحِ الْقَرِيبِ. وَالسَّكِينَةُ تَقْرِيرُ قُلُوبِهِمْ وَتَذْلِيلُهَا لِقَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ، لَا يَظْهَرُ احْتِيَاجٌ إِلَى إِنْزَالِ السَّكِينَةِ إِلَّا أَنْ يُجَازِيَ بِالسَّكِينَةِ وَالْفَتْحِ الْقَرِيبِ وَالْمَغَانِمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ كَرَاهَةِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَايَعُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا فِيهِ مَذَمَّةٌ لِلصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. انْتَهَى.
وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: فَتْحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ عَقِبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَتْحَ هَجَرَ، وَهُوَ أَجَلُّ فَتْحٍ اتَّسَعُوا بِثَمَرِهَا زَمَنًا طَوِيلًا. وَقِيلَ: فَتْحَ مَكَّةَ وَالْقُرْبُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، لَكِنَّ فَتْحَ خَيْبَرَ كَانَ أَقْرَبَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَنُوحٌ الْقَارِئُ: وَآتَاهُمْ، أَيْ أَعْطَاهُمْ وَالْجُمْهُورُ: وَأَثَابَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً: أَيْ مَغَانِمَ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ أَرْضًا ذَاتَ عَقَارٍ وَأَمْوَالٍ، فَقَسَّمَهَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: مَغَانِمَ هَجَرَ. وَقِيلَ: مَغَانِمَ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْخُذُونَهَا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ فِي وَأَثَابَهُمْ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وَدُلْبَةُ عَنْ يُونُسَ عَنْ وَرْشٍ، وَأَبُو دِحْيَةَ، وَسِقْلَابٌ عَنْ نَافِعٍ، وَالْأَنْطَاكِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. كَمَا جَاءَ بَعْدَ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً بِالْخِطَابِ. وَهَذِهِ الْمَغَانِمُ الْمَوْعُودُ بِهَا هِيَ الْمَغَانِمُ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ هَذِهِ، وَتَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَلَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ، وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ فُتُوحًا لَا تُحْصَى، وَغَنِمُوا مَغَانِمَ لَا تُعَدُّ، وَذَلِكَ فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا، حَتَّى فِي بِلَادِ الْهِنْدِ، وَفِي بِلَادِ السُّودَانِ فِي عَصْرِنَا هَذَا.
وَقَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا أَحَدُ مُلُوكِ غَانَةَ مِنْ بِلَادِ التُّكْرُورِ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَفْتَحَ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مَمْلَكَةً مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَأَسْلَمُوا، وَقَدِمَ عَلَيْنَا بِبَعْضِ مُلُوكِهِمْ يَحُجُّ مَعَهُ. وَقِيلَ:
الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْبَيْعَةِ، وَأَنَّهُمْ سَيَغْنَمُونَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: الْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ مَغَانِمُ خَيْبَرَ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ: الْإِشَارَةُ بِهَذِهِ إِلَى الْبَيْعَةِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَمْرِ قُرَيْشٍ بِالصُّلْحِ، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ أسلم وابنه. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَغَانِمَ خَيْبَرَ.
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ: أَيْ أَهْلِ مَكَّةَ بِالصُّلْحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النَّضْرِيُّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ: إِذْ جَاءُوا لِيَنْصُرُوا أَهْلَ خَيْبَرَ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُحَاصِرٌ لَهُمْ، فَجَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَكَفَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَسَدٌّ وَغَطَفَانُ حُلَفَاءُ خَيْبَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: كَفَّ الْيَهُودَ عَنِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَإِلَى خَيْبَرَ. وَلِتَكُونَ: أَيْ هَذِهِ الْكَفَّةُ
493
آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَامَةً يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ نَصْرَهُمْ وَالْفَتْحَ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحَ مَكَّةَ فِي مَنَامِهِ
، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، فَتَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، فَجُعِلَ فَتْحُ خَيْبَرَ عَلَامَةً وَعُنْوَانًا لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي وَلِتَكُونَ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ، وَالْوَاوُ فِي وَلِتَكُونَ زَائِدَةٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ وَعَاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، أَيْ لِيَشْكُرُوهُ وَلِتَكُونَ، أَوْ وَعَدَ فَعَجَّلَ وَكَفَّ لِيَنْفَعَكُمْ بِهَا وَلِتَكُونَ، أَوْ يَتَأَخَّرَ، أَوْ يُقَدَّرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُتَأَخِّرًا، أَيْ فِعْلُ ذَلِكَ. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً: أَيْ طَرِيقَ التَّوَكُّلِ وَتَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَصِيرَةً وَإِتْقَانًا.
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ: بِلَادُ فَارِسَ وَالرُّومِ وَمَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: خَيْبَرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: مَكَّةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَّسِقُ مَعَهُ الْمَعْنَى وَيَتَأَيَّدُ. وَفِي قَوْلِهِ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها دَلَالَةٌ عَلَى تَقَدُّمِ مُحَاوَلَةٍ لَهَا، وَفَوَاتِ دَرْكِ الْمَطْلُوبِ فِي الْحَالِ، كَمَا كَانَ فِي مَكَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَغَانِمُ هَوَازِنَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ. وَقَالَ: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْجَوْلَةِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي: وَأُخْرى، أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِإِضْمَارِ رُبَّ، وَهَذَا فِيهِ غَرَابَةٌ، لِأَنَّ رُبَّ لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ جَارَّةً، مَعَ كَثْرَةِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يُؤْتَى بِهَا مُضْمَرَةً؟ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَنَّ وَأُخْرى مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، فَقَدْ وُصِفَتْ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، وَقَدْ أَحَاطَ هُوَ الْخَبَرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَعْنَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها: أَيْ وَقَضَى اللَّهُ أُخْرَى. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَمَعْنَى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لِأَهْلِهَا، أَيْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ ذَلِكَ، وَظَهَرَ فِيهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا.
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، أَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ، أَوْ نَاصِرُو أَهْلِ خَيْبَرَ، أَوِ الْيَهُودُ؟ لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ: أَيْ لَغُلِبُوا وَانْهَزَمُوا. سُنَّةَ اللَّهِ: فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيْ سَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَنْبِيَاءَهُ سُنَّةً، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «١». وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ: أَيْ قَضَى بَيْنَكُمُ الْمُكَافَّةَ وَالْمُحَاجَزَةَ، بعد ما خَوَّلَكُمُ الظَّفَرَ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةَ.
وَرُوِيَ فِي سَبَبِهَا أَنَّ قُرَيْشًا جَمَعَتْ جَمَاعَةً مِنْ فِتْيَانِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مَعَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ غُرَّةً فِي عَسْكَرِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَمَّاهُ حِينَئِذٍ سَيْفَ اللَّهِ، فِي جُمْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَفَرُّوا أَمَامَهُمْ حَتَّى أدخلوهم بيوت
(١) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢١.
494
مَكَّةَ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ جُمْلَةً، وَسِيقُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ:
كَانَ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ معكسره، وَهُوَ بِبَطْنِ مَكَّةَ. وَعَنْ أَنَسٍ: هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُسَلَّحِينَ يُرِيدُونَ غُرَّتَهُ، فَأَخَذْنَاهُمْ فَاسْتَحْيَاهُمْ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ جِئْتُمْ في عهد؟ وَهَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا» ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَانَ يَعْنِي هَذَا الْكَفَّ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَبِهِ اسْتَشْهَدَ أَبُو حَنِيفَةَ، عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَا صُلْحًا. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ خَرَجَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَزَمَهُ وَأَدْخَلَهُ حِيطَانَ مَكَّةَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَظْهَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَا تَعْمَلُونَ، عَلَى الْخِطَابِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْيَاءِ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِلْكُفَّارِ.
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: يُقَالُ الْهَدْيُ وَالْهِدْيُ وَالْهِدَاءُ، ثَلَاثُ لُغَاتٍ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْهَدْيُ، بِسُكُونِ الدَّالِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَابْنُ هُرْمُزَ، وَالْحَسَنُ، وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ، وَاللُّؤْلُؤِيُّ، وَخَارِجَةُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَالْهَدِيُّ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي صَدُّوكُمْ وَمَعْكُوفًا:
حَالٌ، أَيْ مَحْبُوسًا. عَكَفْتُ الرَّجُلَ عَنْ حَاجَتِهِ: حَبَسْتُهُ عَنْهَا، وَأَنْكَرَ أَبُو عَلِيٍّ تَعْدِيَةَ عَكَفَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَهَذَا الْحَبْسُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِصَدِّهِمْ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لِتَرَدُّدِهِمْ وَنَظَرِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
وَالْهَدْيِ، بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: أَيْ وَعَنْ نَحْرِ الْهَدْيِ. وَقَرَأَ: بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ وَصَدِّ الْهَدْيِ، وَكَانَ خَرَجَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِائَةُ بَدَنَةٍ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: بِسَبْعِينَ، وَكَانَ النَّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، فَكَانَتِ الْبَدَنَةُ عَنْ عَشَرَةٍ، قَالَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَأُبَيُّ بْنُ الْحَكَمِ.
أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحَرَمُ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مَحِلَّ هَدْيِ الْمُحْصَرِ الْحَرَمُ، لَا حَيْثُ أُحْصِرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَيْثُ يحل نحره، وأَنْ يَبْلُغَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالصَّدِّ، أَيْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ، وَذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ وَصَدُّوا بُلُوغَ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَعْكُوفًا، أَيْ مَحْبُوسًا لِأَجْلِ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْحَبْسُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أَوْ مَحْبُوسًا عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، فَيَكُونُ الْحَبْسُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بِمَكَّةَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُخْتَلِطِينَ بِالْمُشْرِكِينَ، غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، وَلَا مَعْرُوفِي الْأَمَاكِنَ فَقَالَ
495
تَعَالَى: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ أَنْ يُهْلِكُوا أُنَاسًا مُؤْمِنِينَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْتُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ لَهُمْ، فَيُصِيبُكُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ مَكْرُوهٌ وَمَشَقَّةٌ، مَا كَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ وَحَذَفَ جَوَابَ لَوْلَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: لَوْ تَزَيَّلُوا، كَالتَّكْرِيرِ لِلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ، لِمَرْجِعِهِمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَيَكُونُ: لَعَذَّبْنَا، هُوَ الْجَوَابُ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِمَرْجِعِهِمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ لَوْلَا الْأُولَى غَيْرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّانِيَةُ: فَالْمَعْنَى فِي الْأُولَى: وَلَوْلَا وَطْءُ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى فِي الثَّانِيَةِ: لَوْ تَمَيَّزُوا مِنَ الْكُفَّارِ وَهَذَا مَعْنًى مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ مغايرة ظاهرة. وأَنْ تَطَؤُهُمْ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجَالٍ وَمَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَعْلَمُوهُمْ، أَيْ لَمْ تَعْلَمُوا وَطْأَتَهُمْ، أَيْ أَنَّهُ وَطْءُ مُؤْمِنِينَ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ.
وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ، وَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِهْلَاكِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ وَطْءَ الْمُقَيَّدِ ثَابِتِ الْهَرَمِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ». ولَمْ تَعْلَمُوهُمْ: صِفَةٌ لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ غَلَبَ فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمَعْنَى: لَمْ تَعْرِفُوا أَعْيَانَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
الْمَعَرَّةُ: الْمَأْثَمُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: الدِّيَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا دِيَةَ فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ مَسْتُورِ الْإِيمَانِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الْمَعَرَّةُ: أَنْ يُعَنِّفَهُمُ الْكُفَّارُ، وَيَقُولُونَ قَتَلُوا أَهْلَ دِينِهِمْ. وَقِيلَ:
الْمَلَامَةُ وَتَأْلَمُ النَّفْسُ مِنْهُ فِي بَاقِي الزَّمَنِ. وَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ سُؤَالًا وَجَوَابًا عَلَى عَادَتِهِ فِي تَلَفُّقِ كَلَامِهِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَإِيهَامِهِ أَنَّهَا سُؤَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ لَهُ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ مَعَرَّةٍ تُصِيبُهُمْ إِذَا قَتَلُوهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ؟ قُلْتُ: يُصِيبُهُمْ وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَسُوءُ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا بِأَهْلِ دِينِهِمْ مَا فَعَلُوا بِنَا مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ، وَالْمَأْثَمُ إِذَا جَرَى مِنْهُمْ بَعْضُ التَّقْصِيرِ. انْتَهَى.
بِغَيْرِ عِلْمٍ: إِخْبَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ صِفَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْعِفَّةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّعَدِّي حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِ النَّمْلَةِ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ «١». وَبِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بأن تطؤهم. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ مِنَ الَّذِينَ بَعْدَكُمْ مِمَّنْ يَعْتِبُ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَوْ تَزَيَّلُوا وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ عَوْنٍ: لَوْ تَزَايَلُوا، عَلَى وزن تفاعلوا،
(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٨.
496
وليدخل مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ كَانَ انْتِفَاءُ التَّسْلِيطِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْعَذَابِ. لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ: وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ جَوَابِ لَوْ، وَمَعْنَى تَزَيَّلُوا: لَوْ ذَهَبُوا عَنْ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ تَزَيَّلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْكُفَّارِ وَتَفَرَّقُوا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، أَيْ لَوِ افْتَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ: إِذْ مَعْمُولٌ لِعَذَّبْنَا، أَوْ لَوْ صَدُّوكُمْ، أو لا ذكر مُضْمَرَةٌ.
وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: حَمَيْتُ عَنْ كَذَا حَمِيَّةً، إِذَا أَنِفْتَ عَنْهُ وَدَاخَلَكَ عَارٌ وَأَنَفَةٌ لِفِعْلِهِ، قَالَ الْمُتَلَمِّسُ:
إِلَّا أَنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِيَ عِرْضُهُمْ كَذَا الرَّأْسُ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَمِيَّتُهُمْ: أَنَفَتُهُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالَّذِي امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: حَمِيَّتُهُمْ:
عَصَبِيَّتُهُمْ لِآلِهَتِهِمْ، وَالْأَنَفَةُ: أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَهَا. وَقِيلَ: قَتَلُوا آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فِي مَنَازِلِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا وَكَانَتْ حَمِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَحْضُ تَعَصُّبٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَاءَ مُعَظِّمًا لِلْبَيْتِ لَا يُرِيدُ حَرْبًا، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غزية إن غوت غوين وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وحمية: بَدَلٌ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالسَّكِينَةُ الْوَقَارُ وَالِاطْمِئْنَانُ، فَتَوَقَّرُوا وَحَلُمُوا
وكَلِمَةَ التَّقْوى:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ
، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا:
هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُضِيفَتِ الْكَلِمَةُ إِلَى التَّقْوَى لِأَنَّهَا سَبَبُ التَّقْوَى وَأَسَاسُهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَلِمَةُ أَهْلِ التَّقْوَى.
وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: كَلِمَةُ التَّقْوَى هُنَا هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهِيَ الَّتِي أَبَاهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَأَلْزَمَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُمْ أَحَقَّ بِهَا. وَقِيلَ: قَوْلُهُمْ سَمْعًا وَطَاعَةً. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: وَكانُوا عَائِدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَحَقَّ بِها مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
497
وَقِيلَ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَذِهِ الْأَحَقِّيَّةُ هِيَ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: أَحَقَّ بِهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: وَأَهْلَها فِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَكَانُوا عَائِدٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ رَسُولُهُ لَوْلَا مَا سُلِبُوا مِنَ التَّوْفِيقِ.
وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً، إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِينَ وَرَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ، وَإِلَى عِلْمِهِ بِصُلْحِ الْكُفَّارِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِامْتِزَاجِ الْعَرَبِ وَإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَعُلُوِّ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَكَانُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَبَعْدَهُ بِعَامَيْنِ سَارُوا إِلَى مَكَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرازي: في هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَبَانَ غَايَةَ الْبَوْنِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ. بَايَنَ بَيْنَ الْفَاعِلَيْنِ، إِذْ فَاعِلُ جَعَلَ هُوَ الْكُفَّارُ، وَفَاعِلُ أَنْزَلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ، إِذْ تِلْكَ حَمِيَّةٌ، وَهَذِهِ سَكِينَةٌ وَبَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ، أَضَافَ الْحَمِيَّةَ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَضَافَ السَّكِينَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَبَيْنَ الْفِعْلِ جَعَلَ وَأَنْزَلَ فَالْحَمِيَّةُ مَجْعُولَةٌ فِي الْحَالِ فِي الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى، وَالسَّكِينَةُ كَالْمَحْفُوظَةِ فِي خِزَانَةِ الرَّحْمَةِ فَأَنْزَلَهَا.
وَالْحَمِيَّةُ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ فِي نَفْسِهَا وَازْدَادَتْ قُبْحًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَالسَّكِينَةُ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا وَازْدَادَتْ حُسْنًا بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْعَطْفُ فِي فَأَنْزَلَ بِالْفَاءِ لَا بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى الْمُقَابَلَةِ، تقول: أكرمني فَأَكْرَمْتُهُ، فَدَلَّتْ عَلَى الْمُجَازَاةِ لِلْمُقَابَلَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ فَأَنْزَلَ. وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَجَابَ أَوَّلًا إِلَى الصُّلْحِ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ عَازِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى أَهْلِهِمْ إِلَّا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَوِ النَّحْرِ فِي الْمَنْحَرِ، وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكْتُبُوا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاسْمِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: عَلى رَسُولِهِ. وَلَمَّا سَكَنَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصُّلْحِ، سَكَنَ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ: وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أُلْزِمُوا تِلْكَ الْكَلِمَةَ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «١»، وَفِيهِ تَلْخِيصٌ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٣.
498
اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الرُّؤْيَا بِالْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ، وَقَدْ حَلَقُوا وَقَصَّرُوا. فَقَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ دَاخِلُوهَا فِي عَامِهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّ رُؤْيَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ. فَلَمَّا تَأَخَّرَ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُفَيْلٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ الْحَارِثِ: وَاللَّهِ مَا حَلَقْنَا وَلَا قَصَّرْنَا وَلَا رَأَيْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فَنَزَلَتْ.
وَرُوِيَ أَنَّ رُؤْيَاهُ كَانَتْ: أَنَّ مَلَكًا جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ:
لَتَدْخُلُنَّ. الْآيَةَ.
وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ: لَمْ يَكْذِبْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْكَذِبِ وَعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ.
وَصَدَقَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ. تَقُولُ: صَدَقْتُ زَيْدًا الْحَدِيثَ، وَصَدَقْتُهُ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ فِي أَخَوَاتِ اسْتَغْفَرَ وَأَمَرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «١». انْتَهَى. فَدَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ حَرْفُ الْجَرِّ. وَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ.
لَتَدْخُلُنَّ: اللَّامُ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ جَوَابَ بِالْحَقِّ وَبِالْحَقِّ قَسَمٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِدْقٍ، وَتَعْلِيقُهُ على المسيئة، قِيلَ: لِأَنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَلَكِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقِيلَ: هَذَا التَّعْلِيقُ تَأَدُّبٌ بِآدَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمَوْعُودُ بِهِ مُتَحَقِّقَ الْوُقُوعِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «٢».
وَقَالَ ثَعْلَبٌ: اسْتَثْنَى فِيمَا يَعْلَمُ لِيَسْتَثْنِيَ الْخَلْقُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ:
كَانَ اللَّهُ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ يَمُوتُ، فَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ». وَقِيلَ:
هُوَ تَعْلِيقٌ فِي قَوْلِهِ: آمِنِينَ، لَا لِأَجْلِ إِعْلَامِهِ بِالدُّخُولِ، فَالتَّعْلِيقُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَوْضِعِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُخْرِجُ التَّعْلِيقَ عَنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا عَلَى وَاجِبٍ، لِأَنَّ الدُّخُولَ وَالْأَمْنَ أَخْبَرَ بِهِمَا تَعَالَى، وَوَقَعَتِ الثِّقَةُ بِالْأَمْرَيْنِ وَهُمَا الدُّخُولُ وَالْأَمْنُ الَّذِي هُوَ قَيْدٌ فِي الدخول. وآمِنِينَ:
حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِلدُّخُولِ. وَمُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ: حَالٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَا تَخَافُونَ: بَيَانٌ لِكَمَالِ الْأَمْنِ بعد تمام الحج.
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٢.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٢٣.
499
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا فِيمَا يُسْتَأْنَفُ، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَدَخَلُوهَا مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَصَدَقَتْ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا: أَيْ مَا قَدَّرَهُ مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهِ، وَمَا كَانَ أَيْضًا بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ فِي تَأْخِيرِ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ.
انْتَهَى. وَلَمْ يَكُنْ فَتْحُ مَكَّةَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ عَامٍ، لِأَنَّ الْفَتْحَ إِنَّمَا كان سنة ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ: أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ زَمَانٍ دُونَ ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي وُعِدُوا فِيهِ بِالدُّخُولِ. فَتْحًا قَرِيبًا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: هَذَا الْفَتْحُ الْقَرِيبُ هُوَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
خَيْبَرَ، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ، لِأَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دُونَ دُخُولِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه مَكَّةَ، بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ: فِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِدْقِ رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبْشِيرٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مُعْظَمِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً عَلَى أَنَّ مَا وَعَدَهُ كَائِنٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ: شَهِيدًا عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقِيلَ: رَسُولُ اللَّهِ صِفَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيَانٍ، وَالَّذِينَ مَعْطُوفٌ، وَالْخَبَرُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَشِدَّاءُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ مُحَمَّدٌ، لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ: رسوله اللَّهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ هُمْ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: جَمِيعُ أَصْحَابِهِ أَشِدَّاءُ، جَمْعُ شَدِيدٍ، كَقَوْلِهِ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «١». رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «٢»، وَكَقَوْلِهِ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «٣»، وقوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «٤». وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بِنَصْبِهِمَا. قِيلَ: عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا الْعَامِلُ فِي مَعَهُ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنِ الْمُبَتَدَأِ الْمُتَقَدِّمِ: تَرَاهُمْ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: أَشَدَّا، بِالْقَصْرِ، وَهِيَ شَاذَّةٌ، لِأَنَّ قَصْرَ الْمَمْدُودِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٧٣.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١٢٨. [.....]
500
لَا بُدَّ مِنْ صَنْعَا وَإِنْ طَالَ السَّفَرُ وَفِي قَوْلِهِ: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً دَلِيلٌ عَلَى كَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:
وَرُضْوَانًا، بِضَمِّ الرَّاءِ. وقرىء: سِيمِياهُمْ، بِزِيَادَةِ يَاءٍ وَالْمَدِّ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ
وَهَذِهِ السِّيمَا، قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ جِبَاهُهُمْ مُنِيرَةً مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ فِي التُّرَابِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدٌ الْحَنَفِيُّ، وَعَطِيَّةُ: وَعْدٌ لَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: السَّمْتُ: الْحُسْنُ وَخُشُوعٌ يَبْدُو عَلَى الْوَجْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَعْمَرُ بْنُ عَطِيَّةَ: بَيَاضٌ وَصُفْرَةٌ وَبَهِيجٌ يَعْتَرِي الْوَجْهَ مِنَ السَّهَرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: حُسْنٌ يَعْتَرِي وُجُوهَ الْمُصَلِّينَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا: هَذِهِ السِّيمَا هِيَ الْأَثَرُ يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّجُلِ؟ قَالَ: لَا، وَقَدْ تَكُونُ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، وَهِيَ أَقْسَى قَلْبًا مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِجِبَاهِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ السُّجُودِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهَا السِّمَةُ الَّتِي تَحْدُثُ فِي جَبْهَةِ السُّجَّادِ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ. وَقَوْلُهُ:
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يُفَسِّرُهَا: أَيْ مِنَ التَّأْثِيرِ الَّذِي يُؤَثِّرُهُ السُّجُودُ. وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الْعَلِيَّيْنِ، عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْمُلُوكِ، يُقَالُ لَهُ ذُو الثَّفِنَاتِ، لِأَنَّ كَثْرَةَ سُجُودِهِمَا أَحْدَثَتْ فِي مَوَاقِعِهِ مِنْهُمَا أَشْبَاهَ ثَفِنَاتِ الْبَعِيرِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ: إِثْرِ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَالْجُمْهُورُ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: مِنْ آثَارِ السُّجُودِ، بِالْجَمْعِ.
ذلِكَ: أي ذلك الوصف مِنْ كَوْنِهِمْ أَشِدَّاءَ رُحَمَاءَ مُبْتَغِينَ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ مَثَلٌ وَاحِدٌ، أَيْ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيُوقَفُ عَلَى الْإِنْجِيلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَمَّا مَثَلَانِ، فَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَكَزَرْعٍ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَثَلُهُمْ كَزَرْعٍ، أَوْ هُمْ كَزَرْعٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْمَعْنَى ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَزَرْعٍ خَبَرَ وَمَثَلُهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتًا كَالزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةٌ مُبْهَمَةٌ أُوضِحَتْ بِقَوْلِهِ:
501
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، كَقَوْلِهِ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَقَوْلُهُ: كزرع، هو على كلا الْأَقْوَالِ، وَفِي أَيِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ، فُرِضَ مَثَلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَحْدَهُ، فَكَانَ كَالزَّرْعِ حَبَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَهُمْ كَالشَّطْءِ، وَهُوَ فَرَاخُ السُّنْبُلَةِ الَّتِي تَنْبُتُ حَوْلَ الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: شَطْأَهُ: فَرَاخَهُ وَأَوْلَادَهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَبَاتَهُ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: شُتُولَ السُّنْبُلِ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبَّةِ عَشْرُ سُنْبُلَاتٍ وَتِسْعٌ وَثَمَانٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: طَرَفَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى وَمِنَ الْأَشْجَارِ أَفْنَانَ الثَّمَرِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: شَطْأَهُ، بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ ذَكْوَانَ: بِفَتْحِهِمَا وَكَذَلِكَ: وَبِالْمَدِّ، أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى الْكُوفِيُّ وَبِأَلِفٍ بَدَلَ الْهَمْزَةِ، زَيْدُ بْنُ عَلَى فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ الْهَمْزَ، فَنَقَلَ الْحَرَكَةَ وَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا.
كَمَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ وَالْكَمْأَةِ: الْمَرَاةَ وَالْكَمَاةَ، وَهُوَ تَخْفِيفٌ مَقِيسٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: شَطَّهُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الطَّاءِ. وَرُوِيَتْ عَنْ شَيْبَةَ، وَنَافِعٍ، وَالْجَحْدَرِيِّ، وَعَنِ الْجَحْدَرِيِّ أَيْضًا: شَطْوَهُ بِإِسْكَانِ الطَّاءِ وَوَاوٍ بَعْدَهَا. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: هِيَ لُغَةٌ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَلَا يَكُونُ الشَّطُّ إِلَّا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا لُغَاتٌ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: شَطَأَ الزَّرْعُ وَأَشْطَأَ، إِذَا أَخْرَجَ فَرَاخَهُ، وَهُوَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ: فَأَزَرَهُ ثُلَاثِيًّا وَبَاقِي السَّبْعَةِ: فَآزَرَهُ، عَلَى وَزْنِ أفعله. وقرىء: فَازَّرَهُ، بِتَشْدِيدِ الزَّايِ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: آزِرُهُ فَاعِلُهُ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي مُضَارِعِهِ إِلَّا يُؤْزِرُ، عَلَى وَزْنِ يُكْرِمُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي آزَرَهُ عَائِدٌ عَلَى الزَّرْعِ، لِأَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَطْلَعُ رَقِيقَ الْأَصْلِ، فَإِذَا خَرَجَتْ فَرَاخُهُ غَلُظَ أَصْلُهُ وَتَقَوَّى، وَكَذَلِكَ أصحاب رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا أَقِلَّةً ضُعَفَاءَ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَتَقَوَّوْا قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: آزَرَهُ: قَوَّاهُ وَشَدَّ أَزْرَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: صَارَ مِثْلَ الْأَصْلِ فِي الطُّولِ. فَاسْتَغْلَظَ:
صَارَ مِنَ الرِّقَّةِ إِلَى الْغِلْظِ. فَاسْتَوى: أَيْ تَمَّ نَبَاتُهُ. عَلى سُوقِهِ: جَمْعُ سَاقٍ، كِنَايَةٌ عَنْ أُصُولِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: عَلَى سُؤْقِهِ بِالْهَمْزِ. قِيلَ: وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ يَهْمِزُونَ الواو الذي قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَيَّ مؤسي
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٦٦.
502
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَإِذَا أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُعْجِبَ غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَا عَيْبَ فِيهِ، إِذْ قَدْ أَعْجَبَ الْعَارِفِينَ بِعُيُوبِ الزَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ مَعِيبًا لَمْ يُعْجِبْهُمْ، وَهُنَا تَمَّ الْمَثَلُ. ولِيَغِيظَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ:
جَعَلَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تَعْلِيلٌ لِمَاذَا؟ قُلْتُ: لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَشْبِيهُهُمْ بِالزَّرْعِ مِنْ نَمَائِهِمْ وَتَرَقِّيهِمْ فِي الزِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا: لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سَمِعُوا بِمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا يُعِزُّهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا غَاظَهُمْ ذَلِكَ. وَمَعْنَى: مِنْهُمْ: لِلْبَيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «١». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مِنْهُمْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ وَعْدُ مَدْحِ الْجَمِيعِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِنْهُمْ يَعْنِي: مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّرْعُ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الزَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى مَعْنَى الشَّطْءِ لَا عَلَى لَفْظِهِ. وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ: الْجَنَّةُ. وَذُكِرَ عِنْدَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ رَجُلٌ يَنْتَقِصُ الصَّحَابَةَ، فَقَرَأَ مَالِكٌ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: مَنْ أَصْبَحَ بَيْنَ النَّاسِ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، والله الموفق.
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٣٠.
503
سورة الفتح
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفتح) من السُّوَر المدنية، نزلت في صلحِ (الحُدَيبيَة)، الذي كان بدايةً لفتحِ مكَّة الأعظم، وتحدَّثت عن جهاد المؤمنين، وعن (بَيْعة الرِّضوان)، وعن الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين، كما تحدثت عن صدقِ الرُّؤيا التي رآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ وهي دخوله والمسلمين مكَّةَ مطمئنين، وقد تحقَّقت تلك الرؤيا الصادقةُ، وخُتمت بالثناء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصحابِه الأخيار الأطهار.

ترتيبها المصحفي
48
نوعها
مدنية
ألفاظها
560
ترتيب نزولها
111
العد المدني الأول
29
العد المدني الأخير
29
العد البصري
29
العد الكوفي
29
العد الشامي
29

* نزَلتْ سورةُ (الفتح) يوم (الحُدَيبيَة):

عن أبي وائلٍ شَقِيقِ بن سلَمةَ رحمه الله، قال: «كنَّا بصِفِّينَ، فقامَ سهلُ بنُ حُنَيفٍ، فقال: أيُّها الناسُ، اتَّهِموا أنفسَكم؛ فإنَّا كنَّا مع رسولِ اللهِ ﷺ يومَ الحُدَيبيَةِ، ولو نرى قتالًا لقاتَلْنا، فجاءَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ألَسْنا على الحقِّ وهم على الباطلِ؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قَتْلانا في الجنَّةِ وقَتْلاهم في النارِ؟ قال: «بلى»، قال: فعَلَامَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا؟ أنَرجِعُ ولمَّا يحكُمِ اللهُ بَيْننا وبَيْنهم؟ فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، إنِّي رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَني اللهُ أبدًا»، فانطلَقَ عُمَرُ إلى أبي بكرٍ، فقال له مِثْلَ ما قال للنبيِّ ﷺ، فقال: إنَّه رسولُ اللهِ، ولن يُضيِّعَه اللهُ أبدًا؛ فنزَلتْ سورةُ الفتحِ، فقرَأَها رسولُ اللهِ ﷺ على عُمَرَ إلى آخِرِها، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، أوَفَتْحٌ هو؟ قال: «نعم»». صحيح البخاري (٣١٨٢).

* قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]، قال: الحُدَيبيَةُ، قال أصحابُه: هنيئًا مريئًا، فما لنا؟ فأنزَلَ اللهُ: {لِّيُدْخِلَ اْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ} [الفتح: 5]». قال شُعْبةُ: «فقَدِمْتُ الكوفةَ، فحدَّثْتُ بهذا كلِّه عن قتادةَ، ثم رجَعْتُ فذكَرْتُ له، فقال: أمَّا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح: ١]: فعن أنسٍ، وأمَّا «هنيئًا مريئًا»: فعن عِكْرمةَ». أخرجه البخاري (٤١٧٢).

* قوله تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24]:

عن المِسْوَرِ بن مَخرَمةَ ومَرْوانَ بن الحَكَمِ، قالا: «خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيبيَةِ، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَمِيمِ في خيلٍ لقُرَيشٍ طليعةً؛ فَخُذُوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ، ما شعَرَ بهم خالدٌ حتى إذا هُمْ بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلَقَ يركُضُ نذيرًا لقُرَيشٍ، وسارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يَهبِطُ عليهم منها، برَكتْ به راحِلتُه، فقال الناسُ: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلَأتِ القَصْواءُ، خلَأتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما خلَأتِ القَصْواءُ، وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حبَسَها حابسُ الفيلِ»، ثم قال: «والذي نفسي بيدِه، لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، ثم زجَرَها فوثَبتْ.

قال: فعدَلَ عنهم حتى نزَلَ بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يَتبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا، فلَمْ يُلبِثْهُ الناسُ حتى نزَحوه، وشُكِيَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العطَشُ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانتِه، ثم أمَرَهم أن يَجعَلوه فيه، فواللهِ، ما زالَ يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَرُوا عنه.

فبينما هم كذلك، إذ جاءَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ الخُزَاعيُّ في نَفَرٍ مِن قومِه مِن خُزَاعةَ، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ تِهامةَ، فقال: إنِّي ترَكْتُ كعبَ بنَ لُؤَيٍّ وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزَلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيَةِ، ومعهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مُقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَجِئْ لِقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنا معتمِرِينَ، وإنَّ قُرَيشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مادَدتُّهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بَيْني وبَيْنَ الناسِ، فإنْ أظهَرْ: فإن شاؤوا أن يدخُلوا فيما دخَلَ فيه الناسُ فعَلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإنْ هم أبَوْا، فوالذي نفسي بيدِه، لَأُقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفرِدَ سالفتي، وَلَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه»، فقال بُدَيلٌ: سأُبلِّغُهم ما تقولُ.

قال: فانطلَقَ حتى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئْناكم مِن هذا الرَّجُلِ، وسَمِعْناه يقولُ قولًا، فإن شِئْتم أن نَعرِضَه عليكم فعَلْنا، فقال سفهاؤُهم: لا حاجةَ لنا أن تُخبِرَنا عنه بشيءٍ، وقال ذَوُو الرأيِ منهم: هاتِ ما سَمِعْتَه يقولُ، قال: سَمِعْتُه يقولُ كذا وكذا، فحدَّثَهم بما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم.

فقام عُرْوةُ بنُ مسعودٍ، فقال: أيْ قومِ، ألَسْتم بالوالدِ؟ قالوا: بلى، قال: أوَلَسْتُ بالولدِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتم تَعلَمون أنِّي استنفَرْتُ أهلَ عُكَاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ، جِئْتُكم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنَّ هذا قد عرَضَ لكم خُطَّةَ رُشْدٍ، اقبَلوها ودَعُوني آتِيهِ، قالوا: ائتِهِ، فأتاه، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوًا مِن قولِه لبُدَيلٍ، فقال عُرْوةُ عند ذلك: أيْ مُحمَّدُ، أرأَيْتَ إنِ استأصَلْتَ أمرَ قومِك، هل سَمِعْتَ بأحدٍ مِن العرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبْلَك؟ وإن تكُنِ الأخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِن الناسِ خليقًا أن يَفِرُّوا ويدَعُوك، فقال له أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: امصَصْ ببَظْرِ اللَّاتِ، أنَحْنُ نَفِرُّ عنه وندَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بكرٍ، قال: أمَا والذي نفسي بيدِه، لولا يدٌ كانت لك عندي لم أَجْزِكَ بها، لَأجَبْتُك، قال: وجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فكلَّما تكلَّمَ أخَذَ بلِحْيتِه، والمُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ قائمٌ على رأسِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه السَّيْفُ، وعليه المِغفَرُ، فكلَّما أهوى عُرْوةُ بيدِه إلى لِحْيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ضرَبَ يدَه بنَعْلِ السَّيْفِ، وقال له: أخِّرْ يدَكَ عن لِحْيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فرفَعَ عُرْوةُ رأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغِيرةُ بنُ شُعْبةَ، فقال: أيْ غُدَرُ، ألَسْتُ أسعى في غَدْرتِك؟ وكان المُغِيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهليَّةِ فقتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثم جاءَ فأسلَمَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالَ فلَسْتُ منه في شيءٍ»، ثم إنَّ عُرْوةَ جعَلَ يرمُقُ أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعَيْنَيهِ، قال: فواللهِ، ما تنخَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له ، فرجَعَ عُرْوةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قومِ، واللهِ، لقد وفَدتُّ على الملوكِ، ووفَدتُّ على قَيصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ، إنْ رأَيْتُ مَلِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحمَّدًا، واللهِ، إنْ تَنخَّمَ نُخَامةً إلا وقَعتْ في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأَ كادُوا يقتتِلون على وَضوئِه، وإذا تكلَّمَ خفَضوا أصواتَهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، وإنَّه قد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبَلوها.

فقال رجُلٌ مِن بني كِنانةَ: دَعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا فلانٌ، وهو مِن قومٍ يُعظِّمون البُدْنَ، فابعَثوها له»، فبُعِثتْ له، واستقبَلَه الناسُ يُلَبُّون، فلمَّا رأى ذلك، قال: سُبْحانَ اللهِ! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيتِ! فلمَّا رجَعَ إلى أصحابِه، قال: رأَيْتُ البُدْنَ قد قُلِّدتْ وأُشعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيتِ.

فقامَ رجُلٌ منهم يقالُ له: مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، فقال: دعُوني آتِيهِ، فقالوا: ائتِهِ، فلمَّا أشرَفَ عليهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هذا مِكْرَزٌ، وهو رجُلٌ فاجرٌ»، فجعَلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَيْنما هو يُكلِّمُه، إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكْرمةَ: أنَّه لمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لقد سهُلَ لكم مِن أمرِكم».

قال مَعمَرٌ: قال الزُّهْريُّ في حديثِه: فجاء سُهَيلُ بنُ عمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَيْننا وبَيْنكم كتابًا، فدعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكاتبَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ»، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحْمنُ، فواللهِ ما أدري ما هو، ولكنِ اكتُبْ باسمِك اللهمَّ كما كنتَ تكتُبُ، فقال المسلمون: واللهِ، لا نكتُبُها إلا بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اكتُبْ باسمِك اللهمَّ»، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لو كنَّا نَعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، ما صدَدْناك عن البيتِ، ولا قاتَلْناك، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إنِّي لَرسولُ اللهِ، وإن كذَّبْتموني، اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، قال الزُّهْريُّ: وذلك لقولِه: «لا يَسألوني خُطَّةً يُعظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهم إيَّاها»، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخَلُّوا بَيْننا وبَيْنَ البيتِ فنطُوفَ به»، فقال سُهَيلٌ: واللهِ، لا تَتحدَّثُ العرَبُ أنَّا أُخِذْنا ضُغْطةً، ولكنْ ذلك مِن العامِ المقبِلِ، فكتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يأتيك منَّا رجُلٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، قال المسلمون: سُبْحانَ اللهِ! كيف يُرَدُّ إلى المشركين وقد جاء مسلِمًا؟!

فبَيْنما هم كذلك، إذ دخَلَ أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو يرسُفُ في قيودِه، وقد خرَجَ مِن أسفَلِ مكَّةَ حتى رمَى بنفسِه بين أظهُرِ المسلمين، فقال سُهَيلٌ: هذا - يا مُحمَّدُ - أوَّلُ ما أُقاضيك عليه أن ترُدَّه إليَّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا لم نَقْضِ الكتابَ بعدُ»، قال: فواللهِ، إذًا لم أُصالِحْك على شيءٍ أبدًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فأجِزْهُ لي»، قال: ما أنا بمُجيزِهِ لك، قال: «بلى فافعَلْ»، قال: ما أنا بفاعلٍ، قال مِكْرَزٌ: بل قد أجَزْناه لك.

قال أبو جَنْدلٍ: أيْ معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جِئْتُ مسلِمًا؟! ألَا ترَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ.

قال: فقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيْتُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ألَسْتَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قال: «بلى»، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قال: «بلى»، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: «إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيه، وهو ناصري»، قلتُ: أوَليس كنتَ تُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطُوفُ به؟ قال: «بلى، فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟!»، قال: قلتُ: لا، قال: «فإنَّك آتِيهِ، ومُطَّوِّفٌ به»، قال: فأتَيْتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: يا أبا بكرٍ، أليس هذا نبيَّ اللهِ حقًّا؟ قال: بلى، قلتُ: ألَسْنا على الحقِّ وعدُوُّنا على الباطلِ؟ قال: بلى، قلتُ: فلِمَ نُعطِي الدَّنيَّةَ في دِينِنا إذًا؟ قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليس يَعصِي ربَّه، وهو ناصِرُه؛ فاستمسِكْ بغَرْزِه؛ فواللهِ، إنَّه على الحقِّ، قلتُ: أليس كان يُحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطُوفُ به؟ قال: بلى، أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟ قلتُ: لا، قال: فإنَّك آتِيهِ ومطَّوِّفٌ به.

قال الزُّهْريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلْتُ لذلك أعمالًا.

قال: فلمَّا فرَغَ مِن قضيَّةِ الكتابِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه: «قُومُوا فانحَروا، ثم احلِقوا»، قال: فواللهِ، ما قامَ منهم رجُلٌ، حتى قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا لم يقُمْ منهم أحدٌ، دخَلَ على أمِّ سلَمةَ، فذكَرَ لها ما لَقِيَ مِن الناسِ، فقالت أمُّ سلَمةَ: يا نبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟! اخرُجْ ثم لا تُكلِّمْ أحدًا منهم كلمةً حتى تَنحَرَ بُدْنَك، وتدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَجَ فلم يُكلِّمْ أحدًا منهم حتى فعَلَ ذلك؛ نحَرَ بُدْنَه، ودعَا حالِقَه فحلَقَه، فلمَّا رأَوْا ذلك قامُوا فنحَرُوا، وجعَلَ بعضُهم يَحلِقُ بعضًا، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضًا غمًّا.

ثم جاءَه نِسْوةٌ مؤمِناتٌ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] حتى بلَغَ {بِعِصَمِ اْلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فطلَّقَ عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّرْكِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفْيانَ، والأخرى صَفْوانُ بنُ أُمَيَّةَ.

ثم رجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ، فجاءَه أبو بَصِيرٍ - رجُلٌ مِن قُرَيشٍ - وهو مسلِمٌ، فأرسَلوا في طلَبِه رجُلَينِ، فقالوا: العهدَ الذي جعَلْتَ لنا، فدفَعَه إلى الرَّجُلَينِ، فخرَجَا به حتى بلَغَا ذا الحُلَيفةِ، فنزَلوا يأكلون مِن تَمْرٍ لهم، فقال أبو بَصِيرٍ لأحدِ الرَّجُلَينِ: واللهِ، إنِّي لَأرى سَيْفَك هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستَلَّه الآخَرُ، فقال: أجَلْ، واللهِ، إنَّه لَجيِّدٌ، لقد جرَّبْتُ به، ثم جرَّبْتُ، فقال أبو بَصِيرٍ: أرِني أنظُرْ إليه، فأمكَنَه منه، فضرَبَه حتى برَدَ، وفَرَّ الآخَرُ حتى أتى المدينةَ، فدخَلَ المسجدَ يعدو، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ رآه: «لقد رأى هذا ذُعْرًا»، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قُتِلَ - واللهِ - صاحبي، وإنِّي لَمقتولٌ، فجاءَ أبو بَصِيرٍ، فقال: يا نبيَّ اللهِ، قد - واللهِ - أوفى اللهُ ذِمَّتَك، قد ردَدتَّني إليهم، ثم أنجاني اللهُ منهم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحدٌ»، فلمَّا سَمِعَ ذلك، عرَفَ أنَّه سيرُدُّه إليهم، فخرَجَ حتى أتى سِيفَ البحرِ.

قال: وينفلِتُ منهم أبو جَنْدلِ بنُ سُهَيلٍ، فلَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، فجعَلَ لا يخرُجُ مِن قُرَيشٍ رجُلٌ قد أسلَمَ إلا لَحِقَ بأبي بَصِيرٍ، حتى اجتمَعتْ منهم عِصابةٌ؛ فواللهِ، ما يَسمَعون بِعِيرٍ خرَجتْ لقُرَيشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهم وأخَذوا أموالَهم، فأرسَلتْ قُرَيشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُه باللهِ والرَّحِمِ، لَمَا أرسَلَ: فمَن أتاه فهو آمِنٌ، فأرسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَهُوَ اْلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْۚ} [الفتح: 24] حتى بلَغَ {اْلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اْلْجَٰهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقِرُّوا أنَّه نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ، وحالُوا بَيْنَهم وبَيْنَ البيتِ». أخرجه البخاري (٢٧٣١).

* سورة (الفتح):

سُمِّيت سورةُ (الفتح) بهذا الاسم؛ لأنها افتُتحت بذكرِ بشرى الفتح للمؤمنين؛ قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1].

* وصَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) يومَ نزلت بأنها أحَبُّ إليه مما طلَعتْ عليه الشمسُ:

عن أسلَمَ مولى عُمَرَ بن الخطابِ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَسِيرُ في بعضِ أسفارِه، وعُمَرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ معه ليلًا، فسألَه عُمَرُ عن شيءٍ، فلم يُجِبْهُ رسولُ اللهِ ﷺ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، ثم سألَه فلم يُجِبْهُ، فقال عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أمُّك؛ نزَرْتَ رسولَ اللهِ ﷺ ثلاثَ مرَّاتٍ، كلَّ ذلك لا يُجِيبُك، قال عُمَرُ: فحرَّكْتُ بعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخَشِيتُ أن يَنزِلَ فيَّ قرآنٌ، فما نَشِبْتُ أنْ سَمِعْتُ صارخًا يصرُخُ بي، قال: فقلتُ: لقد خَشِيتُ أن يكونَ نزَلَ فيَّ قرآنٌ، قال: فجِئْتُ رسولَ اللهِ ﷺ، فسلَّمْتُ عليه، فقال: «لقد أُنزِلتْ عليَّ الليلةَ سورةٌ لَهِيَ أحَبُّ إليَّ ممَّا طلَعتْ عليه الشمسُ»، ثم قرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: 1]». أخرجه البخاري (٥٠١٢).

1. صلحُ (الحُدَيبيَة)، وآثارُه (١-٧).

2. مهامُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومغزى (بَيْعة الرِّضوان) (٨-١٠).

3. أحوال المتخلِّفين عن (الحُدَيبيَة) (١١-١٧).

4. (بَيْعة الرِّضوان)، وآثارها الخَيِّرة (١٨-٢٤).

5. أسباب وآثار الصلح (٢٥-٢٦).

6. تحقيق رؤيا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأوصافُه، وأصحابه (٢٧-٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /288).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: اسمُها الذي يعُمُّ فَتْحَ مكَّةَ، وما تقدَّمَه من صلح الحُدَيبيَة، وفتحِ خَيْبَرَ، ونحوِهما، وما تفرَّعَ عنه من إسلامِ أهل جزيرة العرب، وقتالِ أهل الرِّدة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كلَّه إظهارُ هذا الدِّين على الدِّين كله.

وهذا كلُّه في غاية الظهور؛ بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضعَ منها: {لَّقَدْ صَدَقَ اْللَّهُ رَسُولَهُ اْلرُّءْيَا بِاْلْحَقِّۖ}[الفتح:27].

وانتهاؤها: {لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى اْلدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:28]، {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ اْللَّهِۚ} [الفتح: 29] إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ اْلْكُفَّارَۗ} [الفتح:29]؛ أي: بالفتحِ الأعظم، وما دُونَه من الفتوحات». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /492).