تفسير سورة المنافقون

التيسير في أحاديث التفسير

تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب التيسير في أحاديث التفسير
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
والآن وقد ختمنا بفضل الله سورة " الجمعة " المدنية ننتقل لتفسير سورة " المنافقين " المدنية أيضا، مستعينين بالله، وإنما أطلق عليها هذا الاسم، أخذا من آيتها الأولى :﴿ إذا جاءك المنافقون ﴾.

ففي مطلع هذه السورة يتحدث كتاب الله عن تصريحات المنافقين وأقوالهم المعسولة :﴿ والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون١ ﴾،
كما يتحدث عن الأيمان المغلظة والفاجرة التي يكثرون منها، تدعيما لأحاديثهم، وتأييدا لدعاويهم، وتغطية لمواقفهم، وعصمة لدمائهم وأموالهم، إذ إنهم يحسون من أعماق قلوبهم شك الناس فيهم وفي دعاويهم، فقد " كاد المريب أن يقول خذوني " كما يقول المثل العربي.
ووصف كتاب الله ما يكون عليه المنافقون عادة من حسن الهندام وذلاقة اللسان، وما يكونون عليه أيضا من جبن وهلع، وخوف وفزع، إذ إنهم يخشون الفضيحة ويتوقعونها دائما :﴿ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ﴾، ﴿ يحسبون كل صيحة عليهم ﴾، ثم عقّب كتاب الله على ذلك بتحذير رسول الله والمؤمنين من طائفة " المنافقين " التي هي أخطر من الكفار والمشركين، فقال تعالى :﴿ هم العدو فاحذروهم قاتلهم الله أنى يؤفكون٤ ﴾.
وبين كتاب الله ما عليه " المنافقون " من صلف وكبر، وما يقومون به من تثبيط العزائم، وبث روح الهزيمة في نفوس المؤمنين، حتى لا يبروا بإخوانهم الفقراء الملتفين من حول الرسول عليه السلام، وحتى يكفوا عن بذل أموالهم في سبيل الله، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون٥ ﴾ وقوله تعالى :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا... ٧ ﴾. لكن الحق سبحانه وتعالى رد على المنافقين وسفه رأيهم، وعطل تدبيرهم، وأكد أن الوقع الذي يتوقعونه من دعاياتهم ودسائسهم لن يكون له أي تأثير، بالنسبة إلى خزائن الله الواسعة، التي لا هيمنة عليها، لا لهم ولا لغيرهم من الناس، ومادامت رسالة الإسلام ودعوته مؤيدة من عند الله، فالله تعالى قد تكفل بإمدادها على الدوام، وذلك قوله تعالى :﴿ ولله خزائن السماوات والأرض.. ٧ ﴾. كما تكفل الحق سبحانه بإعزازها وإذلال خصومها، وذلك قوله تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون٨ ﴾.
في بداية هذا الربع تواجهنا آية كريمة تلفت نظر المؤمنين إلى أن خُطة الاعتدال والتوسط هي أرشد خطة يسلكها المؤمنون، بالنسبة لأداء الحقوق والواجبات، بحيث يؤدون حقوق الله كما يؤدون حقوق أنفسهم وحقوق أهلهم وحقوق عامة الناس دون إفراط ولا تفريط، وبناء على هذا الأساس لا ينبغي للمؤمنين أن تلهيهم أموالهم، أو يلهيهم أولادهم عن حقوق الله، فيهملوها ويضيعوها، بدعوى أن مشاغلهم المالية أو العائلية لا تترك لهم وقتا للتفكير في أداء هذه الحقوق، وإذا كان الإسلام يعتبر للإنسان على نفسه حقا، ولأهله وأولاده عليه حقا، ويشجعه على الوفاء بهذه الحقوق، بل يطالبه بها إن قصر فيها أو أهملها بالمرة، فإنه لا يسمح للمسلم أن يسلك مسلك " الإفراط " في العناية بحقوقه الشخصية والعائلية، ويسلك مسلك " التفريط " فيما لله عليه من حقوق، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون٩ ﴾، فمصب النهي في هذه الآية وما شابهها ليس مجرد العناية بالأموال والأولاد، وإنما مصب النهي بنص الآية هو الانهماك في الاشتغال بشؤون الأموال والأولاد، إلى حد أن ينسى معه المسلم القيام بواجباته نحو الله، بحيث يستغرق استغراقا تاما في حظوظ نفسه وحظوظ عائلته، وفي ترضية شهواته المختلفة دون انقطاع، ويلهيه ماله وولده عن الله.
وانتقل كتاب الله إلى حضّ المسلمين مرة أخرى على إنفاق أموالهم في سبيل الله، فقد كانت فريضة الجهاد التي فرضها الله عليهم – وهم بالمدينة- دفاعا عن حوزة الإسلام ودولته الأولى، فريضة كبرى تحتاج إلى مدد لا ينقطع، وتضحية مستمرة بالأموال والأنفس.
وبين كتاب الله أن " خير البر عاجله " وأن الصدقة قبل " حلول الأجل " أضمن منها عند حلوله وأكثر ثوابا، إذ عند " حلول الأجل " لا يبقى أي مجال للانتظار ولا لتدارك ما فات، وذلك قوله تعالى :﴿ وأنفقوا من ما رزقكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين١٠ ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون١١ ﴾.
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.

ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).

ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ} [المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).

* سورة (المنافقون):

سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).

1. النفاق والمنافقون (١-٨).

2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).

مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.

وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).