تفسير سورة النحل

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة النحل من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه البيهقي . المتوفي سنة 458 هـ

«فَمَنَعَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُزِلْ عَنْهُمْ- فِي الدُّنْيَا- أَحْكَامَ الْإِيمَانِ: بِمَا أَظْهَرُوا مِنْهُ. وَأَوْجَبَ لَهُمْ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ: مِنْ النَّارِ بِعِلْمِهِ: بِسَرَائِرِهِمْ، وَخِلَافِهَا: لِعَلَانِيَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ.»
«وَأَعْلَمَ «١» عِبَادَهُ- مَعَ مَا أَقَامَ عَلَيْهِمْ: [مِنْ «٢» ] الْحُجَّةِ: بِأَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ.-: أَنَّ عِلْمَهُ: بِالسَّرَائِرِ «٣» وَالْعَلَانِيَةِ وَاحِدٌ. فَقَالَ:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ: ٥٠- ١٦) وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ: ٤٠- ١٩) مَعَ آيَاتٍ أُخَرَ: مِنْ الْكِتَابِ.»
«قَالَ: وَعَرَّفَ «٤» جَمِيعَ خَلْقِهِ- فِي كِتَابِهِ-: أَنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ «٥»، لَا مَا عَلَّمَهُمْ. فَقَالَ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ: لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً: ١٦- ٧٨).» وَقَالَ: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ-: مِنْ عِلْمِهِ.- إِلَّا بِما شاءَ: ٢٤- ٢٥٥).»
«ثُمَّ عَلَّمَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ: مِنْ الْعِلْمِ وَأَمَرَهُمْ: بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، [وَأَنْ إلَّا يَتَوَلَّوْا غَيْرَهُ إلَّا: بِمَا عَلَّمَهُمْ «٦» ] فَقَالَ «٧» لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا: مَا كُنْتَ تَدْرِي: مَا الْكِتابُ؟)
(١) فى الْأُم. «فَأعْلم» : وَمَا فى الأَصْل أحسن.
(٢) الزِّيَادَة عَن الْأُم.
(٣) فِي الْأُم «بالسر».
(٤) فى الْأُم «فَعرف». وَمَا فى الأَصْل أحسن.
(٥) هَذَا غير مَوْجُود بِالْأُمِّ.
(٦) الزِّيَادَة عَن الْأُم.
(٧) فى الْأُم: «وَقَالَ». وَمَا فِي الأَصْل أظهر.
300
(وَلَا الْإِيمانُ؟) الْآيَةُ «١» :(٤٢- ٥٢) وَقَالَ تَعَالَى «٢» :(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً «٣» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: ١٨- ٢٣- ٢٤) «٤» وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ «٥» :(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: ١٧- ٣٦).».
وَذَكَرَ سَائِرَ الْآيَاتِ: الَّتِي وَرَدَتْ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ «٦» وَأَنَّهُ «حَجَبَ «٧» عَنْ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عِلْمَ السَّاعَةِ». [ثُمَّ قَالَ «٨» ] :
«فَكَانَ «٩» مَنْ جَاوَزَ «١٠» مَلَائِكَةَ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَاءَهُ «١١» الْمُصْطَفَيْنَ-: مِنْ عِبَادِ اللَّهِ.-: أَقْصَرَ عِلْمًا «١٢»، وَأَوْلَى: أَنْ لَا يَتَعَاطَوْا حُكْمًا
(١) فى الْأُم زِيَادَة: «لنَبيه». [.....]
(٢) انْظُر مَا تقدم (ص ٣٧).
(٣) فى الْأُم زِيَادَة: «وَقَالَ لنَبيه: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ... ٤٦- ٩) ثمَّ أنزل على نبيه: أَن قد غفر لَهُ... فَعلم مَا يفعل بِهِ» إِلَى آخر مَا تقدم (ص ٣٧- ٣٨) مَعَ اخْتِلَاف أَو خطأ فِيهِ بِسَبَب عدم تمكننا.- بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى كثير غَيره- من بَحثه وتأمله، وَالرُّجُوع إِلَى مصدره.
(٤) وهى قَوْله تَعَالَى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ، إِلَّا اللَّهُ: ٢٧- ٦٥) وَقَوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ) الْآيَة: (٣١- ٣٤). وَقَوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) إِلَى (مُنْتَهاها: ٧٩- ٤٢- ٤٤).
(٥) فى الْأُم: «فحجب». وَقد ذكر عقب الْآيَات السَّابِقَة.
(٦) وهى قَوْله تَعَالَى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ، إِلَّا اللَّهُ: ٢٧- ٦٥) وَقَوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحامِ) الْآيَة: (٣١- ٣٤). وَقَوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) إِلَى (مُنْتَهاها: ٧٩- ٤٢- ٤٤).
(٧) زِيَادَة لَا بَأْس بهَا.
(٨) فى الْأُم: «فحجب». وَقد ذكر عقب الْآيَات السَّابِقَة.
(٩) فى الْأُم: «وَكَانَ». وَهُوَ مُنَاسِب لقَوْله: «فحجب».
(١٠) فى الْأُم: «جاور». وَهُوَ تَصْحِيف من النَّاسِخ أَو الطابع.
(١١) كَذَا بِالْأُمِّ. وفى الأَصْل: «وأنبيائه». وَهُوَ خطأ وتصحيف.
(١٢) فى الْأُم زِيَادَة: «من مَلَائكَته وأنبيائه: لِأَن الله (عز وَجل) فرض على خلقه طَاعَة نبيه وَلم يَجْعَل لَهُم بعد من الْأَمر شَيْئا.».
301
عَلَى غَيْبِ أَحَدٍ-: [لَا «١» ] بِدَلَالَةٍ، وَلَا ظَنٍّ.-: لِتَقْصِيرِ «٢» عِلْمِهِمْ عَنْ عِلْمِ أَنْبِيَائِهِ: الَّذِينَ فَرَضَ «٣» عَلَيْهِمْ الْوَقْفَ عَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُهُ «٤».». وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي هَذَا «٥».
(١) الزِّيَادَة عَن الْأُم.
(٢) كَذَا بِالْأُمِّ. وفى الأَصْل: «لِيقصرَ» وَهُوَ تَحْرِيف.
(٣) فى الْأُم زِيَادَة: «الله تَعَالَى». [.....]
(٤) كَذَا بِالْأُمِّ. وفى الأَصْل: «أَمر» وَالنَّقْص من النَّاسِخ.
(٥) فَرَاجعه (ص ٢٦٨) : فبعضه قد تقدم ذكره، وَبَعضه لَا يُوجد فى غَيره ويفيد فى بعض الأبحاث الْآتِيَة. ثمَّ رَاجع كَلَامه: فى اخْتِلَاف الحَدِيث (ص ٣٠٦- ٣٠٧) وَالأُم (ج ١ ص ٢٣٠ وَج ٤ ص ٤١ وَج ٥ ص ١١٤ وَج ٧ ص ٩ ر ٧٤).
302
(أَنَا) أَبُو سَعِيدٍ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ «١» «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ «٢» : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ: مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً: [فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ «٣» ] : ١٦- ١٠٦).»
«فَلَوْ «٤» أَنَّ رَجُلًا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَأُكْرِهَ «٥» عَلَى الْكُفْرِ-: لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ: مِنْ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ «٦» » «قَدْ «٧» أُكْرِهَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ «٨» - فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
عَلَى الْكُفْرِ، فَقَالَهُ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَذَكَرَ لَهُ مَا عُذِّبَ بِهِ: فَنَزَلَتْ «٩» هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِاجْتِنَابِ زَوْجَتِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ: مِمَّا عَلَى الْمُرْتَدِّ «١٠».».
(أَنَا) أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَنَا الرَّبِيعُ، أَنَا الشَّافِعِيُّ،
(١) كَمَا فى الْأُم (ج ٦ ص ١٥٢).
(٢) رَاجع فى الْفَتْح (ج ١٢ ص ٢٥٤- ٢٥٥) : كَلَام ابْن حجر عَن حَقِيقَة الْإِكْرَاه مُطلقًا، وشروطه، وَالْخلاف فى الْمُكْره. فَهُوَ نَفِيس مُفِيد. ثمَّ رَاجع الْأُم (ج ٢ ص ٢١٠ وَج ٧ ص ٦٩).
(٣) الزِّيَادَة عَن الْأُم.
(٤) فى الْأُم: «وَلَو». وَمَا فى الأَصْل أحسن.
(٥) فى الْأُم: «فأكرهه».
وَلَا فرق فى الْمَعْنى.
(٦) انْظُر الْأُم (ج ٣ ص ٢٠٩)، وَمَا سبق (ص ٢٢٤) : فَهُوَ مُفِيد أَيْضا فِيمَا سيأتى قَرِيبا.
(٧) هَذَا تَعْلِيل لما تقدم وَلَو قرن بِالْفَاءِ لَكَانَ أظهر.
(٨) كعمار بن يَاسر. انْظُر حَدِيثه فى السّنَن الْكُبْرَى (ج ٨ ص ٢٠٨- ٢٠٩)، وَالْفَتْح (ج ١٢ ص ٢٥٥).
(٩) عبارَة الْأُم «فَنزل فِيهِ هَذَا».
(١٠) رَاجع كَلَامه بعد ذَلِك لفائدته.
298
وَالنَّهْيُ «١» عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ- بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ: ٢- ١٩٣).»
«وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ: بَعْدَ فَرْضِ الْجِهَادِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي مَوْضِعِهَا.».
«فَرْضُ الْهِجْرَةِ «٢» »
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ «٣» (رَحِمَهُ اللَّهُ) :«وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) الْجِهَادَ، عَلَى رَسُولِهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : جِهَادَ «٤» الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ-: اشْتَدُّوا «٥» عَلَى مَنْ أَسْلَمَ
(١) الثَّابِت بِآيَة: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ: قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: ٢- ٢١٧).
وَقد ذهب عَطاء: إِلَى أَنَّهَا محكمَة. وَذهب ابْن عَبَّاس، وَابْن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار وَقَتَادَة، وَالْجُمْهُور- وَهُوَ الصَّحِيح-: إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. ٩- ٥) وَبِقَوْلِهِ: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً: ٩- ٣٦) انْظُر النَّاسِخ والمنسوخ للنحاس (ص ٣٠- ٣١). وَقَالَ فى السّنَن الْكُبْرَى (ج ٩ ص ١٢) - بعد أَن أخرج عَن عُرْوَة: أَن النَّبِي حرم الشَّهْر الْحَرَام، حَتَّى أنزل الله:
(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).-. «وَكَأَنَّهُ أَرَادَ قَول الله عز وَجل: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً). وَالْآيَة الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِي (رَحمَه الله) : أَعم فى النّسخ وَالله أعلم» :
وَيحسن أَن تراجع كَلَامه الْآتِي عَن آيَة الْأَنْفَال: (٣٩) وآيتي التَّوْبَة: (٥ و٢٩).
عقب كَلَامه عَن إِظْهَار الدَّين الإسلامى. فَلهُ نوع ارتباط بِمَا هُنَا.
(٢) وَقع هَذَا فى الأَصْل، بعد قَوْله: الْإِسْنَاد. وَقد رَأينَا تَقْدِيمه: مُرَاعَاة لصنيعه فى بعض العناوين الْأُخْرَى.
(٣) كَمَا فى الْأُم (ج ٤ ص ٨٤).
(٤) هَذَا بدل مِمَّا سبق. وفى الْأُم: «وجاهد». وَمَا فى الأَصْل أحسن فَتَأمل.
(٥) كَذَا بِالْأُمِّ. وفى الأَصْل: «استدلوا» وَهُوَ تَحْرِيف.
15
مُؤْمِنَةٌ «١» وَيُجْزِي كُلُّ ذِي نَقْصٍ: بِعَيْبٍ لَا يُضِرُّ بِالْعَمَلِ إضْرَارًا»
بَيِّنًا.». وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِهِ «٣».
(أَنَا) أَبُو سَعِيدٍ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ، أَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ «٤» (رَحِمَهُ اللَّهُ) - فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ: ١٦- ١٠٦).-:
«فَجَعَلَ قَوْلَهُمْ الْكُفْرَ: مَغْفُورًا لَهُمْ، مَرْفُوعًا عَنْهُمْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «٥». فَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي عَقَلْنَا: أَنَّ قَوْلَ الْمُكْرَهِ، كَمَا لَمْ يَقُلْ «٦» :
فِي الْحُكْمِ. وَعَقَلْنَا: أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ: أَنْ يُغْلَبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ. فَإِذَا تَلِفَ «٧»
(١) عبارَة الْأُم: «ويجزى فى الْكَفَّارَات ولد الزِّنَا، وَكَذَلِكَ كل» إِلَخ.
(٢) فِي الْأُم: «ضَرَرا».
(٣) فَرَاجعه (ص ٥٩- ٦٠). وَانْظُر الْمُخْتَصر (ج ٥ ص ٢٢٩). ثمَّ رَاجع السّنَن الْكُبْرَى (ج ١٠ ص ٥٧- ٥٩)، وَالْفَتْح (ج ١١ ص ٤٧٧- ٤٧٨). وَانْظُر مَا تقدم (ج ١ ص ٢٣٦).
(٤) كَمَا فى الْأُم (ج ٧ ص ٦٩). وَيحسن أَن تراجع أول كَلَامه. وَقد ذكر بعضه فى الْمُخْتَصر (ج ٥ ص ٢٣٢- ٢٣٣).
(٥) انْظُر مَا تقدم (ج ١ ص ٢٢٤ و٢٩٨- ٢٩٩)، وَالْفَتْح (ج ١٢ ص ٢٥٧).
(٦) كَذَا بِالْأُمِّ أَي: كَعَدَمِهِ. وفى الأَصْل: «يعقل». وَهُوَ محرف. ويؤكد ذَلِك عبارَة الْمُخْتَصر: «يكن». وَلَو كَانَ أصل الْكَلَام: «أَن الْمُكْره» إِلَخ لَكَانَ مَا فى الأَصْل صَحِيحا: أَي كَالْمَجْنُونِ.
(٧) كَذَا بِالْأُمِّ والمختصر. وفى الأَصْل: «حلف» وَهُوَ تَصْحِيف.
114
مَا حَلَفَ «١» : لَيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا فَقَدْ «٢» غُلِبَ: بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ. وَهَذَا: فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ.».
وَقَدْ أَطْلَقَ «٣» الشَّافِعِيُّ (رَحِمَهُ اللَّهُ) الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَارَ: «أَنَّ يَمِينَ الْمُكْرَهِ: غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَلَيْهِ لِمَا احْتَجَّ بِهِ: مِنْ الْكِتَابِ [وَالسُّنَّةِ «٤» ].»
قَالَ الشَّافِعِيُّ «٥» :«وَ [هُوَ «٦» ] قَوْلُ عَطَاءٍ: إنَّهُ يُطْرَحُ عَنْ النَّاسِ، الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. «٧» ».
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ «٨» -» فِيمَنْ «٩» حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا، أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا» -: «فَالْوَرَعُ: أَنْ يَحْنَثَ وَلَا يَتَبَيَّنُ «١٠» : أَنَّهُ يَحْنَثُ. لِأَنَّ الرَّسُولَ وَالْكِتَابَ، غَيْرُ الْكَلَامِ: وَإِنْ كَانَ يَكُونُ كَلَامًا فِي حَالٍ.»
(١) فى الْمُخْتَصر زِيَادَة حَسَنَة، وهى: «عَلَيْهِ».
(٢) عبارَة الْمُخْتَصر: «فَهُوَ فى أَكثر من الْإِكْرَاه».
(٣) أَي: عمم. حَيْثُ قَالَ (ص ٧٠) :«وَكَذَلِكَ: الْأَيْمَان بِالطَّلَاق والعناق والأيمان كلهَا، مثل الْيَمين بِاللَّه». [.....]
(٤) زِيَادَة حَسَنَة عَن عِبَارَته فى الْأُم (ص ٧٠).
(٥) كَمَا فى الْأُم (ص ٦٨). وينبغى أَن تراجع كَلَامه فِيهَا.
(٦) زِيَادَة متعينة عَن الْأُم، أَي: وَهُوَ بطرِيق الأولى.
(٧) فى الْأُم زِيَادَة: «وَرَوَاهُ عَطاء». أَي: مَرْفُوعا بِلَفْظ مَشْهُور فى آخِره زِيَادَة: «وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ». انْظُر السّنَن الْكُبْرَى (ج ١٠ ص ٦١).
(٨) كَمَا فى الْأُم (ج ٧ ص ٧٣). وَذكر بعضه فى الْمُخْتَصر (ج ٥ ص ٢٣٦).
(٩) عبارَة الْأُم- وهى ابْتِدَاء القَوْل-: «فَإِذا حلف أَن لَا يكلم» إِلَخ.
(١٠) عبارَة الْأُم: «يبين لى أَن». وَعبارَة الْمُخْتَصر: «يبين لى ذَلِك». وَذكر الْمُزنِيّ إِلَى قَوْله: الْكَلَام ثمَّ قَالَ: «هَذَا عندى بِهِ وبالحق أولى: قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ: (آيَتُكَ: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) إِلَى قَوْله: (بُكْرَةً وَعَشِيًّا: ١٩- ١٠- ١١). فأفهمهم: مَا يقوم مقَام الْكَلَام: وَلم يتَكَلَّم. وَقد احْتج الشَّافِعِي: بِأَن الْهِجْرَة مُحرمَة فَوق ثَلَاث فَلَو كتب أَو أرسل» إِلَى آخر مَا سيأتى.
115
«وَمَنْ حَنَّثَهُ ذَهَبَ: إلَى أَنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) قَالَ «١» :(وَما كانَ لِبَشَرٍ: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا: وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا: فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ، مَا يَشاءُ «٢» : ٤٢- ٥١). وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فِي الْمُنَافِقِينَ: (قُلْ: لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ: ٩- ٩٤) وَإِنَّمَا نَبَّأَهُمْ مِنْ «٣» أَخْبَارِهِمْ: بِالْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ «٤» بِهِ جِبْرِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَيُخْبِرُهُمْ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : بِوَحْيِ «٥» اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.»
«وَمَنْ قَالَ: لَا يَحْنَثُ قَالَ: لِأَنَّ «٦» كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) : كَلَامُ «٧» الْآدَمِيِّينَ: بِالْمُوَاجَهَةِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ «٨» لَوْ هَجَرَ
(١) هَذَا إِلَى قَوْله: بِوَحْي الله اقتبسه- بِبَعْض اخْتِصَار- فى السّنَن الْكُبْرَى (ج ١٠ ص ٦٣) وَذكر مَا بعده إِلَى آخر الْكَلَام، وعقبه بحديثي أَبى أَيُّوب وأبى هُرَيْرَة: فى النهى عَن الْهِجْرَة. وفى طرح التثريب (ج ٨ ص ٩٧- ٩٩) كَلَام جَامع فى الْهِجْرَة فَرَاجعه.
وراجع فى السّنَن الْكُبْرَى (ج ١ ص ٣٢) كَلَام الشَّافِعِي فى ذَلِك
(٢) فى الْأُم زِيَادَة: «الْآيَة».
(٣) فِي الْأُم: «بأخبارهم». وَمَا هُنَا أحسن.
(٤) فى الْأُم وَبَعض نسخ السّنَن الْكُبْرَى: «ينزل». وَهُوَ أنسب.
(٥) فى بعض نسخ السّنَن الْكُبْرَى: «بِوَحْي إِلَيْهِ».
(٦) فى الْأُم وَالسّنَن الْكُبْرَى: «إِن». وَهُوَ أحسن.
(٧) كَذَا بِالْأُمِّ وَالسّنَن الْكُبْرَى. وَهُوَ اسْتِئْنَاف بيانى. وفى الأَصْل: «وَكَلَام».
وَالظَّاهِر أَن الزِّيَادَة من النَّاسِخ. [.....]
(٨) هَذَا لَيْسَ بِالْأُمِّ.
116
سورة النحل
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (النَّحْلِ) مِن السُّوَر المكية التي بيَّنتْ عظمةَ الله عز وجل وقُدْرتَه في هذا الكون، وقد جاءت بأدلةٍ وإثباتات على وَحْدانية الله عز وجل، لا سيما بديع صُنْعِه في خَلْقِه؛ ومن ذلك: إيحاؤه للنَّحْلِ أن تصنعَ بيوتها بهذه الكيفية وهذه الطريقة، وكذا ما أودَعه اللهُ عز وجل في هذا المخلوقِ من أسرارٍ وعجائبَ تدلُّ على قدرته تعالى، وتفرُّدِه في الألوهية، وقد جاءت السورةُ على ذِكْرِ مشاهدِ يوم القيامة، وما يَتبَع ذلك اليومَ من أهوالٍ.

ترتيبها المصحفي
16
نوعها
مكية
ألفاظها
1845
ترتيب نزولها
70
العد المدني الأول
128
العد المدني الأخير
128
العد البصري
128
العد الكوفي
128
العد الشامي
128

* قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]:

عن أُبَيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، أُصِيبَ مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رجُلًا، ومِن المهاجِرِين سِتَّةٌ؛ منهم حَمْزةُ، فمثَّلوا بهم، فقالت الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منهم يومًا مِثْلَ هذا، لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قال: فلمَّا كان يومُ فَتْحِ مكَّةَ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ} [النحل: 126]، فقال رجُلٌ: لا قُرَيشَ بعد اليومِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: كُفُّوا عن القومِ إلا أربعةً»». سنن الترمذي (٣١٢٩).

سورةُ (النَّحْلِ):

سُمِّيتْ سورةُ (النَّحْلِ) بذلك؛ لذِكْرِ النَّحْلِ فيها، ولم يُذكَرْ في سورةٍ أخرى غيرِها.

اشتمَلتِ السورةُ على عدَّة موضوعات؛ بيانها كالآتي:

1. إثبات وَحْدانية الله تعالى (١-٢).

2. أدلة على وحدانيته تعالى (٣-١٦).

3. اللهُ الخالق المنعم القادر، وعَجْزُ المعبودين غيرِه (١٧- ٢١).

4. ذمُّ المتكبِّرين، ومدحُ المتقين (٢٢-٣٥).

5. عاقبة المكذِّبين بالرُّسل واليوم الآخر، وجزاء المؤمنين (٣٦- ٥٠).

6. أدلةٌ أخرى على توحيد الألوهية (٥١- ٦٤).

7. تتمة نِعَم الله الدالة على التوحيد، يَتخلَّلها ضربُ الأمثلة (٦٦-٨٣).

8. من مشاهدِ يوم القيامة (٨٤- ٨٩).

9. توجيهات حول مكارمِ الأخلاق (٩٠- ٩٧).

10. التأدُّب بآداب القرآن، وردُّ الافتراءات (٩٨- ١١١).

11. ضربُ الأمثلة (١١٢- ١١٩).

12. أهمية الدعوة، وأساليبها (١٢٠- ١٢٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /131).

دلَّ اسمُ السورة على مقصودِها؛ وهو - كما ذكَره البقاعيُّ -: "الدَّلالة على أنَّه تعالى تامُّ القدرة والعلم، فاعلٌ بالاختيار، مُنزَّه عن شوائبِ النَّقص، وأدلُّ ما فيها على هذا المعنى: أمرُ النَّحْلِ؛ لِما ذُكِر من شأنها في دقةِ الفهم؛ في ترتيبِ بيوتها على شكل التَّسديسِ ترتيبًا لا يصل إليه أكابرُ المهندسين إلا بعد تكامُلٍ كبير، وقانونٍ يَقِيسون به ذلك التَّقدير، وذلك على وجهٍ هو أنفَعُ الوجوه لها، وفي رَعْيِها، وسائر أمرها؛ من اختلافِ ألوان ما يخرُجُ منها مِن أعسالها وشموعها، وجَعْلِ الشَّمْعِ نورًا وضياءً، والعسلِ بركةً وشفاءً، مع أَكْلِها من كلِّ الثمار، النافعِ منها والضارِّ، وغير ذلك من الأسرار". "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /213-214).