تفسير سورة المنافقون

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا كانَ الانفضاض أوَّلاً من المنافقين، ثم تبعهم بعض المؤمنين، بيَّنَ لهم حقيقة حالهم لئلا يوافقهم في أفعالهم فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾: سئل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن المنافق فقال: هو الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، والمراد هنا: ابن أبي وأصحابه ﴿ قَالُواْ ﴾: بلا اعتقاد ﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾: لأن الشهادة أخبار عن شهود واطلاع فكذبهم في تسميتهم شهادة، وأما " شهادة الزور " فيجوز، وأفاد أنَّ الإيمان تصديق بالقلب، والكلام الحقيقيُّ كلام القلب، ومن قال خلال معتقده فكاذبٌ ﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ ﴾: الكاذبة ﴿ جُنَّةً ﴾: سترةً ﴿ فَصَدُّواْ ﴾: أعرضوا أو منعوا ﴿ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ ﴾: المذكور من قبائحهم ﴿ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾: بلسانهم ﴿ ثُمَّ كَفَرُوا ﴾: استمروا على كفرهم باطنا ﴿ فَطُبِعَ ﴾: ختم ﴿ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾: فاستحكموا في الكفر ﴿ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾: الإيمان ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ﴾ لحسن ظاهرها ﴿ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ لفصاحتهم، حال كونهم ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ ﴾ أخشاب ﴿ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ في عدم نفعهم، إذ المنتفع به لا يكون إلا في نحو سَقف، أو جمع خشبة: أخشبة تآكَلَ جوفها، فالتشبيه في قبح باطنهم وخلوهم عن الإيمان ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ ﴾ من إنشاد ضالة وغيره، واقعة ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ لجبنهم واتهامهم.
﴿ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ﴾ لاتأمنهم ﴿ قَاتَلَهُمُ ﴾ لعنهم ﴿ ٱللَّهُ ﴾ علمنا الدعاء عليهم ﴿ أَنَّى ﴾ كيف ﴿ يُؤْفَكُونَ ﴾ يصرفون عن الحق ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ﴾ معتذرين ﴿ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ ﴾ أمالوا أو حركوا استهزاء ﴿ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ﴾ يعرضون عنه ﴿ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ عنه ﴿ سَوَآءٌ ﴾ مستو ﴿ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ ﴾ أي: استغفارك ﴿ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ أي: عدم استغفارك ﴿ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ﴾ لشوقتهم الأزلية ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ ﴾ في علمه ﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ للأنصار ﴿ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ ﴾ يتفرقوا عنه ﴿ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ فهو رازقهم ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ ﴾ للمهاجرين ﴿ لَئِن رَّجَعْنَآ ﴾: عن غزوة بني المصطلق ﴿ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ ﴾: عنوا أنفسهم لعنهم الله تعالى ﴿ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ ﴾: عنوا الصحابة رضي الله عنهم ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ ﴾: الغلبة ﴿ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾: لأنه أعزهم ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾: أتى بالفقه أولا، وبالعلم ثانيا ليفيد عدم كياستهم وفهمهم بالأول وحماقتهم بالثاني ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ ﴾: لا تشغلكم ﴿ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ ﴾: أي: اللهو بهما ﴿ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾: أي: طاعاته كالمنافقين ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾: اللهو ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُواْ مِن ﴾: بعض ﴿ مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ ﴾ أمهلتني ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ﴾: بأتصدق ﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلُّ مَن قصَّر في الحجم الزكاة فكذلك عند الموت ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾: المقدر ﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾: فيجازيكم - واللهُ أعْلَمُ.
سورة المنافقون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المنافقون) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الحجِّ)، وقد تناولت موضوعًا يمسُّ صُلْبَ الإيمان؛ وهو موافقةُ الظاهر للباطن، وحذَّرت من النفاق والمنافقين؛ لأنهم أضرُّ على الإسلام من غيرهم، وجاءت بتوجيهاتٍ جليلة للتَّحصين من النفاق.

ترتيبها المصحفي
63
نوعها
مدنية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
104
العد المدني الأول
11
العد المدني الأخير
11
العد البصري
11
العد الكوفي
11
العد الشامي
11

* جاء في سبب نزول سورة (المنافقون):

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «كنتُ في غزاةٍ، فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ يقولُ: لا تُنفِقوا على مَن عندَ رسولِ اللهِ حتى يَنفضُّوا مِن حولِه، ولَئِنْ رجَعْنا مِن عندِه لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فذكَرْتُ ذلك لِعَمِّي أو لِعُمَرَ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعَاني، فحدَّثْتُه، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى عبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ وأصحابِه، فحلَفوا ما قالوا، فكذَّبَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه، فأصابني هَمٌّ لم يُصِبْني مثلُه قطُّ، فجلَسْتُ في البيتِ، فقال لي عَمِّي: ما أرَدتَّ إلى أنْ كذَّبَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومقَتَك؟ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، فبعَثَ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ، فقال: «إنَّ اللهَ قد صدَّقَك يا زيدُ»». أخرجه البخاري (4900).

ورواه التِّرْمِذيُّ مطولًا، ولفظه:

عن زيدِ بن أرقَمَ رضي الله عنه، قال: «غزَوْنا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أُناسٌ مِن الأعرابِ، فكنَّا نبتدِرُ الماءَ، وكان الأعرابُ يَسبِقونا إليه، فسبَقَ أعرابيٌّ أصحابَه، فيَسبِقُ الأعرابيُّ فيَملأُ الحوضَ، ويَجعَلُ حَوْلَه حجارةً، ويَجعَلُ النِّطْعَ عليه حتى يَجيءَ أصحابُه، قال: فأتى رجُلٌ مِن الأنصارِ أعرابيًّا، فأرخى زِمامَ ناقتِه لتَشرَبَ، فأبى أن يدَعَه، فانتزَعَ قِباضَ الماءِ، فرفَعَ الأعرابيُّ خشَبةً فضرَبَ بها رأسَ الأنصاريِّ فشَجَّه، فأتى عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رأسَ المنافقين فأخبَرَه، وكان مِن أصحابِه، فغَضِبَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، ثم قال: {لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اْللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ} [المنافقون: 7]؛ يَعني: الأعرابَ، وكانوا يحضُرون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عند الطَّعامِ، فقال عبدُ اللهِ: إذا انفَضُّوا مِن عندِ مُحمَّدٍ فَأْتُوا مُحمَّدًا بالطَّعامِ، فليأكُلْ هو ومَن عندَه، ثم قال لأصحابِه: لَئِنْ رجَعْتم إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، قال زيدٌ: وأنا رِدْفُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: فسَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فأخبَرْتُ عَمِّي، فانطلَقَ فأخبَرَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأرسَلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فحلَفَ وجحَدَ، قال: فصدَّقَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبني، قال: فجاءَ عَمِّي إليَّ، فقال: ما أرَدتَّ إلا أنْ مقَتَك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَّبَك والمسلمون، قال: فوقَعَ عليَّ مِن الهمِّ ما لم يقَعْ على أحدٍ، قال: فبَيْنما أنا أسيرُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ قد خفَقْتُ برأسي مِن الهمِّ، إذ أتاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فعرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فما كان يسُرُّني أنَّ لي بها الخُلْدَ في الدُّنيا، ثم إنَّ أبا بكرٍ لَحِقَني فقال: ما قال لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: ما قال لي شيئًا، إلا أنَّه عرَكَ أُذُني، وضَحِكَ في وجهي، فقال: أبشِرْ، ثم لَحِقَني عُمَرُ، فقلتُ له مثلَ قولي لأبي بكرٍ، فلمَّا أصبَحْنا قرَأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سورةَ المنافقين». "سنن الترمذي" (3313).

* سورة (المنافقون):

سُمِّيت سورة (المنافقون) بهذا الاسم؛ لأنَّها تناولت مواقفَ المنافقين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت صفاتِهم.

* كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (المنافقون) في صلاة الجمعة:

عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي رافعٍ، قال: «استخلَفَ مَرْوانُ أبا هُرَيرةَ على المدينةِ، وخرَجَ إلى مكَّةَ، فصلَّى بنا أبو هُرَيرةَ يومَ الجمعةِ، فقرَأَ سورةَ الجمعةِ، وفي السَّجْدةِ الثانيةِ: {إِذَا جَآءَكَ اْلْمُنَٰفِقُونَ}، قال عُبَيدُ اللهِ: فأدرَكْتُ أبا هُرَيرةَ، فقلتُ: تَقرأُ بسُورتَينِ كان عليٌّ يَقرؤُهما بالكوفةِ؟ فقال أبو هُرَيرةَ: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقرأُ بهما». أخرجه مسلم (877).

1. النفاق والمنافقون (١-٨).

2. توجيهاتٌ للتحصين من النفاق (٩-١١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /171).

مقصدُ هذه السورة عظيم جدًّا؛ وهو التحذيرُ من النفاق وأهله، ومطالبة المؤمنين بصدقِ الأقوال والأفعال، والحرص على مطابقة الظاهر للباطن.

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: كمالُ التحذير مما يَثلِمُ الإيمانَ من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يَقدَح في الإسلام من الأحوال الظاهرة؛ بمخالفة الفعلِ للقول؛ فإنه نفاقٌ في الجملة، فيوشك أن يجُرَّ إلى كمال النفاق، فيُخرِج من الدِّين، ويُدخِل الهاوية.

وتسميتها بالمنافقين واضحةٌ في ذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /87).