تفسير سورة التغابن

جامع البيان في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة التغابن مختلف فيها
وآياها ثماني عشرة وفيها ركوعان

﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ﴾ مقدر كفره ﴿ ومنكم مؤمن ﴾ مقدر إيمانه ومثله في الإجمال والتفصيل قوله :﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ﴾ الآية ( النور : ٤٥ ) ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فيعاملكم بما يناسبه
﴿ خلق السماوات والأرض بالحق ﴾ بالحكمة ﴿ وصوركم فأحسن صوركم ﴾ من بين ما خلق فيهما إشارة إلى أن الغرض من خلقهما الإنسان ﴿ وإليه المصير ﴾ فأحسنوا السرائر
﴿ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ﴾ فلا يخفى عليه شيء من الأشياء السماوية ولا الأرضية ولا النفسية
﴿ ألم يأتكم ﴾ أيها الكفار ﴿ نبأ الذين كفروا من قبل ﴾ الأمم السالفة ﴿ فذاقوا وبال أمرهم ﴾ ضرر كفرهم وهو أنواع العقوبات التي حلت عليهم في الدنيا ﴿ ولهم ﴾ في الآخرة ﴿ عذاب أليم ﴾
﴿ ذلك ﴾ العذابان ﴿ بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا ﴾ على سبيل الإنكار :﴿ أبشر يهدوننا ﴾ والبشر يطلق على الجمع أيضا ﴿ فكفروا وتولوا ﴾ أعرضوا عن آيات الله ﴿ واستغنى الله ﴾ عن طاعتهم ﴿ والله غني ﴾ عن كل شيء ﴿ حميد ﴾ يدل على حمده كل مخلوق
﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل ﴾ يا محمد :﴿ بلى ﴾ تبعثون ﴿ وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم ﴾ بالمجازاة ﴿ وذلك على الله يسير ﴾ لقدرته الشاملة
﴿ فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ﴾ القرآن ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فلا يضيع عنده عمل عامل
﴿ يوم يجمعكم ﴾ ظرف لتنبئون أو مقدر باذكر ﴿ ليوم الجمع ﴾ لأجل ما في يوم الجمع جمع الملائكة والثقلين ﴿ ذلك يوم التغابن١ تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، يظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وكل مؤمن بتقصيره في الإحسان ﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾
١ كلام ابن عباس ومجاهد وقتادة دال على أن الغبن مختص بأهل النار لا أنه عام كما أشار إليه الشارح واختاره؛ لأن تغابن السعداء على الزيادة ثبت في الأحاديث الصحاح/١٢ منه..
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار ﴾ ملازموها ﴿ خالدين فيها وبئس المصير ﴾ النار.
﴿ ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ﴾ بإرادته ﴿ ومن يؤمن بالله يهد ﴾ الله ﴿ قلبه ﴾ لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيسلم لقضائه ويسترجع ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾
﴿ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم ﴾ فلا عليه ﴿ فإنما على رسولنا البلاغ المبين ﴾ لأن عليه التبليغ وقد بلغ
﴿ الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون١ لأن الله هو النافع الضار وحده والمؤمنون يؤمنون بأن لا إله إلا هو
١ ولما ذكر أن المصائب بإرادته حذر مما يلحق من الأموال والأولاد فقال:﴿يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم ﴾ أي : بعضهم ﴿ وأولادكم عدوا١ لكم ﴾ يشغلكم عما ينفعكم ﴿ فاحذروهم وإن تعفوا ﴾ عن ذنوبهم ﴿ وتصفحوا وتغفرا ﴾ بإخفاء معايبهم ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ فيغفر لكم ويتفضل أو فيغفر لهم ما فرط عنهم من شغلكم عن الله. نزلت٢ حين أراد الهجرة بعض من آمن بمكة فمنعهم أهلهم وقالوا : صبرنا على إسلامكم ولا نصبر على هجركم فتركوا الهجرة حينئذ فلما أتوا المسلمين رأوهم قد فقهوا في الدين فهموا عقاب أهلهم
١ ولهذا قيل: لا أعدى على الرجل من الزوجة والولد إذا كانا عدوين يذهبان المال والعرض في الدنيا ويورثان البعد والمقت في الآخرة/١٢وجيز..
٢ كذا أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح/١٢ فتح. [وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (٢٦٤٢)].
﴿ إنما أموالكم وأولادكم١ فتنة ﴾ اختبار لكم يعني بعضهم أعداء لكن كلها اختبار يبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدود الله ﴿ والله عنده أجر عظيم ﴾ لمن صبر على حدود الله فيهم، أو معناه ليس الأموال، ولا الأولاد إلا بلاء ومحنة، والأجر العظيم هو ما عند الله، فأغمضوا عن محبتهم، وأطمعوا فيما عند الله
١ وعن أبي بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما واحد من ذا الشق، وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال:" صدق الله ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾، إني نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي شيبة [وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الترمذي"(٢٩٦٨)]/١٢ فتح..
﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ أي : جهدكم وطاقتكم، وعن كثير من السلف أنه لما نزلت ﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾[ آل عمران : ١٠٢ ] اشتد عليهم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله قوله :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ تخفيفا فيكون ناسخة لما في آل عمران ﴿ واسمعوا ﴾ مواعظه ﴿ وأطيعوا ﴾ أوامره ﴿ وأنفقوا ﴾ في مصارف الخير ﴿ خيرا لأنفسكم ﴾ تقديره ائتوا خيرا لأنفسكم فهو كالفذلكة للأوامر السابقة، أو تقديره يكن خيرا فيكن جوابا للأوامر ومعناه أنفقوا لأنفسكم من أموالكم ﴿ ومن يوق ﴾ وقاه الله ﴿ شح ﴾ حرص ﴿ نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾
﴿ إن تقرضوا الله ﴾ بصرف المال فيما أمر ﴿ قرضا حسنا ﴾ من مال حلال بإخلاص ﴿ يضاعفه لكم ﴾ أي أجره أضعافا كثيرة ﴿ ويغفر لكم والله شكور ﴾ يعطي الجزيل بالقليل ﴿ حليم ﴾ فيقبل ولا يرد ويصفح ويتجاوز عن الذنوب
﴿ عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ﴾
والحمد لله رب العالمين.
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).