تفسير سورة التغابن

حومد

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿السماوات﴾
(١) - جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتِ تُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ، وَتُنَزِّهُهُ عَنْ صِفَاتِ النٌَّقْصِ التِي لا تَلِيقُ بِجَلاَلَهِ وَكَمَالِهِ، فَهُوَ تَعَالَى المالِكُ المُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الجَمِيلُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدّرُهُ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلاَ رَادَّ لأَمْرِهِ وَلاَ مَانِعَ.
لَهُ المُلْكُ - لَهُ التَّصَرُّفُ المُطْلَقُ فِي كُلِّ شَيءٍ.
(٢) - هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَوْجَدَكُمْ مِنْ عَدَمٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَبَعْضُكُمْ يَخْتَارُ الكُفْرَ، وَيَعْمَلُ لَهُ، وَمِنْكُمْ مَنْ يَتَفَكَّرُ وَيُمْعِنُ النَّظَرَ فِي الأَدِلَّةِ التِي أَقَامَهَا اللهُ تَعَالَى في الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، فَيُؤْمِنُ بِاللهِ وَيَعْمَلُ صَالِحاً، وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلاَلَةَ، وَهُوَ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ.
﴿السماوات﴾
(٣) - وَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بِالعَدْلِ وَالحِكْمَةِ البَالِغَةِ، المُتَضَمِّنَةِ لِمَنَافِعِ الدِّين والدُّنْيَا، وَلَمْ يَخْلُقْهَا عَبَثاً وَبَاطِلاً، وَصَوَّرَكُمْ يَاَيُّهُا النَّاسُ، حِينَ خَلَقَكُمْ، فَجَعَلَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَكْمَلِ مَظْهَرٍ، وَإِلَيهِ تَصِيرُونَ بَعْدَ المَوْتِ لِيُحَاسِبَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَيُجَازِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ، وَلاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ.
بِالحَقِّ - بِالحِكْمَةِ البَالِغَةِ.
أَحْسَنَ صُورَكُمْ - أَتْقَنَهَا وَأَحْكَمَهَا.
﴿السماوات﴾
(٤) - وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَخْلُوقَاتٍ، فَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا خَافِيَةٌ، وَهُوَ يُدَبِّرُهَا وَيُدِيرُهَا، وَيَعْلَمُ مَا يُعْلِنُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَهُ وَيُبْطِنُونَهُ، وَمَا تُوَسْوِسُ بِهِ، نُفُوسُهُمْ، وَيَعْلَمُ مَا يُضْمِرُونَ في صُدُورِهِمْ وَمَا يُبَيِّتُونَ فِي سَرَائِرِهِمْ فَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ.
﴿نَبَأُ﴾
(٥) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مَغَبَّةِ تَمَادِيِهِمْ فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ، وَتَكْذِيبِ رَسُولِ اللهِ، وَيَلْفِتُ أَنْظَارَهُمْ إِلَى مَا أَنْزَلَهُ مِنْ عِقَاب بِالكُفَّارِ، وَتَكْذِيبِ رَسُولِ اللهِ، وَيَلْفِتُ أَنْظَارَهُمْ إِلَى مَا أَنْزَلَهُ مِنْ عِقَابٍ بِالكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: أَلَمْ تَأْتِكُمْ أَخْبَارُ الكَافِرِينَ السَّالِفِينَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رُسُلُ رَبِّهِمْ، كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ عِقَابَهُ الأَلِيمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقَهُ بِالطُّوفَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهْلَكَتْهُ الرِّيحُ العَقِيمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ صَيْحَةُ العَذَابِ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ عِقَاباً أَلِيماً لَهُمْ، فِي الدُّنْيَا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ، وَسَيَكُونُ لَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ فِي الآخِرَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
وَبَالَ أَمْرِهِمْ - سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
﴿بالبينات﴾
(٦) - وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ مَا أَنْزَلَهُ مِنَ العَذَابِ وَالدَّمَارِ لأَنَّهُمْ كَانَتْ رُسُلُهُمْ تَأْتِيهِمْ بِالحُجَجِ والدَّلاَلاَتِ الوَاضِحَةِ المُبيِّنَةِ، وَبِالمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ، فَكَانُوا يَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ رِسَالَتَهُ إِلَى النَّاسِ فِي أُنَاسٍ مِنَ البَشَرِ، لاَ مِيزَةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلاَ فَضْلَ. وَقَدْ حَمَلَهُمْ هَذَا الاعْتِقَادُ عَلَى الكُفْرِ بِاللهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الحَقِّ وَتَوَلَّوْا عَنْ طَرِيقِ الهُدَى فأَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً، وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ، وَاسْتَغْنَى عَنْ إِيْمَانِهِمْ، وَهُوَ الغَنِيُّ عَنِ المَخْلُوقَاتِ جَمِيعاً، وَهُوَ الحَقِيقُ بِالحَمْدِ عَلَى مَا أنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الوَفِيرَةِ التِي لاَ تُحْصَى.
تَوَلَّوا - أَعْرَضُوا عَنِ الإِيْمَانِ بِالرُّسُلِ.
(٧) - ادَّعَى المُشْرِكُونَ وَالكُفَّارُ أَنَّهُ لاَ بَعْثَ وَلاَ حَشْرَ وَلاَ حِسَابَ، وَلاَ جَزَاءَ فِي الآخِرَةِ، وَاسْتَبْعَدُوا وَقُوعَ ذَلِكَ بِعْدَ أَنْ تَتَفَرَّقَ الأَجْسَادُ فِي الأَرْضِ، وَتُصْبِحَ رَمِيماً مُتَنَاثِراً. فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ مُقْسِماً بِرَبِّكَ الكَرِيمِ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُ: إِنَّ البَعْثَ لَكَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ، وَإِنَّكُمْ سَتحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ جَمِيعِهَا. وَبَعْثُ البَشَرِ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَإِطْلاَعُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِم التِي عَملُوهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَحسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ فِي غَايَةِ اليُسْرِ والسُّهُولَةِ، فَهُوَ تَعَالَى القَادِرُ القَاهِرُ.
﴿فَآمِنُواْ﴾
(٨) - فآمِنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَبالكِتَابِ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ لِيَهْدِيكُمْ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلِيُنْقِذَكُمْ مِنَ الضَّلاَلَةِ والشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَسَيُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهَا فاتَّعِظُوا وَآمِنُوا، عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالعِنَادِ.
النُّورِ - القُرْآنِ.
﴿صَالِحاً﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ﴿الأنهار﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(٩) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَبْعَثُكُم اللهُ مِنْ قُبُورِكُمْ، وَيَحْشُرُكُمْ إِلَيهِ لِلحِسَابِ وَالجَزَاءِ، وَذَلِكَ اليَوْمُ هُوَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، إِذْ يَكُونُ النَّاسُ فَرِيقَينَ: كَافِرِينَ اشْتَرَوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ، فَخِسِرَتْ صَفقَتُهُمْ، وَصَارُوا إِلَى عَذَابِ النَّارِ، وَمُؤْمِنِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ، فَرَبِحَتْ صَفقَتُهُمْ، وَصَارُوا إِلَى نَعِيمِ الجَنَّةِ، فَلاَ غبْنَ أَعْظَمِ مِنَ الغبْنِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، حَينَمَا يَجِدُ الكَافُرُونَ المُقَصِّرُونَ أَنَّهُمْ بَاعُوا النَّعِيمَ الخَالِدَ الدَّائِمَ، بِلَذَّةٍ قَلِيلَةٍ زَائِلَةٍ. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ. يُكَفِّرِ اللهُ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ، وَيَغْفِرْ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّةً تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَيَبْقَى خَالِداً فِي نَعِيمِهَا أَبَداً، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ الَّذِي لاَ فَوْزَ بَعْدَهُ.
يَوْمُ التَّغَابُنِ - يَظْهَرُ فِيهِ غَبْنُ الكَافِرِ بِتَرْكِهِ الإِيْمَانَ.
﴿بِآيَاتِنَآ﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(١٠) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَجَحَدُوا بِوحْدَانِيَّتِهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَالكِتَابَ الذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيهِ، فَهَؤُلاَءِ يُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ نَارَ جَهَنَّمَ لِيَبْقُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمَصِيراً.
(١١) - مَا أَصَابَ أَحَداً شَيءٌ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا، إِلاَّ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَالمَرْءُ يَعْمَلُ وَيَتَّخِذُ مِنَ الأَسْبَابِ مَا هُوَ في طَوقِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ، لَجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَكِنَّ النَّتَائِجَ بِيَدِ اللهِ وَوفْقَ قَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا مَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَغْتَمَّ وَلاَ يَحْزَنَ، وَعَلَيهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّما كَانَ ذَلِكَ بإِرَادَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ. وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ وَآمَنَ أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِقَضَاءِ اللهِ، وَقَدَرِهِ، فَصَبَرَ واحْتَسَبَ، عَوَّضَهُ اللهُ عَنْ إِصَابَتِهِ فِي الدُّنْيَا، هُدًى فِي قَلْبِهِ، وَيَقِينا صَادِقاً بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّهَا. فَالمُؤْمِنُ عَلَيهِ وَاجبَانِ:
- السَّعْيُ وَبَذْلُ الجُهْدِ واتِّخَاذُ الأَسْبَابِ لِجَلْبِ الخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً.
- ثُمَّ التَّوكُّلُ عَلَى اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ اليَقِينَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْدُثُ هُوَ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلاَ يَغْتَمُّ وَلاَ يَحْزَنُ لِمَا يَقَعُ.
بِإِذْنِ اللهِ - بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
يَهْدِ قَلْبَهُ - يُوَفِّقْهُ لِلْيَقِينِ وَالصَّبْرِ والتَّسْلِيمِ.
﴿البلاغ﴾
(١٢) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِيمَا شَرَعَ، وَبِطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ فِيمَا بَلَّغَ، وَبِأَنْ يَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَبِتَرْكِ مَا نُهُوا عَنْهُ، فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ مَهَمَّتُهُ أَدَاءُ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ فَعَلَ، وَلاَ يُسْأَلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيءٍ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ.
(١٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ، وَأَنَّ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَيَتَوكَّلُوا عَلَيهِ، وَيُخْلِصُوا العَمَلَ لَهُ، وَيَتَقَووا بِهِ فِي أُمُورِهِمْ حَتَّى يَنْصُرَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ.
﴿ياأيها﴾ ﴿آمنوا﴾ ﴿أَزْوَاجِكُمْ﴾ ﴿أَوْلاَدِكُمْ﴾
(١٤) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ بَينِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ أَعْدَاءٌ لِلإِنْسَانِ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ الطَّاعَاتِ التِي تُقَرِّبُ إِلَى اللهِ، وَرُبَمَا حَمَلُوهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الحَرَامِ، واجْتِرَاحِ الآثَامِ، لِمَنْفَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ يُؤَدِّي البُغْضُ إِلَى ارْتِكَابِ الجَرَائِمِ بِحَقِّ الأَزْوَاجِ وَالآبَاءِ، فَتَكُونُ عَدَاوَةٌ حَقِيقِيَّةٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يَكُونُ فِيهِ هَلاَكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ، يُعَيِّرَانِهِ بِالفَقْرِ فَيْرْتَكِبُ مَرَاكِبَ السُّوءِ فَيَهْلِكُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُهُ حُبُّهُ لَهُمْ، وَشَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَحِرْصُهُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرْتَكِبُ المَحْظُورَاتِ لِتَحْصِيلِ مَا يَكُونُ سَبَباً لِذَلِكَ فَيَهْلِكُ.
ثُمَّ يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى العَفْوِ والصِّفْحِ فَقَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الخَيْرُ لِلإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بِهِمْ وَبِهِ، وَيُعَامِلُهُ بِمِثْلِ مَا عَامَلَهُمْ، وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ تَكَرُّماً مِنْهُ.
﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ ﴿أَوْلاَدُكُمْ﴾
(١٥) - الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اخْتِبَارٌ مِنَ اللهِ وَابْتِلاَءٌ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، إِذْ كَثِيراً مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ارْتِكَابُ المَحْظُورَاتِ، وَاجْتِرَاحُ الآثَامِ، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ الأَمْوَالَ عَلَى الأَوْلاَدِ لأَنَّهَا أَعْظَمُ فِتْنَةً.
" وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي المَالُ "
ثُمَّ يُنَبِّهُ تَعَالَى النَّاسَ إِلَى مَا أَعَدَّهُ مِنْ عَظِيمِ الأَجْرِ فِي الآخِرَةِ لِمَنْ آثَرَ مَحَبَّةَ اللهِ وَطَاعَتَهُ، عَلَى مَحَبَّةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ.
فِتْنَةٌ - بَلاَءٌ وَاخْتِبَارٌ.
﴿فأولئك﴾
(١٦) - فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ.
" وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) واسْمعُوا وَأَطِيعُوا مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَاعْمَلُوا بِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ عَلَى الأَقَارِبِ وَالفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ، وَأَحْسِنُوا إِلَى عِبَادِ اللهِ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيكُمْ يَكْنْ ذَلِكَ خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ.
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ - يُكْفَى بُخَلَها الشَّدِيدَ مَعَ حِرْصهَا.
﴿يُضَاعِفْهُ﴾
(١٧) - مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مَالٍ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَتَقَرُّباً إِليهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُدُّ ذَلِكَ الإِنْفَاقَ مُقَدَّماً إِلَيه تَعَالَى، وَهُوَ يُخْلفُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى المُنْفقِينَ - أَضْعَافاً كَثِيرَةً - الحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِها إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ - وَيَمْحُو عَنْكُمْ بِها سَيِّئَاتِكُمْ، وَيَسْتُرُهَا عَلَيْكُمْ، وَاللهُ شكُورٌ يَجْزِي عَلَى القَلِيل بِالكَثِيرِ، وَهُوَ كَثِيرُ الحِلْمِ وَالمَغْفِرَةِ، يَغْفِرُ وَيَسْتُرُ، وَلاَ يُعَاجِلُ بِالعُقُوبَةِ عِبَادَهُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالأَخْطَاءِ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ مُسْتَغْفِرْينَ.
قَرْضاً حَسَناً - احْتِسَاباً طَيِّبَةً بِهِ النَّفْسُ.
﴿عَالِمُ﴾ ﴿الشهادة﴾
(١٨) - وَهُوَ تَعَالَى العَلِيمُ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ لاَ يَغِيبُ عَنْهُ شَيءٌ مِمَّا غَابَ عَنْهُمْ وَمِمَّا شَاهَدُوهُ، فَكُلُّهُ فِي عِلْمِ اللهِ وَحِفْظِهِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ شَيءٌ، وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَسَيَثُيبُ العِبَادَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ عَلَيهَا إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً، فَأَنْفِقُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ وَالطَّاعَاتِ، وَلاَ تَخْشَوا أَنْ يَضِيعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ فِي عِلْمِ اللهِ، وَاللهُ هُوَ النَّافِذُ الإِرَادَةِ الذِي عَزَّ كُلَّ شَيءٍ وَقَهَرَهُ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).