تفسير سورة المنافقون

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل

تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ ﴾ ؛ معناهُ : إذا جاءَك يا مُحَمَّدُ منافِقُوا أهلِ المدينةِ عبدُالله بنُ أُبَي وأصحابهُ، ﴿ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾، قالُوا : نُقسِمُ إنَّكَ لرسولُ اللهِ، وعلى ذلكَ ضَمِيرُنا واعتقادُنا، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ﴾، من غيرِ شهادة المنافقين وحلفِهم ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ أي واللهُ يخبر أنَّ المنافقين لكَاذبون فيما يعتقدونَهُ بقُلوبهم وما يقُولون بأَلسِنَتِهم، فهُم كاذِبون في إخبارهم عمَّا في ضَمائرِهم، فأمَّا شَهادتُهم بألسِنتهم أنه رسولُ الله فقد كانت صِدْقاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ ؛ أي سُتْرَةً يدفعون بها عن أنفُسِهم السَّبي والقتلِ والجزية كمَن أعدَّ على نفسهِ جُنَّةً لدفعِ الجراح. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي مَنَعُوا الناسَ عن طاعةِ الله وامَتنعوا عنها، ﴿ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ في نفاقِهم من الكذب والخيانة.
وفي هذه الآيةِ دليلٌ أنَّ قولَ الرجُلِ : أشْهَدُ، يمينٌ ؛ لأنَّ القومَ قالوا (نَشْهَدُ) فجعلَهُ اللهُ يَميناً في هذهِ الآية، وعلى هذا أُقسِمُ وأعزِمُ وأحلِفُ، كلُّها إيمانٌ عند أبي حنيفةَ وصَاحِبَيْهِ، والثوريِّ والأوزاعي.
وقال مالكُ :(إنْ أرَادَ بهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ)، وقال الشافعيُّ :(أُقْسِمُ لَيْسَ بيَمِينٍ وَأُقْسِمُ باللهِ يَمِينٌ). وفي قراءةِ الحسن (اِتَّخَذُوا إيْمَانَهُمْ) بكسر الألف، أي إنَّا مُؤمِنون، اتَّخذوهُ تُقْيَةً عن القتلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ ؛ أي ذلك الحكمُ بنفَاقِهم، ويقالُ : ذلك الصدُّ بأنَّهم كانوا مُؤمنين في العَلانِيَةِ بحضرةِ النبيِّ ﷺ، فإذا عادُوا إلى قَومِهم ثبَتُوا على الكفرِ في السرِّ، فأورثَ ذلك طَبْعاً على قُلوبهم فهُم لا يفقَهُون الإيمانَ والقرآنَ، ولا يَعُونَ ما يُوعَظُونَ به.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ ؛ أي في صحَّة أجسامِهم وحُسنِ مَنظَرِهم ؛ لأنَّهم يكونون على صُورةٍ حَسنة، وكان عبدُالله بن أُبَي رجُلاً فَصِيحاً لَسِناً، وكانوا إذا قالُوا شَيئاً أصغَى النبيُّ ﷺ لِحُسنِ كلامِهم، ولهذا أُدخلت اللامُ في ﴿ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾، ويجوزُ أن يكون معناه : إلى قولِهم.
قَوْلُهُ تَعَاَلَى :﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ ؛ فيه بيانٌ في تركِ التفهُّم والاستبصار بمنْزِلة الْخُشُب الْمُسَنَّدَةِ إلى الجدار، لا ينتفعُ إلاَّ بالنظرِ إليها، والْخُشُبُ لا أرواحَ فيها ولا تعقلُ ولا تفهمُ، وكذلك المنافقون لا يَسمعون الإيمانَ ولا يعقلونَهُ. و(الْمُسَنَّدَةُ) الْمُمَالَةُ إلى الجدار، ويُقرأ (خُشُبٌ، وَخُشْبٌ) بجزم الشِّين، ومنها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي يظُنُّون مِن الْجُبنِ والخوفِ أنَّ كلَّ مَن خاطبَ النبيَّ ﷺ فإنما يُخاطِبهُ في أمرِهم وكشفِ نفقاهم. ويقالُ : لا يسمعون صَوتاً إلاَّ ظنُّوا أنْ قد أتوا (فإذا نادَى مُنادٍ في العسكرِ، وانفلَتَتْ دابَّة، أو أنشِدَتْ ضالَّةٌ، ظنُّوا أنُّهم يُرَادُون مما في قلوبهم من الرُّعب) أنْ يكشفَ اللهُ أسرارَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُمُ الْعَدُوُّ ﴾ ؛ ابتداءُ كلامٍ، والمعنى : هُمْ على الحقيقةِ العدوِّ الأدنَى إليكَ، ﴿ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ ولا تَأْمَنْهُمْ وإنْ أظهَرُوا أنَّهم معكَ، نلا تُطلِعْهُمْ على سرِّكَ كأَنَّهم عيونٌ لأعدائِكَ من الكفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي لعَنَهم اللهُ وأخزَاهم وأحَلَّهم محلَّ مَن يقاتلهُ عدُوّاً قاهراً له، ﴿ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي يُصرَفُون من الحقِّ إلى الباطلِ.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ ؛ أي إذا قيلَ لهؤلاء المنافقين بعدَ ما افتُضِحُوا : هَلُمُّوا إلى رسولِ اللهِ يستغفِرْ لكم ذُنوبَكم، عطَفُوا رُؤوسَهم استهزاءً به ورغبةً عن الاستغفار، ورأيتَهم يصدُّون عن الاستغفار وعن طلب المغفرةِ.
ومعنى ﴿ يَصُدُّونَ ﴾ أي يَمتَنِعُونَ، ويَمنَعُونَ غيرَهم عن طلب المغفرةِ، وهم مُستكبرون عن استغفار رسولِ الله لَهم وعن قبولِ الحقِّ. وذلك : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ بكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَقَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَعَنَّفُوهُ، فَقالَ لَهُ بَنُوا أبيهِ ؛ إئْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ، قَالَ : لاَ أذْهَبُ إلَيْهِ وَلاَ أُريدُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي. ومن قرأ (لَوَوْا) بالتخفيفِ فهو من لَوَى يَلْوِي إذا صَرَفَ الشيءَ وقلبه.
وقولهُ تعالى :﴿ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ ؛ أي سواءٌ عليهم الاستغفارُ وتركهُ، ﴿ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ ﴾ ؛ لإبطانِهم الكفرَ. وهذا في قومٍ مَخصُوصِينَ عَلِمَ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون فلم يستغفِرْ لهم النبيُّ ﷺ، ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ﴾.
" وذلك : أنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَانُوا نُزُولاً عَلَى الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، إذْ وَقَعَ بَيْنَ غُلاَمٍ لِعُمَرَ رضي الله عنه مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَقُالُ لَهُ : جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لِعُمَرَ فَرَسَهُ وَبَيْنَ غُلاَمٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أبي سَلُولٍ يُقَالُ لَهُ : سِنَانُ الْجُهَنِيُّ، فَأَقْبَلَ جَهْجَاهُ يَقُودُ فَرَسَ عُمَرَ فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَان عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلاَ، فَصَرَخَ سِنَانُ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار، وَصَرَخَ الْغِفَاريُّ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ.
فَقَالَ عبْدُاللهِ بْنُ أبَيٍّ : مَا أدْخَلْنَا هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي دِيَارنَا إلاَّ لِيَرْكَبُوا أعْنَاقَنَا، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إلاَّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! أمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ، يَعْنِي الأَعَزَّ نَفْسَهُ وَالأَذلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ : هَذا مَا فَعَلْتُمُوهُ لِنَفْسِكُمْ أحْلَلْتُمُوهُمْ بلاَدَكُمْ، قَاسَمْتُمُوهُمْ أمْوَالَكُمْ، أمَا وَاللهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ طَعَامَكُمْ وَمَنَعْتُمْ أصْحَابَ هَذا الرَّجُلِ الطَّعَامَ لَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إلَى عَشَائِرِهِمْ، وَتَحَوَّلُوا عَنْ بلاَدِهِمْ، فَلاَ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا ؛ أيْ يَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ.
فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ كَلاَمَهُ، فَقَالَ : وَاللهِ أنْتَ الذلِيلُ الْبَغِيضُ، الْقَلِيلُ الْمَبْغُوضُ فِي قَوْمِكَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ فِي عَزِّ الرَّحْمَنِ وَعِزَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : ثُمَّ ذهَبَ زَيْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأخْبَرَهُ بذلِكَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ : دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللهِ إذْ تَرْعَدُ لَهُ أنْفٌ كَثِيرٍ بيَثْرِبَ. فَقَالَ عُمَرُ : فَإنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ سَعِدَ بْنَ مُعَاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عَبَّادَ بْنَ بشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ.
فَقَالَ ﷺ :" فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذا تَحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحَّمَداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ ؟ لاَ وَلَكِنِ أذِّنْ بالرَّحِيلِ " وَذلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُرْتَحَلُ فِيْهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ ﷺ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ :" أنْتَ صَاحِبُ هَذا الْكَلاَمِ الَّذِي بَلَغَنِي ؟ " فَقَالَ : وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ، وَإنَّ زَيْداً لَكَاذِبٌ.
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفاً عَظِيماً، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَار : يَا رَسُولَ اللهِ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ، لاَ تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلاَمَ صَبيٍّ مِنْ غِلْمَانِ الأَنْصَار، عَسَى أنْ يَكُونَ هَذا الصَّبيُّ وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ، فَعَذرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفَشَتِ الْمَلامَةُ مِنَ الأَنْصَار لِزَيْدٍ وَكَذبُوهُ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ : مَا أرَدْتَ يَا وَلَد إلاَّ أنْ كَذبَكَ رَسُولُ اللهِ وَالنَّاسُ وَمَقَتُوكَ. وََكَانَ زَيْدٌ يُسَايرُ النَّبيَّ ﷺ فَاسْتَحَى بَعْدَ ذلِكَ أنْ يَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبَلَغَ وَلَدَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أمْرِ أبيهِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَمُرْنِي فَأَنَا أحْمِلْ إلَيْكَ دُأبَتَهُ، وَإنِّي أخْشَى أنْ تَأْمُرَ بهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلَى قَاتِلِهِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، فَأَخَافُ أنْ أقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ، فَقَالَ ﷺ :" بَلْ تَرْفُقُ بهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا ".
وَكَذلِكَ جَاءَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ كُنْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْشَى فِيهَا، فَقَالَ لَهُ :" أوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ؟ زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ " فَقَالَ أُسَيْدُ : بَلْ أنْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللهِ الذلِيلُ وَأنْتََ الْعَزِيزُ، فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ بكَ، وَإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتوِّجُوهُ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكَهُ.
ثم سارَ رسولُ الله ﷺ حتى وافَى المدينةَ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ ﴾ الآية إلى قولهِ :﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَـاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ﴾ ؛ فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ ﷺ بأُذُنٍ زَيْدٍ فَقَالَ :" يَا زَيْدُ إنَّ اللهَ صَدَّقَكَ ".
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ بقُرْب الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَدْخُلَهَا جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ حَتَّى أنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَ أبَاهُ أنْ يَدْخُلَهَا، فَقَالَ لَهُ : مَا لكَ ؟ قَالَ : وَيْلَكَ! وَاللهِ لاَ تَدْخُلُهَا أبَداً إلاَّ أنْ يَأْذنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلِتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الأَعَزُّ وَمَنِ الأَذلُّ.
فَشَكَا عَبْدُاللهِ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا مَنَعَ ابْنَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبيُّ ﷺ :" أنْ دَعْهُ يَدْخُلُ " فَقَالَ : أمَّا إذا جَاءَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَنَعَمْ. فَلَبثَ بَعْدَ أنْ دَخَلَ أيَّاماً قَلاَئِلَ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي لا تَشغَلكُم أموالُكم ولا أولادكم عن ذكرَ اللهِ، يعني الصَّلاةَ المفروضةَ، والمعنى : لا تشغَلكُم أموالكم وحفظُها وتنميتها، ولا تربيةُ الأولادِ وإصلاحُ حالهم عن طاعةِ الله وعن الصَّلاة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ ؛ أي ومَن ينشغِلْ بالمالِ والأولاد عن طاعةِ الله فأُولئك هم الْمَغْبُونُونَ لذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم، وهلاكِ أنفُسهم التي هي رأسُ مالهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ ؛ معناهُ : وأنفِقُوا الأموالَ في الزَّكاة والجهادِ وغيرهما من الحقوقِ الواجبة من قبلِ أن يأتِيَ أحدَكم الموتُ فيعلم أنه ميِّت، ﴿ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾ ؛ في الدُّنيا ؛ أي يتمَنَّى القليلَ من التأخيرِ ليتصَدَّق به ويكون من الصَّالِحين بالتلاقِي والتوبةِ واستئناف العملِ الصالح، ولاَ ينفعهُ تَمَنِّيهِ عند ذلك، والمعنى : إنه يستزيدُ في أجَلهِ حتى يتصدَّقَ ويُزَكِّي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ قِِيْلَ : إنَّ معناه وأحجُّ، عن ابنِ عبَّاس. وقوله :﴿ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ على قراءةِ مَن جزمَ عطفَهُ على موضعِ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه على معنى إنْ أخرَجتَني أصَّدَّقُ وأكُنْ، ولولا الفاءُ لكان فأَصَّدَّقْ مجزومٌ، ومن قرأ (وَأكُونُ) فهو عطفٌ على لفظ ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾. وانتصبَ قوله تعالى ﴿ فَأَصَّدَّقَ ﴾ لأنه جوابُ التَّمنِّي، فالفاءُ وأصله : فَأَتَصَدَّقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾ ؛ أي لا يُؤخِّرها عن الموتِ إذا جاء وقتُ إهلاكها، ﴿ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ من الخيرِ والشرِّ، وبمن أخَّرَ في أجله أنه يتوبُ أو لا يتوبُ.
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.

ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).

ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ} [المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).

* سورة (المنافقون):

سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).

1. النفاق والمنافقون (١-٨).

2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).

مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.

وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).