تفسير سورة المسد

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة المسد من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المسد
هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله تعالى، أتبع بذكر من لم يدخل في الدين، وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان.

سورة المسد
[سورة المسد (١١١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)
الْحَطَبُ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ إِذَا وَشَى عَلَيْهِ. الْجِيدُ: الْعُنُقُ.
الْمَسَدُ: الْحَبْلُ مِنْ لِيفٍ، وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: لِيفُ الْمُقْلِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ شَجَرٌ بِالْيَمَنِ يُسَمَّى الْمَسَدَ، انْتَهَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَمِنْ أَوْبَارِهَا. قَالَ الرَّاجِزُ:
وَمَسَدُ أَمْرٍ مِنْ أَيَانِقَ وَرَجُلٌ مَمْسُودُ الْخَلْقِ: أَيْ مَجْدُولُهُ شَدِيدُهُ.
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ، سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا دُخُولَ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، أَتْبَعَ بِذِكْرِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الدِّينِ، وَخَسِرَ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنِ الْإِيمَانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّبَابِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَهُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ، وَقَتَادَةُ: خَسِرَتْ، وَابْنُ جُبَيْرٍ:
هَلَكَتْ، وَعَطَاءٌ: ضَلَّتْ، وَيَمَانُ بْنُ رِيَابٍ: صَفِرَتْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَالُوا فِيمَا حَكَى أَشَابَّةٌ: أَمْ تَابَّةٌ: أَيْ هَالِكَةٌ مِنَ الْهَرَمِ وَالتَّعْجِيزِ. وَإِسْنَادُ الْهَلَاكِ إِلَى الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِهِمَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلنَّفْسِ، كَقَوْلِهِ: ذلِكَ بِما
565
قَدَّمَتْ يَداكَ
«١».
وَقِيلَ: أَخَذَ بِيَدَيْهِ حَجَرًا لِيَرْمِيَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ التَّبَّ إِلَيْهِمَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّبَّ دُعَاءٌ، وَتَبَّ: إِخْبَارٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ تَبَّ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «٢»، قَالَ: «يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، لَا أُغْنِي لَكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا». ثُمَّ صَعِدَ الصَّفَا، فَنَادَى بُطُونَ قُرَيْشٍ: «يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ». وَرُوِيَ أَنَّهُ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا صَبَاحَاهُ». فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ لَهُمْ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أُنْذِرُكُمْ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَافْتَرَقُوا عَنْهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ.
وَأَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، ابْنُ عم الْمُطَّلِبِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ كَثِيرٍ: أَبِي لَهَبٍ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَفَتَحَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَاتَ لَهَبٍ، لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ، وَالسُّكُونُ يُزِيلُهَا عَلَى حُسْنِ الْفَاصِلَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ، كَقَوْلِهِمْ: شُمْسُ مَالِكٍ بِالضَّمِّ. انْتَهَى، يَعْنِي: سُكُونَ الْهَاءِ فِي لَهْبٍ وَضَمَّ الشِّينَ فِي شُمْسٍ، وَيَعْنِي فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقَاصِدٌ بِهِ لِابْنِ عَمِّي الصِّدْقِ شُمْسِ بْنِ مَالِكِ
فَأَمَّا فِي لَهَبٍ، فَالْمَشْهُورُ فِي كُنْيَتِهِ فَتْحُ الْهَاءِ، وَأَمَّا شُمْسُ بْنُ مَالِكٍ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَعْلَامِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى بِشُمْسٍ الْمَنْقُولِ مِنْ شُمْسٍ الْجَمْعِ، كَمَا جَاءَ أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ. قِيلَ: وَكُنِّيَ بِأَبِي لَهَبٍ لِحُسْنِهِ وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ لِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْكُنْيَةِ، أَوْ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ كَانَتْ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْمِ أَوْ لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَى النَّارِ، فَوَافَقَتْ حَالَتُهُ كُنْيَتَهُ، كَمَا يُقَالُ لِلشِّرِّيرِ: أَبُو الشَّرِّ، وَلِلْخَيِّرِ أَبُو الْخَيْرِ أَوْ لِأَنَّ الِاسْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْكُنْيَةِ، فَعَدَلَ إِلَى الْأَنْقَصِ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَسْمَائِهِمْ وَلَمْ يُكَنِّ أَحَدًا مِنْهُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ نَفْيٌ، أَيْ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ الْمَوْرُوثُ عَنْ آبَائِهِ، وَمَا كَسَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتُهُ، وَمَا كَسَبَ مِنْ نَسْلِهَا وَمَنَافِعِهَا، أَوْ مَا كَسَبَ مِنْ أَرْبَاحِ مَالِهِ الَّذِي يَتَّجِرُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُغْنِي عنه
(١) سورة الحج: ٢٢/ ١٠.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٤.
566
مَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ وَالْإِنْكَارِ؟ وَالْمَعْنَى: أَيْنَ الْغِنَى الَّذِي لِمَالِهِ وَلِكَسْبِهِ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما كَسَبَ مَوْصُولَةٌ، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَإِذَا كَانَتْ مَا فِي مَا أَغْنى اسْتِفْهَامًا، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا فِي وَما كَسَبَ اسْتِفْهَامًا أَيْضًا، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَسَبَ؟
أَيْ لَمْ يَكْسِبْ شَيْئًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما كَسَبَ وَلَدُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ».
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: وَما كَسَبَ هُوَ عَمَلُهُ الْخَبِيثُ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنِ قَتَادَةَ: وَعَمَلُهُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا، فَأَنَا أَفْتَدِي مِنْهُ نَفْسِي بِمَالِي وَوَلَدِي.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا اكْتَسَبَ بِتَاءِ الِافْتِعَالِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ وَعَبَّاسٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَهُوَ أَيْضًا سَيَصْلَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَشَدِّ اللَّامِ، وَمُرَيْئَتُهُ وَعَنْهُ أَيْضًا: وَمُرَيَّتُهُ عَلَى التَّصْغِيرِ فِيهِمَا بِالْهَمْزِ وَبِإِبْدَالِهَا يَاءً وَإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِيهَا. وَقَرَأَ أَيْضًا: حَمَّالَةٌ لِلْحَطَبِ، بِالتَّنْوِينِ فِي حَمَّالَةَ، وَبِلَامِ الْجَرِّ فِي الْحَطَبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: سَيَصْلَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ وَأَبُو قِلَابَةَ: حَامِلَةُ الْحَطَبِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ مُضَافًا، وَاخْتَلَسَ حَرَكَةَ الْهَاءِ فِي وَامْرَأَتُهُ أَبُو عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ: حَمَّالَةَ بِالنَّصْبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَيَصْلى بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَامْرَأَتُهُ عَلَى التَّكْبِيرِ، حَمَّالَةَ عَلَى وَزْنِ فَعَّالَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ مُضَافًا إِلَى الْحَطَبِ مَرْفُوعًا، وَالسِّينُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَإِنْ تَرَاخَى الزَّمَانُ، وَهُوَ وَعِيدٌ كَائِنٌ إِنْجَازُهُ لَا مَحَالَةَ. وَارْتَفَعَ وَامْرَأَتُهُ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي سَيَصْلى، وَحَسَّنَهُ وُجُودُ الْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ وَصَفَتِهِ، وحَمَّالَةَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ صِفَةٌ لامرأته، لِأَنَّهُ مِثَالٌ مَاضٍ فَيُعْرَفُ بِالْإِضَافَةِ، وَفَعَّالٌ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ السِّتَّةِ وَحُكْمُهَا كَاسْمِ الْفَاعِلِ. وَفِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، انْتَصَبَ عَلَى الذَّمِّ. وَأَجَازُوا فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ وَامْرَأَتُهُ مبتدأ، وحمالة، وَاسْمُهَا أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ عَوْرَاءَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الْحَطَبَ، أَيْ مَا فِيهِ شَوْكٌ، لِتُؤْذِيَ بِإِلْقَائِهِ فِي طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِتَعْقُرَهُمْ، فَذُمَّتْ بِذَلِكَ وَسُمِّيَتْ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَحَمَّالَةٌ مَعْرِفَةٌ، فَإِنْ كَانَ صَارَ لَقَبًا لَهَا جَازَ فِيهِ حَالَةُ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا. قِيلَ: وَكَانَتْ تَحْمِلُ حُزْمَةً مِنَ الشَّوْكِ وَالْحَسَكِ وَالسَّعْدَانِ فَتَنْشُرُهَا بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ تَمْشِي
567
بِالنَّمِيمَةِ، وَيُقَالُ لِلْمَشَّاءِ بِهَا: يَحْمِلُ الْحَطَبَ بَيْنَ النَّاسِ، أَيْ يُوقِدُ بَيْنَهُمُ النَّائِرَةَ وَيُورِثُ الشَّرَّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنِ الْبِيضِ لَمْ يَصْطَدْ عَلَى ظَهْرِ لِأَمَةٍ وَلَمْ تَمْشِ بَيْنَ الْحَيِّ بِالْحَطَبِ الرَّطْبِ
جَعَلَهُ رَطْبًا لِيَدُلَّ عَلَى التَّدْخِينِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي الشَّرِّ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
إِنَّ بَنِي الْأَرْزَمِ حَمَّالُو الْحَطَبِ هُمُ الْوُشَاةُ فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَبِ
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: حَمَّالَةُ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: يَحْطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «١». وَقِيلَ: الْحَطَبُ جَمْعُ حَاطِبٍ، كَحَارِسٍ وَحَرَسٍ، أي يحمل الْجُنَاةِ عَلَى الْجِنَايَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَبْلَ مِنْ مَسَدٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَسُفْيَانُ: اسْتِعَارَةٌ، وَالْمُرَادُ سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قِلَادَةٌ مِنْ وَدَعٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَقَالَتْ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لِأُنْفِقَنَّهَا عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ قِلَادَتِهَا بِحَبْلٍ مِنْ مَسَدٍ عَلَى جِهَةِ التَّفَاؤُلِ لَهَا، وَذَكَرَ تَبَرُّجَهَا فِي هَذَا السَّعْيِ الْخَبِيثِ، انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا كَانَتْ خَرَزًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِمَّا مَسَدٍ مِنِ الْحِبَالِ، وَأَنَّهَا تَحْمِلُ الْحُزْمَةَ مِنَ الشَّوْكِ وَتَرْبِطُهَا فِي جِيدِهَا، كَمَا يَفْعَلُ الْحَطَّابُونَ تَحْسِيسًا لِحَالِهَا وَتَحْقِيرًا لَهَا بِصُورَةِ بَعْضِ الْحَطَّابَاتِ مِنَ الْمَوَاهِنِ لِتَمْتَعِضَ مِنْ ذَلِكَ وَيَمْتَعِضَ بَعْلُهَا وَهُمَا فِي بَيْتِ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ وَفِي مَنْصِبِ الثَّرْوَةِ وَالْجَدَّةِ. وَلَقَدْ عَيَّرَ بَعْضُ النَّاسِ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ بِحَمَّالَةِ الْحَطَبِ، فَقَالَ:
مَاذَا أَرَدْتَ إِلَى شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَمْ مَا تُعَيِّرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ
غَرْسَاءُ شَاذِخَةٌ فِي الْمَجْدِ سَامِيَةٌ كَانْتَ سَلِيلَةَ شَيْخٍ ثَاقِبِ الْحَسَبِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ حَالَهَا يَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا حِينَ كَانَتْ تَحْمِلُ حُزْمَةَ الشَّوْكِ، فَلَا يَزَالُ عَلَى ظَهْرِهَا حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبِ النَّارِ مِنْ شَجَرِ الزَّقُّومِ أَوِ الضَّرِيعِ، وَفِي جيدها حبل مما مسد مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ، كَمَا يُعَذَّبُ كُلُّ مُجْرِمٍ بِمَا يُجَانِسُ حَالَهُ فِي جُرْمِهِ، انْتَهَى.
وَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّ جَمِيلٍ هَذِهِ السُّورَةَ أَتَتْ أبابكر، وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المسجد
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣١.
568
وَبِيَدِهَا فِهْرٌ، فَقَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، وَلَأَفْعَلَنَّ وَأَفْعَلَنَّ وَأَعْمَى اللَّهُ تَعَالَى بَصَرَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ لَهَا: هَلْ تَرَيْ مَعِي أَحَدًا؟ فَقَالَتْ: أَتَهْزَأُ بِي؟ لَا أَرَى غَيْرَكَ. وَإِنْ كَانَ شَاعِرًا فَأَنَا مِثْلُهُ أَقُولُ:
مُذَمَّمًا أَبَيْنَا وَدِينَهُ قَلَيْنَا وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا فسكت أبوبكر وَمَضَتْ هِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَجَبَتْنِي عَنْهَا مَلَائِكَةٌ فَمَا رَأَتْنِي وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهَا». وَذُكِرَ أَنَّهَا مَاتَتْ مَخْنُوقَةً بِحَبْلِهَا، وَأَبُو لَهَبٍ رَمَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَسَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِسَبْعِ لَيَالٍ.
569
سورة المسد
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المَسَدِ) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الفاتحة)، وقد افتُتحت بوعيدِ أبي لَهَبٍ عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاءِ عليه؛ بسبب مقالته للنبي صلى الله عليه وسلم: «تبًّا لك! ألهذا جمَعْتَنا؟!»، وفي ذلك بيانُ خسران الكافرين، ولو كان أقرَبَ قريب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ولذا خُتمت بوعيد زوجه؛ لأنها وافقت زوجَها، وأبغَضت النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
111
نوعها
مكية
ألفاظها
23
ترتيب نزولها
6
العد المدني الأول
5
العد المدني الأخير
5
العد البصري
5
العد الكوفي
5
العد الشامي
5

* قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} [المسد: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا نزَلتْ: {وَأَنذِرْ ‌عَشِيرَتَكَ ‌اْلْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، ورَهْطَك منهم المُخلَصِينَ؛ خرَجَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى صَعِدَ الصَّفَا، فهتَفَ: «يا صَبَاحَاهْ»، فقالوا: مَن هذا؟ فاجتمَعوا إليه، فقال: «أرأَيْتم إن أخبَرْتُكم أنَّ خيلًا تخرُجُ مِن سَفْحِ هذا الجبَلِ، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟»، قالوا: ما جرَّبْنا عليك كَذِبًا، قال: «فإنِّي نذيرٌ لكم بَيْنَ يَدَيْ عذابٍ شديدٍ»، قال أبو لَهَبٍ: تبًّا لك! ما جمَعْتَنا إلا لهذا؟! ثم قامَ؛ فنزَلتْ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وقد تَبَّ»؛ هكذا قرَأَها الأعمَشُ يومَئذٍ. أخرجه البخاري (٤٩٧١).

* سورةُ (المَسَدِ):

سُمِّيت سورةُ (المَسَدِ) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (المَسَد) في خاتمتها.

* وتُسمَّى سورة {تَبَّتْ}؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

وعيدٌ لأبي لَهَبٍ وزوجته، ومصيرُهما (١-٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /437).

الحُكْمُ بخسران الكافرين، وزجرُ أبي لَهَبٍ على قوله للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تبًّا لك! ألهذا جمَعْتَنا؟!»، ووعيدُ امرأته على انتصارها لزوجها، وبُغْضِها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ينظر: "مصاعد النظر إلى مقاصد السور" للبقاعي (3 /277)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /600).