تفسير سورة التغابن

لطائف الإشارات

تفسير سورة سورة التغابن من كتاب لطائف الإشارات
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله " كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يبتذل، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل. ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كل ناحية منه خليط، ولا في كل زاوية زبيط.

قوله جل ذكره :﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ ﴾.
المخلوقاتُ كلُّها بجملتها لله سبحانه مُسَبِّحةٌ. . ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَنْ به طَرَشُ النكرة.
ويقال : الذي طَرَأَ صَمَمُه فقد يُرْجَى زواله بنوعِ معالجة، أمَّا مَنْ يولَدُ أصَمَّ فلا حيلةَ في تحصيل سماعه. قال تعالى :﴿ فإنك لا تسمع الموتى ﴾ [ الروم : ٥٢ ] وقال تعالى :
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ].
قوله جل ذكره :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
منكم كافرٌ في سابق حُكْمِه سَمَّاه كافراً، وعَلِمَ أنه يكفر وأراد به الكفر. . وكذلك كانوا. ومنكم مؤمنٌ في سابق حُكْمِه سمَّاه مؤمناً، وعِلِمَ في آزاله أنه يُؤمِن وخَلَقَه مؤمناً، وأراده مؤمناً. . . والله بما تعلمون بصير.
قوله جل ذكره :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾.
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ َالأَرْضَ بِالْحِقِّ ﴾ : أي وهو مُحِقُّ في خَلْقِه.
﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ لم يَقُلْ لشيءٍ من المخلوقات هذا الذي قال لنا، صوَّر الظاهرَ وصوَّر الباطنَ ؛ فالظاهر شاهدٌ على كمال قدرته، والباطن شاهدٌ على جلال قربته.
قوله جل ذكره :﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُّسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
قصِّروا حِيَلكُم عن مطلوبكم، فهو تتقاصر عنه علومُكم، وأنا أعلمُ ذلك دونَكم. . فاطلبوا منِّي، فأنا بذلك أعلم، وعليه أقدر.
ويقال :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ ﴾. فاحذروا دقيقَ الرياء، وخَفِيَّ ذات الصدور ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ : فاحذروا أن يخالِفَ ظاهرُكم باطنكم.
في قوله :﴿ مَا تُسِرُّونَ ﴾ أمرٌ بالمراقبة بين العبد وربه.
وفي قوله :﴿ ما تعلنون ﴾ أمرٌ بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخَلْق.
قوله جل ذكره :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نََبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ واللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾.
المراد من ذلك هو الاعتبار بِمَنْ سَلَفَ، ومَنْ لم يعتبِرْ عَثَرَ في مَهْوَاةٍ من الأمَلِ، ثم لا يَنْتَعِشُ إلاّ بعد فواتِ الأمرِ من يده.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم ﴾. شاهدوا الأمر من حيث الخَلْقِ فتَطَوَّحوا في متاهاتِ الإشكالِ المختلفةِ الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلَّصوا من تفرقة الأباطيل، واستراحوا بشهود التقدير من اختلاف الأحوال ذات التغيير.
قوله جل ذكره :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عِملِْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾.
الموتُ نوعان : موتُ نَفْسٍ، وموتُ قلب، ففي القيامة يُبْعَثون من موت النَّفْس، وأمَّا موتُ القلبِ فلا بَعْثَ منه - عند كثيرٍ من مخلصي هذه الطائفة، قال تعالى مُخْبِراً عنهم :﴿ قَالُواْ يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَننَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ [ يس : ٥٢ ] فلو عرفوه لَمَا قالوا ذلك ؛ فموتُ قلوبِهم مُسَرْمَدٌ إلى أنْ تصيرَ معارفُهم ضروريةً، فهذا الوقتُ وقتُ موتِ قلوبهم.
قوله جل ذكره :﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذَي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
﴿ النور الذي أنزلنا ﴾ : القرآن. ويجوز أن يكون ما أنزل في قلوب أوليائه من السكينة وفنون الألطاف.
قوله جل ذكره :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
المطيعُ – يومئذٍ ِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلَّة.
وليسَ كلُّ الغبنِ في تفاوت الدرجات قلَّةً وكثرة، فالغبن في الأحوال أكثر.
قوله جل ذكره :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
أيُّ حُصْلةٍ حَصَلت فمِنْ قِبَلِه خَلْقاً، وبعلمه وإرادته حُكماً.
﴿ ومن يؤمن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ حتى يهتدي إلى الله في السَّراء والضَّراء - اليومَ - وفي الآخرة يهديه إلى الجنة.
ويقال :﴿ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ للأخلاق السنيَّة، والتنقِّي من شُحِّ النَّفْس.
ويقال :﴿ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ لاتِّباع السُّنَّةِ واجتنابِ البِدْعة.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولً فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾.
طاعةُ الله واجبة، وطاعةُ الرُّسُل - الذين هم سفراءٌ بينه وبين الخَلْقِ - واجبةٌ كذلك. والأنوار التي تظهر عليك وتطالَبُ بمقتضياتها كلُّها حقٌّ، ومن الحقِّ. . فتجب طاعتُها أيضاً.
قوله جل ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوَّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُو وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمُ ﴾.
إذا دَعَوْكَ لتجمَع لهم الدنيا فهم عدوٌّ لك، أمَّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف فليسوا لكم أعداء.
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
﴿ فِتْنَةٌ ﴾ : لأنهم يشغلونك عن أداء حقِّ الله ؛ فما تَبْقَ عن الله مشغولاً بجمعه فهو غيرُ ميمونٍ عليك.
ويقال : إذا جمعتم الدنيا لغير وَجْهِه فإنكم تُشغَلُون بذلك عن أداءِ حقِّ مولاكم، وتشغلكم أولادُكم، فتبقون بهم عن طاعة الله - وتلك فتنةٌ لكم. . ترومون إصلاحَهم. فتفسدون أنتم وهم لا يًصْلَحون !
قوله جل ذكره :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا لله. والتقوى عن شهود التقوى بعد إلا يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى.
﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ﴾ حتى ترتفعَ الأخطارُ عن قلبه، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات، ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
قوله جل ذكره :﴿ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمُ ﴾.
يتوجَّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء لبَذْلِ أموالهم، وللفقراء في إخلاءِ أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثارِ مرادِ الحقِّ على مرادِ أنفسِهم.
فالغنيُّ يُقال له : آثِرْ حُكْمي على مرادك في مالِك، والفقيرُ يقال له : آثِرْ حُكْمي في نَفْسِك وقلبك ووقتك وزمانك.
جلَّ شأنه.
سورة التغابن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التغابُنِ) من السُّوَر المدنية، وقد افتُتحت بتعظيم الله عزَّ وجلَّ، وجاءت مُحذِّرةً الناسَ من يوم القيامة وهولِه؛ للعودة إلى طريق النجاح؛ وهو صراط الله المستقيمُ الذي بيَّنه صلى الله عليه وسلم، و(التغابُنُ): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ترتيبها المصحفي
64
نوعها
مدنية
ألفاظها
242
ترتيب نزولها
108
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14]:

سأل رجُلٌ ابنَ عباسٍ عن هذه الآيةِ، فقال رضي الله عنه: «هؤلاء رجالٌ أسلَموا مِن أهلِ مكَّةَ، وأرادوا أن يأتُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجُهم وأولادُهم أن يَدَعوهم أن يأتوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رأَوْا أصحابَهم قد فَقِهوا في الدِّينِ، هَمُّوا أن يُعاقِبوهم؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوّٗا لَّكُمْ فَاْحْذَرُوهُمْۚ} [التغابن: 14] الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٣١٧).

* سورة (التغابُنِ):

سُمِّيت سورة (التغابن) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (التغابن) فيها؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اْلْجَمْعِۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ اْلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِاْللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحٗا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ اْلْفَوْزُ اْلْعَظِيمُ} [التغابن: 9].

يقول القُرْطُبيُّ: «وسُمِّي يومُ القيامة يومَ التغابن؛ لأنه غبَنَ فيه أهلُ الجنَّةِ أهلَ النار؛ أي: إن أهلَ الجنَّة أخذوا الجنَّةَ، وأخذ أهلُ النارِ النارَ، على طريقِ المبادَلة؛ فوقَع الغَبْنُ لأجلِ مبادَلتِهم الخيرَ بالشرِّ، والجيِّدَ بالرديءِ، والنعيمَ بالعذاب.

يقال: غبَنْتُ فلانًا: إذا بايَعْتَه أو شارَيْتَه، فكان النقصُ عليه، والغلَبةُ لك، وكذا أهلُ الجنَّة وأهلُ النار». "تفسير القرطبي" (18 /136).

1. الإيمان بالله تعالى (١-٤).

2. المَغْبُونون (٥-٧).

3. التغابُنُ (٨-١٠).

4. على طريق النجاح (١١-١٣).

5. فتنة الأهل والمال (١٤-١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /191).

اشتملت سورةُ (التغابُنِ) على تنزيهِ الله عز وجل من النقائص، واتصافِه بالعدل والكمال المطلق، وأتت السورة بالمبالغة في تحذيرِ الناس من يوم القيامة الذي يَفصِل اللهُ فيه بين الخلائق؛ لإحقاق الحق؛ ففيه يُقتصُّ لكل مخلوق، وتُرَدُّ كلُّ الحقوق، و(التغابن): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /90)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /259).