تفسير سورة التغابن

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا بَيَّن في السُّورة حال المنافقين أتبعه بما يناسبه من تقسم خلقه إلى المؤمين والكفارين فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ ﴾: لا لغيره ﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ ﴾: مقدر كفره ﴿ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾: مقدر إيمانه ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾: فيجازيكم عليه ﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ ﴾: بالحكمة ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾: وزينكم بصفوة أوصاف الكائنات ﴿ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾: للجزاء ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ﴾ أي: بما في ﴿ ٱلصُّدُورِ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ ﴾: يا قريش ﴿ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ ﴾: ضرر ﴿ أَمْرِهِمْ ﴾ أي: كفرهم في الدنيا ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: في العقبى ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾: من المعجزات ﴿ فَقَالُوۤاْ ﴾ عناداً: ﴿ أَبَشَرٌ ﴾: جنسه ﴿ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ ﴾: أعرضوا عنهم بالكلية ﴿ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ ﴾: عن الكل فضلاً عن طاعاتهم ﴿ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ ﴾: مطلق ﴿ حَمِيدٌ ﴾: في ذاته وإن لم يحمد ﴿ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾: أي: ادعوا علمه ﴿ قُلْ بَلَىٰ ﴾: تبعثون ﴿ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾: بمجازاته ﴿ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ﴾: القرآن ﴿ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾: اذكر ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ﴾: جزاء ﴿ ٱلْجَمْعِ ﴾: وهو القيامة ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ ﴾: يغبن الكل حتى السعداء لتركه زيادة الخير ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ﴾: يومئذ ﴿ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ ﴾ جمع لمعنى " مَنْ " ﴿ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أي: بإرادته ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾: للثبات والاسترجاع عندما ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ ﴾: فلا عليه ﴿ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ * ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾: فإنه يقتضي الإيمان به ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ ﴾: بعض ﴿ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ﴾: يشْغلكم عن الطاعة ﴿ فَٱحْذَرُوهُمْ ﴾: أن تطيعونهم في تركها ﴿ وَإِن تَعْفُواْ ﴾: إساءتهم ﴿ وَتَصْفَحُواْ ﴾: تعرضوا عن لومهم ﴿ وَتَغْفِرُواْ ﴾: بسترها ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾: لكم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾: بكم، نزلت فيمن ثبطهم الأهل عن الهجرة، فلما هاجروا رأوا من هاجر قبلهم فقهاء فهموا بمعاقبة الأهل ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾: اختبار لكم، ولذا في الحديث: النهي عن الاستعاذة من الفتنة، بل إنما يستعاذ من مُضِلاّت الفتن ﴿ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾: لمن آثر محبته عليهم ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾ أي: جهدكم، وذلك فيما وقع بالندم مع العزم على ترك معاودته، وفيما لم يقع بالتحرز عن أسبابه، وقيل: هي ناسخة " حق تقاته " ﴿ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ ﴾: أمره ﴿ وَأَنْفِقُواْ ﴾: إنفاقا ﴿ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ ﴾: أي: في البر ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ ﴾: حرص ﴿ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ ﴾: بصرف مالكم فيما مر ﴿ قَرْضاً حَسَناً ﴾: بإخلاص، سَمّاهُ قَرْضاً لالتزامه تعالى أداء عوضه ﴿ يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ﴾: إلى سبعمائة وأكثر ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ ﴾: مجاز على الطاعة ﴿ حَلِيمٌ ﴾: لا يعاجل بعقوبة العاصي ﴿ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ﴾ ملكا ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾: صُنْعاً.
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).