بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة المنافقينوهي مدنية في قول الجميع. والله أعلم.
ﰡ
قَالَ الشَّاعِر:
(وَأشْهد عِنْد الله أَنِّي أحبها | فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدهَا ليا) |
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ﴾ هُوَ تطييب لقلب النَّبِي وتسلية لَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَن علمي أَنَّك رَسُول الله وشهادتي لَك بذلك خير من شَهَادَتهم.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ﴾ قَالَ أَبُو عبيد: أَي: الْكَافِرُونَ، يُسَمِّي الْكفْر باسم الْكَذِب. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْكَذِب حَقِيقَة. وَسمي قَوْلهم كذبا؛ لأَنهم كذبُوا على قُلُوبهم. وَقيل: لما أظهرُوا بألسنتهم خلاف مَا كَانَ فِي ضمائرهم سمي بذلك كذبا، كَالرّجلِ يخبر بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿فصدوا عَن سَبِيل الله﴾ أَي: منعُوا النَّاس عَن سَبِيل الْإِيمَان. وَمعنى صدهم النَّاس عَن سَبِيل الله أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لضعفة الْمُسلمين: إِنَّا نشْهد عِنْد هَذَا الرجل ونظهر خلاف مَا نسر، فَلَو كَانَ نَبيا لعلم إسرارنا، ومنعنا من المخالطة مَعَ أَصْحَابه.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: بئس الْعَمَل عَمَلهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " اتَّخذُوا إِيمَانهم جنَّة " بِكَسْر الْألف، وَالْمَعْرُوف إِيمَانهم بِالْفَتْح جمع الْيَمين.
وَقَوله: ﴿فطبع على قُلُوبهم﴾ أَي: ختم على قُلُوبهم فَلَا يدخلهَا الْإِيمَان وَقبُول الْحق.
وَقَوله: ﴿فهم لَا يفقهُونَ﴾ أَي: لَا يتدبرون، وَالْفِقْه هُوَ التدبر والتفهم. وَقيل: فهم لَا يفقهُونَ أَي: لَا يعْقلُونَ، كَأَنَّهُمْ لم يقبلُوا الدّين مَعَ ظُهُور الدَّلَائِل عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة من لَا يعقل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿مُسندَة﴾ أَي: ممالة إِلَى الْجِدَار. قَالَ عَليّ بن عِيسَى: جعلهم كخشب نخرة، متآكلة فِي الْبَاطِن، صَحِيحَة فِي الظَّاهِر.
وَقَوله: ﴿يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم﴾ يَعْنِي: إِذا سمعُوا نِدَاء أَو سمعُوا من ينشد ضَالَّة أَو أَي صَوت كَانَ، ظنُّوا أَنهم المقصودون بذلك الصَّوْت، وَأَن سرائرهم قد ظَهرت للْمُسلمين، وَهُوَ وصف لجبنهم وخوفهم من الْمُسلمين. وَفِي بعض التفاسير أَن مَعْنَاهُ: هُوَ أَن كل من سَار النَّبِي بِشَيْء كَانُوا يظنون أَن ذَلِك فِي أَمرهم وشأنهم. وَقيل: كَانَ كلما نزلت لآيَة أَو سُورَة ظنُّوا من الْخَوْف أَنَّهَا نزلت فيهم، قَالَه ابْن جريح. وأنشدوا لجرير فِي الْجُبْن:
(مَا زلت تحسب كل شَيْء بعدهمْ | خيلا تكر عَلَيْهِم ورجالا) |
(لقد خفت حَتَّى لَو تمر كمامة | لَقلت عدوا وطليعة معشر) |
وَقَوله: ﴿فَاحْذَرْهُمْ﴾ قَالَ ذَلِك لأَنهم يطلعون الْمُشْركين على أسرار الْمُسلمين، ويجبنون ضعفاء الْمُسلمين.
قَوْله: ﴿قَاتلهم الله﴾ أَي: أخزاهم وأهلكهم. وَقيل: نزلهم منزلَة من يقاتله عَدو قاهر لَهُ.
وَقَوله: ﴿أَنى يؤفكون﴾ أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق مَعَ ظُهُوره؟ وَهُوَ يتَضَمَّن تقبيح فعلهم وتعجيب رَسُول الله مِنْهُم.
وَقَوله: ﴿ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون﴾ أَي: يعرضون وهم ممتنعون عَن الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين﴾ أَي: الْمُنَافِقين، وهم كفار وفساق ومنافقون. وَحكى بَعضهم عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان أَنه قيل لَهُ: من الْمُنَافِق؟ قَالَ: الَّذِي يصف الْإِيمَان وَلَا يعْمل بِهِ. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَخَاف عَلَيْكُم مُؤمنا تبين إيمَانه، وَلَا كَافِرًا تبين كفره، وَإِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم كل مُنَافِق عليم اللِّسَان.
وَقَوله: ﴿هم الَّذين يَقُولُونَ﴾ يُقَال: الْوَاو محذوفة، وَمَعْنَاهُ: وهم الَّذين يَقُولُونَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: ﴿لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة﴾ أَي: وَيَقُولُونَ، قَالَ الشَّاعِر:
أَي: ولأمر.
وَقَوله: ﴿لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله﴾ نزلت الْآيَة على سَبَب، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن أُسَامَة بن زيد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ اسْتَأْجر رجلا من غفار يُقَال لَهُ: " جَهْجَاه " ليعْمَل لَهُ فِي بعض الْغَزَوَات، وَهِي غَزْوَة " الْمُريْسِيع " فجرت بَينه وَبَين رجل من الْأَنْصَار مُنَازعَة على رَأس بِئْر للإسقاء فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: يَا للْأَنْصَار، وَقَالَ جَهْجَاه: يَا للمهاجرين، فَسمع النَّبِي ذَلِك فَقَالَ: " مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة دَعُوهَا فَإِنَّهَا ميتَة ". وَبلغ ذَلِك عبد الله بن أبي سلول فَغَضب وَقَالَ: هَذَا مثل مَا قَالَ الأول سمن كلبك، وَقَالَ: أما إِنَّكُم لَو أطعتموني لم تنفقوا على من اجْتمع عِنْد هَذَا الرجل وَكَانَ الْأَنْصَار يُنْفقُونَ على الْمُهَاجِرين، وَكَانُوا يَنْفضونَ عَنهُ وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل وعنى بالأعز نَفسه، وَبِالْأَذَلِّ مُحَمَّدًا فَبلغ ذَلِك النَّبِي وَقَالَ عمر: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يبلغ النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه " أَي: لَا أَقتلهُ لهَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الديبلي، أخبرنَا أَبُو عبد الله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ... الحَدِيث.
وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه بِرِوَايَة زيد بن أَرقم قَالَ: كنت مَعَ عمر فِي غزَاة فَسمِعت عبد الله بن أبي بن سلول يَقُول لأَصْحَابه: لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا، وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. قَالَ فَجئْت إِلَى عمر وَذكرت لَهُ ذَلِك، وَذكر عمر ذَلِك لرَسُول الله، فجَاء ابْن أبي بن سلول إِلَى النَّبِي وَحلف أَنه مَا قَالَه فَصدقهُ وَكَذبَنِي، فَأَصَابَنِي من الْهم مَا لم يُصِبْنِي مثله قطّ حَتَّى جَلَست فِي بَيْتِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَالَّتِي قبلهَا،
وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر " أَن رجلا من الْمُهَاجِرين كسع رجلا من الْأَنْصَار، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: ياللأنصار، وَقَالَ الْمُهَاجِرِي: ياللمهاجرين وَكَانَ الْأَنْصَار أَكثر من الْمُهَاجِرين حِين قدم رَسُول الله الْمَدِينَة، ثمَّ كثر الْمُهَاجِرين من بعد فَلَمَّا سمع عبد الله بن أبي بن سلول ذَلِك قَالَ مَا ذَكرْنَاهُ، (وسَاق) الحَدِيث قَرِيبا من الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكرنَا عَن سُفْيَان.
وَقَوله: ﴿حَتَّى يَنْفضوا﴾ أَي: يتفرقوا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم لَو لم تنفقوا فَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهُوَ يرزقكم. وَيُقَال: خَزَائِن السَّمَوَات بالمطر، وخزائن الأَرْض بالنبات. وَعَن بَعضهم: خَزَائِن السَّمَوَات مَا قَضَاهُ، وخزائن الأَرْض مَا أعطَاهُ. وَقَالَ بعض أَرْبَاب الخواطر: خَزَائِن السَّمَوَات: الغيوب، وخزائن الأَرْض: الْقُلُوب. وَالصَّحِيح الأول.
قَوْله: ﴿وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ﴾ قد بَينا.
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا | بَيْتا دعائمه أعز وأطول) |