بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة البلد وهي مكيةﰡ
قَالَ الْفراء: وَهُوَ على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب يَقُولُونَ: لَا وَالله لَا أفعل كَذَا.
أَي: وَالله، وَكَذَلِكَ لَا وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَي: وَالله، فَيجوز أَن تكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لقَوْل سَابق، وَابْتِدَاء الْقسم من قَوْله وَالله، فَكَذَلِك قَوْله: ﴿لَا أقسم﴾ يجوز أَن يكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لزعمهم من إِنْكَار الْبَعْث أَو إِنْكَار نبوة الرَّسُول، وَالْقسم من قَوْله: ﴿أقسم﴾ وَقَالَ الْفراء: هَذَا الثَّانِي أولى.
وَقَوله: ﴿بِهَذَا الْبَلَد﴾ هُوَ مَكَّة فِي قَول الْجَمِيع، ذكره مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَغَيرهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد﴾ أَي: استحلوا مِنْك مَا حرمه الله من الْأَذَى، وإيصال الْمَكْرُوه إِلَيْك مَعَ اعْتِقَادهم حُرْمَة الْحرم، ذكره الْقفال.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ﴿وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد﴾ أَي: نَازل بِهَذَا الْبَلَد، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى زِيَادَة حُرْمَة وَشرف للبلد لمَكَان النَّبِي فِيهِ.
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: ﴿ووالد وَمَا ولد﴾ هُوَ الْوَالِد والعاقر، معنى الَّذِي يلد، وَالَّذِي لَا يلد، فَتكون مَا للنَّفْي.
وروى شريك، عَن عَاصِم، عَن زر عَن عَليّ فِي قَوْله: ﴿ووالد وَمَا ولد﴾ آدم وَذريته، على مَا ذكرنَا.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك... الْأَثر.
وَأما الكبد بَينا أَنه الشدَّة.
وروى عَليّ بن الْجَعْد، عَن عَليّ بن عَليّ الرِّفَاعِي، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَيْسَ أحد يكابد من الشدَّة مَا يكابده الْإِنْسَان.
وَقَالَ سعيد " خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد " أَي: فِي مضائق الدُّنْيَا وشدائد الْآخِرَة.
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِمَا ذكرنَا عَن الْحسن: الصريفيني، عَن [ابْن] حبابة، عَن الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ ابْن الْجَعْد.
وَقيل فِي تَفْسِير الكبد: هُوَ أَنه يكابد ضيق الرَّحِم، وعسر الْخُرُوج من بطن الْأُم، ثمَّ يكون فِي الرِّبَاط والقماط، ثمَّ نَبَات الْأَسْنَان، ثمَّ الْخِتَان، ثمَّ إِذا بلغ التكليفات والأوامر والنواهي، ثمَّ يكابد أَمر معيشته، وَالْأَحْوَال المنقلبة عَلَيْهِ إِلَى أَن
وَقَالَ لبيد فِي الكبد.
﴿يَا عين هلا بَكَيْت أَرْبَد إِذْ | قمنا وَقَامَ الْخُصُوم فِي كبد﴾ |
وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَمُجاهد وَعبد الله بن شَدَّاد: فِي كبد أَي: فِي انتصاب، وَالْمعْنَى: أَنه خلق منتصبا فِي بطن أمه، غير منْكب على وَجهه بِخِلَاف سَائِر الْحَيَوَانَات.
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا بِالْوَلَدِ فِي بطن الْأُم فَإِذا قَامَت الْمَرْأَة، أَو اضطجعت رفع رَأس الْوَلَد؛ لِئَلَّا يغرق فِي الدَّم.
وَمَعْنَاهُ: أيظن أَن لن يقدر عَلَيْهِ الله، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مغترا بقوته وشدته.
قَالَ الْكَلْبِيّ: (وَكَانَ يكذب فِي ذَلِك،
قَالَ معمر: قُرِئت هَذِه الْآيَة عِنْد قَتَادَة، فَقَالَ: أيحسب أَن لن يسْأَله الله تَعَالَى من أَيْن جمعه، وَأَيْنَ أنفقهُ؟.
وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بِالْعَبدِ يَوْم
وَالْخَبَر طَوِيل صَحِيح خرجه مُسلم.
وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تَزُول قدما ابْن آدم يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَرْبَعَة: عَن عمره فِيمَا أفناه، وَعَن جسده فِيمَا أبلاه، وَعَن مَاله من أَيْن كَسبه وَأَيْنَ وَضعه ".
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: ﴿وهديناه النجدين﴾ أَي: الْيَدَيْنِ.
وَالْقَوْل الأول أشهر، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّمَا هما نجدان، نجد خير، ونجد شَرّ، فَلَا تجْعَل نجد الشَّرّ أحب السَّبِيل من نجد الْخَيْر ".
وَقيل: مصعد ألف عَام، وفيهَا غِيَاض ممتلئة من الأفاعي والحيات والعقارب.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الْعقبَة: إِنَّهَا مجاهدة النَّفس والهوى والشيطان.
فعلى هَذَا ذكر الْعقبَة تَمْثِيل؛ لِأَن الْعقبَة يشق صعدوها، كَذَلِك الْإِنْسَان يشق عَلَيْهِ مجاهدة النَّفس والشيطان.
وروى عقبَة بن عَامر: أَن النَّبِي قَالَ: " من أعتق رَقَبَة، كَانَت فكاكه من النَّار ".
وَمن الْمَعْرُوف أَن رجلا أَتَى النَّبِي فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، عَلمنِي عملا يدخلني الْجنَّة، فَقَالَ: لَئِن أقصرت الْخطْبَة فقد أَعرَضت فِي الْمَسْأَلَة، أعتق النَّسمَة، وَفك الرَّقَبَة، فَقَالَ: أوليسا وَاحِدًا يَا رَسُول؟ قَالَ: لَا، عتق النَّسمَة أَن تنفرد بِعتْقِهَا، وَفك الرَّقَبَة أَن تعين فِي ثمنهَا، وَعَلَيْك بالفيء على ذِي الرَّحِم الظَّالِم، فَإِن لم يكن ذَلِك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنه
وَورد - أَيْضا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أعتق رَقَبَة مسلمة، أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار ".
وَالْخَبَر صَحِيح.
وَقُرِئَ: " فك رَقَبَة "، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: هِيَ فك رَقَبَة، وَمن قَرَأَ بِالنّصب فَمَعْنَاه: لَا يقتحم الْعقبَة إِلَّا من فك رَقَبَة.
وورد - أيضا - عن النبي أنه قال :" من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " ٣. والخبر صحيح.
وقرئ :" فك رقبة "، فمن قرأ بالرفع فمعناه : هي فك رقبة، ومن قرأ بالنصب فمعناه : لا يقتحم العقبة إلا من فك رقبة.
و قال الهيثمي في المجمع (٤ /٢٤٥ ) : رواه أحمد، أبو يعلى و الطبراني، و رجاله رجال الصحيح خلا فيس الجذامي، ولم يضع أحد.
و قال المنذري في الترغيب ( ٣/٣٠) : رواه أحمد يإسناد صحيح..
٢ - رواه البخاري في الأدب المفرد ( رقم ٦٩)، و أحمد ( ٤ /٢٩٩)، و الطيلسى ( ١٠٠ رقم ٧٣٩)، و ابن حبان في صحيحه (كم في موارد الظمآن)، و الدارقطنى (٢/١٣٥)، الحاكم ( ٢ /٢١٧) و صححه، و البيهقي ( ١٠ /٢٧٢ -٢٧٣)، و البغوي في تفسير ( ٤ /٢٩٠) عن البراء بن عازب مرفوعا به..
٣ - متفق عليه من حديث أبي هريرة، رواه البخاري ( ٥ /١٧٤ رقم ٢٥١٧ و طرفه : ٦٧١٥)، و مسلم ( ١٠ /٢١٢-٢١٣ رقم ١٥٠٩)..
قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَو كنت جارا يَابْنَ قيس بن عَاصِم | لما بت شبعانا وجارك ساغب) |
قَالَ قيس بن الملوح:
(إِلَى الله أَشْكُو فقد ليلِي كَمَا شكا | إِلَى الله فقد الْوَالِدين يَتِيم) |
(قوم يُصَالح شدَّة أبنائهم | وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا) أَي مطبقاً |