تفسير سورة البلد

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة البلد من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ الْبَلَدِ
مكية، وآيها عشرون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) أقسم تعالى بالبلد الحرام الذي هو أشرف الأماكن حرمة يوم خلق السماوات والأرض على أنَّ الإنسان مخلوق في كبد مستغرق في الشدائد. واعترض بين القسم والمقسوم عليه:
(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) دلالة على أنَّ من المكائد كون مثلك حلاً أي: مستحلا حرمته في مثل هذه البلدة التي لا يجوز التعرض لنباتها فضلاً عن صيدها. وفيه تسكين له، وإشارة إلى أنَّ سوء صنع المشركين قد بلغ الغاية القصوى، فيقع الذم الآتي لهم في حاق موقعه، أو وعد له بفتح مكة؛ تسلية له بأن ما يقاسيه من الأذى والمكائد عاقبته الظفر، وحلّ البلد الذي لم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده، يفعل فيه ما يشاء قتلاً ونهباً، وفيه من إجلال قدره ما ترى، ونظيره في الاستقبال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ) وقولك لمن تعده: أنت مكرم.
(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) وآدم وذريته، أو إبراهيم مؤسس البلد وإسماعيل، أو محمد وذريته الطاهرة. والعدول إلى " ما "؛ للدلالة على الوصفية، فيفيد فخامة كقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ).
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أي: في شدة ومشقة؛ لأنَّ أول أحواله ضيق الرحم، وآخره الموت وضيق القبر وما بعده. من كبد الرجل: إذا أوجع كبده. ثم اتسع فيه فأطلق على كل مشقة.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يظن هذا الصنديد القوي أن لن تقوم القيامة، ولا يقدر أحد على الانتقام منه. ثم ذكر ما يقول في ذلك اليوم:
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) كثيراً. من تلبّد الشيء: إذا اجتمع. يريد ما كان ينفقه رياء وسمعة مما كانوا في الجاهلية ينفقونه مفاخرة. والمعنى على العموم، وإن نزلت في أبي الأسد بن كلدة، فإنه كان قوياً، يبسط الأديم العكاظي تحت قدميه ويقوم عليه ثم يقول: من أزالني عنه فله كذا، فينقطع ويبقى ما تحت قدميه. وقيل: نزلت في الوليد.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) حين ينفق ما ينفق رياء وفخراً؟! أي: أنَّ اللَّه كان رقيباً عليه.
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) طريقي الخير والشر. كقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) والنجيد: ما ارتفع، ففيه إشارة إلى غاية الإيضاح والبيان. وقيل: هما الثديان، فإنَّ العرب تقسم بهما، ويقولون: ونجديها. فالبطن كالغور وهما نجدان.
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) بعد هذه النعم (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) أبهم على وجه الاعتراض، ثم فسره بقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) العقبة: ما صعب من طرق الجبال، كنى به عن صعوبة هذه الأعمال على النفس؛ ولذلك عبّر عن الإتيان هما بالاقتحام الذي هو: الدخول في الشيء عنفاً، من القحمة: وهى الشدة. والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب: إذا جاع. وقرب: في النسب والقرابة. وترب: افتقر كأنه التصق بالتراب. والمعنى: أن الإنفاق عند اللَّه هو هذا، لا ما افتخر به ذلك المرائي. وقدّم (فَكُّ رَقَبَةٍ)؛ لأنه أقرب القربات. روى مسلم والبخاري عن عمرو بن عبسة أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " مَنْ أَعْتَقَ رَقبَةً مُسلِمَةً كانت له فكاكاً من النار عضواً بعضوٍ " وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: " فك وإطعام " مصدرين مضافين إلى المفعول بالرفع على الخبرية، والباقون: بالفعل بدلًا من " اقتحم "، و " لا " مكررة؛ تقديراً أي:
لا فك ولا أطعم، على أن تكرارها غير لازم. ونحو (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) إنما يدل على الوقوع دون اللزوم.
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا... (١٧) عطف على اقتحم أي: لا اقتحم ولا آمن. ولا يلزم كونه خارجاً منه، بل لكونه أَشرف الأجزاء وأساس سائرها خصّ بالذكر مع " ثمّ " دلالة على أناقة محله. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى مشاق الطاعات. (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) الشفقة على خلق اللَّه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) اليمين، أو اليمن.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) الشؤم، أو الشمال. (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠) مطبقة. وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: بالهمز، يقال: أوصدت الباب وأصده: إذا أغلقته. والواو أفصح؛ لاتفاقهم في الوصيد.
* * *
تمت سورة البلد، والحمد لمن وفق وسدد، والصلاة على السيد الأوحد، وآله وصحبه إلى آخر الأمد.
* * *
سورة البلد
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (البَلَد) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بالقَسَم بـ(البَلَد الحرام)، وهو (مكَّة المكرَّمة)، موطنُ نشأة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك تكريمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفعًا لشأنه، واشتملت السورةُ الكريمة على تثبيتِ المسلمين، وسُنَّةِ الله في هذه الحياة؛ من المكابدة والمشقَّة وعدم الراحة، وبيَّنتْ طريقَيِ الخير والشر؛ داعيةً إلى توحيد الله، واتباع طريق الخير.

ترتيبها المصحفي
90
نوعها
مكية
ألفاظها
82
ترتيب نزولها
35
العد المدني الأول
20
العد المدني الأخير
20
العد البصري
20
العد الكوفي
20
العد الشامي
20

* سورة (البَلَد):

سُمِّيت سورة (البَلَد) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بـ(البَلَد الحرام)؛ قال تعالى: {لَآ أُقْسِمُ بِهَٰذَا اْلْبَلَدِ} [البلد: 1].

1. خلقُ الإنسان في كَبَدٍ (١-٤).

2. تكليف الإنسان وضعفُه (٥-٢٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /135).

غرضُ السورة هو التنويه بـ(مكَّة المكرَّمة)، وبمُقام النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتذكيرُ بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، وذمُّ الشرك وأهله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /346).

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) يبصر بهما. (وَلِسَانًا (٩) يترجم به ويعبر به عن مقاصده. (وَشَفَتَيْنِ) زينة، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب،